المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌92 - كِتَاب الْفِتَنِ قَوْلُهُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ - فتح الباري بشرح البخاري - ط السلفية - جـ ١٣

[ابن حجر العسقلاني]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

‌92 - كِتَاب الْفِتَنِ

قَوْلُهُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم - كِتَابُ الْفِتَنِ) فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَالْأَصِيلِيِّ تَأْخِيرُ الْبَسْمَلَةِ. وَالْفِتَنُ جَمْعُ فِتْنة، قَالَ الرَّاغِبُ: أَصْلُ الْفِتَنِ إِدْخَالُ الذَّهَبِ فِي النَّارِ لِتَظْهَرَ جَوْدَتُهُ مِنْ رَدَاءَتِهِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي إِدْخَالِ الْإِنْسَانِ النَّارَ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْعَذَابِ كَقَوْلِهِ:{ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} وَعَلَى مَا يَحْصُلُ عِنْدَ الْعَذَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} ، وَعَلَى الِاخْتِبَارِ كَقَوْلِهِ:{وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} وَفِيمَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ الإِنْسَانُ مِنْ شِدَّةٍ وَرَخَاءٍ، وَفِي الشِّدَّةِ أَظْهَرُ مَعْنًى وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا، قَالَ تَعَالَى:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} ؛ أَيْ: يُوقِعُونَكَ فِي بَلِيَّةٍ وَشِدَّةٍ فِي صَرْفِكَ عَنِ الْعَمَلِ بِمَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ.

وَقَالَ أَيْضًا: الْفِتْنَةُ تَكُونُ مِنَ الْأَفْعَالِ الصَّادِرَةِ مِنَ اللَّهِ وَمِنَ الْعَبْدِ كَالْبَلِيَّةِ وَالْمُصِيبَةِ وَالْقَتلِّ وَالْعَذَابِ وَالْمَعْصِيَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَكْرُوهَاتِ، فَإِنْ كَانَتْ مِنَ اللَّهِ فَهِيَ عَلَى وَجْهِ الْحِكْمَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْإِنْسَانِ بِغَيْرِ أَمْرِ اللَّهِ فَهِيَ مَذْمُومَةٌ، فَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ الْإِنْسَانَ بِإِيقَاعِ الفِتْنَةِ كَقَوْلِهِ:{وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} وَقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وَقَوْلِهِ: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} وَقَوْلِهِ: {بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ} وَكَقَوْلِهِ: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ}

وَقَالَ غَيْرُهُ: أَصْلُ الْفِتْنَةِ الِاخْتِبَارُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَتْ فِيما أَخْرَجَتْهُ الْمِحْنَةُ وَالِاخْتِبَارُ إِلَى الْمَكْرُوهِ، ثُمَّ أُطْلِقَتْ عَلَى كُلِّ مَكْرُوهٍ أَوْ آيِلٍ إِلَيْهِ كَالْكُفْرِ وَالْإِثْمِ وَالتَّحْرِيقِ وَالْفَضِيحَةِ وَالْفُجُورِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

‌1 - بَاب مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} وَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحَذِّرُ مِنْ الْفِتَنِ

7048 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ، حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: قَالَتْ أَسْمَاءُ: عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَنَا عَلَى حَوْضِي أَنْتَظِرُ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ، فَيُؤْخَذُ بِنَاسٍ مِنْ دُونِي، أَقُولُ: أُمَّتِي! فَيُقَالُ: لَا تَدْرِي، مَشَوْا عَلَى الْقَهْقَرَى. قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَرْجِعَ عَلَى أَعْقَابِنَا أَوْ نُفْتَنَ.

7049 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، لَيُرْفَعَنَّ إِلَيَّ رِجَالٌ مِنْكُمْ حَتَّى إِذَا أَهْوَيْتُ لِأُنَاوِلَهُمْ اخْتُلِجُوا دُونِي، فَأَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أَصْحَابِي! فيَقُولُ: لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ.

7050، 7051 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، مَنْ وَرَدَهُ شَرِبَ مِنْهُ، وَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهُ أَبَدًا، لَيَرِدُن عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِي ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ. قَالَ أَبُو حَازِمٍ: فَسَمِعَنِي النُّعْمَانُ بْنُ

ص: 3

أَبِي عَيَّاشٍ وَأَنَا أُحَدِّثُهُمْ هَذَا فَقَالَ: هَكَذَا سَمِعْتَ سَهْلًا؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: وَأَنَا أَشْهَدُ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ لَسَمِعْتُهُ يَزِيدُ فِيهِ قَالَ: إِنَّهُمْ مِنِّي! فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا بَدَّلُوا بَعْدَكَ. فَأَقُولُ: سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ بَدَّلَ بَعْدِي.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} قُلْتُ: وَرَدَ فِيهِ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ قَالَ: قُلْنَا لِلزُّبَيْرِ - يَعْنِي فِي قِصَّةِ الْجَمَلِ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، مَا جَاءَ بِكُمْ؟ ضَيَّعْتُمُ الْخَلِيفَةَ الَّذِي قُتِلَ - يَعْنِي عُثْمَانَ - بِالْمَدِينَةِ ثُمَّ جِئْتُمْ تَطْلُبُونَ بِدَمِهِ - يَعْنِي بِالْبَصْرَةِ! فَقَالَ الزُّبَيْرُ: إِنَّا قَرَأْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} لَمْ نَكُنْ نَحْسَبُ أَنَّا أَهْلُهَا حَتَّى وَقَعَتْ مِنَّا حَيْثُ وَقَعَتْ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: قَالَ الزُّبَيْرُ: لَقَدْ خُوِّفْنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَا ظَنَنَّا أَنَّا خُصِّصْنَا بِهَا، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ نَحْوَهُ، وَلَهُ طُرُقٌ أُخْرَى عَنِ الزُّبَيْرِ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ بَدْرٍ خَاصَّةً فَأَصَابَتْهُمْ يَوْمَ الْجَمَلِ، وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَحْوُهُ، وَعِنْدَ الطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يُقِرُّوا الْمُنْكَرَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَيَعُمَّهُمُ الْعَذَابُ.

وَلِهَذَا الْأَثَرِ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ عَمِيرَةَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ عز وجل لَا يُعَذِّبُ الْعَامَّةَ بِعَمَلِ الْخَاصَّةِ حَتَّى يَرَوُا الْمُنْكَرَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى أَنْ يُنْكِرُوهُ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَذَّبَ اللَّهُ الْخَاصَّةَ وَالْعَامَّةَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، وَهُوَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ الْعُرْسِ بْنِ عَمِيرَةَ وَهُوَ أَخُو عَدِيٍّ، وَلَهُ شَوَاهِدُ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ، وَجَرِيرٍ وَغَيْرِهِمَا عِنْدَ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ.

قَوْلُهُ: (وَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحَذِّرُ) بِالتَّشْدِيدِ (مِنَ الْفِتَنِ) يُشِيرُ إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ حَدِيثُ الْبَابِ مِنَ الْوَعِيدِ عَلَى التَّبْدِيلِ وَالْإِحْدَاثِ، فَإِنَّ الْفِتَنَ غَالِبًا إِنَّمَا تَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ مَرْفُوعًا: أَنَا عَلَى حَوْضِي أَنْتَظِرُ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ، فَيُؤْخَذُ بِنَاسٍ ذَاتَ الشِّمَالِ الْحَدِيثَ، وَحَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ: أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ فَلَيُرْفَعَنَّ إِلَيَّ أَقْوَامٌ الْحَدِيثَ. وَحَدِيثَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ بِمَعْنَاهُ، وَمَعَهُ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ، وَفِي جَمِيعِهَا: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ لَفْظُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْآخَرِينَ بِمَعْنَاهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فِي ذِكْرِ الْحَوْضِ آخِرَ كِتَابِ الرِّقَاقِ وَتَقَدَّمَ شَرْحُهَا فِي بَابِ الْحَشْرِ قَبْلَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ أَيْضًا، وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَسْمَاءَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ هُوَ بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ، وَأَبُوهُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ بَعْدَهَا يَاءٌ ثَقِيلَةٌ، وَبِشْرٌ بَصْرِيٌّ سَكَنَ مَكَّةَ وَكَانَ صَاحِبَ مَوَاعِظَ فَلُقِّبَ الْأَفْوَهَ، وَهُوَ ثِقَةٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ تَكَلَّمَ فِي شَيْءٍ يَتَعَلَّقُ بِرُؤْيَةِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ فَقَامَ عَلَيْهِ الْحُمَيْدِيُّ فَاعْتَذَرَ وَتَنَصَّلَ فَتَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُهُمْ حَتَّى قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: رَأَيْتُهُ بِمَكَّةَ يَدْعُو عَلَى مَنْ يَنْسِبُهُ لِرَأْيِ جَهْمٍ. وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: لَهُ أَفْرَادٌ وَغَرَائِبُ. قُلْتُ: وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَدْ وَضَحَ أَنَّهُ مُتَابَعَةٌ.

وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ سَهْلٍ: مَنْ وَرَدَهُ شَرِبَ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: يَشْرَبُ، وَقَوْلُهُ: لَمْ يَظْمَأْ قِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ أَنَّهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لِأَنَّهُ صِفَةُ مَنْ يَدْخُلُهَا، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا بَدَّلُوا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: مَا أَحْدَثُوا، وَحَاصِلُ مَا حُمِلَ عَلَيْهِ حَالُ الْمَذْكُورِينَ أَنَّهُمْ إِنْ كَانُوا مِمَّنِ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ فَلَا إِشْكَالَ فِي تَبَرِّي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ وَإِبْعَادِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ لَمْ يَرْتَدَّ لَكِنْ أَحْدَثَ مَعْصِيَةً كَبِيرَةً مِنْ أَعْمَالِ الْبَدَنِ أَوْ بِدْعَةً مِنَ اعْتِقَادِ الْقَلْبِ فَقَدْ أَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَعْرَضَ عَنْهُمْ وَلَمْ يَشْفَعْ لَهُمُ اتِّبَاعًا لِأَمْرِ اللَّهِ فِيهِمْ حَتَّى يُعَاقِبَهُمْ عَلَى جِنَايَتِهِمْ،

ص: 4

وَلَا مَانِعَ مِنْ دُخُولِهِمْ فِي عُمُومِ شَفَاعَتِهِ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِهِ فَيَخْرُجُونَ عِنْدَ إِخْرَاجِ الْمُوَحِّدِينَ مِنَ النَّارِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌2 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: سَتَرَوْنَ بَعْدِي أُمُورًا تُنْكِرُونَهَا

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ

7052 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ قال: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً وَأُمُورًا تُنْكِرُونَهَا. قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ، وَسَلُوا اللَّهَ حَقَّكُمْ.

7053 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ الْجَعْدِ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنْ السُّلْطَانِ شِبْرًا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً

[الحديث 7053 - طرفاه في: 7054، 7143]

7054 -

حدثنا أبو النعمان حدثنا حماد بن زيد عن الجعد أبي عثمان حدثني أبو رجاء العطاردي قال "سمعت بن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات إلا مات ميتة جاهلية"

7055 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عَمْرٍو عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ قَالَ دَخَلْنَا عَلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَهُوَ مَرِيضٌ قُلْنَا أَصْلَحَكَ اللَّهُ حَدِّثْ بِحَدِيثٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهِ سَمِعْتَهُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "دَعَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَبَايَعْنَاهُ"

7056 -

"فَقَالَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةً عَلَيْنَا وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ إِلاَّ أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ"

[الحديث 7056 - طرفاه في: 7200]

7057 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَعْمَلْتَ فُلَانًا وَلَمْ تَسْتَعْمِلْنِي قَالَ إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي"

قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: سَتَرَوْنَ بَعْدِي أُمُورًا تُنْكِرُونَهَا) هَذَا اللَّفْظُ بَعْضُ الْمَتْنِ الْمَذْكُورِ فِي ثَانِي أَحَادِيثِ الْبَابِ، وَهِيَ سِتَّةُ أَحَادِيثَ.

الْأَوَّلُ قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ. . . إِلَخْ) هُوَ طَرْفٌ مِنْ حَدِيثٍ وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي غَزْوَةِ

ص: 5

حُنَيْنٍ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي، وَفِيهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلْأَنْصَارِ: إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ هُنَاكَ. الحَدِيثُ الثَّانِي قَوْلُهُ:(حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ) لِلْأَعْمَشِ فِيهِ شَيْخٌ آخَرُ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ عِيسَى الرَّمْلِيِّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلَ رِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ.

قَوْلُهُ: (عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَصَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْأَعْمَشِ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ.

قَوْلُهُ: (إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً) فِي رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ: أَثَرَةً، وَتَقَدَّمَ ضَبْطُ الْأَثَرَةِ وَشَرْحُهَا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَحَاصِلُهَا الِاخْتِصَاصُ بِحَظٍّ دُنْيَوِيٍّ.

قَوْلُهُ: (وَأُمُورًا تُنْكِرُونَهَا) يَعْنِي مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَسَقَطَتِ الْوَاوُ مِنْ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فَهَذَا بَدَلٌ مِنْ أَثَرَةٍ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَاضِي فِي ذِكْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْ مَنْصُورٍ هُنَا زِيَادَةٌ فِي أَوَّلِهِ قَالَ: كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا مَاتَ نَبِيٌّ قَامَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَتَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ مَعْنَى مَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ.

قَوْلُهُ: (قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا)؛ أَيْ أَنْ نَفْعَلَ إِذَا وَقَعَ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (أَدُّوا إِلَيْهِمْ)؛ أَيْ إِلَى الْأُمَرَاءِ (حَقَّهُمْ)؛ أَيِ الَّذِي وَجَبَ لَهُمُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ وَقَبْضُهُ سَوَاءٌ كَانَ يَخْتَصُّ بِهِمْ أَوْ يَعُمُّ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ: تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ؛ أَيْ بَذْلُ الْمَالِ الْوَاجِبِ فِي الزَّكَاةِ وَالنَّفْسِ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْجِهَادِ عِنْدَ التَّعْيِينِ وَنَحْوُ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَسَلُوا اللَّهَ حَقَّكُمْ) فِي رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ: وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ؛ أَيْ بِأَنْ يُلْهِمَهُمْ إِنْصَافَكُمْ أَوْ يُبْدِلَكُمْ خَيْرًا مِنْهُمْ، وَهَذَا ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ فِي الْمُخَاطَبِينَ، وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ أَنَّهُ خَاصٌّ بِالْأَنْصَارِ وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الَّذِي قَبْلَهُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مُخَاطَبَةِ الْأَنْصَارِ بِذَلِكَ أَنْ يَخْتَصَّ بِهِمْ فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُهَاجِرِينَ وَيَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْمُهَاجِرِينَ دُونَ بَعْضٍ، فَالْمُسْتَأْثِرُ مَنْ يَلِيَ الْأَمْرَ، وَمَنْ عَدَاهُ هُوَ الَّذِي يَسْتَأْثِرُ عَلَيْهِ، وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ يَخْتَصُّ بِقُرَيْشٍ وَلَا حَظَّ لِلْأَنْصَارِ فِيهِ خُوطِبَ الْأَنْصَارُ بِأَنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ أَثَرَةً، وَخُوطِبَ الْجَمِيعُ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ يَلِيَ الْأَمْرَ، فَقَدْ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّعْمِيمِ؛ فَفِي حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ سَلَمَةَ الْجُعْفِيِّ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ كَانَ عَلَيْنَا أُمَرَاءُ يَأْخُذُونَ بِالْحَقِّ الَّذِي عَلَيْنَا وَيَمْنَعُونَا الْحَقَّ الَّذِي لَنَا، أَنُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: لَا، عَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرْفُوعًا: سَيَكُونُ أُمَرَاءُ فَيَعْرِفُونَ وَيُنْكِرُونَ، فَمَنْ كَرِهَ بَرِئَ وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ. قَالُوا: أَفَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: لَا، مَا صَلَّوْا. وَمِنْ حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رَفَعَهُ فِي حَدِيثٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ؟ قَالَ: لَا، مَا أَقَامُوا الصَّلَاةَ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: بِالسَّيْفِ، وَزَادَ: وَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْ وُلَاتِكُمْ شَيْئًا تَكْرَهُونَهُ فَاكْرَهُوا عَمَلَهُ وَلَا تَنْزِعُوا يَدًا مِنْ طَاعَةٍ.

وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ فِي مُسْنَدِهِ لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، عَنْ عُمَرَ رَفَعَهُ قَالَ: أَتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ مُفْتَتَنَةٌ مِنْ بَعْدِكَ. فَقُلْتُ: مِنْ أَيْنَ؟ قَالَ: مِنْ قِبَلِ أُمَرَائِهِمْ وَقُرَّائِهِمْ، يَمْنَعُ الْأُمَرَاءُ النَّاسَ الْحُقُوقَ فَيَطْلُبُونَ حُقُوقَهُمْ فَيُفْتَنُونَ، وَيَتَّبِعُ الْقُرَّاءُ هَؤُلَاءِ الْأُمَرَاءَ فَيُفْتَنُونَ. قُلْتُ: فَكَيْفَ يَسْلَمُ مَنْ سَلِمَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: بِالْكَفِّ وَالصَّبْرِ؛ إِنْ أُعْطَوُا الَّذِي لَهُمْ أَخَذُوهُ، وَإِنْ مُنِعُوهُ تَرَكُوهُ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ وَجْهَيْنِ فِي الثَّانِي التَّصْرِيحُ بِالتَّحْدِيثِ وَالسَّمَاعُ فِي مَوْضِعَيِ الْعَنْعَنَةِ فِي الْأَوَّلِ.

قَوْلُهُ: (عَبْدُ الْوَارِثِ) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ، وَالْجَعْدُ هُوَ أَبُو عُثْمَانَ الْمَذْكُورُ فِي السَّنَدِ الثَّانِي، وَأَبُو رَجَاءٍ هُوَ الْعُطَارِدِيُّ وَاسْمُهُ عِمْرَانُ.

قَوْلُهُ: (مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ) زَادَ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ: عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ)؛ أَيْ مِنْ طَاعَةِ السُّلْطَانِ، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ يَخْرُجُ مِنَ السُّلْطَانِ وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ: مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ، وَقَوْلُهُ: شِبْرًا بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ

ص: 6

وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ، وَهِيَ كِنَايَةٌ عَنْ مَعْصِيَةِ السُّلْطَانِ وَمُحَارَبَتِهِ. قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: الْمُرَادُ بِالْمُفَارَقَةِ السَّعْيُ فِي حَلِّ عَقْدِ الْبَيْعَةِ الَّتِي حَصَلَتْ لِذَلِكَ الْأَمِيرِ وَلَوْ بِأَدْنَى شَيْءٍ، فَكُنِّيَ عَنْهَا بِمِقْدَارِ الشِّبْرِ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ فِي ذَلِكَ يَؤولُ إِلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقٍّ.

قَوْلُهُ: (مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً) فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: فَمَاتَ إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: فَمِيتَتُهُ مِيتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ، وَعِنْدَهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ: مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللَّهَ وَلَا حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الِاسْتِثْنَاءُ هُنَا بِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِيُّ؛ أَيْ مَا فَارَقَ الْجَمَاعَةَ أَحَدٌ إِلَّا جَرَى لَهُ كَذَا، أَوْ حُذِفَتْ مَا فَهِيَ مُقَدَّرَةٌ، أَوْ إِلَّا زَائِدَةٌ أَوْ عَاطِفَةٌ عَلَى رَأْيِ الْكُوفِيِّينَ، وَالْمُرَادُ بِالْمِيتَةِ الْجَاهِلِيَّةِ - وَهِيَ بِكَسْرِ الْمِيمِ - حَالَةُ الْمَوْتِ كَمَوْتِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى ضَلَالٍ وَلَيْسَ لَهُ إِمَامٌ مُطَاعٌ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَمُوتُ كَافِرًا بَلْ يَمُوتُ عَاصِيًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ التَّشْبِيهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يَمُوتُ مِثْلَ مَوْتِ الْجَاهِلِيِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ جَاهِلِيًّا، أَوْ أَنَّ ذَلِكَ وَرَدَ مَوْرِدَ الزَّجْرِ وَالتَّنْفِيرِ وَظَاهِرُهُ غَيْرُ مُرَادٍ، وَيُؤَيِّدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجَاهِلِيَّةِ التَّشْبِيهُ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَكَأَنَّمَا خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ وَمُصَحَّحًا مِنْ حَدِيثِ الْحَارِثِ بْنِ الْحَارِثِ الْأَشْعَرِيِّ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ طَوِيلٍ، وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِي سَنَدِهِ خُلَيْدُ بْنُ دَعْلَجٍ وَفِيهِ مَقَالٌ، وَقَالَ: مِنْ رَأْسِهِ بَدَلَ عُنُقِهِ.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي الْحَدِيثِ حُجَّةٌ فِي تَرْكِ الْخُرُوجِ عَلَى السُّلْطَانِ وَلَوْ جَارَ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ طَاعَةِ السُّلْطَانِ الْمُتَغَلِّبِ وَالْجِهَادِ مَعَهُ وَأَنَّ طَاعَتَهُ خَيْرٌ مِنَ الْخُرُوجِ عَلَيْهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ حَقْنِ الدِّمَاءِ وَتَسْكِينِ الدَّهْمَاءِ، وَحُجَّتُهُمْ هَذَا الْخَبَرُ وَغَيْرُهُ مِمَّا يُسَاعِدُهُ، وَلَمْ يَسْتَثْنُوا مِنْ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا وَقَعَ مِنَ السُّلْطَانِ الْكُفْرُ الصَّرِيحُ فَلَا تَجُوزُ طَاعَتُهُ فِي ذَلِكَ بَلْ تَجِبُ مُجَاهَدَتُهُ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَمْرٍو) هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ بُكَيْرٍ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ: حَدَّثَنِي بُكَيْرٌ.

قَوْلُهُ: (عَنْ بُسْرٍ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ، وَجُنَادَةُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ صَالِحٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرٌو أَنَّ بُكَيْرًا حَدَّثَهُ أَنَّ بُسْرَ بْنَ سَعِيدٍ حَدَّثَهُ أَنَّ جُنَادَةَ حَدَّثَهُ.

قَوْلُهُ: (دَخَلْنَا عَلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَهُوَ مَرِيضٌ، فَقُلْنَا: أَصْلَحَكَ اللَّهُ، حَدِّثْ بِحَدِيثٍ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: حَدِّثْنَا، وَقَوْلُهُمْ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ الدُّعَاءَ لَهُ بِالصَّلَاحِ فِي جِسْمِهِ لِيُعَافَى مِنْ مَرَضِهِ أَوْ أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ، وَهِيَ كَلِمَةٌ اعْتَادُوهَا عِنْدَ افْتِتَاحِ الطَّلَبِ.

قَوْلُهُ: (دَعَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَبَايَعْنَاهُ) لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْإِيمَانِ أَوَّلَ الصَّحِيحِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا)؛ أَيِ اشْتَرَطَ عَلَيْنَا.

قَوْلُهُ: (أَنْ بَايَعَنَا) بِفَتْحِ الْعَيْنِ (عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ)؛ أَيْ لَهُ (فِي مَنْشَطِنَا) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ النُّونِ بَيْنَهُمَا (وَمَكْرَهِنَا)؛ أَيْ فِي حَالَةِ نَشَاطِنَا وَفِي الْحَالَةِ الَّتِي نَكُونُ فِيهَا عَاجِزِينَ عَنِ الْعَمَلِ بِمَا نُؤْمَرُ بِهِ. وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ أَنَّ الْمُرَادَ الْأَشْيَاءُ الَّتِي يَكْرَهُونَهَا، قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ فِي وَقْتِ الْكَسَلِ وَالْمَشَقَّةِ فِي الْخُرُوجِ لِيُطَابِقَ قَوْلَهُ مَنْشَطِنَا. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ عُبَادَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ: فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ.

قَوْلُهُ: (وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا) فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدٍ: وَعَلَى النَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَزَادَ: وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ.

قَوْلُهُ: (وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمُثَلَّثَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ

ص: 7

مَوْضِعُ ضَبْطِهَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ طَوَاعِيَّتَهُمْ لِمَنْ يَتَوَلَّى عَلَيْهِمْ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى إِيصَالِهِمْ حُقُوقَهُمْ، بَلْ عَلَيْهِمُ الطَّاعَةُ وَلَوْ مَنَعَهُمْ حَقَّهُمْ.

قَوْلُهُ: (وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ)؛ أَيِ الْمُلْكُ وَالْإِمَارَةُ، زَادَ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ عُمَيْرِ بْنِ هَانِئٍ، عَنْ جُنَادَةَ: وَإِنْ رَأَيْتَ أَنَّ لَكَ - أَيْ وَإِنِ اعْتَقَدْتَ أَنَّ لَكَ - فِي الْأَمْرِ حَقًّا فَلَا تَعْمَلْ بِذَلِكَ الظَّنِّ، بَلِ اسْمَعْ وَأَطِعْ إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَيْكَ بِغَيْرِ خُرُوجٍ عَنِ الطَّاعَةِ، زَادَ فِي رِوَايَةِ حِبَّانَ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ جُنَادَةَ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ، وَأَحْمَدَ: وَإِنْ أَكَلُوا مَالَكَ وَضَرَبُوا ظَهْرَكَ. وَزَادَ فِي رِوَايَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ عَنْ أَبِيهِ: وَأَنْ نَقُومَ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ.

قَوْلُهُ: (إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا) بِمُوَحَّدَةٍ وَمُهْمَلَةٍ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَى قَوْلِهِ بَوَاحًا؛ يُرِيدُ ظَاهِرًا بَادِيًا، مِنْ قَوْلِهِمْ بَاحَ بِالشَّيْءِ يَبُوحُ بِهِ بَوْحًا وَبَوَاحًا إِذَا أَذَاعَهُ وَأَظْهَرَهُ. وَأَنْكَرَ ثَابِتٌ فِي الدَّلَائِلِ بَوَاحًا، وَقَالَ: إِنَّمَا يَجُوزُ بَوْحًا بِسُكُونِ الْوَاوِ وَبُؤَاحًا بِضَمِّ أَوَّلِهِ ثُمَّ هَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَنْ رَوَاهُ بِالرَّاءِ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى، وَأَصْلُ الْبَرَاحِ الْأَرْضُ الْقَفْرَاءُ الَّتِي لَا أَنِيسَ فِيهَا وَلَا بِنَاءَ. وَقِيلَ: الْبَرَاحُ الْبَيَانُ، يُقَال: بَرَحَ الْخَفَاءُ؛ إِذَا ظَهَرَ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ فِي مُعْظَمِ النُّسَخِ مِنْ مُسْلِمٍ بِالْوَاوِ وَفِي بَعْضِهَا بِالرَّاءِ. قُلْتُ: وَوَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: كُفْرًا صُرَاحًا؛ بِصَادٍ مُهْمَلَةٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ رَاءٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حِبَّانَ أَبِي النَّضْرِ الْمَذْكُورَةِ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْصِيَةً لِلَّهِ بَوَاحًا. وَعِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ عُمَيْرِ بْنِ هَانِئٍ، عَنْ جُنَادَةَ: مَا لَمْ يَأْمُرُوكَ بِإِثْمٍ بَوَاحًا. وَفِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالطَّبَرَانِيِّ، وَالْحَاكِمِ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُبَادَةَ: سَيَلِي أُمُورَكُمْ مِنْ بَعْدِي رِجَالٌ يُعَرِّفُونَكُمْ مَا تُنْكِرُونَ وَيُنْكِرُونَ عَلَيْكُمْ مَا تَعْرِفُونَ، فَلَا طَاعَةَ لِمَنْ عَصَى اللَّهَ. وَعِنْدَ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ أَزْهَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عُبَادَةَ رَفَعَهُ: سَيَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ يَأْمُرُونَكُمْ بِمَا لَا تَعْرِفُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا تُنْكِرُونَ، فَلَيْسَ لِأُولَئِكَ عَلَيْكُمْ طَاعَةٌ.

قَوْلُهُ: (عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ)؛ أَيْ نَصُّ آيَةٍ أَوْ خَبَرٌ صَحِيحٌ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِمْ مَا دَامَ فِعْلُهُمْ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُرَادُ بِالْكُفْرِ هُنَا الْمَعْصِيَةُ، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ: لَا تُنَازِعُوا وُلَاةَ الْأُمُورِ فِي وِلَايَتِهِمْ وَلَا تَعْتَرِضُوا عَلَيْهِمْ إِلَّا أَنْ تَرَوْا مِنْهُمْ مُنْكَرًا مُحَقَّقًا تَعْلَمُونَهُ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ ; فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَأَنْكِرُوا عَلَيْهِمْ وَقُولُوا بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ، انْتَهَى. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمُرَادُ بِالْإِثْمِ هُنَا الْمَعْصِيَةُ وَالْكُفْرُ، فَلَا يُعْتَرَضُ عَلَى السُّلْطَانِ إِلَّا إِذَا وَقَعَ فِي الْكُفْرِ الظَّاهِرِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ حَمْلُ رِوَايَةِ الْكُفْرِ عَلَى مَا إِذَا كَانَتِ الْمُنَازَعَةُ فِي الْوِلَايَةِ فَلَا يُنَازِعُهُ بِمَا يَقْدَحُ فِي الْوِلَايَةِ إِلَّا إِذَا ارْتَكَبَ الْكُفْرَ، وَحَمْلُ رِوَايَةِ الْمَعْصِيَةِ عَلَى مَا إِذَا كَانَتِ الْمُنَازَعَةُ فِيمَا عَدَا الْوِلَايَةِ؛ فَإِذَا لَمْ يَقْدَحْ فِي الْوِلَايَةِ نَازَعَهُ فِي الْمَعْصِيَةِ بِأَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِ بِرِفْقٍ وَيَتَوَصَّلَ إِلَى تَثْبِيتِ الْحَقِّ لَهُ بِغَيْرِ عُنْفٍ، وَمَحَلُّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ قَادِرًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ قَالَ: الَّذِي عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ فِي أُمَرَاءِ الْجَوْرِ أَنَّهُ إِنْ قَدَرَ عَلَى خَلْعِهِ بِغَيْرِ فِتْنَةٍ وَلَا ظُلْمٍ وَجَبَ، وَإِلَّا فَالْوَاجِبُ الصَّبْرُ. وَعَنْ بَعْضِهِمْ لَا يَجُوزُ عَقْدُ الْوِلَايَةِ لِفَاسِقٍ ابْتِدَاءً، فَإِنْ أَحْدَثَ جَوْرًا بَعْدَ أَنْ كَانَ عَدْلًا فَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الْخُرُوجِ عَلَيْهِ، وَالصَّحِيحُ الْمَنْعُ إِلَّا أَنْ يَكْفُرَ فَيَجِبُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ.

الْحَدِيثُ السَّادِسُ حَدِيثُ أَنَسٍ، عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ ذَكَرَهُ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِتَمَامِهِ مَشْرُوحًا فِي مَنَاقِبِ الْأَنْصَارِ، وَالسِّرُّ فِي جَوَابِهِ عَنْ طَلَبِ الْوِلَايَةِ بِقَوْلِهِ: سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً إِرَادَةُ نَفْيِ ظَنِّهِ أَنَّهُ آثَرَ الَّذِي وَلَّاهُ عَلَيْهِ ; فَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقَعُ فِي زَمَانِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَخُصَّهُ بِذَلِكَ لِذَاتِهِ بَلْ لِعُمُومِ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ الِاسْتِئْثَارَ لِلْحَظِّ الدُّنْيَوِيِّ إِنَّمَا يَقَعُ بَعْدَهُ، وَأَمَرَهُمْ عِنْدَ وُقُوعِ ذَلِكَ بِالصَّبْرِ.

ص: 8

‌3 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: هَلَاكُ أُمَّتِي عَلَى يَدَيْ أُغَيْلِمَةٍ سُفَهَاءَ

7058 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي جَدِّي قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ وَمَعَنَا مَرْوَانُ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: سَمِعْتُ الصَّادِقَ الْمَصْدُوقَ يَقُولُ: هَلَكَةُ أُمَّتِي عَلَى يَدَيْ غِلْمَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ. فَقَالَ مَرْوَانُ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ غِلْمَةً. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَوْ شِئْتُ أَنْ أَقُولَ بَنِي فُلَانٍ بَنِي فُلَانٍ لَفَعَلْتُ. فَكُنْتُ أَخْرُجُ مَعَ جَدِّي إِلَى بَنِي مَرْوَانَ حِينَ مُلِّكُوا بِالشَّامِ فَإِذَا رَآهُمْ غِلْمَانًا أَحْدَاثًا قَالَ لَنَا: عَسَى هَؤُلَاءِ أَنْ يَكُونُوا مِنْهُمْ. قُلْنَا: أَنْتَ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: هَلَاكُ أُمَّتِي عَلَى يَدَيْ أُغَيْلِمَةٍ سُفَهَاءَ) زَادَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ لِأَبِي ذَرٍّ: مِنْ قُرَيْشٍ، وَلَمْ يَقَعْ لِأَكْثَرِهِمْ، وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي الْبَابِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِدُونِ قَوْلِهِ: سُفَهَاءَ. وَذَكَرَ ابْنُ بَطَّالٍ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ مَعْبَدٍ أَخْرَجَهُ - يَعْنِي فِي كِتَابِ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ - مِنْ رِوَايَةِ سِمَاكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: عَلَى رُءُوسِ غِلْمَةٍ سُفَهَاءَ مِنْ قُرَيْشٍ. قُلْتُ: وَهُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ رِوَايَةِ سِمَاكٍ، عَنْ أَبِي ظَالِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّ فَسَادَ أُمَّتِي عَلَى يَدَيْ غِلْمَةٍ سُفَهَاءَ مِنْ قُرَيْشٍ هَذَا لَفْظُ أَحْمَدَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ظَالِمٍ، وَتَابَعَهُ أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ سِمَاكٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ، عَنْ سُفْيَانَ، لَكِنْ قَالَ مَالِكٌ بَدَلَ عَبْدُ اللَّهِ، وَلَفْظُهُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ لِمَرْوَانَ: أَخْبَرَنِي حِبِّي أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَسَادُ أُمَّتِي عَلَى يَدَيْ غِلْمَةٍ سُفَهَاءَ مِنْ قُرَيْشٍ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ سِمَاكٍ، وَلَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ الْكِرْمَانِيُّ فَقَالَ: لَمْ يَقَعْ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَوْرَدَهُ بِلَفْظِ: سُفَهَاءَ. فَلَعَلَّهُ بَوَّبَ بِهِ لِيَسْتَدْرِكَهُ وَلَمْ يَتَّفِقْ لَهُ، أَوْ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الْجُمْلَةِ لَكِنَّهُ لَيْسَ عَلَى شَرْطِهِ. قُلْتُ: الثَّانِي هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَقَدْ أَكْثَرَ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا.

قَوْلُهُ فِي التَّرْجَمَةِ: (أُغَيْلِمَةٍ) تَصْغِيرُ غِلْمَةٍ جَمْعُ غُلَامٍ، وَوَاحِدُ الْجَمْعِ الْمُصَغَّرِ غُلَيِّمٌ بِالتَّشْدِيدِ، يُقَالُ لِلصَّبِيِّ حِينَ يُولَدُ إِلَى أَنْ يَحْتَلِمَ غُلَامٌ، وَتَصْغِيرُهُ غُلَيِّمٌ، وَجَمْعُهُ غِلْمَانُ وَغِلْمَةٌ وَأُغَيْلِمَةٌ، وَلَمْ يَقُولُوا: أَغْلِمَةٌ، مَعَ كَوْنِهِ الْقِيَاسَ كَأَنَّهُمُ اسْتَغْنَوْا عَنْهُ بِغِلْمَةٍ، وَأَغْرَبَ الدَّاوُدِيُّ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ التِّينِ فَضَبَطَ أُغَيْلِمَةَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الرَّجُلِ الْمُسْتَحْكِمِ الْقُوَّةَ غُلَامٌ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْغُلَامِ فِي قُوَّتِهِ، وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: الْمُرَادُ بِالْأُغَيْلِمَةِ هُنَا الصَّبِيَّانِ، وَلِذَلِكَ صَغَّرَهُمْ. قُلْتُ: وَقَدْ يُطْلَقُ الصَّبِيُّ وَالْغُلَيِّمُ بِالتَّصْغِيرِ عَلَى الضَّعِيفِ الْعَقْلِ وَالتَّدْبِيرِ وَالدِّينِ وَلَوْ كَانَ مُحْتَلِمًا وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، فَإِنَّ الْخُلَفَاءَ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنِ اسْتُخْلِفَ وَهُوَ دُونَ الْبُلُوغِ وَكَذَلِكَ مَنْ أَمَّرُوهُ عَلَى الْأَعْمَالِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأُغَيْلِمَةِ أَوْلَادَ بَعْضِ مَنِ اسْتُخْلِفَ فَوَقَعَ الْفَسَادُ بِسَبَبِهِمْ فَنُسِبَ إِلَيْهِمْ، وَالْأَوْلَى الْحَمْلُ عَلَى أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَمْرُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو) زَادَ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَكِّيِّ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى الْأُمَوِيُّ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي جَدِّي) هُوَ سَعِيدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَقَدْ نُسِبَ يَحْيَى فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى إِلَى جَدِّ جَدِّهِ الْأَعْلَى فَوَقَعَ فِي رِوَايَتِهِ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ الْعَاصِ، سَمِعْتُ جَدِّي سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، فَنَسَبَ سَعِيدًا أَيْضًا إِلَى وَالِدِ جَدِّ جَدِّهِ، وَأَبُوهُ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ هُوَ الْمَعْرُوفُ بِالْأَشْدَقِ قَتَلَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ لَمَّا خَرَجَ عَلَيْهِ بِدِمَشْقَ بَعْدَ السَّبْعِينَ.

قَوْلُهُ: (كُنْتُ جَالِسًا مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ) كَانَ ذَلِكَ زَمَنَ مُعَاوِيَةَ.

قَوْلُهُ: (وَمَعَنَا مَرْوَانُ) هُوَ ابْنُ الْحَكَمِ بْنُ أَبِي الْعَاصِ بْنِ

ص: 9

أُمَيَّةَ الَّذِي وَلِيَ الْخِلَافَةَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَانَ يَلِي لِمُعَاوِيَةَ إِمْرَةَ الْمَدِينَةِ تَارَةً وَسَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ - وَالِدُ عَمْرٍو - يَلِيُهَا لِمُعَاوِيَةَ تَارَةً.

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ الصَّادِقَ الْمَصْدُوقَ) تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ، وَالْمُرَادُ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الصَّمَدِ الْمَذْكُورِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أُخْرَى: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (هَلَكَةُ أُمَّتِي) فِي رِوَايَةِ الْمَكِّيِّ: هَلَاكُ أُمَّتِي وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِمَا فِي التَّرْجَمَةِ. وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الصَّمَدِ: هَلَاكُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَالْمُرَادُ بِالْأُمَّةِ هُنَا أَهْلُ ذَلِكَ الْعَصْرِ وَمَنْ قَارَبَهُمْ لَا جَمِيعُ الْأُمَّة إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

قَوْلُهُ: (عَلَى يَدَيْ غِلْمَةٍ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالتَّثْنِيَةِ، وَلِلسَّرَخْسِيِّ، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ: أَيْدِي بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: جَاءَ الْمُرَادُ بِالْهَلَاكِ مُبَيَّنًا فِي حَدِيثٍ آخَرَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ، أَخْرَجَهُ عَلِيُّ بْنُ مَعْبَدٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ إِمَارَةِ الصِّبْيَانِ. قَالُوا: وَمَا إِمَارَةُ الصِّبْيَانِ؟ قَالَ: إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ هَلَكْتُمْ - أَيْ فِي دِينِكُمْ - وَإِنْ عَصَيْتُمُوهُمْ أَهْلَكُوكُمْ؛ أَيْ فِي دُنْيَاكُمْ بِإِزْهَاقِ النَّفْسِ أَوْ بِإِذْهَابِ الْمَالِ أَوْ بِهِمَا، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَمْشِي فِي السُّوقِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ لَا تُدْرِكْنِي سَنَةُ سِتِّينَ وَلَا إِمَارَةُ الصِّبْيَانِ، وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَوَّلَ الْأُغَيْلِمَةِ كَانَ فِي سَنَةِ سِتِّينَ وَهُوَ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ اسْتُخْلِفَ فِيهَا وَبَقِيَ إِلَى سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، فَمَاتَ ثُمَّ وَلِيَ وَلَدُهُ مُعَاوِيَةُ وَمَاتَ بَعْدَ أَشْهُرٍ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُخَصِّصُ رِوَايَةَ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَاضِيَةِ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ بِلَفْظِ: يُهْلِكُ النَّاسَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ قُرَيْشٍ وَإِنَّ الْمُرَادَ بَعْضُ قُرَيْشٍ وَهُمُ الْأَحْدَاثُ مِنْهُمْ لَا كُلُّهُمْ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ يُهْلِكُونَ النَّاسَ بِسَبَبِ طَلَبِهِمُ الْمُلْكَ وَالْقِتَالَ لِأَجْلِهِ فَتَفْسُدُ أَحْوَالُ النَّاسِ وَيَكْثُرُ الْخَبْطُ بِتَوَالِي الْفِتَنِ، وَقَدْ وَقَعَ الْأَمْرُ كَمَا أَخْبَرَ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَوْ أَنَّ النَّاسَ اعْتَزَلُوهُمْ مَحْذُوفُ الْجَوَابِ وَتَقْدِيرُهُ: لَكَانَ أَوْلَى بِهِمْ.

وَالْمُرَادُ بِاعْتِزَالِهِمْ أَنْ لَا يُدَاخِلُوهُمْ وَلَا يُقَاتِلُوا مَعَهُمْ وَيَفِرُّوا بِدِينِهِمْ مِنَ الْفِتَنِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لَوْ لِلتَّمَنِّي فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ جَوَابٍ. وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُ هِجْرَانِ الْبَلْدَةِ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا إِظْهَارُ الْمَعْصِيَةِ فَإِنَّهَا سَبَبُ وُقُوعِ الْفِتَنِ الَّتِي يَنْشَأُ عَنْهَا عُمُومُ الْهَلَاكِ، قَالَ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ: تُهْجَرُ الْأَرْضُ الَّتِي يُصْنَعُ فِيهَا الْمُنْكَرُ جِهَارًا، وَقَدْ صَنَعَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ مَرْوَانُ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ غِلْمَةً) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الصَّمَدِ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْ أُغَيْلِمَةٍ وَهَذِهِ الرِّوَايَةِ تُفَسِّرُ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ الْمَكِّيِّ: فَقَالَ مَرْوَانُ: غِلْمَةً. كَذَا اقْتَصَرَ عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ فَدَلَّتْ رِوَايَةُ الْبَابِ أَنَّهَا مُخْتَصَرَةٌ مِنْ قَوْلِهِ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ غِلْمَةً، فَكَانَ التَّقْدِيرُ: غِلْمَةٌ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ، أَوْ مَلْعُونُونَ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ. وَلَمْ يُرِدِ التَّعَجُّبَ وَلَا الِاسْتِثْبَاتَ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَوْ شِئْتُ أَنْ أَقُولَ بَنِي فُلَانٍ وَبَنِي فُلَانٍ لَفَعَلْتُ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: مِنْ بَنِي فُلَانٍ وَبَنِي فُلَانٍ لَقُلْتُ. وَكَأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَعْرِفُ أَسْمَاءَهُمْ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنَ الْجَوَابِ الَّذِي لَمْ يُحَدِّثْ بِهِ، وَتَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ، وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ قَوْلُهُ: لَوْ حَدَّثْتُ بِهِ لَقَطَعْتُمْ هَذَا الْبُلْعُومَ.

قَوْلُهُ: (فَكُنْتُ أَخْرُجُ مَعَ جَدِّي) قَائِلُ ذَلِكَ عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو، وَجَدُّهُ سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو، وَكَانَ مَعَ أَبِيهِ لَمَّا غَلَبَ عَلَى الشَّامِ، ثُمَّ لَمَّا قُتِلَ تَحَوَّلَ سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو إِلَى الْكُوفَةِ فَسَكَنَهَا إِلَى أَنْ مَاتَ.

قَوْلُهُ: (حِينَ مَلَكُوا الشَّامَ)؛ أَيْ وَغَيْرَهَا لَمَّا وُلُّوا الْخِلَافَةَ، وَإِنَّمَا خُصَّتِ الشَّامُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَسَاكِنَهُمْ مِنْ عَهْدِ مُعَاوِيَةَ.

قَوْلُهُ: (فَإِذَا رَآهُمْ غِلْمَانًا أَحْدَاثًا) هَذَا يُقَوِّي الِاحْتِمَالَ الْمَاضِي وَأَنَّ الْمُرَادَ أَوْلَادُ مَنِ اسْتُخْلِفَ مِنْهُمْ، وَأَمَّا تَرَدُّدُهُ فِي أَيِّهِمُ الْمُرَادُ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَمِنْ جِهَةِ كَوْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَمْ يُفْصِحْ بِأَسْمَائِهِمْ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمَذْكُورِينَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ، وَأَنَّ أَوَّلَهُمْ يَزِيدُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَأْسُ السِّتِّينَ وَإِمَارَةُ الصِّبْيَانِ، فَإِنَّ يَزِيدَ كَانَ غَالِبًا يَنْتَزِعُ الشُّيُوخَ مِنْ إِمَارَةِ الْبُلْدَانِ الْكِبَارِ وَيُوَلِّيهَا الْأَصَاغِرَ مِنْ أَقَارِبِهِ، وَقَوْلُهُ: قُلْنَا: أَنْتَ

ص: 10

أَعْلَمُ، الْقَائِلُ لَهُ ذَلِكَ أَوْلَادُهُ وَأَتْبَاعُهُ مِمَّنْ سَمِعَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَهَذَا مُشْعِرٌ بِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ صَدَرَ مِنْهُ فِي أَوَاخِرِ دَوْلَةِ بَنِي مَرْوَانَ بِحَيْثُ يُمْكِنُ عَمْرُو بْنُ يَحْيَى أَنْ يَسْمَعَ مِنْهُ ذَلِكَ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ عَمْرٍو هَذَا بَقِيَ إِلَى أَنْ وَفَدَ عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَذَلِكَ قُبَيْلَ الثَّلَاثِينَ وَمِائَةٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ أَنَّ بَيْنَ تَحْدِيثِ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى بِذَلِكَ وَسَمَاعِهِ لَهُ مِنْ جَدِّهِ سَبْعِينَ سَنَةً، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا حُجَّةٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَرْكِ الْقِيَامِ عَلَى السُّلْطَانِ وَلَوْ جَارَ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَعْلَمَ أَبَا هُرَيْرَةَ بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ مَعَ إِخْبَارِهِ أَنَّ هَلَاكَ الْأُمَّةِ عَلَى أَيْدِيهِمْ لِكَوْنِ الْخُرُوجِ أَشَدَّ فِي الْهَلَاكِ وَأَقْرَبَ إِلَى الِاسْتِئْصَالِ مِنْ طَاعَتِهِمْ، فَاخْتَارَ أَخَفَّ الْمَفْسَدَتَيْنِ وَأَيْسَرَ الْأَمْرَيْنِ.

(تَنْبِيهٌ): يُتَعَجَّبُ مِنْ لَعْنِ مَرْوَانَ الْغِلْمَةَ الْمَذْكُورِينَ مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمْ مِنْ وَلَدِهِ، فَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى ذَلِكَ عَلَى لِسَانِهِ لِيَكُونَ أَشَدَّ فِي الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَتَّعِظُونَ، وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي لَعْنِ الْحَكَمِ وَالِدِ مَرْوَانَ وَمَا وَلَدَ أَخْرَجَهَا الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ غَالِبُهَا فِيهِ مَقَالٌ وَبَعْضُهَا جَيِّدٌ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ تَخْصِيصُ الْغِلْمَةِ الْمَذْكُورِينَ بِذَلِكَ.

‌4 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدْ اقْتَرَبَ

7059 -

حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ سَمِعَ الزُّهْرِيَّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ، عَنْ زَيْنَبَ ابنة جَحْشٍ رضي الله عنهن أَنَّهَا قَالَتْ: اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ النَّوْمِ مُحْمَرًّا وَجْهُهُ وهو يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدْ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ - وَعَقَدَ سُفْيَانُ تِسْعِينَ أَوْ مِائَةً. قِيلَ: أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ؛ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ.

7060 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ ح و حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ "عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما قَالَ أَشْرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى قَالُوا لَا قَالَ فَإِنِّي لَارَى الْفِتَنَ تَقَعُ خِلَالَ بُيُوتِكُمْ كَوَقْعِ الْقَطْرِ"

قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ) إِنَّمَا خَصَّ الْعَرَبَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمْ أَوَّلُ مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ، وَلِلْإِنْذَارِ بِأَنَّ الْفِتَنَ إِذَا وَقَعَتْ كَانَ الْهَلَاكُ أَسْرَعَ إِلَيْهِمْ. وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَهُوَ مُطَابِقٌ لِلتَّرْجَمَةِ، وَمَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ شَيْخُهُ فِيهِ، وَهُوَ أَبُو غَسَّانَ النَّهْدِيُّ، وَكَأَنَّهُ اخْتَارَ تَخْرِيجَ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْهُ لِتَصْرِيحِهِ فِي رِوَايَتِهِ بِسَمَاعِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ لَهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عُرْوَةَ) هُوَ ابْنُ الزُّبَيْرِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ) فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: حَدَّثَنِي عُرْوَةُ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ حَدَّثَتْهُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ) فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ حَدَّثَتْهَا هَكَذَا قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ مِنْهُمْ مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ هَذَا وَمِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَمِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي السُّنَنِ لَهُ وَمِنْهُمْ قُتَيْبَةُ، وَهَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَالْقَعْنَبِيُّ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ، وَكَذَا قَالَ مُسَدَّدٌ فِي مُسْنَدِهِ. قُلْتُ: وَهَكَذَا تَقَدَّمَ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ رِوَايَةِ عَقِيلٍ وَفِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ مِنْ رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، وَيَأْتِي فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْفِتَنِ مِنْ رِوَايَةِ

ص: 11

مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ؛ كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ لَيْسَ فِي السَّنَدِ حَبِيبَةُ. زَادَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْهُ ذِكْرَ حَبِيبَةَ فَقَالُوا: عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ حَبِيبَةَ بِنْتِ أُمِّ حَبِيبَةَ عَنْ أُمِّهَا أُمِّ حَبِيبَةَ، هَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو الْأَشْعَثِيِّ، وَزُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ أَبِي عُمَرَ أَرْبَعَتُهُمْ عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ مُسْلِمٌ: زَادُوا فِيهِ حَبِيبَةَ، وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيِّ وَغَيْرِ وَاحِدٍ كُلُّهُمْ عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: جَوَّدَ سُفْيَانُ هَذَا الْحَدِيثَ، هَكَذَا رَوَاهُ الْحُمَيْدِيُّ، وَعَلِيُّ ابْنُ الْمَدِينِيِّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ.

قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: قَالَ سُفْيَانُ: حَفِظْتُ عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ: زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ حَبِيبَةَ - وَهُمَا رَبِيبَتَا النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ - وَهُمَا زَوْجَا النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ الْحُمَيْدِيِّ فَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ حَبِيبَةَ بِنْتِ أُمِّ حَبِيبَةَ: عَنْ أُمِّهَا أُمِّ حَبِيبَةَ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: قَالَ سُفْيَانُ: أَحْفَظُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ قَدْ رَأَيْنَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم؛ ثِنْتَيْنِ مِنْ أَزْوَاجِهِ: أُمُّ حَبِيبَةَ، وَزَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ. وَثِنْتَيْنِ رَبِيبَتَاهُ: زَيْنَبُ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ، وَحَبِيبَةُ بِنْتُ أُمِّ حَبِيبَةَ أَبُوهَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ مَاتَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ بَشَّارٍ الرَّمَادِيِّ، وَنَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيِّ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ الْأَسْوَدِ بْنِ عَامِرٍ كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِزِيَادَةِ حَبِيبَةَ فِي السَّنَدِ، وَسَاقَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنْ هَارُونَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ لِيَ الْأَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ: كَيْفَ يَحْفَظُ هَذَا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ؟ فَذَكَرَهُ لَهُ بِنَقْصِ حَبِيبَةَ فَقَالَ: لَكِنَّهُ حَدَّثَنَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ كُلُّهُنَّ قَدْ أَدْرَكْنَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعْضُهُنَّ عَنْ بَعْضٍ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: أَظُنُّ سُفْيَانَ كَانَ تَارَةً يَذْكُرُهَا وَتَارَةً يُسْقِطُهَا.

قُلْتُ: وَرَوَاهُ شُرَيْحُ بْنُ يُونُسَ، عَنْ سُفْيَانَ فَأَسْقَطَ حَبِيبَةَ وَزَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَمِثْلُهُ لِأَبِي عَوَانَةَ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَمِنْ رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ كَثِيرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَصَرَّحَ فِيهِ بِالْإِخْبَارِ، وَسَأَذْكُرُ شَرْحَ الْمَتْنِ فِي آخِرِ كِتَابِ الْفِتَنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَحَبِيبَةُ بِنْتُ عُبَيْدِ اللَّهِ - بِالتَّصْغِيرِ - ابْنِ جَحْشٍ هَذِهِ ذَكَرَهَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِيمَنْ هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ فَتَنَصَّرَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ وَمَاتَ هُنَاكَ وَثَبَتَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَتَزَوَّجَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَجَهَّزَهَا إِلَيْهِ النَّجَاشِيُّ، وَحَكَى ابْنُ سَعْدٍ أَنَّ حَبِيبَةَ إِنَّمَا وُلِدَتْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَغِيرَةً فَهِيَ نَظِيرُ الَّتِي رَوَتْ عَنْهَا فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا رَبِيبَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مِنْ صِغَارِ الصَّحَابَةِ، وَزَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ هِيَ عَمَّةُ حَبِيبَةَ الْمَذْكُورَةِ، فَرَوَتْ حَبِيبَةُ عَنْ أُمِّهَا عَنْ عَمَّتِهَا وَكَانَتْ وَفَاةُ زَيْنَبَ قَبْلَ وَفَاةِ أُمِّ حَبِيبَةَ، وَزَعَمَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ أَنَّ رِوَايَةَ مُسْلِمٍ بِذِكْرِ حَبِيبَةَ تُؤْذِنُ بِانْقِطَاعِ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، قُلْتُ: وَهُوَ كَلَامُ مَنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى طَرِيقِ شُعَيْبٍ الَّتِي نَبَّهْتُ عَلَيْهَا، وَقَدْ جَمَعَ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ الْأَزْدِيُّ جُزْءًا فِي الْأَحَادِيثِ الْمُسَلْسَلَةِ بِأَرْبَعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَجُمْلَةُ مَا فِيهِ أَرْبَعَةُ أَحَادِيثَ، وَجَمَعَ ذَلِكَ بَعْدَهُ الْحَافِظُ عَبْدُ الْقَادِرِ الرَّهَاوِيُّ ثُمَّ الْحَافِظُ يُوسُفُ بْنُ خَلِيلٍ فَزَادَ عَلَيْهِ قَدْرَهَا وَزَادَ وَاحِدًا خُمَاسِيًّا فَصَارَتْ

تِسْعَةَ أَحَادِيثَ، وَأَصَحُّهَا حَدِيثُ الْبَابِ ثُمَّ حَدِيثُ عُمَرَ فِي الْعِمَالَةِ وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي حَدِيثُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، قَوْلُهُ:(عَنِ الزُّهْرِيِّ) فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجِهِ عَلَى مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِهِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عُرْوَةَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ) فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ، وَابْنِ أَبِي عُمَرَ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّهُ سَمِعَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَقَوْلُهُ: حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ هُوَ ابْنُ غَيْلَانَ.

قَوْلُهُ: (أَشْرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ: أَوْفَى وَهُوَ بِمَعْنَى أَشْرَفَ؛ أَيِ: اطَّلَعَ مِنْ عُلْوٍّ.

قَوْلُهُ: (عَلَى

ص: 12

أُطُمٍ) بِضَمَّتَيْنِ؛ هُوَ الْحِصْنُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي آخِرِ الْحَجِّ.

قَوْلُهُ: (مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ) تَقَدَّمَ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ بِهَذَا السَّنَدِ بِلَفْظِ: عَلَى أُطُمٍ مِنَ الْآطَامِ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي سَاقَهُ هُنَا لَفْظُ مَعْمَرٍ.

قَوْلُهُ: (هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى؟ قَالُوا: لَا) وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ أَيْضًا لِمَعْمَرٍ، وَلَمْ أَرَهَا فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ.

قَوْلُهُ: (فَإِنِّي لَأَرَى الْفِتَنَ تَقَعُ خِلَالَ بُيُوتِكُمْ) فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ سُفْيَانَ: إِنِّي لَأَرَى مَوَاقِعَ الْفِتَنِ. وَالْمُرَادُ بِالْمَوَاقِعِ مَوَاضِعُ السُّقُوطِ، وَالْخِلَالُ النَّوَاحِي، قَالَ الطِّيبِيُّ: تَقَعُ مَفْعُول ثَانٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا وَهُوَ أَقْرَبُ، وَالرُّؤْيَةُ بِمَعْنَى النَّظَرِ؛ أَيْ: كُشِفَ لِي فَأَبْصَرْتُ ذَلِكَ عِيَانًا.

قَوْلُهُ: (كَوَقْعِ الْقَطْرِ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ: الْمَطَرِ وَفِي رِوَايَةِ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ: كَمَوَاقِعِ الْقَطْرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ فِي آخِرِ الْحَجِّ، وَإِنَّمَا اخْتُصَّتِ الْمَدِينَةُ بِذَلِكَ لِأَنَّ قَتْلَ عُثْمَانَ رضي الله عنه كَانَ بِهَا، ثُمَّ انْتَشَرَتِ الْفِتَنُ فِي الْبِلَادِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَالْقِتَالُ بِالْجَمَلِ وَبِصِفِّينَ كَانَ بِسَبَبِ قَتْلِ عُثْمَانَ، وَالْقِتَالُ بِالنَّهْرَوَانِ كَانَ بِسَبَبِ التَّحْكِيمِ بِصِفِّينَ، وَكُلُّ قِتَالٍ وَقَعَ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ إِنَّمَا تَوَلَّدَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَوْ عَنْ شَيْءٍ تَوَلَّدَ عَنْهُ.

ثُمَّ إِنَّ قَتْلَ عُثْمَانَ كَانَ أَشَدَّ أَسْبَابِهِ الطَّعْنُ عَلَى أُمَرَائِهِ ثُمَّ عَلَيْهِ بِتَوْلِيَتِهِ لَهُمْ، وَأَوَّلُ مَا نَشَأَ ذَلِكَ مِنَ الْعِرَاقِ وَهِيَ مِنْ جِهَةِ الْمَشْرِقِ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ حَدِيثِ الْبَابِ وَبَيْنَ الْحَدِيثِ الْآتِي أَنَّ الْفِتْنَةَ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ، وَحَسُنَ التَّشْبِيهُ بِالْمَطَرِ لِإِرَادَةِ التَّعْمِيمِ لِأَنَّهُ إِذَا وَقَعَ فِي أَرْضٍ مُعَيَّنَةٍ عَمَّهَا وَلَوْ فِي بَعْضِ جِهَاتِهَا، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَنْذَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ زَيْنَبَ بِقُرْبِ قِيَامِ السَّاعَةِ كَيْ يَتُوبُوا قَبْلَ أَنْ تَهْجُمَ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ خُرُوجَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ قُرْبُ قِيَامِ السَّاعَةِ فَإِذَا فُتِحَ مِنْ رَدْمِهِمْ ذَاكَ الْقَدْرُ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَزَلِ الْفَتْحُ يَتَّسِعُ عَلَى مَرِّ الْأَوْقَاتِ، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، مُوتُوا إِنِ اسْتَطَعْتُمْ قَالَ: وَهَذَا غَايَةٌ فِي التَّحْذِيرِ مِنَ الْفِتَنِ وَالْخَوْضِ فِيهَا حَيْثُ جَعَلَ الْمَوْتَ خَيْرًا مِنْ مُبَاشَرَتِهَا، وَأَخْبَرَ فِي حَدِيثِ أُسَامَةَ بِوُقُوعِ الْفِتَنِ خِلَالَ الْبُيُوتِ لِيَتَأَهَّبُوا لَهَا فَلَا يَخُوضُوا فِيهَا وَيَسْأَلُوا اللَّهَ الصَّبْرَ وَالنَّجَاةَ مِنْ شَرِّهَا.

‌5 - بَاب ظُهُورِ الْفِتَنِ

7061 -

حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ، وَيَنْقُصُ الْعَمَلُ، وَيُلْقَى الشُّحُّ، وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّمَا هُوَ؟ قَالَ: الْقَتْلُ الْقَتْلُ.

وَقَالَ شُعَيْبٌ وَيُونُسُ وَاللَّيْثُ وَابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

7062، 7063 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقٍ قَالَ كُنْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي مُوسَى فَقَالَا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ لَايَّامًا يَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ وَيُرْفَعُ فِيهَا الْعِلْمُ وَيَكْثُرُ فِيهَا الْهَرْجُ وَالْهَرْجُ الْقَتْلُ"

[الحديث 7062 - طرفه في: 7066 والحديث 7064، 7065]

ص: 13

فَتَحَدَّثَا فَقَالَ أَبُو مُوسَى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ أَيَّامًا يُرْفَعُ فِيهَا الْعِلْمُ وَيَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ وَيَكْثُرُ فِيهَا الْهَرْجُ وَالْهَرْجُ الْقَتْلُ"

7065 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ "إِنِّي لَجَالِسٌ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي مُوسَى رضي الله عنهما فَقَالَ أَبُو مُوسَى سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ وَالْهَرْجُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ الْقَتْلُ"

7066 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ وَاصِلٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - وَأَحْسِبُهُ رَفَعَهُ - قَالَ: بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ أَيَّامُ الْهَرْجِ: يَزُولُ فِيهَا الْعِلْمُ، وَيَظْهَرُ فِيهَا الْجَهْلُ قَالَ أَبُو مُوسَى: وَالْهَرْجُ الْقَتْلُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ"

7067 -

وَقَالَ أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ الأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ تَعْلَمُ الأَيَّامَ الَّتِي ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَيَّامَ الْهَرْجِ .. نَحْوَهُ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكْهُمْ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ"

قَوْلُهُ: (بَابُ ظُهُورِ الفِتَنِ) ذَكَرَ فِيهِ ثَلاثَةَ أَحَادِيثَ؛ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَيَّاشٌ) بِتَحْتَانِيَّةٍ ثَقِيلَةٍ وَمُعْجَمَةٍ، وَشَيْخُهُ عَبْدُ الْأَعْلَى هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى السَّامِيُّ - بِالْمُهْمَلَةِ - الْبَصْرِيُّ، وَسَعِيدٌ هُوَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَنَسَبَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي رِوَايَتِهِ لَهُ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى الْمَذْكُورِ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَكَذَا عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْأَعْلَى، وَعَبْدِ الْوَاحِدِ، وَعَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ كُلُّهُمْ عَنْ مَعْمَرٍ، وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ لَكِنْ لَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ.

قَوْلُهُ: (يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ السَّرَخْسِيِّ: الزَّمَنُ وَهِيَ لُغَةٌ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (وَيَنْقُصُ الْعِلْمُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ: الْعَمَلُ، وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَعِنْدَهُ مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ: وَيُقْبَضُ الْعِلْمُ، وَوَقَعَ مِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كما سَيَأْتِي فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْفِتَنِ، وَهِيَ تُؤَيِّدُ رِوَايَةَ مَنْ رَوَاهُ بِلَفْظِ: وَيَنْقُصُ الْعَمَلُ، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا الْحَدِيثُ الَّذِي بَعْدَهُ بِلَفْظِ: يَنْزِلُ الْجَهْلُ وَيُرْفَعُ الْعِلْمُ.

قَوْلُهُ: (وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّمَا هُوَ؟) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْأَخِيرَةِ بَعْدَهَا مِيمٌ خَفِيفَةٌ، وَأَصْلُهُ: أَيُّ شَيْءٍ هُوَ؟ وَوَقَعَتْ لِلْأَكْثَرِ بِغَيْرِ أَلِفٍ بَعْدَ الْمِيمِ، وَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ كَمَا قَالُوا: أيشٍ؟ فِي مَوْضِعِ: أَيِّ شَيْءٍ؟ وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: وَمَا هُوَ؟ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْهَرْجُ؟ وَهَذِهِ رِوَايَةُ أَكْثَرِ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ عَنْبَسَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ يُونُسَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِيشْ هُوَ؟ قَالَ: الْقَتْلُ الْقَتْلُ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: الْقَتْلُ وَالْكَذِبُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ: الْقَتْلُ الْقَتْلُ) صَرِيحٌ فِي أَنَّ تَفْسِيرَ الْهَرْجِ مَرْفُوعٌ، وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ مَجِيئُهُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَوْقُوفًا، وَلَا كَوْنُهُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ مِنْ طَرِيقِ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ. فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ الْبَابِ دُونَ قَوْلِهِ: يَتَقَارَبُ

ص: 14

الزَّمَانُ، وَدُونَ قَوْلِهِ: وَيُلْقَى الشُّحُّ وَزَادَ فِيهِ: وَيَظْهَرُ الْجَهْلُ. وَقَالَ فِي آخِرِهِ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْهَرْجُ؟ فَقَالَ هَكَذَا بِيَدِهِ، فَحَرَّفَهَا كَأَنَّهُ يُرِيدُ الْقَتْلَ. فَيُجْمَعُ بِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْإِشَارَةِ وَالنُّطْقِ فَحَفِظَ بَعْضُ الرُّوَاةِ مَا لَمْ يَحْفَظْ بَعْضٌ كَمَا وَقَعَ لَهُمْ فِي الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ، وَجَاءَ تَفْسِيرُ أَيَّامِ الْهَرْجِ فِيمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ: يَا أَبَا سُلَيْمَانَ اتَّقِ اللَّهَ؛ فَإِنَّ الْفِتَنَ ظَهَرَتْ. فَقَالَ: أَمَا وَابْنُ الْخَطَّابِ حَيٌّ فَلَا، إِنَّمَا تَكُونُ بَعْدَهُ، فَيَنْظُرُ الرَّجُلُ فَيُفَكِّرُ هَلْ يَجِدُ مَكَانًا لَمْ يَنْزِلْ بِهِ مِثْلَ مَا نَزَلَ بِمَكَانِهِ الَّذِي هُوَ بِهِ مِنَ الْفِتْنَةِ وَالشَّرِّ فَلَا يَجِدُ، فَتِلْكَ الْأَيَّامُ الَّتِي ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ أَيَّامُ الْهَرْجِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ يُونُسُ)؛ يَعْنِي ابْنَ يَزِيدَ (وَشُعَيْبٌ)؛ يَعْنِي ابْنَ أَبِي حَمْزَةَ، وَاللَّيْثُ، وَابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدٍ؛ يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ يَعْنِي أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةَ خَالَفُوا مَعْمَرًا فِي قَوْلِهِ: عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ فَجَعَلُوا شَيْخَ الزُّهْرِيِّ، حُمَيْدًا لَا سَعِيدًا، وَصَنِيعُ الْبُخَارِيِّ يَقْتَضِي أَنَّ الطَّرِيقَيْنِ صَحِيحَانِ؛ فَإِنَّهُ وَصَلَ طَرِيقَ مَعْمَرٍ هُنَا وَوَصَلَ طَرِيقَ شُعَيْبٍ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ، وَكَأَنَّهُ رَأَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ، لِأَنَّ الزُّهْرِيَّ صَاحِبُ حَدِيثٍ فَيَكُونُ الْحَدِيثُ عِنْدَهُ عَنْ شَيْخَيْنِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ اطِّرَادُهُ فِي كُلِّ مَنِ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ فِي شَيْخِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلَ الزُّهْرِيِّ فِي كَثْرَةِ الْحَدِيثِ وَالشُّيُوخِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَتْ رِوَايَةُ يُونُسَ وَمَنْ تَابَعَهُ أَرْجَحَ، وَلَيْسَتْ رِوَايَةُ مَعْمَرٍ مَدْفُوعَةً عَنِ الصِّحَّةِ لِمَا ذَكَرْتُهُ، فَأَمَّا رِوَايَةُ يُونُسَ فَوَصَلَهَا مُسْلِمٌ كَمَا ذَكَرْتُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ وَلَفْظُهُ: وَيُقْبَضُ الْعِلْمُ، وَقَدَّمَ وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ عَلَى وَيُلْقَى الشُّحُّ، وَقَالَ: قَالُوا: وَمَا الْهَرْجُ؟ قَالَ: الْقَتْلُ وَلَمْ يُكَرِّرْ لَفْظَ الْقَتْلِ. وَمِثْلُهُ لَهُ مِنْ رِوَايَةِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ الْهَرْجُ فَذَكَرَهُ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ.

وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ عَنْبَسَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ بِلَفْظِ: وَيَنْقُصُ الْعِلْمُ، وَأَمَّا رِوَايَةُ شُعَيْبٍ فَوَصَلَهَا الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ عَنْ أَبِي الْيَمَانِ عَنْهُ، وَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ: يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ وَيَنْقُصُ الْعَمَلُ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: الْعِلْمُ، وَالْبَاقِي مِثْلُ لَفْظِ مَعْمَرٍ، وَقَالَ فِي رِوَايَتَيْ يُونُسَ، وَشُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَأَمَّا رِوَايَةُ اللَّيْثِ فَوَصَلَهَا الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ عَنْهُ بِهِ مِثْلَ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ، وَأَمَّا رِوَايَةُ ابْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ فَوَصَلَهَا الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا فِي الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ صَدَقَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، عَنِ ابْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ وَاسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ، وَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، وَلَفْظُهُ مِثْلُ لَفْظِ ابْنِ وَهْبٍ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: قُلْنَا: وَمَا الْهَرْجُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ، وَهَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، وَأَبِي يُونُسَ مَوْلَى أَبِي هُرَيْرَةَ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ بِمِثْلِ حَدِيثِ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ غَيْرَ أَنَّهُمْ لَمْ يَذْكُرُوا: وَيُلْقَى الشُّحُّ.

قُلْتُ: وَسَاقَ أَحْمَدُ لَفْظَ هَمَّامٍ، وَأَوَّلُهُ: يُقْبَضُ الْعِلْمُ وَيَقْتَرِبُ الزَّمَنُ. وَقَدْ جَاءَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى زِيَادَةٌ فِي الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ؛ فَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ رَفَعَهُ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَظْهَرَ الْفُحْشُ وَالْبُخْلُ وَيُخَوَّنَ الْأَمِينُ وَيُؤْتَمَنَ الْخَائِنُ وَتَهْلِكَ الْوُعُولُ وَتَظْهَرَ التُّحُوتُ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا التُّحُوتُ وَالْوُعُولُ؟ قَالَ: الْوُعُولُ وُجُوهُ النَّاسِ وَأَشْرَافُهُمْ، وَالتُّحُوتُ الَّذِينَ كَانُوا تَحْتَ أَقْدَامِ النَّاسِ لَيْسَ يُعْلَمُ بِهِمْ وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَلْقَمَةَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ نَحْوَهُ، وَزَادَ كَذَلِكَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: سَمِعْتُهُ مِنْ حِبِّي؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْنَا: وَمَا التُّحُوتُ؟ قَالَ: فُسُولُ الرِّجَالِ وَأَهْلُ الْبُيُوتِ الْغَامِضَةِ. قُلْنَا: وَمَا الْوُعُولُ؟ قَالَ: أَهْلُ الْبُيُوتِ الصَّالِحَةِ.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا يَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرٍ غَيْرَ قَوْلِهِ:

ص: 15

يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ، وَمَعْنَاهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - تَقَارُبُ أَحْوَالِ أَهْلِهِ فِي قِلَّةِ الدِّينِ حَتَّى لَا يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ يَأْمُرُ بِمَعْرُوفٍ وَلَا يَنْهَى عَنْ مُنْكَرٍ لِغَلَبَةِ الْفِسْقِ وَظُهُورِ أَهْلِهِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا تَفَاضَلُوا، فَإِذَا تَسَاوَوْا هَلَكُوا؛ يَعْنِي: لَا يَزَالُونَ بِخَيْرٍ مَا كَانَ فِيهِمْ أَهْلُ فَضْلٍ وَصَلَاحٍ وَخَوْفٍ مِنَ اللَّهِ يُلْجَأُ إِلَيْهِمْ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَيُسْتَشْفَى بِآرَائِهِمْ وَيُتَبَرَّكُ بِدُعَائِهِمْ وَيُؤْخَذُ بِتَقْوِيمِهِمْ وَآثَارِهِمْ. وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: قَدْ يَكُونُ مَعْنَاهُ فِي تَرْكِ طَلَبِ الْعِلْمِ خَاصَّةً وَالرِّضَا بِالْجَهْلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَتَسَاوَوْنَ فِي الْعِلْمِ لِأَنَّ دَرَجَ الْعِلْمِ تَتَفَاوَتُ، قَالَ تَعَالَى:{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} وَإِنَّمَا يَتَسَاوَوْنَ إِذَا كَانُوا جُهَّالًا، وَكَأَنَّهُ يُرِيدُ غَلَبَةَ الْجَهْلِ وَكَثْرَتَهُ بِحَيْثُ يُفْقَدُ الْعِلْمُ بِفَقْدِ الْعُلَمَاءِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَجَمِيعُ مَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الْحَدِيثُ مِنَ الْأَشْرَاطِ قَدْ رَأَيْنَاهَا عِيَانًا، فَقَدْ نَقَصَ الْعِلْمُ وَظَهَرَ الْجَهْلُ وَأُلْقِيَ الشُّحُّ فِي الْقُلُوبِ وَعَمَّتِ الْفِتَنُ وَكَثُرَ الْقَتْلُ.

قُلْتُ: الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الَّذِي شَاهَدَهُ كَانَ مِنْهُ الْكَثِيرُ مَعَ وُجُودِ مُقَابِلِهِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْحَدِيثِ اسْتِحْكَامُ ذَلِكَ حَتَّى لَا يَبْقَى مِمَّا يُقَابِلُهُ إِلَّا النَّادِرُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِالتَّعْبِيرِ بِقَبْضِ الْعِلْمِ فَلَا يَبْقَى إِلَّا الْجَهْلُ الصِّرْفُ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وُجُودُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لِأَنَّهُمْ يَكُونُونَ حِينَئِذٍ مَغْمُورِينَ فِي أُولَئِكَ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: يَدْرُسُ الْإِسْلَامُ كَمَا يَدْرُسُ وَشْيُ الثَّوْبِ حَتَّى لَا يُدْرَى مَا صِيَامٌ وَلَا صَلَاةٌ وَلَا نُسُكٌ وَلَا صَدَقَةٌ، وَيُسْرَى عَلَى الْكِتَابِ فِي لَيْلَةٍ فَلَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ مِنْهُ آيَةٌ الْحَدِيثَ، وَسَأَذْكُرُ مَزِيدًا لِذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْفِتَنِ، وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: وَلَيُنْزَعَنَّ الْقُرْآنُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ، يُسْرَى عَلَيْهِ لَيْلًا فَيَذْهَبُ مِنْ أَجْوَافِ الرِّجَالِ فَلَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ مِنْهُ شَيْءٌ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ لَكِنَّهُ مَوْقُوفٌ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ مُعَارِضِهِ ظَاهِرًا فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي بَاقِي الصِّفَاتِ، وَالْوَاقِعُ أَنَّ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةَ وُجِدَتْ مَبَادِيهَا مِنْ عَهْدِ الصَّحَابَةِ ثُمَّ صَارَتْ تَكْثُرُ فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ دُونَ بَعْضٍ، وَالَّذِي يَعْقُبُهُ قِيَامُ السَّاعَةِ اسْتِحْكَامُ ذَلِكَ كَمَا قَرَّرْتُهُ، وَقَدْ مَضَى مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي قَالَ فِيهِ ابْنُ بَطَّالٍ مَا قَالَ نَحْوُ ثَلَثِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً وَالصِّفَاتُ الْمَذْكُورَةُ فِي ازْدِيَادٍ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ لَكِنْ يَقِلُّ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ وَيَكْثُرُ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ، وَكُلَّمَا مَضَتْ طَبَقَةٌ ظَهَرَ النَّقْصُ الْكَثِيرُ فِي الَّتِي تَلِيهَا، وَإِلَى ذَلِكَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ

فِي حَدِيثِ الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ: لَا يَأْتِي زَمَانٌ إِلَّا وَالَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ ثُمَّ نَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الْخَطَّابِيِّ فِي مَعْنَى تَقَارُبِ الزَّمَانِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ - يَعْنِي الَّذِي أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَأَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ فَتَكُونَ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ وَالشَّهْرُ كَالْجُمْعَةِ وَالْجُمْعَةُ كَالْيَوْمِ، وَيَكُونَ الْيَوْمُ كَالسَّاعَةِ، وَتَكُونَ السَّاعَةُ كَاحْتِرَاقِ السَّعَفَةِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هُوَ مِنِ اسْتِلْذَاذِ الْعَيْشِ؛ يُرِيدُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ يَقَعُ عِنْدَ خُرُوجِ الْمَهْدِيِّ وَوُقُوعِ الْأَمَنَةِ فِي الْأَرْضِ وَغَلَبَةِ الْعَدْلِ فِيهَا، فَيُسْتَلَذُّ الْعَيْشُ عِنْدَ ذَلِكَ وَتُسْتَقْصَرُ مُدَّتُهُ، وَمَا زَالَ النَّاسُ يَسْتَقْصِرُونَ مُدَّةَ أَيَّامِ الرَّخَاءِ وَإِنْ طَالَتْ وَيَسْتَطِيلُونَ مُدَّةَ الْمَكْرُوهِ وَإِنْ قَصُرَتْ، وَتَعَقَّبَهُ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ أَخَوَاتِهِ مِنْ ظُهُورِ الْفِتَنِ وَكَثْرَةِ الْهَرْجِ وَغَيْرِهِمَا. وَأَقُولُ: إِنَّمَا احْتَاجَ الْخَطَّابِيُّ إِلَى تَأْوِيلِهِ بِمَا ذُكِرَ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعِ النَّقْصُ فِي زَمَانِهِ، وَإِلَّا فَالَّذِي تَضَمَّنَهُ الْحَدِيثُ قَدْ وُجِدَ فِي زَمَانِنَا هَذَا، فَإِنَّا نَجِدُ مِنْ سُرْعَةِ مَرِّ الْأَيَّامِ مَا لَمْ نَكُنْ نَجِدُهُ فِي الْعَصْرِ الَّذِي قَبْلَ عَصْرِنَا هَذَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عَيْشٌ مُسْتَلَذٌّ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُرَادَ نَزْعُ الْبَرَكَةِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى مِنَ الزَّمَانِ وَذَلِكَ مِنْ عَلَامَاتِ قُرْبِ السَّاعَةِ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى تَقَارُبِ الزَّمَانِ اسْتِوَاءُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، قُلْتُ: وَهَذَا مِمَّا قَالُوهُ فِي قَوْلِهِ: إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ تَكْذِبُ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِيمَا مَضَى. وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ أَنَّ مَعْنَى حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّ سَاعَاتِ النَّهَارِ تَقْصُرُ قُرْبَ قِيَامِ السَّاعَةِ وَيَقْرُبُ النَّهَارُ مِنَ

ص: 16

اللَّيْلِ، انْتَهَى. وَتَخْصِيصُهُ ذَلِكَ بِالنَّهَارِ لَا مَعْنَى لَهُ، بَلِ الْمُرَادُ نَزْعُ الْبَرَكَةِ مِنَ الزَّمَانِ لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. قَالَ النَّوَوِيُّ تَبَعًا لِعِيَاضٍ وَغَيْرِهِ: الْمُرَادُ بِقِصَرِهِ عَدَمُ الْبَرَكَةِ فِيهِ وَأَنَّ الْيَوْمَ مَثَلًا يَصِيرُ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِقَدْرِ الِانْتِفَاعِ بِالسَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ، قَالُوا: وَهَذَا أَظْهَرُ وَأَكْثَرُ فَائِدَةً وَأَوْفَقُ لِبَقِيَّةِ الْأَحَادِيثِ، وَقَدْ قِيلَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ؛ قِصَرُ الْأَعْمَارِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ طَبَقَةٍ، فَالطَّبَقَةُ الْأَخِيرَةُ أَقْصَرُ أَعْمَارًا مِنَ الطَّبَقَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَقِيلَ: تَقَارُبُ أَحْوَالِهِمْ فِي الشَّرِّ وَالْفَسَادِ وَالْجَهْلِ؛ وَهَذَا اخْتِيَارُ الطَّحَاوِيِّ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّاسَ لَا يَتَسَاوَوْنَ فِي الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ، فَالَّذِي جَنَحَ إِلَيْهِ لَا يُنَاسِبُ مَا ذُكِرَ مَعَهُ، إِلَّا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ الْوَاوَ لَا تُرَتِّبُ فَيَكُونُ ظُهُورُ الْفِتَنِ أَوَّلًا يَنْشَأُ عَنْهَا الْهَرْجُ، ثُمَّ يَخْرُجُ الْمَهْدِيُّ فَيَحْصُلُ الْأَمْنُ.

قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِتَقَارُبِ الزَّمَانِ قِصَرَهُ عَلَى مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَكُونَ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ، وَعَلَى هَذَا فَالْقِصَرُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حِسِّيًّا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَوِيًّا؛ أَمَّا الْحِسِّيُّ فَلَمْ يَظْهَرْ بَعْدُ وَلَعَلَّهُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَكُونُ قُرْبَ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَأَمَّا الْمَعْنَوِيُّ فَلَهُ مُدَّةٌ مُنْذُ ظَهَرَ يَعْرِفُ ذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ الدِّينِيِّ وَمَنْ لَهُ فِطْنَةٌ مِنْ أَهْلِ السَّبَبِ الدُّنْيَوِيِّ فَإِنَّهُمْ يَجِدُونَ أَنْفُسَهُمْ لَا يَقْدِرُ أَحَدُهُمْ أَنْ يَبْلُغَ مِنَ الْعَمَلِ قَدْرَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَيَشْكُونَ ذَلِكَ وَلَا يَدْرُونَ الْعِلَّةَ فِيهِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ مَا وَقَعَ مِنْ ضَعْفِ الْإِيمَانِ لِظُهُورِ الْأُمُورِ الْمُخَالِفَةِ لِلشَّرْعِ مِنْ عِدَّةِ أَوْجُهٍ، وَأَشَدُّ ذَلِكَ الْأَقْوَاتُ فَفِيهَا مِنَ الْحَرَامِ الْمَحْضِ وَمِنَ الشُّبَهِ مَا لَا يَخْفَى حَتَّى إِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَا يَتَوَقَّفُ فِي شَيْءٍ وَمَهْمَا قَدَرَ عَلَى تَحْصِيلِ شَيْءٍ هَجَمَ عَلَيْهِ وَلَا يُبَالِي.

وَالْوَاقِعُ أَنَّ الْبَرَكَةَ فِي الزَّمَانِ وَفِي الرِّزْقِ وَفِي النَّبْتِ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ طَرِيقِ قُوَّةِ الْإِيمَانِ وَاتِّبَاعِ الْأَمْرِ وَاجْتِنَابِ النَّهْيِ، وَالشَّاهِدُ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِتَقَارُبِ الزَّمَانِ تَسَارُعَ الدُّوَلِ إِلَى الِانْقِضَاءِ وَالْقُرُونِ إِلَى الِانْقِرَاضِ فَيَتَقَارَبُ زَمَانُهُمْ وَتَتَدَانَى أَيَّامُهُمْ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ بَطَّالٍ: إِنَّ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ لَا تَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرٍ، فَلَيْسَ كَمَا قَالَ؛ فَقَدِ اخْتُلِفَ أَيْضًا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: يَنْقُصُ الْعِلْمُ، فَقِيلَ: الْمُرَادُ نَقْصُ عِلْمِ كُلِّ عَالِمٍ بِأَنْ يَطْرَأَ عَلَيْهِ النِّسْيَانُ مَثَلًا، وَقِيلَ: نَقْصُ الْعِلْمِ بِمَوْتِ أَهْلِهِ، فَكُلَّمَا مَاتَ عَالِمٌ فِي بَلَدٍ وَلَمْ يَخْلُفْهُ غَيْرُهُ نَقَصَ الْعِلْمُ مِنْ تِلْكَ الْبَلَدِ، وَأَمَّا نَقْصُ الْعَمَلِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِالنِّسْبَةِ لِكُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ، فَإِنَّ الْعَامِلَ إِذَا دَهَمَتْهُ الْخُطُوبُ أَلْهَتْهُ عَنْ أَوْرَادِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ ظُهُورُ الْخِيَانَةِ فِي الْأَمَانَاتِ وَالصِّنَاعَاتِ. قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: نَقْصُ الْعَمَلِ الْحِسِّيِّ يَنْشَأُ عَنْ نَقْصِ الدِّينِ ضَرُورَةً، وَأَمَّا الْمَعْنَوِيُّ فَبِحَسَبِ مَا يَدْخُلُ مِنَ الْخَلَلِ بِسَبَبِ سُوءِ الْمَطْعَمِ وَقِلَّةِ الْمُسَاعِدِ عَلَى الْعَمَلِ، وَالنَّفْسُ مَيَّالَةٌ إِلَى الرَّاحَةِ وَتَحِنُّ إِلَى جِنْسِهَا، وَلِكَثْرَةِ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ الَّذِينَ هُمْ أَضَرُّ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ.

وَأَمَّا قَبْضُ الْعِلْمِ فَسَيَأْتِي بَسْطُ الْقَوْلِ فِيهِ فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيُلْقَى الشُّحُّ فَالْمُرَادُ إِلْقَاؤُهُ فِي قُلُوبِ النَّاسِ عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ حَتَّى يَبْخَلَ الْعَالِمُ بِعِلْمِهِ فَيَتْرُكَ التَّعْلِيمَ وَالْفَتْوَى، وَيَبْخَلَ الصَّانِعُ بِصِنَاعَتِهِ حَتَّى يَتْرُكَ تَعْلِيمَ غَيْرِهِ، وَيَبْخَلَ الْغَنِيُّ بِمَالِهِ حَتَّى يَهْلِكَ الْفَقِيرُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ وُجُودَ أَصْلِ الشُّحِّ لِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا. وَالْمَحْفُوظُ فِي الرِّوَايَاتِ: يُلْقَى؛ بِضَمِّ أَوَّلِهِ مِنَ الرُّبَاعِيِّ، وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ: لَمْ تَضْبِطِ الرُّوَاةُ هَذَا الْحَرْفَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ؛ أَيْ يُتَلَقَّى وَيُتَعَلَّمُ وَيُتَوَاصَى بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ:{وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ} قَالَ: وَالرِّوَايَةُ بِسُكُونِ اللَّامِ مُخَفَّفًا تُفْسِدُ الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْإِلْقَاءَ بِمَعْنَى التَّرْكِ، وَلَوْ تُرِكَ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا وَكَانَ مَدْحًا، وَالْحَدِيثُ يُنْبِئُ بِالذَّمِّ. قُلْتُ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْإِلْقَاءِ هُنَا أَنَّ النَّاسَ يُلْقُونَهُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّهُ يُلْقَى إِلَيْهِمْ؛ أَيْ يُوقَعُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَمِنْهُ:{إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} قَالَ الْحُمَيْدِيُّ:

ص: 17

وَلَوْ قِيلَ بِالْفَاءِ مَعَ التَّخْفِيفِ لَمْ يَسْتَقِمْ، لِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا. قُلْتُ: لَوْ ثَبَتَتِ الرِّوَايَةُ بِالْفَاءِ لَكَانَ مُسْتَقِيمًا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُوجَدُ كَثِيرًا مُسْتَفِيضًا عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي التَّذْكِرَةِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يُلْقَى بِتَخْفِيفِ اللَّامِ وَالْفَاءِ؛ أَيْ يُتْرَكُ لِأَجْلِ كَثْرَةِ الْمَالِ وَإِفَاضَتِهِ حَتَّى يُهِمَّ ذَا الْمَالِ مَنْ يَقْبَلُ صَدَقَتَهُ فَلَا يَجِدُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى يُوجَدُ لِأَنَّهُ مَا زَالَ مَوْجُودًا، كَذَا جَزَمَ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ فَالْمُرَادُ كَثْرَتُهَا وَاشْتِهَارُهَا وَعَدَمُ التَّكَاتُمِ بِهَا، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إِلْقَاءُ الشُّحِّ عَامًّا فِي الْأَشْخَاصِ، وَالْمَحْذُورُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَفْسَدَةٌ، وَالشَّحِيحُ شَرْعًا هُوَ مَنْ يَمْنَعُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَإِمْسَاكُ ذَلِكَ مُمْحِقٌ لِلْمَالِ مُذْهِبٌ لِبَرَكَتِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ: مَا نَقَصَ مَالٌ مِنْ صَدَقَةٍ فَإِنَّ أَهْلَ الْمَعْرِفَةِ فَهِمُوا مِنْهُ أَنَّ الْمَالَ الَّذِي يُخْرَجُ مِنْهُ الْحَقُّ الشَّرْعِيُّ لَا يَلْحَقُهُ آفَةٌ وَلَا عَاهَةٌ بَلْ يَحْصُلُ لَهُ النَّمَاءُ، وَمِنْ ثَمَّ سُمِّيَتِ الزَّكَاةُ لِأَنَّ الْمَالَ يَنْمُو بِهَا وَيَحْصُلُ فِيهِ الْبَرَكَةُ، انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ: وَأَمَّا ظُهُورُ الْفِتَنِ فَالْمُرَادُ بِهَا مَا يُؤَثِّرُ فِي أَمْرِ الدِّينِ، وَأَمَّا كَثْرَةُ الْقَتْلِ فَالْمُرَادُ بِهَا مَا لَا يَكُونُ عَلَى وَجْهِ الْحَقِّ كَإِقَامَةِ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى) كَذَا وَقَعَ عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ عَنْ شُيُوخِهِ فِي نُسْخَةٍ مُعْتَمَدَةٍ وَسَقَطَ فِي غَيْرِهَا، وَقَالَ عِيَاضٌ: ثَبَتَ لِلْقَابِسِيِّ، عَنْ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ، وَسَقَطَ مُسَدَّدٌ لِلْبَاقِينَ وَهُوَ الصَّوَابُ. قُلْتُ: وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ أَصْحَابُ الْأَطْرَافِ.

قَوْلُهُ: (كُنْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو مُوسَى هُوَ الْأَشْعَرِيُّ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَا) يَظْهَرُ مِنَ الرِّوَايَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَهَا أَنَّ الَّذِي تَلَفَّظَ بِذَلِكَ هُوَ أَبُو مُوسَى لِقَوْلِهِ فِي رِوَايَتِهِ: فَقَالَ أَبُو مُوسَى فَذَكَرَهُ، وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ الرِّوَايَةَ الثَّالِثَةَ مِنْ طَرِيقِ وَاصِلٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - وَأَحْسَبُهُ رَفَعَهُ - قَالَ: بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ فَذَكَرَهُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أَبُو وَائِلٍ سَمِعَهُ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ أَيْضًا لِدُخُولِهِ فِي قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ قَالَا، وَقَدِ اتَّفَقَ أَكْثَرُ الرُّوَاةِ عَنِ الْأَعْمَشِ عَلَى أَنَّهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبِي مُوسَى مَعًا، وَرَوَاهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ فَقَالَ: عَنْ أَبِي مُوسَى وَلَمْ يَذْكُرْ عَبْدَ اللَّهِ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَأَشَارَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ إِلَى تَرْجِيحِ قَوْلِ الْجَمَاعَةِ، وَأَمَّا رِوَايَةُ عَاصِمٍ الْمُعَلَّقَةُ الَّتِي خُتِمَ بِهَا الْبَابُ فَلَوْلَا أَنَّهُ دُونَ الْأَعْمَشِ وَوَاصِلٍ فِي الْحِفْظِ لَكَانَتْ رِوَايَتُهُ هِيَ الْمُعْتَمَدَةُ لِأَنَّهُ جَعَلَ لِكُلٍّ مِنْ أَبِي مُوسَى، وَعَبْدِ اللَّهِ لَفْظَ مَتْنٍ غَيْرَ الْآخَرِ، لَكِنْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَتْنُ الْآخَرُ كَانَ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مَعَ الْمَتْنِ الْأَوَّلِ.

قَوْلُهُ: (يَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ وَيُرْفَعُ فِيهَا الْعِلْمُ) مَعْنَاهُ أَنَّ الْعِلْمَ يَرْتَفِعُ بِمَوْتِ الْعُلَمَاءِ، فَكُلَّمَا مَاتَ عَالِمٌ يَنْقُصُ الْعِلْمُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى فَقْدِ حَامِلِهِ، وَيَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ الْجَهْلُ بِمَا كَانَ ذَلِكَ الْعَالِمُ يَنْفَرِدُ بِهِ عَنْ بَقِيَّةِ الْعُلَمَاءِ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ لَأَيَّامًا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِحَذْفِ اللَّامِ.

قَوْلُهُ: (وَيَكْثُرُ فِيهَا الْهَرْجُ، وَالْهَرْجُ الْقَتْلُ) كَذَا فِي هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ، وَزَادَ فِي الرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ - وَهِيَ رِوَايَةُ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنِ الْأَعْمَشِ: وَالْهَرْجُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ: الْقَتْلُ. وَنُسِبَ التَّفْسِيرُ فِي رِوَايَةِ وَاصِلٍ لِأَبِي مُوسَى، وَأَصْلُ الْهَرْجِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الِاخْتِلَاطُ، يُقَالُ: هَرَجَ النَّاسُ اخْتَلَطُوا وَاخْتَلَفُوا، وَهَرَجَ الْقَوْمُ فِي الْحَدِيثِ إِذَا كَثُرُوا وَخَلَطُوا، وَأَخْطَأَ مَنْ قَالَ نِسْبَةُ تَفْسِيرِ الْهَرْجِ بِالْقَتْلِ لِلِسَانِ الْحَبَشَةِ وَهْمٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ وَإِلَّا فَهِيَ عَرَبِيَّةٌ صَحِيحَةٌ، وَوَجْهُ الْخَطَأِ أَنَّهَا لَا تُسْتَعْمَلُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ بِمَعْنَى الْقَتْلِ إِلَّا عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ لِكَوْنِ الِاخْتِلَاطِ مَعَ الِاخْتِلَافِ يُفْضِي كَثِيرًا إِلَى الْقَتْلِ وَكَثِيرًا مَا يُسَمَّى الشَّيْءُ بِاسْمِ مَا يَؤولُ إِلَيْهِ، وَاسْتِعْمَالُهَا فِي الْقَتْلِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ هُوَ بِلِسَانِ الْحَبَشِ، وَكَيْفَ يُدَّعَى عَلَى مِثْلِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ الْوَهْمُ فِي تَفْسِيرِ لَفْظَةٍ لُغَوِيَّةٍ؟! بَلِ الصَّوَابُ مَعَهُ، وَاسْتِعْمَالُ الْعَرَبِ الْهَرْجَ بِمَعْنَى الْقَتْلِ لَا يَمْنَعُ كَوْنَهَا لُغَةَ الْحَبَشَةِ وَإِنْ وَرَدَ اسْتِعْمَالُهَا فِي الِاخْتِلَاطِ وَالِاخْتِلَافِ كَحَدِيثِ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رَفَعَهُ: الْعِبَادَةُ فِي

ص: 18

الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ لِلْهَرْجِ مَعَانِيَ أُخْرَى، وَمَجْمُوعُهَا تِسْعَةٌ: شِدَّةُ الْقَتْلِ، وَكَثْرَةُ الْقَتْلِ، وَالِاخْتِلَاطُ، وَالْفِتْنَةُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَكَثْرَةُ النِّكَاحِ، وَكَثْرَةُ الْكَذِبِ، وَكَثْرَةُ النَّوْمِ، وَمَا يُرَى فِي النَّوْمِ غَيْرُ مُنْضَبِطٍ، وَعَدَمُ الْإِتْقَانِ لِلشَّيْءِ.

وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: أَصْلُ الْهَرْجِ الْكَثْرَةُ فِي الشَّيْءِ؛ يَعْنِي حَتَّى لَا يَتَمَيَّزَ.

قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ وَاصِلٍ: (وَأَحْسَبُهُ رَفَعَهُ) زَادَ فِي رِوَايَةِ الْقَوَارِيرِيِّ، عَنْ غُنْدَرٍ: إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ غُنْدَرٍ، وَمُحَمَّدٌ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ لَمْ يُنْسَبْ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَنَسَبَهُ أَبُو ذَرٍّ فِي رِوَايَتِهِ مُحَمَّدَ بْنَ بَشَّارٍ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو عَوَانَةَ:، عَنْ عَاصِمٍ) هُوَ ابْنُ أَبِي النُّجُودِ الْقَارِئُ الْمَشْهُورُ، وَوَجَدْتُ لِأَبِي عَوَانَةَ، عَنْ عَاصِمٍ فِي الْمَعْنَى سَنَدًا آخَرَ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ، عَنْ عَفَّانَ، وَأَبِي الْوَلِيدِ جَمِيعًا عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَذَكَرَ قِصَّةً فِيهَا: فَأُولَئِكَ الْأَيَّامُ الَّتِي ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ أَيَّامُ الْهَرْجِ، وَذَكَرَ فِيهِ أَنَّ الْفِتْنَةَ تُدْهِشُ حَتَّى يَنْظُرَ الشَّخْصُ هَلْ يَجِدُ مَكَانًا لَمْ يَنْزِلْ بِهِ فَلَا يَجِدُ. وَقَدْ وَافَقَهُ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْأَخِيرِ زَائِدَةٌ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ)؛ يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ (تَعْلَمُ الْأَيَّامَ الَّتِي ذَكَرَ - إِلَى قَوْلِهِ - نَحْوَهُ) يُرِيدُ نَحْوَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ: بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ أَيَّامُ الْهَرْجِ. وَقَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ زَائِدَةٍ، عَنْ عَاصِمٍ مُقْتَصَرًا عَلَى حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَرْفُوعِ دُونَ الْقِصَّةِ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ عَنْ أُسَيْدِ بْنِ الْمُتَشَمِّسِ عَنْ أَبِي مُوسَى فِي الْمَرْفُوعِ زِيَادَةً: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَقْتُلُ فِي الْعَامِ الْوَاحِدِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ: لَيْسَ بِقَتْلِكُمُ الْمُشْرِكِينَ، وَلَكِنْ بِقَتْلِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ) هُوَ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ: (مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذَا وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ لَفْظَ الْعُمُومِ فَالْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ السَّاعَةَ تَقُومُ فِي الْأَكْثَرِ وَالْأَغْلَبِ عَلَى شِرَارِ النَّاسِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، فَدَلَّ هَذَا الْخَبَرُ أَنَّ السَّاعَةَ تَقُومُ أَيْضًا عَلَى قَوْمٍ فُضَلَاءَ. قُلْتُ: وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا قَالَ؛ فَقَدْ جَاءَ مَا يُؤَيِّدُ الْعُمُومَ الْمَذْكُورَ كَقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا رَفَعَهُ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ النَّاسِ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَلِمُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ رِيحًا مِنَ الْيَمَنِ أَلْيَنَ مِنَ الْحَرِيرِ فَلَا تَدَعُ أَحَدًا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ إِلَّا قَبَضَتْهُ، وَلَهُ فِي آخِرِ حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ الطَّوِيلِ فِي قِصَّةِ الدَّجَّالِ وَعِيسَى وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ: إِذْ بَعَثَ اللَّهُ رِيحًا طَيِّبَةً فَتَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُسْلِمٍ وَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ يَتَهَارَجُونَ تَهَارُجَ الْحُمُرِ، فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: يَتَهَارَجُونَ فَقِيلَ: يَتَسَافَدُونَ، وَقِيلَ: يَتَثَاوَرُونَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ هُنَا بِمَعْنَى يَتَقَاتَلُونَ أَوْ لِأَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ ; وَيُؤَيِّدُ حَمْلَهُ عَلَى التَّقَاتُلِ حَدِيثُ الْبَابِ، وَلِمُسْلِمٍ أَيْضًا: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ عَلَى أَحَدٍ يَقُولُ: اللَّهُ اللَّهُ.

وَهُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ بِلَفْظِ: عَلَى أَحَدٍ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ حَمْلُ الْغَايَةِ فِي حَدِيثِ: لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ عَلَى وَقْتِ هُبُوبِ الرِّيحِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي تَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُسْلِمٍ فَلَا يَبْقَى إِلَّا الشِّرَارُ، فَتَهْجُمُ السَّاعَةُ عَلَيْهِمْ بَغْتَةً كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ بَعْدَ قَلِيلٍ.

‌6 - بَاب: لَا يَأْتِي زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ

7068 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ قَالَ: أَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فَشَكَوْنَا

ص: 19

إِلَيْهِ مَا يلقون مِنْ الْحَجَّاجِ، فَقَالَ: اصْبِرُوا، فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا والَّذِي بَعْدَهُ أشَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ؛ سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم.

7069 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ و حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ هِنْدٍ بِنْتِ الْحَارِثِ الْفِرَاسِيَّةِ "أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً فَزِعًا يَقُولُ سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْخَزَائِنِ وَمَاذَا أُنْزِلَ مِنْ الْفِتَنِ مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجُرَاتِ يُرِيدُ أَزْوَاجَهُ لِكَيْ يُصَلِّينَ رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الْآخِرَةِ"

قَوْلُهُ: (بَابٌ: لَا يَأْتِي زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ) كَذَا تَرْجَمَ بِالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ؛ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: (سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَ (الزُّبَيْرُ بْنُ عَدِيٍّ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ بَعْدَهَا دَالٌ، وَهُوَ كُوفِيٌّ هَمْدَانِيٌّ بِسُكُونِ الْمِيمِ، وَلِيَ قَضَاءَ الرَّيِّ وَيُكْنَى أَبَا عَدِيٍّ، وَهُوَ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ يَلْتَبِسُ بِهِ رَاوٍ قَرِيبٍ مِنْ طَبَقَتِهِ وَهُوَ الزُّبَيْرُ بْنُ عَرِبِيٍّ - بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالرَّاءِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ مَكْسُورَةٌ، وَهُوَ اسْمٌ بِلَفْظِ النَّسَبِ - بَصْرِيٌّ يُكْنَى أَبَا سَلَمَةَ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى حَدِيثٍ وَاحِدٍ تَقَدَّمَ فِي الْحَجِّ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَتَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ هُنَاكَ مِنْ كَلَامِ التِّرْمِذِيِّ.

قَوْلُهُ: (أَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا يَلْقَوْنَ) فِيهِ الْتِفَاتٌ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فَشَكَوْا وَهُوَ عَلَى الْجَادَّةِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنِ الْفِرْيَابِيِّ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ: نَشْكُوا بِنُونٍ بَدَلَ الْفَاءِ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: شَكَوْنَا إِلَى أَنَسٍ مَا نَلْقَى مِنَ الْحَجَّاجِ.

قَوْلُهُ: (مِنَ الْحَجَّاجِ)؛ أَيِ ابْنِ يُوسُفَ الثَّقَفِيِّ الْأَمِيرِ الْمَشْهُورِ، وَالْمُرَادُ شَكْوَاهُمْ مَا يَلْقَوْنَ مِنْ ظُلْمِهِ لَهُمْ وَتَعَدِّيهِ، وَقَدْ ذَكَرَ الزُّبَيْرُ فِي الْمُوَفَّقِيَّاتِ مِنْ طَرِيقِ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: كَانَ عُمَرُ فَمَنْ بَعْدَهُ إِذَا أَخَذُوا الْعَاصِيَ أَقَامُوهُ لِلنَّاسِ وَنَزَعُوا عِمَامَتَهُ، فَلَمَّا كَانَ زِيَادٌ ضَرَبَ فِي الْجِنَايَاتِ بِالسِّيَاطِ، ثُمَّ زَادَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ حَلْقَ اللِّحْيَةِ، فَلَمَّا كَانَ بِشْرُ بْنُ مَرْوَانَ سَمَّرَ كَفَّ الْجَانِي بِمِسْمَارٍ، فَلَمَّا قَدِمَ الْحَجَّاجُ قَالَ: هَذَا كُلُّهُ لَعِبٌ، فَقَتَلَ بِالسَّيْفِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: اصْبِرُوا) زَادَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ فِي رِوَايَتِهِ: اصْبِرُوا عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ: لَا يَأْتِيكُمْ عَامٌ. وَبِهَذَا اللَّفْظِ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَ هَذَا الْحَدِيثِ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ قَالَ: لَيْسَ عَامٌ إِلَّا وَالَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ، وَلَهُ عَنْهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ قَالَ: أَمْسٌ خَيْرٌ مِنَ الْيَوْمِ، وَالْيَوْمُ خَيْرٌ مِنْ غَدٍ، وَكَذَلِكَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ.

قَوْلُهُ: (إِلَّا وَالَّذِي بَعْدَهُ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَقَطَتِ الْوَاوُ لِلْبَاقِينَ وَثَبَتَتْ لِابْنِ مَهْدِيٍّ.

قَوْلُهُ: (أَشَرُّ مِنْهُ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَالنَّسَفِيِّ، وَلِلْبَاقِينَ بِحَذْفِ الْأَلِفِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ شَرْحُ ابْنِ التِّينِ فَقَالَ: كَذَا وَقَعَ أَشَرُّ بِوَزْنِ أَفْعَلَ، وَقَدْ قَالَ فِي الصِّحَاحِ: فُلَانٌ شَرٌّ مِنْ فُلَانٍ، وَلَا يُقَالُ: أَشَرُّ؛ إِلَّا فِي لُغَةٍ رَدِيئَةٍ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ الْأَسَدِيِّ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، وَمَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ، وَمِسْعَرٍ، وَأَبِي سِنَانٍ الشَّيْبَانِيِّ؛ أَرْبَعَتُهُمْ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ بِلَفْظِ: لَا يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ إِلَّا شَرٌّ مِنَ الزَّمَانِ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ، سَمِعْتُ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَنْدَهْ مِنْ طَرِيقِ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ بِلَفْظِ: إِلَّا وَهُوَ شَرٌّ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ.

ص: 20

وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْمُعْجَمِ الصَّغِيرِ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ مُسْلِمٌ، عَنْ شُعْبَةَ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ)؛ أَيْ حَتَّى تَمُوتُوا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَنْ تَرَوْا رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا.

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ: سَمِعْتُ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذَا الْخَبَرُ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ لِإِخْبَارِهِ صلى الله عليه وسلم بِفَسَادِ الْأَحْوَالِ، وَذَلِكَ مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ بِالرَّأْيِ وَإِنَّمَا يُعْلَمُ بِالْوَحْيِ، انْتَهَى. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ هَذَا الْإِطْلَاقُ مَعَ أَنَّ بَعْضَ الْأَزْمِنَةِ تَكُونُ فِي الشَّرِّ دُونَ الَّتِي قَبْلَهَا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ إِلَّا زَمَنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ بَعْدَ زَمَنِ الْحَجَّاجِ بِيَسِيرٍ، وَقَدِ اشْتَهَرَ الْخَبَرُ الَّذِي كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، بَلْ لَوْ قِيلَ أنَّ الشَّرَّ اضْمَحَلَّ فِي زَمَانِهِ لَمَا كَانَ بَعِيدًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ شَرًّا مِنَ الزَّمَنِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَقَدْ حَمَلَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَلَى الْأَكْثَرِ الْأَغْلَبِ، فَسُئِلَ عَنْ وُجُودِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بَعْدَ الْحَجَّاجِ فَقَالَ: لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ تَنْفِيسٍ. وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّفْضِيلِ تَفْضِيلُ مَجْمُوعِ الْعَصْرِ عَلَى مَجْمُوعِ الْعَصْرِ؛ فَإِنَّ عَصْرَ الْحَجَّاجِ كَانَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي الْأَحْيَاءِ وَفِي عَصْرِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ انْقَرَضُوا، وَالزَّمَانُ الَّذِي فِيهِ الصَّحَابَةُ خَيْرٌ مِنَ الزَّمَانِ الَّذِي بَعْدَهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَقَوْلُهُ: أَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

ثُمَّ وَجَدْتُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ التَّصْرِيحَ بِالْمُرَادِ وَهُوَ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ، فَأَخْرَجَ يَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ الْحَارِثِ بْنِ حَصِيرَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ يَوْمٌ إِلَّا وَهُوَ شَرٌّ مِنَ الْيَوْمِ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، لَسْتُ أَعْنِي رَخَاءً مِنَ الْعَيْشِ يُصِيبُهُ وَلَا مَالًا يُفِيدُهُ، وَلَكِنْ لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ يَوْمٌ وَإِلَّا وَهُوَ أَقَلُّ عِلْمًا مِنَ الْيَوْمِ الَّذِي مَضَى قَبْلَهُ، فَإِذَا ذَهَبَ الْعُلَمَاءُ اسْتَوَى النَّاسُ فَلَا يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَهْلَكُونَ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ إِلَى قَوْلِهِ: شَرٌّ مِنْهُ. قَالَ: فَأَصَابَتْنَا سَنَةٌ خِصْبٌ، فَقَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ أَعْنِي، إِنَّمَا أَعْنِي ذَهَابَ الْعُلَمَاءِ. وَمِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْهُ قَالَ: لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا وَهُوَ أَشَرُّ مِمَّا كَانَ قَبْلَهُ، أَمَا إِنِّي لَا أَعْنِي أَمِيرًا خَيْرًا مِنْ أَمِيرٍ وَلَا عَامًا خَيْرًا مِنْ عَامٍ، وَلَكِنْ عُلَمَاؤُكُمْ وَفُقَهَاؤُكُمْ يَذْهَبُونَ ثُمَّ لَا تَجِدُونَ مِنْهُمْ خَلَفًا، وَيَجِيءُ قَوْمٌ يُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ وَفِي لَفْظٍ عَنْهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: وَمَا ذَاكَ بِكَثْرَةِ الْأَمْطَارِ وَقِلَّتِهَا وَلَكِنْ بِذَهَابِ الْعُلَمَاءِ، ثُمَّ يُحْدِثُ قَوْمٌ يُفْتُونَ فِي الْأُمُورِ بِرَأْيِهِمْ فَيَثْلِمُونَ الْإِسْلَامَ وَيَهْدِمُونَهُ.

وَأَخْرَجَ الدَّارِمِيُّ الْأَوَّلَ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ بِلَفْظِ: لَسْتُ أَعْنِي عَامًا أَخْصَبَ مِنْ عَامٍ وَالْبَاقِي مِثْلُهُ، وَزَادَ: وَخِيَارُكُمْ قَبْلَ قَوْلِهِ: وَفُقَهَاؤُكُمْ، وَاسْتَشْكَلُوا أَيْضًا زَمَانَ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ بَعْدَ زَمَانِ الدَّجَّالِ، وَأَجَابَ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّ الْمُرَادَ الزَّمَانُ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ عِيسَى، أَوِ الْمُرَادَ جِنْسُ الزَّمَانِ الَّذِي فِيهِ الْأُمَرَاءُ، وَإِلَّا فَمَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ زَمَانَ النَّبِيِّ الْمَعْصُومِ لَا شَرَّ فِيهِ. قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَزْمِنَةِ مَا قَبْلَ وُجُودِ الْعَلَامَاتِ الْعِظَامِ كَالدَّجَّالِ وَمَا بَعْدَهُ وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْأَزْمِنَةِ الْمُتَفَاضِلَةِ فِي الشَّرِّ مِنْ زَمَنِ الْحَجَّاجِ فَمَا بَعْدَهُ إِلَى زَمَنِ الدَّجَّالِ، وَأَمَّا زَمَنُ عِيسَى عليه السلام فَلَهُ حُكْمٌ مُسْتَأْنَفٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَزْمِنَةِ الْمَذْكُورَةِ أَزْمِنَةَ الصَّحَابَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ هُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِذَلِكَ فَيَخْتَصُّ بِهِمْ، فَأَمَّا مَنْ بَعْدَهُمْ فَلَمْ يُقْصَدْ فِي الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ، لَكِنَّ الصَّحَابِيَّ فَهِمَ التَّعْمِيمَ فَلِذَلِكَ أَجَابَ مَنْ شَكَا إِلَيْهِ الْحَجَّاجَ بِذَلِكَ وَأَمَرَهُمْ بِالصَّبْرِ، وَهُمْ أَوْ جُلُّهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ.

وَاسْتَدَلَّ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِأَنَّ حَدِيثَ أَنَسٍ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ بِالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الْمَهْدِيِّ وَأَنَّهُ يَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا بَعْدَ أَنْ مُلِئَتْ جَوْرًا، ثُمَّ وَجَدْتُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَا يَصْلُحُ أَنْ يُفَسَّرَ بِهِ الْحَدِيثُ وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَا

ص: 21

يَأْتِي عَلَيْكُمْ عَامٌ إِلَّا وَهُوَ شَرٌّ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، أَمَا إِنِّي لَسْتُ أَعْنِي عَامًا.

الْحَدِيثُ الثَّانِي قَوْلُهُ: (وَحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، وَأَخُوهُ هُوَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْحَمِيدِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَتِيقٍ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ نُسِبَ لِجَدِّهِ، هَكَذَا عُطِفَ هَذَا الْإِسْنَادُ النَّازِلُ عَلَى الَّذِي قَبْلَهُ، وَهُوَ أَعْلَى مِنْهُ بِدَرَجَتَيْنِ لِأَنَّهُ أَوْرَدَ الْأَوَّلَ مُجَرَّدًا فِي آخِرِ كِتَابِ الْأَدَبِ بِتَمَامِهِ، فَلَمَّا أَوْرَدَهُ هُنَا عَنْهُ أَرْدَفَهُ بِالسَّنَدِ الْآخَرِ وَسَاقَهُ عَلَى لَفْظِ السَّنَدِ الثَّانِي، وَابْنُ شِهَابٍ شَيْخُ ابْنِ أَبِي عَتِيقٍ هُوَ الزُّهْرِيُّ شَيْخُ شُعَيْبٍ.

قَوْلُهُ: (هِنْدُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْفِرَاسِيَّةُ) بِكَسْرِ الْفَاءِ بَعْدَهَا رَاءٌ وَسِينٌ مُهْمَلَةٌ، نِسْبَةٌ إِلَى بَنِي فِرَاسٍ بَطْنٍ مِنْ كِنَانَةٍ وَهُمْ إِخْوَةُ قُرَيْشٍ، وَكَانَتْ هِنْدٌ زَوْجُ مَعْبَدِ بْنِ الْمِقْدَادِ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ لَهَا صُحْبَةٌ، وَتَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ.

قَوْلُهُ: (اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً فَزِعًا) بِنَصْبِ لَيْلَةٍ، وَفَزِعًا بِكَسْرِ الزَّاي عَلَى الْحَالِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ مَعْمَرٍ كَمَا مَضَى فِي الْعِلْمِ: اسْتَيْقَظَ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ الْكَلَامُ عَلَى لَفْظِ ذَاتَ وَرِوَايَةُ هَذَا الْبَابِ تُؤَيِّدُ أَنَّهَا زَائِدَةٌ. وَفِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ مَعْمَرٍ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ مِثْلُ الْبَابِ لَكِنْ بِحَذْفِ فَزِعًا، وَفِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ بِحَذْفِهِمَا.

قَوْلُهُ: (يَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ!) فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ: فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ فِي اللِّبَاسِ: اسْتَيْقَظَ مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.

قَوْلُهُ: (مَاذَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْخَزَائِنِ؟ وَمَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الْفِتَنِ؟) فِي رِوَايَةٍ غَيْرِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: وَمَاذَا أُنْزِلَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ: مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الْفِتَنِ؟ وَمَاذَا فُتِحَ مِنَ الْخَزَائِنِ؟ وَفِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ: مَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الْخَزَائِنِ؟ وَمَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الْفِتَنِ؟. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ مِثْلُهُ لَكِنْ بِتَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ، وَقَالَ: مِنَ الْفِتْنَةِ بِالْإِفْرَادِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْمُرَادِ بِالْخَزَائِنِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا فِي كِتَابِ الْعِلْمِ، وَمَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ فِيهَا مَعْنَى التَّعَجُّبِ.

قَوْلُهُ: (مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجُرَاتِ؟) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ: أَيْقِظُوا بِصِيغَةِ الْأَمْرِ مَفْتُوحُ الْأَوَّلِ مَكْسُورُ الثَّالِثِ، وَصَوَاحِبَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَجَوَّزَ الْكِرْمَانِيُّ إِيقَظُوا بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ ثَالِثِهِ وَصَوَاحِبَ مُنَادَى، وَدَلَّتْ رِوَايَةُ أَيْقِظُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ مَنْ يُوقِظُ التَّحْرِيضَ عَلَى إِيقَاظِهِنَّ.

قَوْلُهُ: يُرِيدُ أَزْوَاجَهُ لِكَيْ يُصَلِّينَ) فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ: حَتَّى يُصَلِّينَ، وَخَلَتْ سَائِرُ الرِّوَايَاتِ مِنْ هَذِهِ الزِّيَادَةِ.

قَوْلُهُ: (رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا) فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ: فَرُبَّ؛ بِزِيَادَةِ فَاءٍ فِي أَوَّلِهِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ: يَا رُبَّ كَاسِيَةٍ بِزِيَادَةِ حَرْفِ النِّدَاءِ فِي أَوَّلِهِ، وَفِي رِوَايَةِ هِشَامٍ: كَمْ مِنْ كَاسِيَةٍ في الدُّنْيَا عَارِيَةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ مَالِكٍ مِنْ أَنَّ رُبَّ أَكْثَرُ مَا تَرِدُ لِلتَّكْثِيرِ فَإِنَّهُ قَالَ أَكْثَرُ النَّحْوِيِّينَ إِنَّهَا لِلتَّقْلِيلِ وَأَنَّ مَعْنَى ما يَصْدُرُ بِهَا الْمُضِيُّ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَعْنَاهَا فِي الْغَالِبِ التَّكْثِيرُ وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ سِيبَوَيْهِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي بَابِ كَمْ: وَاعْلَمْ أَنَّ كَمْ فِي الْخَبَرِ لَا تَعْمَلُ إِلَّا فِيمَا تَعْمَلُ فِيهِ رُبَّ، لِأَنَّ الْمَعْنَى وَاحِدٌ إِلَّا أَنَّ كَمْ اسْمٌ وَرُبَّ غَيْرُ اسْمٍ، انْتَهَى.

وَلَا خِلَافَ أَنَّ مَعْنَى كَمِ الْخَبَرِيَّةِ التَّكْثِيرُ، وَلَمْ يَقَعْ فِي كِتَابِهِ مَا يُعَارِضُ ذَلِكَ، فَصَحَّ أَنَّ مَذْهَبَهَ مَا ذَكَرْتُ وَحَدِيثُ الْبَابِ شَاهِدٌ لِذَلِكَ، فَلَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّ ذَلِكَ قَلِيلٌ بَلِ الْمُتَّصِفُ بِذَلِكَ مِنَ النِّسَاءِ كَثِيرٌ، وَلِذَلِكَ لَوْ جُعِلَتْ كَمْ مَوْضِعَ رُبَّ لَحَسُنَ، انْتَهَى. وَقَدْ وَقَعَتْ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ هَذَا الْحَدِيثِ كَمَا بَيَّنْتُهُ، وَمِمَّا وَرَدَتْ فِيهِ لِلتَّكْثِيرِ قَوْلُ حَسَّانَ:

رُبَّ حُلْمٍ أَضَاعَهُ عَدَمُ الْمَالِ

وَجَهْلٍ غَطَّى عَلَيْهِ النَّعِيمُ

وَقَوْلُ عَدِيٍّ:

رُبَّ مَأْمُولٍ وَرَاجٍ أَمَلًا

قَدْ ثَنَاهُ الدَّهْرُ عَنْ ذَاكَ الْأَمَلِ

ص: 22

قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَيْضًا أَنَّ الَّذِي يُصَدَّرُ بِرُبَّ لَا يَلْزَمُ كَوْنُهُ مَاضِي الْمَعْنَى، بَلْ يَجُوزُ مُضِيُّهُ وَحُضُورُهُ وَاسْتِقْبَالُهُ، وَقَدِ اجْتَمَعَ فِي الْحَدِيثِ الْحُضُورُ وَالِاسْتِقْبَالُ، وَشَوَاهِدُ الْمَاضِي كَثِيرَةٌ، انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَأَمَّا تَصْدِيرُ رُبَّ بِحَرْفِ النِّدَاءِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ فَقِيلَ: الْمُنَادَى فِيهِ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: يَا سَامِعِينَ.

قَوْلُهُ: (عَارِيَةٍ فِي الْآخِرَةِ) قَالَ عِيَاضٌ: الْأَكْثَرُ بِالْخَفْضِ عَلَى الْوَصْفِ لِلْمَجْرُورِ بِرُبَّ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْأَوْلَى الرَّفْعُ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ النَّعْتِ؛ أَيْ هِيَ عَارِيَةٌ، وَالْفِعْلُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ رُبَّ مَحْذُوفٌ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: الْأَحْسَنُ الْخَفْضُ عَلَى النَّعْتِ لِأَنَّ رُبَّ حَرْفُ جَرٍّ يَلْزَمُ صَدْرَ الْكَلَامِ وَهَذَا رَأْيُ سِيبَوَيْهِ ; وَعِنْدَ الْكِسَائِيِّ هُوَ اسْمٌ مُبْتَدَأٌ وَالْمَرْفُوعُ خَبَرُهُ، وَإِلَيْهِ كَانَ يَذْهَبُ بَعْضُ شُيُوخِنَا، انْتَهَى.

وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: كَاسِيَةٍ وَعَارِيَةٍ عَلَى أَوْجُهٍ أَحَدُهَا كَاسِيَةٌ فِي الدُّنْيَا بِالثِّيَابِ لِوُجُودِ الْغِنَى عَارِيَةٌ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الثَّوَابِ لِعَدَمِ الْعَمَلِ فِي الدُّنْيَا، ثَانِيهَا كَاسِيَةٌ بِالثِّيَابِ لَكِنَّهَا شَفَّافَةٌ لَا تَسْتُرُ عَوْرَتَهَا فَتُعَاقَبُ فِي الْآخِرَةِ بِالْعُرْيِ جَزَاءً عَلَى ذَلِكَ، ثَالِثُهَا كَاسِيَةٌ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَارِيَةٌ مِنَ الشُّكْرِ الَّذِي تَظْهَرُ ثَمَرَتُهُ فِي الْآخِرَةِ بِالثَّوَابِ، رَابِعُهَا كَاسِيَةٌ جَسَدُهَا لَكِنَّهَا تَشُدُّ خِمَارَهَا مِنْ وَرَائِهَا فَيَبْدُو صَدْرُهَا فَتَصِيرُ عَارِيَةً فَتُعَاقَبُ فِي الْآخِرَةِ، خَامِسُهَا كَاسِيَةٌ مِنْ خِلْعَةِ التَّزَوُّجِ بِالرَّجُلِ الصَّالِحِ عَارِيَةٌ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْعَمَلِ فَلَا يَنْفَعُهَا صَلَاحُ زَوْجِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} ذَكَرَ هَذَا الْأَخِيرَ الطِّيبِيُّ وَرَجَّحَهُ لِمُنَاسَبَةِ الْمَقَامِ، وَاللَّفْظَةُ وَإِنْ وَرَدَتْ فِي أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَكِنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ، وَقَدْ سَبَقَ لِنَحْوِهِ الدَّاوُدِيُّ فَقَالَ: كَاسِيَةٌ لِلشَّرَفِ فِي الدُّنْيَا لِكَوْنِهَا أَهْلَ التَّشْرِيفِ وَعَارِيَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ عَارِيَةً فِي النَّارِ.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْفُتُوحَ فِي الْخَزَائِنِ تَنْشَأُ عَنْهُ فِتْنَةُ الْمَالِ بِأَنْ يُتَنَافَسَ فِيهِ فَيَقَعَ الْقِتَالُ بِسَبَبِهِ وَأَنْ يُبْخَلَ بِهِ فَيُمْنَعَ الْحَقُّ أَوْ يُبْطَرَ صَاحِبُهُ فَيُسْرِفَ، فَأَرَادَ صلى الله عليه وسلم تَحْذِيرَ أَزْوَاجِهِ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَكَذَا غَيْرِهِنَّ مِمَّنْ بَلَغَهُ ذَلِكَ، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ مَنْ يُوقِظُ بَعْضَ خَدَمِهِ؛ كَمَا قَالَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ: مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ وَأَرَادَ أَصْحَابَهُ، لَكِنْ هُنَاكَ عُرِفَ الَّذِي انْتَدَبَ كَمَا تَقَدَّمَ وَهُنَا لَمْ يَذْكُرْ، وَفِي الْحَدِيثِ النَّدْبُ إِلَى الدُّعَاءِ، وَالتَّضَرُّعُ عِنْدَ نُزُولِ الْفِتْنَةِ وَلَا سِيَّمَا فِي اللَّيْلِ لِرَجَاءِ وَقْتِ الْإِجَابَةِ لِتُكْشَفَ أَوْ يَسْلَمَ الدَّاعِي وَمَنْ دَعَا لَهُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

‌7 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا

7070 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا.

7071 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا.

7072 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ "سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يُشِيرُ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيهِ بِالسِّلَاحِ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ"

7073 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ قُلْتُ لِعَمْرٍو يَا أَبَا مُحَمَّدٍ "سَمِعْتَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ

ص: 23

يَقُولُ مَرَّ رَجُلٌ بِسِهَامٍ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمْسِكْ بِنِصَالِهَا قَالَ نَعَمْ

7074 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ "عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلًا مَرَّ فِي الْمَسْجِدِ بِأَسْهُمٍ قَدْ أَبْدَى نُصُولَهَا فَأُمِرَ أَنْ يَأْخُذَ بِنُصُولِهَا لَا يَخْدِشُ مُسْلِمًا"

7075 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا مَرَّ أَحَدُكُمْ فِي مَسْجِدِنَا أَوْ فِي سُوقِنَا وَمَعَهُ نَبْلٌ فَلْيُمْسِكْ عَلَى نِصَالِهَا أَوْ قَالَ فَلْيَقْبِضْ بِكَفِّهِ أَنْ يُصِيبَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا شَيْءٌ"

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا) ذَكَرَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى، وَأَوْرَدَ مَعَهُمَا فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ أُخْرَى.

الْأَوَّلُ وَالثَّانِي قَوْلُهُ: (مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ) فِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ عِنْدَ مُسْلِمٍ: مَنْ سَلَّ عَلَيْنَا السَّيْفَ. وَمَعْنَى الْحَدِيثِ حَمْلُ السِّلَاحِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِقِتَالِهِمْ بِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَخْوِيفِهِمْ وَإِدْخَالِ الرُّعْبِ عَلَيْهِمْ، وَكَأَنَّهُ كَنَّى بِالْحَمْلِ عَنِ الْمُقَاتَلَةِ أَوِ الْقَتْلِ لِلْمُلَازَمَةِ الْغَالِبَةِ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِالْحَمْلِ مَا يُضَادُّ الْوَضْعَ وَيَكُونُ كِنَايَةً عَنِ الْقِتَالِ بِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِالْحَمْلِ حَمْلُهُ لِإِرَادَةِ الْقِتَالِ بِهِ لِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: عَلَيْنَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ حَمْلُهُ لِلضَّرْبِ بِهِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى تَحْرِيمِ قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ وَالتَّشْدِيدِ فِيهِ.

قُلْتُ: جَاءَ الْحَدِيثُ بِلَفْظِ: مَنْ شَهَرَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ، وَمِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ، وَمِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَفِي سَنَدِ كُلٍّ مِنْهَا لِينٌ لَكِنَّهَا يَعْضِدُ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَعِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: مَنْ رَمَانَا بِالنَّبْلِ فَلَيْسَ مِنَّا، وَهُوَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ بِلَفْظِ: اللَّيْلِ بَدَلَ: النَّبْلِ، وَعِنْدَ الْبَزَّارِ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ مِثْلُهُ.

قَوْلُهُ: (فَلَيْسَ مِنَّا)؛ أَيْ لَيْسَ عَلَى طَرِيقَتِنَا، أَوْ لَيْسَ مُتَّبِعًا لِطَرِيقَتِنَا؛ لِأَنَّ مِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَنْصُرَهُ وَيُقَاتِلَ دُونَهُ لَا أَنْ يُرْعِبَهُ بِحَمْلِ السِّلَاحِ عَلَيْهِ لِإِرَادَةِ قِتَالِهِ أَوْ قَتْلِهِ، وَنَظِيرُهُ: مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ. وَهَذَا فِي حَقِّ مَنْ لَا يَسْتَحِلُّ ذَلِكَ، فَأَمَّا مَنْ يَسْتَحِلُّهُ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ بِاسْتِحْلَالِ الْمُحَرَّمِ بِشَرْطِهِ لَا مُجَرَّدَ حَمْلِ السِّلَاحِ، وَالْأَوْلَى عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْخَبَرِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِتَأْوِيلِهِ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الزَّجْرِ، وَكَانَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ يُنْكِرُ عَلَى مَنْ يَصْرِفُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ فَيَقُولُ: مَعْنَاهُ لَيْسَ عَلَى طَرِيقَتِنَا، وَيَرَى أَنَّ الْإِمْسَاكَ عَنْ تَأْوِيلِهِ أَوْلَى لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَالْوَعِيدُ الْمَذْكُورُ لَا يَتَنَاوَلُ مَنْ قَاتَلَ الْبُغَاةَ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ فَيُحْمَلُ عَلَى الْبُغَاةِ وَعَلَى مَنْ بَدَأَ بِالْقِتَالِ ظَالِمًا.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ) كَذَا فِي الْأُصُولِ الَّتِي وَقَفْتُ عَلَيْهَا، وَكَذَا ذَكَرَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ أَنَّهُ وَقَعَ هُنَا. وَفِي الْعِتْقِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ - غَيْرُ مَنْسُوبٍ - عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ. وَأَنَّ الْحَاكِمَ جَزَمَ بِأَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ هُنَا هُوَ ابْنُ رَافِعٍ فَإِنَّ مُسْلِمًا أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ مُسْنَدِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ إِسْحَاقَ، وَلَمْ أَرَ ذَلِكَ لِغَيْرِ أَبِي نُعَيْمٍ، وَيَدُلُّ عَلَى وَهْمِهِ أَنَّ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ وَالَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ: عَنْ مَعْمَرٍ.

قَوْلُهُ: (لَا يُشِيرُ أَحَدُكُمْ إِلَى أَخِيهِ بِالسِّلَاحِ) كَذَا فِيهِ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ، وَهُوَ نَفْيٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ، وَوَقَعَ لِبَعْضِهِمْ: لَا يُشِرْ بِغَيْرِ يَاءٍ، وَهُوَ بِلَفْظِ النَّهْيِ، وَكِلَاهُمَا جَائِزٌ.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّهُ

ص: 24

لَا يَدْرِي لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِغُ فِي يَدِهِ) بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، قَالَ الْخَلِيلُ فِي الْعَيْنِ: نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنَ الْقَوْمِ نَزْغًا حَمَلَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْفَسَادِ، وَمِنْهُ:{مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَمَعْنَاهُ قَلَعَ، وَنَزَعَ بِالسَّهْمِ رَمَى بِهِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يُغْرِي بَيْنَهُمْ حَتَّى يَضْرِبَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بِسِلَاحِهِ فَيُحَقِّقَ الشَّيْطَانُ ضَرْبَتَهُ لَهُ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: مَعْنَى يَنْزِعُهُ يَقْلَعُهُ مِنْ يَدِهِ فَيُصِيبُ بِهِ الْآخَرَ أَوْ يَشُدُّ يَدَهُ فَيُصِيبُهُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: ضَبَطْنَاهُ وَنَقَلَهُ عِيَاضٌ عَنْ جَمِيعِ رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَمَعْنَاهُ يَرْمِي بِهِ فِي يَدِهِ وَيُحَقِّقُ ضَرْبَتَهُ، وَمَنْ رَوَاهُ بِالْمُعْجَمَةِ فَهُوَ مِنَ الْإِغْرَاءِ أَيْ يُزِيِّنُ لَهُ تَحْقِيقَ الضَّرْبَةِ.

قَوْلُهُ: (فَيَقَعُ فِي حُفْرَةِ مِنَ النَّارِ) هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ وُقُوعِهِ فِي الْمَعْصِيَةِ الَّتِي تُفْضِي بِهِ إِلَى دُخُولِ النَّارِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: مَعْنَاهُ أَنْ أَنْفَذَ عَلَيْهِ الْوَعِيدَ، وَفِي الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَمَّا يُفْضِي إِلَى الْمَحْذُورِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَحْذُورُ مُحَقَّقًا سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي جَدٍّ أَوْ هَزْلٍ، وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرِهِ مَرْفُوعًا، مِنْ رِوَايَةِ ضَمْرَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْهُ: الْمَلَائِكَةُ تَلْعَنُ أَحَدَكُمْ إِذَا أَشَارَ إِلَى الْآخَرِ بِحَدِيدَةٍ، وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ. وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْقُوفًا مِنْ رِوَايَةِ أَيُّوبَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْهُ، وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ أَصْلَهُ مَوْقُوفًا مِنْ رِوَايَةِ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ بِلَفْظِ: مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ لَعَنَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، وَكَذَا صَحَّحَهُ أَبُو حَاتِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَالَ فِي طَرِيقِ ضَمْرَةَ: مُنَمَّرٌ، وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ جَابِرٍ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُتَعَاطَى السَّيْفُ مَسْلُولًا. وَلِأَحْمَدَ، وَالْبَزَّارِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِقَوْمٍ فِي مَجْلِسٍ يَسُلُّونَ سَيْفًا يَتَعَاطَوْنَهُ بَيْنَهُمْ غَيْرَ مَغْمُودٍ، فَقَالَ: أَلَمْ أَزْجُرْ عَنْ هَذَا؟ إِذَا سَلَّ أَحَدُكُمُ السَّيْفَ فَلْيُغْمِدْهُ ثُمَّ لِيُعْطِهِ أَخَاهُ. وَلِأَحْمَدَ، وَالطَّبَرَانِيِّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ نَحْوُهُ، وَزَادَ: لَعَنَ الَّهُ مَنْ فَعَلَ هَذَا، إِذَا سَلَّ أَحَدُكُمْ سَيْفَهُ فَأَرَادَ أَنْ يُنَاوِلَهُ أَخَاهُ فَلْيُغْمِدْهُ ثُمَّ يُنَاوِلْهُ إِيَّاهُ.

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِذَا اسْتَحَقَّ الَّذِي يُشِيرُ بِالْحَدِيدَةِ اللَّعْنَ فَكَيْفَ الَّذِي يُصِيبُ بِهَا؟ وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ اللَّعْنَ إِذَا كَانَتْ إِشَارَتُهُ تَهْدِيدًا سَوَاءٌ كَانَ جَادًّا أَمْ لَاعِبًا كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا أُوخِذَ اللَّاعِبُ لِمَا أَدْخَلَهُ عَلَى أَخِيهِ مِنَ الرَّوْعِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ إِثْمَ الْهَازِلِ دُونَ إِثْمِ الْجَادِّ وَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْ تَعَاطِي السَّيْفِ مَسْلُولًا لِمَا يُخَافُ مِنَ الْغَفْلَةِ عِنْدَ التَّنَاوُلِ فَيَسْقُطُ فَيُؤْذِي.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ حَدِيثُ جَابِرٍ، قَوْلُهُ:(قُلْتُ لِعَمْرٍو) يَعْنِي ابْنَ دِينَارٍ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ هُوَ الْقَائِلُ: نَعَمْ جَوَابًا لِقَوْلِ سُفْيَانَ لَهُ: أَسَمِعْتَ جَابِرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي أَوَائِلِ الْمَسَاجِدِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ.

قَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الثَّالِثَةِ: (بِأَسْهُمٍ) هُوَ جَمْعُ قِلَّةٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فِي الطَّرِيقِ الْأُولَى: بِسِهَامٍ أَنَّهَا سِهَامٌ قَلِيلَةٌ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّ الْمَارَّ الْمَذْكُورَ كَانَ يَتَصَدَّقُ بِهَا.

قَوْلُهُ: (قَدْ بَدَا) فِي رِوَايَةٍ غَيْرِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: أُبْدِي، وَالنُّصُولُ - بِضَمَّتَيْنِ - جَمْعُ نَصْلٍ؛ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، وَيُجْمَعُ عَلَى نِصَالٍ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى، وَالنَّصْلُ حَدِيدَةُ السَّهْمِ.

قَوْلُهُ: (فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِنُصُولِهَا) يُفَسِّرُ قَوْلَهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: أَمْسِكْ بِنِصَالِهَا.

قَوْلُهُ: (لَا يَخْدِشُ مُسْلِمًا) بِمُعْجَمَتَيْنِ، هُوَ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالْإِمْسَاكِ عَلَى النِّصَالِ، وَالْخَدْشُ أَوَّلُ الْجِرَاحِ.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ حَدِيثُ أَبِي مُوسَى، وَهُوَ بِإِسْنَادِ: مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ.

قَوْلُهُ: (إِذَا مَرَّ أَحَدُكُمْ. . . إِلَخْ) فِيهِ أَنَّ الْحُكْمَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، بِخِلَافِ حَدِيثِ جَابِرٍ فَإِنَّهُ وَاقِعَةُ حَالٍ لَا تَسْتَلْزِمُ التَّعْمِيمَ. وَقَوْلُهُ: فَلْيَقْبِضْ بِكَفِّهِ؛ أَيْ عَلَى النِّصَالِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ خُصُوصُ ذَلِكَ، بَلْ يَحْرِصُ عَلَى أَنْ لَا يُصِيبَ مُسْلِمًا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّعْلِيلُ بِقَوْلِهِ: أَنْ يُصِيبَ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا بِشَيْءٍ. وَقَوْلُهُ: أَنْ يُصِيبَ بِهَا بِفَتْحِ أَنْ، وَالتَّقْدِيرُ: كَرَاهِيَةَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: لِئَلَّا يُصِيبَ

ص: 25

بِهَا وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَذْهَبَ الْكُوفِيِّينَ فِي تَقْدِيرِ الْمَحْذُوفِ فِي مِثْلِهِ، وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: سَدَّدْنَا بَعْضَنَا إِلَى وُجُوهِ بَعْضٍ وَهِيَ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ؛ أَيْ قَوَّمْنَاهَا إِلَى وُجُوهِهِمْ، وَهِيَ كِنَايَةٌ عَمَّا وَقَعَ مِنْ قِتَالِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا فِي تِلْكَ الْحُرُوبِ الْوَاقِعَةِ فِي الْجَمَلِ وَصِفِّينَ، وَفِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ تَحْرِيمُ قِتَالِ الْمُسْلِمِ وَقَتْلِهِ وَتَغْلِيظُ الْأَمْرِ فِيهِ، وَتَحْرِيمُ تَعَاطِي الْأَسْبَابِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى أَذِيَّتِهِ بِكُلِّ وَجْهٍ، وَفِيهِ حُجَّةٌ لِلْقَوْلِ بِسَدِّ الذَّرَائِعِ.

‌8 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ

7076 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا شَقِيقٌ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ.

7077 -

حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنِي وَاقِدُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا تَرْجِعُون بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ.

7078 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ سِيرِينَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ وَعَنْ رَجُلٍ آخَرَ هُوَ أَفْضَلُ فِي نَفْسِي مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ أَلَا تَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ فَقَالَ أَلَيْسَ بِيَوْمِ النَّحْرِ قُلْنَا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَيُّ بَلَدٍ هَذَا أَلَيْسَتْ بِالْبَلْدَةِ الْحَرَامِ قُلْنَا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ وَأَبْشَارَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ قُلْنَا نَعَمْ قَالَ اللَّهُمَّ اشْهَدْ فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَإِنَّهُ رُبَّ مُبَلِّغٍ يُبَلِّغُهُ لِمَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ فَكَانَ كَذَلِكَ قَالَ لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ حُرِّقَ ابْنُ الْحَضْرَمِيِّ حِينَ حَرَّقَهُ جَارِيَةُ بْنُ قُدَامَةَ قَالَ أَشْرِفُوا عَلَى أَبِي بَكْرَةَ فَقَالُوا هَذَا أَبُو بَكْرَةَ يَرَاكَ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَحَدَّثَتْنِي أُمِّي عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ قَالَ لَوْ دَخَلُوا عَلَيَّ مَا بَهَشْتُ بِقَصَبَةٍ

7079 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِشْكَابٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عِكْرِمَةَ "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَا تَرْتَدُّوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ"

7080 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُدْرِكٍ سَمِعْتُ أَبَا زُرْعَةَ بْنَ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ "عَنْ جَدِّهِ جَرِيرٍ قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ اسْتَنْصِتْ النَّاسَ ثُمَّ قَالَ لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ"

ص: 26

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا. . . إِلَخْ) تَرْجَمَ بِلَفْظِ ثَالِثِ أَحَادِيثِ الْبَابِ، وَفِيهِ خَمْسَةُ أَحَادِيثَ:

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ) هُوَ ابْنُ غِيَاثٍ، وَشَقِيقٌ هُوَ أَبُو وَائِلٍ، وَالسَّنَدُ كُلُّهُ كُوفِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (سِبَابُ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَمُوَحَّدَتَيْنِ وَتَخْفِيفٍ مَصْدَرٌ، يُقَالُ: سَبَّهُ يَسُبُّهُ سَبًّا وَسِبَابًا، وَهَذَا الْمَتْنُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ أَوَّلَ الْكِتَابِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ، وَفِيهِ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ، وَتَقَدَّمَ تَوْجِيهُ إِطْلَاقِ الْكُفْرِ عَلَى قِتَالِ الْمُؤْمِنِ وَأَنَّ أَقْوَى مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ أُطْلِقَ عَلَيْهِ مُبَالَغَةً فِي التَّحْذِيرِ مِنْ ذَلِكَ لِيَنْزَجِرَ السَّامِعُ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ، أَوْ أَنَّهُ عَلَى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ لِأَنَّ ذَلِكَ فِعْلُ الْكَافِرِ، كَمَا ذَكَرُوا نَظِيرَهُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ. وَوَرَدَ لِهَذَا الْحَدِيثِ سَبَبٌ أَخْرَجَهُ الْبَغَوِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي خَالِدٍ الْوَالِبِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ مُقْرِنٍ الْمُزَنِيِّ قَالَ: انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْأَنْصَارِ وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ كَانَ عُرِفَ بِالْبَذَاءِ وَمُشَاتَمَةِ النَّاسِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ زَادَ الْبَغَوِيُّ فِي رِوَايَتِهِ: فَقَالَ ذَلِكَ الرَّجُلُ: وَاللَّهِ لَا أُسَابُّ رَجُلًا.

الْحَدِيثُ الثَّانِي قَوْلُهُ: (وَاقِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ)؛ أَيِ ابْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (لَا تَرْجِعُونَ بَعْدِي) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ، وَلِلْبَاقِينَ: لَا تَرْجِعُوا بِصِيغَةِ النَّهْيِ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ.

قَوْلُهُ: (كُفَّارًا) تَقَدَّمَ بَيَانُ الْمُرَادِ بِهِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الدِّيَاتِ، وَجُمْلَةُ الْأَقْوَالِ فِيهِ ثَمَانِيَةٌ، ثُمَّ وَقَفْتُ عَلَى تَاسِعٍ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ سَتْرُ الْحَقِّ وَالْكُفْرُ لُغَةً السَّتْرُ، لِأَنَّ حَقَّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَنْصُرَهُ وَيُعِينَهُ، فَلَمَّا قَاتَلَهُ كَأَنَّهُ غَطَّى عَلَى حَقِّهِ الثَّابِتِ لَهُ عَلَيْهِ. وَعَاشِرٌ وَهُوَ أَنَّ الْفِعْلَ الْمَذْكُورُ يُفْضِي إِلَى الْكُفْرِ، لِأَنَّ مَنِ اعْتَادَ الْهُجُومَ عَلَى كِبَارِ الْمَعَاصِي جَرَّهُ شُؤْمُ ذَلِكَ إِلَى أَشَدِّ مِنْهَا فَيُخْشَى أَنْ لَا يُخْتَمَ لَهُ بِخَاتِمَةِ الْإِسْلَامِ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ مِنْ لُبْسِ السِّلَاحِ، يَقُولُ: كَفَرَ فَوْقَ دِرْعِهِ؛ إِذَا لَبِسَ فَوْقَهَا ثَوْبًا. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: مَعْنَاهُ لَا تَفْعَلُوا بِالْمُؤْمِنِينَ مَا تَفْعَلُونَ بِالْكُفَّارِ، وَلَا تَفْعَلُوا بِهِمْ مَا لَا يَحِلُّ وَأَنْتُمْ تَرَوْنَهُ حَرَامًا. قُلْتُ: وَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْمَعَانِي الْمُتَقَدِّمَةِ. وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ غَالِبَ هَذِهِ الْأَجْوِبَةِ بِأَنَّ رَاوِيَ الْخَبَرِ - وَهُوَ أَبُو بَكْرَةَ - فَهِمَ خِلَافَ ذَلِكَ، وَالْجَوَابُ أَنَّ فَهْمَهُ ذَلِكَ إِنَّمَا يُعْرَفُ مِنْ تَوَقُّفِهِ عَنِ الْقِتَالِ وَاحْتِجَاجِهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَوَقُّفُهُ بِطَرِيقِ الِاحْتِيَاطِ لِمَا يَحْتَمِلُهُ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ يَعْتَقِدَ حَقِيقَةَ كُفْرِ مَنْ بَاشَرَ ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ لَمْ يَمْتَنِعْ مِنَ الصَّلَاةِ خَلْفَهُمْ وَلَا امْتِثَالِ أَوَامِرِهِمْ، وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَعْتَقِدُ فِيهِمْ حَقِيقَتَهُ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

قَوْلُهُ: (يَضْرِبْ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ) بِجَزْمِ يَضْرِبُ عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ النَّهْيِ، وَبِرَفْعِهِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، أَوْ يُجْعَلُ حَالًا؛ فَعَلَى الْأَوَّلِ يَقْوَى الْحَمْلُ عَلَى الْكُفْرِ الْحَقِيقِيِّ وَيَحْتَاجُ إِلَى التَّأْوِيلِ بِالْمُسْتَحِلِّ مَثَلًا، وَعَلَى الثَّانِي لَا يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِمَا قَبْلَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا وَجَوَابُهُ مَا تَقَدَّمَ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ قَوْلُهُ: (يَحْيَى) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، وَالسَّنَدُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (ابْنُ سِيرِينَ) هُوَ مُحَمَّدٌ.

قَوْلُهُ: (وَعَنْ رَجُلٍ آخَرَ) هُوَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيُّ كَمَا وَقَعَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي بَابِ الْخُطْبَةِ أَيَّامَ مِنًى مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْخُطْبَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَقَوْلُهُ: أَبْشَارُكُمْ بِمُوَحَّدَةٍ وَمُعْجَمَةٍ جَمْعُ بَشَرَةٍ وَهُوَ ظَاهِرُ جِلْدِ الْإِنْسَانِ، وَأَمَّا الْبَشَرُ الَّذِي هُوَ الْإِنْسَانُ فَلَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ، وَأَجَازَهُ بَعْضُهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} وَقَوْلُهُ: فَإِنَّهُ الْهَاءُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَقَوْلُهُ: رُبَّ مُبَلَّغٍ بِفَتْحِ اللَّامِ الثَّقِيلَةِ، وَيُبَلِّغُهُ بِكَسْرِهَا، وَقَوْلُهُ: مَنْ هُوَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: لِمَنْ هُوَ.

قَوْلُهُ: (أَوْعَى لَهُ) زَادَ فِي رِوَايَةِ الْحَجِّ: مِنْهُ.

قَوْلُهُ: (فَكَانَ كَذَلِكَ) هَذِهِ جُمْلَةٌ مَوْقُوفَةٌ مِنْ كَلَامِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ تَخَلَّلَتْ بَيْنَ الْجُمَلِ الْمَرْفُوعَةِ كَمَا وَقَعَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ وَاضِحًا فِي بَابِ لِيُبَلِّغِ الْعِلْمَ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ مِنْ كِتَابِ الْعِلْمِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ: لَا تَرْجِعُوا) هُوَ بِالسَّنَدِ

ص: 27

الْمَذْكُورِ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، وَقَدْ قَالَ الْبَزَّارُ بَعْدَ تَخْرِيجِهِ بِطُولِهِ: لَا نَعْلَمُ مَنْ رَوَاهُ بِهَذَا اللَّفْظِ إِلَّا قُرَّةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ.

قَوْلُهُ: (فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ حُرِّقَ ابْنُ الْحَضْرَمِيِّ) فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيِّ، عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: قَالَ: فَلَمَّا كَانَ وَفَاعِلُ قَالَ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ، وَحُرِّقَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَوَقَعَ فِي خَطِّ الدِّمْيَاطِيِّ: الصَّوَابُ أُحْرِقَ، وَتَبِعَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَلَيْسَ الْآخَرُ بِخَطَأٍ بَلْ جَزَمَ أَهْلُ اللُّغَةِ بِاللُّغَتَيْنِ: أَحْرَقَهُ وَحَرَّقَهُ، وَالتَّشْدِيدُ لِلتَّكْثِيرِ، وَالتَّقْدِيرُ هُنَا: يَوْمَ حُرِّقَ ابْنُ الْحَضْرَمِيِّ وَمَنْ مَعَهُ. وَابْنُ الْحَضْرَمِيِّ فِيمَا ذَكَرَهُ الْعَسْكَرِيُّ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْحَضْرَمِيِّ، وَأَبُوهُ عَمْرٌو هُوَ أَوَّلُ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَعَلَى هَذَا فَلِعَبْدِ اللَّهِ رُؤْيَةٌ، وَقَدْ ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ فِي الصَّحَابَةِ؛ فَفِي الِاسْتِيعَابِ: قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وُلِدَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعِنْدَ الْمَدَائِنِيِّ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ الْحَضْرَمِيُّ وَهُوَ ابْنُ عَمْرٍو الْمَذْكُورُ، وَالْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ الصَّحَابِيُّ الْمَشْهُورُ عَمُّهُ، وَاسْمُ الْحَضْرَمِيِّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عماد وَكَانَ حَالَفَ بَنِي أُمَيَّةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَأُمُّ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ الْمَذْكُورِ أَرْنَبُ بِنْتُ كَرِيزِ بْنِ رَبِيعَةَ وَهِيَ عَمَّةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ كَرِيزٍ الَّذِي كَانَ أَمِيرَ الْبَصْرَةِ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ.

قَوْلُهُ: (حِينَ حَرَّقَهُ جَارِيَةُ) بِجِيمٍ وَتَحْتَانِيَّةٍ (ابْنُ قُدَامَةَ)؛ أَيِ: ابْنُ مَالِكِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ الْحُصَيْنِ التَّمِيمِيُّ السَّعْدِيُّ، وَكَانَ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْعَسْكَرِيُّ فِي الصَّحَابَةِ كَانَ جَارِيَةُ يُلَقَّبُ مُحَرِّقًا لِأَنَّهُ أَحْرَقَ ابْنَ الْحَضْرَمِيِّ بِالْبَصْرَةِ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ وَجَّهَ ابْنَ الْحَضْرَمِيِّ إِلَى الْبَصْرَةِ لِيَسْتَنْفِرَهُمْ عَلَى قِتَالِ عَلِيٍّ، فَوَجَّهَ عَلَى جَارِيَةَ بْنِ قُدَامَةَ فَحَصَرَهُ، فَتَحَصَّنَ مِنْهُ ابْنُ الْحَضْرَمِيِّ فِي دَارٍ فَأَحْرَقَهَا جَارِيَةُ عَلَيْهِ. وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ فِي حَوَادِثِ سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْحَسَنِ الْمَدَائِنِيِّ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي أَخْبَارِ الْبَصْرَةِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ خَرَجَ مِنَ الْبَصْرَةِ وَكَانَ عَامِلَهَا لِعَلِيٍّ وَاسْتَخْلَفَ زِيَادَ بْنَ سُمَيَّةَ عَلَى الْبَصْرَةِ، فَأَرْسَلَ مُعَاوِيَةُ، عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْحَضْرَمِيِّ لِيَأْخُذَ لَهُ الْبَصْرَةَ، فَنَزَلَ فِي بَنِي تَمِيمٍ، وَانْضَمَّتْ إِلَيْهِ الْعُثْمَانِيَّةُ، فَكَتَبَ زِيَادٌ إِلَى عَلِيٍّ يَسْتَنْجِدُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَعْيَنَ بْنَ ضُبَيْعَةَ الْمُجَاشِعِيَّ فَقُتِلَ غِيلَةً، فَبَعَثَ عَلِيٌّ بَعْدَهُ جَارِيَةَ بْنَ قُدَامَةَ فَحَصَرَ ابْنَ الْحَضْرَمِيِّ فِي الدَّارِ الَّتِي نَزَلَ فِيهَا ثُمَّ أَحْرَقَ الدَّارَ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ مَعَهُ وَكَانُوا سَبْعِينَ رَجُلًا أَوْ أَرْبَعِينَ، وَأَنْشَدَ فِي ذَلِكَ أَشْعَارًا، فَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ.

وَأَمَّا مَا حَكَاهُ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الْمُهَلَّبِ أَنَّ ابْنَ الْحَضْرَمِيِّ رَجُلٌ امْتَنَعَ مِنَ الطَّاعَةِ، فَأَخْرَجَ إِلَيْهِ جَارِيَةُ بْنُ قُدَامَةَ فَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ أَلْقَى النَّارَ فِي الْجِذْعِ الَّذِي صُلِبَ عَلَيْهِ، فَمَا أَدْرِي مَا مُسْتَنَدُهُ فِيهِ، وَكَأَنَّهُ قَالَهُ بِالظَّنِّ، وَالَّذِي ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ، وَكَانَ الْأَحْنَفُ يَدْعُو جَارِيَةَ عَمًّا إِعْظَامًا لَهُ، قَالَهُ الطَّبَرِيُّ. وَمَاتَ جَارِيَةُ فِي خِلَافَةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، قَالَهُ ابْنُ حِبَّانَ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ جُوَيْرِيَةُ بْنُ قُدَامَةَ الَّذِي رَوَى قِصَّةَ قَتْلِ عُمَرَ كَمَا تَقَدَّمَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ: أَشْرِفُوا عَلَى أَبِي بَكْرَةَ)؛ أَيِ: اطَّلِعُوا مِنْ مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ فَرَأَوْهُ، زَادَ الْبَزَّارُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ حَكِيمٍ، عَنِ الْقَطَّانِ: وَهُوَ فِي حَائِطٍ لَهُ.

قَوْلُهُ: (فَقَالُوا: هَذَا أَبُو بَكْرَةَ يَرَاكَ) قَالَ الْمُهَلَّبُ: لَمَّا فَعَلَ جَارِيَةُ، بِابْنِ الْحَضْرَمِيِّ مَا فَعَلَ أَمَرَ جَارِيَةُ بَعْضَهُمْ أَنْ يُشْرِفُوا عَلَى أَبِي بَكْرَةَ لِيَخْتَبِرَ إِنْ كَانَ مُحَارِبًا أَوْ فِي الطَّاعَةِ، وَكَانَ قَدْ قَالَ لَهُ خَيْثَمَةُ: هَذَا أَبُو بَكْرَةَ يَرَاكَ وَمَا صَنَعْتَ بِابْنِ الْحَضْرَمِيِّ فَرُبَّمَا أَنْكَرَ عَلَيْكَ بِسِلَاحٍ أَوْ بِكَلَامٍ. فَلَمَّا سَمِعَ أَبُو بَكْرَةَ ذَلِكَ وَهُوَ فِي عُلِّيَّةٍ لَهُ قَالَ: لَوْ دَخَلُوا عَلَيَّ دَارِي مَا رَفَعْتُ عَلَيْهِمْ قَصَبَةً؛ لِأَنِّي لَا أَرَى قِتَالَ الْمُسْلِمِينَ فَكَيْفَ أَنْ أُقَاتِلَهُمْ بِسِلَاحٍ. قُلْتُ: وَمُقْتَضَى مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ كَالْمَدَائِنِيِّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ اسْتَنْفَرَ أَهْلَ الْبَصْرَةِ بِأَمْرِ عَلِيٍّ لِيُعَاوِدُوا مُحَارَبَةَ مُعَاوِيَةَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ أَمْرِ التَّحْكِيمِ، ثُمَّ وَقَعَ أَمْرُ الْخَوَارِجِ فَسَارَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى عَلِيٍّ فَشَهِدَ مَعَهُ النَّهْرَوَانَ، فَأَرْسَلَ بَعْضٌ عَبْدَ الْقَيْسِ فِي غَيْبَتِهِ إِلَى مُعَاوِيَةَ يُخْبِرُهُ أَنَّ بِالْبَصْرَةِ جَمَاعَةً مِنَ

ص: 28

الْعُثْمَانِيَّةِ، وَيَسْأَلُهُ تَوْجِيهَ رَجُلٍ يَطْلُبُ بِدَمِ عُثْمَانَ، فَوَجَّهَ ابْنَ الْحَضْرَمِيِّ فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ، فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ جَارِيَةَ بْنَ قُدَامَةَ بَعْدَ أَنْ غَلَبَ وَحَرَّقَ ابْنَ الْحَضْرَمِيِّ وَمَنْ مَعَهُ اسْتَنْفَرَ النَّاسَ بِأَمْرِ عَلِيٍّ، فَكَانَ مِنْ رَأْيِ أَبِي بَكْرَةَ تَرْكُ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ كَرَأْيِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَدَلَّ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى أَبِي بَكْرَةَ لِيُلْزِمُوهُ الْخُرُوجَ إِلَى الْقِتَالِ فَأَجَابَهُمْ بِمَا قَالَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ) هُوَ ابْنُ أَبِي بَكْرَةَ الرَّاوِيُّ، وَهُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ: (فَحَدَّثَتْنِي أُمِّي) هِيَ هَالَةُ بِنْتُ غُلَيْظٍ الْعِجْلِيَّةُ، ذَكَرَ ذَلِكَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ فِي تَارِيخِهِ، وَتَبِعَهُ أَبُو أَحْمَدَ الْحَاكِمُ وَجَمَاعَةٌ، وَسَمَّى ابْنُ سَعْدٍ أُمَّهُ هَوْلَةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمَ. وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَابْنُ سَعْدٍ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ كَانَ أَوَّلَ مَوْلُودٍ وُلِدَ بِالْبَصْرَةِ بَعْدَ أَنْ بُنِيَتْ، وَأَرَّخَهَا ابْنُ زَيْدٍ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَذَلِكَ فِي أَوَائِلِ خِلَافَةِ عُمَرَ رضي الله عنه.

قَوْلُهُ: (لَوْ دَخَلُوا عَلَيَّ) بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ.

قَوْلُهُ: (مَا بَهِشْتُ) بِكَسْرِ الْهَاءِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ، وَلِلكُشْمِيهَنِيِّ بِفَتْحِ الْهَاءِ؛ وَهُمَا لُغَتَانِ. وَالْمَعْنَى: مَا دَافَعْتُهُمْ، يُقَالُ: بَهَشَ بَعْضُ الْقَوْمِ إِلَى بَعْضٍ؛ إِذَا تَرَامَوْا لِلْقِتَالِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَا مَدَدْتُ يَدِيَ إِلَى قَصَبَةٍ وَلَا تَنَاوَلْتُهَا لِأُدَافِعَ بِهَا عَنِّي. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: مَا قُمْتُ إِلَيْهِمْ بِقَصَبَةٍ يُقَالُ: بَهَشَ لَهُ إِذَا ارْتَاحَ لَهُ وَخَفَّ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَا رَمَيْتُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَا تَحَرَّكْتُ، وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: الْمُرَادُ مَا أَقْبَلْتُ إِلَيْهِمْ مُسْرِعًا أَدْفَعُهُمْ عَنِّي وَلَا بِقَصَبَةٍ، وَيُقَالُ لِمَنْ نَظَرَ إِلَى شَيْءٍ فَأَعْجَبَهُ وَاشْتَهَاهُ أَوْ أَسْرَعَ إِلَى تَنَاوُلِهِ: بَهَشَ إِلَى كَذَا، وَيُسْتَعْمَلُ أَيْضًا فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، يُقَالُ: بَهَشَ إِلَى مَعْرُوفِ فُلَانٍ فِي الْخَيْرِ وَبَهَشَ إِلَى فُلَانٍ تَعَرَّضَ لَهُ بِالشَّرِّ، وَيُقَالُ: بَهَشَ الْقَوْمُ بَعْضَهُمْ إِلَى بَعْضٍ إِذَا ابْتَدَرُوا فِي الْقِتَالِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو بَكْرَةَ يُوَافِقُ مَا وَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ في ذِكْرِ الْفِتْنَةِ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ؟ قَالَ: كُفَّ يَدَكَ وَلِسَانَكَ وَادْخُلْ دَارَكَ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ دَخَلَ رَجُلٌ عَلَيَّ دَارِي؟ قَالَ: فَادْخُلْ بَيْتَكَ. قَالَ: قُلْتُ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ دَخَلَ عَلَيَّ بَيْتِي؟ قَالَ: فَادْخُلْ مَسْجِدَكَ - وَقَبَضَ بِيَمِينِهِ عَلَى الْكُوعِ - وَقُلْ: رَبِّيَ اللَّهُ، حَتَّى تَمُوتَ عَلَى ذَلِكَ. وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ جُنْدُبٍ: ادْخُلُوا بُيُوتَكُمْ وَأَخْمِلُوا ذِكْرَكُمْ. قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ دَخَلَ عَلَى أَحَدِنَا بَيْتَهُ؟ قَالَ: لِيُمْسِكْ بِيَدِهِ وَلْيَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ لَا الْقَاتِلَ.

وَلِأَحْمَدَ، وَأَبِي يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ خَرْشَةَ بْنِ الْحُرِّ: فَمَنْ أَتَتْ عَلَيْهِ فَلْيَمْشِ بِسَيْفِهِ إِلَى صَفَاةٍ فَلْيَضْرِبْهُ بِهَا حَتَّى يَنْكَسِرَ ثُمَّ لِيَضْطَجِعَ لَهَا حَتَّى تَنْجَلِيَ وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ أُكْرِهْتُ حَتَّى يُنْطَلَقَ بِي إِلَى أَحَدِ الصَّفَّيْنِ فَجَاءَ سَهْمٌ أَوْ ضَرَبَنِي رَجُلٌ بِسَيْفٍ؟ قَالَ: يَبُوءُ بِإِثْمِهِ وَإِثْمِكَ الْحَدِيثَ، وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ قَوْلُهُ: (مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ) هُوَ ابْنُ غَزْوَانَ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الزَّايِ.

قَوْلُهُ: (لَا تَرْتَدُّوا) تَقَدَّمَ فِي الْحَجِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ فُضَيْلٍ بِلَفْظِ: لَا تَرْجِعُوا وَسَاقَهُ هُنَاكَ أَتَمَّ.

قَوْلُهُ: (لَا تَرْجِعُوا) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: لَا تَرْجِعُنَّ بَعْدَ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ الْمَضْمُومَةِ نُونٌ ثَقِيلَةٌ، وَأَصْلُهُ: لَا تَرْجِعُونَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْعِلْمِ وَفِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي وَفِي الدِّيَاتِ بِلَفْظِ: لَا تَرْجِعُوا، وَلَيْسَ لِأَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ عَنْ جَدِّهِ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثُ، وَعَلِيُّ بْنُ مُدْرِكٍ الرَّاوِي عَنْهُ نَخَعِيٌّ كُوفِيٌّ مُتَّفَقٌ عَلَى تَوْثِيقِهِ، وَلَا أَعْرِفُ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ فِي الْمَوَاضِعِ الْمَذْكُورَةِ.

‌9 - بَاب: تَكُونُ فِتْنَةٌ؛ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ

7081 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ

ص: 29

أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ إِبْرَاهِيمُ: وَحَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: سَتَكُونُ فِتَنٌ؛ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي، مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، فَمَنْ وَجَدَ مِنْهَا مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ.

7082 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: سَتَكُونُ فِتَنٌ؛ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي، مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، فَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابٌ: تَكُونُ فِتْنَةٌ؛ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ) كَذَا تَرْجَمَ بِبَعْضِ الْحَدِيثِ، وَأَوْرَدَهُ مِنْ رِوَايَةِ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَهُوَ عَمُّهُ، وَمِنْ رِوَايَةِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ؛ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَمِنْ رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَكَأَنَّهُ صَحَّحَ أَنَّ لِابْنِ شِهَابٍ فِيهِ شَيْخَيْنِ. وَلَفْظُ الْحَدِيثَيْنِ سَوَاءٌ إِلَّا مَا سَأُبَيِّنُهُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْأُوَيْسِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْهُمَا جَمِيعًا، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ، وَلَمْ يَسُقِ الْبُخَارِيُّ لَفْظَ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَسَاقَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، وَفِي أَوَّلِهِ: تَكُونُ فِتْنَةٌ؛ النَّائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْيَقْظَانِ، وَالْيَقْظَانُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ.

قَوْلُهُ: (سَتَكُونُ فِتَنٌ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي: فِتْنَةٌ؛ بِالْإِفْرَادِ.

قَوْلُهُ: (الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ) زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْكَلْبِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ بِسَنَدِهِ فِيهِ فِي أَوَّلِهِ: النَّائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْيَقْظَانِ، وَالْيَقْظَانُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَاعِدِ. وَالْحَسَنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمَذْكُورُ وَثَّقَهُ النَّسَائِيُّ وَهُوَ مِنْ شُيُوخِهِ، ثُمَّ وَجَدْتُ هَذِهِ الزِّيَادَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، وَكَانَ أَخْرَجَهُ أَوَّلًا مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ كَرِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، فَكَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ سَعْدٍ كَانَ يَذْكُرُهُ تَامًّا وَنَاقِصًا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ خَرْشَةَ بْنِ الْحُرِّ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي يَعْلَى مِثْلُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَقَدْ وَجَدْتُ لِهَذِهِ الزِّيَادَةِ شَاهِدًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ بِلَفْظِ: النَّائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمُضْطَجِعِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْيَقْظَانِ فِي الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ لِأَنَّهُ قَابَلَهُ بِالْقَاعِدِ.

قَوْلُهُ: (وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي) فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الرَّاكِبِ، وَالرَّاكِبُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمُجْرِي، قَتْلَاهَا كُلُّهَا فِي النَّارِ.

قَوْلُهُ: (خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي) فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: مِنَ السَّاعِي إِلَيْهَا وَزَادَ: أَلَا فَإِذَا نَزَلَتْ فَمَنْ كَانَتْ لَهُ إِبِلٌ فَلْيَلْحَقْ بِإِبِلِهِ الْحَدِيثَ. قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ فِي قَوْلِهِ: وَالْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ؛ أَيِ: الْقَاعِدُ فِي زَمَانِهَا عَنْهَا. قَالَ: وَالْمُرَادُ بِالْقَائِمِ الَّذِي لَا يَسْتَشْرِفُهَا، وَبِالْمَاشِي مَنْ يَمْشِي فِي أَسْبَابِهِ لِأَمْرٍ سِوَاهَا، فَرُبَّمَا يَقَعُ بِسَبَبِ مَشْيِهِ فِي أَمْرٍ يَكْرَهُهُ. وَحَكَى ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ يَكُونُ مُبَاشِرًا لَهَا فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، يَعْنِي أَنَّ بَعْضَهُمْ فِي ذَلِكَ أَشَدُّ مِنْ بَعْضٍ، فَأَعْلَاهُمْ فِي ذَلِكَ السَّاعِي فِيهَا بِحَيْثُ يَكُونُ سَبَبًا لِإِثَارَتِهَا، ثُمَّ مَنْ يَكُونُ قَائِمًا بِأَسْبَابِهَا وَهُوَ الْمَاشِي، ثُمَّ مَنْ يَكُونُ مُبَاشِرًا لَهَا وَهُوَ الْقَائِمُ، ثُمَّ مَنْ يَكُونُ مَعَ النَّظَّارَةِ وَلَا يُقَاتِلُ وَهُوَ الْقَاعِدُ، ثُمَّ مَنْ يَكُونُ مُجْتَنِبًا لَهَا وَلَا يُبَاشِرُ وَلَا يَنْظُرُ وَهُوَ الْمُضْطَجِعُ الْيَقْظَانُ، ثُمَّ مَنْ لَا يَقَعُ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ رَاضٍ وَهُوَ النَّائِمُ، وَالْمُرَادُ

ص: 30

بِالْأَفْضَلِيَّةِ فِي هَذِهِ الْخَيْرِيَّةِ مَنْ يَكُونُ أَقَلَّ شَرًّا مِمَّنْ فَوْقَهُ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ: (مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا) بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَالْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ؛ أَيْ تَطَلَّعَ لَهَا بِأَنْ يَتَصَدَّى وَيَتَعَرَّضَ لَهَا وَلَا يُعْرِضُ عَنْهَا، وَضُبِطَ أَيْضًا مِنَ الشَّرَفِ وَمِنَ الْإِشْرَافِ.

قَوْلُهُ: (تَسْتَشْرِفُهُ)؛ أَيْ تُهْلِكُهُ بِأَنْ يُشْرِفَ مِنْهَا عَلَى الْهَلَاكِ، يُقَالُ: اسْتَشْرَفْتُ الشَّيْءَ عَلَوْتُهُ وَأَشْرَفْتُ عَلَيْهِ، يُرِيدُ: مَنِ انْتَصَبَ لَهَا انْتَصَبَتْ لَهُ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْهَا أَعْرَضَتْ عَنْهُ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ مَنْ طَلَعَ فِيهَا بِشَخْصِهِ قَابَلَتْهُ بِشَرِّهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: مَنْ خَاطَرَ فِيهَا بِنَفْسِهِ أَهْلَكَتْهُ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْقَائِلِ: مَنْ غَالَبَهَا غَلَبَتْهُ.

قَوْلُهُ: (فَمَنْ وَجَدَ فِيهَا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: مِنْهَا.

قَوْلُهُ: (مَلْجَأً)؛ أَيْ: يَلْتَجِئُ إِلَيْهِ مِنْ شَرِّهَا.

قَوْلُهُ: (أَوْ مَعَاذًا) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَبِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ هُوَ بِمَعْنَى الْمَلْجَأِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَرُوِّينَاهُ بِالضَّمِّ؛ يَعْنِي: مُعَاذًا.

قَوْلُهُ: (فَلْيَعُذْ بِهِ)؛ أَيْ: لِيَعْتَزِلْ فِيهِ لِيَسْلَمَ مِنْ شَرِّ الْفِتْنَةِ، وَفِي رِوَايَةِ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ: فَلْيَسْتَعِذْ. وَوَقَعَ تَفْسِيرُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ، وَلَفْظُهُ: فَإِذَا نَزَلَتْ فَمَنْ كَانَ لَهُ إِبِلٌ فَلْيَلْحَقْ بِإِبِلِهِ - وَذَكَرَ الْغَنَمَ وَالْأَرْضَ - قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ؟ قَالَ: يَعْمِدُ إِلَى سَيْفِهِ فَيَدُقَّ عَلَى حَدِّهِ بِحَجَرٍ ثُمَّ لِيَنْجُ إِنِ اسْتَطَاعَ. وَفِيهِ التَّحْذِيرُ مِنَ الْفِتْنَةِ وَالْحَثُّ عَلَى اجْتِنَابِ الدُّخُولِ فِيهَا وَأَنَّ شَرَّهَا يَكُونُ بِحَسَبِ التَّعَلُّقِ بِهَا، وَالْمُرَادُ بِالْفِتْنَةِ مَا يَنْشَأُ عَنِ الِاخْتِلَافِ فِي طَلَبِ الْمُلْكِ حَيْثُ لَا يُعْلَمُ الْمُحِقُّ مِنَ الْمُبْطِلِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: اخْتَلَفَ السَّلَفُ فَحَمَلَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ عَلَى الْعُمُومِ وَهُمْ مَنْ قَعَدَ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْقِتَالِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مُطْلَقًا كَسَعْدٍ وَابْنِ عُمَرَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، وَأَبِي بَكْرَةَ فِي آخَرِينَ، وَتَمَسَّكُوا بِالظَّوَاهِرِ الْمَذْكُورَةِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ بِلُزُومِ الْبُيُوتِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ بِالتَّحَوُّلِ عَنْ بَلَدِ الْفِتَنِ أَصْلًا. ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِذَا هَجَمَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ يَكُفُّ يَدَهُ وَلَوْ قُتِلَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ يُدَافِعُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ مَالِهِ وَعَنْ أَهْلِهِ وَهُوَ مَعْذُورٌ إِنْ قَتَلَ أَوْ قُتِلَ.

وَقَالَ آخَرُونَ: إِذَا بَغَتْ طَائِفَةٌ عَلَى الْإِمَامِ فَامْتَنَعَتْ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَيْهَا وَنَصَبَتِ الْحَرْبَ وَجَبَ قِتَالُهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ تَحَارَبَتْ طَائِفَتَانِ وَجَبَ عَلَى كُلِّ قَادِرٍ الْأَخْذُ عَلَى يَدِ الْمُخْطِئِ وَنَصْرُ الْمُصِيبَ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَفَصَّلَ آخَرُونَ فَقَالُوا: كُلُّ قِتَالٍ وَقَعَ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَيْثُ لَا إِمَامَ لِلْجَمَاعَةِ فَالْقِتَالُ حِينَئِذٍ مَمْنُوعٌ، وَتَنْزِلُ الْأَحَادِيثُ الَّتِي فِي هَذَا الْبَابِ وَغَيْرِهِ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْفِتْنَةَ أَصْلُهَا الِابْتِلَاءُ، وَإِنْكَارُ الْمُنْكَرِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، فَمَنْ أَعَانَ الْمُحِقَّ أَصَابَ وَمَنْ أَعَانَ الْمُخْطِئَ أَخْطَأَ، وَإِنْ أَشْكَلَ الْأَمْرُ فَهِيَ الْحَالَةُ الَّتِي وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الْقِتَالِ فِيهَا. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ الْأَحَادِيثَ وَرَدَتْ فِي حَقِّ نَاسٍ مَخْصُوصِينَ، وَأَنَّ النَّهْيَ مَخْصُوصٌ بِمَنْ خُوطِبَ بِذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّ أَحَادِيثَ النَّهْيِ مَخْصُوصَةٌ بِآخِرِ الزَّمَانِ حَيْثُ يَحْصُلُ التَّحَقُّقُ أَنَّ الْمُقَاتَلَةَ إِنَّمَا هِيَ فِي طَلَبِ الْمُلْكِ. وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَتَى ذَلِكَ؟ قَالَ: أَيَّامَ الْهَرْجِ. قُلْتُ: وَمَتَى؟ قَالَ: حِينَ لَا يَأْمَنُ الرَّجُلُ جَلِيسَهُ.

‌10 - بَاب إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا

7083 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ رَجُلٍ لَمْ يُسَمِّهِ، عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: خَرَجْتُ بِسِلَاحِي لَيَالِيَ الْفِتْنَةِ، فَاسْتَقْبَلَنِي أَبُو بَكْرَةَ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قُلْتُ: أُرِيدُ نُصْرَةَ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا تَوَاجَهَ الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَكِلَاهُمَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ. قِيلَ: فَهَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: إِنَّهُ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ. قَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ: فَذَكَرْتُ هَذَا الْحَدِيثَ لِأَيُّوبَ، وَيُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ وَأَنَا

ص: 31

أُرِيدُ أَنْ يُحَدِّثَانِي بِهِ، فَقَالَا: إِنَّمَا رَوَى هَذَا الحَدِيثَ الْحَسَنُ، عَنْ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ.، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ بِهَذَا. وَقَالَ مُؤَمَّلٌ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ وَيُونُسُ وَهِشَامٌ وَمُعَلَّى بْنُ زِيَادٍ، عَنْ الْحَسَنِ، عَنْ الْأَحْنَفِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَرَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ، وَرَوَاهُ بَكَّارُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ. وَقَالَ غُنْدَرٌ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَرْفَعْهُ سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفِيهِمَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ) وَهُوَ الْحَجَبِيُّ؛ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْجِيمِ.

قَوْلُهُ: (حَمَّادٌ) هُوَ ابْنُ زَيْدٍ، وَقَدْ نَسَبَهُ فِي أَثْنَاءِ الْحَدِيثِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ رَجُلٍ لَمْ يُسَمِّهِ) هُوَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ شَيْخُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَكَانَ سَيِّئَ الضَّبْطِ، هَكَذَا جَزَمَ الْمِزِّيُّ فِي التَّهْذِيبِ بِأَنَّهُ الْمُبْهَمُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَجَوَّزَ غَيْرُهُ كَمُغَلْطَايْ أَنْ يَكُونَ هُوَ هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ وَفِيهِ بُعْدٌ.

قَوْلُهُ: (عَنِ الْحَسَنِ) هُوَ الْبَصْرِيُّ (قَالَ: خَرَجْتُ بِسِلَاحِي لَيَالِيَ الْفِتْنَةِ) كَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَسَقَطَ الْأَحْنَفُ بَيْنَ الْحَسَنِ، وَأَبِي بَكْرَةَ كَمَا سَيَأْتِي، وَالْمُرَادُ بِالْفِتْنَةِ الْحَرْبُ الَّتِي وَقَعَتْ بَيْنَ عَلِيٍّ وَمَنْ مَعَهُ وَعَائِشَةَ وَمَنْ مَعَهَا. وَقَوْلُهُ: خَرَجْتُ بِسِلَاحِي فِي رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ شَبَّةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ خِدَاشٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، وَيُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ عَنِ الْأَحْنَفِ قَالَ: الْتَحَفْتُ عَلَيَّ بِسَيْفِي لِآتِيَ عَلِيًّا فَأَنْصُرَهُ. وَقَوْلُهُ: فَاسْتَقْبَلَنِي أَبُو بَكْرَةَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ الْآتِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا: فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرَةَ.

قَوْلُهُ: (أَيْنَ تُرِيدُ) زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ: يَا أَحْنَفُ.

قَوْلُهُ: (نُصْرَةَ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: أُرِيدَ نَصْرَ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ يَعْنِي عَلِيًّا قَالَ: فَقَالَ لِي: يَا أَحْنَفُ، ارْجِعْ.

قَوْلُهُ: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (فَكِلَاهُمَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فِي النَّارِ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ.

قَوْلُهُ: (قِيلَ: فَهَذَا الْقَاتِلُ) الْقَائِلُ هُوَ أَبُو بَكْرَةَ وَقَعَ مُبَيَّنًا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، لَكِنْ شَكَّ فَقَالَ: فَقُلْتُ أَوْ قِيلَ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟. وَقَوْلُهُ: هَذَا الْقَاتِلُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ؛ أَيْ: هَذَا الْقَاتِلُ يَسْتَحِقُّ النَّارَ، وَقَوْلُهُ: فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؛ أَيْ: فَمَا ذَنْبُهُ.

قَوْلُهُ: (إِنَّهُ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ) تَقَدَّمَ فِي الْإِيمَانِ بِلَفْظِ: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَا: إِنَّمَا رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الْحَسَنُ عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ)؛ يَعْنِي أَنَّ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ أَخْطَأَ فِي حَذْفِ الْأَحْنَفِ بَيْنَ الْحَسَنِ، وَأَبِي بَكْرَةَ، لَكِنْ وَافَقَهُ قَتَادَةُ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنْهُ عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، إِلَّا أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى الْحَدِيثِ دُونَ الْقِصَّةِ، فَكَأَنَّ الْحَسَنَ كَانَ يُرْسِلُهُ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ فَإِذَا ذَكَرَ الْقِصَّةَ أَسْنَدَهُ، وَقَدْ رَوَاهُ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي مُوسَى أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا، وَتَعَقَّبَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ قَوْلَ الْبَزَّارِ لَا يُعْرَفُ الْحَدِيثُ بِهَذَا اللَّفْظِ إِلَّا عَنْ أَبِي بَكْرَةَ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَلَكِنْ لَعَلَّ الْبَزَّارَ يَرَى أَنَّ رِوَايَةَ التَّيْمِيِّ شَاذَّةٌ لِأَنَّ الْمَحْفُوظَ عَنِ الْحَسَنِ رِوَايَةُ مَنْ قَالَ عَنْهُ عَنِ الْأَحْنَفِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ بِهَذَا) سُلَيْمَانُ هُوَ ابْنُ حَرْبٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ بِهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مُوَافَقَةِ الرِّوَايَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، وَيُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ جَمِيعًا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَةَ الضَّبِّيِّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، وَيُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، وَالْمُعَلَّى بْنِ زِيَادٍ؛

ص: 32

ثَلَاثَتُهُمْ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ فَسَاقَ الْحَدِيثَ دُونَ الْقِصَّةِ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَبِي كَامِلٍ الْجَحْدَرِيِّ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ بِاخْتِصَارٍ يَسِيرٍ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُؤَمَّلٌ) بِوَاوٍ مَهْمُوزَةٍ وَزْنُ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَصْرِيُّ نَزِيلُ مَكَّةَ، أَدْرَكَهُ الْبُخَارِيُّ وَلَمْ يَلْقَهُ لِأَنَّهُ مَاتَ سَنَةَ سِتٍّ وَمِائَتَيْنِ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَرْحَلَ الْبُخَارِيُّ، وَلَمْ يُخَرِّجْ عَنْهُ إِلَّا تَعْلِيقًا، وَهُوَ صَدُوقٌ كَثِيرُ الْخَطَأِ؛ قَالَهُ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِّيُّ. وَقَدْ وَصَلَ هَذِهِ الطَّرِيقَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُوسَى مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، ويُونُسَ - هُوَ ابْنُ عُبَيْدٍ -، وَهِشَامٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنِ الْأَحْنَفِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ دُونَ الْقِصَّةِ، وَوَصَلَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ سِنَانٍ: حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، وَيُونُسُ، وَالْمُعَلَّى بْنُ زِيَادٍ قَالُوا: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ فَذَكَرَهُ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ مُؤَمَّلٍ، عَنْ حَمَّادٍ عَنِ الْأَرْبَعَةِ، فَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ إِلَى هَذِهِ الطَّرِيقِ.

قَوْلُهُ: (وَرَوَاهُ مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ) قُلْتُ: وَصَلَهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْهُ، فَلَمْ يَسُقْ مُسْلِمٌ لَفْظَهُ وَلَا أَبُو دَاوُدَ، وَسَاقَهُ النَّسَائِيُّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ فَقَالَ: عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الْحَدِيثَ دُونَ الْقِصَّةِ، وَفِي هَذَا السَّنَدِ لَطِيفَةٌ وَهُوَ أَنَّ رِجَالَهُ كُلَّهُمْ بَصْرِيُّونَ، وَفِيهِمْ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ أَوَّلُهُمْ أَيُّوبُ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الِاخْتِلَافَ فِي سَنَدِهِ: وَالصَّحِيحُ حَدِيثُ أَيُّوبَ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَمَعْمَرٍ عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (وَرَوَاهُ بَكَّارُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي بَكْرَةِ) قُلْتُ: عَبْدُ الْعَزِيزِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، وَقَدْ وَقَعَ مَنْسُوبًا عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَسَبَهُ إِلَى جَدِّهِ فَقَالَ: عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ، وَلَيْسَ لَهُ وَلَا لِوَلَدِهِ بَكَّارٍ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثُ، وَهَذِهِ الطَّرِيقُ وَصَلَهَا الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ خَالِدِ بْنِ خِدَاشٍ - بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَآخِرُهُ شِينٌ مُعْجَمَةٌ - قَالَ: حَدَّثَنَا بَكَّارُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ، وَلَفْظُهُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ فِتْنَةً كَائِنَةٌ؛ الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ، إِنَّ الْمَقْتُولَ قَدْ أَرَادَ قَتْلَ الْقَاتِلِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ غُنْدَرٌ:، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ) هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ (عَنْ رِبْعِيٍّ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ، وَهُوَ اسْمٌ بِلَفْظِ النَّسَبِ، وَاسْمُ أَبِيهِ حِرَاشٌ - بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَآخِرُهُ شِينٌ مُعْجَمَةٌ - تَابِعِيٌّ مَشْهُورٌ. وَقَدْ وَصَلَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ - وَهُوَ غُنْدَرٌ - بِهَذَا السَّنَدِ مَرْفُوعًا، وَلَفْظُهُ: إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ حَمَلَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ السِّلَاحَ فَهُمَا عَلَى جُرُفِ جَهَنَّمَ، فَإِذَا قَتَلَهُ وَقَعَا فِيهَا جَمِيعًا، وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ شُعْبَةَ، وَمِنْ طَرِيقِهِ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ.

قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَرْفَعْهُ سُفْيَانُ)؛ يَعْنِي الثَّوْرِيَّ (عَنْ مَنْصُورٍ)؛ يَعْنِي بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ وَصَلَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ يَعْلَى بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ إِلَى أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: إِذَا حَمَلَ الرَّجُلَانِ الْمُسْلِمَانِ السِّلَاحَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَهُمَا عَلَى جُرُفِ جَهَنَّمَ، فَإِذَا قَتَلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَهُمَا فِي النَّارِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ أَوَائِلَ الصَّحِيحِ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَعْنَى كَوْنِهِمَا فِي النَّارِ أَنَّهُمَا يَسْتَحِقَّانِ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَمْرَهُمَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ إِنْ شَاءَ عَاقَبَهُمَا ثُمَّ أَخْرَجَهُمَا مِنَ النَّارِ كَسَائِرِ الْمُوَحِّدِينَ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُمَا فَلَمْ يُعَاقِبْهُمَا أَصْلًا. وَقِيلَ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنِ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِلْخَوَارِجِ، وَمَنْ قَالَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ بِأَنَّ أَهْلَ الْمَعَاصِي مُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِهِ فَهُمَا فِي النَّارِ اسْتِمْرَارُ بَقَائِهِمَا فِيهَا. وَاحْتَجَّ بِهِ مَنْ لَمْ يَرَ الْقِتَالَ فِي الْفِتْنَةِ وَهُمْ كُلُّ مَنْ تَرَكَ الْقِتَالَ مَعَ عَلِيٍّ فِي حُرُوبِهِ كَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، وَأَبِي بَكْرَةَ وَغَيْرِهِمْ، وَقَالُوا: يَجِبُ الْكَفُّ، حَتَّى لَوْ أَرَادَ أَحَدٌ قَتْلَهُ لَمْ يَدْفَعْهُ عَنْ نَفْسِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَدْخُلُ فِي الْفِتْنَةِ، فَإِنْ أَرَادَ أَحَدٌ قَتْلَهُ دَفَعَ عَنْ نَفْسِهِ.

وَذَهَبَ

ص: 33

جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إِلَى وُجُوبِ نَصْرِ الْحَقِّ وَقِتَالِ الْبَاغِينَ، وَحَمَلَ هَؤُلَاءِ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ عَلَى مَنْ ضَعُفَ عَنِ الْقِتَالِ أَوْ قَصُرَ نَظَرُهُ عَنْ مَعْرِفَةِ صَاحِبِ الْحَقِّ، وَاتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى وُجُوبِ مَنْعِ الطَّعْنِ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ بِسَبَبِ مَا وَقَعَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ عَرَفَ الْمُحِقَّ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُقَاتِلُوا فِي تِلْكَ الْحُرُوبِ إِلَّا عَنِ اجْتِهَادٍ وَقَدْ عَفَا اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْمُخْطِئِ فِي الِاجْتِهَادِ، بَلْ ثَبَتَ أَنَّهُ يُؤْجَرُ أَجْرًا وَاحِدًا وَأَنَّ الْمُصِيبَ يُؤْجَرُ أَجْرَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ، وَحَمَلَ هَؤُلَاءِ الْوَعِيدَ الْمَذْكُورَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى مَنْ قَاتَلَ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ سَائِغٍ بَلْ بِمُجَرَّدِ طَلَبِ الْمُلْكِ، وَلَا يَرِدُ عَلَى ذَلِكَ مَنْعُ أَبِي بَكْرَةَ، الْأَحْنَفَ مِنَ الْقِتَالِ مَعَ عَلِيٍّ لِأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ عَنِ اجْتِهَادٍ مِنْ أَبِي بَكْرَةَ أَدَّاهُ إِلَى الِامْتِنَاعِ وَالْمَنْعِ احْتِيَاطًا لِنَفْسِهِ وَلِمَنْ نَصَحَهُ، وَسَيَأْتِي فِي الْبَاِبِ الَّذِي بَعْدَهُ مَزِيدُ بَيَانٍ لِذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ الطَّبَرِيُّ: لَوْ كَانَ الْوَاجِبُ فِي كُلِّ اخْتِلَافٍ يَقَعُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ الْهَرَبُ مِنْهُ بِلُزُومِ الْمَنَازِلِ وَكَسْرِ السُّيُوفِ لَمَا أُقِيمَ حَدٌّ وَلَا أُبْطِلَ بَاطِلٌ، وَلَوَجَدَ أَهْلُ الْفُسُوقِ سَبِيلًا إِلَى ارْتِكَابِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ أَخْذِ الْأَمْوَالِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ وَسَبْيِ الْحَرِيمِ بِأَنْ يُحَارِبُوهُمْ وَيَكُفَّ الْمُسْلِمُونَ أَيْدِيَهُمْ عَنْهُمْ بِأَنْ يَقُولُوا هَذِهِ فِتْنَةٌ وَقَدْ نُهِينَا عَنِ الْقِتَالِ فِيهَا، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْأَمْرِ بِالْأَخْذِ عَلَى أَيْدِي السُّفَهَاءِ، انْتَهَى.

وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَزَّارُ فِي حَدِيثِ: الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ زِيَادَةً تُبَيِّنُ الْمُرَادَ، وَهِيَ: إِذَا اقْتَتَلْتُمْ عَلَى الدُّنْيَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِلَفْظِ: لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِيمَ قَتَلَ وَلَا الْمَقْتُولُ فِيمَ قُتِلَ. فَقِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ؟ قَالَ: الْهَرْجُ، الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فَبَيَّنَ هَذَا الْحَدِيثُ أَنَّ الْقِتَالَ إِذَا كَانَ عَلَى جَهْلٍ مِنْ طَلَبِ الدُّنْيَا أَوِ اتِّبَاعِ هَوًى فَهُوَ الَّذِي أُرِيدَ بِقَوْلِهِ: الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ. قُلْتُ: وَمِنْ ثَمَّ كَانَ الَّذِينَ تَوَقَّفُوا عَنِ الْقِتَالِ فِي الْجَمَلِ وَصِفِّينَ أَقَلَّ عَدَدًا مِنَ الَّذِينَ قَاتَلُوا، وَكُلُّهُمْ مُتَأَوِّلٌ مَأْجُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، بِخِلَافِ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ مِمَّنْ قَاتَلَ عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا كَمَا سَيَأْتِي عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: مَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً فَقُتِلَ فَقِتْلَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ. وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى الْمُؤَاخَذَةِ بِالْعَزْمِ وَإِنْ لَمْ يَقَعِ الْفِعْلُ، وَأَجَابَ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ أَنَّ فِي هَذَا فِعْلًا وَهُوَ الْمُوَاجَهَةُ بِالسِّلَاحِ وَوُقُوعُ الْقِتَالِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ فِي النَّارِ أَنْ يَكُونَا فِي مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ، فَالْقَاتِلُ يُعَذَّبُ عَلَى الْقِتَالِ وَالْقَتْلِ، وَالْمَقْتُولُ يُعَذَّبُ عَلَى الْقِتَالِ فَقَطْ؛ فَلَمْ يَقَعِ التَّعْذِيبُ عَلَى الْعَزْمِ الْمُجَرَّدِ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} اخْتِيَارُ بَابِ الِافْتِعَالِ فِي الشَّرِّ لِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْمُعَالَجَةِ، بِخِلَافِ الْخَيْرِ فَإِنَّهُ يُثَابُ عَلَيْهِ بِالنِّيَّةِ الْمُجَرَّدَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ: إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ أَوْ يَعْمَلُوا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَرَاتِبَ ثَلَاثٌ: الْهَمُّ الْمُجَرَّدُ وَهُوَ يُثَابُ عَلَيْهِ وَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ، وَاقْتِرَانُ الْفِعْلِ بِالْهَمِّ أَوْ بِالْعَزْمِ وَلَا نِزَاعَ فِي الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ، وَالْعَزْمُ وَهُوَ أَقْوَى مِنَ الْهَمِّ وَفِيهِ النِّزَاعُ.

(تَنْبِيهٌ): وَرَدَ فِي اعْتِزَالِ الْأَحْنَفِ الْقِتَالَ فِي وَقْعَةِ الْجَمَلِ سَبَبٌ آخَرُ، فَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ جَاوَانَ قَالَ: قُلْتُ لَهُ: أَرَأَيْتَ اعْتِزَالَ الْأَحْنَفِ مَا كَانَ؟ قَالَ: سَمِعْتُ الْأَحْنَفَ قَالَ: حَجَجْنَا فَإِذَا النَّاسُ مُجْتَمِعُونَ فِي وَسَطِ الْمَسْجِدِ - يَعْنِي النَّبَوِيَّ - وَفِيهِمْ عَلِيٌّ، وَالزُّبَيْرُ، وَطَلْحَةُ، وَسَعْدٌ إِذْ جَاءَ عُثْمَانُ فَذَكَرَ قِصَّةَ مُنَاشَدَتِهِ لَهُمْ فِي ذِكْرِ مَنَاقِبِهِ، قَالَ الْأَحْنَفُ: فَلَقِيتُ طَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرَ فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أَرَى هَذَا الرَّجُلَ - يَعْنِي عُثْمَانَ - إِلَّا مَقْتُولًا، فَمَنْ تَأْمُرَانِي بِهِ؟ قَالَا: عَلِيٌّ. فَقَدِمْنَا مَكَّةَ فَلَقِيتُ عَائِشَةَ

ص: 34

وَقَدْ بَلَغَنَا قَتْلُ عُثْمَانَ، فَقُلْتُ لَهَا: مَنْ تَأْمُرِينِي بِهِ؟ قَالَتْ: عَلِيٌّ. قَالَ: فَرَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ فَبَايَعْتُ عَلِيًّا وَرَجَعْتُ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَبَيْنَمَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ أَتَانِي آتٍ فَقَالَ: هَذِهِ عَائِشَةُ وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ نَزَلُوا بِجَانِبِ الْخُرَيْبَةِ يَسْتَنْصِرُونَ بِكَ، فَأَتَيْتُ عَائِشَةَ فَذَكَّرْتُهَا بِمَا قَالَتْ لِي، ثُمَّ أَتَيْتُ طَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرَ فَذَكَّرْتُهُمَا فَذَكَرَ الْقِصَّةَ، وَفِيهَا: قَالَ: فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أُقَاتِلُكُمْ وَمَعَكُمْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ وَحَوَارِيُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا أُقَاتِلُ رَجُلًا أَمَرْتُمُونِي بِبَيْعَتِهِ، فَاعْتَزَلَ الْقِتَالَ مَعَ الْفَرِيقَيْنِ. وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّهُ هَمَّ بِالتَّرْكِ ثُمَّ بَدَا لَهُ فِي الْقِتَالِ مَعَ عَلِيٍّ ثُمَّ ثَبَّطَهُ عَنْ ذَلِكَ أَبُو بَكْرَةَ، أَوْ هَمَّ بِالْقِتَالِ مَعَ عَلِيٍّ فَثَبَّطَهُ أَبُو بَكْرَةَ، وَصَادَفَ مُرَاسَلَةَ عَائِشَةَ لَهُ فَرَجَحَ عِنْدَهُ التَّرْكُ.

وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ: نَزَلَ عَلِيٌّ بِالزَّاوِيَةِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْأَحْنَفُ: إِنْ شِئْتَ أَتَيْتُكَ وَإِنْ شِئْتَ كَفَفْتُ عَنْكَ أَرْبَعَةَ آلَافِ سَيْفٍ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ: كُفَّ مَنْ قَدَرْتَ عَلَى كَفِّهِ.

‌11 - بَاب كَيْفَ الْأَمْرُ إِذَا لَمْ تَكُنْ جَمَاعَةٌ؟

7084 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ جَابِرٍ، حَدَّثَنِي بُسْرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيَّ أَنَّهُ سَمِعَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ يَقُولُ: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ. قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ. قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ؛ دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا. قَالَ: هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا. قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ. قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ؟ قَالَ: فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ كَيْفَ الْأَمْرُ إِذَا لَمْ تَكُنْ جَمَاعَةٌ؟) كَانَ تَامَّةٌ، وَالْمَعْنَى: مَا الَّذِي يَفْعَلُ الْمُسْلِمُ فِي حَالِ الِاخْتِلَافِ مِنْ قَبْلِ أن يَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى خَلِيفَةٍ؟

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا ابْنُ جَابِرٍ) هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي بُسْرٌ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ (ابْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ) بِالتَّصْغِيرِ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ، وَالسَّنَدُ كُلُّهُ شَامِيُّونَ إِلَّا شَيْخَ الْبُخَارِيِّ وَالصَّحَابِيَّ.

قَوْلُهُ: (مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي) فِي رِوَايَةِ نَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: وَعَرَفْتُ أَنَّ الْخَيْرَ لَنْ يَسْبِقَنِي.

قَوْلُهُ: (فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ) يُشِيرُ إِلَى مَا كَانَ مِنْ قَبْلِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْكُفْرِ وَقَتْلِ بَعْضِهُمْ بَعْضًا وَنَهْبِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَإِتْيَانِ الْفَوَاحِشَ.

قَوْلُهُ: (فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ)؛ يَعْنِي الْإِيمَانَ وَالْأَمْنَ وَصَلَاحَ الْحَالِ وَاجْتِنَابَ الْفَوَاحِشِ، زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ حُذَيْفَةَ: فَنَحْنُ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ) فِي رِوَايَةِ نَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ: فِتْنَةٌ وَفِي رِوَايَةِ سُبَيْعِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ حُذَيْفَةَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: فَمَا الْعِصْمَةُ مِنْهُ؟ قَالَ: السَّيْفُ. قَالَ: فَهَلْ بَعْدَ السَّيْفِ مِنْ تَقِيَّةٍ؟ قَالَ: نَعَمْ؛ هُدْنَةٌ. وَالْمُرَادُ بِالشَّرِّ مَا يَقَعُ مِنَ

ص: 35

الْفِتَنِ مِنْ بَعْدِ قَتْلِ عُثْمَانَ وَهَلُمَّ جَرًّا، أَوْ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ عُقُوبَاتِ الْآخِرَةِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ: نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ) بِالْمُهْمَلَةِ ثُمَّ الْمُعْجَمَةِ الْمَفْتُوحَتَيْنِ بَعْدَهَا نُونٌ وَهُوَ الْحِقْدُ، وَقِيلَ: الدَّغَلُ، وَقِيلَ: فَسَادٌ فِي الْقَلْبِ؛ وَمَعْنَى الثَّلَاثَةِ مُتَقَارِبٌ. يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْخَيْرَ الَّذِي يَجِيءُ بَعْدَ الشَّرِّ لَا يَكُونُ خَيْرًا خَالِصًا، بَلْ فِيهِ كَدَرٌ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالدَّخَنِ الدُّخَانُ، وَيُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى كَدَرِ الْحَالِ. وَقِيلَ: الدَّخَنُ كُلُّ أَمْرٍ مَكْرُوهٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ يُفَسِّرُ الْمُرَادَ بِهَذَا الْحَدِيثِ، الْحَدِيثُ الْآخَرُ لَا تَرْجِعُ قُلُوبُ قَوْمٍ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ وَأَصْلُهُ أَنْ يَكُونَ فِي لَوْنِ الدَّابَّةِ كُدُورَةٌ، فَكَأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ قُلُوبَهُمْ لَا يَصْفُو بَعْضُهَا لِبَعْضٍ.

قَوْلُهُ: (قَوْمٌ يَهْدُونَ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ (بِغَيْرِ هَدْيِي) بِيَاءِ الْإِضَافَةِ بَعْدَ الْيَاءِ لِلْأَكْثَرِ، وَبِيَاءٍ وَاحِدَةٍ مَعَ التَّنْوِينِ لِلْكُشْمِيهَنِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَسْوَدِ: يَكُونُ بَعْدِي أَئِمَّةٌ يَهْتَدُونَ بِهُدَايَ وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي.

قَوْلُهُ: (تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ)؛ يَعْنِي مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَفِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَمَنْ أَنْكَرَ بَرِئَ، وَمَنْ كَرِهَ سَلِمَ.

قَوْلُهُ: (دُعَاةٌ) بِضَمِّ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ؛ جَمْعُ دَاعٍ، أَيْ إِلَى غَيْرِ الْحَقِّ.

قَوْلُهُ: (عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ) أَطْلَقَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ مَا يَؤولُ إِلَيْهِ حَالُهُمْ، كَمَا يُقَالُ لِمَنْ أَمَرَ بِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ: وَقَفَ عَلَى شَفِيرِ جَهَنَّمَ.

قَوْلُهُ: (هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا)؛ أَيْ مِنْ قَوْمِنَا وَمِنْ أَهْلِ لِسَانِنَا وَمِلَّتِنَا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ مِنَ الْعَرَبِ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: أَيْ مِنْ بَنِي آدَمَ. وَقَالَ الْقَابِسِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ فِي الظَّاهِرِ عَلَى مِلَّتِنَا وَفِي الْبَاطِنِ مُخَالِفُونَ، وَجِلْدَةُ الشَّيْءِ ظَاهِرُهُ، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ غِشَاءُ الْبَدَنِ. قِيلَ: وَيُؤَيِّدُ إِرَادَةَ الْعَرَبِ أَنَّ السُّمْرَةَ غَالِبَةٌ عَلَيْهِمْ وَاللَّوْنُ إِنَّمَا يَظْهَرُ فِي الْجِلْدِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَسْوَدِ: فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِي جُثْمَانِ إِنْسٍ. وَقَوْلُهُ: جُثْمَانُ؛ بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ هُوَ الْجَسَدُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الشَّخْصِ. قَالَ عِيَاضٌ: الْمُرَادُ بِالشَّرِّ الْأَوَّلُ الْفِتَنُ الَّتِي وَقَعَتْ بَعْدَ عُثْمَانَ، وَالْمُرَادُ بِالْخَيْرِ الَّذِي بَعْدَهُ مَا وَقَعَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ الْأُمَرَاءُ بَعْدَهُ، فَكَانَ فِيهِمْ مَنْ يَتَمَسَّكُ بِالسُّنَّةِ وَالْعَدْلِ وَفِيهِمْ مَنْ يَدْعُو إِلَى الْبِدْعَةِ وَيَعْمَلُ بِالْجَوْرِ. قُلْتُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّرِّ الْأَوَّلِ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ مِنَ الْفِتَنِ الْأُولَى، وَبِالْخَيْرِ مَا وَقَعَ مِنَ الِاجْتِمَاعِ مَعَ عَلِيٍّ، وَمُعَاوِيَةَ، وَبِالدَّخَنِ مَا كَانَ فِي زَمَنِهِمَا مِنْ بَعْضِ الْأُمَرَاءِ كَزِيَادٍ بِالْعِرَاقِ وَخِلَافِ مَنْ خَالَفَ عَلَيْهِ مِنَ الْخَوَارِجِ، وَبِالدُّعَاةِ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ قَامَ فِي طَلَبِ الْمُلْكِ مِنَ الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ، وَإِلَى ذَلِكَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: الْزَمْ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ؛ يَعْنِي: وَلَوْ جَارَ. وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ رِوَايَةُ أَبِي الْأَسْوَدِ: وَلَوْ ضَرَبَ ظَهْرَكَ وَأَخَذَ مَالَكَ.

وَكَانَ مِثْلُ ذَلِكَ كَثِيرًا فِي إِمَارَةِ الْحَجَّاجِ وَنَحْوِهِ.

قَوْلُهُ: (تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ؛ أَيْ أَمِيرَهُمْ. زَادَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَسْوَدِ: تَسْمَعُ وَتُطِيعُ، وَإِنْ ضَرَبَ ظَهْرَكَ وَأَخَذَ مَالَكَ. وَكَذَا فِي رِوَايَةِ خَالِدِ بْنِ سُبَيْعٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ: فَإِنْ رَأَيْتَ خَلِيفَةً فَالْزَمْهُ وَإِنْ ضَرَبَ ظَهْرَكَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ خَلِيفَةً فَالْهَرَبَ.

قَوْلُهُ: (وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ؛ أَيْ: وَلَوْ كَانَ الِاعْتِزَالُ بِالْعَضِّ فَلَا تَعْدِلُ عَنْهُ. وَتَعَضُّ بِالنَّصْبِ لِلْجَمِيعِ، وَضَبَطَهُ الْأَشِيرِيُّ بِالرَّفْعِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ جَوَازَهُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى أَنْ يَكُونَ أَنْ الَّتِي تَقَدَّمَتْهُ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَهُنَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَنَّهَا لَا تَلِيَ لَوْ، نَبَّهَ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْمُغْنِي. وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ قُرْطٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ: فَلَأَنْ تَمُوتَ وَأَنْتَ عَاضٌّ عَلَى جِذْلِ خَيْرٍ لَكَ مِنْ أَنْ تَتَّبِعَ أَحَدًا مِنْهُمْ، وَالْجِذْلُ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا لَامٌ: عُودٌ يُنْصَبُ لِتَحْتَكَّ بِهِ الْإِبِلُ. وَقَوْلُهُ: وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ؛ أَيِ الْعَضُّ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ لُزُومِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَطَاعَةِ سَلَاطِينِهِمْ وَلَوْ عَصَوْا. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: الْمَعْنَى إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةٌ فَعَلَيْكَ بِالْعُزْلَةِ وَالصَّبْرِ عَلَى تَحَمُّلِ شِدَّةِ الزَّمَانِ، وَعَضُّ أَصْلِ الشَّجَرَةِ كِنَايَةٌ عَنْ مُكَابَدَةِ الْمَشَقَّةِ كَقَوْلِهِمْ: فُلَانٌ يَعَضُّ الْحِجَارَةَ مِنْ شِدَّةِ الْأَلَمِ، أَوِ الْمُرَادُ اللُّزُومُ كَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ:

ص: 36

عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ. وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: فَإِنْ مِتَّ وَأَنْتَ عَاضٌّ عَلَى جِذْلٍ خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَتَّبِعَ أَحَدًا مِنْهُمْ.

وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ حُجَّةٌ لِجَمَاعَةِ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ لُزُومِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَتَرْكِ الْخُرُوجِ عَلَى أَئِمَّةِ الْجَوْرِ، لِأَنَّهُ وَصَفَ الطَّائِفَةَ الْأَخِيرَةَ بِأَنَّهُمْ دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ وَلَمْ يَقُلْ فِيهِمْ: تَعْرِفُ وَتُنْكِرُ كَمَا قَالَ فِي الْأَوَّلِينَ، وَهُمْ لَا يَكُونُونَ كَذَلِكَ إِلَّا وَهُمْ عَلَى غَيْرِ حَقٍّ، وَأَمَرَ مَعَ ذَلِكَ بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: اخْتُلِفَ فِي هَذَا الْأَمْرِ وَفِي الْجَمَاعَةِ، فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ لِلْوُجُوبِ وَالْجَمَاعَةُ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ. ثُمَّ سَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ أَنَّهُ وَصَّى مَنْ سَأَلَهُ لَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ: عَلَيْكَ بِالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ لِيَجْمَعَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ عَلَى ضَلَالَةٍ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْمُرَادُ بِالْجَمَاعَةِ الصَّحَابَةُ دُونَ مَنْ بَعْدَهُمْ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْمُرَادُ بِهِمْ أَهْلُ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُمْ حُجَّةً عَلَى الْخَلْقِ، وَالنَّاسُ تَبَعٌ لَهُمْ فِي أَمْرِ الدِّينِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَالصَّوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْخَبَرِ لُزُومُ الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ فِي طَاعَةِ مَنِ اجْتَمَعُوا عَلَى تَأْمِيرِهِ، فَمَنْ نَكَثَ بَيْعَتَهُ خَرَجَ عَنِ الْجَمَاعَةِ.

قَالَ: وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ مَتَى لَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ إِمَامٌ فَافْتَرَقَ النَّاسُ أَحْزَابًا فَلَا يَتَّبِعُ أَحَدًا فِي الْفُرْقَةِ وَيَعْتَزِلُ الْجَمِيعَ إِنِ اسْتَطَاعَ ذَلِكَ خَشْيَةً مِنَ الْوُقُوعِ فِي الشَّرِّ، وَعَلَى ذَلِكَ يَتَنَزَّلُ مَا جَاءَ فِي سَائِرِ الْأَحَادِيثِ، وَبِهِ يُجْمَعُ بَيْنَ مَا ظَاهِرُهُ الِاخْتِلَافُ مِنْهَا، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ قُرْطٍ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا، قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: فِي الْحَدِيثِ حِكْمَةُ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ كَيْفَ أَقَامَ كُلًّا مِنْهُمْ فِيمَا شَاءَ ; فَحُبِّبَ إِلَى أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ السُّؤَالُ عَنْ وُجُوهِ الْخَيْرِ لِيَعْلَمُوا بِهَا وَيُبَلِّغُوهَا غَيْرَهُمْ، وَحُبِّبَ لِحُذَيْفَةَ السُّؤَالُ عَنِ الشَّرِّ لِيَجْتَنِبَهُ وَيَكُونَ سَبَبًا فِي دَفْعِهِ عَمَّنْ أَرَادَ اللَّهُ لَهُ النَّجَاةَ، وَفِيهِ سِعَةُ صَدْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَعْرِفَتُهُ بِوُجُوهِ الْحِكَمِ كُلِّهَا حَتَّى كَانَ يُجِيبُ كُلَّ مَنْ سَأَلَهُ بِمَا يُنَاسِبُهُ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ كُلَّ مَنْ حُبِّبَ إِلَيْهِ شَيْءٌ فَإِنَّهُ يَفُوقُ فِيهِ غَيْرَهُ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ حُذَيْفَةُ صَاحِبَ السِّرِّ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ حَتَّى خُصَّ بِمَعْرِفَةِ أَسْمَاءِ الْمُنَافِقِينَ وَبِكَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ الْآتِيَةِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ مِنْ أَدَبِ التَّعْلِيمِ أَنْ يَعْلَمَ التِّلْمِيذُ مِنْ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ مَا يَرَاهُ مَائِلًا إِلَيْهِ مِنَ الْعُلُومِ الْمُبَاحَةِ، فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ يُسْرِعَ إِلَى تَفَهُّمِهِ وَالْقِيَامِ بِهِ وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَهْدِي إِلَى طَرِيقِ الْخَيْرِ يُسَمَّى خَيْرًا وَكَذَا بِالْعَكْسِ.

وَيُؤْخَذُ مِنْهُ ذَمُّ مَنْ جَعَلَ لِلدِّينِ أَصْلًا خِلَافَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَجَعَلَهُمَا فَرْعًا لِذَلِكَ الْأَصْلِ الَّذِي ابْتَدَعُوهُ، وَفِيهِ وُجُوبُ رَدِّ الْبَاطِلِ وَكُلِّ مَا خَالَفَ الْهَدْيَ النَّبَوِيَّ وَلَوْ قَالَهُ مَنْ قَالَهُ مِنْ رَفِيعٍ أَوْ وَضِيعٍ.

‌12 - بَاب مَنْ كَرِهَ أَنْ يُكَثِّرَ سَوَادَ الْفِتَنِ وَالظُّلْمِ

7085 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا حَيْوَةُ وَغَيْرُهُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَسْوَدِ. وَقَالَ اللَّيْثُ: عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ قَالَ: قُطِعَ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ بَعْثٌ فَاكْتُتِبْتُ فِيهِ، فَلَقِيتُ عِكْرِمَةَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَنَهَانِي أَشَدَّ النَّهْيِ، ثُمَّ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ أُنَاسًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ يُكَثِّرُونَ سَوَادَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَيَأْتِي السَّهْمُ فَيُرْمَى فَيُصِيبُ أَحَدَهُمْ فَيَقْتُلُهُ أَوْ يَضْرِبُهُ فَيَقْتُلُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ}

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ كَرِهَ أَنْ يُكَثِّرَ) بِالتَّشْدِيدِ (سَوَادَ الْفِتَنِ وَالظُّلْمِ)؛ أَيْ أَهْلَهُمَا، وَالْمُرَادُ بِالسَّوَادِ - وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ - الْأَشْخَاصُ، وَقَدْ جَاءَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: مَنْ كَثَّرَ سَوَادَ قَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ، وَمَنْ رَضِيَ عَمَلَ قَوْمٍ

ص: 37

كَانَ شَرِيكَ مَنْ عَمِلَ بِهِ. أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى، وَفِيهِ قِصَّةٌ لِابْنِ مَسْعُودٍ، وَلَهُ شَاهِدٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ فِي الزُّهْدِ لِابْنِ الْمُبَارَكِ غَيْرُ مَرْفُوعٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا حَيْوَةُ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْوَاوِ بَيْنَهُمَا يَاءُ آخِرِ الْحُرُوفِ سَاكِنَةٌ.

قَوْلُهُ: (وَغَيْرُهُ) كَأَنَّهُ يُرِيدُ ابْنَ لَهِيعَةَ، فَإِنَّهُ رَوَاهُ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَيْضًا، وَقَدْ رَوَاهُ عَنْهُ أَيْضًا اللَّيْثُ، لَكِنْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي تَفْسِيرِ سُوَرةِ النِّسَاءِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ شَيْخِهِ فِيهِ هُنَا بِسَنَدِهِ هَذَا، وَقَالَ بَعْدَهُ: رَوَاهُ اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ. وَقَدْ رُوِّينَاهُ مَوْصُولًا فِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ كَاتِبِ اللَّيْثِ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عِكْرِمَةَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ دُونَ الْقِصَّةِ، قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: لَمْ يَرْوِهِ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ إِلَّا اللَّيْثُ، وَابْنُ لَهِيعَةَ. قُلْتُ: وَوَهِمَ فِي هَذَا الْحَصْرِ لِوُجُودِ رِوَايَةِ حَيْوَةَ الْمَذْكُورَةِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ حَيْوَةَ وَحْدَهُ بِهِ، وَقَدْ ذَكَرْتُ مَنْ وَصَلَ رِوَايَةَ ابْنِ لَهِيعَةَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ مَعَ شَرْحِ الْحَدِيثِ. وَقَوْلُهُ:(فَيَأْتِي السَّهْمُ فَيُرْمَى بِهِ) قِيلَ: هُوَ مِنَ الْقَلْبِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَيُرْمَى بِالسَّهْمِ فَيَأْتِي. قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ الثَّانِيَةُ زَائِدَةً، وَثَبَتَ كَذَلِكَ لِأَبِي ذَرٍّ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: فَيَأْتِي السَّهْمُ يَرْمِي بِهِ. وَقَوْلُهُ: (أَوْ يَضْرِبُهُ) مَعْطُوفٌ عَلَى: فَيَأْتِي، لَا عَلَى: فَيُصِيبُ؛ أَيْ يَقْتُلُ إِمَّا بِالسَّهْمِ، وَإِمَّا بِالسَّيْفِ.

وَفِيهِ تَخْطِئَةُ مَنْ يُقِيمُ بَيْنَ أَهْلِ الْمَعْصِيَةِ بِاخْتِيَارِهِ لَا لِقَصْدٍ صَحِيحٍ مِنْ إِنْكَارٍ عَلَيْهِمْ مَثَلًا أَوْ رَجَاءِ إِنْقَاذِ مُسْلِمٍ مِنْ هَلَكَةٍ، وَأَنَّ الْقَادِرَ عَلَى التَّحَوُّلِ عَنْهُمْ لَا يُعْذَرُ كَمَا وَقَعَ لِلَّذِينَ كَانُوا أَسْلَمُوا وَمَنَعَهُمُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِهِمْ مِنَ الْهِجْرَةِ ثُمَّ كَانُوا يَخْرُجُونَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ لَا لِقَصْدِ قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ لِإِيهَامِ كَثْرَتِهِمْ فِي عُيُونِ الْمُسْلِمِينَ فَحَصَلَتْ لَهُمُ الْمُؤَاخَذَةُ بِذَلِكَ، فَرَأَى عِكْرِمَةُ أَنَّ مَنْ خَرَجَ فِي جَيْشٍ يُقَاتِلُونَ الْمُسْلِمِينَ يَأْثَمُ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ وَلَا نَوَى ذَلِكَ ; وَيَتَأَيَّدُ ذَلِكَ فِي عَكْسِهِ بِحَدِيثِ: هُمُ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ، كَمَا مَضَى ذِكْرُهُ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ.

‌13 - بَاب إِذَا بَقِيَ فِي حُثَالَةٍ مِنْ النَّاسِ

7086 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا حُذَيْفَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَيْنِ رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْآخَرَ؛ حَدَّثَنَا أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنْ السُّنَّةِ، وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا قَالَ: يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ فَيَبْقَى فِيهَا أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْمَجْلِ كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، وَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ، فَيُقَالُ: إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا! وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَا أَعْقَلَهُ وَمَا أَظْرَفَهُ وَمَا أَجْلَدَهُ! وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، وَلَقَدْ أَتَى عَلَيَّ زَمَانٌ وَلَا أُبَالِي أَيُّكُمْ بَايَعْتُ، لَئِنْ كَانَ مُسْلِمًا رَدَّهُ عَلَيَّ الْإِسْلَامُ، وَإِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا رَدَّهُ عَلَيَّ سَاعِيهِ، وَأَمَّا الْيَوْمَ فَمَا كُنْتُ أُبَايِعُ إِلَّا فُلَانًا وَفُلَانًا.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا بَقِيَ)؛ أَيِ الْمُسْلِمُ (فِي حُثَالَةٍ مِنَ النَّاسِ)؛ أَيْ: مَاذَا يَصْنَعُ؟ وَالْحُثَالَةُ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْمُثَلَّثَةِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الرِّقَاقِ، وَهَذِهِ التَّرْجَمَةُ لَفْظُ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ

ص: 38

الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كَيْفَ بِكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو إِذَا بَقِيتَ فِي حُثَالَةٍ مِنَ النَّاسِ قَدْ مَرَجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ وَاخْتَلَفُوا فَصَارُوا هَكَذَا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. قَالَ: فَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: عَلَيْكَ بِخَاصَّتِكَ، وَدَعْ عَنْكَ عَوَامَّهُمْ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَشَارَ الْبُخَارِيُّ إِلَى هَذَا الْحَدِيثِ وَلَمْ يُخَرِّجْهُ لِأَنَّ الْعَلَاءَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ فَأَدْخَلَ مَعْنَاهُ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ.

قُلْتُ: يَجْتَمِعُ مَعَهُ فِي قِلَّةِ الْأَمَانَةِ وَعَدَمِ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَشِدَّةِ الِاخْتِلَافِ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا زِيَادَةٌ لَيْسَتْ فِي الْآخَرِ، وَقَدْ وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَخِيهِ وَاقِدٍ، وَتَقَدَّمَ فِي أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ مِنْ طَرِيقِ وَاقِدٍ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، كَيْفَ بِكَ إِذَا بَقِيتَ فِي حُثَالَةٍ مِنَ النَّاسِ إِلَى هُنَا انْتَهَى مَا فِي الْبُخَارِيِّ، وَبَقِيَّتُهُ عِنْدَ حَنْبَلٍ مِثْلُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ سَوَاءٌ، وَزَادَ: قَالَ: فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: تَأْخُذُ بِمَا تَعْرِفُ وَتَدَعُ مَا تُنْكِرُ، وَتُقْبِلُ عَلَى خَاصَّتِكَ وَتَدَعُ عَوَامَّهُمْ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو نَفْسِهِ مِنْ طُرُقٍ بَعْضُهَا صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَفِيهِ: قَالُوا: كَيْفَ بِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: تَأْخُذُونَ مَا تَعْرِفُونَ فَذَكَرَ مِثْلَهُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ عَدِيٍّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الْحَكَمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عِلْبَاءَ - بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ وَمَدٌّ - رَفَعَهُ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى حُثَالَةِ النَّاسِ الْحَدِيثَ.

وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ فِي مَجْلِسٍ فِيهِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَابْنَاهُ، فَقَالَ فَذَكَرَ مِثْلَهُ، وَزَادَ: وَإِيَّاكُمْ وَالتَّلَوُّنَ فِي دِينِ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ) تَقَدَّمَ بِهَذَا السَّنَدِ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ فِي بَابِ رَفْعِ الْأَمَانَةِ وَأَنَّ الْجِذْرَ الْأَصْلُ وَتُفْتَحُ جِيمُهُ وَتُكْسَرُ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ) كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِإِعَادَةِ ثُمَّ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ قَبْلَ أَنْ يَتَعَلَّمُوا السُّنَنَ، وَالْمُرَادُ بِالسُّنَنِ مَا يَتَلَقَّوْنَهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاجِبًا كَانَ أَوْ مَنْدُوبًا.

قَوْلُهُ: (وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا) هَذَا هُوَ الْحَدِيثُ الثَّانِي الَّذِي ذَكَرَ حُذَيْفَةُ أَنَّهُ يَنْتَظِرُهُ وَهُوَ رَفْعُ الْأَمَانَةِ أَصْلًا حَتَّى لَا يَبْقَى مَنْ يُوصَفُ بِالْأَمَانَةِ إِلَّا النَّادِرَ، وَلَا يُعَكِّرُ عَلَى ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى قِلَّةِ مَنْ يُنْسَبُ لِلْأَمَانَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَالِ الْأَوَّلِينَ، فَالَّذِينَ أَشَارَ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: مَا كُنْتُ أُبَايِعُ إِلَّا فُلَانًا وَفُلَانًا هُمْ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَخِيرِ الَّذِي أَدْرَكَهُ، وَالْأَمَانَةُ فِيهِمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَصْرِ الْأَوَّلِ أَقَلُّ، وَأَمَّا الَّذِي يَنْتَظِرُهُ فَإِنَّهُ حَيْثُ تُفْقَدُ الْأَمَانَةُ مِنَ الْجَمِيعِ إِلَّا النَّادِرَ.

قَوْلُهُ: (فَيَظَلُّ أَثَرُهَا)؛ أَيْ: يَصِيرُ، وَأَصْلُ ظَلَّ مَا عُمِلَ بِالنَّهَارِ ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى كُلِّ وَقْتٍ، وَهِيَ هُنَا عَلَى بَابِهَا لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْحَالَةَ الَّتِي تَكُونُ بَعْدَ النَّوْمِ وَهِيَ غَالِبًا تَقَعُ عِنْدَ الصُّبْحِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْأَمَانَةَ تَذْهَبُ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهَا إِلَّا الْأَثَرُ الْمَوْصُوفُ فِي الْحَدِيثِ.

قَوْلُهُ: (مِثْلُ أَثَرِ الْوَكْتِ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الْكَافِ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ، تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي الرِّقَاقِ وَأَنَّهُ سَوَادٌ فِي اللَّوْنِ، وَكَذَا الْمَجْلُ - وَهُوَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْجِيمِ - أَثَرُ الْعَمَلِ فِي الْيَدِ.

قَوْلُهُ: (فَنَفِطَ) بِكَسْرِ الْفَاءِ بَعْدَ النُّونَ الْمَفْتُوحَةِ؛ أَيْ صَارَ مُنْتَفِطًا، وَهُوَ الْمُنْتَبِرُ - بِنُونٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ - يُقَالُ: انْتَبَرَ الْجَرْحُ وَانْتَفَطَ؛ إِذَا وَرِمَ وَامْتَلَأَ مَاءً. وَحَاصِلُ الْخَبَرِ أَنَّهُ أَنْذَرَ بِرَفْعِ الْأَمَانَةِ وَأَنَّ الْمَوْصُوفَ بِالْأَمَانَةِ يُسْلَبُهَا حَتَّى يَصِيرَ خَائِنًا بَعْدَ أَنْ كَانَ أَمِينًا، وَهَذَا إِنَّمَا يَقَعُ عَلَى مَا هُوَ شَاهِدٌ لِمَنْ خَالَطَ أَهْلَ الْخِيَانَةِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ خَائِنًا لِأَنَّ الْقَرِينَ يَقْتَدِي بِقَرِينِهِ.

قَوْلُهُ: (وَلَقَدْ أَتَى عَلَيَّ زَمَانٌ. . . إِلَخْ) يُشِيرُ إِلَى أَنَّ حَالَ الْأَمَانَةِ أُخِذَ فِي النَّقْصِ مِنْ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَكَانَتْ وَفَاةُ حُذَيْفَةَ فِي أَوَّلِ سَنَةِ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ بَعْدَ

ص: 39

قَتْلِ عُثْمَانَ بِقَلِيلٍ، فَأَدْرَكَ بَعْضَ الزَّمَنِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ التَّغَيُّرُ فَأَشَارَ إِلَيْهِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: الْأَمَانَةُ كُلُّ مَا يَخْفَى وَلَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ مِنَ الْمُكَلَّفِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هِيَ الْفَرَائِضُ الَّتِي أُمِرُوا بِهَا وَنُهُوا عَنْهَا، وَقِيلَ: هِيَ الطَّاعَةُ، وَقِيلَ: التَّكَالِيفُ، وَقِيلَ: الْعَهْدُ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ. وَهَذَا الِاخْتِلَافُ وَقَعَ فِي تَفْسِيرِ الْأَمَانَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ} وَقَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ: الْأَمَانَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْحَدِيثِ هِيَ الْأَمَانَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَةِ، وَهِيَ عَيْنُ الْإِيمَانِ، فَإِذَا اسْتَمْكَنَتْ فِي الْقَلْبِ قَامَ بِأَدَاءِ مَا أُمِرَ بِهِ وَاجْتَنَبَ مَا نُهِيَ عَنْهُ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْمُرَادُ بِالْأَمَانَةِ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ الْإِيمَانُ، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ رَفْعِهَا أَنَّ الْأَعْمَالَ السَّيِّئَةَ لَا تَزَالُ تُضْعِفُ الْإِيمَانَ، حَتَّى إِذَا تَنَاهَى الضَّعْفُ لَمْ يَبْقَ إِلَّا أَثَرُ الْإِيمَانِ، وَهُوَ التَّلَفُّظُ بِاللِّسَانِ وَالِاعْتِقَادُ الضَّعِيفُ فِي ظَاهِرِ الْقَلْبِ، فَشَبَّهَهُ بِالْأَثَرِ فِي ظَاهِرِ الْبَدَنِ، وَكَنَّى عَنْ ضَعْفِ الْإِيمَانِ بِالنَّوْمِ، وَضَرَبَ مَثَلًا لِزَهُوقِ الْإِيمَانِ عَنِ الْقَلْبِ حَالًا بِزَهُوقِ الْحَجَرِ عَنِ الرِّجْلِ حَتَّى يَقَعَ بِالْأَرْضِ.

قَوْلُهُ: (وَلَا أُبَالِي أَيُّكُمْ بَايَعْتُ) تَقَدَّمَ فِي الرِّقَاقِ أَنَّ مُرَادَهُ الْمُبَايَعَةُ فِي السِّلَعِ وَنَحْوِهَا، لَا الْمُبَايَعَةُ بِالْخِلَافَةِ وَلَا الْإِمَارَةُ. وَقَدِ اشْتَدَّ إِنْكَارُ أَبِي عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِ عَلَى مَنْ حَمَلَ الْمُبَايَعَةَ هُنَا عَلَى الْخِلَافَةِ وَهُوَ وَاضِحٌ، وَوَقَعَ فِي عِبَارَتِهِ أَنَّ حُذَيْفَةَ كَانَ لَا يَرْضَى بِأَحَدٍ بَعْدَ عُمَرَ - يَعْنِي فِي الْخِلَافَةِ - وَهِيَ مُبَالَغَةٌ، وَإِلَّا فَقَدْ كَانَ عُثْمَانُ وَلَّاهُ عَلَى الْمَدَائِنِ وَقَدْ قُتِلَ عُثْمَانُ وَهُوَ عَلَيْهَا، وَبَايَعَ لِعَلِيٍّ وَحَرَّضَ عَلَى الْمُبَايَعَةِ لَهُ وَالْقِيَامِ فِي نَصْرِهِ، وَمَاتَ فِي أَوَائِلِ خِلَافَتِهِ كَمَا مَضَى فِي بَابِ إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لِوُثُوقِهِ بِوُجُودِ الْأَمَانَةِ فِي النَّاسِ أَوَّلًا كَانَ يُقْدِمُ عَلَى مُبَايَعَةِ مَنِ اتَّفَقَ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ عَنْ حَالِهِ، فَلَمَّا بَدَا التَّغَيُّرُ فِي النَّاسِ وَظَهَرَتِ الْخِيَانَةُ صَارَ لَا يُبَايِعُ إِلَّا مَنْ يَعْرِفُ حَالَهُ، ثُمَّ أَجَابَ عَنْ إِيرَادٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ لَهُ: لَمْ تَزَلِ الْخِيَانَةُ مَوْجُودَةً لِأَنَّ الْوَقْتَ الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ كَانَ أَهْلُ الْكُفْرِ فِيهِ مَوْجُودِينَ وَهُمْ أَهْلُ الْخِيَانَةِ، فَأَجَابَ بِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكِنَّهُ كَانَ يَثِقُ بِالْمُؤْمِنِ لِذَاتِهِ وَبِالْكَافِرِ لِوُجُودِ سَاعِيهِ وَهُوَ الْحَاكِمُ الَّذِي يَحْكُمُ عَلَيْهِ، وَكَانُوا لَا يَسْتَعْمِلُونَ فِي كُلِّ عَمَلٍ قَلَّ أَوْ جَلَّ إِلَّا الْمُسْلِمَ، فَكَانَ وَاثِقًا بِإِنْصَافِهِ وَتَخْلِيصِ حَقِّهِ مِنَ الْكَافِرِ إِنْ خَانَهُ، بِخِلَافِ الْوَقْتِ الْأَخِيرِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ صَارَ لَا يُبَايِعُ إِلَّا أَفْرَادًا مِنَ النَّاسِ يَثِقُ بِهِمْ.

وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَالَ حُذَيْفَةُ هَذَا الْقَوْلُ لَمَّا تَغَيَّرَتِ الْأَحْوَالُ الَّتِي كَانَ يَعْرِفُهَا عَلَى عَهْدِ النُّبُوَّةِ وَالْخَلِيفَتَيْنِ فَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ بِالْمُبَايَعَةِ، وَكَنَّى عَنِ الْإِيمَانِ بِالْأَمَانَةِ وَعَمَّا يُخَالِفُ أَحْكَامَهُ بِالْخِيَانَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌14 - بَاب التَّعَرُّبِ فِي الْفِتْنَةِ

7087 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى الْحَجَّاجِ فَقَالَ: يَا ابْنَ الْأَكْوَعِ، ارْتَدَدْتَ عَلَى عَقِبَيْكَ! تَعَرَّبْتَ؟! قَالَ: لَا، وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَذِنَ لِي فِي الْبَدْوِ. وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ: لَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ خَرَجَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ إِلَى الرَّبَذَةِ وَتَزَوَّجَ هُنَاكَ امْرَأَةً وَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلَادًا، فَلَمْ يَزَلْ بِهَا حَتَّى قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِلَيَالٍ نَزَلَ الْمَدِينَةَ.

7088 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ "عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ".

ص: 40

قَوْلُهُ: (بَابُ التَّعَرُّبِ فِي الْفِتْنَةِ) بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالرَّاءِ الثَّقِيلَةِ؛ أَيِ السُّكْنَى مَعَ الْأَعْرَابِ بِفَتْحِ الْأَلِفِ، وَهُوَ أَنْ يَنْتَقِلَ الْمُهَاجِرُ مِنَ الْبَلَدِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا فَيَسْكُنَ الْبَدْوَ فَيَرْجِعَ بَعْدَ هِجْرَتِهِ أَعْرَابِيًّا، وَكَانَ إِذْ ذَاكَ مُحَرَّمًا إِلَّا إِنْ أَذِنَ لَهُ الشَّارِعُ فِي ذَلِكَ، وَقَيَّدَهُ بِالْفِتْنَةِ إِشَارَةً إِلَى مَا وَرَدَ مِنَ الْإِذْنِ فِي ذَلِكَ عِنْدَ حُلُولِ الْفِتَنِ كَمَا فِي ثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ، وَقِيلَ بِمَنْعِهِ فِي زَمَنِ الْفِتْنَةِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ خِذْلَانِ أَهْلِ الْحَقِّ، وَلَكِنَّ نَظَرَ السَّلَفِ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ: فَمِنْهُمْ مَنْ آثَرَ السَّلَامَةَ وَاعْتَزَلَ الْفِتَنَ كَسَعْدٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، وَابْنِ عُمَرَ فِي طَائِفَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ بَاشَرَ الْقِتَالَ وَهُمُ الْجُمْهُورُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ: التَّعَزُّبُ؛ بِالزَّايِ، وَبَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ: وَجَدْتُهُ بِخَطِّي فِي الْبُخَارِيِّ بِالزَّايِ وَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ وَهْمًا، فَإِنْ صَحَّ فَمَعْنَاهُ الْبُعْدُ وَالِاعْتِزَالُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا حَاتِمٌ) بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ؛ هُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ الْكُوفِيُّ نَزِيلُ الْمَدِينَةِ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ فِي رِوَايَةِ الْقَعْنَبِيِّ، عَنْ حَاتِمٍ: أَنْبَأَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ أَخْرَجَهَا أَبُو نُعَيْمٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى الْحَجَّاجِ) هُوَ ابْنُ يُوسُفَ الثَّقَفِيُّ الْأَمِيرُ الْمَشْهُورُ، وَكَانَ ذَلِكَ لَمَّا وَلِيَ الْحَجَّاجُ إِمْرَةَ الْحِجَازِ بَعْدَ قَتْلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَسَارَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَذَلِكَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ.

قَوْلُهُ: (ارْتَدَدْتَ عَلَى عَقِبَيْكَ) كَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا جَاءَ مِنَ الْحَدِيثِ فِي ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ عَدِّ الْكَبَائِرِ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ، فَإِنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا ذُكِرَ فِي ذَلِكَ: مَنْ رَجَعَ بَعْدَ هِجْرَتِهِ أَعْرَابِيًّا. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ: لَعَنَ اللَّهُ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: وَالْمُرْتَدُّ بَعْدَ هِجْرَتِهِ أَعْرَابِيًّا. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ: كَانَ مَنْ رَجَعَ بَعْدَ هِجْرَتِهِ إِلَى مَوْضِعِهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ يَعُدُّونَهُ كَالْمُرْتَدِّ، وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ ذَلِكَ مِنْ جَفَاءِ الْحَجَّاجِ حَيْثُ خَاطَبَ هَذَا الصَّحَابِيَّ الْجَلِيلَ بِهَذَا الْخِطَابِ الْقَبِيحِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَسْتَكْشِفَ عَنْ عُذْرِهِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَرَادَ قَتْلَهُ فَبَيَّنَ الْجِهَةَ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يَجْعَلَهُ مُسْتَحِقًّا لِلْقَتْلِ بِهَا. وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَفَعَهُ: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ بَدَا بَعْدَ هِجْرَتِهِ، إِلَّا فِي الْفِتْنَةِ؛ فَإِنَّ الْبَدْوَ خَيْرٌ مِنَ الْمُقَامِ فِي الْفِتْنَةِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ: لَا)؛ أَيْ: لَمْ أَسْكُنِ الْبَادِيَةَ رُجُوعًا عَنْ هِجْرَتِي (وَلَكِنَّ) بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ.

قَوْلُهُ: (أَذِنَ لِي فِي الْبَدْو) وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ مَسْعَدَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْبَدَاوَةِ فَأَذِنَ لَهُ. أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَفِي لَفْظٍ لَهُ: اسْتَأْذَنْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. وَقَدْ وَقَعَ لِسَلَمَةَ فِي ذَلِكَ قِصَّةٌ أُخْرَى مَعَ غَيْرِ الْحَجَّاجِ، فَأَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ قَالَ: قَدِمَ سَلَمَةُ الْمَدِينَةَ فَلَقِيَهُ بُرَيْدَةُ بْنُ الْخَصِيبِ فَقَالَ: ارْتَدَدْتَ عَنْ هِجْرَتِكَ؟! فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ، إِنِّي فِي إِذْنٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: ابْدُوَا يَا أَسْلَمَ - أَيِ الْقَبِيلَةُ الْمَشْهُورَةُ الَّتِي مِنْهَا سَلَمَةُ، وَأَبُو بَرْزَةَ، وَبُرَيْدَةُ الْمَذْكُورُ - قَالُوا: إِنَّا نَخَافُ أَنْ يَقْدَحَ ذَلِكَ فِي هِجْرَتِنَا. قَالَ: أَنْتُمْ مُهَاجِرُونَ حَيْثُ كُنْتُمْ. وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَرْهَدٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا يَقُولُ لِجَابِرٍ: مَنْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَسَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ. فَقَالَ رَجُلٌ: أَمَّا سَلَمَةُ فَقَدِ ارْتَدَّ عَنْ هِجْرَتِهِ. فَقَالَ: لَا تَقُلْ ذَلِكَ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لِأَسْلَمَ: ابْدُوَا. قَالُوا: إِنَّا نَخَافُ أَنْ نَرْتَدَّ بَعْدَ هِجْرَتِنَا. قَالَ: أَنْتُمْ مُهَاجِرُونَ حَيْثُ كُنْتُمْ، وَسَنَدُ كُلٍّ مِنْهُمَا حَسَنٌ.

قَوْلُهُ: (وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ: (لَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ خَرَجَ سَلَمَةُ إِلَى الرَّبَذَةِ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ؛ مَوْضِعٌ بِالْبَادِيَةِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ مُدَّةُ سُكْنَى سَلَمَةَ الْبَادِيَةَ وَهِيَ نَحْوُ الْأَرْبَعِينَ سَنَةً، لِأَنَّ قَتْلَ عُثْمَانَ كَانَ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَمَوْتَ سَلَمَةَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ عَلَى الصَّحِيحِ.

قَوْلُهُ: (فَلَمْ يَزَلْ بِهَا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: هُنَاكَ، (حَتَّى قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِلَيَالٍ) كَذَا فِيهِ بِحَذْفِ كَانَ بَعْدَ قَوْلِهِ: حَتَّى

ص: 41

وَقَبْلَ قَوْلِهِ: قَبْلَ، وَهِيَ مُقَدَّرَةٌ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ صَحِيحٌ.

قَوْلُهُ: (نَزَلَ الْمَدِينَةَ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ: فَنَزَلَ؛ بِزِيَادَةِ فَاءٍ، وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ سَلَمَةَ لَمْ يَمُتْ بِالْبَادِيَةِ كَمَا جَزَمَ بِهِ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ مَنْدَهْ فِي الْجُزْءِ الَّذِي جَمَعَهُ فِي آخِرِ مَنْ مَاتَ مِنَ الصَّحَابَةِ، بَلْ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ كَمَا تَقْتَضِيهِ رِوَايَةُ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ هَذِهِ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَنْدَهْ فِي مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا رَدٌّ عَلَى مَنْ أَرَّخَ وَفَاةَ سَلَمَةَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي آخِرِ خِلَافَةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَلَمْ يَكُنِ الْحَجَّاجُ يَوْمَئِذٍ أَمِيرًا وَلَا ذَا أَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ. وَكَذَا فِيهِ رَدٌّ عَلَى الْهَيْثَمِ بْنِ عَدِيٍّ حَيْثُ زَعَمَ أَنَّهُ مَاتَ فِي آخِرِ خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ، وَهُوَ أَشَدُّ غَلَطًا مِنَ الْأَوَّلِ إِنْ أَرَادَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، وَإِنْ أَرَادَ مُعَاوِيَةَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَهُوَ عَيْنُ الْقَوْلِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَقَدْ مَشَى الْكِرْمَانِيُّ عَلَى ظَاهِرِهِ فَقَالَ: مَاتَ سَنَةَ سِتِّينَ، وَهِيَ السَّنَةُ الَّتِي مَاتَ فِيهَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، كَذَا جَزَمَ بِهِ وَالصَّوَابُ خِلَافُهُ، وَقَدِ اعْتَرَضَ الذَّهَبِيُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ عَاشَ ثَمَانِينَ سَنَةً وَمَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الْحُدَيْبِيَةِ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً، وَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهُ قَاتَلَ يَوْمَئِذٍ وَبَايَعَ.

قُلْتُ: وَهُوَ اعْتِرَاضٌ مُتَّجِهٌ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَنْصَرِفَ إِلَى سَنَةِ وَفَاتِهِ لَا إِلَى مَبْلَغِ عُمْرِهِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ رُجْحَانُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، فَإِنَّ حَدِيثَ جَابِرٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَأَخَّرَ عَنْهَا لِقَوْلِهِ: لَمْ يَبْقَ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَّا أَنَسٌ، وَسَلَمَةُ، وَذَلِكَ لَائِقٌ بِسَنَةِ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ، فَقَدْ عَاشَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى سَنَةِ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: مَاتَ فِي الَّتِي بَعْدَهَا، وَقِيلَ قَبْلَ ذَلِكَ. ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ: يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ الْحَدِيثَ، وَفِي آخِرِهِ: يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ شَرْحِهِ فِي بَابِ الْعُزْلَةِ مِنْ كِتَابِ الرِّقَاقِ، وَأَشَارَ إِلَى حَمْلِ صَنِيعِ سَلَمَةَ عَلَى ذَلِكَ لِكَوْنِهِ لَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ وَوَقَعَتِ الْفِتَنُ اعْتَزَلَ عَنْهَا وَسَكَنَ الرَّبَذَةَ وَتَأَهَّلَ بِهَا وَلَمْ يُلَابِسْ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْحُرُوبِ، وَالْحَقُّ حَمْلُ عَمَلِ كُلِّ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ الْمَذْكُورِينَ عَلَى السَّدَادِ فَمَنْ لَابَسَ الْقِتَالَ اتَّضَحَ لَهُ الدَّلِيلُ لِثُبُوتِ الْأَمْرِ بِقِتَالِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ وَكَانَتْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى ذَلِكَ، وَمَنْ قَعَدَ لَمْ يَتَّضِحْ لَهُ أَيُّ الْفِئَتَيْنِ هِيَ الْبَاغِيَةُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى الْقِتَالِ. وَقَدْ وَقَعَ لِخُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ كَانَ مَعَ عَلِيٍّ وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ لَا يُقَاتِلُ، فَلَمَّا قُتِلَ عَمَّارٌ قَاتَلَ حِينَئِذٍ وَحَدَّثَ بِحَدِيثِ: يَقْتُلُ عَمَّارًا الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ. وَقَوْلُهُ: يُوشِكُ هُوَ بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ؛ أَيْ: يُسْرِعُ وَزْنُهُ وَمَعْنَاهُ، وَيَجُوزُ يُوشَكُ بِفَتْحِ الشِّينِ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هِيَ لُغَةٌ رَدِيئَةٌ.

وَقَوْلُهُ: أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ يَجُوزُ فِي خَيْرَ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ، فَإِنْ كَانَ غَنَمٌ بِالرَّفْعِ فَالنَّصْبُ، وَإِلَّا فَالرَّفْعُ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ أَوَّلَ الْكِتَابِ، وَالْأَشْهَرُ فِي الرِّوَايَةِ غَنَمٌ بِالرَّفْعِ، وَقَدْ جَوَّزَ بَعْضُهُمْ رَفْعَ خَيْرَ مَعَ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يُقَدَّرَ فِي يَكُونَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَغَنَمٌ وَخَيْرٌ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَلَا يَخْفَى تَكَلُّفُهُ. وَقَوْلُهُ: شَعَفُ الْجِبَالِ بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا فَاءٌ؛ جَمْعُ شَعَفَةٍ، كَأَكَمِ وَأَكَمَةٍ رُءُوسُ الْجِبَالِ وَالْمَرْعَى فِيهَا وَالْمَاءُ، وَلَا سِيَّمَا وَفِي بِلَادِ الْحِجَازِ أَيْسَرُ مِنْ غَيْرِهَا، وَوَقَعَ عِنْدَ بَعْضِ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ ثَانِيهِ وَبِالْمُوَحَّدَةِ بَدَلَ الْفَاءِ؛ جَمْعُ شُعْبَةٍ وَهِيَ مَا انْفَرَجَ بَيْنَ جَبَلَيْنِ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ الشِّينَ مُعْجَمَةٌ. وَوَقَعَ لِغَيْرِ مَالِكٍ كَالْأَوَّلِ، لَكِنَّ السِّينَ مُهْمَلَةٌ، وَسَبَقَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ نَحْوُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَفْظُهُ: وَرَجُلٌ فِي رَأْسِ شُعْبَةٍ مِنْ هَذِهِ الشِّعَابِ.

قَوْلُهُ: (يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: هَذِهِ الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، وَذُو الْحَالِ الضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي يَتْبِعُ أَوِ الْمُسْلِمُ إِذَا جَوَّزْنَا الْحَالَ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، فَقَدْ وُجِدَ شَرْطُهُ وَهُوَ شِدَّةُ الْمُلَابَسَةِ وَكَأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهُ، وَاتِّحَادُ الْخَيْرِ بِالْمَالِ وَاضِحٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافِيَّةً وَهُوَ وَاضِحٌ، انْتَهَى. وَالْخَبَرُ دَالٌّ عَلَى فَضِيلَةِ الْعُزْلَةِ لِمَنْ خَافَ عَلَى دِينِهِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي

ص: 42

أَصْلِ الْعُزْلَةِ فَقَالَ الْجُمْهُورُ: الِاخْتِلَاطُ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنَ اكْتِسَابِ الْفَوَائِدِ الدِّينِيَّةِ لِلْقِيَامِ بِشَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَتَكْثِيرِ سَوَادِ الْمُسْلِمِينَ وَإِيصَالِ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ إِلَيْهِمْ مِنْ إِعَانَةٍ وَإِغَاثَةٍ وَعِيَادَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْعُزْلَةُ أَوْلَى لِتَحَقُّقِ السَّلَامَةِ بِشَرْطِ مَعْرِفَةِ مَا يَتَعَيَّنُ، وَقَدْ مَضَى طَرَفٌ مِنْ ذَلِكَ فِي بَابِ الْعُزْلَةِ مِنْ كِتَابِ الرِّقَاقِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُخْتَارُ تَفْضِيلُ الْمُخَالَطَةِ لِمَنْ لَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَقَعُ فِي مَعْصِيَةٍ، فَإِنْ أَشْكَلَ الْأَمْرُ فَالْعُزْلَةُ أَوْلَى.

وَقَالَ غَيْرُهُ: يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَحَتَّمُ عَلَيْهِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَرَجَّحُ، ولَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ؛ بَلْ إِذَا تَسَاوَيَا فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، فَإِنْ تَعَارَضَا اخْتَلَفَ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ، فَمَنْ يَتَحَتَّمُ عَلَيْهِ الْمُخَالَطَةُ مَنْ كَانَتْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى إِزَالَةِ الْمُنْكَرِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ إِمَّا عَيْنًا وَإِمَّا كِفَايَةً بِحَسَبِ الْحَالِ وَالْإِمْكَانِ، وَمِمَّنْ يَتَرَجَّحُ مَنْ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَسْلَمُ فِي نَفْسِهِ إِذَا قَامَ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَمِمَّنْ يَسْتَوِي مَنْ يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَكِنَّهُ يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ لَا يُطَاعُ، وَهَذَا حَيْثُ لَا يَكُونُ هُنَاكَ فِتْنَةٌ عَامَّةٌ فَإِنْ وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ تَرَجَّحَتِ الْعُزْلَةُ لِمَا يَنْشَأُ فِيهَا غَالِبًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمَحْذُورِ، وَقَدْ تَقَعُ الْعُقُوبَةُ بِأَصْحَابِ الْفِتْنَةِ فَتَعُمُّ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} وَيُؤَيِّدُ التَّفْصِيلَ الْمَذْكُورَ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ أَيْضًا: خَيْرُ النَّاسِ رَجُلٌ جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، وَرَجُلٌ فِي شِعْبِ مِنَ الشِّعَابِ يَعْبُدُ رَبَّهُ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْعُزْلَةِ مِنْ كِتَابِ الرِّقَاقِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ آنِفًا، فَإِنَّ أَوَّلَهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ: خَيْرُ مُعَاشِرِ النَّاسِ رَجُلٌ مُمْسِكٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: وَرَجُلٌ فِي غَنِيمَةٍ الْحَدِيثَ، وَكَأَنَّهُ وَرَدَ فِي أَيِّ الْكَسْبِ أَطْيَبُ، فَإِنْ أُخِذَ عَلَى عُمُومِهِ دَلَّ عَلَى فَضِيلَةِ الْعُزْلَةِ لِمَنْ لَا يَتَأَتَّى لَهُ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قُيِّدَ بِزَمَانِ وُقُوعِ

الْفِتَنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌15 - بَاب التَّعَوُّذِ مِنْ الْفِتَنِ

7089 -

حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَحْفَوْهُ بِالْمَسْأَلَةِ، فَصَعِدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا بَيَّنْتُ لَكُمْ. فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ يَمِينًا وَشِمَالًا فَإِذَا كُلُّ رَجُلٍ رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ يَبْكِي، فَأَنْشَأَ رَجُلٌ كَانَ إِذَا لَاحَى يُدْعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، مَنْ أَبِي؟ فَقَالَ: أَبُوكَ حُذَافَةُ. ثُمَّ أَنْشَأَ عُمَرُ فَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سُوءِ الْفِتَنِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَا رَأَيْتُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَالْيَوْمِ قَطُّ، إِنَّهُ صُوِّرَتْ لِي الْجَنَّةُ وَالنَّارُ حَتَّى رَأَيْتُهُمَا دُونَ الْحَائِطِ. قال قَتَادَةُ يَذْكُرُ هَذَا الْحَدِيثَ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}

7090 -

وَقَالَ عَبَّاسٌ النَّرْسِيُّ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. . . بِهَذَا، وَقَالَ: كُلُّ رَجُلٍ لَافًّا رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ يَبْكِي، وَقَالَ: عَائِذًا بِاللَّهِ مِنْ سُوءِ الْفِتَنِ، أَوْ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سَوْأَى الْفِتَنِ.

ص: 43

7091 -

وقَالَ لِي خَلِيفَةُ:، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، وَمُعْتَمِرٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا، وَقَالَ: عَائِذًا بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ الْفِتَنِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ التَّعَوُّذِ مِنَ الْفِتَنِ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي مَشْرُوعِيَّةِ ذَلِكَ الرَّدُّ عَلَى مَنْ قَالَ: اسْأَلُوا اللَّهَ الْفِتْنَةَ فَإِنَّ فِيهَا حَصَادَ الْمُنَافِقِينَ. وَزَعَمَ أَنَّهُ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ وَهُوَ لَا يَثْبُتُ رَفْعُهُ بَلِ الصَّحِيحُ خِلَافُهُ. قُلْتُ: أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ بِلَفْظِ: لَا تَكْرَهُوا الْفِتْنَةَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ فَإِنَّهَا تُبِيرُ الْمُنَافِقِينَ. وَفِي سَنَدِهِ ضَعِيفٌ وَمَجْهُولٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الدَّعَوَاتِ عِدَّةُ تَرَاجِمَ لِلتَّعَوُّذِ مِنْ عِدَّةِ أَشْيَاءَ مِنْهَا الِاسْتِعَاذَةُ مِنْ فِتْنَةِ الْغِنَى وَالِاسْتِعَاذَةُ مِنْ فِتْنَةِ الْفَقْرِ وَالِاسْتِعَاذَةُ مِنْ أَرْذَلِ الْعُمُرِ وَمِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَمِنْ فِتْنَةِ النَّارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: أَرَادَ صلى الله عليه وسلم مَشْرُوعِيَّةَ ذَلِكَ لِأُمَّتِهِ.

قَوْلُهُ: (هِشَامٌ) هُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَنَسٍ) فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ:، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ.

قَوْلُهُ: (أَحْفُوهُ)؛ أَيْ: أَلِحُّوا عَلَيْهِ فِي السُّؤَالِ، وَعِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فِي رِوَايَةٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: أَلْحِفُوهُ أَوْ أَحْفُوهُ بِالْمَسْأَلَةِ.

قَوْلُهُ: (ذَاتَ يَوْمٍ الْمِنْبَرَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمِنْبَرِ.

قَوْلُهُ: (فَإِذَا كُلُّ رَجُلٍ رَأْسُهُ فِي ثَوْبِهِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: لَافٌّ رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْمَائِدَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: لَهُمْ خَنِينٌ وَهُوَ بِالْمُعْجَمَةِ؛ أَيْ مِنَ الْبُكَاءِ.

قَوْلُهُ: (فَأَنْشَأَ رَجُلٌ)؛ أَيْ بَدَأَ الْكَلَامَ، وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: فَقَامَ رَجُلٌ وَفِي لَفْظٍ لَهُ: فَأَتَى رَجُلٌ.

قَوْلُهُ: (كَانَ إِذَا لَاحَى) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ مِنَ الْمُلَاحَاةِ، وَهِيَ الْمُمَارَاةُ وَالْمُجَادَلَةُ.

قَوْلُهُ: (أَبُوكَ حُذَافَةُ) فِي رِوَايَةِ مُعْتَمِرٍ: سَمِعْتُ أَبِي عَنْ قَتَادَةَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَاسْمُ الرَّجُلِ خَارِجَةُ.

قُلْتُ: وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ السَّائِلَ عَبْدَ اللَّهِ أَخُو خَارِجَةَ، وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْمَائِدَةِ مَنْ قَالَ أنَّهُ قَيْسُ بْنُ حُذَافَةَ، وَعِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ: مَنْ أَبِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: حُذَافَةُ بْنُ قَيْسٍ. فَرَجَعَ إِلَى أُمِّهِ فَقَالَتْ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى الَّذِي صَنَعْتَ؟ فَقَدْ كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ! فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ لَأُحِبُّ أَنْ أَعْلَمَ مَنْ هُوَ أَبِي؟ مَنْ كَانَ مِنَ النَّاسِ؟

قَوْلُهُ: (ثُمَّ أَنْشَأَ عُمَرُ) كَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ مِنْ طَرِيقٍ أخرى أَتَمَّ مِنْ هَذَا، وَعِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُعْتَمِرٍ الْمَذْكُورِ مِنَ الزِّيَادَةِ: فَأَرَمَّ بِرَاءٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ مِيمٍ ثَقِيلَةٍ وَخَشَوْا أَنْ يَكُونُوا بَيْنَ يَدَيْ أَمْرٍ عَظِيمٍ، قَالَ أَنَسٌ: فَجَعَلْتُ أَلْتَفِتُ يَمِينًا وَشِمَالًا فَلَا أَرَى كُلَّ رَجُلٍ إِلَّا قَدْ دَسَّ رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ يَبْكِي، وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: سَلُونِي فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَعِنْدَ أَحْمَدَ، عَنْ أَبِي عَامِرٍ الْعَقَدِيِّ، عَنْ هِشَامٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: أَبُوكَ حُذَافَةُ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فِي الْجَنَّةِ أَنَا أَوْ فِي النَّارِ؟ قَالَ: فِي النَّارِ. وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ.

قَوْلُهُ: (مِنْ سُوءِ الْفِتَنِ) بِضَمِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا وَاوٌ ثُمَّ هَمْزَةٌ، وَلِلكُشْمِيهَنِيِّ: شَرِّ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ.

قَوْلُهُ: (صُوِّرَتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: صُوِّرَتْ لِيَ.

قَوْلُهُ: (دُونَ الْحَائِطِ)؛ أَيْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَائِطِ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ: فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ قَتَادَةُ: يُذْكَرُ هَذَا الْحَدِيثُ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} هُوَ بِضَمِّ أَوَّلِ يُذْكَرُ وَفَتْحِ الْكَافِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فَكَانَ قَتَادَةُ يَذْكُرُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ الْكَافِ وَهِيَ أَوْجَهُ، وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَبَّاسٌ) هُوَ بِمُوَحَّدَةٍ وَمُهْمَلَةٍ، وَهُوَ ابْنُ الْوَلِيدِ، وَ (النَّرْسِيُّ) بِفَتْحِ النُّونِ ثُمَّ سِينٌ مُهْمَلَةٌ، وَمَضَى فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ لَهُ حَدِيثٌ،

ص: 44

وَفِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي فِي بَابِ بَعْثِ مُعَاذٍ، وَأَبِي مُوسَى إِلَى الْيَمَنِ آخَرُ، وَمَنْ جَاءَ بِهَذِهِ الصُّورَةِ فِيمَا عَدَا هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ فِي الْبُخَارِيِّ فَهُوَ عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ الرَّقَّامُ بِمُثَنَّاةٍ تَحْتَانِيَّةٍ وَآخِرُهُ مُعْجَمَةٌ، وَيَزِيدُ شَيْخُهُ هُوَ ابْنُ زُرَيْعٍ، وَسَعِيدٌ هُوَ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، وَقَدْ وَصَلَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رُسْتَهْ - بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ مَفْتُوحَةٌ - قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بِهِ وَذَلِكَ يُؤَيِّدُ كَوْنَهُ بِالْمُهْمَلَةِ؛ لِأَنَّ الَّذِي بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ لَيْسَ فِيهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ.

قَوْلُهُ: (بِهَذَا)؛ أَيْ بِهَذَا الْحَدِيثِ الْمَاضِي، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ فِيهِ زِيَادَةُ قَوْلِهِ: لَافًّا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ زِيَادَتَهَا فِي الْأَوَّلِ وَهْمٌ مِنَ الْكُشْمِيهَنِيِّ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ: عَائِذًا. . . إِلَخْ) بَيَّنَ أَنَّ فِي رِوَايَةِ سَعِيدٍ بِالشَّكِّ فِي سُوءٍ وَسُوأَى.

قَوْلُهُ: (عَائِذًا بِاللَّهِ) وَهَكَذَا وَقَعَ بِالنَّصْبِ، وَهُوَ عَلَى الْحَالِ؛ أَيْ: أَقُولُ ذَلِكَ عَائِذًا. أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ؛ أَيْ عِيَاذًا. وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى بِالرَّفْعِ؛ أَيْ: أَنَا عَائِذٌ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ) هُوَ ابْنُ خَيَّاطٍ الْعُصْفُرِيُّ، وَأَكْثَرُ مَا يُخَرِّجُ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ يَقَعُ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ لَا يَقُولُ حَدَّثَنَا وَلَا أَخْبَرَنَا، وَكَأَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ عَنْهُ فِي الْمُذَاكَرَةِ. وَقَوْلُهُ: سَعِيدٌ؛ هُوَ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، وَمُعْتَمِرٌ هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِيهِ) يَعْنِي عَنْ أَبِي مُعْتَمِرٍ، وَذَكَرَ هَذِهِ الطَّرِيقَ الْأُخْرَى لِقَوْلِهِ فِي آخِرِهِ: مِنْ شَرِّ الْفِتَنِ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى الْمَوَاضِعِ الَّتِي ذَكَرَ فِيهَا هَذَا الْحَدِيثَ فِي تَفْسِيرِ الْمَائِدَةِ وَأَنَّ بَقِيَّةَ شَرْحِهِ يَأْتِي فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌16 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: الْفِتْنَةُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ

7092 -

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَامَ إِلَى جَنْبِ الْمِنْبَرِ فَقَالَ: الْفِتْنَةُ هَاهُنَا، الْفِتْنَةُ هَاهُنَا؛ مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ. أَوْ قَالَ: قَرْنُ الشَّمْسِ.

7093 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُسْتَقْبِلٌ الْمَشْرِقَ يَقُولُ: أَلَا إِنَّ الْفِتْنَةَ هَاهُنَا مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ.

7094 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا أَزْهَرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ نَافِعٍ "عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَأْمِنَا اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي يَمَنِنَا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَفِي نَجْدِنَا قَالَ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَأْمِنَا اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي يَمَنِنَا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَفِي نَجْدِنَا فَأَظُنُّهُ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ هُنَاكَ الزَّلَازِلُ وَالْفِتَنُ وَبِهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ"

7095 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ شَاهِينَ الْوَاسِطِيُّ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ بَيَانٍ عَنْ وَبَرَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَرَجَوْنَا أَنْ يُحَدِّثَنَا حَدِيثًا حَسَنًا قَالَ فَبَادَرَنَا إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدِّثْنَا عَنْ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ وَاللَّهُ يَقُولُ وَ {قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} فَقَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا الْفِتْنَةُ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ إِنَّمَا كَانَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم يُقَاتِلُ الْمُشْرِكِينَ وَكَانَ الدُّخُولُ فِي دِينِهِمْ فِتْنَةً وَلَيْسَ كَقِتَالِكُمْ عَلَى الْمُلْكِ"

ص: 45

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: الْفِتْنَةُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ)؛ أَيْ مِنْ جِهَتِهِ، ذَكَرَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ: الْأَوَّلُ ذَكَرَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي شَرْحِ حَدِيثِ أُسَامَةَ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْفِتَنِ وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي لَأَرَى الْفِتَنَ خِلَالَ بُيُوتِكُمْ وَكَانَ خِطَابُهُ ذَلِكَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ.

قَوْلُهُ: (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَامَ إِلَى جَنْبِ الْمِنْبَرِ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ. وَفِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَنَاقِبِ قُرَيْشٍ بِسَنَدِهِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ. وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَهُوَ مُسْتَقْبِلٌ الْمَشْرِقَ.

قَوْلُهُ: (الْفِتْنَةُ هَهُنَا، الْفِتْنَةُ هَهُنَا) كَذَا فِيهِ مَرَّتَيْنِ، وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ: هَاإِنَّ الْفِتْنَةَ هَهُنَا؛ أَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.

قَوْلُهُ: (مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ، أَوْ قَالَ: قَرْنُ الشَّمْسِ) كَذَا هُنَا بِالشَّكِّ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: هَهُنَا أَرْضُ الْفِتَنِ، وَأَشَارَ إِلَى الْمَشْرِقِ يَعْنِي حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ وَفِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ: أَلَا إِنَّ الْفِتْنَةَ هَهُنَا، يُشِيرُ إِلَى الْمَشْرِقِ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ. وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ مِثْلُ مَعْمَرٍ، لَكِنْ لَمْ يَقُلْ: أَوْ قَالَ: قَرْنُ الشَّمْسِ. بَلْ قَالَ: يَعْنِي الْمَشْرِقَ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ سَالِمٍ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُشِيرُ بِيَدِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ وَيَقُولُ: هَا إِنَّ الْفِتْنَةَ هَهُنَا ثَلَاثًا حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ. وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ حَنْظَلَةَ، عَنْ سَالِمٍ مِثْلُهُ، لَكِنْ قَالَ: إِنَّ الْفِتْنَةَ هَهُنَا ثَلَاثًا وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ فُضَيْلِ بْنِ غَزْوَانَ: سَمِعْتُ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ، مَا أَسْأَلُكُمْ عَنِ الصَّغِيرَةِ وَأَرْكَبُكُمُ الْكَبِيرَةَ! سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ الْفِتْنَةَ تَجِيءُ مِنْ هَهُنَا، وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَانِ.

كَذَا فِيهِ بِالتَّثْنِيَةِ، وَلَهُ فِي صِفَةِ إِبْلِيسَ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلُ سِيَاقِ حَنْظَلَةَ سَوَاءٌ، وَلَهُ نَحْوُهُ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ أَخْرَجَهُ فِي الطَّلَاقِ ثُمَّ سَاقَ هُنَا مِنْ رِوَايَةِ اللَّيْثِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَ رِوَايَةِ يُونُسَ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: أَلَا إِنَّ الْفِتْنَةَ هَهُنَا وَلَمْ يُكَرِّرْ، وَكَذَا لِمُسْلِمٍ، وَأَوْرَدَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ، عَنِ اللَّيْثِ؛ فَكَرَّرَهَا مَرَّتَيْنِ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ عَوْنٍ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ (عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا. . . الْحَدِيثَ) كَذَا أَوْرَدَهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَزْهَرَ السَّمَّانِ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ بِشْرِ بْنِ آدَمَ ابْنِ بِنْتِ أَزْهَرَ حَدَّثَنِي جَدِّي أَزْهَرُ بِهَذَا السَّنَدِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ. وَمِثْلُهُ لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيِّ، عَنْ أَزْهَرَ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ عَنْ أَبِيهِ كَذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ فِي الِاسْتِسْقَاءِ مَوْقُوفًا، وَذَكَرْتُ هُنَاكَ الِاخْتِلَافَ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَفِي نَجْدِنَا. فَأَظُنُّهُ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: هُنَاكَ الزَّلَازِلُ وَالْفِتَنُ، وَبِهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ، وَالدَّوْرَقِيِّ بَعْدَ قَوْلِهِ وَفِي نَجْدِنَا: قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا وَبَارِكْ لَنَا فِي يَمَنِنَا. قَالَ: وَفِي نَجْدِنَا؟ قَالَ: هُنَاكَ فَذَكَرَهُ، لَكِنْ شَكَّ هَلْ قَالَ بِهَا أَوْ مِنْهَا، وَقَالَ يَخْرُجُ بَدَلَ يَطْلُعُ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ مِثْلُهُ فِي الْإِعَادَةِ مَرَّتَيْنِ، وَفِي رِوَايَةِ وَلَدِ ابْنِ عَوْنٍ: فَلَمَّا كَانَ الثَّالِثَةُ أَوِ الرَّابِعَةُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَفِي نَجْدِنَا؟ قَالَ: بِهَا الزَّلَازِلُ وَالْفِتَنُ، وَمِنْهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ. قَالَ الْمُهَلَّبُ: إِنَّمَا تَرَكَ صلى الله عليه وسلم الدُّعَاءَ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ لِيَضْعُفُوا عَنِ الشَّرِّ الَّذِي هُوَ مَوْضُوعٌ فِي جِهَتِهِمْ لِاسْتِيلَاءِ الشَّيْطَانِ بِالْفِتَنِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: قَرْنُ الشَّمْسِ فَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: لِلشَّمْسِ قَرْنٌ حَقِيقَةً، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْقَرْنِ قُوَّةَ الشَّيْطَانِ وَمَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى الْإِضْلَالِ، وَهَذَا أَوْجَهُ، وَقِيلَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَقْرِنُ رَأْسَهُ بِالشَّمْسِ عِنْدَ طُلُوعِهَا لِيَقَعَ سُجُودُ عَبَدَتِهَا لَهُ.

قِيلَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِلشَّمْسِ شَيْطَانٌ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَيْنَ قَرْنَيْهِ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْقَرْنُ الْأُمَّةُ مِنَ النَّاسِ يَحْدُثُونَ بَعْدَ

ص: 46

فَنَاءِ آخَرِينَ، وَقَرْنُ الْحَيَّةِ أَنْ يُضْرَبَ الْمَثَلُ فِيمَا لَا يُحْمَدُ مِنَ الْأُمُورِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ أَهْلُ الْمَشْرِقِ يَوْمَئِذٍ أَهْلَ كُفْرٍ، فَأَخْبَرَ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْفِتْنَةَ تَكُونُ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ فَكَانَ كَمَا أَخْبَرَ، وَأَوَّلُ الْفِتَنِ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْفُرْقَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ مِمَّا يُحِبُّهُ الشَّيْطَانُ وَيَفْرَحُ بِهِ، وَكَذَلِكَ الْبِدَعُ نَشَأَتْ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: نَجْدٌ مِنْ جِهَةِ الْمَشْرِقِ، وَمَنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ كَانَ نَجْدُهُ بَادِيَةَ الْعِرَاقِ وَنَوَاحِيهَا وَهِيَ مَشْرِقُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَأَصْلُ النَّجْدِ مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ، وَهُوَ خِلَافُ الْغَوْرِ فَإِنَّهُ مَا انْخَفَضَ مِنْهَا، وَتِهَامَةُ كُلُّهَا مِنَ الْغَوْرِ وَمَكَّةُ مِنْ تِهَامَةَ، انْتَهَى وَعُرِفَ بِهَذَا وَهَاءَ مَا قَالَهُ الدَّاوُدِيُّ أنَّ نَجْدًا مِنْ نَاحِيَةِ الْعِرَاقِ فَإِنَّهُ تَوَهَّمَ أَنَّ نَجْدًا مَوْضِعٌ مَخْصُوصٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ كُلُّ شَيْءٍ ارْتَفَعَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَلِيهِ يُسَمَّى الْمُرْتَفِعُ نَجْدًا وَالْمُنْخَفِضُ غَوْرًا.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْوَاسِطِيُّ) هُوَ ابْنُ شَاهِينَ، وَخَالِدٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَبَيَانٌ - بِمُوَحَّدَةٍ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ خَفِيفَةٍ - هُوَ ابْنُ عَمْرٍو، وَوَبَرَةُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالْمُوَحَّدَةِ عِنْدَ الْجَمِيعِ وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَقَالَ عِيَاضٌ: ضَبَطْنَاهُ فِي مُسْلِمٍ بِسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ.

قَوْلُهُ: (أَنْ يُحَدِّثَنَا حَدِيثًا حَسَنًا)؛ أَيْ حَسَنَ اللَّفْظِ يَشْتَمِلُ عَلَى ذِكْرِ التَّرْجَمَةِ وَالرُّخْصَةِ، فَشَغَلَهُ الرَّجُلُ فَصَدَّهُ عَنْ إِعَادَتِهِ حَتَّى عَدَلَ إِلَى التَّحَدُّثِ عَنِ الْفِتْنَةِ.

قَوْلُهُ: (فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ) تَقَدَّمَ فِي الْأَنْفَالِ أَنَّ اسْمَهُ حَكِيمٌ، أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ بَيَانٍ أَنَّ وَبَرَةَ حَدَّثَهُ فَذَكَرَهُ، وَفِيهِ: فَمَرَرْنَا بِرَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: حَكِيمٌ.

قَوْلُهُ: (يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ) هِيَ كُنْيَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (حَدِّثْنَا عَنِ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ وَاللَّهُ يَقُولُ) يُرِيدُ أَنْ يَحْتَجَّ بِالْآيَةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ وَأَنَّ فِيهَا الرَّدَّ عَلَى مَنْ تَرَكَ ذَلِكَ كَابْنِ عُمَرَ، وَقَوْلُهُ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكُ ظَاهِرُهُ الدُّعَاءُ، وَقَدْ يَرِدُ مَوْرِدَ الزَّجْرِ كَمَا هُنَا، وَحَاصِلُ جَوَابِ ابْنِ عُمَرَ لَهُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:(وقاتلوهم) لِلْكُفَّارِ، فَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِقِتَالِ الْكَافِرِينَ حَتَّى لَا يَبْقَى أَحَدٌ يُفْتَنُ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَيَرْتَدُّ إِلَى الْكُفْرِ، وَوَقَعَ نَحْوُ هَذَا السُّؤَالِ مِنْ نَافِعِ بْنِ الْأَزْرَقِ وَجَمَاعَةٍ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فَأَجَابَهُمْ بِنَحْوِ جَوَابِ ابْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ مِنْ رِوَايَةِ زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ بَيَانٍ بِزِيَادَةِ: فَقَالَ بَدَلَ قَوْلِهِ: وَكَانَ الدُّخُولُ فِي دِينِهِمْ فِتْنَةٌ، فَكَانَ الرَّجُلُ يُفْتَنُ عَنْ دِينِهِ إِمَّا يَقْتُلُونَهُ وَإِمَّا يُوثِقُونَهُ حَتَّى كَثُرَ الْإِسْلَامُ فَلَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ؛ أَيْ لَمْ يَبْقَ فِتْنَةٌ، أَيْ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْكُفَّارِ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. ثُمَّ ذَكَرَ سُؤَالَهُ عَنْ عَلِيٍّ، وَعُثْمَانَ وَجَوَابَ ابْنِ عُمَرَ.

وَقَوْلُهُ هُنَا: وَلَيْسَ كَقِتَالِكُمْ عَلَى الْمُلْكِ؛ أَيْ فِي طَلَبِ الْمُلْكِ، يُشِيرُ إِلَى مَا وَقَعَ بَيْنَ مَرْوَانَ ثُمَّ عَبْدِ الْمَلِكِ ابْنِهِ وَبَيْنَ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَكَانَ رَأْيُ ابْنِ عُمَرَ تَرْكَ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ وَلَوْ ظَهَرَ أَنَّ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ مُحِقَّةٌ وَالْأُخْرَى مُبْطِلَةٌ، وَقِيلَ: الْفِتْنَةُ مُخْتَصَّةٌ بِمَا إِذَا وَقَعَ الْقِتَالُ بِسَبَبِ التَّغَالُبِ فِي طَلَبِ الْمُلْكِ، وَأَمَّا إِذَا عُلِمَتِ الْبَاغِيَةُ فَلَا تُسَمَّى فِتْنَةً وَتَجِبُ مُقَاتَلَتُهَا حَتَّى تَرْجِعَ إِلَى الطَّاعَةِ ; وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ.

‌17 - بَاب الْفِتْنَةِ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ

وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ خَلَفِ بْنِ حَوْشَبٍ: كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَتَمَثَّلُوا بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ عِنْدَ الْفِتَنِ؛ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:

الْحَرْبُ أَوَّلُ مَا تَكُونُ فَتِيَّةً

تَسْعَى بِزِينَتِهَا لِكُلِّ جَهُولِ

حَتَّى إِذَا اشْتَعَلَتْ وَشَبَّ ضِرَامُهَا

وَلَّتْ عَجُوزًا غَيْرَ ذَاتِ حَلِيلِ

شَمْطَاءَ يُنْكَرُ لَوْنُهَا وَتَغَيَّرَتْ

مَكْرُوهَةً لِلشَّمِّ وَالتَّقْبِيلِ

ص: 47

7096 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا شَقِيقٌ، سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ يَقُولُ: بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ عُمَرَ إِذْ قَالَ: أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْفِتْنَةِ؟ قَالَ: فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ يكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ. قَالَ: لَيْسَ عَنْ هَذَا أَسْأَلُكَ، وَلَكِنْ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ. قَالَ: لَيْسَ عَلَيْكَ مِنْهَا بَأْسٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؛ إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا. قَالَ عُمَرُ: أَيُكْسَرُ الْبَابُ أَمْ يُفْتَحُ؟ قَالَ: لا، بَلْ يُكْسَرُ. قَالَ عُمَرُ: إِذن لَا يُغْلَقَ أَبَدًا. قُلْتُ: أَجَلْ. قُلْنَا لِحُذَيْفَةَ: أَكَانَ عُمَرُ يَعْلَمُ الْبَابَ؟ قَالَ: نَعَمْ، كَمَا يَعْلَمُ أَنَّ دُونَ غَدٍ لَيْلَةً، وَذَلِكَ أَنِّي حَدَّثْتُهُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالْأَغَالِيطِ. فَهِبْنَا أَنْ نَسْأَلَهُ مَنْ الْبَابُ، فَأَمَرْنَا مَسْرُوقًا فَسَأَلَهُ فَقَالَ: مَنْ الْبَابُ؟ قَالَ: عُمَرُ.

7097 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا إِلَى حَائِطٍ مِنْ حَوَائِطِ الْمَدِينَةِ لِحَاجَتِهِ وَخَرَجْتُ فِي إِثْرِهِ فَلَمَّا دَخَلَ الْحَائِطَ جَلَسْتُ عَلَى بَابِهِ وَقُلْتُ: لَاكُونَنَّ الْيَوْمَ بَوَّابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَأْمُرْنِي فَذَهَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَضَى حَاجَتَهُ وَجَلَسَ عَلَى قُفِّ الْبِئْرِ فَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ وَدَلَاهُمَا فِي الْبِئْرِ فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهِ لِيَدْخُلَ فَقُلْتُ كَمَا أَنْتَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ لَكَ فَوَقَفَ فَجِئْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْكَ قَالَ ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ فَدَخَلَ فَجَاءَ عَنْ يَمِينِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ وَدَلَاهُمَا فِي الْبِئْرِ فَجَاءَ عُمَرُ فَقُلْتُ كَمَا أَنْتَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ لَكَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ فَجَاءَ عَنْ يَسَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ فَدَلَاهُمَا فِي الْبِئْرِ فَامْتَلَا الْقُفُّ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَجْلِسٌ ثُمَّ جَاءَ عُثْمَانُ فَقُلْتُ كَمَا أَنْتَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ لَكَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ مَعَهَا بَلَاءٌ يُصِيبُهُ فَدَخَلَ فَلَمْ يَجِدْ مَعَهُمْ مَجْلِسًا فَتَحَوَّلَ حَتَّى جَاءَ مُقَابِلَهُمْ عَلَى شَفَةِ الْبِئْرِ فَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ ثُمَّ دَلَاهُمَا فِي الْبِئْرِ فَجَعَلْتُ أَتَمَنَّى أَخًا لِي وَأَدْعُو اللَّهَ أَنْ يَأْتِيَ قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ فَتَأَوَّلْتُ ذَلِكَ قُبُورَهُمْ اجْتَمَعَتْ هَا هُنَا وَانْفَرَدَ عُثْمَانُ"

7098 -

حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ قَالَ قِيلَ لِأُسَامَةَ أَلَا تُكَلِّمُ هَذَا قَالَ قَدْ كَلَّمْتُهُ مَا دُونَ أَنْ أَفْتَحَ بَابًا أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَفْتَحُهُ وَمَا أَنَا بِالَّذِي أَقُولُ لِرَجُلٍ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ أَمِيرًا عَلَى رَجُلَيْنِ أَنْتَ خَيْرٌ بَعْدَ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ يُجَاءُ بِرَجُلٍ فَيُطْرَحُ فِي النَّارِ فَيَطْحَنُ فِيهَا كَطَحْنِ الْحِمَارِ بِرَحَاهُ فَيُطِيفُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ أَيْ فُلَانُ أَلَسْتَ كُنْتَ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ فَيَقُولُ إِنِّي كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا أَفْعَلُهُ وَأَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَأَفْعَلُهُ"

ص: 48

قَوْلُهُ: (بَابُ الْفِتْنَةِ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ) كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: وَضَعَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ خَمْسَ فِتَنٍ فَذَكَرَ الْأَرْبَعَةَ ثُمَّ فِتْنَةٌ تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ وَهِيَ الَّتِي يُصْبِحُ النَّاسُ فِيهَا كَالْبَهَائِمِ؛ أَيْ لَا عُقُولَ لَهُمْ. وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَبِي مُوسَى: تَذْهَبُ عُقُولُ أَكْثَرِ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: لَا تَضُرُّكَ الْفِتْنَةُ مَا عَرَفْتَ دِينَكَ ; إِنَّمَا الْفِتْنَةُ إِذَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ) هُوَ سُفْيَانُ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ الصَّغِيرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُسْنَدِيِّ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ خَلَفِ بْنِ حَوْشَبٍ) بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُعْجَمَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ بِوَزْنِ جَعْفَرٍ، وَخَلَفٌ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ رَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ وَأَدْرَكَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ لَكِنْ لَمْ أَجِدْ لَهُ رِوَايَةً عَنْ صَحَابِيٍّ، وَكَانَ عَابِدًا. وَثَّقَهُ الْعِجْلِيُّ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَبِي رَاشِدٍ، وَرَوَى عَنْهُ أَيْضًا شُعْبَةُ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْمَوْضِعُ.

قَوْلُهُ: (كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَتَمَثَّلُوا بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ عِنْدَ الْفِتَنِ)؛ أَيْ عِنْدَ نُزُولِهَا.

قَوْلُهُ: (قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ) كَذَا وَقَعَ عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ فِي نُسْخَةٍ، وَالْمَحْفُوظُ أَنَّ الْأَبْيَاتِ الْمَذْكُورَةَ لِعَمْرِو بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ الزُّبَيْدِيِّ كَمَا جَزَمَ بِهِ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدُ فِي الْكَامِلِ، وَكَذَا رُوِّينَاهُ فِي كِتَابِ الْغُرَرِ مِنَ الْأَخْبَارِ لِأَبِي بَكْرٍ خَمَدَ بْنِ خَلَفٍ الْقَاضِي الْمَعْرُوفِ بِوَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْدَانُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ خَلَفِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: قَالَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِ يكَرِبَ وَبِذَلِكَ جَزَمَ السُّهَيْلِيُّ فِي الرَّوْضِ وَوَقَعَ لَنَا مَوْصُولًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَفِيهِ زِيَادَةٌ رُوِّينَاهُ فِي فَوَائِدِ الْمَيْمُونِ بْنِ حَمْزَةَ الْمِصْرِيِّ عَنِ الطَّحَاوِيِّ فِيمَا زَادَهُ فِي السُّنَنِ الَّتِي رَوَاهَا عَنِ الْمُزَنِيِّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ فَقَالَ: حَدَّثَنَا الْمُزَنِيُّ، حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ خَلَفِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: قَالَ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ: كَمَا تَرَكَ لَكُمُ الْمُلُوكُ الْحِكْمَةَ فَاتْرُكُوا لَهُمُ الدُّنْيَا. وَكَانَ خَلَفٌ يَقُولُ: يَنْبَغِي لِلنَّاسِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا هَذِهِ الْأَبْيَاتِ فِي الْفِتْنَةِ.

قَوْلُهُ: (الْحَرْبُ أَوَّلُ مَا تَكُونُ فَتِيَّةً) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ؛ أَيْ شَابَّةٌ، حَكَى ابْنُ التِّينِ، عَنْ سِيبَوَيْهِ الْحَرْبَ مُؤَنَّثَةً وَعَنِ الْمُبَرِّدِ قَدْ تُذَكَّرُ، وَأَنْشَدَ لَهُ شَاهِدًا قَالَ: وَبَعْضُهُمْ يَرْفَعُ أَوَّلُ وَفَتِيَّةً لِأَنَّهُ مَثَلٌ، وَمَنْ نَصَبَ أَوَّلَ قَالَ إِنَّهُ الْخَبَرُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَهُ: الْحَرْبُ أَوَّلُ مَا تَكُونُ أَحْوَالُهَا إِذَا كَانَتْ فَتِيَّةً، وَمِنْهُمْ مَنْ أَعْرَبَ أَوَّلَ حَالًا. وَقَالَ غَيْرُهُ: يَجُوزُ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ؛ رَفْعُ أَوَّلَ، وَنَصْبُ فَتِيَّةٍ وَعَكْسُهُ، وَرَفْعُهُمَا جَمِيعًا وَنَصْبُهُمَا، فَمَنْ رَفَعَ أَوَّلَ وَنَصَبَ فَتِيَّةً فَتَقْدِيرُهُ: الْحَرْبُ أَوَّلُ أَحْوَالِهَا إِذَا كَانَتْ فَتِيَّةً، فَالْحَرْبُ مُبْتَدَأٌ وَأَوَّلُ مُبْتَدَأٌ ثَانٍ، وَفَتِيَّةٌ حَالٌ سَدَّتْ مَسَدَّ الْخَبَرِ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ الْحَرْبِ. وَمَنْ عَكَسَ فَتَقْدِيرُهُ: الْحَرْبُ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِهَا فَتِيَّةٌ، فَالْحَرْبُ مُبْتَدَأٌ وَفَتِيَّةٌ خَبَرُهَا، وَأَوَّلُ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ. وَمَنْ رَفَعَهُمَا فَالتَّقْدِيرُ: الْحَرْبُ أَوَّلُ أَحْوَالِهَا، فَأَوَّلُ مُبْتَدَأٌ ثَانٍ أَوْ بَدَلٌ مِنَ الْحَرْبِ، وَفَتِيَّةٌ خَبَرٌ. وَمَنْ نَصَبَهُمَا جَعَلَ أَوَّلَ ظَرْفًا وَفَتِيَّةً حَالًا، وَالتَّقْدِيرُ: الْحَرْبُ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِهَا إِذَا كَانَتْ فَتِيَّةً، وَتَسْعَى خَبَرٌ عَنْهَا؛ أَيِ: الْحَرْبُ فِي حَالِ مَا هِيَ فَتِيَّةٌ، أَيْ فِي وَقْتِ وُقُوعِهَا يَفِرُّ مَنْ لَمْ يُجَرِّبْهَا حَتَّى يَدْخُلَ فِيهَا فَتُهْلِكَهُ.

قَوْلُهُ: (بِزِينَتِهَا) كَذَا فِيهِ مِنَ الزِّينَةِ، وَرَوَاهُ سِيبَوَيْهِ: بِبَزَّتِهَا؛ بِمُوَحَّدَةٍ وَزَايٍ مُشَدَّدَةٍ، وَالْبَزَّةُ اللِّبَاسُ الْجَيِّدُ.

قَوْلُهُ: (إِذَا اشْتَعَلَتْ) بِشِينٍ مُعْجَمَةٍ وَعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ كِنَايَةً عَنْ هَيَجَانِهَا، وَيَجُوزُ فِي إِذَا أَنْ تَكُونَ ظَرْفِيَّةً وَأَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً وَالْجَوَابُ وَلَّتْ، وَقَوْلُهُ: وَشُبَّ ضِرَامُهَا هُوَ بِضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ، تَقُولُ: شُبَّتِ الْحَرْبُ؛ إِذَا اتَّقَدَتْ. وَضِرَامُهَا بِكَسْرِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ؛ أَيِ اشْتِعَالُهَا.

قَوْلُهُ: (ذَاتَ حَلِيلٍ) بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا صَارَتْ لَا يَرْغَبُ أَحَدٌ فِي تَزْوِيجِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَهُ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ.

قَوْلُهُ: (شَمْطَاءَ) بِالنَّصْبِ هُوَ وَصْفُ الْعَجُوزِ، وَالشَّمْطُ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ اخْتِلَاطُ الشَّعْرِ الْأَبْيَضِ بِالشَّعْرِ الْأَسْوَدِ، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ كَثْرَةِ الشَّيْبِ.

ص: 49

وَقَوْلُهُ: يُنَكَّرُ لَوْنُهَا؛ أَيْ يُبَدَّلُ حُسْنُهَا بِقُبْحٍ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ: شَمْطَاءَ جُزَّتْ رَأْسُهَا بَدَلَ قَوْلِهِ: يُنَكَّرُ لَوْنُهَا وَكَذَلِكَ أَنْشَدَهُ السُّهَيْلِيُّ فِي الرَّوْضِ. وَقَوْلُهُ: مَكْرُوهَةً لِلشَّمِّ وَالتَّقْبِيلِ يَصِفُ فَاهَا بِالْبَخْرِ مُبَالَغَةً فِي التَّنْفِيرِ مِنْهَا. وَالْمُرَادُ بِالتَّمَثُّلِ بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ اسْتِحْضَارُ مَا شَاهَدُوهُ وَسَمِعُوهُ مِنْ حَالِ الْفِتْنَةِ، فَإِنَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ بِإِنْشَادِهَا ذَلِكَ فَيَصُدُّهُمْ عَنِ الدُّخُولِ فِيهَا حَتَّى لَا يَغْتَرُّوا بِظَاهِرِ أَمْرِهَا أَوَّلًا. ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ ثَلَاثَةً أَحَادِيثَ؛ أَحَدُهَا حَدِيثُ حُذَيْفَةَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا شَقِيقٌ) هُوَ أَبُو وَائِلِ بْنِ سَلَمَةَ الْأَسَدِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الزَّكَاةِ مِنْ طَرِيقِ جَرِيرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ.

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ يَقُولُ: بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ عُمَرَ) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ، وَسِيَاقُهُ هُنَاكَ أَتَمُّ. وَخَالَفَ أَبُو حَمْزَةَ السُّكَّرِيُّ أَصْحَابَ الْأَعْمَشِ فَقَالَ: عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ وَقَوْلُهُ هُنَا: لَيْسَ عَنْ هَذَا أَسْأَلُكَ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ: لَمْ أَسْأَلْ عَنْ فِتْنَةِ الْخَاصَّةِ. وَقَوْلُهُ: وَلَكِنِ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ. فَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْكَ مِنْهَا بَأْسٌ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: عَلَيْكُمْ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ رِبْعِيٍّ: فَقَالَ حُذَيْفَةُ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: يَأْتِيكُمْ بَعْدِي فِتَنٌ كَمَوْجِ الْبَحْرِ يَدْفَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَيُؤْخَذُ مِنْهُ جِهَةُ التَّشْبِيهِ بِالْمَوْجِ وَأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْكَثْرَةُ فَقَطْ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ رِبْعِيٍّ: فَرَفَعَ عُمَرُ يَدَهُ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تُدْرِكْنِي، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: لَا تَخَفْ. وَقَوْلُهُ: إِذًا لَا يُغْلَقُ أَبَدًا؟ قُلْتُ: أَجَلْ فِي رِوَايَةِ رِبْعِيٍّ: قَالَ حُذَيْفَةُ: كَسْرًا، ثَمَّ لَا يُغْلَقُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

قَوْلُهُ: (كَمَا يَعْلَمُ أَنَّ دُونَ غَدٍ لَيْلَةً)؛ أَيْ عِلْمُهُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا مِثْلَ هَذَا، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِنَّمَا عَدَلَ حُذَيْفَةُ حِينَ سَأَلَهُ عُمَرُ عَنِ الْإِخْبَارِ بِالْفِتْنَةِ الْكُبْرَى إِلَى الْإِخْبَارِ بِالْفِتْنَةِ الْخَاصَّةِ لِئَلَّا يُغَمَّ وَيَشْتَغِلَ بَالُهُ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ لَهُ: إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا وَلَمْ يَقُلْ لَهُ: أَنْتَ الْبَابُ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ الْبَابُ فَعَرَّضَ لَهُ بِمَا فَهِمَهُ وَلَمْ يُصَرِّحْ، وَذَلِكَ مِنْ حُسْنِ أَدَبِهِ. وَقَوْلُ عُمَرَ: إِذَا كُسِرَ لَمْ يُغْلَقْ أَخَذَهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْكَسْرَ لَا يَكُونُ إِلَّا غَلَبَةً، وَالْغَلَبَةُ لَا تَقَعُ إِلَّا فِي الْفِتْنَةِ، وَعُلِمَ مِنَ الْخَبَرِ النَّبَوِيِّ أَنَّ بَأْسَ الْأُمَّةِ بَيْنَهُمْ وَاقِعٌ، وَأَنَّ الْهَرْجَ لَا يَزَالُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَمَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ شَدَّادٍ رَفَعَهُ: إِذَا وُضِعَ السَّيْفُ فِي أُمَّتِي لَمْ يُرْفَعْ عَنْهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قُلْتُ: أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ فِي الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ عُمَرَ دَخَلَ عَلَى أُمِّ كُلْثُومِ بِنْتِ عَلِيٍّ فَوَجَدَهَا تَبْكِي، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكِ؟ قَالَتْ: هَذَا الْيَهُودِيُّ - لِكَعْبِ الْأَحْبَارِ - يَقُولُ: إِنَّكَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ! فَقَالَ عُمَرُ: مَا شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ خَرَجَ فَأَرْسَلَ إِلَى كَعْبٍ فَجَاءَهُ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَنْسَلِخُ ذُو الْحِجَّةِ حَتَّى تَدْخُلَ الْجَنَّةَ. فَقَالَ: مَا هَذَا، مَرَّةً فِي الْجَنَّةِ وَمَرَّةً فِي النَّارِ! فَقَالَ: إِنَّا لِنَجِدُكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ تَمْنَعُ النَّاسَ أَنْ يَقْتَحِمُوا فِيهَا، فَإِذَا مِتَّ اقْتَحَمُوا.

قَوْلُهُ: (فَأَمَرْنَا مَسْرُوقًا) احْتَجَّ بِهِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْأَمْرَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعُلُوُّ وَلَا الِاسْتِعْلَاءُ.

فَدَخَلَ فَلَمْ يَجِدْ مَعَهُمْ مَجْلِسًا، فَتَحَوَّلَ حَتَّى جَاءَ مُقَابِلَهُمْ عَلَى شَفَةِ الْبِئْرِ، فَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ ثُمَّ دَلَّاهُمَا فِي الْبِئْرِ، فَجَعَلْتُ أَتَمَنَّى أَخًا لِي وَأَدْعُو اللَّهَ أَنْ يَأْتِيَ. قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: فَتَأَوَّلْتُ ذَلِكَ قُبُورَهُمْ؛ اجْتَمَعَتْ هَاهُنَا وَانْفَرَدَ عُثْمَانُ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي قَوْلُهُ: (عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ أَبِي نِمْرٍ. وَلَمْ يُخَرِّجِ الْبُخَارِيُّ، عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ النَّخَعِيِّ الْقَاضِيِّ شَيْئًا.

قَوْلُهُ: (خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى حَائِطٍ مِنْ حَوَائِطِ الْمَدِينَةِ لِحَاجَتِهِ) تَقَدَّمَ اسْمُ الْحَائِطِ الْمَذْكُورِ مَعَ شَرْحِ الْحَدِيثِ فِي مَنَاقِبِ أَبِي بَكْرٍ، وَقَوْلُهُ هُنَا: لَأَكُونَنَّ الْيَوْمَ بَوَّابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَأْمُرْنِي قَالَ الدَّاوُدِيُّ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: أَمَرَنِي بِحِفْظِ الْبَابِ وَهُوَ اخْتِلَافٌ لَيْسَ الْمَحْفُوظُ إِلَّا أَحَدَهُمَا، وَتُعُقِّبَ بِإِمْكَانِ الْجَمْعِ بِأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ ابْتِدَاءً مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ أَوَّلًا لِأَبِي بَكْرٍ وَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْذَنْ لَهُ وَيُبَشِّرَهُ بِالْجَنَّةِ وَافَقَ ذَلِكَ اخْتِيَارَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِحِفْظِ الْبَابِ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ كَانَ فِي حَالِ خَلْوَةٍ وَقَدْ كَشَفَ عَنْ سَاقِهِ وَدَلَّى رِجْلَيْهِ فَأَمَرَهُ بِحِفْظِ الْبَابِ، فَصَادَفَ أَمْرَهُ مَا كَانَ أَبُو مُوسَى أَلْزَمَ نَفْسَهُ بِهِ قَبْلَ الْأَمْرِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَطْلَقَ الْأَمْرَ عَلَى التَّقْرِيرِ

ص: 50

وَقَدْ مَضَى شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي مَنَاقِبِ أَبِي بَكْرٍ. وَقَوْلُهُ هُنَا: وَجَلَسَ عَلَى قُفِّ الْبِئْرِ فِي رِوَايَةِ غَيْرِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فِي بَدَلَ عَلَى، وَالْقُفُّ مَا ارْتَفَعَ مِنْ مَتْنِ الْبِئْرِ، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: مَا حَوْلَ الْبِئْرِ. قُلْتُ: وَالْمُرَادُ هُنَا مَكَانٌ يُبْنَى حَوْلَ الْبِئْرِ لِلْجُلُوسِ، وَالْقُفُّ أَيْضًا الشَّيْءُ الْيَابِسُ، وَفِي أَوْدِيَةِ الْمَدِينَةِ وَادٍ يُقَالُ لَهُ: الْقُفُّ، وَلَيْسَ مُرَادًا هُنَا. وَقَوْلُهُ: فَدَخَلَ فَجَاءَ عَنْ يَمِينِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَجَلَسَ بَدَلَ فَجَاءَ، وَقَوْلُه: فَامْتَلَأَ الْقُفُّ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: وَامْتَلَأَ؛ بِالْوَاوِ.

وَالْمُرَادُ مِنْ تَخْرِيجِهِ هُنَا الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ فِي حَقِّ عُثْمَانَ: بَلَاءٌ يُصِيبُهُ هُوَ مَا وَقَعَ لَهُ مِنَ الْقَتْلِ الَّذِي نَشَأَتْ عَنْهُ الْفِتَنُ الْوَاقِعَةُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِي الْجَمَلِ، ثُمَّ فِي صِفِّينَ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِنَّمَا خُصَّ عُثْمَانُ بِذِكْرِ الْبَلَاءِ مَعَ أَنَّ عُمَرَ قُتِلَ أَيْضًا لِكَوْنِ عُمَرَ لَمْ يُمْتَحَنْ بِمِثْلِ مَا امْتُحِنَ عُثْمَانُ مِنْ تَسَلُّطِ الْقَوْمِ الَّذِينَ أَرَادُوا مِنْهُ أَنْ يَنْخَلِعَ مِنَ الْإِمَامَةِ بِسَبَبِ مَا نَسَبُوهُ إِلَيْهِ مِنَ الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ مَعَ تَنَصُّلِهِ مِنْ ذَلِكَ وَاعْتِذَارِهِ عَنْ كُلِّ مَا أَوْرَدُوهُ عَلَيْهِ ثُمَّ هُجُومُهُمْ عَلَيْهِ دَارَهُ وَهَتْكُهُمْ سِتْرَ أَهْلِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ زِيَادَةٌ عَلَى قَتْلِهِ. قُلْتُ: وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَلَاءِ الَّذِي خُصَّ بِهِ الْأُمُورُ الزَّائِدَةُ عَلَى الْقَتْلِ وَهُوَ كَذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ: فَتَأَوَّلْتُ ذَلِكَ قُبُورَهُمْ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فَأَوَّلْتُ قَالَ الدَّاوُدِيُّ: كَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ لِجَوْدَتِهِ فِي عِبَارَةِ الرُّؤْيَا يَسْتَعْمِلُ التَّعْبِيرَ فِيمَا يُشْبِهُهَا. قُلْتُ: وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ التَّمْثِيلَ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّسْوِيَةَ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: اجْتَمَعُوا مُطْلَقُ الِاجْتِمَاعِ لَا خُصُوصُ كَوْنِ أَحَدِهِمَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرِ عَنْ شِمَالِهِ كَمَا كَانُوا عَلَى الْبِئْرِ، وَكَذَا عُثْمَانُ انْفَرَدَ قَبْرُهُ عَنْهُمْ وَلَمْ يَسْتَلْزِمْ أَنْ يَكُونَ مُقَابِلَهُمْ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ قَوْلُهُ: (عَنْ سُلَيْمَانَ) هُوَ الْأَعْمَشُ، وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، وَمَنْصُورٍ وَكَذَا لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ زَكَرِيَّا، عَنْ بِشْرِ بْنِ خَالِدٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ لَكِنَّهُ سَاقَهُ عَلَى لَفْظِ سُلَيْمَانَ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: قَالَ شُعْبَةُ: وَحَدَّثَنِي مَنْصُورٌ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أُسَامَةَ نَحْوًا مِنْهُ، إِلَّا أَنَّهُ زَادَ فِيهِ: فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ.

قَوْلُهُ: (قِيلَ لِأُسَامَةَ: أَلَّا تُكَلِّمُ هَذَا؟) كَذَا هُنَا بِإِبْهَامِ الْقَائِلِ وَإِبْهَامِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ فِي صِفَةِ النَّارِ مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِلَفْظِ: لَوْ أَتَيْتَ فُلَانًا فَكَلَّمْتَهُ وَجَزَاءُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَكَانَ صَوَابًا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ لَوْ لِلتَّمَنِّي، وَوَقَعَ اسْمُ الْمُشَارِ إِلَيْهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ أُسَامَةَ قِيلَ لَهُ: أَلَا تَدْخُلَ عَلَى عُثْمَانَ فَتُكَلِّمَهُ؟ وَلِأَحْمَدَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ: أَلَا تُكَلِّمُ عُثْمَانَ؟.

قَوْلُهُ: (قَدْ كَلَّمْتُهُ مَا دُونَ أَنْ أَفْتَحَ بَابًا)؛ أَيْ: كَلَّمْتُهُ فِيمَا أَشَرْتُمْ إِلَيْهِ، لَكِنْ عَلَى سَبِيلِ الْمَصْلَحَةِ وَالْأَدَبِ فِي السِّرِّ بِغَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِي كَلَامِي مَا يُثِيرُ فِتْنَةً أَوْ نَحْوَهَا. وَمَا مَوْصُوفَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً.

قَوْلُهُ: (أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَفْتَحُهُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فَتَحَهُ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ ; وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ: قَالَ: إِنَّكُمْ لَتَرَوْنَ - أَيْ تَظُنُّونَ - أَنِّي لَا أُكَلِّمُهُ إِلَّا أَسْمَعْتُكُمْ؛ أَيْ إِلَّا بِحُضُورِكُمْ، وَسَقَطَتِ الْأَلِفُ مِنْ بَعْضِ النُّسَخِ فَصَارَ بِلَفْظِ الْمَصْدَرِ؛ أَيْ إِلَّا وَقْتَ حُضُورِكُمْ حَيْثُ تَسْمَعُونَ وَهِيَ رِوَايَةُ يَعْلَى بْنِ عُبَيْدٍ الْمَذْكُورَةُ، وَقَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ: إِنِّي أُكَلِّمُهُ فِي السِّرِّ دُونَ أَنْ أَفْتَحَ بَابًا لَا أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ فَتَحَهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِثْلُهُ، لَكِنْ قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ إِلَّا أَسْمَعْتُكُمْ: وَاللَّهِ لَقَدْ كَلَّمْتُهُ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ دُونَ أَنْ أَفْتَحَ أَمْرًا لَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ فَتَحَهُ؛ يَعْنِي: لَا أُكَلِّمُهُ إِلَّا مَعَ مُرَاعَاةِ الْمَصْلَحَةِ بِكَلَامٍ لَا يُهَيِّجُ بِهِ فِتْنَةً.

قَوْلُهُ: (وَمَا أَنَا بِالَّذِي أَقُولُ لِرَجُلٍ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ أَمِيرًا عَلَى رَجُلَيْنِ: أَنْتَ خَيْرٌ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: إِيتَ خَيْرًا بِصِيغَةِ فِعْلِ الْأَمْرِ مِنَ الْإِيتَاءِ وَنَصْبِ خَيْرًا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى فَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ: وَلَا أَقُولُ لِأَمِيرٍ إِنْ كَانَ عَلَيَّ أَمِيرًا هُوَ بِكَسْرِ هَمْزَةِ إِنْ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا، وَقَوْلُهُ: كَانَ عَلَيَّ - بِالتَّشْدِيدِ - أَمِيرًا أَنَّهُ خَيْرُ النَّاسِ. وَفِي

ص: 51

رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: يَكُونُ عَلَيَّ أَمِيرًا وَفِي رِوَايَةِ يَعْلَى: وَإِنْ كَانَ عَلَيَّ أَمِيرًا.

قَوْلُهُ: (بَعْدَ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: يُجَاءُ بِرَجُلٍ) فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ: بَعْدَ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالُوا: وَمَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: يُجَاءُ بِالرَّجُلِ وَفِي رِوَايَةِ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: يُجَاءُ بِالرَّجُلِ الَّذِي كَانَ يُطَاعُ فِي مَعَاصِي اللَّهِ فَيُقْذَفُ فِي النَّارِ.

قَوْلُهُ: (فَيَطْحَنُ فِيهَا كَطَحْنِ الْحِمَارِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: كَمَا يَطْحَنُ الْحِمَارُ كَذَا رَأَيْتُ فِي نُسْخَةٍ مُعْتَمَدَةٍ: فَيُطْحَنُ؛ بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَفِي أُخْرَى بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَهُوَ أَوْجَهُ، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ وَأَبِي مُعَاوِيَةَ: فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ وَفِي رِوَايَةِ عَاصِمٍ: يَسْتَدِيرُ فِيهَا كَمَا يَسْتَدِيرُ الْحِمَارُ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ. وَالْأَقْتَابُ جَمْعُ قِتْبٍ - بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ - هِيَ الْأَمْعَاءُ، وَانْدِلَاقُهَا خُرُوجُهَا بِسُرْعَةٍ؛ يُقَالُ: انْدَلَقَ السَّيْفُ مِنْ غِمْدِهِ إِذَا خَرَجَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسُلَّهُ أَحَدٌ، وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ كَانَتْ أَيْضًا عِنْدَ الْأَعْمَشِ فَلَمْ يَسْمَعْهَا شُعْبَةُ مِنْهُ وَسَمِعَ مَعْنَاهَا مِنْ مَنْصُورٍ كَمَا تَقَدَّمَ.

قَوْلُهُ: (فَيُطِيفُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ)؛ أَيْ يَجْتَمِعُونَ حَوْلَهُ، يُقَالُ: أَطَافَ بِهِ الْقَوْمُ إِذَا حَلَّقُوا حَوْلَهُ حَلْقَةً وَإِنْ لَمْ يَدُورُوا، وَطَافُوا إِذَا دَارُوا حَوْلَهُ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَظْهَرُ خَطَأُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ، وَأَبِي مُعَاوِيَةَ: فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ. وَفِي رِوَايَةِ عَاصِمٍ: فَيَأْتِي عَلَيْهِ أَهْلُ طَاعَتِهِ مِنَ النَّاسِ.

قَوْلُهُ: (فَيَقُولُونَ: أَيْ فُلَانُ) فِي رِوَايَةِ سُفْيَانِ، وَأَبِي مُعَاوِيَةَ: فَيَقُولُونَ: يَا فُلَانُ وَزَادَ: مَا شَأْنُكَ؟ وَفِي رِوَايَةِ عَاصِمٍ: أَيْ فُلُ، أَيْنَ مَا كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِهِ؟.

قَوْلُهُ: (أَلَسْتَ كُنْتَ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى) فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ: أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا؟.

قَوْلُهُ: (إِنِّي كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا أَفْعَلُهُ، وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَأَفْعَلُهُ) فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ: آمُرُكُمْ وَأَنْهَاكُمْ وَلَهُ وَلِأَبِي مُعَاوِيَةَ: وَآتِيهِ وَلَا آتِيهِ. وَفِي رِوَايَةِ يَعْلَى: بَلْ كُنْتُ آمُرُ وَفِي رِوَايَةِ عَاصِمٍ: وَإِنِّي كُنْتُ آمُرُكُمْ بِأَمْرٍ وَأُخَالِفُكُمْ إِلَى غَيْرِهِ. قَالَ الْمُهَلَّبُ: أَرَادُوا مِنْ أُسَامَةَ أَنْ يُكَلِّمَ عُثْمَانَ وَكَانَ مِنْ خَاصَّتِهِ وَمِمَّنْ يَخِفُّ عَلَيْهِ فِي شَأْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ لِأَنَّهُ كَانَ ظَهَرَ عَلَيْهِ رِيحُ نَبِيذٍ وَشُهِرَ أَمْرُهُ وَكَانَ أَخَا عُثْمَانَ لِأُمِّهِ، وَكَانَ يَسْتَعْمِلُهُ، فَقَالَ أُسَامَةُ: قَدْ كَلَّمْتُهُ سِرًّا دُونَ أَنْ أُفْتَحَ بَابًا؛ أَيْ بَابَ الْإِنْكَارِ عَلَى الْأَئِمَّةِ عَلَانِيَةً خَشْيَةَ أَنْ تَفْتَرِقَ الْكَلِمَةُ. ثُمَّ عَرَّفَهُمْ أَنَّهُ لَا يُدَاهِنُ أَحَدًا وَلَوْ كَانَ أَمِيرًا بَلْ يَنْصَحُ لَهُ فِي السِّرِّ جَهْدَهُ، وَذَكَرَ لَهُمْ قِصَّةَ الرَّجُلِ الَّذِي يُطْرَحُ فِي النَّارِ لِكَوْنِهِ كَانَ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَفْعَلُهُ لِيَتَبَرَّأَ مِمَّا ظَنُّوا بِهِ مِنْ سُكُوتِهِ عَنْ عُثْمَانَ فِي أَخِيهِ، انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَجَزْمُهُ بِأَنَّ مُرَادَ مَنْ سَأَلَ أُسَامَةَ الْكَلَامَ مَعَ عُثْمَانَ أَنْ يُكَلِّمَهُ فِي شَأْنِ الْوَلِيدِ مَا عَرَفْتُ مُسْتَنَدَهُ فِيهِ، وَسِيَاقُ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ جَرِيرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ يَدْفَعُهُ، وَلَفْظُهُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ: كُنَّا عِنْدَ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَدْخُلَ عَلَى عُثْمَانَ فَتُكَلِّمَهُ فِيمَا يَصْنَعُ.

قَالَ: وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِهِ، وَجَزَمَ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يُكَلِّمَهُ فِيمَا أَنْكَرَهُ النَّاسُ عَلَى عُثْمَانَ مِنْ تَوْلِيَةِ أَقَارِبِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا اشْتُهِرَ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ السَّبَبَ فِي تَحْدِيثِ أُسَامَةَ بِذَلِكَ لِيَتَبَرَّأَ مِمَّا ظَنُّوهُ بِهِ لَيْسَ بِوَاضِحٍ، بَلِ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ أُسَامَةَ كَانَ يَخْشَى عَلَى مَنْ وُلِّيَ وِلَايَةً وَلَوْ صَغُرَتْ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْمُرَ الرَّعِيَّةَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ ثُمَّ لَا يَأْمَنُ مِنْ أَنْ يَقَعَ مِنْهُ تَقْصِيرٌ، فَكَانَ أُسَامَةُ يَرَى أَنَّهُ لَا يَتَأَمَّرُ عَلَى أَحَدٍ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: لَا أَقُولُ لِلْأَمِيرِ إِنَّهُ خَيْرُ النَّاسِ؛ أَيْ: بَلْ غَايَتُهُ أَنْ يَنْجُوَ كَفَافًا. وَقَالَ عِيَاضٌ: مُرَادُ أُسَامَةَ أَنَّهُ لَا يَفْتَحُ بَابَ الْمُجَاهَرَةِ بِالنَّكِيرِ عَلَى الْإِمَامِ لِمَا يَخْشَى مِنْ عَاقِبَةِ ذَلِكَ، بَلْ يَتَلَطَّفُ بِهِ وَيَنْصَحُهُ سِرًّا فَذَلِكَ أَجْدَرُ بِالْقَبُولِ.

وَقَوْلُهُ: لَا أَقُولُ لِأَحَدٍ يَكُونُ عَلَيَّ أَمِيرًا إِنَّهُ خَيْرُ النَّاسِ فِيهِ ذَمُّ مُدَاهَنَةِ الْأُمَرَاءِ فِي الْحَقِّ وَإِظْهَارُ مَا يُبْطِنُ خِلَافَهُ كَالْمُتَمَلِّقِ بِالْبَاطِلِ، فَأَشَارَ أُسَامَةُ إِلَى الْمُدَارَاةِ الْمَحْمُودَةِ وَالْمُدَاهَنَةِ الْمَذْمُومَةِ، وَضَابِطُ الْمُدَارَاةِ أَنْ

ص: 52

لَا يَكُونَ فِيهَا قَدْحٌ فِي الدِّينِ، وَالْمُدَاهَنَةُ الْمَذْمُومَةُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا تَزْيِينُ الْقَبِيحِ وَتَصْوِيبُ الْبَاطِلِ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَجِبُ مُطْلَقًا، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ رَفَعَهُ: أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ وَبِعُمُومِ قَوْلِهِ: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، الْحَدِيثَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِبُ إِنْكَارُ الْمُنْكَرِ، لَكِنَّ شَرْطَهُ أَنْ لَا يَلْحَقَ الْمُنْكِرَ بَلَاءٌ لَا قِبَلَ لَهُ بِهِ مِنْ قَتْلٍ وَنَحْوِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: يُنْكِرُ بِقَلْبِهِ لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرْفُوعًا: يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ بَعْدِي، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ، الْحَدِيثَ. قَالَ: وَالصَّوَابُ اعْتِبَارُ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ: لَا يَنْبَغِي لِمُؤْمِنٍ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ ثُمَّ فَسَّرَهُ بِأَنْ يَتَعَرَّضَ مِنَ الْبَلَاءِ لِمَا لَا يُطِيقُ، انْتَهَى مُلَخَّصًا.

وَقَالَ غَيْرُهُ: يَجِبُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُ ضَرَرًا وَلَوْ كَانَ الْآمِرُ مُتَلَبِّسًا بِالْمَعْصِيَةِ، لِأَنَّهُ فِي الْجُمْلَةِ يُؤْجَرُ عَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ مُطَاعًا، وَأَمَّا إِثْمُهُ الْخَاصُّ بِهِ فَقَدْ يَغْفِرُهُ اللَّهُ لَهُ وَقَدْ يُؤَاخِذُهُ بِهِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: لَا يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ إِلَّا مَنْ لَيْسَتْ فِيهِ وَصْمَةٌ، فَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ الْأَوْلَى فَجَيِّدٌ وَإلَّا فَيَسْتَلْزِمُ سَدَّ بَابِ الْأَمْرِ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ غَيْرُهُ. ثُمَّ قَالَ الطَّبَرِيُّ: فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ صَارَ الْمَأْمُورُونَ بِالْمَعْرُوفِ فِي حَدِيثِ أُسَامَةَ الْمَذْكُورِ فِي النَّارِ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّهُمْ لَمْ يَمْتَثِلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ فَعُذِّبُوا بِمَعْصِيَتِهِمْ وَعُذِّبَ أَمِيرُهُمْ بِكَوْنِهِ كَانَ يَفْعَلُ مَا يَنْهَاهُمْ عَنْهُ، وَفِي الْحَدِيثِ تَعْظِيمُ الْأُمَرَاءِ وَالْأَدَبِ مَعَهُمْ وَتَبْلِيغِهِمْ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِيهِمْ لِيَكُفُّوا وَيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ بِلُطْفٍ وَحُسْنِ تَأْدِيَةٍ بِحَيْثُ يَبْلُغُ الْمَقْصُودُ مِنْ غَيْرِ أَذِيَّةٍ لِلْغَيْرِ.

‌18 - باب

7099 -

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ، حَدَّثَنَا عَوْفٌ، عَنْ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: لَقَدْ نَفَعَنِي اللَّهُ بِكَلِمَةٍ أَيَّامَ الْجَمَلِ، لَمَّا بَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ فَارِسًا مَلَّكُوا ابْنَةَ كِسْرَى قَالَ: لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً.

7100 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ حَدَّثَنَا أَبُو حَصِينٍ حَدَّثَنَا أَبُو مَرْيَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ الأَسَدِيُّ قَالَ لَمَّا سَارَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَعَائِشَةُ إِلَى الْبَصْرَةِ بَعَثَ عَلِيٌّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ وَحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ فَقَدِمَا عَلَيْنَا الْكُوفَةَ فَصَعِدَا الْمِنْبَرَ فَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فَوْقَ الْمِنْبَرِ فِي أَعْلَاهُ وَقَامَ عَمَّارٌ أَسْفَلَ مِنْ الْحَسَنِ فَاجْتَمَعْنَا إِلَيْهِ فَسَمِعْتُ عَمَّارًا يَقُولُ إِنَّ عَائِشَةَ قَدْ سَارَتْ إِلَى الْبَصْرَةِ وَ وَاللَّهِ إِنَّهَا لَزَوْجَةُ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَكِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى ابْتَلَاكُمْ لِيَعْلَمَ إِيَّاهُ تُطِيعُونَ أَمْ هِيَ"؟

7101 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي غَنِيَّةَ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَامَ عَمَّارٌ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ فَذَكَرَ عَائِشَةَ وَذَكَرَ مَسِيرَهَا وَقَالَ إِنَّهَا زَوْجَةُ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَكِنَّهَا مِمَّا ابْتُلِيتُمْ"

7102، 7103 - ، 7104 - حَدَّثَنَا بَدَلُ بْنُ الْمُحَبَّرِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ يَقُولُ "دَخَلَ أَبُو مُوسَى وَأَبُو مَسْعُودٍ عَلَى عَمَّارٍ حَيْثُ بَعَثَهُ عَلِيٌّ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ يَسْتَنْفِرُهُمْ فَقَالَا:

ص: 53

مَا رَأَيْنَاكَ أَتَيْتَ أَمْرًا أَكْرَهَ عِنْدَنَا مِنْ إِسْرَاعِكَ فِي هَذَا الأَمْرِ مُنْذُ أَسْلَمْتَ فَقَالَ عَمَّارٌ: مَا رَأَيْتُ مِنْكُمَا مُنْذُ أَسْلَمْتُمَا أَمْرًا أَكْرَهَ عِنْدِي مِنْ إِبْطَائِكُمَا عَنْ هَذَا الأَمْرِ وَكَسَاهُمَا حُلَّةً حُلَّةً ثُمَّ رَاحُوا إِلَى الْمَسْجِدِ"

[الحديث 7102 - طرفه في: 7106]

[الحديث 7103 - طرفه في: 7105]

[الحديث 7104 - طرفه في: 7107]

7105، 7106 - ، 7107 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ كُنْتُ جَالِسًا مَعَ أَبِي مَسْعُودٍ وَأَبِي مُوسَى وَعَمَّارٍ فَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ مَا مِنْ أَصْحَابِكَ أَحَدٌ إِلاَّ لَوْ شِئْتُ لَقُلْتُ فِيهِ غَيْرَكَ وَمَا رَأَيْتُ مِنْكَ شَيْئًا مُنْذُ صَحِبْتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْيَبَ عِنْدِي مِنْ اسْتِسْرَاعِكَ فِي هَذَا الأَمْرِ قَالَ عَمَّارٌ: يَا أَبَا مَسْعُودٍ وَمَا رَأَيْتُ مِنْكَ وَلَا مِنْ صَاحِبِكَ هَذَا شَيْئًا مُنْذُ صَحِبْتُمَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْيَبَ عِنْدِي مِنْ إِبْطَائِكُمَا فِي هَذَا الأَمْرِ فَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ - وَكَانَ مُوسِرًا - يَا غُلَامُ هَاتِ حُلَّتَيْنِ، فَأَعْطَى إِحْدَاهُمَا أَبَا مُوسَى وَالأُخْرَى عَمَّارًا وَقَالَ: رُوحَا فِيهِ إِلَى الْجُمُعَةِ"

قَوْلُهُ: (بَابٌ) كَذَا لِلْجَمِيعِ بِغَيْرِ تَرْجَمَةٍ، وَسَقَطَ لِابْنِ بَطَّالٍ، وَذَكَرَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ تَتَعَلَّقُ بِوَقْعَةِ الْجَمَلِ ثَالِثُهَا مِنْ رِوَايَةِ ثَلَاثَةٍ، وَتَعَلُّقُهُ بِمَا قَبْلَهُ ظَاهِرٌ فَإِنَّهَا كَانَتْ أَوَّلَ وَقْعَةٍ تَقَاتَلَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ.

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ قَوْلُهُ: (عَوْفٌ) هُوَ الْأَعْرَابِيُّ، وَالْحَسَنُ هُوَ الْبَصْرِيُّ، وَالسَّنَدُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي سَمَاعِ الْحَسَنِ مِنْ أَبِي بَكْرَةَ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ، وَقَدْ تَابَعَ عَوْفًا، حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، عَنِ الْحَسَنِ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ وَقَالَ: رَوَاهُ عَنِ الْحَسَنِ جَمَاعَةٌ، وَأَحْسَنُهَا إِسْنَادًا رِوَايَةُ حُمَيْدٍ.

قَوْلُهُ: (لَقَدْ نَفَعَنِي اللَّهُ بِكَلِمَةٍ أَيَّامَ الْجَمَلِ) فِي رِوَايَةِ حُمَيْدٍ: عَصَمَنِي اللَّهُ بِشَيْءٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ جَمَعَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي كِتَابِ أَخْبَارِ الْبَصْرَةِ قِصَّةَ الْجَمَلِ مُطَوَّلَةً، وَهَا أَنَا أُلَخِّصُهَا وَأَقْتَصِرُ عَلَى مَا أَوْرَدَهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ أَوْ حَسَنٍ وَأُبَيِّنُ مَا عَدَاهُ، فَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ عَطِيَّةَ بْنِ سُفْيَانَ الثَّقَفِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا كَانَ الْغَدُ مِنْ قَتْلِ عُثْمَانَ أَقْبَلْتُ مَعَ عَلِيٍّ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا جَمَاعَةُ عَلِيٍّ، وَطَلْحَةَ، فَخَرَجَ أَبُو جَهْمِ بْنُ حُذَيْفَةَ فَقَالَ: يَا عَلِيُّ، أَلَا تَرَى؟ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ، وَدَخَلَ بَيْتَهُ فَأَتَى بِثَرِيدٍ فَأَكَلَ ثُمَّ قَالَ: يُقْتَلُ ابْنُ عَمِّي وَنَغْلِبُ عَلَى مُلْكِهِ؟ فَخَرَجَ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ فَفَتَحَهُ، فَلَمَّا تَسَامَعَ النَّاسُ تَرَكُوا طَلْحَةَ. وَمِنْ طَرِيقِ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: قَالَ الْأَشْتَرُ: رَأَيْتُ طَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرَ بَايَعَا عَلِيًّا طَائِعَيْنِ غَيْرَ مُكْرَهَيْنِ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي نَضْرَةَ قَالَ: كَانَ طَلْحَةُ يَقُولُ إِنَّهُ بَايَعَ وَهُوَ مُكْرَهٌ. وَمِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ أَتَى النَّاسُ عَلِيًّا وَهُوَ فِي سُوقِ الْمَدِينَةِ فَقَالُوا لَهُ: ابْسُطْ يَدَكَ نُبَايِعْكَ. فَقَالَ: حَتَّى يَتَشَاوَرَ النَّاسُ.

فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَئِنْ رَجَعَ النَّاسُ إِلَى أَمْصَارِهِمْ بِقَتْلِ عُثْمَانَ وَلَمْ يَقُمْ بَعْدَهُ قَائِمٌ لَمْ يُؤْمَنِ الِاخْتِلَافُ وَفَسَادُ الْأُمَّةِ! فَأَخَذَ الْأَشْتَرُ بِيَدِهِ فَبَايَعُوهُ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: لَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ وَكَانَ عَلِيٌّ خَلَا بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا خَشِيَ أَنَّهُمْ يُبَايِعُونَ طَلْحَةَ دَعَا النَّاسَ إِلَى بَيْعَتِهِ فَلَمْ يَعْدِلُوا بِهِ طَلْحَةَ وَلَا غَيْرَهُ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى طَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرِ فَبَايَعَاهُ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ طَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرَ اسْتَأْذَنَا عَلِيًّا فِي الْعُمْرَةِ، ثُمَّ خَرَجَا إِلَى مَكَّةَ فَلَقِيَا عَائِشَةَ فَاتَّفَقُوا عَلَى الطَّلَبِ بِدَمِ عُثْمَانَ حَتَّى يَقْتُلُوا قَتَلَتَهُ. وَمِنْ طَرِيقِ عَوْفٍ الْأَعْرَابِيِّ قَالَ: اسْتَعْمَلَ عُثْمَانُ، يَعْلَى بْنَ أُمَيَّةَ عَلَى صَنْعَاءَ

ص: 54

وَكَانَ عَظِيمَ الشَّأْنِ عِنْدَهُ، فَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ وَكَانَ يَعْلَى قَدِمَ حَاجًّا فَأَعَانَ طَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرَ بِأَرْبَعِمِائَةِ أَلْفٍ، وَحَمَلَ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ، وَاشْتَرَى لِعَائِشَةَ جَمَلًا يُقَالُ لَهُ عَسْكَرٌ بِثَمَانِينَ دِينَارًا. وَمِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: أَتَدْرُونَ بِمَنْ بُلِيتُ؟ أَطْوَعُ النَّاسِ فِي النَّاسِ عَائِشَةُ، وَأَشَدُّ النَّاسِ الزُّبَيْرُ، وَأَدْهَى النَّاسِ طَلْحَةُ، وَأَيْسَرُ النَّاسِ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: خَرَجَ عَلِيٌّ فِي آخِرِ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: سَارَ عَلِيٌّ مِنَ الْمَدِينَةِ وَمَعَهُ تِسْعُمِائَةِ رَاكِبٍ فَنَزَلَ بِذِي قَارٍ.

وَمِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: لَمَّا أَقْبَلَتْ عَائِشَةُ فَنَزَلَتْ بَعْضَ مِيَاهِ بَنِي عَامِرٍ نَبَحَتْ عَلَيْهَا الْكِلَابُ، فَقَالَتْ: أَيُّ مَاءٍ هَذَا؟ قَالُوا: الْحَوْأَبُ - بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ ثُمَّ مُوَحَّدَةٌ - قَالَتْ: مَا أَظُنُّنِي إِلَّا رَاجِعَةً. فَقَالَ لَهَا بَعْضُ مَنْ كَانَ مَعَهَا: بَلْ تَقْدَمِينَ فَيَرَاكِ الْمُسْلِمُونَ فَيُصْلِحُ اللَّهُ ذَاتَ بَيْنِهِمْ. فَقَالَتْ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَنَا ذَاتَ يَوْمٍ: كَيْفَ بِإِحْدَاكُنَّ تَنْبَحُ عَلَيْهَا كِلَابُ الْحَوْأَبِ. وَأَخْرَجَ هَذَا أَحْمَدُ، وَأَبُو يَعْلَى، وَالْبَزَّارُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ وَسَنَدُهُ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ. وَعِنْدَ أَحْمَدَ: فَقَالَ لَهَا الزُّبَيْرُ: تَقْدَمِينَ، فَذَكَرَهُ. وَمِنْ طَرِيقِ عِصَامِ بْنِ قُدَامَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِنِسَائِهِ: أَيَّتُكُنَّ صَاحِبَةُ الْجَمَلِ الْأَدْبَبِ - بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَدَالٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَتَيْنِ الْأُولَى مَفْتُوحَةٌ؟ تَخْرُجُ حَتَّى تَنْبَحَهَا كِلَابُ الْحَوْأَبِ، يُقْتَلُ عَنْ يَمِينِهَا وَعَنْ شِمَالِهَا قَتْلَى كَثِيرَةٌ وَتَنْجُو مِنْ بَعْدِ مَا كَادَتْ. وَهَذَا رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ حَوْلَ حُذَيْفَةَ إِذْ قَالَ: كَيْفَ أَنْتُمْ وَقَدْ خَرَجَ أَهْلُ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ فِرْقَتَيْنِ يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ وُجُوهَ بَعْضٍ بِالسَّيْفِ؟ قُلْنَا: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، فَكَيْفَ نَصْنَعُ إِذَا أَدْرَكْنَا ذَلِكَ؟ قَالَ: انْظُرُوا إِلَى الْفِرْقَةِ الَّتِي تَدْعُو إِلَى أَمْرِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَإِنَّهَا عَلَى الْهُدَى.

وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَلَغَ أَصْحَابَ عَلِيٍّ حِينَ سَارُوا مَعَهُ أَنَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ اجْتَمَعُوا بِطَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرِ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ وَوَقَعَ فِي قُلُوبِهِمْ، فَقَالَ عَلِيٌّ: وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ لَنَظْهَرَنَّ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَلَنَقْتُلَنَّ طَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرَ الْحَدِيثَ. وَفِي سَنَدِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَمْرٍو الْبَجَلِيُّ وَفِيهِ ضَعْفٌ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: ذَكَرَ لِعَائِشَةَ يَوْمَ الْجَمَلِ قَالَتْ: وَالنَّاسُ يَقُولُونَ يَوْمَ الْجَمَلِ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَتْ: وَدِدْتُ أَنِّي جَلَسْتُ كَمَا جَلَسَ غَيْرِي، فَكَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكُونَ وَلَدْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشَرَةً كُلَّهُمْ مِثْلَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ. وَفِي سَنَدِهِ أَبُو مَعْشَرٍ نَجِيحٌ الْمَدَنِيُّ وَفِيهِ ضَعْفٌ. وَأَخْرَجَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ سَالِمٍ الْمُرَادِيِّ سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: لَمَّا قَدِمَ عَلِيٌّ الْبَصْرَةَ فِي أَمْرِ طَلْحَةَ وَأَصْحَابِهِ قَامَ قَيْسُ بْنُ عَبَّادٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْكَوَّاءِ فَقَالَا لَهُ: أَخْبِرْنَا عَنْ مَسِيرِكَ هَذَا، فَذَكَرَ حَدِيثًا طَوِيلًا فِي مُبَايَعَتِهِ أَبَا بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرَ ثُمَّ عُثْمَانَ ثُمَّ ذَكَرَ طَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرَ فَقَالَ: بَايَعَانِي بِالْمَدِينَةِ وَخَالَفَانِي بِالْبَصْرَةِ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِمَّنْ بَايَعَ أَبَا بَكْرٍ خَالَفَهُ لَقَاتَلْنَاهُ. وَكَذَلِكَ عُمَرُ.

وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالْبَزَّارُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: إِنَّهُ سَيَكُونُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ عَائِشَةَ أَمْرٌ، قَالَ: فَأَنَا أَشْقَاهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ إِذَا كَانَ ذَلِكَ فَارْدُدْهَا إِلَى مَأْمَنِهَا. وَأَخْرَجَ إِسْحَاقُ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ السَّلَامِ - رَجُلٍ مِنْ حَيِّهِ - قَالَ: خَلَا عَلِيٌّ، بِالزُّبَيْرِ يَوْمَ الْجَمَلِ فَقَالَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ، هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ وَأَنْتَ لَاوِي يَدِيَ: لَتُقَاتِلَنَّهُ وَأَنْتَ ظَالِمٌ لَهُ ثُمَّ لَيُنْصَرَنَّ عَلَيْكَ؟ قَالَ: قَدْ سَمِعْتُ، لَا جَرَمَ لَا أُقَاتِلُكَ. وَأَخْرَجَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ هَجَنَّعَ - بِفَتْحِ الْهَاءِ وَالْجِيمِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ - عَنْ أَبِي بَكْرَةَ وَقِيلَ لَهُ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تُقَاتِلَ مَعَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَوْمَ الْجَمَلِ؟ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: يَخْرُجُ قَوْمٌ هَلْكَى لَا يُفْلِحُونَ، قَائِدُهُمُ امْرَأَةٌ فِي الْجَنَّةِ. فَكَأَنَّ أَبَا بَكْرَةَ

ص: 55

أَشَارَ إِلَى هَذَا الْحَدِيثِ فَامْتَنَعَ مِنَ الْقِتَالِ مَعَهُمْ، ثُمَّ اسْتَصْوَبَ رَأْيَهُ فِي ذَلِكَ التَّرْكِ لَمَّا رَأَى غَلَبَةَ عَلِيٍّ. وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ بِلَفْظِ: عَصَمَنِي اللَّهُ بِشَيْءٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْتُ عَائِشَةَ ذَكَرْتُ ذَلِكَ فَعَصَمَنِ اللَّهُ.

وَأَخْرَجَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ مِنْ طَرِيقِ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ عَائِشَةَ أَرْسَلَتْ إِلَى أَبِي بَكْرَةَ فَقَالَ: إِنَّكِ لَأُمٌّ، وَإِنَّ حَقَّكِ لَعَظِيمٌ، وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ تَمْلِكُهُمُ امْرَأَةٌ.

قَوْلُهُ: (لَمَّا بَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ فَارِسًا) قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: كَذَا وَقَعَ مَصْرُوفًا وَالصَّوَابُ عَدَمُ صَرْفِهِ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: هُوَ يُطْلَقُ عَلَى الْفُرْسِ وَعَلَى بِلَادِهِمْ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يُصْرَفُ إِلَّا أَنْ يُرَادَ الْقَبِيلَةُ، وَعَلَى الثَّانِي يَجُوزُ الْأَمْرَانِ كَسَائِرِ الْبِلَادِ، انْتَهَى. وَقَدْ جَوَّزَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ صَرْفَ الْأَسْمَاءِ كُلِّهَا.

قَوْلُهُ: (مَلَّكُوا ابْنَةَ كِسْرَى) فِي رِوَايَةِ حُمَيْدٍ: لَمَّا هَلَكَ كِسْرَى قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنِ اسْتَخْلَفُوا؟ قَالُوا: ابْنَتَهُ.

قَوْلُهُ: (لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً) بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ. وَفِي رِوَايَةِ حُمَيْدٍ: وَلِيَ أَمْرَهُمُ امْرَأَةٌ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهَا الْفَاعِلُ، وَكِسْرَى الْمَذْكُورُ هُوَ شِيرَوَيْهِ بْنُ أَبْرَوَيْزَ بْنِ هُرْمُزَ، وَاسْمُ ابْنَتِهِ الْمَذْكُورَةِ بُورَانُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آخِرِ الْمَغَازِي فِي بَابِ كِتَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى كِسْرَى شَرْحُ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ، عَنْ عَوْفٍ فِي آخِرِهِ: قَالَ أَبُو بَكْرَةَ: فَعَرَفْتُ أَنَّ أَصْحَابَ الْجَمَلِ لَنْ يُفْلِحُوا.

وَنَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الْمُهَلَّبِ أَنَّ ظَاهِرَ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ يُوهِمُ تَوْهِينَ رَأْيِ عَائِشَةَ فِيمَا فَعَلَتْ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ كَانَ عَلَى رَأْيِ عَائِشَةَ فِي طَلَبِ الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَمْ يَكُنْ قَصْدُهُمُ الْقِتَالَ، لَكِنْ لَمَّا انْتَشَبَتِ الْحَرْبُ لَمْ يَكُنْ لِمَنْ مَعَهَا بُدٌّ مِنَ الْمُقَاتَلَةِ، وَلَمْ يَرْجِعْ أَبُو بَكْرَةَ عَنْ رَأْيِ عَائِشَةَ وَإِنَّمَا تَفَرَّسَ بِأَنَّهُمْ يُغْلَبُونَ لَمَّا رَأَى الَّذِينَ مَعَ عَائِشَةَ تَحْتَ أَمْرِهَا لِمَا سَمِعَ فِي أَمْرِ فَارِسٍ، قَالَ: وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّ أَحَدًا لَمْ يَنْقُلْ أَنَّ عَائِشَةَ وَمَنْ مَعَهَا نَازَعُوا عَلِيًّا فِي الْخِلَافَةِ وَلَا دَعَوْا إِلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ لِيُوَلُّوهُ الْخِلَافَةَ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَتْ هِيَ وَمَنْ مَعَهَا عَلَى عَلِيٍّ مَنْعَهُ مِنْ قَتْلِ قَتَلَةِ عُثْمَانَ وَتَرْكِ الِاقْتِصَاصِ مِنْهُمْ، وَكَانَ عَلِيٌّ يَنْتَظِرُ مِنْ أَوْلِيَاءِ عُثْمَانَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَيْهِ، فَإِذَا ثَبَتَ عَلَى أَحَدٍ بِعَيْنِهِ أَنَّهُ مِمَّنْ قَتَلَ عُثْمَانَ اقْتَصَّ مِنْهُ، فَاخْتَلَفُوا بِحَسَبِ ذَلِكَ، وَخَشِيَ مَنْ نُسِبَ إِلَيْهِمُ الْقَتْلُ أَنْ يَصْطَلِحُوا عَلَى قَتْلِهِمْ فَأَنْشَبُوا الْحَرْبَ بَيْنَهُمْ إِلَى أَنْ كَانَ مَا كَانَ. فَلَمَّا انْتَصَرَ عَلِيٌّ عَلَيْهِمْ حَمِدَ أَبُو بَكْرَةَ رَأْيَهُ فِي تَرْكِ الْقِتَالِ مَعَهُمْ وَإِنْ كَانَ رَأْيُهُ كَانَ مُوَافِقًا لِرَأْيِ عَائِشَةَ فِي الطَّلَبِ بِدَمِ عُثْمَانَ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَفِي بَعْضِهِ نَظَرٌ يَظْهَرُ مِمَّا ذَكَرْتُهُ وَمِمَّا سَأَذْكُرُهُ.

وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي بَابِ إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ الْأَحْنَفِ أَنَّهُ كَانَ خَرَجَ لِيَنْصُرَ عَلِيًّا فَلَقِيَهُ أَبُو بَكْرَةَ فَنَهَاهُ عَنِ الْقِتَالِ، وَتَقَدَّمَ قَبْلَهُ بِبَابٍ مِنْ قَوْلِ أَبِي بَكْرَةَ لَمَّا حَرَّقَ ابْنَ الْحَضْرَمِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى الْقِتَالَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ أَصْلًا فَلَيْسَ هُوَ عَلَى رَأْيِ عَائِشَةَ وَلَا عَلَى رَأْيِ عَلِيٍّ فِي جَوَازِ الْقِتَالِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَصْلًا، وَإِنَّمَا كَانَ رَأْيُهُ الْكَفُّ وِفَاقًا لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمْ، وَلِهَذَا لَمْ يَشْهَدْ صِفِّينَ مَعَ مُعَاوِيَةَ وَلَا عَلِيٍّ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: احْتَجَّ بِحَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ مَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ تُوَلَّى الْمَرْأَةُ الْقَضَاءَ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَخَالَفَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فَقَالَ: يَجُوزُ أَنْ تَقْضِيَ فِيمَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهَا فِيهِ، وَأَطْلَقَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ الْجَوَازَ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ أَيْضًا: كَلَامُ أَبِي بَكْرَةَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْلَا عَائِشَةُ لَكَانَ مَعَ طَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرِ لِأَنَّهُ لَوْ تَبَيَّنَ لَهُ خَطَؤُهُمَا لَكَانَ مَعَ عَلِيٍّ. كَذَا قَالَ، وَأَغْفَلَ قِسْمًا ثَالِثًا وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ يَرَى الْكَفَّ عَنِ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ تَرَكَ الْقِتَالَ مَعَ أَهْلِ بَلَدِهِ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ أَنْ لَا يَكُونَ مَانَعَهُ مِنَ الْقِتَالِ سَبَبٌ آخَرُ وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ نَهْيِهِ الْأَحْنَفَ عَنِ الْقِتَالِ وَاحْتِجَاجِهِ بِحَدِيثِ: إِذَا

ص: 56

الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا.

الحديث الثاني:

حَدِيثُ عَمَّارٍ فِي حَقِّ عَائِشَةَ أَخْرَجَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ مُطَوَّلًا وَمُخْتَصَرًا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ) هُوَ الْجُعْفِيُّ الْمُسْنِدِيُّ، وَأَبُو حَصِينٍ - بِفَتْحِ أَوَّلِهِ - هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَاصِمٍ، وَأَبُو مَرْيَمَ الْمَذْكُورُ أَسَدِيٌّ كُوفِيٌّ هُوَ وَجَمِيعُ رُوَاةِ الْإِسْنَادِ إِلَّا شَيْخَهُ وَشَيْخَ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ وَثَّقَ أَبَا مَرْيَمَ الْمَذْكُورَ الْعِجْلِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثُ.

قَوْلُهُ: (لَمَّا سَارَ طَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَعَائِشَةُ إِلَى الْبَصْرَةِ) ذَكَرَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ أَنَّهُمْ تَوَجَّهُوا مِنْ مَكَّةَ بَعْدَ أَنْ أَهَلَّتِ السَّنَةُ، وَذَكَرَ بِسَنَدٍ لَهُ آخَرَ أَنَّ الْوَقْعَةَ بَيْنَهُمْ كَانَتْ فِي النِّصْفِ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، وَذَكَرَ مِنْ رِوَايَةِ الْمَدَائِنِيِّ، عَنِ الْعَلَاءِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَلِيٍّ وَهُوَ بِالزَّاوِيَةِ فَقَالَ: عَلَامَ تُقَاتِلُ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: عَلَى الْحَقِّ. قَالَ: فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ. قَالَ: أُقَاتِلُهُمْ عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْجَمَاعَةِ وَنَكْثِ الْبَيْعَةِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ الْجَرْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ أَنَّ رَجُلًا أَمِيرًا مَرِضَ وَعِنْدَ رَأْسِهِ امْرَأَةٌ وَالنَّاسُ يُرِيدُونَهُ، فَلَوْ نَهَتْهُمُ الْمَرْأَةُ لَانْتَهَوْا، وَلَكِنَّهَا لَمْ تَفْعَلْ، فَقَتَلُوهُ. ثُمَّ غَزَوْتُ تِلْكَ السَّنَةَ فَبَلَغَنَا قَتْلُ عُثْمَانَ، فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ غَزَاتِنَا وَانْتَهَيْنَا إِلَى الْبَصْرَةِ قِيلَ لَنَا: هَذَا طَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَعَائِشَةُ، فَتَعَجَّبَ النَّاسُ وَسَأَلُوهُمْ عَنْ سَبَبِ مَسِيرِهِمْ، فَذَكَرُوا أَنَّهُمْ خَرَجُوا غَضَبًا لِعُثْمَانَ وَتَوْبَةً مِمَّا صَنَعُوا مِنْ خِذْلَانِهِ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: غَضِبْنَا لَكُمْ عَلَى عُثْمَانَ فِي ثَلَاثٍ: إِمَارَةِ الْفَتَى، وَضَرْبِ السَّوْطِ، وَالْعَصَا. فَمَا أَنْصَفْنَاهُ إِنْ لَمْ نَغْضَبْ لَهُ فِي ثَلَاثٍ: حُرْمَةِ الدَّمِ، وَالشَّهْرِ، وَالْبَلَدِ.

قَالَ: فَسِرْتُ أَنَا وَرَجُلَانِ مِنْ قَوْمِي إِلَى عَلِيٍّ وَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ، وَسَأَلْنَاهُ فَقَالَ: عَدَا النَّاسُ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ فَقَتَلُوهُ وَأَنَا مُعْتَزِلٌ عَنْهُمْ ثُمَّ وَلَّوْنِي، وَلَوْلَا الْخَشْيَةُ عَلَى الدِّينِ لَمْ أُجِبْهُمْ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَنِي الزُّبَيْرُ، وَطَلْحَةُ فِي الْعُمْرَةِ فَأَخَذْتُ عَلَيْهِمَا الْعُهُودَ وَأَذِنْتُ لَهُمَا، فَعَرَّضَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ لِمَا لَا يَصْلُحُ لَهَا، فَبَلَغَنِي أَمْرُهُمْ فَخَشِيتُ أَنْ يَنْفَتِقَ فِي الْإِسْلَامِ فَتْقٌ فَأَتْبَعْتُهُمْ، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَاللَّهِ مَا نُرِيدُ قِتَالَهُمْ إِلَّا أَنْ يُقَاتِلُوا، وَمَا خَرَجْنَا إِلَّا لِلْإِصْلَاحِ. فَذَكَرَ الْقِصَّةَ، وَفِيهَا أَنَّ أَوَّلَ مَا وَقَعَتِ الْحَرْبُ أَنَّ صِبْيَانَ الْعَسْكَرَيْنِ تَسَابُّوا ثُمَّ تَرَامَوْا ثُمَّ تَبِعَهُمُ الْعَبِيدُ ثُمَّ السُّفَهَاءُ فَنَشِبَتِ الْحَرْبُ، وَكَانُوا خَنْدَقُوا عَلَى الْبَصْرَةِ فَقُتِلَ قَوْمٌ وَجُرِحَ آخَرُونَ، وَغَلَبَ أَصْحَابُ عَلِيٍّ وَنَادَى مُنَادِيهِ: لَا تَتَّبِعُوا مُدْبِرًا وَلَا تُجْهِزُوا جَرِيحًا، وَلَا تَدْخُلُوا دَارَ أَحَدٍ، ثُمَّ جَمَعَ النَّاسَ وَبَايَعَهُمْ وَاسْتَعْمَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَلَى الْبَصْرَةِ وَرَجَعَ إِلَى الْكُوفَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى قَالَ: انْتَهَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ إِلَى عَائِشَةَ يَوْمَ الْجَمَلِ وَهِيَ فِي الْهَوْدَجِ فَقَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَتَعْلَمِينَ أَنِّي أَتَيْتُكِ عِنْدَمَا قُتِلَ عُثْمَانُ فَقُلْتُ: مَا تَأْمُرِينِي؟ فَقُلْتِ: الْزَمْ عَلِيًّا؟ فَسَكَتَتْ. فَقَالَ: اعْقِرُوا الْجَمَلَ، فَعَقَرُوهُ، فَنَزَلْتُ أَنَا وَأَخُوهَا مُحَمَّدٌ فَاحْتَمَلْنَا هَوْدَجَهَا فَوَضَعْنَاهُ بَيْنَ يَدَيْ عَلِيٍّ، فَأَمَرَ بِهَا فَأُدْخِلَتْ بَيْتًا.

وَأَخْرَجَ أَيْضًا بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: فَكَفَّ عَليٌّ يَدَهُ حَتَّى بَدَءُوهُ بِالْقِتَالِ، فَقَاتَلَهُمْ بَعْدَ الظُّهْرِ فَمَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَحَوْلَ الْجَمَلِ أَحَدٌ، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَا تُتَمِّمُوا جَرِيحًا وَلَا تَقْتُلُوا مُدْبِرًا، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ وَأَلْقَى سِلَاحَهُ فَهُوَ آمِنٌ. وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْرَمَ غَلَبَةً مِنْ أَبِيكَ - يَعْنِي عَلِيًّا - مَا هُوَ إِلَّا أَنْ وَلَّيْنَا يَوْمَ الْجَمَلِ فَنَادَى مُنَادِيهِ: لَا يُقْتَلُ مُدْبِرٌ وَلَا يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحٍ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ جَاوَانَ عَنِ الْأَحْنَفِ قَالَ: حَجَجْتُ سَنَةَ قُتِلَ عُثْمَانُ فَدَخَلْتُ الْمَدِينَةَ، فَذَكَرَ كَلَامَ عُثْمَانَ فِي تَذْكِيرِهِمْ بِمَنَاقِبِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا ثُمَّ ذَكَرَ اعْتِزَالَهُ الطَّائِفَتَيْنِ قَالَ: ثُمَّ الْتَقَوْا فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ طَلْحَةُ، وَرَجَعَ الزُّبَيْرُ فَقُتِلَ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: قُلْتُ لِلْأَشْتَرِ: قَدْ كُنْتَ كَارِهًا لِقَتْلِ عُثْمَانَ، فَكَيْفَ قَاتَلْتَ يَوْمَ الْجَمَلِ؟ قَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ بَايَعُوا عَلِيًّا ثُمَّ

ص: 57

نَكَثُوا عَهْدَهُ، وَكَانَ الزُّبَيْرُ هُوَ الَّذِي حَرَّكَ عَائِشَةَ عَلَى الْخُرُوجِ فَدَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يَكْفِيَنِيهِ، فَلَقِيَنِي كَفُّهُ بِكَفِّهِ فَمَا رَضِيتُ لِشِدَّةِ سَاعِدِي أَنْ قُمْتُ فِي الرِّكَابِ فَضَرَبْتُهُ عَلَى رَأْسِهِ ضَرْبَةً فَصَرَعْتُهُ، فَذَكَرَ الْقِصَّةَ فِي أَنَّهُمَا سَلِمَا.

قَوْلُهُ: (بَعَثَ عَلِيٌّ، عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ، وَحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ فَقَدِمَا عَلَيْنَا الْكُوفَةَ) ذَكَرَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، وَالطَّبَرِيُّ سَبَبَ ذَلِكَ بِسَنَدِهِمَا إِلَى ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: كَانَ عَلِيٌّ أَقَرَّ أَبَا مُوسَى عَلَى إِمْرَةِ الْكُوفَةِ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ أَرْسَلَ هَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ إِلَيْهِ أَنْ أَنْهِضْ مَنْ قِبَلَكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَكُنْ مِنْ أَعْوَانِي عَلَى الْحَقِّ. فَاسْتَشَارَ أَبُو مُوسَى السَّائِبَ بْنَ مَالِكٍ الْأَشْعَرِيَّ فَقَالَ: اتَّبِعْ مَا أَمَرَكَ بِهِ. قَالَ: إِنِّي لَا أَرَى ذَلِكَ، وَأَخَذَ فِي تَخْذِيلِ النَّاسِ عَنِ النُّهُوضِ، فَكَتَبَ هَاشِمٌ إِلَى عَلِيٍّ بِذَلِكَ وَبَعَثَ بِكِتَابِهِ مَعَ عَقْلِ بْنِ خَلِيفَةَ الطَّائِيِّ، فَبَعَثَ عَلِيٌّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ، وَالْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ يَسْتَنْفِرَانِ النَّاسَ، وَأَمَّرَ قَرَظَةَ بْنَ كَعْبٍ عَلَى الْكُوفَةِ، فَلَمَّا قَرَأَ كِتَابَهُ عَلَى أَبِي مُوسَى اعْتَزَلَ وَدَخَلَ الْحَسَنُ، وَعَمَّارٌ الْمَسْجِدَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: أَقْبَلَ طَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ حَتَّى نَزَلَا الْبَصْرَةَ فَقَبَضَا عَلَى عَامِلِ عَلِيٍّ عَلَيْهَا ابْنِ حَنِيفٍ، وَأَقْبَلَ عَلِيٌّ حَتَّى نَزَلَ بِذِي قَارٍ، فَأَرْسَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ إِلَى الْكُوفَةِ فَأَبْطَأُوا عَلَيْهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ عَمَّارًا فَخَرَجُوا إِلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فَوْقَ الْمِنْبَرِ فِي أَعْلَاهُ وَقَامَ عَمَّارٌ أَسْفَلَ مِنَ الْحَسَنِ، فَاجْتَمَعْنَا إِلَيْهِ فَسَمِعْتُ عَمَّارًا يَقُولُ) زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ: صَعِدَ عَمَّارٌ الْمِنْبَرَ فَحَضَّ النَّاسَ فِي الْخُرُوجِ إِلَى قِتَالِ عَائِشَةَ وَفِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ آدَمَ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ: فَقَالَ عَمَّارٌ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بَعَثَنَا إِلَيْكُمْ لِنَسْتَنْفِرَكُمْ، فَإِنَّ أُمَّنَا قَدْ سَارَتْ إِلَى الْبَصْرَةِ. وَعِنْدَ عُمَرَ بْنِ شَبَّةَ، عَنْ حِبَّانَ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ آدَمَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ: فَكَانَ عَمَّارٌ يَخْطُبُ وَالْحَسَنُ سَاكِتٌ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فِي الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ: فَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ عَلِيًّا يَقُولُ: إِنِّي أُذَكِّرُ اللَّهَ رَجُلًا رَعَى لِلَّهِ حَقًّا إِلَّا نَفَرَ، فَإِنْ كُنْتُ مَظْلُومًا أَعَانَنِي وَإِنْ كُنْتُ ظَالِمًا أَخْذَلَنِي، وَاللَّهِ إِنَّ طَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرَ لَأَوَّلُ مَنْ بَايَعَنِي ثُمَّ نَكَثَا، وَلَمْ أَسْتَأْثِرْ بِمَالٍ وَلَا بَدَّلْتُ حُكْمًا، قَالَ: فَخَرَجَ إِلَيْهِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ رَجُلٍ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ عَائِشَةَ قَدْ سَارَتْ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَوَاللَّهِ إِنَّهَا لَزَوْجَةُ نَبِيِّكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ; وَلَكِنَّ اللَّهَ ابْتَلَاكُمْ لِيَعْلَمَ إِيَّاهُ تُطِيعُونَ أَمْ هِيَ) فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ: لِيَعْلَمَ أَنُطِيعُهُ أَمْ إِيَّاهَا، وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ بَعْدَ قَوْلِهِ قَدْ سَارَتْ إِلَى الْبَصْرَةِ: وَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَقُولُ لَكُمْ هَذَا وَوَاللَّهِ إِنَّهَا لَزَوْجَةُ نَبِيِّكُمْ، زَادَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي رِوَايَتِهِ: وَأَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بَعَثَنَا إِلَيْكُمْ وَهُوَ بِذِي قَارٍ. وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ شِمْرِ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: قَالَ عَمَّارٌ: إِنَّ أُمَّنَا سَارَتْ مَسِيرَهَا هَذَا، وَإِنَّهَا وَاللَّهِ زَوْجُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ ابْتَلَانَا بِهَا لِيَعْلَمَ إِيَّاهُ نُطِيعُ أَوْ إِيَّاهَا، وَمُرَادُ عَمَّارٍ بِذَلِكَ أَنَّ الصَّوَابَ فِي تِلْكَ الْقِصَّةِ كَانَ مَعَ عَلِيٍّ، وَأَنَّ عَائِشَةَ مَعَ ذَلِكَ لَمْ تَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنِ الْإِسْلَامِ وَلَا أَنْ تَكُونَ زَوْجَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْجَنَّةِ. فَكَانَ ذَلِكَ يُعَدُّ مِنْ إِنْصَافِ عَمَّارٍ وَشِدَّةِ وَرَعِهِ وَتَحَرِّيهِ قَوْلَ الْحَقِّ. وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْمَدِينِيِّ قَالَ: قَالَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، لِعَائِشَةَ لَمَّا فَرَغُوا مِنَ الْجَمَلِ: مَا أَبْعَدَ هَذَا الْمَسِيرِ مِنَ الْعَهْدِ الَّذِي عُهِدَ إِلَيْكُمْ؛ يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} فَقَالَتْ: أَبُو الْيَقْظَانِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ: وَاللَّهِ إِنَّكَ مَا عَلِمْتَ لَقَوَّالٌ بِالْحَقِّ. قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَضَى لِي عَلَى لِسَانِكِ.

وَقَوْلُهُ: لِيَعْلَمَ إِيَّاهُ تُطِيعُونَ أَمْ هِيَ قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: الضَّمِيرُ فِي إِيَّاهُ لِعَلِيٍّ، وَالْمُنَاسِبُ أَنْ يُقَالَ: أَمْ إِيَّاهَا، لَا هِيَ. وَأَجَابَ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّ الضَّمَائِرَ يَقُومُ بَعْضُهَا مَقَامَ بَعْضٍ، انْتَهَى وَهُوَ عَلَى بَعْضِ الْآرَاءِ. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ آدَمَ بِسَنَدِ حَدِيثِ الْبَابِ: وَلَكِنَّ اللَّهَ ابْتَلَانَا بِهَا لِيَعْلَمَ أَنُطِيعُهُ أَمْ إِيَّاهَا فَظَهَرَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ،

ص: 58

وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي إِيَّاهُ لِعَلِيٍّ؛ فَالظَّاهِرُ خِلَافُهُ وَأَنَّهُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالْمُرَادُ إِظْهَارُ الْمَعْلُومِ كَمَا فِي نَظَائِرِهِ.

قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ أَبِي غَنِيَّةَ) بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ؛ هُوَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حُمَيْدٍ، مَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثُ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ فِي مُسْتَخْرَجِهِ، وَالْحَكَمُ هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَالسَّنَدُ كُلُّهُ كُوفِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (قَامَ عَمَّارٌ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ) هَذَا طَرَفٌ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَأَرَادَ الْبُخَارِيُّ بِإِيرَادِهِ تَقْوِيَةَ حَدِيثِ أَبِي مَرْيَمَ لِكَوْنِهِ مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ عَنْهُ أَبُو حُصَيْنٍ، وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا عَنِ الْحَكَمِ، شُعْبَةُ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَزَادَ فِي أَوَّلِهِ قَالَ: لَمَّا بَعَثَ عَلِيٌّ، عَمَّارًا، وَالْحَسَنَ إِلَى الْكُوفَةِ يَسْتَنْفِرُهُمْ خَطَبَ عَمَّارٌ فَذَكَرَهُ، قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ أنَّ عَمَّارًا كَانَ صَادِقَ اللَّهْجَةِ وَكَانَ لَا تَسْتَخْفِهِ الْخُصُومَةُ إِلَى أَنْ يَنْتَقِصَ خَصْمَهُ، فَإِنَّهُ شَهِدَ لِعَائِشَةَ بِالْفَضْلِ التَّامِّ مَعَ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْحَرْبِ، انْتَهَى. وَفِيهِ جَوَازُ ارْتِفَاعِ ذِي الْأَمْرِ فَوْقَ مَنْ هُوَ أَسَنُّ مِنْهُ وَأَعْظَمُ سَابِقَةً فِي الْإِسْلَامِ وَفَضْلًا، لِأَنَّ الْحَسَنَ وَلَدُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَكَانَ حِينَئِذٍ هُوَ الْأَمِيرُ عَلَى مَنْ أَرْسَلَهُمْ عَلِيٌّ، وَعَمَّارٌ مِنْ جُمْلَتِهِمْ، فَصَعِدَ الْحَسَنُ أَعْلَى الْمِنْبَرِ فَكَانَ فَوْقَ عَمَّارٍ وَإِنْ كَانَ فِي عَمَّارٍ مِنَ الْفَضْلِ مَا يَقْتَضِي رُجْحَانُهُ فَضْلًا عَنْ مُسَاوَاتِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَمَّارٌ فَعَلَ ذَلِكَ تَوَاضُعًا مَعَ الْحَسَنِ وَإِكْرَامًا لَهُ مِنْ أَجْلِ جَدِّهِ صلى الله عليه وسلم وَفَعَلَهُ الْحَسَنُ مُطَاوَعَةً لَهُ لَا تَكَبُّرًا عَلَيْهِ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ حَدِيثُ أَبِي مُوسَى، وَأَبِي مَسْعُودٍ، وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِوَقْعَةِ الْجَمَلِ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي عَمْرٌو) هُوَ ابْنُ مُرَّةَ، وَصَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَكَذَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ؛ كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ.

قَوْلُهُ: (حَيْثُ بَعَثَهُ عَلِيٌّ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ يَسْتَنْفِرُهُمْ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: حِينَ بَدَلَ: حَيْثُ، وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: يَسْتَنْفِرُ أَهْلَ الْكُوفَةِ إِلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ.

قَوْلُهُ: (مَا رَأَيْنَاكَ أَتَيْتَ أَمْرًا أَكْرَهُ عِنْدَنَا مِنْ إِسْرَاعِكَ فِي هَذَا الْأَمْرِ مُنْذُ أَسْلَمْتَ) زَادَ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ الَّذِي تَوَلَّى خِطَابَ عَمَّارٍ ذَلِكَ هُوَ أَبُو مَسْعُودٍ وَهُوَ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيُّ، وَكَانَ يَوْمَئِذٍ يَلِي لِعَلِيٍّ بِالْكُوفَةِ كَمَا كَانَ أَبُو مُوسَى يَلِي لِعُثْمَانَ.

قَوْلُهُ: (وَكَسَاهُمَا حُلَّةً) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: فَكَسَاهُمَا حُلَّةً حُلَّةً وَبَيَّنَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ أَنَّ فَاعِلَ كَسَا هُوَ أَبُو مَسْعُودٍ، وَهُوَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مُحْتَمَلٌ فَيُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ رَاحُوا إِلَى الْمَسْجِدِ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: ثُمَّ خَرَجُوا إِلَى الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ: فَقَامَ أَبُو مَسْعُودٍ فَبَعَثَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُلَّةً. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيمَا دَارَ بَيْنَهُمْ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ كَانَ مُجْتَهِدًا وَيَرَى أَنَّ الصَّوَابَ مَعَهُ. قَالَ: وَكَانَ أَبُو مَسْعُودٍ مُوسِرًا جَوَادًا، وَكَانَ اجْتِمَاعُهُمْ عِنْدَ أَبِي مَسْعُودٍ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَكَسَا عَمَّارًا حُلَّةً لِيَشْهَدَ بِهَا الْجُمُعَةَ لِأَنَّهُ كَانَ فِي ثِيَابِ السَّفَرِ وَهَيْئَةِ الْحَرْبِ، فَكَرِهَ أَنْ يَشْهَدَ الْجُمُعَةَ فِي تِلْكَ الثِّيَابِ وَكَرِهَ أَنْ يَكْسُوَهُ بِحَضْرَةِ أَبِي مُوسَى وَلَا يَكْسُوَ أَبَا مُوسَى فَكَسَا أَبَا مُوسَى أَيْضًا.

وَقَوْلُهُ: أَعْيَبَ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ مِنَ الْعَيْبِ، وَجَعَلَ كُلٌّ مِنْهُمُ الْإِبْطَاءَ وَالْإِسْرَاعَ عَيْبًا بِالنِّسْبَةِ لِمَا يَعْتَقِدُهُ، فَعَمَّارٌ لِمَا فِي الْإِبْطَاءِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْإِمَامِ وَتَرْكِ امْتِثَالِ {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} وَالْآخَرَانِ لِمَا ظَهَرَ لَهُمَا مِنْ تَرْكِ مُبَاشَرَةِ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ، وَكَانَ أَبُو مَسْعُودٍ عَلَى رَأْيِ أَبِي مُوسَى فِي الْكَفِّ عَنِ الْقِتَالِ تَمَسُّكًا بِالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ وَمَا فِي حَمْلِ السِّلَاحِ عَلَى الْمُسْلِمِ مِنَ الْوَعِيدِ، وَكَانَ عَمَّارٌ عَلَى رَأْيِ عَلِيٍّ فِي قِتَالِ الْبَاغِينَ وَالنَّاكِثِينَ وَالتَّمَسُّكِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} وَحَمَلَ الْوَعِيدَ الْوَارِدَ فِي الْقِتَالِ عَلَى مَنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا عَلَى صَاحِبِهِ.

(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ وَكَذَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ قَبْلَ سِيَاقِ سَنَدِ ابْنِ أَبِي غَنِيَّةَ بَابٌ بِغَيْرِ تَرْجَمَةٍ، وَسَقَطَ لِلْبَاقِينَ وَهُوَ الصَّوَابُ لِأَنَّ فِيهِ الْحَدِيثَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ زِيَادَةٌ فِي الْقِصَّةِ.

ص: 59

‌19 - بَاب: إِذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا

7108 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا أَصَابَ الْعَذَابُ مَنْ كَانَ فِيهِمْ، ثُمَّ بُعِثُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ.

قَوْلُهُ: (بَاب: إِذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا) حُذِفَ الْجَوَابُ اكْتِفَاءً بِمَا وَقَعَ فِي الْحَدِيثِ.

قَوْلُهُ: (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ) هُوَ عَبَدَانُ، وَعَبْدُ اللَّهِ شَيْخُهُ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَيُونُسُ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ.

قَوْلُهُ: (إِذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا)؛ أَيْ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى سَيِّئِ أَعْمَالِهِمْ.

قَوْلُهُ: (أَصَابَ الْعَذَابُ مَنْ كَانَ فِيهِمْ) فِي رِوَايَةِ أَبِي النُّعْمَانِ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ: أَصَابَ بِهِ مَنْ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ. أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَالْمُرَادُ مَنْ كَانَ فِيهِمْ مِمَّنْ لَيْسَ هُوَ عَلَى رَأْيِهِمْ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ بُعِثُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ) أَيْ بُعِثَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى حَسَبِ عَمَلِهِ إِنْ كَانَ صَالِحًا فَعُقْبَاهُ صَالِحَةٌ وَإِلَّا فَسَيِّئَةٌ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الْعَذَابُ طُهْرَةً لِلصَّالِحَيْنِ وَنِقْمَةٌ عَلَى الْفَاسِقِينَ. وَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَنْزَلَ سَطْوَتَهُ بِأَهْلِ نِقْمَتِهِ وَفِيهِمُ الصَّالِحُونَ قُبِضُوا مَعَهُمْ ثُمَّ بُعِثُوا عَلَى نِيَّاتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ. وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْهَا مَرْفُوعًا: إِذَا ظَهَرَ السُّوءُ فِي الْأَرْضِ أَنْزَلَ اللَّهُ بَأْسَهُ فِيهِمْ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَفِيهِمْ أَهْلُ طَاعَتِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ يُبْعَثُونَ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذَا الْحَدِيثُ يُبَيِّنُ حَدِيثَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ حَيْثُ قَالَتْ: أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ. فَيَكُونُ إِهْلَاكُ الْجَمِيعِ عِنْدَ ظُهُورِ الْمُنْكَرِ وَالْإِعْلَانِ بِالْمَعَاصِي. قُلْتُ: الَّذِي يُنَاسِبُ كَلَامَهُ الْأَخِيرَ حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ أَخْرَجَهُ الْأَرْبَعَةُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي الْبَابِ وَحَدِيثُ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ فَمُتَنَاسِبَانِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَقِبَهُ، وَيَجْمَعُهُمَا أَنَّ الْهَلَاكَ يَعُمُّ الطَّائِعَ مَعَ الْعَاصِي، وَزَادَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ الطَّائِعَ عِنْدَ الْبَعْثِ يُجَازَى بِعَمَلِهِ، وَمِثْلُهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: الْعَجَبُ أَنَّ نَاسًا مِنْ أُمَّتِي يَؤُمُّونَ هَذَا الْبَيْتَ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْبَيْدَاءِ خُسِفَ بِهِمْ.

فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الطَّرِيقَ قَدْ تَجْمَعُ النَّاسَ، قَالَ: نَعَمْ فِيهِمُ الْمُسْتَبْصِرُ وَالْمَجْبُورُ وَابْنُ السَّبِيلِ يَهْلِكُونَ مَهْلَكًا وَاحِدًا وَيَصْدُرُونَ مَصَادِرَ شَتَّى، يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ عَلَى نِيَّاتِهِمْ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ نَحْوُهُ وَلَفْظُهُ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَكَيْفَ بِمَنْ كَانَ كَارِهًا؟ قَالَ: يُخْسَفُ بِهِ مَعَهُمْ وَلَكِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى نِيَّتِهِ وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رَفَعَهُ: يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: مَعْنَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ الْأُمَمَ الَّتِي تُعَذَّبُ عَلَى الْكُفْرِ يَكُونُ بَيْنَهُمْ أَهْلُ أَسْوَاقِهِمْ وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ فَيُصَابُ جَمِيعُهُمْ بِآجَالِهِمْ ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَيُقَالُ: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عَذَابَ أُمَّةٍ أَعْقَمَ نِسَاءَهُمْ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً قَبْلَ أَنْ يُصَابُوا لِئَلَّا يُصَابَ الْوِلْدَانُ الَّذِينَ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِمُ الْقَلَمُ انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ، وَعُمُومُ حَدِيثِ عَائِشَةَ يَرُدُّهُ، وَقَدْ شُوهِدَتِ السَّفِينَةُ مَلْأَى مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ تَغْرَقُ فَيَهْلِكُونَ جَمِيعًا، وَمِثْلُهُ الدَّارُ الْكَبِيرَةُ تُحْرَقُ، وَالرُّفْقَةُ الْكَثِيرَةُ تَخْرُجُ عَلَيْهَا قُطَّاعُ الطَّرِيقِ فَيَهْلِكُونَ جَمِيعًا أَوْ أَكْثَرُهُمْ، وَالْبَلَدُ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ يَهْجُمُهَا الْكُفَّارُ فَيَبْذُلُونَ السَّيْفَ فِي أَهْلِهَا، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنَ الْخَوَارِجِ قَدِيمًا ثُمَّ مِنَ الْقَرَامِطَةِ ثُمَّ مِنَ الطَّطَرِ أَخِيرًا وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: أَوْرَدَ مُسْلِمٌ حَدِيثَ جَابِرٍ: يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ تعَقِبَ حَدِيثِ جَابِرٍ أَيْضًا، رَفَعَهُ:

ص: 60

لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ مُفَسِّرٌ لَهُ، ثُمَّ أَعْقَبَهُ بِحَدِيثِ ثُمَّ بُعِثُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ مُشِيرًا إِلَى أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُفَسِّرًا لِمَا قَبْلَهُ لَكِنَّهُ لَيْسَ مَقْصُورًا عَلَيْهِ بَلْ هُوَ عَامٌّ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ بَعْدَهُ ثُمَّ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ عَلَى نِيَّاتِهِمْ انْتَهَى. مُلَخَّصًا. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الِاشْتِرَاكِ فِي الْمَوْتِ الِاشْتِرَاكُ فِي الثَّوَابِ أَوِ الْعِقَابِ بَلْ يُجَازَى كُلُّ أَحَدٍ بِعَمَلِهِ عَلَى حَسَبِ نِيَّتِهِ.

وَجَنَحَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ إِلَى أَنَّ الَّذِينَ يَقَعُ لَهُمْ ذَلِكَ إِنَّمَا يَقَعُ بِسَبَبِ سُكُوتِهِمْ عَنِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَمَّا مَنْ أَمَرَ وَنَهَى فَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَا يُرْسِلُ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ بَلْ يَدْفَعُ بِهِمُ الْعَذَابَ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} وَيَدُلُّ عَلَى تَعْمِيمِ الْعَذَابِ لِمَنْ لَمْ يَنْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَإِنْ لَمْ يَتَعَاطَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا مَشْرُوعِيَّةُ الْهَرَبِ مِنَ الْكُفَّارِ وَمِنَ الظَّلَمَةِ؛ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ مَعَهُمْ مِنْ إِلْقَاءِ النَّفْسِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، هَذَا إِذَا لَمْ يُعِنْهُمْ وَلَمْ يَرْضَ بِأَفْعَالِهِمْ، فَإِنْ أَعَانَ أَوْ رَضِيَ فَهُوَ مِنْهُمْ، وَيُؤَيِّدُهُ أَمْرُهُ صلى الله عليه وسلم بِالْإِسْرَاعِ فِي الْخُرُوجِ مِنْ دِيَارِ ثَمُودَ.

وَأَمَّا بَعْثُهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ فَحُكْمٌ عَدْلٌ لِأَنَّ أَعْمَالَهُمُ الصَّالِحَةَ إِنَّمَا يُجَازَوْنَ بِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَمَهْمَا أَصَابَهُمْ مِنْ بَلَاءٍ كَانَ تَكْفِيرًا لِمَا قَدَّمُوهُ مِنْ عَمَلٍ سَيِّئٍ، فَكَانَ الْعَذَابُ الْمُرْسَلُ فِي الدُّنْيَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا يَتَنَاوَلُ مَنْ كَانَ مَعَهُمْ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ ذَلِكَ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى مُدَاهَنَتِهِمْ، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُبْعَثُ كُلٌّ مِنْهُمْ فَيُجَازَى بِعَمَلِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ تَحْذِيرٌ وَتَخْوِيفٌ عَظِيمٌ لِمَنْ سَكَتَ عَنِ النَّهْيِ، فَكَيْفَ بِمَنْ دَاهَنَ، فَكَيْفَ بِمَنْ رَضِيَ، فَكَيْفَ بِمَنْ عَاوَنَ؟ نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ.

قُلْتُ: وَمُقْتَضَى كَلَامِهِ أَنَّ أَهْلَ الطَّاعَةِ لَا يُصِيبُهُمُ الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا بِجَرِيرَةِ الْعُصَاةِ، وَإِلَى ذَلِكَ جَنَحَ الْقُرْطُبِيُّ فِي التَّذْكِرَةِ وَمَا قَدَّمْنَاهُ قَرِيبًا أَشْبَهُ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ. وَإِلَى نَحْوِهِ مَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ: أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ فِي آخَرِ كِتَابِ الْفِتَنِ.

‌20 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ إِنَّ ابْنِي هَذَا لَسَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ

7109 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ أَبُو مُوسَى وَلَقِيتُهُ بِالْكُوفَةِ جَاءَ إِلَى ابْنِ شُبْرُمَةَ فَقَالَ: أَدْخِلْنِي عَلَى عِيسَى فَأَعِظَهُ، فَكَأَنَّ ابْنَ شُبْرُمَةَ خَافَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَفْعَلْ. قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: لَمَّا سَارَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رضي الله عنهما إِلَى مُعَاوِيَةَ بِالْكَتَائِبِ قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، لِمُعَاوِيَةَ: أَرَى كَتِيبَةً لَا تُوَلِّي حَتَّى تُدْبِرَ أُخْرَاهَا. قَالَ مُعَاوِيَةُ: مَنْ لِذَرَارِيِّ الْمُسْلِمِينَ؟ فَقَالَ: أَنَا. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ: نَلْقَاهُ فَنَقُولُ لَهُ: الصُّلْحَ. قَالَ الْحَسَنُ: وَلَقَدْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ قَالَ: بَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ جَاءَ الْحَسَنُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ.

7110 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: قَالَ عَمْرٌو:، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ أَنَّ حَرْمَلَةَ مَوْلَى أُسَامَةَ أَخْبَرَهُ قَالَ عَمْرٌو وقَدْ رَأَيْتُ حَرْمَلَةَ قَالَ: أَرْسَلَنِي أُسَامَةُ إِلَى عَلِيٍّ وَقَالَ: إِنَّهُ سَيَسْأَلُكَ الْآنَ فَيَقُولُ:

ص: 61

مَا خَلَّفَ صَاحِبَكَ؟ فَقُلْ لَهُ: يَقُولُ لَكَ لَوْ كُنْتَ فِي شِدْقِ الْأَسَدِ لَأَحْبَبْتُ أَنْ أَكُونَ مَعَكَ فِيهِ، وَلَكِنَّ هَذَا أَمْرٌ لَمْ أَرَهُ. فَلَمْ يُعْطِنِي شَيْئًا، فَذَهَبْتُ إِلَى حَسَنٍ، وَحُسَيْنٍ، وَابْنِ جَعْفَرٍ فَأَوْقَرُوا لِي رَاحِلَتِي.

قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: إِنَّ ابْنِي هَذَا لَسَيِّدٌ) فِي رِوَايَةِ الْمَرْوَزِيِّ، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ سَيِّدٌ بِغَيْرِ لَامٍ، وَكَذَا لَهُمْ فِي مِثْلِ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ، وَبِحَذْفِ إِنَّ، وَسَاقَ الْمَتْنَ هُنَاكَ بِلَفْظِ إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَسَاقَهُ هُنَا بِحَذْفِهَا فَأَشَارَ فِي كُلٍّ مِنَ الْمَوْضِعَيْنِ إِلَى مَا وَقَعَ فِي الْآخَرِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ هُنَاكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ سُفْيَانَ بِتَمَامِهِ، ثُمَّ نَقَلَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِسَمَاعِ الْحَسَنِ مِنْ أَبِي بَكْرَةَ وَسَاقَهُ هُنَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ، وَلَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْمَتْنِ لَسَيِّدٌ بِاللَّامِ كَمَا وَقَعَ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ سَبْعَةِ أَنْفُسٍ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَبَيَّنَ اخْتِلَافَ أَلْفَاظِهِمْ، وَذَكَرَ فِي الْبَابِ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ وَحَدِيثًا لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ أَبُو مُوسَى) هِيَ كُنْيَةُ إِسْرَائِيلَ، وَاسْمُ أَبِيهِ مُوسَى، فَهُوَ مِمَّنْ وَافَقَتْ كُنْيَتُهُ اسْمَ أَبِيهِ، فَيُؤْمَنُ فِيهِ مِنَ التَّصْحِيفِ، وَهُوَ بَصْرِيٌّ كَانَ يُسَافِرُ فِي التِّجَارَةِ إِلَى الْهِنْدِ، وَأَقَامَ بِهَا مُدَّةً.

قَوْلُهُ: (وَلَقِيتُهُ بِالْكُوفَةِ) قَائِلُ ذَلِكَ هُوَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ.

قَوْلُهُ: (وَجَاءَ إِلَى ابْنِ شُبْرُمَةَ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ قَاضِي الْكُوفَةِ فِي خِلَافَةِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، وَمَاتَ فِي خِلَافَتِهِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، وَكَانَ صَارِمًا عَفِيفًا ثِقَةً فَقِيهًا.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: أَدْخِلْنِي عَلَى عِيسَى فَأَعِظَهُ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الظَّاءِ الْمُشَالَةِ مِنَ الْوَعْظِ، وَعِيسَى هُوَ ابْنُ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ابْنُ أَخِي الْمَنْصُورِ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى الْكُوفَةِ إِذْ ذَاكَ.

قَوْلُهُ (فَكَأَنَّ) بِالتَّشْدِيدِ (ابْنَ شُبْرُمَةَ خَافَ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى إِسْرَائِيلَ (فَلَمْ يَفْعَلْ) أَيْ: فَلَمْ يُدْخِلْهُ عَلَى عِيسَى بْنِ مُوسَى، وَلَعَلَّ سَبَبَ خَوْفِهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ صَادِعًا بِالْحَقِّ فَخَشِيَ أَنَّهُ لَا يَتَلَطَّفُ بِعِيسَى فَيَبْطِشُ بِهِ لِمَا عِنْدَهُ مِنْ غِرَّةِ الشَّبَابِ وَغِرَّةِ الْمُلْكِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: دَلَّ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعِ ابْنِ شُبْرُمَةَ عَلَى أَنَّ مَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ سَقَطَ عَنْهُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَكَانَتْ وَفَاةُ عِيسَى الْمَذْكُورِ فِي خِلَافَةِ الْمَهْدِيِّ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ.

قَوْلُهُ: (قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ) يَعْنِي الْبَصْرِيَّ وَالْقَائِلُ حَدَّثَنَا هُوَ إِسْرَائِيلُ الْمَذْكُورُ، قَالَ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ خَلَفِ بْنِ خَلِيفَةَ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: لَا نَعْلَمُ رَوَاهُ عَنْ إِسْرَائِيلَ غَيْرَ سُفْيَانَ، وَتَعَقَّبَهُ مُغَلْطَايْ بِأَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَهُ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ مِنْ طَرِيقِ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ الْجُعْفِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى وَهُوَ إِسْرَائِيلُ هَذَا، وَهُوَ تَعَقُّبٌ جَيِّدٌ وَلَكِنْ لَمْ أَرَ فِيهِ الْقِصَّةَ وَإِنَّمَا أَخْرَجَ فِيهِ الْحَدِيثَ الْمَرْفُوعَ فَقَطْ.

قَوْلُهُ: (لَمَّا سَارَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِالْكَتَائِبِ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ سُفْيَانَ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ: اسْتَقْبَلَ وَاللَّهِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، مُعَاوِيَةَ بِكَتَائِبَ أَمْثَالِ الْجِبَالِ وَالْكَتَائِبُ بِمُثَنَّاةٍ وَآخِرُهُ مُوَحَّدَةٌ جَمْعُ كَتِيبَةٍ بِوَزْنِ عَظِيمَةٍ وَهِيَ طَائِفَةٌ مِنَ الْجَيْشِ تَجْتَمِعُ وَهِيَ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ لِأَنَّ أَمِيرَ الْجَيْشِ إِذَا رَتَّبَهُمْ وَجَعَلَ كُلَّ طَائِفَةٍ عَلَى حِدَةٍ كَتَبَهُمْ فِي دِيوَانِهِ كَذَلِكَ، ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ، وَمِنْهُ قِيلَ: مَكْتَبُ بَنِي فُلَانٍ، قَالَ وَقَوْلُهُ أَمْثَالُ الْجِبَالِ أَيْ لَا يُرَى لَهَا طَرَفٌ لِكَثْرَتِهَا كَمَا لَا يَرَى مَنْ قَابَلَ الْجَبَلَ طَرَفَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ شِدَّةَ الْبَأْسِ. وَأَشَارَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ إِلَى مَا اتَّفَقَ بَعْدَ قَتْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه، وَكَانَ عَلِيٌّ لَمَّا انْقَضَى أَمْرُ التَّحْكِيمِ وَرَجَعَ إِلَى الْكُوفَةِ تَجَهَّزَ لِقِتَالِ أَهْلِ الشَّامِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، فَشَغَلَهُ أَمْرُ الْخَوَارِجِ بِالنَّهْرَوَانِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ، ثُمَّ تَجَهَّزَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ فَلَمْ يَتَهَيَّأْ ذَلِكَ لِافْتِرَاقِ آرَاءِ أَهْلِ الْعِرَاقِ عَلَيْهِ، ثُمَّ وَقَعَ الْجِدُّ مِنْهُ فِي ذَلِكَ فِي سَنَةِ أَرْبَعِينَ، فَأَخْرَجَ

ص: 62

إِسْحَاقُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ سِيَاهٍ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ آخِرِ الْحُرُوفِ قَالَ: لَمَّا خَرَجَ الْخَوَارِجُ قَامَ عَلِيٌّ فَقَالَ: أَتَسِيرُونَ إِلَى الشَّامِ أَوْ تَرْجِعُونَ إِلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ خَلَّفُوكُمْ فِي دِيَارِكُمْ؟ قَالُوا: بَلْ نَرْجِعُ إِلَيْهِمْ، فَذَكَرَ قِصَّةَ الْخَوَارِجِ.

قَالَ: فَرَجَعَ عَلِيٌّ إِلَى الْكُوفَةِ، فَلَمَّا قُتِلَ وَاسْتَخْلَفَ الْحَسَنُ، وَصَالَحَ، مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَى قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ بِذَلِكَ، فَرَجَعَ عَنْ قِتَالِ مُعَاوِيَةَ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: جَعَلَ عَلِيٌّ عَلَى مُقَدِّمَةِ أَهْلِ الْعِرَاقِ قَيْسَ بْنَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَكَانُوا أَرْبَعِينَ أَلْفًا بَايَعُوهُ عَلَى الْمَوْتِ، فَقُتِلَ عَلِيٌّ فَبَايَعُوا الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ بِالْخِلَافَةِ، وَكَانَ لَا يُحِبُّ الْقِتَالَ، وَلَكِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى مُعَاوِيَةَ لِنَفْسِهِ، فَعَرَفَ أَنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ لَا يُطَاوِعُهُ عَلَى الصُّلْحِ، فَنَزَعَهُ وَأَمَّرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ فَاشْتَرَطَ لِنَفْسِهِ كَمَا اشْتَرَطَ الْحَسَنُ.

وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَاشِدٍ قَالَ: بَعَثَ الْحَسَنُ، قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا - يَعْنِي مِنَ الْأَرْبَعِينَ - فَسَارَ قَيْسٌ إِلَى جِهَةِ الشَّامِ. وَكَانَ مُعَاوِيَةُ لَمَّا بَلَغَهُ قَتْلُ عَلِيٍّ خَرَجَ فِي عَسَاكِرَ مِنَ الشَّامِ، وَخَرَجَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ حَتَّى نَزَلَ الْمَدَائِنَ، فَوَصَلَ مُعَاوِيَةُ إِلَى مَسْكَنٍ وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: ذَكَرَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ أَنَّ عَلِيًّا لَمَّا قُتِلَ سَارَ مُعَاوِيَةُ يُرِيدُ الْعِرَاقَ وَسَارَ الْحَسَنُ يُرِيدُ الشَّامَ فَالْتَقَيَا بِمَنْزِلٍ مِنْ أَرْضِ الْكُوفَةِ، فَنَظَرَ الْحَسَنُ إِلَى كَثْرَةِ مَنْ مَعَهُ فَنَادَى: يَا مُعَاوِيَةُ إِنِّي اخْتَرْتُ مَا عِنْدَ اللَّهِ، فَإِنْ يَكُنْ هَذَا الْأَمْرُ لَكَ فَلَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أُنَازِعَكَ فِيهِ، وَإِنْ يَكُنْ لِي فَقَدْ تَرَكْتُهُ لَكَ، فَكَبَّرَ أَصْحَابُ مُعَاوِيَةَ.

وَقَالَ الْمُغِيرَةُ عِنْدَ ذَلِكَ: أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، الْحَدِيثَ وَقَالَ فِي آخِرِهِ: فَجَزَاكَ اللَّهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، انْتَهَى وَفِي صِحَّةِ هَذَا نَظَرٌ مِنْ أَوْجُهٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَحْفُوظَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ هُوَ الَّذِي بَدَأَ بِطَلَبِ الصُّلْحِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ الثَّانِي أَنَّ الْحَسَنَ، وَمُعَاوِيَةَ لَمْ يَتَلَاقَيَا بِالْعَسْكَرَيْنِ حَتَّى يُمْكِنَ أَنْ يَتَخَاطَبَا وَإِنَّمَا تَرَاسَلَا، فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ: فَنَادَى يَا مُعَاوِيَةُ عَلَى الْمُرَاسَلَةِ، وَيُجْمَعُ بِأَنَّ الْحَسَنَ رَاسَلَ مُعَاوِيَةَ بِذَلِكَ سِرًّا فَرَاسَلَهُ مُعَاوِيَةُ جَهْرًا.

وَالْمَحْفُوظُ أَنَّ كَلَامَ الْحَسَنِ الْأَخِيرَ إِنَّمَا وَقَعَ بَعْدَ الصُّلْحِ وَالِاجْتِمَاعِ كَمَا أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ طَرِيقِهِ وَمِنْ طَرِيقِ غَيْرِهِ بِسَنَدِهِمَا إِلَى الشَّعْبِيِّ قَالَ: لَمَّا صَالَحَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، مُعَاوِيَةَ ; قَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ قُمْ فَتَكَلَّمْ، فَقَامَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنَّ أَكْيَسَ الْكَيْسِ التُّقَى وَإِنَّ أَعْجَزَ الْعَجْزِ الْفُجُورُ، أَلَا وَإِنَّ هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي اخْتَلَفْتُ فِيهِ أَنَا وَمُعَاوِيَةُ حَقٌّ لِامْرِئٍ كَانَ أَحَقَّ بِهِ مِنِّي، أَوْ حَقٌّ لِي تَرَكْتُهُ لِإِرَادَةِ إِصْلَاحِ الْمُسْلِمِينَ وَحَقْنِ دِمَائِهِمْ، وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ. ثُمَّ اسْتَغْفَرَ وَنَزَلَ.

وَأَخْرَجَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ وَمِنْ طَرِيقِهِ أَيْضًا الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ وَفِيهَا: فَخَطَبَ مُعَاوِيَةُ ثُمَّ قَالَ: قُمْ يَا حَسَنُ فَكَلِّمِ النَّاسَ، فَتَشَهَّدَ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ هَدَاكُمْ بِأَوَّلِنَا وَحَقَنَ دِمَاءَكُمْ بِآخِرِنَا، وَإِنَّ لِهَذَا الْأَمْرِ مُدَّةً وَالدُّنْيَا دُوَلٌ. وَذَكَرَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ.

وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْحَدِيثَ لِأَبِي بَكْرَةَ لَا لِلْمُغِيرَةِ، لَكِنَّ الْجَمْعَ مُمْكِنٌ بِأَنْ يَكُونَ الْمُغِيرَةُ حَدَّثَ بِهِ عِنْدَمَا سَمِعَ مُرَاسَلَةَ الْحَسَنِ بِالصُّلْحِ وَحَدَّثَ بِهِ أَبُو بَكْرَةَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ رَوَى أَصْلَ الْحَدِيثِ جَابِرٌ أَوْرَدَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ فَوَائِدِ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ إِلَى جَابِرٍ، وَأَوْرَدَهُ الضِّيَاءُ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُخْتَارَةِ مِمَّا لَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَعَجِبْتُ لِلْحَاكِمِ فِي عَدَمِ اسْتِدْرَاكِهِ مَعَ شِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى مِثْلِهِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: سَلَّمَ الْحَسَنُ، لِمُعَاوِيَةَ الْأَمْرَ وَبَايَعَهُ عَلَى إِقَامَةِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، وَدَخَلَ مُعَاوِيَةُ الْكُوفَةَ وَبَايَعَهُ النَّاسُ فَسُمِّيَتْ سَنَةَ الْجَمَاعَةِ لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ وَانْقِطَاعِ الْحَرْبِ. وَبَايَعَ مُعَاوِيَةُ كُلَّ مَنْ كَانَ مُعْتَزِلًا لِلْقِتَالِ كَابْنِ عُمَرَ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، وَأَجَازَ مُعَاوِيَةُ، الْحَسَنَ بِثَلَاثِمِائَةِ أَلْفٍ وَأَلْفِ ثَوْبٍ وَثَلَاثِينَ عَبْدًا وَمِائَةِ جَمَلٍ، وَانْصَرَفَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَوَلَّى مُعَاوِيَةُ الْكُوفَةَ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ وَالْبَصْرَةَ عَبْدَ

ص: 63

اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ وَرَجَعَ إِلَى دِمَشْقَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، لِمُعَاوِيَةَ: أَرَى كَتِيبَةً لَا تُوَلِّي) بِالتَّشْدِيدِ أَيْ لَا تُدْبِرُ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى تُدْبِرَ أُخْرَاهَا) أَيِ الَّتِي تُقَابِلُهَا، وَنَسَبَهَا إِلَيْهَا لِتُشَارِكَهُمَا فِي الْمُحَارَبَةِ، وَهَذَا عَلَى أَنْ يُدْبِرَ مَنْ أَدْبَرَ رُبَاعِيًّا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ دَبُرَ يَدْبُرُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ يَقُومُ مَقَامَهَا، يُقَالُ دَبُرْتُهُ إِذَا بَقِيتُ بَعْدَهُ، وَتَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ فِي الصُّلْحِ إِنِّي لَأَرَى كَتَائِبَ لَا تُوَلِّي حَتَّى تَقْتُلَ أَقْرَانَهَا وَهِيَ أَبْيَنُ، قَالَ عِيَاضٌ: هِيَ الصَّوَابُ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ الْأُخْرَى خَطَأٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ تَوْجِيهُهَا مَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنْ تُرَادَ الْكَتِيبَةُ الْأَخِيرَةُ الَّتِي هِيَ مِنْ جُمْلَةِ تِلْكَ الْكَتَائِبِ، أَيْ لَا يَنْهَزِمُونَ بِأَنْ تَرْجِعَ الْأُخْرَى أَوْلَى.

قَوْلُهُ: (قَالَ مُعَاوِيَةُ مَنْ لِذَرَارِيِّ الْمُسْلِمِينَ) أَيْ مَنْ يَكْفُلُهُمْ إِذَا قُتِلَ آبَاؤُهُمْ؟ زَادَ فِي الصُّلْحِ: فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ وَكَانَ وَاللَّهِ خَيْرَ الرَّجُلَيْنِ - يَعْنِي مُعَاوِيَةَ -: أَيْ عَمْرُو إِنْ قَتَلَ هَؤُلَاءِ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ هَؤُلَاءِ مَنْ لِي بِأُمُورِ النَّاسِ، مَنْ لِي بِنِسَائِهِمْ، مَنْ لِي بِضَيْعَتِهِمْ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ رِجَالَ الْعَسْكَرَيْنِ مُعْظَمُ مَنْ فِي الْإِقْلِيمَيْنِ فَإِذَا قُتِلُوا ضَاعَ أَمْرُ النَّاسِ وَفَسَدَ حَالُ أَهْلِهِمْ بَعْدَهُمْ وَذَرَارِيهِمْ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ضَيْعَتِهِمْ الْأَطْفَالُ وَالضُّعَفَاءُ سُمُّوا بِاسْمِ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ لِأَنَّهُمْ إِذَا تُرِكُوا ضَاعُوا لِعَدَمِ اسْتِقْلَالِهِمْ بِأَمْرِ الْمَعَاشِ، وَفِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: مَنْ لِي بِأُمُورِهِمْ، مَنْ لِي بِدِمَائِهِمْ، مَنْ لِي بِنِسَائِهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ هُنَا فِي جَوَابِ قَوْلِ مُعَاوِيَةَ: مَنْ لِذَرَارِيِّ الْمُسْلِمِينَ؟ فَقَالَ: أَنَا. فَظَاهِرُهُ يُوهِمُ أَنَّ الْمُجِيبَ بِذَلِكَ هُوَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَلَمْ أَرَ فِي طُرُقِ الْخَبَرِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَتْ مَحْفُوظَةً فَلَعَلَّهَا كَانَتْ: فَقَالَ أَنَّى بِتَشْدِيدِ النُّونِ الْمَفْتُوحَةِ قَالَهَا عَمْرٌو عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِبْعَادِ.

وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ فِي بَعْثِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ فَذَكَرَ أَخْبَارًا كَثِيرَةً مِنَ التَّارِيخِ إِلَى أَنْ قَالَ: وَكَانَ قَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ عَلَى مُقَدِّمَةِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ سِجِلًّا قَدْ خُتِمَ فِي أَسْفَلِهِ فَقَالَ: اكْتُبْ فِيهِ مَا تُرِيدُ فَهُوَ لَكَ، فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: بَلْ نُقَاتِلُهُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ - وَكَانَ خَيْرَ الرَّجُلَيْنِ -: عَلَى رِسْلِكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، لَا تَخْلُصْ إِلَى قَتْلِ هَؤُلَاءِ حَتَّى يُقْتَلَ عَدَدُهُمْ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَمَا خَيْرُ الْحَيَاةِ بَعْدَ ذَلِكَ؟ وَإِنِّي وَاللَّهِ لَا أُقَاتِلُ حَتَّى لَا أَجِدَ مِنَ الْقِتَالِ بُدًّا.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ: نَلْقَاهُ فَنَقُولُ لَهُ الصُّلْحَ) أَيْ تشِيرُ عَلَيْهِ بِالصُّلْحِ، وَهَذَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُمَا بَدَآ بِذَلِكَ، وَالَّذِي تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ هُوَ الَّذِي بَعَثَهُمَا، فَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّهُمَا عَرَضَا أَنْفُسَهُمَا فَوَافَقَهُمَا وَلَفْظُهُ هُنَاكَ فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ أَيِ ابْنُ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ. زَادَ الْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ قَالَ سُفْيَانُ: وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ قُلْتُ: وَهُوَ رَاوِي حَدِيثِ لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ وَسَيَأْتِي شَيْءٌ مِنْ خَبَرِهِ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ.

وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ بِكَافٍ وَرَاءٍ ثُمَّ زَايٍ مُصَغَّرٌ زَادَ الْحُمَيْدِيُّ ابْنُ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ وَقَدْ مَضَى لَهُ ذِكْرٌ فِي كِتَابِ الْحَجِّ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ الَّذِي وَلَّاهُ مُعَاوِيَةُ الْبَصْرَةَ بَعْدَ الصُّلْحِ، وَبَنُو حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ بَنُو عَمِّ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَمُعَاوِيَةُ هُوَ ابْنُ أَبِي سُفْيَانَ صَخْرُ بْنُ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ (فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: اذْهَبَا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فَاعْرِضَا عَلَيْهِ) أَيْ مَا شَاءَ مِنَ الْمَالِ (وَقُولَا لَهُ) أَيْ فِي حَقْنِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِالصُّلْحِ (وَاطْلُبَا إِلَيْهِ) أَيِ اطْلُبَا مِنْهُ خَلْعَهُ نَفْسَهُ مِنَ الْخِلَافَةِ وَتَسْلِيمَ الْأَمْرِ لِمُعَاوِيَةَ وَابْذُلَا لَهُ فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ مَا شَاءَ (قَالَ فَقَالَ لَهُمَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ: إِنَّا بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَدْ أَصَبْنَا مِنْ هَذَا الْمَالِ، وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ قَدْ عَاثَتْ فِي دِمَائِهَا، قَالَا فَإِنَّهُ يَعْرِضُ عَلَيْكَ كَذَا وَكَذَا وَيَطْلُبُ إِلَيْكَ وَيَسْأَلُكَ، قَالَ فَمَنْ لِي بِهَذَا؟ قَالَا: نَحْنُ لَكَ بِهِ فَمَا سَأَلَهُمَا شَيْئًا إِلَّا قَالَا نَحْنُ لَكَ بِهِ، فَصَالَحَهُ).

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ هُوَ الرَّاغِبَ فِي

ص: 64

الصُّلْحِ وَأَنَّهُ عَرَضَ عَلَى الْحَسَنِ الْمَالَ وَرَغَّبَهُ فِيهِ وَحَثَّهُ عَلَى رَفْعِ السَّيْفِ وَذَكَّرَهُ مَا وَعَدَهُ بِهِ جَدُّهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ سِيَادَتِهِ فِي الْإِصْلَاحِ بِهِ، فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ: إِنَّا بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَصَبْنَا مِنْ هَذَا الْمَالِ، أَيْ إِنَّا جُبِلْنَا عَلَى الْكَرَمِ وَالتَّوْسِعَةِ عَلَى أَتْبَاعِنَا مِنَ الْأَهْلِ وَالْمَوَالِي وَكُنَّا نَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ بِالْخِلَافَةِ حَتَّى صَارَ ذَلِكَ لَنَا عَادَةً، وَقَوْلُهُ إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ أَيِ الْعَسْكَرَيْنِ الشَّامِيَّ وَالْعِرَاقِيَّ قَدْ عَاثَتْ بِالْمُثَلَّثَةِ - أَيْ قَتَلَ بَعْضُهَا بَعْضًا فَلَا يَكُفُّونَ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا بِالصَّفْحِ عَمَّا مَضَى مِنْهُمْ وَالتَّأَلُّفِ بِالْمَالِ. وَأَرَادَ الْحَسَنُ بِذَلِكَ كُلِّهِ تَسْكِينَ الْفِتْنَةِ وَتَفْرِقَةَ الْمَالِ عَلَى مَنْ لَا يُرْضِيهِ إِلَّا الْمَالُ، فَوَافَقَاهُ عَلَى مَا شَرَطَ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ، وَالْتَزَمَا لَهُ مِنَ الْمَالِ فِي كُلِّ عَامٍ وَالثِّيَابِ وَالْأَقْوَاتِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِكُلِّ مَنْ ذُكِرَ. وَقَوْلُهُ: مَنْ لِي بِهَذَا أَيْ: مَنْ يَضْمَنُ لِيَ الْوَفَاءَ مِنْ مُعَاوِيَةَ؟ فَقَالَا: نَحْنُ نَضْمَنُ لِأَنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ فَوَّضَ لَهُمَا ذَلِكَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: أَصَبْنَا مِنْ هَذَا الْمَالِ أَيْ فَرَّقْنَا مِنْهُ فِي حَيَاةِ عَلِيٍّ وَبَعْدَهُ مَا رَأَيْنَا فِي ذَلِكَ صَلَاحًا فَنَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ خَشْيَةَ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا تَصَرَّفَ فِيهِ. وَفِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَاشِدٍ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ: فَبَعَثَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ، عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَمُرَةَ بْنِ حَبِيبٍ.

كَذَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ، وَكَذَا وَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَالَّذِي فِي الصَّحِيحِ أَصَحُّ، وَلَعَلَّ عَبْدَ اللَّهِ كَانَ مَعَ أَخِيهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ فَقَدِمَا عَلَى الْحَسَنِ بِالْمَدَائِنِ فَأَعْطَيَاهُ مَا أَرَادَ، وَصَالَحَاهُ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْكُوفَةِ خَمْسَةَ آلَافِ أَلْفٍ فِي أَشْيَاءَ اشْتَرَطَهَا. وَمِنْ طَرِيقِ عَوَانَةَ بْنِ الْحَكَمِ نَحْوُهُ وَزَادَ وَكَانَ الْحَسَنُ صَالَحَ مُعَاوِيَةَ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ لَهُ مَا فِي بَيْتِ مَالِ الْكُوفَةِ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ خَرَاجُ دَارِ أَبْجِرْدَ.

وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ فِي كِتَابِ الْخَوَارِجِ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ إِلَى أَبِي بَصْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ إِنِّي اشْتَرَطْتُ عَلَى مُعَاوِيَةَ لِنَفْسِيَ الْخِلَافَةَ بَعْدَهُ.

وَأَخْرَجَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ إِلَى الزُّهْرِيِّ قَالَ: كَاتَبَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ مُعَاوِيَةَ وَاشْتَرَطَ لِنَفْسِهِ فَوَصَلَتِ الصَّحِيفَةُ لِمُعَاوِيَةَ وَقَدْ أَرْسَلَ إِلَى الْحَسَنِ يَسْأَلُهُ الصُّلْحَ وَمَعَ الرَّسُولِ صَحِيفَةٌ بَيْضَاءُ مَخْتُومٌ عَلَى أَسْفَلِهَا، وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنِ اشْتَرِطْ مَا شِئْتَ فَهُوَ لَكَ، فَاشْتَرَطَ الْحَسَنُ أَضْعَافَ مَا كَانَ سَأَلَ أَوَّلًا، فَلَمَّا الْتَقَيَا وَبَايَعَهُ الْحَسَنُ سَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا اشْتَرَطَ فِي السِّجِلِّ الَّذِي خَتَمَ مُعَاوِيَةُ فِي أَسْفَلِهِ فَتَمَسَّكَ مُعَاوِيَةُ إِلَّا مَا كَانَ الْحَسَنُ سَأَلَهُ أَوَّلًا، وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ أَجَابَ سُؤَالَهُ أَوَّلَ مَا وَقَفَ عَلَيْهِ فَاخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ فَلَمْ يَنْفُذْ لِلْحَسَنِ مِنَ الشَّرْطَيْنِ شَيْءٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَوْذَبٍ قَالَ: لَمَّا قُتِلَ عَلِيٌّ سَارَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فِي أَهْلِ الْعِرَاقِ وَمُعَاوِيَةُ فِي أَهْلِ الشَّامِ فَالْتَقَوْا، فَكَرِهَ الْحَسَنُ الْقِتَالَ وَبَايَعَ مُعَاوِيَةَ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ الْعَهْدَ لِلْحَسَنِ مِنْ بَعْدِهِ فَكَانَ أَصْحَابُ الْحَسَنِ يَقُولُونَ لَهُ يَا عَارَ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَقُولُ الْعَارُ خَيْرٌ مِنَ النَّارِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ الْحَسَنُ) هُوَ الْبَصْرِيُّ وَهُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمُتَقَدِّمِ، وَوَقَعَ فِي رِجَالِ الْبُخَارِيِّ، لِأَبِي الْوَلِيدِ الْبَاجِيِّ فِي تَرْجَمَةِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مَا نَصُّهُ: أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ قَوْلَ الْحَسَنِ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ فَتَأَوَّلَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ لِأَنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ عِنْدَهُمْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي بَكْرَةَ، وَحَمَلَهُ ابْنُ الْمَدِينِيِّ، وَالْبُخَارِيُّ عَلَى أَنَّهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، قَالَ الْبَاجِيُّ: وَعِنْدِي أَنَّ الْحَسَنَ الَّذِي قَالَ: سَمِعْتُ هَذَا مِنْ أَبِي بَكْرَةَ. إِنَّمَا هُوَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ. انْتَهَى، وَهُوَ عَجِيبٌ مِنْهُ، فَإِنَّ الْبُخَارِيَّ قَدْ أَخْرَجَ مَتْنَ هَذَا الْحَدِيثِ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ مُجَرَّدًا عَنِ الْقِصَّةِ مِنْ طَرِيقِ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ الْجُعْفِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى - وَهُوَ إِسْرَائِيلُ بْنُ مُوسَى - عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ رِوَايَةِ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ وَمِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ كِلَاهُمَا عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ وَزَادَ فِي آخِرِهِ: قَالَ الْحَسَنُ: فَلَمَّا وَلَّى مَا أُهْرِيقَ فِي سَبَبِهِ مِحْجَمَةُ دَمٍ. فَالْحَسَنُ الْقَائِلُ هُوَ الْبَصْرِيُّ، وَالَّذِي وَلَّى هُوَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَلَيْسَ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ فِي هَذَا رِوَايَةٌ، وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ - إِسْرَائِيلُ بْنُ مُوسَى، وَمُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، وَعَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ - لَمْ يُدْرِكْ وَاحِدٌ مِنْهُمُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ.

وَقَدْ صَرَّحَ إِسْرَائِيلُ بِقَوْلِهِ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ وَذَلِكَ

ص: 65

فِيمَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنِ الصَّلْتِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى وَهُوَ إِسْرَائِيلُ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ. وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحِ، وَالصَّلْتُ مِنْ شُيُوخِ مُسْلِمٍ، وَقَدِ اسْتَشْعَرَ ابْنُ التِّينِ خَطَأَ الْبَاجِيِّ فَقَالَ: قَالَ الدَّاوُدِيُّ:، الْحَسَنُ مَعَ قُرْبِهِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِحَيْثُ تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ لَا يُشَكُّ فِي سَمَاعِهِ مِنْهُ، وَلَهُ مَعَ ذَلِكَ صُحْبَةٌ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: الَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ إِنَّمَا أَرَادَ سَمَاعَ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مِنْ أَبِي بَكْرَةَ.

قُلْتُ: وَلَعَلَّ الدَّاوُدِيَّ إِنَّمَا أَرَادَ رَدَّ تَوَهُّمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فَدَفَعَهُ بِمَا ذُكِرَ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَإِنَّمَا قَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ ذَلِكَ لِأَنَّ الْحَسَنَ كَانَ يُرْسِلُ كَثِيرًا عَمَّنْ لَمْ يَلْقَهُمْ بِصِيغَةِ عَنْ فَخَشِيَ أَنْ تَكُونَ رِوَايَتُهُ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ مُرْسَلَةٌ، فَلَمَّا جَاءَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ مُصَرِّحَةٌ بِسَمَاعِهِ مِنْ أَبِي بَكْرَةَ ثَبَتَ عِنْدَهُ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ، وَلَمْ أَرَ مَا نَقَلَهُ الْبَاجِيُّ، عَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ أَنَّ الْحَسَنَ هُنَا هُوَ ابْنُ عَلِيٍّ فِي شَيْءٍ مِنْ تَصَانِيفِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ فِي التَّتَبُّعِ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ أَحَادِيثَ عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، وَالْحَسَنُ إِنَّمَا رَوَى عَنِ الْأَحْنَفِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ عِنْدَهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي بَكْرَةَ، لَكِنْ لَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِي مَرَاسِيلِ الْحَسَنِ، كَابْنِ الْمَدِينِيِّ، وَأَبِي حَاتِمٍ، وَأَحْمَدَ، وَالْبَزَّارِ وَغَيْرِهِمْ. نَعَمْ كَلَامُ ابْنِ الْمَدِينِيِّ يُشْعِرُ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَحْمِلُونَهُ عَلَى الْإِرْسَالِ حَتَّى وَقَعَ هَذَا التَّصْرِيحُ.

قَوْلُهُ: (بَيْنَمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ جَاءَ الْحَسَنُ فَقَالَ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ فِي الدَّلَائِلِ لِلْبَيْهَقِيِّ يَخْطُبُ أَصْحَابَهُ يَوْمًا إِذْ جَاءَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فَصَعِدَ إِلَيْهِ الْمِنْبَرَ وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَذْكُورَةِ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً وَعَلَيْهِ أُخْرَى وَيَقُولُ وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، عَنْ سُفْيَانَ لَكِنْ قَالَ: وَهُوَ يَلْتَفِتُ إِلَى النَّاسِ مَرَّةً وَإِلَيْهِ أُخْرَى.

قَوْلُهُ: (ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَفِي رِوَايَةِ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَمَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ إِلَيْهِ وَقَالَ: إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَفِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ فَضَمَّهُ إِلَيْهِ وَقَالَ: أَلَا إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ.

قَوْلُهُ: (وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ) كَذَا اسْتَعْمَلَ لَعَلَّ اسْتِعْمَالَ عَسَى لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الرَّجَاءِ، وَالْأَشْهَرُ فِي خَبَرِ لَعَلَّ بِغَيْرِ أَنْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ.

قَوْلُهُ: (بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) زَادَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ فِي رِوَايَتِهِ عَظِيمَتَيْنِ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ، وَفِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ كِلَاهُمَا عَنِ الْحَسَنِ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ، وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ أَشْعَثَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنِ الْحَسَنِ كَالْأَوَّلِ لَكِنَّهُ قَالَ: وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يُصْلِحَ اللَّهُ بِهِ وَجَزَمَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ وَلَفْظُهُ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَالْبَيْهَقِيِّ قَالَ لِلْحَسَنِ: إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ يُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ الْبَزَّارُ: رُوِي هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ وَعَنْ جَابِرٍ، وَحَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ أَشْهَرُ وَأَحْسَنُ إِسْنَادًا، وَحَدِيثُ جَابِرٍ غَرِيبٌ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: اخْتُلِفَ عَلَى الْحَسَنِ فَقِيلَ عَنْهُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَقِيلَ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ الْحَسَنِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا وَهْمٌ. وَرَوَاهُ دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، وَعَوْفٌ الْأَعْرَابِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا.

وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنَ الْفَوَائِدِ عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ، وَمَنْقَبَةٌ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ فَإِنَّهُ تَرَكَ الْمُلْكَ لَا لِقِلَّةٍ وَلَا لِذِلَّةٍ وَلَا لِعِلَّةٍ بَلْ لِرَغْبَتِهِ فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ لِمَا رَآهُ مِنْ حَقْنِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَرَاعَى أَمْرَ الدِّينِ وَمَصْلَحَةَ الْأُمَّةِ. وَفِيهَا رَدٌّ عَلَى الْخَوَارِجِ الَّذِينَ كَانُوا يُكَفِّرُونَ عَلِيًّا وَمَنْ مَعَهُ وَمُعَاوِيَةَ وَمَنْ مَعَهُ بِشَهَادَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلطَّائِفَتَيْنِ بِأَنَّهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ سُفْيَانُ ابْنُ عُيَيْنَةَ يَقُولُ عَقِبَ هَذَا الْحَدِيثِ: قَوْلُهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُعْجِبنَا جِدًّا، أَخْرَجَهُ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ فِي تَارِيخِهِ عَنِ الْحُمَيْدِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْهُ. وَفِيهِ فَضِيلَةُ الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ وَلَا سِيَّمَا فِي حَقْنِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَدَلَالَةٌ عَلَى رَأْفَةِ مُعَاوِيَةَ بِالرَّعِيَّةِ، وَشَفَقَتُهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَقُوَّةِ نَظَرِهِ فِي تَدْبِيرِ الْمُلْكِ،

ص: 66

وَنَظَرِهِ فِي الْعَوَاقِبِ. وَفِيهِ وِلَايَةُ الْمَفْضُولِ الْخِلَافَةَ مَعَ وُجُودِ الْأَفْضَلِ لِأَنَّ الْحَسَنَ، وَمُعَاوِيَةَ وُلِّيَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْخِلَافَةَ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ فِي الْحَيَاةِ وَهُمَا بَدْرِيَّانِ قَالَهُ ابْنُ التِّينِ. وَفِيهِ جَوَازُ خَلْعِ الْخَلِيفَةِ نَفْسَهُ إِذَا رَأَى فِي ذَلِكَ صَلَاحًا لِلْمُسْلِمِينَ وَالنُّزُولُ عَنِ الْوَظَائِفِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ بِالْمَالِ، وَجَوَازُ أَخْذِ الْمَالِ عَلَى ذَلِكَ وَإِعْطَائِهِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ شَرَائِطِهِ بِأَنْ يَكُونَ الْمَنْزُولُ لَهُ أَوْلَى مِنَ النَّازِلِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمَبْذُولُ مِنْ مَالِ الْبَاذِلِ.

فَإِنْ كَانَ فِي وِلَايَةِ عَامَّةٍ وَكَانَ الْمَبْذُولُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ اشْتُرِطَ أَنْ تَكُونَ الْمَصْلَحَةُ فِي ذَلِكَ عَامَّةً، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ بَطَّالٍ قَالَ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ لِكُلٍّ مِنَ الْبَاذِلِ وَالْمَبْذُولِ لَهُ سَبَبٌ فِي الْوِلَايَةِ يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ، وَعَقْدٌ مِنَ الْأُمُورِ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ. وَفِيهِ أَنَّ السِّيَادَةَ لَا تَخْتَصُّ بِالْأَفْضَلِ بَلْ هُوَ الرَّئِيسُ عَلَى الْقَوْمِ وَالْجَمْعُ سَادَةٌ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ السُّؤْدُدِ وَقِيلَ مِنَ السَّوَادِ لِكَوْنِهِ يَرْأَسُ عَلَى السَّوَادِ الْعَظِيمِ مِنَ النَّاسِ أَيِ الْأَشْخَاصِ الْكَثِيرَةِ، وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: الْحَدِيثُ دَالٌّ عَلَى أَنَّ السِّيَادَةَ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّهَا مَنْ يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ، لِكَوْنِهِ عَلَّقَ السِّيَادَةَ بِالْإِصْلَاحِ. وَفِيهِ إِطْلَاقُ الِابْنِ عَلَى ابْنِ الْبِنْتِ، وَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ امْرَأَةَ الْجَدِّ وَالِدِ الْأُمِّ مُحَرَّمَةٌ عَلَى ابْنِ بِنْتِهِ، وَأَنَّ امْرَأَةَ ابْنِ الْبِنْتِ مُحَرَّمَةٌ عَلَى جَدِّهِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي التَّوَارُثِ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَصْوِيبِ رَأْيِ مَنْ قَعَدَ عَنِ الْقِتَالِ مَعَ مُعَاوِيَةَ، وَعَلِيٍّ وَإِنْ كَانَ عَلِيٌّ أَحَقَّ بِالْخِلَافَةِ وَأَقْرَبَ إِلَى الْحَقِّ، وَهُوَ قَوْلُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ وَسَائِرِ مَنِ اعْتَزَلَ تِلْكَ الْحُرُوبِ.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ إِلَى تَصْوِيبِ مَنْ قَاتَلَ مَعَ عَلِيٍّ لِامْتِثَالِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} الْآيَةَ فَفِيهَا الْأَمْرُ بِقِتَالِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ مَنْ قَاتَلَ عَلِيًّا كَانُوا بُغَاةً، وَهَؤُلَاءِ مَعَ هَذَا التَّصْوِيبِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُذَمُّ وَاحِدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ بَلْ يَقُولُونَ اجْتَهَدُوا فَأَخْطَأُوا، وَذَهَبَ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ - وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ - إِلَى أَنَّ كُلًّا مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ مُصِيبٌ، وَطَائِفَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُصِيبَ طَائِفَةٌ لَا بِعَيْنِهَا.

الْحَدِيثُ الثَّانِي، قَوْلُهُ:(سُفْيَانُ) هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ: قَالَ عَمْرٌو) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ) أَيِ ابْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَهُوَ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ، وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ حَرْمَلَةَ قَالَ) فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ أَنَّ حَرْمَلَةَ مَوْلَى أُسَامَةَ أَخْبَرَهُ وَحَرْمَلَةُ هَذَا فِي الْأَصْلِ مَوْلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَكَانَ يُلَازِمُ زَيْدَ بْنِ ثَابِتٍ حَتَّى صَارَ يُقَالُ لَهُ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَقِيلَ هُمَا اثْنَانِ. وَفِي هَذَا السَّنَدِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ: عَمْرٌو، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَحَرْمَلَةُ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ عَمْرَو) ابْنَ دِينَارٍ (قَالَ: قَدْ رَأَيْتُ حَرْمَلَةَ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ عَمْرًا كَانَ يُمْكِنُهُ الْأَخْذَ عَنْ حَرْمَلَةَ، لَكِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ هَذَا.

قَوْلُهُ: (أَرْسَلَنِي أُسَامَةُ) أَيْ مِنَ الْمَدِينَةِ (إِلَى عَلِيٍّ) أَيْ بِالْكُوفَةِ، لَمْ يَذْكُرْ مَضْمُونَ الرِّسَالَةِ، وَلَكِنْ دَلَّ مَضْمُونُ قَوْلِهِ فَلَمْ يُعْطِنِي شَيْئًا عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَرْسَلَهُ يَسْأَلَ عَلِيًّا شَيْئًا مِنَ الْمَالِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ إِنَّهُ سَيَسْأَلُكَ الْآنَ فَيَقُولُ: مَا خَلَّفَ صَاحِبَكَ إِلَخْ) هَذَا هَيَّأَهُ أُسَامَةُ اعْتِذَارًا عَنْ تَخَلُّفِهِ عَنْ عَلِيٍّ لِعِلْمِهِ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ يُنْكِرُ عَلَى مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ وَلَا سِيَّمَا مِثْلُ أُسَامَةَ الَّذِي هُوَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ، فَاعْتَذَرَ بِأَنَّهُ لَمْ يَتَخَلَّفْ ضَنًّا مِنْهُ بِنَفْسِهِ عَنْ عَلِيٍّ وَلَا كَرَاهَةً لَهُ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي أَشَدِّ الْأَمَاكِنِ هَوْلًا لَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ فِيهِ وَيُوَاسِيهِ بِنَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ إِنَّمَا تَخَلَّفَ لِأَجْلِ كَرَاهِيَتِهِ فِي قتالِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَلَكِنَّ هَذَا أَمْرٌ لَمْ أَرَهُ.

قَوْلُهُ: (لَوْ كُنْتَ فِي شِدْقِ الْأَسَدِ) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا وَسُكُونِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا قَافٌ أَيْ جَانِبُ فَمِهِ مِنْ دَاخِلٍ، وَلِكُلِّ فَمٍ شِدْقَانِ إِلَيْهِمَا يَنْتَهِي شِقُّ الْفَمِ، وَعِنْدَ مُؤَخَّرِهِمَا يَنْتَهِي الْحَنَكُ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلُ، وَرَجُلٌ أَشَدْقُ وَاسِعُ الشِّدْقَيْنِ، وَيَتَشَدَّقُ فِي كَلَامِهِ إِذَا فَتَحَ فَمَهُ وَأَكْثَرَ الْقَوْلَ فِيهِ وَاتَّسَعَ فِيهِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُوَافَقَةِ حَتَّى فِي حَالَةِ الْمَوْتِ، لِأَنَّ الَّذِي

ص: 67

يَفْتَرِسُهُ الْأَسَدُ بِحَيْثُ يَجْعَلُهُ فِي شِدْقِهِ فِي عِدَادِ مَنْ هَلَكَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَالَ: لَوْ وَصَلْتَ إِلَى هَذَا الْمَقَامِ لَأَحْبَبْتُ أَنْ أَكُونَ مَعَكَ فِيهِ مُوَاسِيًا لَكَ بِنَفْسِي.

وَمِنَ الْمُنَاسَبَاتِ اللَّطِيفَةِ تَمْثِيلُ أُسَامَةَ بِشَيْءٍ يَتَعَلَّقُ بِالْأَسَدِ. وَوَقَعَ فِي تَنْقِيحِ الزَّرْكَشِيِّ أَنَّ الْقَاضِيَ - يَعْنِي عِيَاضًا - ضَبَطَ الشِّدْقَ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ قَالَ: وَكَلَامُ الْجَوْهَرِيِّ يَقْتَضِي أَنَّهُ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، وَقَالَ لِي بَعْضُ مَنْ لَقِيتُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ: إِنَّهُ غَلَطٌ عَلَى الْقَاضِي، قُلْتُ: وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ ذَكَرَهُ فِي الْمَشَارِقِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ سَمُرَةَ الطَّوِيلِ فِي الَّذِي يُشَرْشَرُ شِدْقُهُ فَإِنَّهُ ضَبَطَ الشِّدْقَ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، وَتَبِعَهُ ابْنُ قُرْقُولٍ فِي الْمَطَالِعِ. نَعَمْ هُوَ غَلَطٌ فَقَدْ ضُبِطَ فِي جَمِيعِ كُتِبِ اللُّغَةِ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَرْسَلَ أُسَامَةُ إِلَى عَلِيٍّ يَعْتَذِرُ عَنْ تَخَلُّفِهِ عَنْهُ فِي حُرُوبِهِ، وَيُعْلِمُهُ أَنَّهُ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ يُحِبُّ مُشَارَكَتَهُ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَرَى قِتَالَ الْمُسْلِمِ، قَالَ: وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا قَتَلَ ذَلِكَ الرَّجُلَ - يَعْنِي الْمَاضِي ذِكْرُهُ فِي بَابِ وَمَنْ أَحْيَاهَا فِي أَوَائِلِ الدِّيَاتِ وَلَامَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِسَبَبِ ذَلِكَ، آلَى عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَا يُقَاتِلَ مُسْلِمًا. فَذَلِكَ سَبَبُ تَخَلُّفِهِ عَنْ عَلِيٍّ فِي الْجَمَلِ وَصِفِّينَ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: إِنَّمَا مَنَعَ عَلِيًّا أَنْ يُعْطِيَ رَسُولَ أُسَامَةَ شَيْئًا لِأَنَّهُ لَعَلَّهُ سَأَلَهُ شَيْئًا مِنْ مَالِ اللَّهِ فَلَمْ يَرَ أَنْ يُعْطِيَهُ لِتَخَلُّفِهِ عَنِ الْقِتَالِ مَعَهُ، وَأَعْطَاهُ الْحَسَنُ، وَالْحُسَيْنُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَهُ وَاحِدًا مِنْهُمْ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُجْلِسُهُ عَلَى فَخِذِهِ وَيُجْلِسُ الْحَسَنَ عَلَى الْفَخِذِ الْآخَرِ وَيَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُمَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَنَاقِبِهِ.

قَوْلُهُ: (فَلَمْ يُعْطِنِي شَيْئًا) هَذِهِ الْفَاءُ هِيَ الْفَصِيحَةُ، وَالتَّقْدِيرُ فَذَهَبْتُ إِلَى عَلِيٍّ فَبَلَّغْتُهُ ذَلِكَ فَلَمْ يُعْطِنِي شَيْئًا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، عَنْ سُفْيَانَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فَجِئْتُ بِهَا - أَيِ الْمَقَالَةُ - فَأَخْبَرْتُهُ فَلَمْ يُعْطِنِي شَيْئًا.

قَوْلُهُ: (فَذَهَبْتُ إِلَى حَسَنٍ، وَحُسَيْنٍ، وَابْنِ جَعْفَرٍ فَأَوْقَرُوا لِي رَاحِلَتِي) أَيْ حَمَلُوا لِي عَلَى رَاحِلَتِي مَا أَطَاقَتْ حَمْلَهُ، وَلَمْ يُعَيِّنْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ جِنْسَ مَا أَعْطَوْهُ وَلَا نَوْعَهُ، وَالرَّاحِلَةُ الَّتِي صَلَحَتْ لِلرُّكُوبِ مِنَ الْإِبِلِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَأَكْثَرُ مَا يُطْلَقُ الْوِقْرُ وَهُوَ بِالْكَسْرِ عَلَى مَا يَحْمِلُ الْبَغْلُ وَالْحِمَارُ، وَأَمَّا حِمْلُ الْبَعِيرِ فَيُقَالُ لَهُ الْوَسْقُ، وَابْنُ جَعْفَرٍ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ، وَابْنِ أَبِي عُمَرَ الْمَذْكُورَةِ، وَكَأَنَّهُمْ لَمَّا عَلِمُوا أَنَّ عَلِيًّا لَمْ يُعْطِهِ شَيْئًا عَوَّضُوهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ مِنْ ثِيَابٍ وَنَحْوِهَا قَدْرَ مَا تَحْمِلُهُ رَاحِلَتُهُ الَّتِي هُوَ رَاكِبُهَا.

‌21 - بَاب إِذَا قَالَ عِنْدَ قَوْمٍ شَيْئًا ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ بِخِلَافِهِ

7111 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: لَمَّا خَلَعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ جَمَعَ ابْنُ عُمَرَ حَشَمَهُ وَوَلَدَهُ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّا قَدْ بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنِّي لَا أَعْلَمُ غَدْرًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يُبَايَعَ رَجُلٌ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُنْصَبُ لَهُ الْقِتَالُ، وَإِنِّي لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْكُمْ خَلَعَهُ وَلَا بَايَعَ فِي هَذَا الْأَمْرِ إِلَّا كَانَتْ الْفَيْصَلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ.

7112 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ عَنْ عَوْفٍ عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ قَالَ "لَمَّا كَانَ ابْنُ زِيَادٍ وَمَرْوَانُ بِالشَّأْمِ وَوَثَبَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ وَوَثَبَ الْقُرَّاءُ بِالْبَصْرَةِ فَانْطَلَقْتُ مَعَ أَبِي إِلَى أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ

ص: 68

حَتَّى دَخَلْنَا عَلَيْهِ فِي دَارِهِ وَهُوَ جَالِسٌ فِي ظِلِّ عُلِّيَّةٍ لَهُ مِنْ قَصَبٍ فَجَلَسْنَا إِلَيْهِ فَأَنْشَأَ أَبِي يَسْتَطْعِمُهُ الْحَدِيثَ فَقَالَ يَا أَبَا بَرْزَةَ أَلَا تَرَى مَا وَقَعَ فِيهِ النَّاسُ فَأَوَّلُ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ تَكَلَّمَ بِهِ إِنِّي احْتَسَبْتُ عِنْدَ اللَّهِ أَنِّي أَصْبَحْتُ سَاخِطًا عَلَى أَحْيَاءِ قُرَيْشٍ إِنَّكُمْ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ كُنْتُمْ عَلَى الْحَالِ الَّذِي عَلِمْتُمْ مِنْ الذِّلَّةِ وَالْقِلَّةِ وَالضَّلَالَةِ وَإِنَّ اللَّهَ أَنْقَذَكُمْ بِالإِسْلَامِ وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَلَغَ بِكُمْ مَا تَرَوْنَ وَهَذِهِ الدُّنْيَا الَّتِي أَفْسَدَتْ بَيْنَكُمْ إِنَّ ذَاكَ الَّذِي بِالشَّأْمِ وَاللَّهِ إِنْ يُقَاتِلُ إِلاَّ عَلَى الدُّنْيَا وَإِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ وَاللَّهِ إِنْ يُقَاتِلُونَ إِلاَّ عَلَى الدُّنْيَا وَإِنْ ذَاكَ الَّذِي بِمَكَّةَ وَاللَّهِ إِنْ يُقَاتِلُ إِلاَّ عَلَى الدُّنْيَا"

[الحديث 7112 - طرفه في: 7271]

7113 -

حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ وَاصِلٍ الأَحْدَبِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ "عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ الْيَوْمَ شَرٌّ مِنْهُمْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانُوا يَوْمَئِذٍ يُسِرُّونَ وَالْيَوْمَ يَجْهَرُونَ"

7114 -

حَدَّثَنَا خَلَادٌ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: إِنَّمَا كَانَ النِّفَاقُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَّا الْيَوْمَ فَإِنَّمَا هُوَ الْكُفْرُ بَعْدَ الإِيمَانِ"

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا قَالَ عِنْدَ قَوْمٍ شَيْئًا ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ بِخِلَافِهِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ: يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ وَفِيهِ قِصَّةٌ لِابْنِ عُمَرَ فِي بَيْعَةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَحَدِيثَ أَبِي بَرْزَةَ فِي إِنْكَارِهِ عَلَى الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ عَلَى الْمُلْكِ مِنْ أَجْلِ الدُّنْيَا، وَحَدِيثَ حُذَيْفَةَ فِي الْمُنَافِقِينَ، وَمُطَابَقَةُ الْأَخِيرِ لِلتَّرْجَمَةِ ظَاهِرَةٌ، وَمُطَابِقَةُ الْأَوَّلِ لَهَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ فِي الْقَوْلِ فِي الْغَيْبَةِ بِخِلَافِ مَا فِي الْحُضُورِ نَوْعُ غَدْرٍ، وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ تَرْجَمَةُ مَا يُكْرَهُ مِنْ ثَنَاءِ السُّلْطَانِ، فَإِذَا خَرَجَ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ، وَذَكَرَ فِيهِ قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنِ الْقَوْلِ عِنْدَ الْأُمَرَاءِ بِخِلَافِ مَا يُقَالُ بَعْدَ الْخُرُوجِ عَنْهُمْ: كُنَّا نَعُدُّهُ نِفَاقًا، وَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَنَّ الْأَمِيرَ الْمَسْئُولَ عَنْهُ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْأَحْكَامِ، وَمُطَابَقَةُ الثَّانِي مِنْ جِهَةِ أَنَّ الَّذِينَ عَابُوا أَبُو بَرْزَةَ كَانُوا يُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ لِأَجْلِ الْقِيَامِ بِأَمْرِ الدِّينِ وَنَصْرِ الْحَقِّ وَكَانُوا فِي الْبَاطِنِ إِنَّمَا يُقَاتِلُونَ لِأَجْلِ الدُّنْيَا.

وَوَقَعَ لِابْنِ بَطَّالٍ هُنَا شَيْءٌ فِيهِ نَظَرٌ فَقَالَ: وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي بَرْزَةَ فَوَجْهُ مُوَافَقَتِهِ لِلتَّرْجَمَةِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَمْ يَقُلْهُ أَبُو بَرْزَةَ عِنْدَ مَرْوَانَ حِينَ بَايَعَهُ، بَلْ بَايَعَ مَرْوَانَ وَاتَّبَعَهُ ثُمَّ سَخِطَ ذَلِكَ لَمَّا بَعُدَ عَنْهُ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ مِنْهُ أَنْ يَتْرُكَ مَا نُوزِعَ فِيهِ طَلَبًا لِمَا عِنْدَ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا يُقَاتِلُ عَلَيْهِ كَمَا فَعَلَ عُثْمَانُ يَعْنِي مِنْ عَدَمِ الْمُقَاتَلَةِ لَا مِنْ تَرْكِ الْخِلَافَةِ، فَلَمْ يُقَاتِلْ مَنْ نَازَعَهُ بَلْ تَرَكَ ذَلِكَ، وَكَمَا فَعَلَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ حِينَ تَرَكَ قِتَالَ مُعَاوِيَةَ حِينَ نَازَعَهُ الْخِلَافَةَ، فَسَخِطَ أَبُو بَرْزَةَ عَلَى مَرْوَانَ تَمَسُّكَهُ بِالْخِلَافَةِ وَالْقِتَالَ عَلَيْهَا، فَقَالَ لِأَبِي الْمِنْهَالِ وَابْنِهِ بِخِلَافِ مَا قَالَ لِمَرْوَانَ حِينَ بَايَعَ لَهُ.

قُلْتُ: وَدَعْوَاهُ أَنَّ أَبَا بَرْزَةَ بَايَعَ مَرْوَانَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّ أَبَا بَرْزَةَ كَانَ مُقِيمًا بِالْبَصْرَةِ، وَمَرْوَانُ إِنَّمَا طَلَبَ الْخِلَافَةَ بِالشَّامِ، وَذَلِكَ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ لَمَّا مَاتَ دَعَا ابْنَ الزُّبَيْرِ إِلَى نَفْسِهِ وَبَايَعُوهُ بِالْخِلَافَةِ، فَأَطَاعَهُ أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ وَمِصْرَ وَالْعِرَاقِ وَمَا وَرَاءَهَا، وَبَايَعَ لَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ الْفِهْرِيُّ بِالشَّامِ كُلِّهَا إِلَّا الْأُرْدُنَّ وَمَنْ بِهَا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ وَمَنْ كَانَ عَلَى هَوَاهُمْ، حَتَّى هَمَّ مَرْوَانُ أَنْ يَرْحَلَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ وَيُبَايِعَهُ فَمَنَعُوهُ وَبَايَعُوا لَهُ بِالْخِلَافَةِ، وَحَارَبَ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ

ص: 69

فَهَزَمَهُ وَغَلَبَ عَلَى الشَّامِ، ثُمَّ تَوَجَّهَ إِلَى مِصْرَ فَغَلَبَ عَلَيْهَا، ثُمَّ مَاتَ فِي سَنَتِهِ فَبَايَعُوا بَعْدَهُ ابْنَهُ عَبْدَ الْمَلِكِ، وَقَدْ أَخْرَجَ ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ وَاضِحًا، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بَعْضَهُ مِنْ رِوَايَةِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَفِيهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ لَمَّا مَاتَ دَعَا مَرْوَانُ لِنَفْسِهِ فَأَجَابَهُ أَهْلُ فِلَسْطِينَ وَأَهْلُ حِمْصٍ فَقَاتَلَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ بِمَرْجِ رَاهِطٍ فَقُتِلَ الضَّحَّاكُ ثُمَّ مَاتَ مَرْوَانُ وَقَامَ عَبْدُ الْمَلِكِ، فَذَكَرَ قِصَّةَ الْحَجَّاجِ فِي قِتَالِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَقَتْلِهِ ثُمَّ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَأَمَّا يَمِينُهُ يَعْنِي أَبَا بَرْزَةَ عَلَى الَّذِي بِمَكَّةَ يَعْنِي ابْنَ الزُّبَيْرِ فَإِنَّهُ لَمَّا وَثَبَ بِمَكَّةَ بَعْدَ أَنْ دَخَلَ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ جَعَلَ أَبُو بَرْزَةَ ذَلِكَ نَكْثًا مِنْهُ وَحِرْصًا عَلَى الدُّنْيَا وَهُوَ أَيْ أَبُو بَرْزَةَ فِي هَذِهِ - أَيْ قِصَّةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ - أَقْوَى رَأْيًا مِنْهُ فِي الْأُولَى أَيْ قِصَّةِ مَرْوَانَ قَالَ: وَكَذَلِكَ الْقُرَّاءُ بِالْبَصْرَةِ، لِأَنَّ أَبَا بَرْزَةَ

كَانَ لَا يَرَى قِتَالَ الْمُسْلِمِينَ أَصْلًا، فَكَانَ يَرَى لِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يَتْرُكَ حَقَّهُ لِمَنْ نَازَعَهُ فِيهِ لِيُؤْجَرَ عَلَى ذَلِكَ وَيُمْدَحَ بِالْإِيثَارِ عَلَى نَفْسِهِ لِئَلَّا يَكُونَ سَبَبًا لِسَفْكِ الدِّمَاءِ انْتَهَى مُلَخَّصًا، وَمُقْتَضَى كَلَامِهِ أَنَّ مَرْوَانَ لَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ بَايَعَهُ النَّاسُ أَجْمَعُونَ، ثُمَّ نَكَثَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بَيْعَتَهُ وَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ أَبُو بَرْزَةَ قِتَالَهُ عَلَى الْخِلَافَةِ بَعْدَ أَنْ دَخَلَ فِي طَاعَتِهِ وَبَايَعَهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَالَّذِي ذَكَرْتُهُ هُوَ الَّذِي تَوَارَدَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْأَخْبَارِ بِالْأَسَانِيدِ الْجَيِّدَةِ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ لَمْ يُبَايِعْ لِمَرْوَانَ قَطُّ، بَلْ مَرْوَانُ هَمَّ أَنْ يُبَايِعَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ وَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ.

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: (لَمَّا خَلَعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي الْعَبَّاسِ السَّرَّاجِ فِي تَارِيخٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ، وَزِيَادِ بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ عَفَّانَ، عَنْ صَخْرِ بْنِ جُوَيْرِيَةَ، عَنْ نَافِعٍ لَمَّا انْتَزَى أَهْلُ الْمَدِينَةِ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَخَلَعُوا يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ جَمَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بَنِيهِ وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُؤَمَّلِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ فِي أَوَّلِهِ مِنَ الزِّيَادَةِ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ مُعَاوِيَةَ أَرَادَ ابْنَ عُمَرَ عَلَى أَنْ يُبَايِعَ لِيَزِيدَ، فَأَبَى وَقَالَ لَا أُبَايِعُ لِأَمِيرَيْنِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَخَذَهَا، فَدَسَّ إِلَيْهِ رَجُلًا فَقَالَ لَهُ مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تُبَايِعَ؟ فَقَالَ: إِنَّ ذَاكَ لِذَاكَ - يَعْنِي عَطَاءَ ذَلِكَ الْمَالِ لِأَجْلِ وُقُوعِ الْمُبَايَعَةِ - إِنَّ دِينِي عِنْدِي إِذًا لَرَخِيصٌ، فَلَمَّا مَاتَ مُعَاوِيَةُ كَتَبَ ابْنُ عُمَرَ إِلَى يَزِيدَ بِبَيْعَتِهِ، فَلَمَّا خَلَعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فَذَكَرَهُ.

قُلْتُ: وَكَانَ السَّبَبُ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ مُسْنَدًا أَنَّ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ كَانَ أَمَّرَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ عَمِّهِ عُثْمَانَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَأَوْفَدَ إِلَى يَزِيدَ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ غَسِيلِ الْمَلَائِكَةِ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي عَامِرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي عَمْرِو بْنِ حَفْصٍ الْمَخْزُومِيُّ فِي آخَرِينَ فَأَكْرَمَهُمْ وَأَجَازَهُمْ، فَرَجَعُوا فَأَظْهَرُوا عَيْبَهُ وَنَسَبُوهُ إِلَى شُرْبِ الْخَمْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ وَثَبُوا عَلَى عُثْمَانَ فَأَخْرَجُوهُ، وَخَلَعُوا يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ يَزِيدَ فَجَهَّزَ إِلَيْهِمْ جَيْشًا مَعَ مُسْلِمِ بْنِ عُقْبَةَ الْمُرِّيِّ وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ ثَلَاثًا، فَإِنْ رَجَعُوا وَإِلَّا فَقَاتِلْهُمْ، فَإِذَا ظَهَرَتْ فَأَبِحْهَا لِلْجَيْشِ ثَلَاثًا ثُمَّ اكْفُفْ عَنْهُمْ. فَتَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ فَوَصَلَ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثِينَ فَحَارَبُوهُ، وَكَانَ الْأَمِيرُ عَلَى الْأَنْصَارِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَنْظَلَةَ وَعَلَى قُرَيْشٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُطِيعٍ وَعَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْقَبَائِلِ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ الْأَشْجَعِيَّ، وَكَانُوا اتَّخَذُوا خَنْدَقًا، فَلَمَّا وَقَعَتِ الْوَقْعَةُ انْهَزَمَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، فَقُتِلَ ابْنُ حَنْظَلَةَ، وَفَرَّ ابْنُ مُطِيعٍ، وَأَبَاحَ مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ الْمَدِينَةَ ثَلَاثًا، فَقُتِلَ جَمَاعَةٌ صَبْرًا، مِنْهُمْ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْجَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ، وَيَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ وَبَايَعَ الْبَاقِينَ عَلَى أَنَّهُمْ خَوَلٌ لِيَزِيدَ.

وَأَخْرَجَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ إِلَى جُوَيْرِيَةَ بْنِ أَسْمَاءَ، سَمِعْتُ أَشْيَاخَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَتَحَدَّثُونَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا احْتُضِرَ دَعَا يَزِيدَ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ لَكَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَوْمًا، فَإِنْ فَعَلُوا فَارْمِهِمْ بِمُسْلِمِ بْنِ عُقْبَةَ فَإِنِّي عَرَفْتُ نَصِيحَتَهُ فَلَمَّا وَلِيَ يَزِيدُ وَفَدَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَنْظَلَةَ وَجَمَاعَةٌ فَأَكْرَمَهُمْ وَأَجَازَهُمْ، فَرَجَعَ فَحَرَّضَ النَّاسَ عَلَى يَزِيدَ وَعَابَهُ وَدَعَاهُمْ إِلَى خَلْعِ يَزِيدَ، فَأَجَابُوهُ. فَبَلَغَ يَزِيدَ فَجَهَّزَ إِلَيْهِمْ مُسْلِمَ بْنَ عُقْبَةَ، فَاسْتَقْبَلَهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بِجُمُوعٍ كَثِيرَةٍ،

ص: 70

فَهَابَهُمْ أَهْلُ الشَّامِ وَكَرِهُوا قِتَالَهُمْ، فَلَمَّا نَشِبَ الْقِتَالُ سَمِعُوا فِي جَوْفِ الْمَدِينَةِ التَّكْبِيرَ، وَذَلِكَ أَنَّ بَنِي حَارِثَةَ أَدْخَلُوا قَوْمًا مِنَ الشَّامِيِّينَ مِنْ جَانِبِ الْخَنْدَقِ، فَتَرَكَ أَهْلُ الْمَدِينَةَ الْقِتَالَ وَدَخَلُوا الْمَدِينَةَ خَوْفًا عَلَى أَهْلِهِمْ، فَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ، وَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ وَبَايَعَ مُسْلِمٌ النَّاسَ عَلَى أَنَّهُمْ خَوَلٌ لِيَزِيدَ يَحْكُمُ فِي دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَهْلِهِمْ بِمَا شَاءَ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ رُمَّانَةَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ قَالَ لِيَزِيدَ: قَدْ وَطَّأْتُ لَكَ الْبِلَادَ وَمَهَّدْتُ لَكَ النَّاسَ وَلَسْتُ أَخَافُ عَلَيْكَ إِلَّا أَهْلَ الْحِجَازِ، فَإِنْ رَابَكَ مِنْهُمْ رَيْبٌ فَوَجِّهْ إِلَيْهِمْ مُسْلِمَ بْنَ عُقْبَةَ فَإِنِّي قَدْ جَرَّبْتُهُ وَعَرَفْتُ نَصِيحَتَهُ، قَالَ فَلَمَّا كَانَ مِنْ خِلَافِهِمْ عَلَيْهِ مَا كَانَ دَعَاهُ فَوَجَّهَهُ فَأَبَاحَهَا ثَلَاثًا. ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى بَيْعَةِ يَزِيدَ وَأَنَّهُمْ أَعْبُدٌ لَهُ قِنٌّ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَمَعْصِيَتِهِ.

وَمِنْ رِوَايَةِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: لَمَّا مَاتَ مُعَاوِيَةُ أَظْهَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْخِلَافَ عَلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَوَجَّهَ يَزِيدُ، مُسْلِمَ بْنَ عُقْبَةَ فِي جَيْشِ أَهْلِ الشَّامِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَبْدَأَ بِقِتَالِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ثُمَّ يَسِيرَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ، قَالَ فَدَخَلَ مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ الْمَدِينَةَ وَبِهَا بَقَايَا مِنَ الصَّحَابَةِ فَأَسْرَفَ فِي الْقَتْلِ، ثُمَّ سَارَ إِلَى مَكَّةَ فَمَاتَ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ. وَأَخْرَجَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ فِي تَارِيخِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى رَأْسِ سِتِّينَ سَنَةً {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا} يَعْنِي إِدْخَالَ بَنِي حَارِثَةَ أَهْلَ الشَّامِ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي وَقْعَةِ الْحَرَّةِ. قَالَ يَعْقُوبُ: وَكَانَتْ وَقْعَةُ الْحَرَّةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ.

قَوْلُهُ (حَشَمَهُ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ الْمُعْجَمَةِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: الْحَشَمَةُ الْعَصَبَةُ وَالْمُرَادُ هُنَا خَدَمُهُ وَمَنْ يَغْضَبُ لَهُ. وَفِي رِوَايَةِ صَخْرِ بْنِ جُوَيْرِيَةَ، عَنْ نَافِعٍ عِنْدَ أَحْمَدَ لَمَّا خَلَعَ النَّاسُ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ جَمَعَ ابْنُ عُمَرَ بَنِيهِ وَأَهْلَهُ ثُمَّ تَشَهَّدَ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ.

قَوْلُهُ (يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) زَادَ فِي رِوَايَةِ مُؤَمَّلٍ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ وَزَادَ فِي رِوَايَةِ صَخْرٍ يقَالَ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ أَيْ عَلَامَةُ غَدْرَتِهِ ; وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ شُهْرَتُهُ وَأَنْ يَفْتَضِحَ بِذَلِكَ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، وَفِيهِ تَعْظِيمُ الْغَدْرِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْآمِرِ أَوِ الْمَأْمُورِ، وَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ الْمَرْفُوعُ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فِي بَابِ إِثْمِ الْغَادِرِ لِلْبَرِّ وَالْفَاجِرِ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْجِزْيَةِ وَالْمُوَادَعَةِ قُبَيْلَ بَدْءِ الْخَلْقِ.

قَوْلُهُ (عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) أَيْ عَلَى شَرْطِ مَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهِ مِنْ بَيْعَةِ الْإِمَامِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ بَايَعَ أَمِيرًا فَقَدْ أَعْطَاهُ الطَّاعَةَ وَأَخَذَ مِنْهُ الْعَطِيَّةَ فَكَانَ شَبِيهَ مَنْ بَاعَ سِلْعَةً وَأَخَذَ ثَمَنَهَا، وَقِيلَ إِنَّ أَصْلَهُ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ إِذَا تَبَايَعَتْ تَصَافَقَتْ بِالْأَكُفِّ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَكَذَا كَانُوا يَفْعَلُونَ إِذَا تَحَالَفُوا، فَسَمَّوْا مُعَاهَدَةَ الْوُلَاةِ وَالْتَّمَاسُكَ فِيهِ بِالْأَيْدِي بَيْعَةً. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُؤَمَّلٍ، وَصَخْرٍ عَلَى بَيْعَةِ اللَّهِ وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَفَعَهُ مَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطِعْهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ.

قَوْلُهُ: (وَلَا غَدْرَ أَعْظَمُ) فِي رِوَايَةِ صَخْرِ بْنِ جُوَيْرِيَةَ، عَنْ نَافِعٍ الْمَذْكُورِ وَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْغَدْرِ بَعْدَ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ أَنْ يُبَايِعَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى بَيْعِ اللَّهِ ثُمَّ يَنْكُثُ بَيْعَتَهُ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ يَنْصِبُ لَهُ الْقِتَالَ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَفِي رِوَايَةِ مُؤَمَّلٍ نَصَبَ لَهُ يُقَاتِلُهُ.

قَوْلُهُ (خَلَعَهُ) فِي رِوَايَةِ مُؤَمَّلٍ خَلَعَ يَزِيدَ وَزَادَ أَوْ خَفَّ فِي هَذَا الْأَمْرِ وَفِي رِوَايَةِ صَخْرِ بْنِ جُوَيْرِيَةَ فَلَا يَخْلَعَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَزِيدَ وَلَا يَسْعَى فِي هَذَا الْأَمْرِ.

قَوْلُهُ: (وَلَا تَابَعَ فِي هَذَا الْأَمْرِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِمُثَنَّاةٍ فَوْقَانِيَّةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ، وَلِلكُشْمِيهَنِيِّ بِمُوَحَّدَةٍ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ.

قَوْلُهُ (إِلَّا كَانَتِ الْفَيْصَلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ) أَيِ الْقَاطِعَةُ وَهِيَ فَيْعَلٌ مِنْ فَصَلَ الشَّيْءَ إِذَا قَطَعَهُ، وَفِي رِوَايَةِ مُؤَمَّلٍ فَيَكُونُ الْفَيْصَلَ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ وَفِي رِوَايَةِ صَخْرِ بْنِ جُوَيْرِيَةَ فَيَكُونُ صَيْلَمًا بَيْنِي وَبَيْنَهُ وَالصَّيْلَمُ بِمُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَيَاءٍ آخِرَ الْحُرُوفِ ثُمَّ لَامٍ مَفْتُوحَةٍ الْقَطِيعَةُ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ وُجُوبُ طَاعَةِ الْإِمَامِ الَّذِي انْعَقَدَتْ لَهُ الْبَيْعَةُ، وَالْمَنْعِ مِنَ الْخُرُوجِ عَلَيْهِ وَلَوْ

ص: 71

جَارَ فِي حُكْمِهِ وَأَنَّهُ لَا يَنْخَلِعُ بِالْفِسْقِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي نُسْخَةِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ فِي قِصَّةِ الرَّجُلِ الَّذِي سَأَلَهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} الْآيَةَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: مَا وَجَدْتُ فِي نَفْسِي فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَا وَجَدْتُ فِي نَفْسِي أَنِّي لَمْ أُقَاتِلْ هَذِهِ الْفِئَةَ الْبَاغِيَةَ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ زَادَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ فِي تَارِيخِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ: قَالَ حَمْزَةُ فَقُلْنَا لَهُ: وَمَنْ تَرَى الْفِئَةَ الْبَاغِيَةَ؟ قَالَ: ابْنَ الزُّبَيْرِ بَغَى عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ - يَعْنِي بَنِي أُمَيَّةَ - فَأَخْرَجَهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَنَكَثَ عَهْدَهُمْ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: (أَبُو شِهَابٍ) هُوَ عَبْدُ رَبِّهِ بْنُ نَافِعٍ وَعَوْفٌ هُوَ الْأَعْرَابِيُّ، وَالسَّنَدُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ إِلَّا ابْنَ يُونُسَ، وَأَبُو الْمِنْهَالِ هُوَ سَيَّارُ بْنُ سَلَامَةَ.

قَوْلُهُ: (لَمَّا كَانَ ابْنُ زِيَادٍ، وَمَرْوَانُ بِالشَّامِ وَثَبَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ وَوَثَبَ الْقُرَّاءُ بِالْبَصْرَةِ) ظَاهِرُهُ أَنَّ وُثُوبَ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَقَعَ بَعْدَ قِيَامِ ابْنِ زِيَادٍ، وَمَرْوَانَ بِالشَّامِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَتَحْرِيرُهُ مَا وَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ عَوْفٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْمِنْهَالِ قَالَ: لَمَّا كَانَ زَمَنُ أُخْرِجَ ابْنُ زِيَادٍ يَعْنِي مِنَ الْبَصْرَةِ وَثَبَ مَرْوَانُ بِالشَّامِ وَوَثَبَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ، وَوَثَبَ الَّذِينَ يُدْعَوْنَ الْقُرَّاءَ بِالْبَصْرَةِ غُمَّ أَبِي غَمًّا شَدِيدًا وَكَذَا أَخْرَجَهُ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ فِي تَارِيخِهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ عَوْفٍ وَلَفْظُهُ: وَثَبَ مَرْوَانُ بِالشَّامِ حَيْثُ وَثَبَ وَالْبَاقِي مِثْلَهُ، وَيُصَحِّحُ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي شِهَابٍ بِأَنْ تُزَادَ وَاوٌ قَبْلَ قَوْلِهِ وَثَبَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَإِنَّ ابْنَ زِيَادٍ لَمَّا أُخْرِجَ مِنَ الْبَصْرَةِ تَوَجَّهَ إِلَى الشَّامِ فَقَامَ مَعَ مَرْوَانَ.

وَقَدْ ذَكَرَ الطَّبَرِيُّ بِأَسَانِيدِهِ مَا مُلَخَّصُهُ: أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ كَانَ أَمِيرًا بِالْبَصْرَةِ لِيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَأَنَّهُ لَمَّا بَلَغَتْهُ وَفَاتُهُ خَطَبَ لِأَهْلِ الْبَصْرَةِ وَذَكَرَ مَا وَقَعَ مِنَ الِاخْتِلَافِ بِالشَّامِ، فَرَضِيَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ أَنْ يَسْتَمِرَّ أَمِيرًا عَلَيْهِمْ حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَى خَلِيفَةٍ فَمَكَثَ عَلَى ذَلِكَ قَلِيلًا، ثُمَّ قَامَ سَلَمَةُ بْنُ ذُؤَيْبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْيَرْبُوعِيُّ يَدْعُو إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ فَبَايَعَهُ جَمَاعَةٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ زِيَادٍ وَأَرَادَ مِنْهُمْ كَفَّ سَلَمَةَ عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يُجِيبُوهُ، فَلَمَّا خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ الْقَتْلَ اسْتَجَارَ بِالْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ سُفْيَانَ فَأَرْدَفَهُ لَيْلًا إِلَى أَنْ أَتَى بِهِ مَسْعُودَ بْنَ عَمْرِو بْنِ عَدِيٍّ الْأَزْدِيَّ فَأَجَارَهُ، ثُمَّ وَقَعَ بَيْنَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ اخْتِلَافٌ فَأَمَّرُوا عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْمُلَقَّبَ بَبَّهْ بِمُوَحَّدَتَيْنِ الثَّانِيَةُ ثَقِيلَةٌ وَأُمُّهُ هِنْدُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ، وَوَقَعَتِ الْحَرْبُ وَقَامَ مَسْعُودٌ بِأَمْرِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ فَقُتِلَ مَسْعُودٌ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ فَهَرَبَ، فَتَبِعُوهُ وَانْتَهبوا مَا وَجَدُوا لَهُ، وَكَانَ مَسْعُودٌ رَتَّبَ مَعَهُ مِائَةَ نَفْسٍ يَحْرُسُونَهُ، فَقَدِمُوا بِهِ الشَّامَ قَبْلَ أَنْ يُبْرِمُوا أَمْرَهُمْ، فَوَجَدُوا مَرْوَانَ قَدْ هَمَّ أَنْ يَرْحَلَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ لِيُبَايِعَهُ وَيَسْتَأْمِنَ لِبَنِي أُمَيَّةَ، فَثَنَى رَأْيَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَجَمَعَ مَنْ كَانَ يَهْوَى بَنِي أُمَيَّةَ وَتَوَجَّهُوا إِلَى دِمَشْقَ وَقَدْ بَايَعَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ بِهَا لِابْنِ الزُّبَيْرِ، وَكَذَا النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ

بِحِمْصَ، وَكَذَا نَاتِلٌ بِنُونٍ وَمُثَنَّاةٍ ابْنُ قَيْسٍ بِفِلَسْطِينَ، وَلَمْ يَبْقَ عَلَى رَأْيِ الْأُمَوِيِّينَ إِلَّا حَسَّانُ بْنُ بَحْدَلٍ بِمُوَحَّدَةٍ وَمُهْمَلَةٍ وَزْنُ جَعْفَرٍ وَهُوَ خَالُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ بِالْأُرْدُنِّ فِيمَنْ أَطَاعَهُ، فَكَانَتِ الْوَقْعَةُ بَيْنَ مَرْوَانَ وَمَنْ مَعَهُ وَبَيْنَ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ بِمَرْجِ رَاهِطٍ، فَقُتِلَ الضَّحَّاكُ وَتَفَرَّقَ جَمْعُهُ وَبَايَعُوا حِينَئِذٍ مَرْوَانَ بِالْخِلَافَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا. وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ فِي تَارِيخِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو مُسْهِرٍ عَبْدُ الْأَعْلَى قَالَ: بُويِعَ لِمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، بَايَعَ لَهُ أَهْلُ الْأُرْدُنِّ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ، وَسَائِرُ النَّاسِ زُبَيْرِيُّونَ، ثُمَّ اقْتَتَلَ مَرْوَانُ، وَشُعْبَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ بِمَرْجِ رَاهِطٍ فَغَلَبَ مَرْوَانُ وَصَارَتْ لَهُ الشَّامُ وَمِصْرُ، وَكَانَتْ مُدَّتُهُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ فَهَلَكَ بِدِمَشْقَ وَعَهِدَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ. وَقَالَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ فِي تَارِيخِهِ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ

ص: 72

جَدِّهِ وَأَبُو الْيَقْظَانِ وَغَيْرُهُمَا قَالُوا: قَدِمَ ابْنُ الزِّيَادِ الشَّامَ وَقَدْ بَايَعُوا ابْنَ الزُّبَيْرِ مَا خَلَا أَهْلَ الْجَابِيَةِ، ثُمَّ سَارُوا إِلَى مَرْجِ رَاهِطٍ فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَهَذَا يَدْفَعُ مَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ بَطَّالٍ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ بَايَعَ مَرْوَانَ ثُمَّ نَكَثَ.

قَوْلُهُ: (وَوَثَبَ الْقُرَّاءُ بِالْبَصْرَةِ) يُرِيدُ الْخَوَارِجَ، وَكَانُوا قَدْ ثَارُوا بِالْبَصْرَةِ بَعْدَ خُرُوجِ ابْنِ زِيَادٍ وَرَئِيسُهُمْ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ، ثُمَّ خَرَجُوا إِلَى الْأَهْوَازِ، وَقَدِ اسْتَوْفَى خَبَرَهُمُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَيُقَالُ إِنَّهُ أَرَادَ الَّذِينَ بَايَعُوا عَلَى قِتَالِ مَنْ قَتَلَ الْحُسَيْنَ وَسَارُوا مَعَ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى جِهَةِ الشَّامِ فَلَقِيَهُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ فِي جَيْشِ الشَّامِ مِنْ قِبَلِ مَرْوَانَ فَقُتِلُوا بِعَيْنِ الْوَرْدَةِ، وَقَدْ قَصَّ قِصَّتَهُمُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ.

قَوْلُهُ: (فَانْطَلَقْتُ مَعَ أَبِي إِلَى أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ) فِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ: فَقَالَ لِي أَبِي وَكَانَ يُثْنِي عَلَيْهِ خَيْرًا: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ عَوْفٍ: فَقَالَ أَبِي: انْطَلِقْ بِنَا لَا أَبَا لَكَ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَبِي بَرْزَةَ، وَعِنْدَ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ سُكَيْنِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِي عَلَى أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ، وَإِنَّ فِي أُذُنَيَّ يَوْمَئِذٍ لِقُرْطَيْنِ، وَإِنِّي لَغُلَامٌ.

قَوْلُهُ: (فِي ظِلِّ عُلِّيَّةٍ لَهُ مِنْ قَصَبٍ) زَادَ فِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ: فِي يَوْمٍ حَارٍّ شَدِيدِ الْحَرِّ، وَالْعُلِّيَّةُ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَبِكَسْرِهَا وَكَسْرِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ هِيَ الْغُرْفَةُ، وَجَمْعُهَا: عَلَالِيُّ، وَالْأَصْلُ عُلِّيْوَةٌ، فَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتْ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ: فِي ظِلِّ عُلُّولَةٍ.

قَوْلُهُ: (يَسْتَطْعِمُهُ الْحَدِيثَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: بِالْحَدِيثِ أَيْ يَسْتَفْتِحُ الْحَدِيثَ، وَيَطْلُبُ مِنْهُ التَّحْدِيثَ.

قَوْلُهُ: (إِنِّي احْتَسَبْتُ عِنْدَ اللَّهِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: أَحْتَسِبُ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ يَطْلُبُ بِسُخْطِهِ عَلَى الطَّوَائِفِ الْمَذْكُورِينَ مِنَ اللَّهِ الْأَجْرَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحُبَّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضَ فِي اللَّهِ مِنَ الْإِيمَانِ.

قَوْلُهُ: (سَاخِطًا) فِي رِوَايَةِ سُكَيْنٍ لَائِمًا.

قَوْلُهُ: (إِنَّكُمْ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ الْعَرِيبِ.

قَوْلُهُ: (كُنْتُمْ عَلَى الْحَالِ الَّذِي عَلِمْتُمْ) فِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ: عَلَى الْحَالِ الَّتِي كُنْتُمْ عَلَيْهَا فِي جَاهِلِيَّتِكُمْ، قَوْلُهُ: (وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَنْقَذَكُمْ بِالْإِسْلَامِ، وَبِمُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام فِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ: وَإِنَّ اللَّهَ نَعَشَكُمْ، بِفَتْحِ النُّونِ وَالْمُهْمَلَةِ ثُمَّ مُعْجَمَةٍ، وَسَيَأْتِي فِي أَوَائِلِ الِاعْتِصَامِ مِنْ رِوَايَةِ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَوْفٍ: أَنَّ أَبَا الْمِنْهَالِ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا بَرْزَةَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يُغْنِيكُمْ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ هُوَ الْبُخَارِيُّ: وَقَعَ هُنَا يُغْنِيكُمْ، يَعْنِي بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا نُونٌ مَكْسُورَةٌ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ، قَالَ: وَإِنَّمَا هُوَ: نَعَشَكُمْ، يُنْظَرُ فِي أَصْلِ الِاعْتِصَامِ، كَذَا وَقَعَ عِنْدَ الْمُسْتَمْلِي، وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ السَّكَنِ: نَعَشَكُمْ، عَلَى الصَّوَابِ، وَمَعْنَى نَعَشَكُمْ: رَفَعَكُمْ وَزْنُهُ وَمَعْنَاهُ، وَقِيلَ: عَضَّدَكُمْ وَقَوَّاكُمْ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ ذَاكَ الَّذِي بِالشَّامِ) زَادَ يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ: يَعْنِي مَرْوَانَ وَفِي رِوَايَةِ سُكَيْنٍ: عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى.

قَوْلُهُ: (وَإِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ) فِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ نَحْوُهُ: إِنَّ الَّذِينَ حَوْلَكُمُ الَّذِينَ تَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ قُرَّاؤُكُمْ، وَفِي رِوَايَةِ سُكَيْنٍ، وَذَكَرَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ وَزَادَ فِي آخِرِهِ فَقَالَ أَبِي: فَمَا تَأْمُرُنِي إِذًا؟ فَإِنِّي لَا أَرَاكَ تَرَكْتَ أَحَدًا، قَالَ: لَا أَرَى خَيْرَ النَّاسِ الْيَوْمَ إِلَّا عِصَابَةً خِمَاصَ الْبُطُونِ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ خِفَافَ الظُّهُورِ مِنْ دِمَائِهِمْ، وَفِي رِوَايَةِ سُكَيْنٍ: إِنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيَّ لَهَذِهِ الْعِصَابَةُ الْخَمِصَةُ بُطُونُهُمْ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ الْخَفِيفَةُ ظُهُورُهُمْ مِنْ دِمَائِهِمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَبَا بَرْزَةَ كَانَ يَرَى الِانْعِزَالَ فِي الْفِتْنَةِ وَتَرْكَ الدُّخُولِ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي طَلَبِ الْمُلْكِ. وَفِيهِ اسْتِشَارَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ عِنْدَ نُزُولِ الْفِتَنِ، وَبَذْلُ الْعَالِمِ النَّصِيحَةَ لِمَنْ يَسْتَشِيرُهُ، وَفِيهِ الِاكْتِفَاءُ فِي إِنْكَارِ الْمُنْكَرِ بِالْقَوْلِ، وَلَوْ فِي غَيْبَةِ مَنْ يُنْكِرُ عَلَيْهِ؛ لِيَتَّعِظَ مَنْ يَسْمَعُهُ، فَيَحْذَرَ مِنَ

ص: 73

الْوُقُوعِ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (وَإِنَّ ذَاكَ الَّذِي بِمَكَّةَ) زَادَ يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ: يَعْنِي ابْنَ الزُّبَيْرِ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: (عَنْ وَاصِلٍ الْأَحْدَبِ) هُوَ ابْنُ حَيَّانَ، بِمُهْمَلَةٍ، ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ ثَقِيلَةٍ، أَسَدِيٌّ كُوفِيٌّ، يُقَالُ لَهُ: بَيَّاعُ السَّابِرِيِّ، بِمُهْمَلَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ مِنْ طَبَقَةِ الْأَعْمَشِ، وَلَكِنَّهُ قَدِيمُ الْمَوْتِ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ الْيَوْمَ شَرٌّ مِنْهُمْ) فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ آدَمَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ الْيَوْمَ شَرٌّ مِنْهُمْ، أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ.

قَوْلُهُ: (عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمُقَدَّرٍ نَحْوَ النَّاسِ؛ إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالضَّمِيرِ الْقَائِمِ مَقَامَ الْمُنَافِقِينَ؛ لِأَنَّ الضَّمِيرَ لَا يَعْمَلُ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِنَّمَا كَانُوا شَرًّا مِمَّنْ قَبْلَهُمْ؛ لِأَنَّ الْمَاضِينَ كَانُوا يُسِرُّونَ قَوْلَهُمْ فَلَا يَتَعَدَّى شَرُّهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَأَمَّا الْآخَرُونَ فَصَارُوا يَجْهَرُونَ بِالْخُرُوجِ عَلَى الْأَئِمَّةِ. وَيُوقِعُونَ الشَّرَّ بَيْنَ الْفِرَقِ، فَيَتَعَدَّى ضَرَرُهُمْ لِغَيْرِهِمْ. قَالَ: وَمُطَابَقَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ جَهْرَهُمْ بِالنِّفَاقِ وَشَهْرَ السِّلَاحِ عَلَى النَّاسِ هُوَ الْقَوْلُ بِخِلَافِ مَا بَذَلُوهُ مِنَ الطَّاعَةِ، حِينَ بَايَعُوا أَوَّلًا مَنْ خَرَجُوا عَلَيْهِ آخِرًا. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: أَرَادَ أَنَّهُمْ أَظْهَرُوا مِنَ الشَّرِّ مَا لَمْ يُظْهِرْ أُولَئِكَ، غَيْرَ أَنَّهُمْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِالْكُفْرِ، وَإِنَّمَا هُوَ النَّفْثُ يُلْقُونَهُ بِأَفْوَاهِهِمْ، فَكَانُوا يُعْرَفُونَ بِهِ. كَذَا قَالَ، وَيَشْهَدُ لِمَا قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ مَا أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ: قُلْتُ لِحُذَيْفَةَ: النِّفَاقُ الْيَوْمَ شَرٌّ أَمْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى جَبْهَتِهِ، وَقَالَ: أَوَّهْ، هُوَ الْيَوْمَ ظَاهِرٌ؛ إِنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَخْفُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ) هُوَ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ، وَاسْمُهُ سُلَيْمُ بْنُ أَسْوَدَ الْمُحَارِبِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ حُذَيْفَةَ) لَمْ أَرَ لِأَبِي الشَّعْثَاءِ، عَنْ حُذَيْفَةَ فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثَ، وَلَمْ أَرَهُ إِلَّا مُعَنْعَنًا، وَكَأَنَّهُ تَسَمَّحَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ قَبْلَهُ، أَوْ ثَبْتَ عِنْدَهُ لُقِيُّهُ حُذَيْفَةَ فِي غَيْرِ هَذَا.

قَوْلُهُ: (إِنَّمَا كَانَ النِّفَاقُ) أَيْ: مَوْجُودًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ آدَمَ، عَنْ مِسْعَرٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: كَانَ الْمُنَافِقُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (فَأَمَّا الْيَوْمَ، فَإِنَّمَا هُوَ الْكُفْرُ بَعْدَ الْإِيمَانِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةٍ: فَإِنَّمَا هُوَ الْكُفْرُ أَوِ الْإِيمَانُ، وَكَذَا حَكَى الْحُمَيْدِيُّ فِي جَمْعِهِ أَنَّهُمَا رِوَايَتَانِ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ مِسْعَرٍ: فَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ الْكُفْرُ بَعْدَ الْإِيمَانِ، قَالَ: وَزَادَ مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ مِسْعَرٍ: فَضَحِكَ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ حَبِيبٌ: فَقُلْتُ لِأَبِي الشَّعْثَاءِ: مِمَّ ضَحِكَ عَبْدُ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي. قُلْتُ: لَعَلَّهُ عَرَفَ مُرَادَهُ فَتَبَسَّمَ تَعَجُّبًا مِنْ حِفْظِهِ أَوْ فَهْمِهِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: كَانَ الْمُنَافِقُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آمَنُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ، وَأَمَّا مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ، فَإِنَّهُ وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ وَعَلَى فِطْرَتِهِ فَمَنْ كَفَرَ مِنْهُمْ فَهُوَ مُرْتَدٌّ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَتْ أَحْكَامُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُرْتَدِّينَ انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ حُذَيْفَةَ لَمْ يُرِدْ نَفْيَ الْوُقُوعِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ نَفْيَ اتِّفَاقِ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ النِّفَاقَ إِظْهَارُ الْإِيمَانِ وَإِخْفَاءُ الْكُفْرِ، وَوُجُودُ ذَلِكَ مُمْكِنٌ فِي كُلِّ عَصْرٍ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْحُكْمُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَأَلَّفُهُمْ، وَيَقْبَلُ مَا أَظْهَرُوهُ مِنَ الْإِسْلَامِ وَلَوْ ظَهَرَ مِنْهُمُ احْتِمَالُ خِلَافِهِ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَمَنْ أَظْهَرَ شَيْئًا، فَإِنَّهُ يُؤَاخَذُ بِهِ، وَلَا يُتْرَكُ لِمَصْلَحَةِ التَّأَلُّفِ؛ لِعَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إِلَى ذَلِكَ، وَقِيلَ: غَرَضُهُ أَنَّ الْخُرُوجَ عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ جَاهِلِيَّةٌ، وَلَا جَاهِلِيَّةَ فِي الْإِسْلَامِ، أَوْ تَفْرِيقٌ لِلْجَمَاعَةِ، فَهُوَ بِخِلَافِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَلَا تَفَرَّقُوا.

وَكُلُّ ذَلِكَ غَيْرُ مَسْتُورٍ، فَهُوَ كَالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِيمَانِ.

‌22 - بَاب لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُغْبَطَ أَهْلُ الْقُبُورِ

7115 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

ص: 74

قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ، فَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِي مَكَانَهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُغْبَطَ أَهْلُ الْقُبُورِ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ ثَالِثِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: غَبَطَهُ بِالْفَتْحِ يَغْبِطُهُ بِالْكَسْرِ غَبْطًا وَغِبْطَةً بِالسُّكُونِ، وَالْغِبْطَةُ تَمَنِّي مِثْلَ حَالِ الْمَغْبُوطِ مَعَ بَقَاءِ حَالِهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ أُوَيْسٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) وَافَقَ مَالِكًا، شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ عَنْهُ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ بَابَيْنِ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ.

قَوْلُهُ: حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ، فَيَقُولَ: يَا لَيْتَنِي مَكَانَهُ، أَيْ: كُنْتُ مَيِّتًا. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: تَغَبُّطُ أَهْلِ الْقُبُورِ، وَتَمَنِّي الْمَوْتِ عِنْدَ ظُهُورِ الْفِتَنِ، إِنَّمَا هُوَ خَوْفُ ذَهَابِ الدِّينِ بِغَلَبَةِ الْبَاطِلِ وَأَهْلِهِ وَظُهُورِ الْمَعَاصِي وَالْمُنْكَرِ

انْتَهَى. وَلَيْسَ هَذَا عَامًّا فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا هُوَ خَاصٌّ بِأَهْلِ الْخَيْرِ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ، فَقَدْ يَكُونُ لِمَا يَقَعُ لِأَحَدِهِمْ مِنَ الْمُصِيبَةِ فِي نَفْسِهِ أَوْ أَهْلِهِ أَوْ دُنْيَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ يَتَعَلَّقُ بِدِينِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ عَلَى الْقَبْرِ فَيَتَمَرَّغَ عَلَيْهِ، وَيَقُولَ: يَا لَيْتَنِي مَكَانَ صَاحِبِ هَذَا الْقَبْرِ، وَلَيْسَ بِهِ الدِّينُ إِلَّا الْبَلَاءُ.

وَذَكَرَ الرَّجُلَ فِيهِ لِلْغَالِبِ، وَإِلَّا فَالْمَرْأَةُ يُتَصَوَّرُ فِيهَا ذَلِكَ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ مَا ذُكِرَ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَازِمٍ أَنَّهُ: يَقَعُ الْبَلَاءُ وَالشِّدَّةُ حَتَّى يَكُونَ الْمَوْتُ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْمَصَائِبِ أَهْوَنَ عَلَى الْمَرْءِ، فَيَتَمَنَّى أَهْوَنَ الْمُصِيبَتَيْنِ فِي اعْتِقَادِهِ، وَبِهَذَا جَزَمَ الْقُرْطُبِيُّ، وَذَكَرَهُ عِيَاضٌ احْتِمَالًا، وَأَغْرَبَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ فَقَالَ: الْمُرَادُ بِالدِّينِ هُنَا الْعِبَادَةُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَتَمَرَّغُ عَلَى الْقَبْرِ، وَيَتَمَنَّى الْمَوْتَ فِي حَالَةٍ لَيْسَ الْمُتَمَرِّغُ فِيهَا مِنْ عَادَتِهِ، وَإِنَّمَا الْحَامِلُ عَلَيْهِ الْبَلَاءُ، وَتَعَقَّبَهُ الطِّيبِيُّ بِأَنَّ حَمْلَ الدِّينِ عَلَى حَقِيقَتِهِ أَوْلَى، أَيْ: لَيْسَ التَّمَنِّي وَالتَّمَرُّغُ لِأَمْرٍ أَصَابَهُ مِنْ جِهَةِ الدِّينِ، بَلْ مِنْ جِهَةِ الدُّنْيَا، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا الْح دِيثَ مُعَارِضٌ لِلنَّهْيِ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا فِي هَذَا أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ سَيَكُونُ لِشِدَّةٍ تَنْزِلُ بِالنَّاسِ مِنْ فَسَادِ الْحَالِ فِي الدِّينِ، أَوْ ضَعْفِهِ، أَوْ خَوْفِ ذَهَابِهِ لَا لِضَرَرٍ يَنْزِلُ فِي الْجِسْمِ، كَذَا قَالَ، وَكَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ هُوَ حَيْثُ يَتَعَلَّقُ بِضَرَرِ الْجِسْمِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ لِضَرَرٍ يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ فَلَا. وَقَدْ ذَكَرَهُ عِيَاضٌ احْتِمَالًا أَيْضًا، وَقَالَ غَيْرُهُ: لَيْسَ بَيْنَ هَذَا الْخَبَرِ وَحَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ مُعَارَضَةٌ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ صَرِيحٌ، وَهَذَا إِنَّمَا فِيهِ إِخْبَارٌ عَنْ شِدَّةٍ سَتَحْصُلُ يَنْشَأُ عَنْهَا هَذَا التَّمَنِّي، وَلَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِحُكْمِهِ، وَإِنَّمَا سِيقَ لِلْإِخْبَارِ عَمَّا سَيَقَعُ.

قُلْتُ: وَيُمْكِنُ أَخْذُ الْحُكْمِ مِنَ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلَيْسَ بِهِ الدِّينُ إِنَّمَا هُوَ الْبَلَاءُ، فَإِنَّهُ سِيقَ مَسَاقَ الذَّمِّ وَالْإِنْكَارِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ لَوْ فُعِلَ ذَلِكَ بِسَبَبِ الدِّينِ لَكَانَ مَحْمُودًا، وَيُؤَيِّدُهُ ثُبُوتُ تَمَنِّي الْمَوْتِ عِنْدَ فَسَادِ أَمْرِ الدِّينِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: لَا كَرَاهَةَ فِي ذَلِكَ، بَلْ فَعَلَهُ خَلَائِقُ مِنَ السَّلَفِ مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعِيسَى الْغِفَارِيُّ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيْرُهُمْ. ثُمَّ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: كَأَنَّ فِي الْحَدِيثِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْفِتَنَ وَالْمَشَقَّةَ الْبَالِغَةَ سَتَقَعُ حَتَّى يَخِفَّ أَمْرُ الدِّينِ وَيَقِلَّ الِاعْتِنَاءُ بِأَمْرِهِ، وَلَا يَبْقَى لِأَحَدٍ اعْتِنَاءٌ إِلَّا بِأَمْرِ دُنْيَاهُ وَمَعَاشِهِ نَفْسِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَمِنْ ثَمَّ عَظُمَ قَدْرُ الْعِبَادَةِ أَيَّامَ الْفِتْنَةِ، كَمَا أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رَفَعَهُ: الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ، وَيُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ: حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ أَنَّ التَّمَنِّيَ الْمَذْكُورَ إِنَّمَا يَحْصُلُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْقَبْرِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُرَادًا، بَلْ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى قُوَّةِ هَذَا التَّمَنِّي؛ لِأَنَّ الَّذِي يَتَمَنَّى الْمَوْتَ بِسَبَبِ الشِّدَّةِ الَّتِي تَحْصُلُ عِنْدَهُ قَدْ يَذْهَبُ ذَلِكَ التَّمَنِّي أَوْ يَخِفُّ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ الْقَبْرِ وَالْمَقْبُورِ، فَيَتَذَكَّرُ هَوْلَ الْمَقَامِ فَيَضْعُفُ تَمَنِّيهِ، فَإِذَا تَمَادَى عَلَى ذَلِكَ دَلَّ عَلَى تَأَكُّدِ أَمْرِ تِلْكَ الشِّدَّةِ عِنْدَهُ؛ حَيْثُ لَمْ يَصْرِفْهُ مَا شَاهَدَهُ مِنْ وَحْشَةِ الْقَبْرِ وَتَذَكُّرِ مَا فِيهِ مِنَ الْأَهْوَالِ عَنِ اسْتِمْرَارِهِ عَلَى تَمَنِّي الْمَوْتِ.

وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ

ص: 75

أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: عُدْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ اشْفِ أَبَا هُرَيْرَةَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تَرْجِعْهَا، إِنِ اسْتَطَعْتَ يَا أَبَا سَلَمَةَ فَمُتْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيَأْتِيَنَّ عَلَى الْعُلَمَاءِ زَمَانٌ الْمَوْتُ أَحَبُّ إِلَى أَحَدِهِمْ مِنَ الذَّهَبِ الْأَحْمَرِ. وَلَيَأْتِيَنَّ أَحَدُهُمْ قَبْرَ أَخِيهِ فَيَقُولُ: لَيْتَنِي مَكَانَهُ، وَفِي كِتَابِ الْفِتَنِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: يُوشِكُ أَنْ تَمُرَّ الْجِنَازَةُ فِي السُّوقِ عَلَى الْجَمَاعَةِ فَيَرَاهَا الرَّجُلُ فَيَهُزَّ رَأْسَهُ فَيَقُولَ: يَا لَيْتَنِي مَكَانَ هَذَا، قُلْتُ: يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ أَمْرٍ عَظِيمٍ؟ قَالَ: أَجَلْ.

‌23 - بَاب تَغْيِيرِ الزَّمَانِ حَتَّى تُعْبَدَ الْأَوْثَانُ

7116 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ:، أَخْبَرَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَضْطَرِبَ أَلَيَاتُ نِسَاءِ دَوْسٍ عَلَى ذِي الْخَلَصَةِ، وَذُو الْخَلَصَةِ طَاغِيَةُ دَوْسٍ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. قَوْلُهُ (بَابُ تَغَيُّرِ الزَّمَانِ حَتَّى تُعْبَدَ ال أَوْثَانُ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ.

7117 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ ثَوْرٍ عَنْ أَبِي الْغَيْثِ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ رَجُلٌ مِنْ قَحْطَانَ يَسُوقُ النَّاسَ بِعَصَاهُ"

قَوْلُهُ: (عَنِ الزُّهْرِيِّ) فِي إِحْدَى رِوَايَتَيِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى تَضْطَرِبَ) أَيْ يَضْرِبَ بَعْضُهَا بَعْضًا.

قَوْلُهُ: (أَلَيَاتُ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَاللَّامِ جَمْعُ أَلْيَةٍ بِالْفَتْحِ أَيْضًا مِثْلُ جَفْنَةٍ وَجَفَنَاتٍ، وَالْأَلْيَةُ الْعَجِيزَةُ، وَجَمْعُهَا أَعْجَازٌ.

قَوْلُهُ: (عَلَى ذِي الْخَلَصَةِ) فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ: حَوْلَ ذِي الْخَلَصَةِ.

قَوْلُهُ: (وَذُو الْخَلَصَةِ طَاغِيَةُ دَوْسٍ) أَيْ صَنَمُهُمْ، وَقَوْلُهُ: الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ، كَذَا فِيهِ بِحَذْفِ الْمَفْعُولِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ: وَكَانَ صَنَمًا تَعْبُدُهَا دَوْسٌ.

قَوْلُهُ: (فِي الْجَاهِلِيَّةِ) زَادَ مَعْمَرٌ: بِتَبَالَةَ، وَتَبَالَةُ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ لَامٌ ثُمَّ هَاءُ تَأْنِيثٍ: قَرْيَةٌ بَيْنَ الطَّائِفِ وَالْيَمَنِ بَيْنَهُمَا سِتَّةُ أَيَّامٍ، وَهِيَ الَّتِي يُضْرَبُ بِهَا الْمَثَلُ فَيُقَالُ: أَهْوَنُ مِنْ تَبَالَةَ عَلَى الْحَجَّاجِ.

وَذَلِكَ أَنَّهَا أَوَّلُ شَيْءٍ وَلِيَهُ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْهَا سَأَلَ مَنْ مَعَهُ عَنْهَا فَقَالَ: هِيَ وَرَاءَ تِلْكَ الْأَكَمَةِ. فَرَجَعَ فَقَالَ: لَا خَيْرَ فِي بَلَدٍ يَسْتُرُهَا أَكَمَةٌ، وَكَلَامُ صَاحِبِ الْمَطَالِعِ يَقْتَضِي أَنَّهُمَا مَوْضِعَانِ: وَأَنَّ الْمُرَادَ فِي الْحَدِيثِ غَيْرُ تَبَالَةَ الْحَجَّاجِ، وَكَلَامُ يَاقُوتٍ يَقْتَضِي أَنَّهَا هِيَ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْهَا فِي الْمُشْتَرَكِ، وَعِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: قَالَ مَعْمَرٌ: إنَّ عَلَيْهِ الْآنَ بَيْتًا مَبْنِيًّا مُغْلَقًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ضَبْطُ ذِي الْخَلَصَةِ فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي، وَبَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي أَنَّهُ وَاحِدٌ أَوِ اثْنَانِ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: فِيهِ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ نِسَاءَ دَوْسٍ يَرْكَبْنَ الدَّوَابَّ مِنَ الْبُلْدَانِ إِلَى الصَّنَمِ الْمَذْكُورِ، فَهُوَ الْمُرَادُ بِاضْطِرَابِ أَلَيَاتِهِنَّ.

قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُنَّ يَتَزَاحَمْنَ بِحَيْثُ تَضْرِبُ عَجِيزَةُ بَعْضِهِنَّ الْأُخْرَى عِنْدَ الطَّوَافِ حَوْلَ الصَّنَمِ الْمَذْكُورِ. وَفِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ مَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُدَافَعَ مَنَاكِبُ نِسَاءِ بَنِي عَامِرٍ عَلَى ذِي الْخَلَصَةِ، وَابْنُ عَدِيٍّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُعْبَدَ اللَّاتُ وَالْعُزَّى، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذَا الْحَدِيثُ وَمَا أَشْبَهَهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ الدِّينَ يَنْقَطِعُ كُلُّهُ فِي جَمِيعِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَبْقَى إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، إِلَّا أَنَّهُ يَضْعُفُ

ص: 76

وَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ. ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ: لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ. الْحَدِيثَ قَالَ: فَتَبَيَّنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَخْصِيصُ الْأَخْبَارِ الْأُخْرَى، وَأَنَّ الطَّائِفَةَ الَّتِي تَبْقَى عَلَى الْحَقِّ تَكُونُ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ. قَالَ: فَبِهَذَا تَأْتَلِفُ الْأَخْبَارُ. قُلْتُ: لَيْسَ فِيمَا احْتَجَّ بِهِ تَصْرِيحٌ إِلَى بَقَاءِ أُولَئِكَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَإِنَّمَا فِيهِ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِأَمْرِ اللَّهِ مَا ذُكِرَ مِنْ قَبْضِ مَنْ بَقِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَظَوَاهِرُ الْأَخْبَارِ تَقْتَضِي أَنَّ الْمَوْصُوفِينَ بِكَوْنِهِمْ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ أَنَّ آخِرَهُمْ مَنْ كَانَ مَعَ عِيسَى عليه السلام، ثُمَّ إِذَا بَعَثَ اللَّهُ الرِّيحَ الطَّيِّبَةَ فَقَبَضَتْ رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ لَمْ يَبْقَ إِلَّا شِرَارُ النَّاسِ.

وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ النَّاسِ وَذَلِكَ إِنَّمَا يَقَعُ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجِ الدَّابَّةِ وَسَائِرِ الْآيَاتِ الْعِظَامِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْآيَاتِ الْعِظَامَ مِثْلُ السِّلْكِ إِذَا انْقَطَعَ تَنَاثَرَ الْخَرَزُ بِسُرْعَةٍ، وَهُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَفِي مُرْسَلِ أَبِي الْعَالِيَةِ الْآيَاتُ كُلُّهَا فِي سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ وَقَدْ أَوْرَدَ مُسْلِمٌ عَقِبَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ مَا يُشِيرُ إِلَى بَيَانِ الزَّمَانِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ ذَلِكَ وَلَفْظُهُ: لَا يَذْهَبُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ حَتَّى تُعْبَدَ اللَّاتُ وَالْعُزَّى وَفِيهِ يَبْعَثُ اللَّهُ رِيحًا طَيِّبَةً فَتَوَفَّى كُلَّ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَيَبْقَى مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ، فَيَرْجِعُونَ إِلَى دِينِ آبَائِهِمْ، وَعِنْدَهُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَفَعَهُ: يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فِي أُمَّتِي.

الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَيَبْعَثُ اللَّهُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَيَطْلُبُهُ فَيُهْلِكُهُ، ثُمَّ يَمْكُثُ النَّاسُ سَبْعَ سِنِينَ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ رِيحًا بَارِدَةً مِنْ قِبَلِ الشَّامِ فَلَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَيْرٍ أَوْ إِيمَانٍ إِلَّا قَبَضَتْهُ، وَفِيهِ: فَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ فِي خِفَّةِ الطَّيْرِ وَأَحْلَامِ السِّبَاعِ، لَا يَعْرِفُونَ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُونَ مُنْكَرًا، فَيَتَمَثَّلُ لَهُمُ الشَّيْطَانُ فَيَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّوَرِ، فَظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِأَمْرِ اللَّهِ فِي حَدِيثِ: لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ وُقُوعُ الْآيَاتِ الْعِظَامِ الَّتِي يَعْقُبُهَا قِيَامُ السَّاعَةِ، وَلَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلَّا شَيْئًا يَسِيرًا، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَفَعَهُ: لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ حَتَّى يُقَاتِلَ آخِرُهُمُ الدَّجَّالَ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ صِحَّةُ مَا تَأَوَّلْتُهُ؛ فَإِنَّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ الدَّجَّالَ يَكُونُونَ بَعْدَ قَتْلِهِ مَعَ عِيسَى، ثُمَّ يُرْسَلُ عَلَيْهِمُ الرِّيحُ الطَّيِّبَةُ، فَلَا يَبْقَى بَعْدَهُمْ إِلَّا الشِّرَارُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَوَجَدْتُ فِي هَذَا مُنَاظَرَةً لِعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، فَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شَمَّاسَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ الْخَلْقِ هُمْ شَرٌّ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ.

فَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ: عَبْدُ اللَّهِ أَعْلَمُ مَا يَقُولُ، وَأَمَّا أَنَا فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ ظَاهِرِينَ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَجَلْ، وَيَبْعَثُ اللَّهُ رِيحًا رِيحُهَا رِيحُ الْمِسْكِ، وَمَسُّهَا مَسُّ الْحَرِيرِ، فَلَا تَتْرُكُ أَحَدًا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ إِلَّا قَبَضَتْهُ، ثُمَّ يَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ، فَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ: حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ، سَاعَتُهُمْ هُمْ وَهِيَ وَقْتُ مَوْتِهِمْ بِهُبُوبِ الرِّيحِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ شَيْءٍ مِنْ هَذَا فِي أَوَاخِرِ الرِّقَاقِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنَ الْمُغْرِبِ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ الْأُوَيْسِيُّ، وَسُلَيْمَانُ هُوَ ابْنُ بِلَالٍ، وَثَوْرٌ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ، وَأَبُو الْغَيْثِ هُوَ سَالِمٌ، وَالسَّنَدُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ.

قَوْلُهُ (حَتَّى يَخْرُجَ رَجُلٌ مِنْ قَحْطَانَ) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَائِلِ مَنَاقِبِ قُرَيْشٍ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي التَّذْكِرَةِ: قَوْلُهُ يَسُوقُ النَّاسَ بِعَصَاهُ. كِنَايَةٌ عَنْ غَلَبَتِهِ عَلَيْهِمْ وَانْقِيَادِهِمْ لَهُ، وَلَمْ يُرِدْ نَفْسَ الْعَصَا، لَكِنْ فِي ذِكْرِهَا إِشَارَةٌ إِلَى خُشُونَتِهِ عَلَيْهِمْ وَعَسْفِهِ بِهِمْ، قَالَ: وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ يَسُوقُهُمْ بِعَصَاهُ حَقِيقَةً كَمَا تُسَاقُ الْإِبِلُ وَالْمَاشِيَةُ، لِشِدَّةِ عُنْفِهِ وَعُدْوَانِهِ، قَالَ: وَلَعَلَّهُ

ص: 77

جَهْجَاهٌ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ، وَأَصْلُ الْجَهْجَاهِ الصِّيَاحُ، وَهِيَ صِفَةٌ تُنَاسِبُ ذِكْرَ الْعَصَا. قُلْتُ: وَيَرُدُّ هَذَا الِاحْتِمَالَ إِطْلَاقُ كَوْنِهِ مِنْ قَحْطَانَ، فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ مِنَ الْأَحْرَارِ، وَتَقْيِيدُهُ فِي جَهْجَاهٍ بِأَنَّهُ مِنَ الْمَوَالِي مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ يَكُونُ بَعْدَ الْمَهْدِيِّ، وَعَلَى سِيرَتِهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ دُونَهُ. ثُمَّ وَجَدْتُ فِي كِتَابِ التِّيجَانِ لِابْنِ هِشَامٍ مَا يُعْرَفُ مِنْهُ - إِنْ ثَبَتَ - اسْمُ الْقَحْطَانِيِّ وَسِيرَتُهُ وَزَمَانُهُ، فَذَكَرَ أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ عَامِرٍ كَانَ مَلِكًا مُتَوَّجًا، وَكَانَ كَاهِنًا مُعَمِّرًا، وَأَنَّهُ قَالَ لِأَخِيهِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ الْمَعْرُوفِ بِمُزَيْقِيَا لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ: إِنَّ بِلَادَكُمْ سَتُخَرَّبُ، وَإِنَّ لِلَّهِ فِي أَهْلِ الْيَمَنِ سَخْطَتَيْنِ وَرَحْمَتَيْنِ: فَالسَّخْطَةُ الْأُولَى هَدْمُ سُدِّ مَأْرَبٍ وَتَخْرَبُ الْبِلَادُ بِسَبَبِهِ، وَالثَّانِيَةُ غَلَبَةُ الْحَبَشَةِ عَلَى أَرْضِ الْيَمَنِ.

وَالرَّحْمَةُ الْأُولَى بَعْثَةُ نَبِيٍّ مِنْ تِهَامَةَ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ يُرْسَلُ بِالرَّحْمَةِ وَيَغْلِبُ أَهْلَ الشِّرْكِ، وَالثَّانِيَةُ إِذَا خَرِبَ بَيْتُ اللَّهِ يَبْعَثُ اللَّهُ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ شُعَيْبُ بْنُ صَالِحٍ فَيُهْلِكُ مَنْ خَرَّبَهُ وَيُخْرِجُهُمْ حَتَّى لَا يَكُونَ بِالدُّنْيَا إِيمَانٌ إِلَّا بِأَرْضِ الْيَمَنِ انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَجِّ أَنَّ الْبَيْتَ يُحَجُّ بَعْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَتَقَدَّمَ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُحَجَّ الْبَيْتُ وَأَنَّ الْكَعْبَةَ يُخَرِّبُهَا ذُو السَّوِيقَتَيْنِ مِنَ الْحَبَشَةِ، فَيَنْتَظِمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْحَبَشَةَ إِذَا خَرَّبَتِ الْبَيْتَ خَرَجَ عَلَيْهِمُ الْقَحْطَانِيُّ فَأَهْلَكَهُمْ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَ ذَلِكَ يَحُجُّونَ فِي زَمَنِ عِيسَى بَعْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَهَلَاكِهِمْ، وَأَنَّ الرِّيحَ الَّتِي تَقْبِصُ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ تَبْدَأُ بِمَنْ بَقِيَ بَعْدَ عِيسَى وَيَتَأَخَّرُ أَهْلُ الْيَمَنِ بَعْدَهَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِمَّا يُفَسَّرُ بِهِ قَوْلُهُ: الْإِيمَانُ يَمَانٌ، أَيْ يَتَأَخَّرُ الْإِيمَانُ بِهَا بَعْدَ فَقْدِهِ مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ. وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ حَدِيثَ الْقَحْطَانِيِّ عَقِبَ حَدِيثِ تَخْرِيبِ الْكَعْبَةِ ذُو السَّوِيقَتَيْنِ فَلَعَلَّهُ رَمَزَ إِلَى هَذَا، وَسَيَأْتِي فِي أَوَاخِرِ الْأَحْكَامِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ فِي الْخُلَفَاءِ الْاثْنَي عَشَرَ شَيْءٌ يَتَعَلَّقُ بِالْقَحْطَانِيِّ. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ هُنَا: لَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ تَرْجَمَةِ الْبَابِ فِي شَيْءٍ.

وَذَكَرَ ابْنُ بَطَّالٍ أَنَّ الْمُهَلَّبَ أَجَابَ بِأَنَّ وَجْهَهُ أَنَّ الْقَحْطَانِيَّ إِذَا قَامَ وَلَيْسَ مِنْ بَيْتِ النُّبُوَّةِ وَلَا مِنْ قُرَيْشٍ الَّذِينَ جَعَلَ اللَّهُ فِيهِمُ الْخِلَافَةَ فَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ تَغَيُّرِ الزَّمَانِ وَتَبْدِيلِ الْأَحْكَامِ بِأَنْ يُطَاعَ فِي الدِّينِ مَنْ لَيْسَ أَهْلًا لِذَلِكَ

انْتَهَى. وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ مُطَابِقٌ لِصَدْرِ التَّرْجَمَةِ، وَهُوَ تَغَيُّرُ الزَّمَانِ، وَتَغَيُّرُهُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى الْفِسْقِ أَوِ الْكُفْرِ، وَغَايَتُهُ أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى الْكُفْرِ، فَقِصَّةُ الْقَحْطَانِيِّ مُطَابِقَةٌ لِلتَّغَيُّرِ بِالْفِسْقِ مَثَلًا، وَقِصَّةُ ذِي الْخَلَصَةِ لِلتَّغَيُّرِ بِالْكُفْرِ، وَاسْتُدِلَّ بِقَصِّهِ الْقَحْطَانِيِّ عَلَى أَنَّ الْخِلَافَةَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي غَيْرِ قُرَيْشٍ، وَأَجَابَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ بِأَنَّهُ إِنْذ ارٌ بِمَا يَكُونُ مِنَ الشَّرِّ فِي آخِرِ الزَّمَانِ مِنْ تَسَوُّرِ الْعَامَّةِ عَلَى مَنَازِلِ الِاسْتِقَامَةِ، فَلَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ لِأَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُدَّعِي، وَلَا يُعَارِضُ مَا ثَبَتَ مِنْ أَنَّ الْأَئِمَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ

انْتَهَى. وَسَيَأْتِي بَسْطُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ فِي بَابِ الْأُمَرَاءِ مِنْ قُرَيْشٍ أَوَّلَ كِتَابِ الْأَحْكَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌24 - بَاب خُرُوجِ النَّارِ

وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ نَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنْ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ.

7118 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عن سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، أَخْبَرَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَخْرُجَ نَارٌ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ تُضِيءُ أَعْنَاقَ الْإِبِلِ بِبُصْرَى.

7119 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ الْكِنْدِيُّ حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ جَدِّهِ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُوشِكُ الْفُرَاتُ أَنْ يَحْسِرَ

ص: 78

عَنْ كَنْزٍ مِنْ ذَهَبٍ فَمَنْ حَضَرَهُ فَلَا يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا قَالَ عُقْبَةُ وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ" إِلاَّ أَنَّهُ قَالَ "يَحْسِرُ عَنْ جَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ"

قَوْلُهُ: (بَابُ خُرُوجِ النَّارِ) أَيْ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ، ذَكَرَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ:

الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ نَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمُغْرِبِ) وَتَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ بَابِ الْهِجْرَةِ فِي قِصَّةِ إِسْلَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ مَوْصُولًا، مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ وَلَفْظُهُ: وَأَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحْشُرُهُمْ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَوَصَلَهُ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ حُمَيْدٍ بِلَفْظِ: نَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ، وَالْمُرَادُ بِالْأَشْرَاطِ الْعَلَامَاتُ الَّتِي يَعْقُبُهَا قِيَامُ السَّاعَةِ، وَتَقَدَّمَ فِي بَابِ الْحَشْرِ مِنْ كِتَابِ الرِّقَاقِ صِفَةُ حَشْرِ النَّارِ لَهُمْ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: (عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ: عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى تَخْرُجَ نَارٌ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ) قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي التَّذْكِرَةِ: قَدْ خَرَجَتْ نَارٌ بِالْحِجَازِ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ بَدْؤُهَا زَلْزَلَةً عَظِيمَةً فِي لَيْلَةِ الْأَرْبِعَاءِ بَعْدَ الْعَتَمَةِ الثَّالِثِ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَاسْتَمَرَّتْ إِلَى ضُحَى النَّهَارِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَسَكَنَتْ، وَظَهَرَتِ النَّارُ بِقُرَيْظَةَ بِطَرَفِ الْحَرَّةِ، تُرَى فِي صُورَةِ الْبَلَدِ الْعَظِيمِ عَلَيْهَا سُورٌ مُحِيطٌ عَلَيْهِ شَرَارِيفُ وَأَبْرَاجٌ وَمَآذِنُ، وَتَرَى رِجَالًا يَقُودُونَهَا، لَا تَمُرُّ عَلَى جَبَلٍ إِلَّا دَكَّتْهُ وَأَذَابَتْهُ، وَيَخْرُجُ مِنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ مِثْلُ النَّهَرِ أَحْمَرُ وَأَزْرَقُ لَهُ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ الرَّعْدِ يَأْخُذُ الصُّخُورَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَنْتَهِي إِلَى مَحَطِّ الرَّكْبِ الْعِرَاقِيِّ، وَاجْتَمَعَ مِنْ ذَلِكَ رَدْمٌ صَارَ كَالْجَبَلِ الْعَظِيمِ، فَانْتَهَتِ النَّارُ إِلَى قُرْبِ الْمَدِينَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَكَانَ يَأْتِي الْمَدِينَةَ نَسِيمٌ بَارِدٌ، وَشُوهِدَ لِهَذِهِ النَّارِ غَلَيَانٌ كَغَلَيَانِ الْبَحْرِ، وَقَالَ لِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا: رَأَيْتُهَا صَاعِدَةً فِي الْهَوَاءِ مِنْ نَحْوِ خَمْسَةِ أَيَّامٍ، وَسَمِعْتُ أَنَّهَا رُئِيَتْ مِنْ مَكَّةَ وَمِنْ جِبَالِ بُصْرَى. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: تَوَاتَرَ الْعِلْمُ بِخُرُوجِ هَذِهِ النَّارِ عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ الشَّامِ. وَقَالَ أَبُو شَامَةَ فِي ذَيْلِ الرَّوْضَتَيْنِ: وَرَدَتْ فِي أَوَائِلِ شَعْبَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ كُتُبٌ مِنَ الْمَدِينَةِ الشَّرِيفَةِ فِيهَا شَرْحُ أَمْرٍ عَظِيمٍ حَدَثَ بِهَا فِيهِ تَصْدِيقٌ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، فَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ، قَالَ: فَأَخْبَرَنِي بَعْضُ مَنْ أَثِقُ بِهِ مِمَّنْ شَاهَدَهَا أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّهُ كَتَبَ بِتَيْمَاءَ عَلَى ضَوْئِهَا الْكُتُبَ، فَمِنَ الْكُتُبِ.

فَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ: ظَهَرَ فِي أَوَّلِ جُمْعَةٍ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ فِي شَرْقَيِ الْمَدِينَةِ نَارٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ نِصْفُ يَوْمٍ انْفَجَرَتْ مِنَ الْأَرْضِ، وَسَالَ مِنْهَا وَادٍ مِنْ نَارٍ حَتَّى حَاذَى جَبَلَ أُحُدٍ. وَفِي كِتَابٍ آخَرَ: انْبَجَسَتِ الْأَرْضُ مِنَ الْحَرَّةِ بِنَارٍ عَظِيمَةٍ يَكُونُ قَدْرُهَا مِثْلَ مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَهِيَ بِرَأْيِ الْعَيْنِ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَسَالَ مِنْهَا وَادٍ يَكُونُ مِقْدَارُهُ أَرْبَعَ فَرَاسِخَ، وَعَرْضُهُ أَرْبَعَ أَمْيَالٍ، يَجْرِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ مِهَادٌ وَجِبَالٌ صِغَارٌ. وَفِي كِتَابٍ آخَرَ: ظَهَرَ ضَوْؤُهَا إِلَى أَنْ رَأَوْهَا مِنْ مَكَّةَ، قَالَ: وَلَا أَقْدِرُ أَصِفُ عِظَمَهَا، وَلَهَا دَوِيٌّ. قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَنَظَمَ النَّاسُ فِي هَذَا أَشْعَارًا، وَدَامَ أَمْرُهَا أَشْهُرًا، ثُمَّ خَمَدَتْ. وَالَّذِي ظَهَرَ لِي أَنَّ النَّارَ الْمَذْكُورَةَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ هِيَ الَّتِي ظَهَرَتْ بِنَوَاحِي الْمَدِينَةِ كَمَا فَهِمَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ، وَأَمَّا النَّارُ الَّتِي تَحْشُرُ النَّاسَ فَنَارٌ أُخْرَى. وَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ بِلَادِ الْحِجَازِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ نَحْوُ هَذِهِ النَّارِ الَّتِي ظَهَرَتْ بِنَوَاحِي الْمَدِينَةِ فِي زَمَنِ خَالِدِ بْنِ سِنَانٍ الْعَبْسِيِّ، فَقَامَ فِي أَمْرِهَا حَتَّى أَخْمَدَهَا، وَمَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي قِصَّةٍ لَهُ ذَكَرَهَا أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى فِي كِتَابِ الْجَمَاجِمِ وَأَوْرَدَهَا الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ طَرِيقِ يَعْلَى بْنِ مَهْدِيِّ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي يُونُسَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَبْسٍ يُقَالُ لَهُ: خَالِدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ

ص: 79

لِقَوْمِهِ: إِنِّي أُطْفي عَنْكُمْ نَارَ الْحِدْثَانِ

فَذَكَرَ الْقِصَّةَ، وَفِيهَا: فَانْطَلَقَ وَهِيَ تَخْرُجُ مِنْ شَقِّ جَبَلٍ مِنْ حَرَّةٍ. يُقَالُ لَهَا: حَرَّةُ أَشْجَعَ، فَذَكَرَ الْقِصَّةَ فِي دُخُولِهِ الشَّقَّ وَالنَّارُ كَأَنَّهَا جَبَلُ سَقَرَ: فَضَرَبَهَا بِعَصَاهُ حَتَّى أَدْخَلَهَا وَخَرَجَ، وَقَدْ أَوْرَدْتُ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ طَرَفًا مِنْ تَرْجَمَتِهِ فِي كِتَابِي فِي الصَّحَابَةِ.

قَوْلُهُ: (تُضِيءُ أَعْنَاقُ الْإِبِلِ بِبُصْرَى) قَالَ ابْنُ التِّينِ: يَعْنِي مِنْ آخِرِهَا يَبْلُغُ ضَوْؤُهَا إِلَى الْإِبِلِ الَّتِي تَكُونُ بِبُصْرَى، وَهِيَ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، وَأَضَاءَ يَجِيءُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا، يُقَالُ: أَضَاءَتِ النَّارُ وَأَضَاءَتِ النَّارُ غَيْرَهَا وَبُصْرَى بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ، وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ مَقْصُورٌ: بَلَدٌ بِالشَّامِ، وَهِيَ حَوْرَانُ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: أَعْنَاقٌ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّ تُضِيءُ مُتَعَدٍّ وَالْفَاعِلُ النَّارُ، أَيْ: تَجْعَلُ عَلَى أَعْنَاقِ الْإِبِلِ ضَوْءًا، قَالَ: وَلَوْ رَوَى بِالرَّفْعِ لَكَانَ مُتَّجِهًا، أَيْ: تُضِيءُ أَعْنَاقُ الْإِبِلِ بِهِ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ، وَقَدْ وَرَدَتْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ زِيَادَةٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ التَّنُوخِيِّ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَرْفَعُهُ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَسِيلَ وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ الْحِجَازِ بِالنَّارِ تُضِيءُ لَهُ أَعْنَاقُ الْإِبِلِ بِبُصْرَى، وَعُمَرُ ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ، وَلَيَّنَهُ ابْنُ عَدِيٍّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَهَذَا يَنْطَبِقُ عَلَى النَّارِ الْمَذْكُورَةِ الَّتِي ظَهَرَتْ فِي الْمِائَةِ السَّابِعَةِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا الطَّبَرَانِيُّ فِي آخِرِ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الَّذِي مَضَى التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ وَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَخْرُجَ نَارٌ مِنْ رُومَانَ أَوْ رَكُوبَةٍ تُضِيءُ مِنْهَا أَعْنَاقُ الْإِبِلِ بِبُصْرَى.

قُلْتُ: وَرَكُوبَةٌ ثَنِيَّةٌ صَعْبَةُ الْمُرْتَقَى فِي طَرِيقِ الْمَدِينَةِ إِلَى الشَّامِ، مَرَّ بِهَا النَّبِيُّ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، ذَكَرَهُ الْبَكْرِيُّ، وَرُومَانُ لَمْ يَذْكُرْهُ الْبَكْرِيُّ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ رُومَةُ الْبِئْرِ الْمَعْرُوفَةُ بِالْمَدِينَةِ، فَجَمَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيْنَ النَّارَيْنِ، وَأَنَّ إِحْدَاهُمَا تَقَعُ قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ مَعَ جُمْلَةِ الْأُمُورِ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا الصَّادِقُ صلى الله عليه وسلم ; وَالْأُخْرَى هِيَ الَّتِي يَعْقُبُهَا قِيَامُ السَّاعَةِ بِغَيْرِ تَخَلُّلِ شَيْءٍ آخَرَ، وَتَقَدُّمُ الثَّانِيَةِ عَلَى الْأُولَى فِي الذِّكْرِ لَا يَضُرُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ الْكِنْدِيُّ) هُوَ أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ وَصِفَتِهِ، وَهُوَ مِنَ الطَّبَقَةِ الْوُسْطَى الثَّالِثَةِ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَعَاشَ بَعْدَ الْبُخَارِيِّ سَنَةً وَاحِدَةً، وَعُبَيْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ عُمَرَ بْنُ حَفْصِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الْعُمَرِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بِمُعْجَمَةٍ وَمُوَحَّدَتَيْنِ مُصَغَّرٌ وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خُبَيْبِ بْنِ يَسَافٍ الْأَنْصَارِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ جَدِّهِ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ) أَيِ ابْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَالضَّمِيرُ لِعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، لَا لِشَيْخِهِ.

قَوْلُهُ: (يُوشِكُ) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ يَقْرُبُ.

قَوْلُهُ: (أَنْ يَحْسِرَ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ وَكَسْرِ ثَالِثِهِ وَالْحَاءُ وَالسِّينُ مُهْمَلَتَانِ: أَيْ يَنْكَشِفُ.

قَوْلُهُ: (الْفُرَاتُ) أَيِ النَّهَرُ الْمَشْهُورُ، وَهُوَ بِالتَّاءِ الْمَجْرُورَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَيُقَالُ: يَجُوزُ أَنَّهُ يُكْتَبُ بِالْهَاءِ كَالتَّابُوتِ وَالتَّابُوهِ وَالْعَنْكَبُوتِ وَالْعَنْكَبُوهِ أَفَادَهُ الْكَمَالُ بْنُ الْعَدِيمِ فِي تَارِيخِهِ نَقْلًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ اللَّيْثِ.

قَوْلُهُ: (فَمَنْ حَضَرَهُ فَلَا يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا) هَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْهُ مُمْكِنٌ، وَعَلَى هَذَا فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَنَانِيرَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قِطَعًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تِبْرًا.

قَوْلُهُ: (قَالَ عُقْبَةُ) هُوَ ابْنُ خَالِدٍ، وَهُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ هُوَ وَالَّذِي قَبْلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، وَأَبِي الْقَاسِمِ الْبَغَوِيِّ، وَالْفَضْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَخْلَدِيِّ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْأَشَجِّ، عَنِ الشَّيْخَيْنِ.

قَوْلُهُ: (وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ عُمَرَ الْمَذْكُورُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ) يَعْنِي أَنَّ لِعُبَيْدِ اللَّهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِسْنَادَيْنِ.

قَوْلُهُ: (يَحْسِرَ جَبَلٌ مِنْ ذَهَبٍ) يَعْنِي أَنَّ الرِّوَايَتَيْنِ اتَّفَقَتَا إِلَّا فِي قَوْلِهِ كَنْزٌ، فَقَالَ الْأَعْرَجُ: جَبَلٌ، وَقَدْ سَاقَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ الْحَدِيثَيْنِ بِسَنَدٍ وَاحِدٍ مِنْ رِوَايَةِ بَكْرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُقْبِلٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْأَشَجِّ، وَفَرَّقَهُمَا، وَلَفْظُهُمَا وَاحِدٌ إِلَّا لَفْظَ كَنْزٍ وَجَبَلٍ، وَتَسْمِيَتُهُ كَنْزًا بِاعْتِبَارِ حَالِهِ قَبْلَ أَنْ يَنْكَشِفَ، وَتَسْمِيَتُهُ جَبَلًا لِلْإِشَارَةِ إِلَى كَثْرَتِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ

ص: 80

مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: تَقِيءُ الْأَرْضُ أَفْلَاذَ كَبِدِهَا أَمْثَالَ الْأُسْطُوَانِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَيَجِيءُ الْقَاتِلُ فَيَقُولُ: فِي هَذَا قُتِلْتُ، وَيَجِيءُ السَّارِقُ فَيَقُولُ: فِي هَذَا قُطِعَتْ يَدِي، ثُمَّ يَدْعُونَهُ فَلَا يَأْخُذُونَ مِنْهُ شَيْئًا، قَالَ ابْنُ التِّينِ: إِنَّمَا نَهَى عَنِ الْأَخْذِ مِنْهُ لِأَنَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا يُؤْخَذُ إِلَّا بِحَقِّهِ، قَالَ: وَمَنْ أَخَذَهُ وَكَثُرَ الْمَالُ نَدِمَ لِأَخْذِهِ مَا لَا يَنْفَعُهُ، وَإِذَا ظَهَرَ جَبَلٌ مِنْ ذَهَبٍ كَسَدَ الذَّهَبُ وَلَمْ يُرَدْ.

قُلْتُ: وَلَيْسَ الَّذِي قَالَهُ بِبَيِّنٍ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ أَخْذِهِ لِمَا يَنْشَأُ عَنْ أَخْذِهِ مِنَ الْفِتْنَةِ وَالْقِتَالِ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: وَإِذَا ظَهَرَ جَبَلٌ مِنْ ذَهَبٍ إِلَخْ فِي مَقَامِ الْمَنْعِ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ مَا زَعَمَ مِنَ الْكَسَادِ أَنْ لَوِ اقْتَسَمَهُ النَّاسُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ وَوَسِعَهُمْ كُلَّهُمْ فَاسْتَغْنَوْا أَجْمَعِينَ فَحِينَئِذٍ تَبْطُلُ الرَّغْبَةُ فِيهِ، وَأَمَّا إِذَا حَوَاهُ قَوْمٌ دُونَ قَوْمٍ فَحِرْصُ مَنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مِنْهُ شَيْءٌ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْحِكْمَةُ فِي النَّهْيِ عَنِ الْأَخْذِ مِنْهُ لِكَوْنِهِ يَقَعُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ عِنْدَ الْحَشْرِ الْوَاقِعِ فِي الدُّنْيَا، وَعِنْدَ عَدَمِ الظُّهُورِ أَوْ قِلَّتِهِ، فَلَا يَنْتَفِعُ بِمَا أَخَذَ مِنْهُ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي إِدْخَالِ الْبُخَارِيِّ لَهُ فِي تَرْجَمَةِ خُرُوجِ النَّارِ.

ثُمَّ ظَهَرَ لِي رُجْحَانُ الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ مُسْلِمًا أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: يَحْسِرَ الْفُرَاتُ عَنْ جَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَيُقْتَلُ عَلَيْهِ النَّاسُ، فَيُقْتَلُ مِنْ كُلِّ مِائَةٍ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، وَيَقُولُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ: لَعَلِّي أَكُونُ أَنَا الَّذِي أَنْجُو، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: لَا يَزَالُ النَّاسُ مُخْتَلِفَةً أَعْنَاقُهُمْ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: يُوشِكُ أَنْ يَحْسِرَ الْفُرَاتُ عَنْ جَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَإِذَا سَمِعَ بِهِ النَّاسُ سَارُوا إِلَيْهِ، فَيَقُولُ: مَنْ عِنْدَهُ لَئِنْ تَرَكْنَا النَّاسَ يَأْخُذُونَ مِنْهُ لَيَذْهَبَنَّ بِهِ كُلِّهِ، قَالَ: فَيَقْتَتِلُونَ عَلَيْهِ، فَيُقْتَلُ مِنْ كُلِّ مِائَةٍ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، فَبَطَلَ مَا تَخَيَّلَهُ ابْنُ التِّينِ، وَتَوَجَّهَ التَّعَقُّبُ عَلَيْهِ وَوَضَّحَ أَنَّ السَّبَبَ فِي النَّهْيِ عَنِ الْأَخْذِ مِنْهُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى طَلَبِ الْأَخْذِ مِنْهُ مِنَ الِاقْتِتَالِ، فَضْلًا عَنِ الْأَخْذِ، وَلَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عِنْدَ خُرُوجِ النَّارِ لِلْمَحْشَرِ، لَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ السَّبَبَ فِي النَّهْيِ عَنِ الْأَخْذِ مِنْهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ ثَوْبَانَ رَفَعَهُ قَالَ: يُقْتَلُ عِنْدَ كَنْزِكُمْ ثَلَاثَةٌ كُلُّهُمُ ابْنُ خَلِيفَةٍ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي الْمَهْدِيِّ، فَهَذَا إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْكَنْزِ فِيهِ الْكَنْزُ الَّذِي فِي حَدِيثِ الْبَابِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَقَعُ عِنْدَ ظُهُورِ الْمَهْدِيِّ، وَذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ عِيسَى، وَقَبْلَ خُرُوجِ النَّارِ جَزْمًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، مِثْلُ حَدِيثِ الْبَابِ إِلَى قَوْلِهِ: مِنْ ذَهَبٍ، فَيَقْتَتِلُ عَلَيْهِ النَّاسُ، فَيُقْتَلُ مِنْ كُلِّ عَشْرَةٍ تِسْعَةٌ، وَهِيَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ، وَالْمَحْفُوظُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عِنْدِ مُسْلِمٍ، وَشَاهِدُهُ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، مِنْ كُلِّ مِائَةٍ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِاخْتِلَافِ تَقْسِيمِ النَّاسِ إِلَى قِسْمَيْنِ.

‌25 - بَابٌ

7120 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، حَدَّثَنَا مَعْبَدٌ قال: سَمِعْتُ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: تَصَدَّقُوا، فَسَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَمْشِي الرَّجُلُ بِصَدَقَتِهِ فَلَا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا، قَالَ مُسَدَّدٌ:، حَارِثَةُ أَخُو عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ لِأُمِّهِ، قَالَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ.

7121 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ عَظِيمَتَانِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ دَعْوَتُهُمَا وَاحِدَةٌ وَحَتَّى يُبْعَثَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ قَرِيبٌ مِنْ ثَلَاثِينَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَحَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ وَتَكْثُرَ

ص: 81

الزَّلَازِلُ وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ وَهُوَ الْقَتْلُ وَحَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمْ الْمَالُ فَيَفِيضَ حَتَّى يُهِمَّ رَبَّ الْمَالِ مَنْ يَقْبَلُ صَدَقَتَهُ وَحَتَّى يَعْرِضَهُ عَلَيْهِ فَيَقُولَ الَّذِي يَعْرِضُهُ عَلَيْهِ لَا أَرَبَ لِي بِهِ وَحَتَّى يَتَطَاوَلَ النَّاسُ فِي الْبُنْيَانِ وَحَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي مَكَانَهُ وَحَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا فَإِذَا طَلَعَتْ وَرَآهَا النَّاسُ يَعْنِي آمَنُوا أَجْمَعُونَ فَذَلِكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ نَشَرَ الرَّجُلَانِ ثَوْبَهُمَا بَيْنَهُمَا فَلَا يَتَبَايَعَانِهِ وَلَا يَطْوِيَانِهِ وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ انْصَرَفَ الرَّجُلُ بِلَبَنِ لِقْحَتِهِ فَلَا يَطْعَمُهُ وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَهُوَ يُلِيطُ حَوْضَهُ فَلَا يَسْقِي فِيهِ وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ رَفَعَ أُكْلَتَهُ إِلَى فِيهِ فَلَا يَطْعَمُهَا"

قَوْلُهُ: (بَابُ) كَذَا لِلْجَمِيعِ بِغَيْرِ تَرْجَمَةٍ، لَكِنْ سَقَطَ مِنْ شَرْحِ ابْنِ بَطَّالٍ، وَذَكَرَ أَحَادِيثَهُ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَهُوَ كَالْفَصْلِ من الَّذِي قَبْلَهُ، وَتَعَلُّقُهُ بِهِ مِنْ جِهَةِ الِاحْتِمَالِ الَّذِي تَقَدَّمَ، وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ فِي الزَّمَانِ الَّذِي يَسْتَغْنِي فِيهِ النَّاسُ عَنِ الْمَالِ، إِمَّا لِاشْتِغَالِ كُلٍّ مِنْهُمْ بِنَفْسِهِ عِنْدَ طُرُوقِ الْفِتْنَةِ، فَلَا يَلْوِي عَلَى الْأَهْلِ، فَضْلًا عَنِ الْمَالِ، وَذَلِكَ فِي زَمَنِ الدَّجَّالِ، وَإِمَّا بِحُصُولِ الْأَمْنِ الْمُفْرِطِ وَالْعَدْلِ الْبَالِغِ، بِحَيْثُ يَسْتَغْنِي كُلُّ أَحَدٍ بِمَا عِنْدَهُ عَمَّا فِي يَدِ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ فِي زَمَنِ الْمَهْدِيِّ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَإِمَّا عِنْدَ خُرُوجِ النَّارِ الَّتِي تَسُوقُهُمْ إِلَى الْمَحْشَرِ، فَيَعِزُّ حِينَئِذٍ الظَّهْرُ وَتُبَاعُ الْحَدِيقَةُ بِالْبَعِيرِ الْوَاحِدِ، وَلَا يَلْتَفِتُ أَحَدٌ حِينَئِذٍ إِلَى مَا يُثْقِلُهُ مِنَ الْمَالِ، بَلْ يَقْصُدُ نَجَاةَ نَفْسِهِ، وَمَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَأَهْلِهِ، وَهَذَا أَظْهَرُ الِاحْتِمَالَاتِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِصَنِيعِ الْبُخَارِيِّ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَذَكَرَ ابْنُ بَطَّالٍ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابن عُمَرَ، عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ قَالَ: تَخْرُجُ نَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ، فَإِذَا سَمِعْتُمُ بِهَا، فَاخْرُجُوا إِلَى الشَّامِ قَالَ: وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَرِيحَةَ بِمُهْمَلَاتٍ وَزْنُ عَظِيمَةٍ، وَاسْمُهُ حُذَيْفَةُ بْنُ أَسَدٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ: إِنَّ آخِرَ الْآيَاتِ الْمُؤْذِنَةِ بِقِيَامِ السَّاعَةِ خُرُوجُ النَّارِ. قُلْتُ: وَلَفْظُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ: اطَّلَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ، فَقَالَ: مَا تَذَاكَرُونَ؟ قَالُوا: نَذْكُرُ السَّاعَةَ.

قَالَ: إِنَّهَا لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْا قَبْلَهَا عَشْرَ آيَاتٍ

فَذَكَرَ الدُّخَانَ وَالدَّجَالَ وَالدَّابَةَ وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَنُزُولَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَثَلَاثَةَ خُسُوفٍ: خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنَ الْيَمَنِ فَتَطْرُدُ النَّاسَ إِلَى مَحْشَرِهِمْ. قُلْتُ: وَهَذَا في الظَّاهِرِ يُعَارِضُ حَدِيثَ أَنَسٍ الْمُشَارَ إِلَيْهِ فِي أَوَّلِ الْبَابِ؛ فَإِنَّ فِيهِ أَنَّ أَوَّلَ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ نَارٌ تَحْشُرُهُمْ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَفِي هَذَا أَنَّهَا آخِرُ الْأَشْرَاطِ، وَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا بأن آخِرِيَّتهَا بِاعْتِبَارِ مَا ذُكِرَ مَعَهَا مِنَ الْآيَاتِ وَأَوَّلِيَّتُهَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا أَوَّلُ الْآيَاتِ الَّتِي لَا شَيْءَ بَعْدَهَا مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا أَصْلًا، بَلْ يَقَعُ بِانْتِهَائِهَا النَّفْخُ فِي الصُّورِ، بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ مَعَهَا، فَإِنَّهُ يَبْقَى بَعْدَ كُلِّ آيَةٍ مِنْهَا أَشْيَاءُ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنْ شُعْبَةَ، وَلِمُسَدَّدٍ فِيهِ شَيْخٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ الْقَاضِي، عَنْ مُسَدَّدٍ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مَعْبَدٌ) يَعْنِي ابْنَ خَالِدٍ، تَقَدَّمَ فِي الزَّكَاةِ عَنْ آدَمَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا مَعْبَدُ بْنُ خَالِدٍ.

قَوْلُهُ: (حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ) أَيِ الْخُزَاعِيَّ.

قَوْلُهُ: (تَصَدَّقُوا، فَسَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَلْفَاظِهِ فِي أَوَائِلِ الزَّكَاةِ، وَقَوْلُهُ: قَالَ مُسَدَّدٌ هُوَ شَيْخُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ.

قَوْلُهُ: (يَمْشِي الرَّجُلُ بِصَدَقَتِهِ فَلَا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا) يَحْتَمِلُ

ص: 82

أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَقَعَ كَمَا ذَكَرَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَلَا يَكُونُ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ، وَفِيهِ: وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الرَّجُلَ يَخْرُجُ بِمِلْءِ كَفِّهِ ذَهَبًا يَلْتَمِسُ مَنْ يَقْبَلُهُ فَلَا يَجِدُ، وَأَخْرَجَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ فِي تَارِيخِهِ، مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ أَسِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ، قَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا مَاتَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَتَّى جَعَلَ الرَّجُلُ يَأْتِينَا بِالْمَالِ الْعَظِيمِ، فَيَقُولُ: اجْعَلُوا هَذَا حَيْثُ تَرَوْنَ فِي الْفُقَرَاءِ، فَمَا يَبْرَحُ حَتَّى يَرْجِعَ بِمَالِهِ يَتَذَكَّرَ مَنْ يَضَعَهُ فِيهِمْ فَلَا يَجِدُ فَيَرْجِعُ بِهِ، قَدْ أَغْنَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ النَّاسَ. قُلْتُ: وَهَذَا بِخِلَافِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي بَعْدَهُ كَمَا سَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَرْجَمَةِ عِيسَى عليه السلام مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ حَدِيثُ: لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ - وَفِيهِ - وَيَفِيضُ الْمَالُ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادَ، وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ؛ لِأَنَّ الَّذِي رَوَاهُ عَدِيٌّ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ أَمَنُ الطُّرُقِ، وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَى كُنُوزِ كِسْرَى، وَفَقْدُ مَنْ يَقْبَلُ الصَّدَقَةِ مِنَ الْفُقَرَاءِ.

فَذَكَرَ عَدِيٌّ أَنَّ الْأَوَّلَيْنِ وَقَعَا وَشَاهِدُهُمَا، وَأَنَّ الثَّالِثَ سَيَقَعُ، فَكَانَ كَذَلِكَ لَكِنْ بَعْدَ مَوْتِ عَدِيٍّ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَسَبَبُهُ بَسْطُ عُمَرَ الْعَدْلَ وَإِيصَالُ الْحُقُوقِ لِأَهْلِهَا، حَتَّى اسْتَغْنَوْا، وَأَمَّا فَيْضُ الْمَالِ الَّذِي يَقَعُ فِي زَمَنِ عِيسَى عليه السلام فَسَبَبُهُ كَثْرَةُ الْمَالِ وَقِلَّةُ النَّاسِ وَاسْتِشْعَارُهُمْ بِقِيَامِ السَّاعَةِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي بَعْدَهُ.

قَوْلُهُ: (حَارِثَةَ) يَعْنِي ابْنَ وَهْبٍ صَحَابِيَّ هَذَا الْحَدِيثِ.

قَوْلُهُ: (أَخُو عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) بِالتَّصْغِيرِ.

قَوْلُهُ (لِأُمِّهِ) هِيَ أُمُّ كُلْثُومِ بِنْتُ جَرْوَلِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْمُسَيِّبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ أَصْرَمَ - الْخُزَاعِيَّةُ، ذَكَرَهَا ابْنُ سَعْدٍ قَالَ: وَكَانَ الْإِسْلَامُ فَرَّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ عُمَرَ. قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الشُّرُوطِ فِي آخِرِ بَابِ الشُّرُوطِ فِي الْجِهَادِ، وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا حَارِثَةُ بْنُ وَهْبٍ الْخُزَاعِيُّ وَكَانَتْ أُمُّهُ تَحْتَ عُمَرَ، فَوَلَدَتْ لَهُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. الْحَدِيثَ، وَأَصْلُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَبِي دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ زُهَيْرٍ، وَتَقَدَّمَ لِلْبُخَارَيِّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ بِدُونِ الزِّيَادَةِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) هُوَ الْأَعْرَجُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ لِهَذِهِ النُّسْخَةِ عَنِ الْأَعْرَجِ، وَكَذَا تَقَدَّمَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ بَعْضُ هَذَا الْحَدِيثِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَفِيهِ: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ.

قَوْلُهُ: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ) الْحَدِيثَ. وَحَتَّى يُبْعَثَ دَجَّالُونَ. الْحَدِيثَ، وَحَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ

إِلَخْ، هَكَذَا سَاقَ هَذِهِ الْأَشْرَاطَ السَّبْعَةَ مَسَاقَ الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ هُنَا، وَأَوْرَدَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِيهِ، فَقَالَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ: أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ السَّبْعَةَ عَنْ أَبِي الْيَمَانِ، عَنْ شُعَيْبٍ. قُلْتُ: فَسَمَّاهَا سَبْعَةً مَعَ أَنَّ فِي بَعْضِهَا أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ، كَقَوْلِهِ: حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ وَتَكْثُرَ الزَّلَازِلُ وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ، فَإِذَا فُصِّلَتْ زَادَتْ عَلَى الْعَشَرَةِ، وَقَدْ أَفْرَدَ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذِهِ النُّسْخَةِ حَدِيثَ قَبْضِ الْعِلْمِ، فَسَاقَهُ كَالَّذِي هُنَا فِي كِتَابِ الِاسْتِسْقَاءِ ثُمَّ قَالَ: وَحَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ الْمَالُ فَيَفِيضَ، اقْتَصَرَ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ مِنْهُ، ثُمَّ سَاقَهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ بِتَمَامِهِ، وَذَكَرَ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ بِهَذَا السَّنَدِ حَدِيثَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا نِعَالُهُمُ الشَّعْرُ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ أَشْيَاءُ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ هَذَا النَّمَطِ، وَهَذِهِ الْمَذْكُورَاتُ وَأَمْثَالُهَا مِمَّا أَخْبَرَ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُ سَيَقَعُ بَعْدُ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ، لَكِنَّهُ عَلَى أَقْسَامٍ:

أَحَدُهَا: مَا وَقَعَ عَلَى وَفْقِ مَا قَالَ.

وَالثَّانِي: مَا وَقَعَتْ مَبَادِيهِ وَلَمْ يَسْتَحْكِمْ.

وَالثَّالِثُ: مَا لَمْ يَقَعْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَكِنَّهُ سَيَقَعُ، فَالنَّمَطُ الْأَوَّلُ تَقَدَّمَ مُعْظَمُهُ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ، وَقَدِ اسْتَوْفَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ بِالْأَسَانِيدِ الْمَقْبُولَةِ، وَالْمَذْكُورُ مِنْهُ هُنَا اقْتِتَالُ

ص: 83

الْفِئَتَيْنِ الْعَظِيمَتَيْنِ وَظُهُورُ الْفِتَنِ وَكَثْرَةُ الْهَرْجِ وَتَطَاوُلُ النَّاسِ فِي الْبُنْيَانِ، وَتَمَنِّي بَعْضِ النَّاسِ الْمَوْتَ، وَقِتَالُ التُّرْكِ وَتَمَنِّي رُؤْيَتِهِ صلى الله عليه وسلم، وَمِمَّا وَرَدَ مِنْهُ حَدِيثُ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَأْخُذَ أُمَّتِي بِأَخْذِ الْقُرُونِ قَبْلَهَا. الْحَدِيثَ. وَسَيَأْتِي فِي الِاعْتِصَامِ، وَلَهُ شَوَاهِدُ، وَمِنَ النَّمَطِ الثَّانِي تَقَارُبُ الزَّمَانِ وَكَثْرَةُ الزَّلَازِلِ وَخُرُوجُ الدَّجَّالِينَ الْكَذَّابِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ فِي شَرْحِ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْفِتَنِ إِلَى مَا وَرَدَ فِي مَعْنَى تَقَارُبِ الزَّمَانِ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ: يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ، وَتَنْقُصُ السُّنُونَ وَالثَّمَرَاتُ، وَتَقَدَّمَ فِي بَابِ ظُهُورِ الْفِتَنِ: وَيُلْقَى الشُّحُّ، وَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقْسَمَ مِيرَاثٌ، وَلَا يُفْرَحَ بِغَنِيمَةٍ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَحَدِيثُ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الَّذِي نَبَّهْتُ عَلَيْهِ آنِفًا لَا يُنَافِي أَنَّ قَبْلَ السَّاعَةِ يَقَعُ عَشْرُ آيَاتٍ فَذَكَرَ مِنْهَا: وَثَلَاثَةُ خُسُوفٍ: خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ، وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَذَكَرَ مِنْهَا الدُّخَانَ.

وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَأَبُو يَعْلَى، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ صُحَارَى بِضَمِّ الصَّادِ وَتَخْفِيفِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ حَدِيثَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُخْسَفَ بِقَبَائِلَ مِنَ الْعَرَبِ

الْحَدِيثَ، وَقَدْ وُجِدَ الْخَسْفُ فِي مَوَاضِعَ، وَلَكِنْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْخُسُوفِ الثَّلَاثَةِ قَدْرًا زَائِدًا عَلَى مَا وُجِدَ، كَأَنْ يَكُونَ أَعْظَمَ مِنْهُ مَكَانًا أَوْ قَدْرًا، وَحَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَسُودَ كُلَّ قَبِيلَةٍ مُنَافِقُوهَا، أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَفِي لَفْظٍ: رُذَّالُهَا، وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ نَحْوَهُ، وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: وَكَانَ زَعِيمَ الْقَوْمِ أَرْذَلُهُمْ، وَسَادَ الْقَبِيلَةَ فَاسِقُهُمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكُونَ الْوَلَدُ غَيْظًا، وَالْمَطَرُ قَيْظًا، وَتَفِيضَ الْأَيَّامُ فَيْضًا، أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ. وَعَنْ أُمِّ الضِّرَابِ مِثْلُهُ، وَزَادَ: وَيَجْتَرِئُ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ وَاللَّئِيمُ عَلَى الْكَرِيمِ، وَيُخَرَّبُ عُمْرَانُ الدُّنْيَا، وَيُعَمَّرُ خَرَابُهَا، وَمِنَ النَّمَطِ الثَّالِثِ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا ; وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي بَدْءِ الْخَلْقِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ وَحَدِيثِ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ، فَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ وَرَاءَ الْحَجَرِ

الْحَدِيثَ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَاتَّفَقَا عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَمَضَى شَرْحُهُ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ قَبْلَ الدَّجَّالِ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ سَمُرَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَحَدِيثِ أَنَسٍ: أَنَّ أَمَامَ الدَّجَّالِ سُنُونَ خَدَّاعَاتٌ يُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ وَيُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيَتَكَلَّمُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ. الْحَدِيثَ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو يَعْلَى، وَالْبَزَّارُ وَسَنَدُهُ جَيِّدٌ، وَمِثْلِهِ لِابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِيهِ قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ الرَّجُلُ التَّافِهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ، وَحَدِيثِ سَمُرَةَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَرَوْا أُمُورًا عِظَامًا، لَمْ تُحَدِّثُوا بِهَا أَنْفُسَكُمْ، وَفِي لَفْظٍ: يَتَفَاقَمُ شَأْنُهَا فِي أَنْفُسِكُمْ، وَتَسْأَلُونَ: هَلْ كَانَ نَبِيُّكُمْ ذَكَرَ لَكُمْ مِنْهَا ذِكْرًا. الْحَدِيثَ وَفِيهِ: وَحَتَّى تَرَوُا الْجِبَالَ تَزُولُ عَنْ أَمَاكِنِهَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ، وَأَصْلُهُ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ دُونَ الْمَقْصُودِ مِنْهُ هُنَا، وَحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُتَسَافَدَ فِي الطَّرِيقِ تَسَافُدَ الْحُمُرِ.

أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَلِأَبِي يَعْلَى، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا تَفْنَى هَذِهِ الْأُمَّةُ حَتَّى يَقُومَ الرَّجُلُ إِلَى الْمَرْأَةِ فَيَفْتَرِشَهَا فِي الطَّرِيقِ، فَيَكُونَ خِيَارُهُمْ يَوْمَئِذٍ مَنْ يَقُولُ: لَوْ وَارَيْنَاهَا وَرَاءَ هَذَا الْحَائِطِ، وَلِلطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ نَحْوُهُ وَفِيهِ: يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ لَوِ اعْتَزَلْتُمُ الطَّرِيقَ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ

ص: 84

عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ قَوْلُهُ: وَحَتَّى تَمُرَّ الْمَرْأَةُ بِالْقَوْمِ فَيَقُومَ إِلَيْهَا أَحَدُهُمْ فَيَرْفَعَ بِذَيْلِهَا كَمَا يَرْفَعُ ذَنَبَ النَّعْجَةِ، فَيَقُولَ بَعْضُهُمْ أَلَا وَارَيْتَهَا وَرَاءَ الْحَائِطِ، فَهُوَ يَوْمئِذٍ فِيهِمْ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ فِيكُمْ، وَحَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ: يَدْرُسُ الْإِسْلَامُ كَمَا يَدْرُسُ وَشْيُ الثَّوْبِ، حَتَّى لَا يُدْرَى مَا صِيَامٌ وَلَا صَلَاةٌ وَلَا نُسُكٌ وَلَا صَدَقَةٌ، وَيَبْقَى طَوَائِفُ مِنَ النَّاسِ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْعَجُوزُ الْكَبِيرَةُ، وَيَقُولُونَ: أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَنَحْنُ نَقُولُهَا، وَحَدِيثِ أَنَسٍ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الْأَرْضِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ، وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ: اللَّهُ اللَّهُ، وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ النَّاسِ، وَلِأَحْمَدَ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ عِلْبَاءَ السُّلَمِيِّ بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ خَفِيفَةٌ وَمَدٌّ بِلَفْظِ: حُثَالَةٍ بَدَلَ: شِرَارٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ شَوَاهِدُهُ فِي بَابِ إِذَا بَقِيَ حُثَالَةٌ مِنَ النَّاسِ، وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ عَلَى مُؤْمِنٍ، وَلِأَحْمَدَ

بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَأْخُذَ اللَّهُ شَرِيطَتَهُ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَيَبْقَى عَجَاجٌ لَا يَعْرِفُونَ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُونَ مُنْكَرًا، وَلِلطَّيَالِسِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَرْجِعَ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي إِلَى الْأَوْثَانِ يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُهُ فِي ذِكْرِ ذِي الْخَلَصَةِ قَرِيبًا، وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ: وَيَبْقَى طَوَائِفُ مِنَ النَّاسِ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْعَجُوزُ يَقُولُونَ: أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَنَحْنُ نَقُولُهَا، وَلِمُسْلِمٍ، وَأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ: وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَلْحَقَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي بِالْمُشْرِكِينَ، وَحَتَّى تَعْبُدَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي الْأَوْثَانَ، وَلِمُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ: لَا تَذْهَبُ الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِي حَتَّى تُعْبَدَ اللَّاتُ وَالْعُزَّى مِنْ دُونِ اللَّهِ. الْحَدِيثَ وَفِيهِ: ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ رِيحًا طَيِّبَةً، فَيَتَوَفَّى بِهَا كُلَّ مُؤْمِنٍ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَيَبْقَى مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ، فَيَرْجِعُونَ إِلَى دِينِ آبَائِهِمْ، وَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ شَاهِدُهُ، وَفِيهِ: أَنَّ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ: الْأَشْرَاطُ مِنْهَا صِغَارٌ، وَقَدْ مَضَى أَكْثَرُهَا، وَمِنْهَا كِبَارٌ سَتَأْتِي. قُلْتُ: وَهِيَ الَّتِي تَضَمَّنَهَا حَدِيثُ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَهِيَ الدَّجَّالُ وَالدَّابَّةُ وَطُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا كَالْحَامِلِ الْمُتِمِّ، وَنُزُولُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَخُرُوجُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَالرِّيحُ الَّتِي تَهُبُّ بَعْدَ مَوْتِ عِيسَى، فَتَقْبِضُ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ.

وَقَدِ اسْتَشْكَلُوا عَلَى ذَلِكَ حَدِيثَ: لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ، فَإِنَّ ظَاهِرَ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَضْلًا عَنِ الْقَائِمِ بِالْحَقِّ، وَظَاهِرُ الثَّانِي الْبَقَاءُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَمْرُ اللَّهِ هُبُوبَ تِلْكَ الرِّيحِ، فَيَكُونَ الظُّهُورُ قَبْلَ هُبُوبِهَا، فَبِهَذَا الْجَمْعِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَمَّا بَعْدَ هُبُوبِهَا فَلَا يَبْقَى إِلَّا الشِّرَارُ، وَلَيْسَ فِيهِمْ مُؤْمِنٌ، فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ، وَعَلَى هَذَا فَآخِرُ الْآيَاتِ الْمُؤْذِنَةِ بِقِيَامِ السَّاعَةِ هُبُوبُ تِلْكَ الرِّيحِ، وَسَأَذْكُرُ فِي آخِرِ الْبَابِ قَوْلَ عِيسَى عليه السلام: إِنَّ السَّاعَةَ حِينَئِذٍ تَكُونُ كَالْحَامِلِ الْمُتِمِّ لَا يَدْرِي أَهْلُهَا مَتَى تَضَعُ.

(فَصْلٌ) وَأَمَّا قَوْلُهُ: حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ، الْحَدِيثَ، تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِئَتَيْنِ عَلِيٌّ وَمَنْ مَعَهُ وَمُعَاوِيَةُ وَمَنْ مَعَهُ، وَيُؤْخَذُ مِنْ تَسْمِيَتِهِمْ مُسْلِمِينَ ومِنْ قَوْلِهِ: دَعْوَتُهُمَا وَاحِدَةٌ، الرَّدُّ عَلَى الْخَوَارِجِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ فِي تَكْفِيرِهِمْ كُلًّا مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ، وَدَلَّ حَدِيثُ: تَقْتُلُ عَمَّارًا الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا كَانَ الْمُصِيبَ فِي تِلْكَ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ أَصْحَابَ مُعَاوِيَةَ قَتَلُوهُ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَزَّارُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ حُذَيْفَةَ فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتُمْ وَقَدْ خَرَجَ أَهْلُ دِينِكُمْ يَضْرِبُ بَعْضُهُمْ وُجُوهَ بَعْضٍ بِالسَّيْفِ؟ قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: اُنْظُرُوا الْفِرْقَةَ الَّتِي تَدْعُو إِلَى أَمْرِ عَلِيٍّ فَالْزَمُوهَا فَإِنَّهَا عَلَى الْحَقِّ. وَأَخْرَجَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: لَمَّا بَلَغَ مُعَاوِيَةَ غَلَبَةُ عَلِيٍّ عَلَى أَهْلِ الْجَمَلِ دَعَا إِلَى الطَّلَبِ بِدَمِ عُثْمَانَ، فَأَجَابَهُ أَهْلُ الشَّامِ، فَسَارَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ

ص: 85

فَالْتَقَيَا بِصِفِّينَ.

وَقَدْ ذَكَرَ يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ الْجُعْفِيُّ أَحَدَ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ صِفِّينَ فِي تَأْلِيفِهِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ، عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيِّ، أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ: أَنْتَ تُنَازِعُ عَلِيًّا فِي الْخِلَافَةِ أَوْ أَنْتَ مِثْلُهُ؟ قَالَ: لَا، وَإِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنِّي وَأَحَقُّ بِالْأَمْرِ، وَلَكِنْ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ عُثْمَانَ قُتِلَ مَظْلُومًا وَأَنَا ابْنُ عَمِّهِ وَوَلِيُّهُ أَطْلُبُ بِدَمِهِ؟ فَأْتُوا عَلِيًّا فَقُولُوا لَهُ يَدْفَعُ لَنَا قَتَلَةَ عُثْمَانَ، فَأَتَوْهُ فَكَلَّمُوهُ فَقَالَ: يَدْخُلُ فِي الْبَيْعَةِ وَيُحَاكِمُهُمْ إِلَيَّ، فَامْتَنَعَ مُعَاوِيَةُ فَسَارَ عَلِيٌّ فِي الْجُيُوشِ مِنَ الْعِرَاقِ حَتَّى نَزَلَ بِصِفِّينَ، وَسَارَ مُعَاوِيَةُ حَتَّى نَزَلَ هُنَاكَ، وَذَلِكَ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، فَتَرَاسَلُوا فَلَمْ يَتِمَّ لَهُمْ أَمْرٌ، فَوَقَعَ الْقِتَالُ إِلَى أَنْ قُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ فِي تَارِيخِهِ نَحْوُ سَبْعِينَ أَلْفًا. وَقِيلَ: كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَيُقَالُ: كَانَ بَيْنَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ سَبْعِينَ زَحْفًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَتْحِ مَا زَادَهَا أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ الْمَذْكُورِ هُنَاكَ مِنْ قِصَّةِ التَّحْكِيمِ بِصِفِّينَ وَتَشْبِيهِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ مَا وَقَعَ لَهُمْ بِهَا بِمَا وَقَعَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنْ أَبِي الرِّضَا، سَمِعْتُ عَمَّارًا يَوْمَ صِفِّينَ يَقُولُ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكْتَنِفَهُ الْحُورُ الْعِينُ فَلْيَتَقَدَّمْ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ مُحْتَسِبًا.

وَمِنْ طَرِيقِ زِيَادِ بْنِ الْحَارِثِ: كُنْتُ إِلَى جَنْبِ عَمَّارٍ فَقَالَ رَجُلٌ: كَفَرَ أَهْلُ الشَّامِ، فَقَالَ عَمَّارٌ: لَا تَقُولُوا ذَلِكَ نَبِيُّنَا وَاحِدٌ، وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ حَادُوا عَنِ الْحَقِّ فَحُقَّ عَلَيْنَا أَنْ نُقَاتِلَهُمْ حَتَّى يَرْجِعُوا.

وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ أَنَّ عُثْمَانَ لَمَّا قُتِلَ وَبُويِعَ عَلِيٌّ أَشَارَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَيْهِ أَنْ يُقِرَّ مُعَاوِيَةَ عَلَى الشَّامِ حَتَّى يَأْخُذَ لَهُ الْبَيْعَةَ ثُمَّ يَفْعَلَ فِيهِ مَا شَاءَ، فَامْتَنَعَ. فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَلِيَ لَهُ شَيْئًا أَبَدًا.

فَلَمَّا فَرَغَ عَلِيٌّ مِنْ أَهْلِ الْجَمَلِ أَرْسَلَ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيَّ إِلَى مُعَاوِيَةَ يَدْعُوهُ إِلَى الدُّخُولِ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَامْتَنَعَ، فَأَرْسَلَ أَبَا مُسْلِمٍ كَمَا تَقَدَّمَ فَلَمْ يَنْتَظِمِ الْأَمْرُ، وَسَارَ عَلِيٌّ فِي الْجُنُودِ إِلَى جِهَةِ مُعَاوِيَةَ، فَالْتَقَيَا بِصِفِّينَ فِي الْعَشَرِ الْأُوَلِ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَأَوَّلُ مَا اقْتَتَلُوا فِي غُرَّةِ صَفَرٍ، فَلَمَّا كَادَ أَهْلُ الشَّامِ أَنْ يُغْلَبُوا رَفَعُوا الْمَصَاحِفَ بِمَشُورَةِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَدَعَوْا إِلَى مَا فِيهَا، فَآلَ الْأَمْرُ إِلَى الْحَكَمَيْنِ، فَجَرَى مَا جَرَى مِنَ اخْتِلَافِهِمَا، وَاسْتِبْدَادِ مُعَاوِيَةَ بِمُلْكِ الشَّامِ، وَاشْتِغَالِ عَلِيٍّ بِالْخَوَارِجِ، وَعِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ: أَتَيْتُ أَبَا وَائِلٍ فَقَالَ: كُنَّا بِصِفِّينَ، فَلَمَّا اسْتَحَرَّ الْقَتْلُ بِأَهْلِ الشَّامِ قَالَ عَمْرٌو، لِمُعَاوِيَةَ: أَرْسِلْ إِلَى عَلِيٍّ الْمُصْحَفَ فَادْعُهُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَا يَأْبَى عَلَيْكَ، فَجَاءَ بِهِ رَجُلٌ فَقَالَ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} فَقَالَ عَلِيٌّ: نَعَمْ أَنَا أَوْلَى بِذَلِكَ، فَقَالَ الْقُرَّاءُ الَّذِينَ صَارُوا بَعْدَ ذَلِكَ خَوَارِجَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا نَنْظُرُ بِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، أَلا نَمْشِي عَلَيْهِمْ بِسُيُوفِنَا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا؟ فَقَالَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ فَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَذَكَرَ قِصَّةَ الصُّلْحِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، وَقَدْ أَشَرْتُ إِلَى قِصَّةِ التَّحْكِيمِ فِي بَابِ قَتْلِ الْخَوَارِجِ وَالْمُلْحِدِينَ مِنْ كِتَابِ اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّينَ.

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ مُعَاوِيَةَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ مَنْدَهْ، ثُمَّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْقَاسِمِ ابْنِ أَخِي أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَمِّي، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي أُبْغِضُ مُعَاوِيَةَ، قَالَ لَهُ: لِمَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ قَاتَلَ عَلِيًّا بِغَيْرِ حَقٍّ، فَقَالَ لَهُ أَبُو زُرْعَةَ: رَبُّ مُعَاوِيَةَ رَبٌّ رَحِيمٌ وَخَصْمُ مُعَاوِيَةَ خَصْمٌ كَرِيمٌ فَمَا دُخُولُكَ بَيْنَهُمَا؟

قَوْلُهُ: (وَحَتَّى يُبْعَثَ دَجَّالُونَ) جَمْعُ دَجَّالٍ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَالْمُرَادُ بِبَعْثِهِمْ إِظْهَارُهُمْ، لَا الْبَعْثُ بِمَعْنَى الرِّسَالَةِ. وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ جَمِيعَ الْأُمُورِ بِتَقْدِيرِهِ.

قَوْلُهُ: (قَرِيبٌ مِنْ ثَلَاثِينَ) وَقَعَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ بِالْجَزْمِ، وَفِي بَعْضِهَا بِزِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ، وَفِي بَعْضِهَا بِتَحْرِيرِ ذَلِكَ، فَأَمَّا الْجَزْمُ فَفِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ: وَأَنَّهُ سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي كَذَّابُونَ

ص: 86

ثَلَاثُونَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَهُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَلَمْ يَسُقْ جَمِيعَهُ، وَلِأَحْمَدَ، وَأَبِي يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ ثَلَاثُونَ دَجَّالًا كَذَّابًا، وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ عِنْدَ أَحْمَدَ ونَحْوُهُ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ نَحْوُهُ، وَفِي حَدِيثِ سَمُرَةَ الْمُصَدَّرِ أَوَّلُهُ بِالْكُسُوفِ، وَفِيهِ: وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ ثَلَاثُونَ كَذَّابًا، آخِرُهُمُ الْأَعْوَرُ الدَّجَّالُ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَصْلُهُ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ الزُّبَيْرِ: إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ ثَلَاثِينَ كَذَّابًا، مِنْهُمُ الْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ صَاحِبُ صَنْعَاءَ، وَصَاحِبُ الْيَمَامَةِ يَعْنِي مُسَيْلِمَةَ.

قُلْتُ: وَخَرَجَ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ، طُلَيْحَةُ بِالتَّصْغِيرِ ابْنُ خُوَيْلِدٍ، وَادَّعَى النُّبُوَّةَ، ثُمَّ تَابَ وَرَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَتَنَبَّأَتْ أَيْضًا سَجَاحٌ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا مُسَيْلِمَةُ، ثُمَّ رَجَعَتْ بَعْدَهُ، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ فَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ، وَأَبِي يَعْلَى فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: ثَلَاثُونَ كَذَّابُونَ أَوْ أَكْثَرُ، قُلْتُ: مَا آيَتُهُمْ؟ قَالَ: يَأْتُونَكُمْ بِسُنَّةٍ لَمْ تَكُونُوا عَلَيْهَا، يُغَيِّرُونَ بِهَا سُنَّتَكُمْ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ فَاجْتَنِبُوهُمْ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ سَبْعُونَ كَذَّابًا. وَسَنَدُهَا ضَعِيفٌ، وَعِنْدَ أَبِي يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ نَحْوُهُ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ أَيْضًا، وَهُوَ مَحْمُولٌ إِنْ ثَبَتَ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْكَثْرَةِ لَا عَلَى التَّحْدِيدِ، وَأَمَّا التَّحْرِيرُ فَفِيمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْ حُذَيْفَةَ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ: سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي كَذَّابُونَ دَجَّالُونَ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ مِنْهُمْ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ، وَإِنِّي خَاتَمُ النَّبِيِّينَ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رِوَايَةَ الثَّلَاثِينَ بِالْجَزْمِ عَلَى طَرِيقِ جَبْرِ الْكَسْرِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ: قَرِيبٌ مِنْ ثَلَاثِينَ.

قَوْلُهُ: (كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ) ظَاهِرٌ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ، وَهَذَا هُوَ السِّرُّ فِي قَوْلِهِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ الْمَاضِي: وَإِنِّي خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ النُّبُوَّةَ مِنْهُمْ مَا ذُكِرَ مِنَ الثَّلَاثِينَ أَوْ نَحْوِهَا، وَأَنَّ مَنْ زَادَ عَلَى الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ يَكُونُ كَذَّابًا فَقَطْ، لَكِنْ يَدْعُو إِلَى الضَّلَالَةِ كَغُلَاةِ الرَّافِضَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ وَأَهْلِ الْوَحْدَةِ وَالْحُلُولِيَّةِ وَسَائِرِ الْفِرَقِ الدُّعَاةِ، إِلَى مَا يُعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ خِلَافُ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ عِنْدَ أَحْمَدَ: فَقَالَ عَلِيٌّ، لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْكَوَّاءِ: وَإِنَّكَ لَمِنْهُمْ وَابْنُ الْكَوَّاءِ لَمْ يَدَّعِ النُّبُوَّةَ وَإِنَّمَا كَانَ يَغْلُو فِي الرَّفْضِ.

قَوْلُهُ: (وَحَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ) تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ، وَيَأْتِي أَيْضًا فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ.

قَوْلُهُ: (وَتَكْثُرَ الزَّلَازِلُ) قَدْ وَقَعَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبِلَادِ الشَّمَالِيَّةِ وَالشَّرْقِيَّةِ وَالْغَرْبِيَّةِ كَثِيرٌ مِنَ الزَّلَازِلِ، وَلَكِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِكَثْرَتِهَا شُمُولُهَا وَدَوَامُهَا، وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ نُفَيْلٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: وَبَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ سَنَوَاتُ الزَّلَازِلِ، وَلَهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: تَكْثُرُ الصَّوَاعِقُ عِنْدَ اقْتِرَابِ السَّاعَةِ.

قَوْلُهُ: (وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ) تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ قَرِيبًا.

قَوْلُهُ: (وَحَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ الْمَالُ فَيَفِيضَ) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ وَالتَّقْيِيدُ بِقَوْلِهِ: فِيكُمْ، يُشْعِرُ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى زَمَنِ الصَّحَابَةِ، فَيَكُونُ إِشَارَةً إِلَى مَا وَقَعَ مِنَ الْفُتُوحِ وَاقْتِسَامِهِمْ أَمْوَالَ الْفُرْسِ وَالرُّومِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَيَفِيضَ حَتَّى يُهِمَّ رَبُّ الْمَالِ إِشَارَةً إِلَى مَا وَقَعَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ؛ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ وَقَعَ فِي زَمَنِهِ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَعْرِضُ مَالَهُ لِلصَّدَقَةِ فَلَا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُ صَدَقَتَهُ: وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَحَتَّى يَعْرِضَهُ فَيَقُولَ الَّذِي يَعْرِضُهُ عَلَيْهِ: لَا أَرَبَ لِي بِهِ إِشَارَةً إِلَى مَا سَيَقَعُ فِي زَمَنِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ. فَيَكُونُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:

الْأُولَى: إِلَى كَثْرَةِ الْمَالِ فَقَطْ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ، وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ فِيهِ؛ يَكْثُرُ فِيكُمْ، وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الَّذِي مَضَى فِي كِتَابِ الْجِزْيَةِ ذِكْرُ عَلَامَةٍ أُخْرَى مُبَايِنَةٍ لِعَلَامَةِ الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ فِي حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رَفَعَهُ: اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ: مَوْتِي، ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَمَوْتَانِ، ثُمَّ اسْتِفَاضَةُ الْمَالِ، حَتَّى يُعْطَى الرَّجُلُ مِنْهُ مِائَةَ دِينَارٍ فَيَظَلَّ سَاخِطًا. الْحَدِيثَ. وَقَدْ أَشَرْتُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا عِنْدَ

ص: 87

شَرْحِهِ.

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: الْإِشَارَةُ إِلَى فَيْضِهِ مِنَ الْكَثْرَةِ بِحَيْثُ أَنْ يَحْصُلَ اسْتِغْنَاءُ كُلِّ أَحَدٍ عَنْ أَخْذِ مَالِ غَيْرِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي آخِرِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَأَوَّلِ عَصْرِ مَنْ بَعْدَهُمْ، وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ: يُهِمَّ رَبُّ الْمَالِ، وَذَلِكَ يَنْطَبِقُ عَلَى مَا وَقَعَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ.

الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: فِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى فَيْضِهِ وَحُصُولِ الِاسْتِغْنَاءِ لِكُلِّ أَحَدٍ حَتَّى يَهْتَمَّ صَاحِبُ الْمَالِ بِكَوْنِهِ لَا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُ صَدَقَتَهُ، وَيَزْدَادُ بِأَنَّهُ يَعْرِضُهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَسْتَحِقُّ الصَّدَقَةَ، فَيَأْبَى أَخْذَهُ، فَيَقُولُ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ: وَهَذَا فِي زَمَنِ عِيسَى عليه السلام. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْأَخِيرُ خُرُوجَ النَّارِ وَاشْتِغَالَ النَّاسِ بِأَمْرِ الْحَشْرِ فَلَا يَلْتَفِتُ أَحَدٌ حِينَئِذٍ إِلَى الْمَالِ، بَلْ يَقْصِدُ أَنْ يَتَخَفَّفَ مَا اسْتَطَاعَ.

قَوْلُهُ: (وَحَتَّى يَتَطَاوَلَ النَّاسُ فِي الْبُنْيَانِ) تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي سُؤَالِ جِبْرِيلَ عَنِ الْإِيمَانِ قَوْلُهُ فِي أَشْرَاطِ السَّاعَةِ: وَيَتَطَاوَلَ النَّاسُ فِي الْبُنْيَانِ، وَهِيَ مِنَ الْعَلَامَاتِ الَّتِي وَقَعَتْ عَنْ قُرْبٍ فِي زَمَنِ النُّبُوَّةِ، وَمَعْنَى التَّطَاوُلِ فِي الْبُنْيَانِ أَنَّ كُلًّا مِمَّنْ كَانَ يَبْنِي بَيْتًا يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ ارْتِفَاعُهُ أَعْلَى مِنَ ارْتِفَاعِ الْآخَرِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْمُبَاهَاةَ بِهِ فِي الزِّينَةِ وَالزَّخْرَفَةِ أَوْ أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ وُجِدَ الْكَثِيرُ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ فِي ازْدِيَادٍ.

قَوْلُهُ: (وَحَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ قَبْلُ بِبَابَيْنِ.

قَوْلُهُ: (وَحَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي آخِرِ كِتَابِ الرِّقَاقِ: وَذَكَرْتُ هُنَاكَ مَا أَبْدَاهُ الْبَيْهَقِيُّ ثُمَّ الْقُرْطُبِيُّ احْتِمَالًا أَنَّ الزَّمَنَ الَّذِي لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنَ الْمَغْرِبِ، ثُمَّ إِذَا تَمَادَتِ الْأَيَّامُ وَبَعُدَ الْعَهْدُ بِتِلْكَ الْآيَةِ عَادَ نَفْعُ الْإِيمَانِ وَالتَّوْبَةِ، وَذَكَرْتُ مَنْ جَزَمَ بِهَذَا الِاحْتِمَالِ وَبَيَّنْتُ أَوْجُهَ الرَّدِّ عَلَيْهِ. ثُمَّ وَقَفْتُ عَلَى حَدِيثٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ذَكَرَ فِيهِ طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنَ الْمُغْرِبِ، وَفِيهِ: فَمِنْ يَوْمِئِذٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ الْآيَةَ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَهُوَ نَصٌّ فِي مَوْضِعِ النِّزَاعِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

قَوْلُهُ: (وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ نَشَرَ الرَّجُلَانِ ثَوْبَهُمَا بَيْنَهُمَا فَلَا يَتَبَايَعَانِهِ، وَلَا يَطْوِيَانِهِ) وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ: وَيَتَبَايَعَانِ الثَّوْبَ فَلَا يَتَبَايَعَانِهِ حَتَّى تَقُومَ، وَلِلْبَيْهَقِيِّ فِي الْبَعْثِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ عَلَى رَجُلَيْنِ قَدْ نَشَرَا بَيْنَهُمَا ثَوْبًا يَتَبَايَعَانِهِ، فَلَا يَتَبَايَعَانِهِ، وَلَا يَطْوِيَانِهِ، وَنِسْبَةُ الثَّوْبِ إِلَيْهِمَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ فِي أَحَدِهِمَا، وَالْمَجَازِ فِي الْآخَرِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا مَالِكٌ وَالْآخَرُ مُسْتَامٌ، وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: يَتَبَايَعَانِهِ، أَيْ يَتَسَاوَمَانِ فِيهِ مَالِكُهُ وَالَّذِي يُرِيدُ شِرَاءَهُ فَلَا يَتِمُّ بَيْنَهُمَا ذَلِكَ مِنْ بَغْتَةِ قِيَامِ السَّاعَةِ فَلَا يَتَبَايَعَانِهِ وَلَا يَطْوِيَانِهِ، وَعِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: إِنَّ السَّاعَةَ تَقُومُ عَلَى الرَّجُلَيْنِ وَهُمَا يَنْشُرَانِ الثَّوْبَ فَمَا يَطْوِيَانِهِ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ، وَمَا بَعْدَهَا مُقَدِّمَةٌ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: تَطْلُعُ عَلَيْكُمْ قَبْلَ السَّاعَةِ سَحَابَةٌ سَوْدَاءُ مِنْ قِبَلِ الْمُغْرِبِ مِثْلُ التُّرْسِ، فَمَا تَزَالُ تَرْتَفِعُ حَتَّى تَمْلَأَ السَّمَاءَ، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ أَيُّهَا النَّاسُ - ثَلَاثًا يَقُولُ فِي الثَّالِثَةِ: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ. قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الرَّجُلَيْنِ لَيَنْشُرَانِ الثَّوْبَ بَيْنَهُمَا فَمَا يَطْوِيَانِهِ، الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَهُوَ) أَيِ الرَّجُلُ.

قَوْلُهُ (يَلِيطُ حَوْضَهُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مِنَ الثُّلَاثِيِّ وَبِضَمِّهِ مِنَ الرُّبَاعِيِّ، وَالْمَعْنَى: يُصْلِحُهُ بِالطِّينِ وَالْمَدَرِ، فَيَسُدُّ شُقُوقَهُ لِيَمْلَأَهُ وَيَسْقِي مِنْهُ دَوَابَّهُ يُقَالُ: لَاطَ الْحَوْضَ يَلِيطُهُ إِذْ أَصْلَحَهُ بِالْمَدَرِ وَنَحْوِهِ، وَمِنْهُ قِيلَ اللَّائِطُ لِمَنْ يَفْعَلُ الْفَاحِشَةَ، وَجَاءَ فِي مُضَارِعِهِ يَلُوطُ تَفْرِقَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَوْضِ. وَحَكَى الْقَزَّازُ فِي الْحَوْضِ أيْضًا يَلُوطُ، وَالْأَصْلُ فِي اللَّوْطِ اللُّصُوقُ وَمِنْهُ كَانَ عُمَرُ يَلِيطُ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ بِمَنِ ادَّعَاهُمْ فِي الْإِسْلَامِ كَذَا قَالَ، وَالَّذِي يَتَبَادَرُ أَنَّ فَاعِلَ الْفَاحِشَةِ نُسِبَ إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْمَذْكُورِ: وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَمْدُرُ حَوْضَهُ فَمَا يَسْقِي مِنْهُ شَيْئًا، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عِنْدَ الْحَاكِمِ

ص: 88

وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ: ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَيَكُونُ أَوَّلُ مَنْ يَسْمَعُهُ رَجُلٌ، يَلُوطُ حَوْضَهُ فَيُصْعَقُ، فَفِي هَذَا بَيَانُ السَّبَبِ فِي كَوْنِهِ لَا يَسْقِي مِنْ حَوْضِهِ شَيْئًا، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: وَالرَّجُلُ يَلِيطُ فِي حَوْضِهِ فَمَا يَصْدُرُ - أَيْ يَفْرُغُ أَوْ يَنْفَصِلُ عَنْهُ - حَتَّى تَقُومَ.

قَوْلُهُ: (فَلَا يُسْقَى فِيهِ) أَيْ تَقُومُ الْقِيَامَةُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُسْتَقَى مِنْهُ.

قَوْلُهُ: (وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ رَفَعَ أُكْلَتَهُ) بِالضَّمِّ، أَيْ: لُقْمَتَهُ إِلَى فِيهِ (فَلَا يَطْعَمُهَا) أَيْ تَقُومُ السَّاعَةُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَضَعَ لُقْمَتَهُ فِي فِيهِ، أَوْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَمْضُغَهَا، أَوْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَبْتَلِعَهَا. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: تَقُومُ السَّاعَةُ عَلَى رَجُلٍ أُكْلَتُهُ فِي فِيهِ يَلُوكُهَا فَلَا يُسِيغُهَا وَلَا يَلْفِظُهَا، وَهَذَا يُؤَيِّدُ الِاحْتِمَالَ الْأَخِيرَ، وَتَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الرِّقَاقِ فِي بَابِ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا بِسَنَدِ حَدِيثِ الْبَابِ طَرَفٌ مِنْهُ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَذَكَرَ بَعْدَهُ: وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ نَشَرَ الرَّجُلَانِ ثَوْبَهُمَا. وَبَعْدَهُ: وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدِ انْصَرَفَ الرَّجُلُ بِلَبَنِ لِقْحَتِهِ فَلَا يَطْعَمُهُ وَبَعْدَهُ: وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَهُوَ يَلِيطُ حَوْضَهُ، وَبَعْدَهُ: وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ رَفَعَ أُكْلَتَهُ، فَزَادَ وَاحِدَةً وَهِيَ الْحَلْبُ، وَمَا أَدْرِي لِمَ حَذَفَهَا هُنَا مَعَ أَنَّهُ أَوْرَدَ الْحَدِيثَ هُنَا بِتَمَامِهِ إِلَّا هَذِهِ الْجُمْلَةَ، وَقَدْ أَوْرَدَهَا الطَّبَرَانِيُّ فِي جُمْلَةِ الْحَدِيثِ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، ثُمَّ وَجَدْتُهَا ثَابِتَةً فِي الْأَصْلِ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ، وَالْأَصِيلِيِّ، وَسَقَطَتْ لِأَبِي ذَرٍّ، وَالْقَابِسِيِّ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ بِلَفْظِ: بِلَبَنِ لِقْحَتِهِ مِنْ تَحْتِهَا لَا يَطْعَمُهُ، وَأَخْرَجَ مَعَهُ الثَّلَاثَةَ الْأُخْرَى.

وَاللِّقْحَةُ بِكَسْرِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْقَافِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ النَّاقَةُ ذَاتُ الدَّرِّ، وَهِيَ إِذَا نُتِجَتْ لَقُوحٌ شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً ثُمَّ لَبُونٌ، وَهَذَا كُلُّهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْقِيَامَةَ تَقُومُ بَغْتَةً، وَأَسْرَعُهَا رَفْعُ اللُّقْمَةِ إِلَى الْفَمِ. وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْهُ فِي آخِرِ كِتَابِ الْفِتَنِ هَذِهِ الْأُمُورَ الْأَرْبَعَةَ إِلَّا رَفْعَ اللُّقْمَةِ، مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ بِسَنَدِهِ هَذَا، وَلَفْظُهُ: تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرَّجُلُ يَحْلُبُ اللِّقْحَةَ فَمَا يَصِلُ الْإِنَاءُ إِلَى فِيهِ حَتَّى تَقُومَ، وَالرَّجُلَانِ يَتَبَايَعَانِ الثَّوْبَ، وَالرَّجُلُ يَلِيطُ فِي حَوْضِهِ، وَقَدْ ذَكَرْتُ لَفْظَهُ فِيهِمَا. وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَا يُعْرَفُ مِنْهُ الْمُرَادُ مِنَ التَّمْثِيلِ بِصَاحِبِ الْحَوْضِ، وَلَفْظُهُ: ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّوَرِ فَلَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إِلَّا أَصْغَى، وَأَوَّلُ مَنْ يَسْمَعُهُ رَجُلٌ يَلُوطُ حَوْضَ إِبِلِهِ، فَيُصْعَقُ.

أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ، وَأَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَقِيَ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى فَتَذَاكَرُوا السَّاعَةَ فَبَدءوا بِإِبْرَاهِيمَ، فَسَأَلُوهُ عَنْهَا، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْهَا عِلْمٌ، ثُمَّ سَأَلُوا مُوسَى فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْهَا عِلْمٌ، فَرُدَّ الْحَدِيثُ إِلَى عِيسَى فَقَالَ: قَدْ عُهِدَ إِلَيَّ فِيمَا دُونَ وَجْبَتِهَا، فَأَمَّا وَجْبَتُهَا فَلَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ فَذَكَرَ خُرُوجَ الدَّجَّالِ، قَالَ: فَأُنْزَلُ إِلَيْهِ فَأَقْتُلَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ خُرُوجَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، ثُمَّ دُعَاءَهُ بِمَوْتِهِمْ، ثُمَّ بِإِرْسَالِ الْمَطَرِ، فَيُلْقِي جِيَفَهُمْ فِي الْبَحْرِ، ثُمَّ تُنْسَفُ الْجِبَالُ وَتُمَدُّ الْأَرْضُ مَدَّ الْأَدِيمِ، فَعُهِدَ إِلَيَّ إِذَا كَانَ ذَلِكَ كَانَتِ السَّاعَةُ مِنَ النَّاسِ كَالْحَامِلِ الْمُتِمِّ لَا يَدْرِي أَهْلُهَا مَتَى تَفْجَؤُهُمْ بِوِلَادَتِهَا لَيْلًا كَانَ أَوْ نَهَارًا.

‌26 - بَاب ذِكْرِ الدَّجَّالِ

7122 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي قَيْسٌ قَالَ: قَالَ لِي الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: مَا سَأَلَ أَحَدٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الدَّجَّالِ مَا سَأَلْتُهُ، وَإِنَّهُ قَالَ لِي: مَا يَضُرُّكَ مِنْهُ؟ قُلْتُ: لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ مَعَهُ جَبَلَ خُبْزٍ وَنَهَرَ مَاءٍ، قَالَ: هُوَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ.

ص: 89

7123 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ "عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أُرَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَعْوَرُ عَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّهَا عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ"

7124 -

حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: يَجِيءُ الدَّجَّالُ حَتَّى يَنْزِلَ فِي نَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ تَرْجُفُ الْمَدِينَةُ ثَلَاثَ رَجَفَاتٍ فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ كُلُّ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ"

7125 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ رُعْبُ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ وَلَهَا يَوْمَئِذٍ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ عَلَى كُلِّ بَابٍ مَلَكَانِ"

7126 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ "عَنْ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ رُعْبُ الْمَسِيحِ لَهَا يَوْمَئِذٍ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ عَلَى كُلِّ بَابٍ مَلَكَانِ قَالَ وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ صَالِحِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَدِمْتُ الْبَصْرَةَ فَقَالَ لِي أَبُو بَكْرَةَ "سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا"

7127 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّاسِ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ ذَكَرَ الدَّجَّالَ فَقَالَ: إِنِّي لَانْذِرُكُمُوهُ وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ وَقَدْ أَنْذَرَهُ قَوْمَهُ، وَلَكِنِّي سَأَقُولُ لَكُمْ فِيهِ قَوْلًا لَمْ يَقُلْهُ نَبِيٌّ لِقَوْمِهِ، إِنَّهُ أَعْوَرُ وَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ"

7128 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ فَإِذَا رَجُلٌ آدَمُ سَبْطُ الشَّعَرِ يَنْطُفُ - أَوْ يُهَرَاقُ - رَأْسُهُ مَاءً: قُلْتُ مَنْ هَذَا؟ قَالُوا ابْنُ مَرْيَمَ ثُمَّ، ذَهَبْتُ أَلْتَفِتُ فَإِذَا رَجُلٌ جَسِيمٌ أَحْمَرُ جَعْدُ الرَّأْسِ أَعْوَرُ الْعَيْنِ كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ قَالُوا: هَذَا الدَّجَّالُ، أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا ابْنُ قَطَنٍ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ"

7129 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ "أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَعِيذُ فِي صَلَاتِهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ"

7130 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ رِبْعِيٍّ "عَنْ حُذَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

ص: 90

قَالَ فِي الدَّجَّالِ: إِنَّ مَعَهُ مَاءً وَنَارًا، فَنَارُهُ مَاءٌ بَارِدٌ وَمَاؤُهُ نَارٌ" قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ: أَنَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

7131 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ "عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: مَا بُعِثَ نَبِيٌّ إِلاَّ أَنْذَرَ أُمَّتَهُ الأَعْوَرَ الْكَذَّابَ، أَلَا إِنَّهُ أَعْوَرُ وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، وَإِنَّ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مَكْتُوبٌ: كَافِرٌ" فِيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

[الحديث 7131 - طرفه في: 7408]

قَوْلُهُ: (بَابُ ذِكْرِ الدَّجَّالِ) هُوَ فَعَّالٌ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَالتَّشْدِيدِ مِنَ الدَّجَلِ وَهُوَ التَّغْطِيَةُ، وَسُمِّيَ الْكَذَّابُ دَجَّالًا لِأَنَّهُ يُغَطِّي الْحَقَّ بِبَاطِلِهِ، وَيُقَالُ دَجَلَ الْبَعِيرَ بِالْقَطِرَانِ إِذَا غَطَّاهُ، وَالْإِنَاءَ بِالذَّهَبِ إِذَا طَلَاهُ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: الدَّجَّالُ الْمُمَوَّهُ سَيْفٌ مُدَجَّلٌ إِذَا طُلِيَ. وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: سُمِّيَ دَجَّالًا لِأَنَّهُ يُغَطِّي الْحَقَّ بِالْكَذِبِ، وَقِيلَ لِضَرْبِهِ نَوَاحِيَ الْأَرْضِ، يُقَالُ: دَجَلَ مُخَفَّفًا وَمُشَدَّدًا إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ، وَقِيلَ: بَلْ قِيلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُغَطِّي الْأَرْضَ فَرَجَعَ إِلَى الْأَوَّلِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي التَّذْكِرَةِ: اُخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَتِهِ دَجَّالًا عَلَى عَشَرَةِ أَقْوَالٍ. وَمِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي أَمْرِ الدَّجَّالِ أَصْلُهُ وَهَلْ هُوَ ابْنُ صَيَّادٍ أَوْ غَيْرُهُ، وَعَلَى الثَّانِي فَهَلْ كَانَ مَوْجُودًا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ لَا، وَمَتَى يَخْرُجُ، وَمَا سَبَبُ خُرُوجِهِ، وَمِنْ أَيْنَ يَخْرُجُ، وَمَا صِفَتُهُ، وَمَا الَّذِي يَدَّعِيهِ، وَمَا الَّذِي يَظْهَرُ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الْخَوَارِقِ حَتَّى تَكْثُرَ أَتْبَاعُهُ، وَمَتَى يَهْلِكُ وَمَنْ يَقْتُلُهُ؟

فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ فِي شَرْحِ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهُ كَانَ يَحْلِفُ أَنَّ ابْنَ صَيَّادٍ هُوَ الدَّجَّالُ.

وَأَمَّا الثَّانِي فَمُقْتَضَى حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فِي قِصَّةِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْعَهْدِ النَّبَوِيِّ، وَأَنَّهُ مَحْبُوسٌ فِي بَعْضِ الْجَزَائِرِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ شَرْحِ حَدِيثِ جَابِرٍ أَيْضًا.

وَأَمَّا الثَّالِثُ فَفِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّهُ يَخْرُجُ عِنْدَ فَتْحِ الْمُسْلِمِينَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ. وَأَمَّا سَبَبُ خُرُوجِهِ فَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ حَفْصَةَ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ غَضْبَةٍ يَغْضَبهَا. وَأَمَّا مِنْ أَيْنَ يَخْرُجُ؟ فَمِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ جَزْمًا. ثُمَّ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ خُرَاسَانَ، أَخْرَجَ ذَلِكَ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ، وَفِي أُخْرَى أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ أَصْبَهَانَ أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ.

وَأَمَّا صِفَتُهُ فَمَذْكُورَةٌ فِي أَحَادِيثِ الْبَابِ. وَأَمَّا الَّذِي يَدَّعِيهِ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ أَوَّلًا فَيَدَّعِي الْإِيمَانَ وَالصَّلَاحَ ثُمَّ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ ثُمَّ يَدَّعِي الْإِلَهِيَّةَ كَمَا أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: نَزَلَ عَلَيَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَمِرِ وَكَانَ صَحَابِيًّا فَحَدَّثَنِي عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: الدَّجَّالُ لَيْسَ بِهِ خَفَاءٌ، يَجِيءُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ فَيَدْعُو إِلَى الدِّينِ فَيُتَّبَعُ وَيَظْهَرُ، فَلَا يَزَالُ حَتَّى يَقْدَمَ الْكُوفَةَ فَيُظْهِرَ الدِّينَ وَيَعْمَلَ بِهِ فَيُتَّبَعَ وَيَحُثَّ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ يَدَّعِي أَنَّهُ نَبِيٌّ فَيَفْزَعُ مِنْ ذَلِكَ كُلُّ ذِي لُبٍّ وَيُفَارِقُهُ، فَيَمْكُثُ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَقُولُ: أَنَا اللَّهُ، فَتُغْشَى عَيْنُهُ وَتُقْطَعُ أُذُنُهُ وَيُكْتَبُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ فَلَا يَخْفَى عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، فَيُفَارِقُهُ كُلُّ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ.

(تَنْبِيهٌ):

اشْتَهَرَ السُّؤَالُ عَنِ الْحِكْمَةِ فِي عَدَمِ التَّصْرِيحِ بِذِكْرِ الدَّجَّالِ فِي الْقُرْآنِ مَعَ مَا ذُكِرَ عَنْهُ مِنَ الشَّرِّ وَعِظَمِ الْفِتْنَةِ بِهِ وَتَحْذِيرِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْهُ وَالْأَمْرِ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ حَتَّى فِي الصَّلَاةِ، وَأُجِيبَ بِأَجْوِبَةٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} فَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: ثَلَاثَةٌ إِذَا خَرَجْنَ لَمْ يَنْفَعْ نَفْسًا

ص: 91

إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ: الدَّجَّالُ وَالدَّابَّةُ وَطُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا. الثَّانِي: قَدْ وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ فِي الْقُرْآنِ إِلَى نُزُولِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} وَصَحَّ أَنَّهُ الَّذِي يقتل الدَّجَّالَ فَاكْتَفَى بِذِكْرِ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ عَنِ الْآخَرِ، وَلِكَوْنِهِ يُلَقَّبُ الْمَسِيحَ كَعِيسَى ; لَكِنَّ الدَّجَّالَ مَسِيحُ الضَّلَالَةِ وَعِيسَى مَسِيحُ الْهُدَى.

الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَرَكَ ذِكْرَهُ احْتِقَارًا، وَتُعُقِّبَ بِذِكْرِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَلَيْسَتِ الْفِتْنَةُ بِهِمْ بِدُونِ الْفِتْنَةِ بِالدَّجَّالِ وَالَّذِي قَبْلَهُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ السُّؤَالَ بَاقٍ وَهُوَ مَا الْحِكْمَةُ فِي تَرْكِ التَّنْصِيصِ عَلَيْهِ؟ وَأَجَابَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ الْبُلْقِينِيُّ بِأَنَّهُ اعْتَبَرَ كُلَّ مَنْ ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، فَوَجَدَ كُلَّ مَنْ ذُكِرَ إِنَّمَا هُمْ مِمَّنْ مَضَى وَانْقَضَى أَمْرُهُ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَجِئْ بَعْدُ فَلَمْ يَذْكُرْ مِنْهُمْ أَحَدًا انْتَهَى. وَهَذَا يَنْتَقِضُ بِيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ. وَقَدْ وَقَعَ فِي تَفْسِيرِ الْبَغَوِيِّ أَنَّ الدَّجَّالَ مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ هُنَا الدَّجَّالُ مِنْ إِطْلَاقِ الْكُلِّ عَلَى الْبَعْضِ. وَهَذَا إِنْ ثَبَتَ أَحْسَنُ الْأَجْوِبَةِ، فَيَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ مَا تَكَفَّلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِبَيَانِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا مَا يَظْهَرُ عَلَى يَدِهِ مِنَ الْخَوَارِقِ فَسَيُذْكَرُ هُنَا. وَأَمَّا مَتَى يَهْلِكُ وَمَنْ يَقْتُلُهُ؟ فَإِنَّهُ يَهْلِكُ بَعْدَ ظُهُورِهِ عَلَى الْأَرْضِ كُلِّهَا إِلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ، ثُمَّ يَقْصِدُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَيَنْزِلُ عِيسَى فَيَقْتُلُهُ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا. وَسَأَذْكُرُ لَفْظَهُ. وَفِي حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَا بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ فِتْنَةٌ أَعْظَمُ مِنَ الدَّجَّالِ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ.

وَعِنْدَ الْحَاكِمِ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ رَفَعَهُ أَنَّهُ يَخْرُجُ - يَعْنِي الدَّجَّالَ - فِي نَقْصٍ مِنَ الدُّنْيَا وَخِفَّةٍ مِنَ الدِّينِ وَسُوءِ ذَاتِ بَيْنٍ، فَيَرِدُ كُلَّ مَنْهَلٍ وَتُطْوَى لَهُ الْأَرْضُ. الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ مِنْ طَرِيقِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ قَالَ: يَتَوَجَّهُ الدَّجَّالُ، فَيَنْزِلُ عِنْدَ بَابِ دِمَشْقَ الشَّرْقِيِّ. ثُمَّ يَلْتَمِسُ فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ; ثُمَّ يَرَى عِنْدَ الْمِيَاهِ الَّتِي عِنْدَ نَهَرِ الْكِسْوَةِ، ثُمَّ يَطْلُبُ فَلَا يَدْرِي أَيْنَ تَوَجَّهَ، ثُمَّ يَظْهَرُ بِالْمَشْرِقِ فَيُعْطَى الْخِلَافَةَ، ثُمَّ يُظْهِرُ السِّحْرَ، ثُمَّ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ فَتَتَفَرَّقُ النَّاسُ عَنْهُ، فَيَأْتِي النَّهَرَ فَيَأْمُرُهُ أَنْ يَسِيلَ إِلَيْهِ فَيَسِيلَ، ثُمَّ يَأْمُرُهُ أَنْ يَرْجِعَ فَيَرْجِعَ، ثُمَّ يَأْمُرُهُ أَنْ يَيْبَسَ فَيَيْبَسَ، وَيَأْمُرُ جَبَلَ طُورٍ وَجَبَلَ زِيتَا أَنْ يَنْتَطِحَا فَيَنْتَطِحَا، وَيَأْمُرُ الرِّيحَ أَنْ تُثِيرَ سَحَابًا مِنَ الْبَحْرِ فَتُمْطِرَ الْأَرْضَ، وَيَخُوضُ الْبَحْرَ فِي يَوْمٍ ثَلَاثَ خَوْضَاتٍ، فَلَا يَبْلُغُ حِقْوَيْهِ، وَإِحْدَى يَدَيْهِ أَطْوَلُ مِنَ الْأُخْرَى، فَيَمُدُّ الطَّوِيلَةَ فِي الْبَحْرِ فَتَبْلُغُ قَعْرَهُ فَيُخْرِجُ مِنَ الْحِيتَانِ مَا يُرِيدُ. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي تَرْجَمَةِ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ أَحَدِ ثِقَاتِ التَّابِعِينَ مِنَ الْحِلْيَةِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ صَحِيحٍ إِلَيْهِ قَالَ: لَا يَنْجُو مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ إِلَّا اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ رَجُلٍ وَسَبْعَةُ آلَافِ امْرَأَةٍ، وَهَذَا لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا أَرْسَلَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَخَذَهُ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ أَحَدَ عَشَرَ حَدِيثًا:

الحديث الأول: قَوْلُهُ: (يَحْيَى) هُوَ الْقَطَّانُ، وَإِسْمَاعِيلُ هُوَ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ، وَقَيْسٌ هُوَ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ.

قَوْلُهُ: (قَالَ لِيَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ) عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ.

قَوْلُهُ: (مَا سَأَلَ أَحَدٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الدَّجَّالِ مَا سَأَلْتُهُ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: أَكْثَرَ مِمَّا سَأَلْتُهُ.

قَوْلُهُ: (وَأَنَّهُ قَالَ لِي: مَا يَضُرُّكَ مِنْهُ؟) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ قَالَ: وَمَا يَنْصِبُكَ مِنْهُ بِنُونٍ وَصَادٍ مُهْمَلَةٍ، ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ مِنَ النَّصَبِ، بِمَعْنَى التَّعَبِ، وَمِثْلُهُ عِنْدَهُ مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَزَادَ: فَقَالَ لِي: أَيْ بُنَيَّ وَمَا يَنْصِبُكَ مِنْهُ؟ وَعِنْدَهُ مِنْ طَرِيقِ هُشَيْمٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ: وَمَا سُؤَالُكَ عَنْهُ؟ أَيْ: وَمَا سَبَبُ سُؤَالِكِ عَنْهُ، وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ: مَعْنَى قَوْلِهِ: مَا يَنْصِبُكَ، أَيْ: مَا الَّذِي يَغُمُّكَ مِنْهُ، مِنَ الْغَمِّ حَتَّى يَهُولَكَ أَمْرُهُ، قُلْتُ: وَهُوَ تَفْسِيرٌ بِاللَّازِمِ، وَإِلَّا فَالنَّصَبُ التَّعَبُ وَزْنُهُ وَمَعْنَاه،

ص: 92

وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَرَضِ؛ لأن فِيهِ تَعَبًا. قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: يُقَالُ: نَصَبَهُ الْمَرَضُ وَأَنْصَبَهُ، وَهُوَ تَغَيُّرُ الْحَالِ مِنْ تَعَبٍ أَوْ وَجَعٍ.

قَوْلُهُ: (قُلْتُ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ) هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ الْخَشْيَةُ مِنْهُ، مَثَلًا فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي أَنَّهُمْ يَقُولُونَ وَهِيَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ وَالضَّمِيرُ فِي أَنَّهُمْ لِلنَّاسِ أَوْ لِأَهْلِ الْكِتَابِ.

قَوْلُهُ: (جَبَلَ خُبْزٍ) بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ، بَعْدَهَا زَايٌ، وَالْمُرَادُ أَنَّ مَعَهُ مِنَ الْخُبْزِ قَدْرُ الْجَبَلِ، وَأَطْلَقَ الْخُبْزَ وَأَرَادَ بِهِ أَصْلَهُ، وَهُوَ الْقَمْحُ مَثَلًا، زَادَ فِي رِوَايَةِ هُشَيْمٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: مَعَهُ جِبَالٌ مِنْ خُبْزٍ وَلَحْمٍ وَنَهَرٌ مِنْ مَاءٍ، وَفِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حُمَيْدٍ: إِنَّ مَعَهُ الطَّعَامَ وَالْأَنْهَارَ. وَفِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ: أَنَّ مَعَهُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ.

قَوْلُهُ: (وَنَهَرَ مَاءٍ) بِسُكُونِ الْهَاءِ وَبِفَتْحِهَا.

قَوْلُهُ: قَالَ: (بَلْ هُوَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ) سَقَطَ لَفْظُ: بَلْ، مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ. وَقَالَ عِيَاضٌ: مَعْنَاهُ هُوَ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ مَا يَخْلُقُهُ عَلَى يَدَيْهِ مُضِلًّا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَمُشَكِّكًا لِقُلُوبِ الْمُوقِنِينَ، بَلْ لِيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا، وَيَرْتَابَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِ الَّذِي يَقْتُلُهُ: مَا كُنْتُ أَشَدَّ بَصِيرَةً مِنِّي فِيكَ، لَا أَنَّ قَوْلَهُ: هُوَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مَعَهُ، بَلِ الْمُرَادُ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ آيَةً عَلَى صِدْقِهِ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ جَعَلَ فِيهِ آيَةً ظَاهِرَةً فِي كَذِبِهِ وَكُفْرِهِ يَقْرَؤهَا مَنْ قَرَأَ وَمَنْ لَا يَقْرَأُ، زَائِدَةً عَلَى شَوَاهِدِ كَذِبِهِ مَنْ حَدَثِهِ وَنَقْصِهِ. قُلْتُ: الْحَامِلُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّهُ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ مَرْفُوعٍ: وَمَعَهُ جَبَلٌ مِنْ خُبْزٍ وَنَهْرٌ مِنْ مَاءٍ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، مِنْ طَرِيقِ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: انْطَلَقْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقُلْنَا: حَدِّثْنَا بِمَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الدَّجَّالِ، وَلَا تُحَدِّثْنَا عَنْ غَيْرِهِ، فَذَكَرَ حَدِيثًا فِيهِ: تُمْطَرُ الْأَرْضُ وَلَا يُنْبِتُ الشَّجَرُ، وَمَعَهُ جَنَّةٌ وَنَارٌ؛ فَنَارُهُ جَنَّةٌ، وَجَنَّتُهُ نَارٌ، وَمَعَهُ جَبَلُ خُبْزٍ.

الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ جُنَادَةَ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ: مَعَهُ جِبَالُ الْخُبْزِ وَأَنْهَارُ الْمَاءِ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ: مَعَهُ جِبَالٌ مِنْ خُبْزٍ، وَالنَّاسُ فِي جَهْدٍ إِلَّا مَنْ تَبِعَهُ، وَمَعَهُ نَهْرَانِ الْحَدِيثَ، فَدَلَّ مَا ثَبَتَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: هُوَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ ظَاهِرَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَجْعَلُ عَلَى يَدَيْهِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، بَلْ هُوَ عَلَى التَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ، وَسَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ الثَّامِنِ أَنَّ مَعَهُ جَنَّةً وَنَارًا، وَغَفَلَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ فَقَالَ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ عِنْدِ مُسْلِمٍ لَمَّا قَالَ لَهُ لَنْ يَضُرَّكَ، قَالَ: إِنَّ مَعَهُ مَاءً وَنَارًا. قُلْتُ: وَلَمْ أَرَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَخَذَ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ: هُوَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ مَنْ رَدَّ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ الْأَحَادِيثَ الثَّابِتَةَ أَنَّ مَعَهُ جَنَّةً وَنَارًا وَغَيْرَ ذَلِكَ، قَالَ: وَكَيْفَ يَرُدُّ بِحَدِيثٍ مُحْتَمَلٍ مَا ثَبَتَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ: فَلَعَلَّ الَّذِي جَاءَ فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ جَاءَ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَمْرَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: هُوَ أَهْوَنُ؛ أَيْ لَا يُجْعَلُ لَهُ ذَلِكَ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا هُوَ تَخْيِيلٌ وَتَشْبِيهٌ عَلَى الْأَبْصَارِ، فَيَثْبُتُ الْمُؤْمِنُ وَيَزِلُّ الْكَافِرُ، وَمَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ إِلَى الْآخَرِ؛ فَقَالَ: هَذَا لَا يُضَادُّ خَبَرَ أَبِي مَسْعُودٍ، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ نَهْرَ مَاءٍ يَجْرِي، فَإِنَّ الَّذِي مَعَهُ يَرَى أَنَّهُ مَاءٌ وَلَيْسَ بِمَاءٍ.

الحديث الثَّانِي: قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ) بِسُكُونِ الْعَيْنِ، وَفِي بَعْضِ النَّسْخِ بِكَسْرِهَا وَزِيَادَةِ يَاءٍ وَهُوَ تَحْرِيفٌ.

قَوْلُهُ: (شَيْبَانُ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ نَسَبَهُ عَبَّاسٌ الدُّورِيُّ، عَنْ سَعْدِ بْنِ حَفْصٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَيَحْيَى هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ.

قَوْلُهُ: (يَجِيءُ الدَّجَّالُ حَتَّى يَنْزِلَ فِي نَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ) فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْآتِي بَعْدَ بَابِ يَنْزِلُ بَعْضَ السِّبَاخِ الَّتِي فِي الْمَدِينَةِ: وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ إِسْحَاقَ، عَنْ أَنَسٍ فَيَأْتِي سَبَخَةَ الْجُرُفِ فَيَضْرِبُ رِوَاقَهُ فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ كُلُّ مُنَافِقٍ وَمُنَافِقَةٍ وَالْجُرُفُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَالرَّاءِ بَعْدَهَا فَاءٌ مَكَانٌ بِطَرِيقِ الْمَدِينَةِ مِنْ جِهَةِ الشَّامِ عَلَى مِيلٍ وَقِيلَ: عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ، وَالْمُرَادُ بِالرِّوَاقِ الْفُسْطَاطُ. وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ: نَزَلَ عِنْدَ الطَّرِيقِ

ص: 93

الْأَحْمَرِ عِنْدَ مُنْقَطَعِ السَّبَخَةِ.

قَوْلُهُ: (تَرْجُفُ ثَلَاثَ رَجَفَاتٍ) فِي رِوَايَةِ الدُّورِيِّ: فَتَرْجُفُ. وَهِيَ أَوْجَهُ ; وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آخِرِ كِتَابِ الْحَجِّ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ إِسْحَاقَ أَتَمُّ مِنْ هَذَا وَفِيهِ لَيْسَ مِنْ بَلَدٍ إِلَّا سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ إِلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ هُنَاكَ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِهِ: تَرْجُفُ ثَلَاثَ رَجَفَاتٍ وَبَيْنَ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِي هَذَا لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ رُعْبُ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَفِي حَدِيثِ مِحْجَنِ بْنِ الْأَدْرَعِ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالْحَاكِمِ رَفَعَهُ: يَجِيءُ الدَّجَّالُ فَيَصْعَدُ أُحُدًا فَيَتَطَلَّعُ فَيَنْظُرُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَيَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: أَلَا تَرَوْنَ إِلَى هَذَا الْقَصْرِ الْأَبْيَضِ؟ هَذَا مَسْجِدُ أَحْمَدَ.

ثُمَّ يَأْتِي الْمَدِينَةَ فَيَجِدُ بِكُلِّ نَقَبٍ مِنْ نِقَابِهَا مَلَكًا مُصْلِتًا سَيْفَهُ، فَيَأْتِي سَبَخَةَ الْجُرُفِ فَيَضْرِبُ رِوَاقَهُ، ثُمَّ تَرْجُفُ الْمَدِينَةُ ثَلَاثَ رَجَفَاتٍ فَلَا يَبْقَى مُنَافِقٌ وَلَا مُنَافِقَةٌ وَلَا فَاسِقٌ وَلَا فَاسِقَةٌ إِلَّا خَرَجَ إِلَيْهِ فَتَخْلُصُ الْمَدِينَةُ فَذَلِكَ يَوْمُ الْخَلَاصِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الَّذِي تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ أَوَّلَ الْبَابِ وَتُطْوَى لَهُ الْأَرْضُ طَيَّ فَرْوَةِ الْكَبْشِ حَتَّى يَأْتِيَ الْمَدِينَةَ فَيَغْلِبَ عَلَى خَارِجِهَا وَيُمْنَعَ دَاخِلَهَا، ثُمَّ يَأْتِيَ إِيلْيَا فَيُحَاصِرَ عِصَابَةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَحَاصِلُ مَا وَقَعَ بِهِ الْجَمْعُ أَنَّ الرُّعْبَ الْمَنْفِيَّ هُوَ الْخَوْفُ وَالْفَزَعُ حَتَّى لَا يَحْصُلَ لِأَحَدٍ فِيهَا بِسَبَبِ نُزُولِهِ قُرْبَهَا شَيْءٌ مِنْهُ، أَوْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ غَايَتِهِ وَهُوَ غَلَبَتُهُ عَلَيْهَا، وَالْمُرَادُ بِالرَّجْفَةِ الْأَرْفَاقُ وَهُوَ إِشَاعَةُ مَجِيئِهِ وَأَنَّهُ لَا طَاقَةَ لِأَحَدٍ بِهِ، فَيُسَارِعُ حِينَئِذٍ إِلَيْهِ مَنْ كَانَ يَتَّصِفُ بِالنِّفَاقِ أَوِ الْفِسْقِ، فَيَظْهَرُ حِينَئِذٍ تَمَامُ أَنَّهَا تَنْفِي خَبَثَهَا. الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِلَخْ) ثَبَتَ هَذَا لِلْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ هُنَا وَسَقَطَ لِسَائِرِهِمْ، وَقَدْ مَضَى فِي آخِرِ كِتَابِ الْحَجِّ سَنَدًا وَمَتْنًا. وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ أَيِ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَسَعْدٌ هُوَ الَّذِي رَوَى عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ فِي السَّنَدِ الثَّانِي.

قَوْلُهُ: (لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ رُعْبُ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ) تَقَدَّمَ ضَبْطُ الْمَسِيحِ فِي بَابِ الدُّعَاءِ قَبْلَ السَّلَامِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ وَهُوَ قُبَيْلَ كِتَابِ الْجُمُعَةِ، وَتَقَدَّمَ فِيهِ أَيْضًا أَنَّ مَنْ قَالَهُ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ صَحَّفَ، وَالْقَوْلُ فِي سَبَبِ تَسْمِيَتِهِ الْمَسِيحَ بِمَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَحَكَى شَيْخُنَا مَجْدُ الدِّينِ الشِّيرَازِيُّ صَاحِبُ الْقَامُوسِ فِي اللُّغَةِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ لَهُ مِنَ الْأَقْوَالِ فِي سَبَبِ تَسْمِيَةِ الدَّجَّالِ الْمَسِيحَ خَمْسُونَ قَوْلًا، وَبَالَغَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ فَقَالَ: ضَلَّ قَوْمٌ فَرَوَوْهُ الْمَسِيخَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَشَدَّدَ بَعْضُهُمُ السِّينَ لِيُفَرِّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسِيحِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ بِزَعْمِهِمْ، وَقَدْ فَرَّقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ فِي الدَّجَّالِ مَسِيحُ الضَّلَالَةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ عِيسَى مَسِيحُ الْهُدَى، فَأَرَادَ هَؤُلَاءِ تَعْظِيمَ عِيسَى فَحَرَّفُوا الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (لَهَا يَوْمَئِذٍ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ) قَالَ عِيَاضٌ: هَذَا يُؤَيِّدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَنْقَابِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَعْنِي ثَانِيَ أَحَادِيثِ الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ الْأَبْوَابُ وَفُوَّهَاتُ الطَّرِيقِ.

قَوْلُهُ: (عَلَى كُلِّ بَابٍ مَلَكَانِ) كَذَا فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ لِكُلِّ بَابٍ مَلَكَانِ وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ مُسَافِعٍ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: أَكْثَرَ النَّاسُ فِي شَأْنِ مُسَيْلِمَةَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّهُ كَذَّابٌ مِنْ ثَلَاثِينَ كَذَّابًا قَبْلَ الدَّجَّالِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بَلَدٌ إِلَّا يَدْخُلُهُ رُعْبُ الدَّجَّالِ إِلَّا الْمَدِينَةَ، عَلَى كُلِّ نَقَبٍ مِنْ أَنْقَابِهَا مَلَكَانِ يَذُبَّانِ عَنْهَا رُعْبَ الْمَسِيحِ.

الحديث الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ) بِالتَّصْغِيرِ وَأَيُّوبُ هُوَ السَّخْتِيَانِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أُرَاهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْقَائِلُ أُرَاهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْبُخَارِيُّ، وَقَدْ سَقَطَ قَوْلُهُ: أُرَاهُ إِلَخْ لِلْمُسْتَمْلِي، وَلِأَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ، وَأَبِي أَحْمَدَ الْجُرْجَانِيِّ، فَصَارَتْ صُورَتُهُ مَوْقُوفًا، وَبِذَلِكَ جَزَمَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، فَقَالَ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَهُ مِنْ رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيِّ، عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ بِسَنَدِهِ إِلَى ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُوسَى، فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ عَنِ الطَّبَرَانِيِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ دَاوُدَ الْمَكِّيِّ، عَنْ مُوسَى،

ص: 94

وَصَرَّحَ بِرَفْعِهِ أَيْضًا، وَاقْتَصَرَ الْمِزِّيُّ عَلَى مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ السَّرَخْسِيِّ وَغَيْرِهِ بِلَفْظِ: أُرَاهُ، وَالْحَدِيثُ فِي الْأَصْلِ مَرْفُوعٌ؛ فَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، فَقَالَ فِيهِ: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ فِي تَرْجَمَةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ عُمَرَ ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ ظَهْرَانَيِ النَّاسِ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ فَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ، وَسِيَاقُهُ هُنَاكَ أَتَمُّ.

قَوْلُهُ: (أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى) فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ: أَعْوَرُ عَيْنِ الْيُمْنَى بِغَيْرِ أَلِفٍ وَلَامٍ، وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَرْجَمَةِ عِيسَى بِلَفْظِهِ: أَعْوَرُ عَيْنِهِ الْيُمْنَى، وَتَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ وَالْبَحْثُ فِي إِعْرَابِهِ.

قَوْلُهُ: (كَأَنَّهَا عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ) يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ السَّادِسِ، هَكَذَا وَقَعَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عِنْدَ الْجَمِيعِ لَمْ يُذْكَرِ الْمَوْصُوفُ بِذَلِكَ، وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ لَكِنْ قَالَ فِي آخِرِهِ: يَعْنِي الدَّجَّالَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ فِي أَوَّلِهِ: الدَّجَّالُ أَعْوَرُ عَيْنِ الْيُمْنَى.

قَوْلُهُ (وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ) هُوَ مُحَمَّدٌ صَاحِبُ الْمَغَازِي.

قَوْلُهُ: (عَنْ صَالِحِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ) أَيِ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَهُوَ أَخُو سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَدِمْتُ الْبَصْرَةَ) أَرَادَ بِهَذَا التَّعْلِيقِ ثُبُوتَ لِقَاءِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، لِأَبِي بَكْرَةَ، لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ مَدَنِيٌّ، وَقَدْ تُسْتَنْكَرُ رِوَايَتُهُ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، لِأَنَّهُ نَزَلَ الْبَصْرَةَ مِنْ عَهْدِ عُمَرَ إِلَى أَنْ مَاتَ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ لِيَ أَبُو بَكْرَةَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا) هَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ الْحَرَّانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بِهَذَا السَّنَدِ، وَبَقِيَّتُهُ بَعْدَ قَوْلِهِ فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرَةَ فَقَالَ أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: كُلُّ قَرْيَةٍ يَدْخُلُهَا فَزَعُ الدَّجَّالِ إِلَّا الْمَدِينَةَ يَأْتِيهَا لِيَدْخُلَهَا فَيَجِدَ عَلَى بَابِهَا مَلَكًا مُصْلِتًا بِالسَّيْفِ فَيَرُدُّهُ عَنْهَا، قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: لَمْ يَرْوِهِ عَنْ صَالِحٍ إِلَّا ابْنُ إِسْحَاقَ. قُلْتُ: وَصَالِحٌ الْمَذْكُورُ ثِقَةٌ مُقِلٌّ، أَخْرَجَا لَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيثًا وَاحِدًا غَيْرَ هَذَا، وَقَوْلُهُ: بِهَذَا يُرِيدُ أَصْلَ الْحَدِيثِ، وَإِلَّا فَبَيْنَ لَفْظِ صَالِحِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَلَفْظِ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ مُغَايَرَاتٌ تَظْهَرُ مِنْ سِيَاقِهِمَا.

الْحَدِيثُ الخَامِسُ قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ الْأُوَيْسِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، وَصَالِحٌ هُوَ ابْنُ كَيْسَانَ، وَابْنُ شِهَابٍ هُوَ الزُّهْرِيُّ.

قَوْلُهُ: (قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّاسِ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ ذَكَرَ الدَّجَّالَ) هَكَذَا أَوْرَدَهُ هُنَا، وَطَوَّلَهُ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا السَّنَدِ وَأَوَّلُهُ: أَنَّ عُمَرَ انْطَلَقَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي رَهْطٍ قِبَلَ ابْنِ صَيَّادٍ الْقِصَّةَ بِطُولِهَا، وَفِيهِ خَبَّأْتُ لَكَ خَبيا وَفِيهِ فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: انْطَلَقَ بَعْدَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ إِلَى النَّخْلِ الَّتِي فِيهَا ابْنُ صَيَّادٍ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ الْأُخْرَى وَفِيهَا: وَهُوَ مُضْطَجِعٌ فِي قَطِيفَةٍ وَفِيهَا لَوْ تَرَكْتُهُ بَيَّنَ ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: ثُمَّ قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي النَّاسِ، الْحَدِيثَ. فَجَمَعَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الثَّلَاثَةَ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْجِهَادِ فِي بَابِ كَيْفَ يُعْرَضُ الْإِسْلَامُ عَلَى الصَّبِيِّ وَكَذَا صَنَعَ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ أَوْرَدَهُ فِيهِ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَاقْتَصَرَ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْجَنَائِزِ عَلَى الْأَوَّلَيْنِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الثَّالِثَ أَوْرَدَهُ فِيهِ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَكَذَا صَنَعَ فِي الشَّهَادَاتِ أَوْرَدَهُ فِيهِ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبٍ، وَقَدْ شَرَحْتُهُمَا هُنَاكَ، وَأَوْرَدَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ بِسَنَدِهِ فِي هَذَا الْبَابِ بِتَمَامِهِ مُشْتَمِلًا عَلَى الْأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ.

قَوْلُهُ: (وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ أَنْذَرَهُ قَوْمَهُ) زَادَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ لَقَدْ أَنْذَرَهُ نُوحٌ قَوْمَهُ وَفِي حَدِيثِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ: لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ بَعْدَ نُوحٍ إِلَّا وَقَدْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ الدَّجَّالَ، وَعِنْدَ أَحْمَدَ: لَقَدْ أَنْذَرَهُ نُوحٌ أُمَّتَهُ وَالنَّبِيُّونَ مِنْ بَعْدِهِ. أَخْرَجَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَدِ اسْتَشْكَلَ إِنْذَارُ نُوحٍ قَوْمَهُ بِالدَّجَّالِ مَعَ أَنَّ الْأَحَادِيثَ قَدْ

ص: 95

ثَبَتَتْ أَنَّهُ يَخْرُجُ بَعْدَ أُمُورٍ ذُكِرَتْ، وَأَنَّ عِيسَى يَقْتُلُهُ بَعْدَ أَنْ يَنْزِلَ مِنَ السَّمَاءِ فَيَحْكُمَ بِالشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ كَانَ وَقْتُ خُرُوجِهِ أَخْفَى عَلَى نُوحٍ وَمَنْ بَعْدَهُ فَكَأَنَّهُمْ أُنْذِرُوا بِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُمْ وَقْتَ خُرُوجِهِ فَحَذَّرُوا قَوْمَهُمْ مِنْ فِتْنَتِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ طُرُقِهِ إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ وَقْتُ خُرُوجِهِ وَعَلَامَاتُهُ، فَكَانَ يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ فِي حَيَاتِهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ بُيِّنَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ حَالُهُ وَوَقْتُ خُرُوجِهِ فَأَخْبَرَ بِهِ، فَبِذَلِكَ تَجْتَمِعُ الْأَخْبَارُ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ إِنْذَارُ الْأَنْبِيَاءِ قَوْمَهُمْ بِأَمْرِ الدَّجَّالِ تَحْذِيرٌ مِنَ الْفِتَنِ وَطُمَأْنِينَةٌ لَهَا حَتَّى لَا يُزَعْزِعَهَا عَنْ حُسْنِ الِاعْتِقَادِ، وَكَذَلِكَ تَقْرِيبُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ زِيَادَةٌ فِي التَّحْذِيرِ، وَأَشَارَ مَعَ ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا عَلَى الْإِيمَانِ ثَابِتِينَ دَفَعُوا الشُّبَهَ بِالْيَقِينِ.

قَوْلُهُ: (وَلَكِنِّي سَأَقُولُ لَكُمْ فِيهِ قَوْلًا لَمْ يَقُلْهُ نَبِيٌّ لِقَوْمِهِ) قِيلَ إِنَّ السِّرَّ فِي اخْتِصَاصِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالتَّنْبِيهِ الْمَذْكُورِ، مَعَ أَنَّهُ أَوْضَحَ الْأَدِلَّةَ فِي تَكْذِيبِ الدَّجَّالِ أَنَّ الدَّجَّالَ إِنَّمَا يَخْرُجُ فِي أُمَّتِهِ دُونَ غَيْرِهَا مِمَّنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأُمَمِ، وَدَلَّ الْخَبَرُ عَلَى أَنَّ عِلْمَ كَوْنِهِ يَخْتَصُّ خُرُوجُهُ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ كَانَ طُوِيَ عَنْ غَيْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَمَا طُوِيَ عَنِ الْجَمِيعِ عِلْمُ وَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ.

قَوْلُهُ: (أنَّهُ أَعْوَرُ، وَإنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ) إِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى ذَلِكَ مَعَ أَنَّ أَدِلَّةَ الْحُدُوثِ فِي الدَّجَّالِ ظَاهِرَةٌ لِكَوْنِ الْعَوَرِ أَثَرًا مَحْسُوسًا يُدْرِكُهُ الْعَالِمُ وَالْعَامِّيُّ وَمَنْ لَا يَهْتَدِي إِلَى الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، فَإِذَا ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ وَهُوَ نَاقِصُ الْخِلْقَةِ وَالْإِلَهُ يَتَعَالَى عَنِ النَّقْصِ عُلِمَ أَنَّهُ كَاذِبٌ، وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَأَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَئِذٍ لِلنَّاسِ وَهُوَ يُحَذِّرُهُمْ: تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَنْ يَرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبَّهُ حَتَّى يَمُوتَ، وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ نَحْوُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ، وَعِنْدَ الْبَزَّارِ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ دَعْوَاهُ الرُّبُوبِيَّةَ كَذِبٌ لِأَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى مُقَيَّدَةٌ بِالْمَوْتِ، وَالدَّجَّالُ يَدَّعِي أَنَّهُ اللَّهُ، وَيَرَاهُ النَّاسُ مَعَ ذَلِكَ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَرَى اللَّهَ تَعَالَى فِي الْيَقَظَةِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَلَا يَرِدُ عَلَى ذَلِكَ رُؤْيَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا الْقُوَّةَ الَّتِي يُنْعِمُ بِهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ.

الْحَدِيثُ السَّادِسُ: قَوْلُهُ: (عَنْ عُقَيْلٍ) بِالضَّمِّ هُوَ ابْنُ خَالِدٍ.

قَوْلُهُ: (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ) زَادَ فِي ذِكْرِ عِيسَى مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَكِّيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ بِهَذَا السَّنَدِ إِلَى ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعِيسَى أَحْمَرُ، وَلَكِنْ قَالَ بَيْنَمَا الْحَدِيثَ وَزَادَ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: رَأَيْتُنِي قَبْلَ قَوْلِهِ أَطُوفُ وَهُوَ بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ، وَتَقَدَّمَ فِي التَّعْبِيرِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَرَانِي اللَّيْلَةَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَهُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهَا رُؤْيَا مَنَامٍ، وَالَّذِي نَفَاهُ ابْنُ عُمَرَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ جَاءَ عَنْهُ إِثْبَاتُهُ فِي رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ عَنْهُ قَالَ: رَأَيْتُ عِيسَى وَمُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ فَأَمَّا عِيسَى فَأَحْمَرُ جَعْدٌ عَرِيضُ الصَّدْرِ، وَأَمَّا مُوسَى فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ فِي تَرْجَمَتِهِ مُسْتَوْفًى وَأَنَّ الصَّوَابَ أَنَّ مُجَاهِدًا إِنَّمَا رَوَى هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

قَوْلُهُ: (فَإِذَا رَجُلٌ آدَمُ) بِالْمَدِّ، فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ رَأَيْتُ رَجُلًا آدَمَ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الدَّالِ.

قَوْلُهُ (سَبْطُ الشَّعْرِ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِهَا أَيْضًا.

قَوْلُهُ (يَنْطِفُ) بِكَسْرِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ (أَوْ يُهْرَاقُ) كَذَا بِالشَّكِّ، وَلَمْ يَشُكَّ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ لَهُ لِمَّةٌ بِكَسْرِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنَ اللِّمَمِ، وَفِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ: تَضْرِبُ بِهِ لِمَّتُهُ بَيْنَ مَنْكِبَيْهِ رَجْلُ الشَّعْرِ يَقْطُرُ رَأْسُهُ مَاءً.

قَوْلُهُ: (قَدْ رَجَّلَهَا) بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ (يَقْطُرُ مَاءً) وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ: بَيْنَ رَجُلَيْنِ، وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ: مُتَّكِئًا عَلَى عَوَاتِقِ رَجُلَيْنِ يَطُوفُ

ص: 96

بِالْبَيْتِ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَرَأَيْتُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ مَرْبُوعَ الْخَلْقِ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ سَبْطَ الرَّأْسِ، زَادَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِنَحْوِهِ: كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ، يَعْنِي الْحَمَّامَ، وَفِي رِوَايَةِ حَنْظَلَةَ عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: يَسْكُبُ رَأْسُهُ أَوْ يَقْطُرُ، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ.

قَوْلُهُ: (قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: ابْنُ مَرْيَمَ) فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ: فَسَأَلْتُ مَنْ هَذَا؟ فَقِيلَ: الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، وَفِي رِوَايَةِ حَنْظَلَةَ: فَقَالُوا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ.

قَوْلُهُ: ثُمَّ ذَهَبْتُ أَلْتَفِتُ فَإِذَا رَجُلٌ جَسِيمٌ أَحْمَرُ جَعْدُ الرَّأْسِ أَعْوَرُ الْعَيْنِ) زَادَ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ: جَعْدٌ قَطَطٌ أَعْوَرُ، وَزَادَ شُعَيْبٌ: أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ أَوَّلَ الْبَابِ، وَفِي رِوَايَةِ حَنْظَلَةَ: وَرَأَيْتُ وَرَاءَهُ رَجُلًا أَحْمَرَ جَعْدَ الرَّأْسِ أَعْوَرَ الْعَيْنِ الْيُمْنَى، فَفِي هَذِهِ الطُّرُقِ أَنَّهُ أَحْمَرُ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ أَنَّهُ آدَمُ جَعْدٌ، فَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ أُدْمَتُهُ صَافِيَةً، وَلَا يُنَافِي أَنْ يُوصَفَ مَعَ ذَلِكَ بِالْحُمْرَةِ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأُدْمِ قَدْ تَحْمَرُّ وَجْنَتُهُ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ سَمُرَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ: مَمْسُوحُ الْعَيْنِ الْيُسْرَى كَأَنَّهَا عَيْنُ أَبِي يَحْيَى شَيْخٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، انْتَهَى. وَهُوَ بِكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقَانِيَّةِ، ضَبَطَهُ ابْنُ مَاكُولَا، عَنْ جَعْفَرٍ الْمُسْتَغْفِرِيِّ، وَلَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ.

قَوْلُهُ: (كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ) بِيَاءٍ غَيْرِ مَهْمُوزَةٍ أَيْ بَارِزَةٌ، وَلِبَعْضِهِمْ بِالْهَمْزِ، أَيْ ذَهَبَ ضَوْؤُهَا، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: رُوِّينَاهُ عَنِ الْأَكْثَرِ بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَهُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ الْجُمْهُورُ وَجَزَمَ بِهِ الْأَخْفَشُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهَا نَاتِئَةٌ نُتُوءَ حَبَّةِ الْعِنَبِ مِنْ بَيْنِ أَخَوَاتِهَا، قَالَ: وَضَبَطَهُ بَعْضُ الشُّيُوخِ بِالْهَمْزِ وَأَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ وَلَا وَجْهَ لِإِنْكَارِهِ، فَقَدْ جَاءَ فِي آخَرَ أَنَّهُ مَمْسُوحُ الْعَيْنِ مَطْمُوسَةٌ، وَلَيْسَتْ جَحْرَاءَ وَلَا نَاتِئَةً، وَهَذِهِ صِفَةُ حَبَّةِ الْعِنَبِ إِذَا سَالَ مَاؤُهَا، وَهُوَ يُصَحِّحُ رِوَايَةَ الْهَمْزِ.

قُلْتُ: الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ يُوَافِقُهُ حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَلَفْظُهُ: رَجُلٌ قَصِيرٌ أَفْحَجُ بِفَاءٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ جِيمٍ مِنَ الْفَحَجِ، وَهُوَ تَبَاعُدُ مَا بَيْنَ السَّاقَيْنِ أَوِ الْفَخِذَيْنِ، وَقِيلَ: تَدَانِي صُدُورِ الْقَدَمَيْنِ مَعَ تَبَاعُدِ الْعَقِبَيْنِ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي فِي رِجْلِهِ اعْوِجَاجٌ، وَفِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ: جَعْدٌ أَعْوَرُ مَطْمُوسُ الْعَيْنِ لَيْسَتْ بِنَاتِئَةٍ بِنُونٍ وَمُثَنَّاةٍ، وَلَا جَحْرَاءَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ مَمْدُودٌ أَيْ عَمِيقَةٌ، وَبِتَقْدِيمِ الْحَاءِ أَيْ لَيْسَتْ مُتَصَلِّبَةً، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ: مَمْسُوحُ الْعَيْنِ، وَفِي حَدِيثِ سَمُر ةَ مِثْلُهُ، وَكِلَاهُمَا عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَلَكِنْ فِي حَدِيثِهِمَا: أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُسْرَى. وَمِثْلُهُ لِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ، وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ: أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى.

وَقَدِ اتَّفَقَا عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، فَيَكُونُ أَرْجَحُ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَكِنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا الْقَاضِي عِيَاضٌ فَقَالَ: تُصَحَّحُ الرِّوَايَتَانِ مَعًا بِأَنْ تَكُونَ الْمَطْمُوسَةُ وَالْمَمْسُوحَةُ هِيَ الْعَوْرَاءُ الطَّافِئَةُ بِالْهَمْزِ أَيِ الَّتِي ذَهَبَ ضَوْؤُهَا، وَهِيَ الْعَيْنُ الْيُمْنَى كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَتَكُونُ الْجَاحِظَةُ الَّتِي كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ وَكَأَنَّهَا نُخَاعَةٌ فِي حَائِطٍ هِيَ الطَّافِيَةُ بِلَا هَمْزٍ وَهِيَ الْعَيْنُ الْيُسْرَى كَمَا جَاءَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَعَلَى هَذَا فَهُوَ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى مَعًا فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَوْرَاءُ أَيْ مَعِيبَةٌ، فَإِنَّ الْأَعْوَرَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ الْمَعِيبُ، وَكِلَا عَيْنَيِ الدَّجَّالِ مَعِيبَةٌ، فَإِحْدَاهُمَا مَعِيبَةٌ بِذَهَابِ ضَوْئِهَا حَتَّى ذَهَبَ إِدْرَاكُهَا، وَالْأُخْرَى بِنُتُوئِهَا انْتَهَى. قَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ فِي نِهَايَةِ الْحُسْنِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ: حَاصِلُ كَلَامِ الْقَاضِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ عَيْنَيِ الدَّجَّالِ عَوْرَاءُ إِحْدَاهُمَا بِمَا أَصَابَهَا حَتَّى ذَهَبَ إِدْرَاكُهَا، وَالْأُخْرَى بِأَصْلِ خَلْقِهَا مَعِيبَةٌ، لَكِنْ يُبْعِدُ هَذَا التَّأْوِيلَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ عَيْنَيْهِ قَدْ جَاءَ وَصْفُهَا فِي الرِّوَايَةِ بِمِثْلِ مَا وُصِفَتْ بِهِ الْأُخْرَى مِنَ الْعَوَرِ فَتَأَمَّلْهُ.

وَأَجَابَ صَاحِبُهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي التَّذْكِرَةِ بِأَنَّ الَّذِي تَأَوَّلَهُ الْقَاضِي صَحِيحٌ، فَإِنَّ الْمَطْمُوسَةَ وَهِيَ الَّتِي لَيْسَتْ نَاتِئَةً وَلَا جَحْرَاءَ هِيَ الَّتِي فَقَدَتِ الْإِدْرَاكَ، وَالْأُخْرَى وُصِفَتْ بِأَنَّ

ص: 97

عَلَيْهَا ظَفَرَةً غَلِيظَةً، وَهِيَ جِلْدَةٌ تَغْشَى الْعَيْنَ، وَإِذَا لَمْ تُقْطَعْ عَمِيَتِ الْعَيْنُ، وَعَلَى هَذَا فَالْعَوَرُ فِيهِمَا لِأَنَّ الظَّفَرَةَ مَعَ غِلَظِهَا تَمْنَعُ الْإِدْرَاكَ أَيْضًا، فَيَكُونُ الدَّجَّالَ أَعْمَى أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ إِلَّا أَنَّهُ جَاءَ ذِكْرُ الظَّفَرَةِ فِي الْعَيْنِ الْيُمْنَى فِي حَدِيثِ سَفِينَةَ، وَجَاءَ فِي الْعَيْنِ الشِّمَالِ فِي حَدِيثِ سَمُرَةَ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ شَيْخُهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا جَاءَ وَصْفُهَا بِمِثْلِ مَا وُصِفَتِ الْأُخْرَى، ثُمَّ قَالَ فِي التَّذْكِرَةِ: يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَيْهَا ظَفَرَةٌ؛ فَإِنَّ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ مَمْسُوحُ الْعَيْنِ عَلَيْهَا ظَفَرَةٌ غَلِيظَةٌ، قَالَ: وَإِذَا كَانَتِ الْمَمْسُوحَةُ عَلَيْهَا ظَفَرَةٌ فَالَّتِي لَيْسَتْ كَذَلِكَ أَوْلَى، قَالَ: وَقَدْ فُسِّرَتِ الظَّفَرَةُ بِأَنَّهَا لَحْمَةٌ كَالْعَلَقَةِ. قُلْتُ: وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَعَيْنُهُ الْيُمْنَى عَوْرَاءُ جَاحِظَةٌ لَا تَخْفَى كَأَنَّهَا نُخَاعَةٌ فِي حَائِطٍ مُجَصَّصٍ، وَعَيْنُهُ الْيُسْرَى كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ، فَوَصَفَ عَيْنَيْهِ مَعًا، وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي يَعْلَى مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: أَعْوَرُ ذُو حَدَقَةٍ جَاحِظَةٍ لَا تَخْفَى كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ. وَلَعَلَّهَا أَبْيَنُ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِوَصْفِهَا بِالْكَوْكَبِ شِدَّةُ اتِّقَادِهَا، وَهَذَا بِخِلَافِ وَصْفِهَا بِالطَّمْسِ وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالطَّبَرَانِيِّ: إِحْدَى عَيْنَيْهِ كَأَنَّهَا زُجَاجَةٌ خَضْرَاءُ، وَهُوَ يُوَافِقُ وَصْفَهَا بِالْكَوْكَبِ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ سَفِينَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالطَّبَرَانِيِّ: أَعْوَرُ عَيْنُهُ الْيُسْرَى بِعَيْنِهِ الْيُمْنَى ظَفَرَةٌ غَلِيظَةٌ.

وَالَّذِي يَتَحَصَّلُ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَخْبَارِ أَنَّ الصَّوَابَ فِي طَافِيَةٍ أَنَّهُ بِغَيْرِ هَمْزٍ؛ فَإِنَّهَا قُيِّدَتْ فِي رِوَايَةِ الْبَابِ بِأَنَّهَا الْيُمْنَى، وَصَرَّحَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، وَسَمُرَةَ، وَأَبِي بَكْرَةَ بِأَنَّ عَيْنَهُ الْيُسْرَى مَمْسُوحَةٌ، وَالطَّافِيَةُ هِيَ الْبَارِزَةُ وَهِيَ غَيْرُ الْمَمْسُوحَةِ، وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يُجَوِّزُ رِوَايَةَ الْهَمْزِ فِي طَافِيَةٍ، وَعَدَمِهِ، مَعَ تَضَادِّ الْمَعْنَى فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي حَدِيثَيْنِ لَسَهُلَ الْأَمْرُ، وَأَمَّا الظَّفَرَةُ فَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ فِي كِلَا عَيْنَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يُضَادُّ الطَّمْسَ وَلَا النُّتُوءَ، وَتَكُونُ الَّتِي ذَهَبَ ضَوْؤُهَا هِيَ الْمَطْمُوسَةُ وَالْمَعِيبَةُ مَعَ بَقَاءِ ضَوْئِهَا هِيَ الْبَارِزَةُ، وَتَشْبِيهُهَا بِالنُّخَاعَةِ فِي الْحَائِطِ الْمُجَصَّصِ فِي غَايَةِ الْبَلَاغَةِ، وَأَمَّا تَشْبِيهُهَا بِالزُّجَاجَةِ الْخَضْرَاءِ وَبِالْكَوْكَبِ الدُّرِّيِّ فَلَا يُنَافِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يَحْدُثُ لَهُ فِي عَيْنِهِ النُّتُوءُ يَبْقَى مَعَهُ الْإِدْرَاكُ، فَيَكُونُ الدَّجَّالُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فِي اخْتِلَافِ صِفَاتِ الدَّجَّالِ بِمَا ذُكِرَ مِنَ النَّقْصِ بَيَانُ أَنَّهُ لَا يَدْفَعُ النَّقْصَ عَنْ نَفْسِهِ كَيْفَ كَانَ، وَأَنَّهُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: الظَّفَرَةُ لَحْمَةٌ تَنْبُتُ عِنْدَ الْمَاقِ، وَقِيلَ: جِلْدَةٌ تَخْرُجُ فِي الْعَيْنِ مِنَ الْجَانِبِ الَّذِي يَلِيَ الْأَنْفَ، وَلَا يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ فِي الْعَيْنِ السَّالِمَةِ بِحَيْثُ لَا تُوَارِي الْحَدَقَةَ بِأَسْرِهَا بَلْ تَكُونُ عَلَى حِدَتِهَا.

قَوْلُهُ: (هَذَا الدَّجَّالُ) فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ: قُلْتُ مَنْ هَذَا؟ قَالُوا وَكَذَا فِي رِوَايَةِ حَنْظَلَةَ، وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ فَقِيلَ: الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ الْقَائِلِ مُعَيَّنًا.

قَوْلُهُ: (أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا ابْنُ قَطَنٍ) زَادَ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ: وَابْنُ قَطَنٍ رَجُلٌ مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ، وَفِي رِوَايَةِ حَنْظَلَةَ: أَشْبَهُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ ابْنُ قَطَنٍ، وَزَادَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَكِّيُّ فِي رِوَايَتِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ هَلَكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَقَدَّمْتُ هُنَاكَ سِيَاقَ نَسَبِهِ إِلَى خُزَاعَةَ مِنْ فَوَائِدِ الدِّمْيَاطِيِّ، وَسَأَذْكُرُ اسْمَهُ فِي آخِرِ الْبَابِ مَعَ بَقِيَّةِ صِفَتِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَاسْتَشْكَلَ كَوْنُ الدَّجَّالِ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَكَوْنُهُ يَتْلُو عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ إِذَا رَآهُ يَذُوبُ، وَأَجَابُوا عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الرُّؤْيَا الْمَذْكُورَةَ كَانَتْ فِي الْمَنَامِ، وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَإِنْ كَانَتْ وَحْيًا لَكِنْ فِيهَا مَا يَقْبَلُ التَّعْبِيرَ. وَقَالَ عِيَاضٌ: لَا إِشْكَالَ فِي طَوَافِ عِيسَى بِالْبَيْتِ، وَأَمَّا الدَّجَّالُ فَلَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ أَنَّهُ طَافَ وَهِيَ أَثْبَتُ مِمَّنْ رَوَى طَوَافَهُ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ التَّرْجِيحَ مَعَ إِمْكَانِ الْجَمْعِ مَرْدُودٌ، لِأَنَّ سُكُوتَ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ عَنْ ذِكْرِ الطَّوَافِ لَا يَرُدُّ رِوَايَةَ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، وَسَوَاءٌ ثَبَتَ أَنَّهُ طَافَ أَمْ لَمْ يَطُفْ فَرُؤْيَتُهُ إِيَّاهُ بِمَكَّةَ مُشْكِلَةٌ مَعَ ثُبُوتِ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ مَكَّةَ وَلَا الْمَدِينَةَ، وَقَدِ انْفَصَلَ عَنْهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ بِأَنَّ مَنْعَهُ مِنْ دُخُولِهَا إِنَّمَا هُوَ عِنْدَ خُرُوجِهِ فِي آخِرِ

ص: 98

الزَّمَانِ.

قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا دَارَ بَيْنَ أَبِي سَعِيدٍ وَبَيْنَ ابْنِ صَيَّادٍ فِيمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَنَّ ابْنَ صَيَّادٍ قَالَ لَهُ: أَلَمْ يَقُلِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ مَكَّةَ وَلَا الْمَدِينَةَ، وَقَدْ خَرَجْتُ مِنَ الْمَدِينَةِ أُرِيدُ مَكَّةَ، فَتَأَوَّلَهُ مَنْ جَزَمَ بِأَنَّ ابْنَ صَيَّادٍ هُوَ الدَّجَّالُ، عَلَى أَنَّ الْمَنْعَ إِنَّمَا هُوَ حَيْثُ يَخْرُجُ، وَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ مَشْيِهِ وَرَاءَ عِيسَى عليه السلام.

الْحَدِيثُ السَّابِعُ: حَدِيثُ عَائِشَةَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَعِيذُ فِي صَلَاتِهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ وَهُوَ مُخْتَصَرٌ مِنْ حَدِيثٍ تَقَدَّمَ بِتَمَامِهِ فِي بَابِ الدُّعَاءِ قَبْلَ السَّلَامِ وَهُوَ قُبَيْلَ كِتَابِ الْجُمُعَةِ أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا السَّنَدِ مُطَوَّلًا، ثُمَّ قَالَ: وَعَنِ الزُّهْرِيِّ فَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ هُنَا.

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ: قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي أَبِي) هُوَ عُثْمَانُ بْنُ جَبَلَةَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْمُوَحَّدَةِ ابْنُ أَبِي رَوَّادٍ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ) هُوَ ابْنُ عُمَيْرٍ، وَنُسِبَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ فَقَالَ: عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ.

قَوْلُهُ: (ررِبْعِيٍّ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ اسْمٌ بِلَفْظِ النَّسَبِ، وَهُوَ ابْنُ حِرَاشٍ بِمُهْمَلَةٍ وَآخِرُهُ مُعْجَمَةٌ، وَحُذَيْفَةُ هُوَ ابْنُ الْيَمَانِ.

قَوْلُهُ: (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ فِي الدَّجَّالِ: إِنَّ مَعَهُ) كَذَا ذَكَرَهُ شُعْبَةُ مُخْتَصَرًا، وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ ذِكْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ رِبْعِيٍّ قَالَ: قَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو، لِحُذَيْفَةَ: أَلَا تُحَدِّثُنَا مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: إِنَّ مَعَ الدَّجَّالِ إِذَا خَرَجَ، وَكَذَا لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ صَفْوَانَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ مَعَهُ مَاءً وَنَارًا) عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ نُعَيْمِ بْنِ أَبِي نُعَيْمِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ رِبْعِيٍّ: اجْتَمَعَ حُذَيْفَةُ، وَأَبُو مَسْعُودٍ فَقَالَ حُذَيْفَةُ لَأَنَا بِمَا مَعَ الدَّجَّالِ أَعْلَمُ مِنْهُ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا مَعَ الدَّجَّالِ مِنْهُ؛ مَعَهُ نَهْرَانِ يَجْرِيَانِ أَحَدُهُمَا رَأْيَ الْعَيْنِ مَاءٌ أَبْيَضُ وَالْآخَرُ رَأْيَ الْعَيْنِ نَارٌ تَأَجَّجُ، وَفِي رِوَايَةِ شُعَيْبِ بْنِ صَفْوَانَ: فَأَمَّا الَّذِي يَرَاهُ النَّاسُ مَاءً فَنَارٌ تُحْرِقُ، وَأَمَّا الَّذِي يَرَاهُ النَّاسُ نَارًا فَمَاءٌ بَارِدٌ الْحَدِيثَ، وَفِي حَدِيثِ سَفِينَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالطَّبَرَانِيِّ: مَعَهُ وَادِيَانِ أَحَدُهُمَا جَنَّةٌ وَالْآخَرُ نَارٌ، فَنَارُهُ جَنَّةٌ وَجَنَّتُهُ نَارٌ وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ: وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنَّ مَعَهُ جَنَّةً وَنَارًا؛ فَنَارُهُ جَنَّةٌ وَجَنَّتُهُ نَارٌ، فَمَنِ ابْتُلِيَ بِنَارِهِ فَلْيَسْتَغِثْ بِاللَّهِ وَلْيَقْرَأْ فَوَاتِحَ الْكَهْفِ، فَتَكُونَ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا.

قَوْلُهُ: (فَنَارُهُ مَاءٌ بَارِدٌ وَمَاؤُهُ نَارٌ) زَادَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ فِي رِوَايَتِهِ فَلَا تَهْلِكُوا، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي مَالِكٍ فَإِنْ أَدْرَكَهُ أَحَدٌ فَلْيَأْتِ النَّهْرَ الَّذِي يَرَاهُ نَارًا وَلِيُغْمِضْ ثُمَّ لْيُطَأْطِئْ رَأْسَهُ فَيَشْرَبْ، وَفِي رِوَايَةِ شُعَيْبِ بْنِ صَفْوَانَ فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَلْيَقَعْ فِي الَّذِي يَرَاهُ نَارًا، فَإِنَّهُ مَاءٌ عَذْبٌ طَيِّبٌ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: وَإِنَّهُ يَجِيءُ مَعَهُ مِثْلُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَالَّتِي يَقُولُ إِنَّهَا الْجَنَّةُ هِيَ النَّارُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَهَذَا كُلُّهُ يَرْجِعُ إِلَى اخْتِلَافِ الْمَرْئِيِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّائِي، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الدَّجَّالُ سَاحِرًا فَيُخَيِّلُ الشَّيْءَ بِصُورَةِ عَكْسِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ بَاطِنَ الْجَنَّةِ الَّتِي يُسَخِّرُهَا الدَّجَّالُ نَارًا وَبَاطِنَ النَّارِ جَنَّةً، وَهَذَا الرَّاجِحُ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنِ النِّعْمَةِ وَالرَّحْمَةِ بِالْجَنَّةِ وَعَنِ الْمِحْنَةِ وَالنِّقْمَةِ بِالنَّارِ، فَمَنْ أَطَاعَهُ فَأَنْعَمَ عَلَيْهِ بِجَنَّتِهِ يَئُولُ أَمْرُهُ إِلَى دُخُولِ نَارِ الْآخِرَةِ وَبِالْعَكْسِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الْمِحْنَةِ وَالْفِتْنَةِ فَيَرَى النَّاظِرُ إِلَى ذَلِكَ مِنْ دَهْشَتِهِ النَّارَ فَيَظُنُّهَا جَنَّةً وَبِالْعَكْسِ.

الْحَدِيثُ التَّاسِعُ: قَوْلُهُ: (عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ) يَأْتِي فِي التَّوْحِيدِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ شُعْبَةَ أَنْبَأَنَا قَتَادَةُ سَمِعْتُ أَنَسًا.

قَوْلُهُ: (مَا بُعِثَ نَبِيٌّ إِلَّا أَنْذَرَ أُمَّتَهُ الْأَعْوَرَ الْكَذَّابَ) فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْحَدِيثِ الْخَامِسِ.

قَوْلُهُ: (أَلَا إِنَّهُ أَعْوَرُ) بِتَخْفِيفِ اللَّامِ وَهِيَ حَرْفُ تَنْبِيهٍ.

قَوْلُهُ: (وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ) تَقَدَّمَ بَيَانُ الْحِكْمَةِ فِيهِ فِي الْحَدِيثِ الْخَامِسِ بِمَا فِيهِ مَقْنَعٌ.

قَوْلُهُ: (وَإِنَّ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مَكْتُوبٌ كَافِرٌ) كَذَا

ص: 99

لِلْأَكْثَرِ وَالْجُمْهُورُ مَكْتُوبًا وَلَا إِشْكَالَ فِيهِ لِأَنَّهُ إِمَّا اسْمُ إِنَّ وَإِمَّا حَالٌ، وَتَوْجِيهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ حَذَفَ اسْمَ إِنَّ وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ إِنَّ وَالِاسْمُ الْمَحْذُوفُ إِمَّا ضَمِيرُ الشَّأْنِ أَوْ يَعُودُ عَلَى الدَّجَّالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَافِرٌ مُبْتَدَأً وَالْخَبَرُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ك ف ر وَمِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنِي أَنَسٌ بِلَفْظِ الدَّجَّالِ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ك ف ر أَيْ كَافِرٌ، وَمِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ الْحَبْحَابِ، عَنْ أَنَسٍ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ ثُمَّ تَهَجَّاهَا ك ف ر يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُسْلِمٍ وَفِي رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ يَقْرَؤُهُ كُلُّ مَنْ كَرِهَ عَمَلَهُ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَهَذَا أَخَصُّ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ يَقْرَؤُهُ الْأُمِّيُّ وَالْكَاتِبُ وَنَحْوُهُ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ عِنْدَ الْبَزَّارِ.

وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ كَاتِبٍ وَغَيْرِ كَاتِبٍ وَلِأَحْمَدَ، عَنْ جَابِرٍ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ مُهَجَّاةٌ وَمِثْلُهُ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فِي قَوْلِهِ ك ف ر إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ فِعْلَ وَفَاعِلَ مِنَ الْكُفْرِ إِنَّمَا يُكْتَبُ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَكَذَا هُوَ فِي رَسْمُ الْمُصْحَفِ وَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْخَطِّ أَثْبَتُوا فِي فَاعِلٍ أَلِفًا فَذَاكَ لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ، وَقَوْلُهُ: يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ كَاتِبٍ وَغَيْرِ كَاتِبٍ. إِخْبَارٌ بِالْحَقِيقَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِدْرَاكَ فِي الْبَصَرِ يَخْلُقُهُ اللَّهُ لِلْعَبْدِ كَيْفَ شَاءَ وَمَتَى شَاءَ، فَهَذَا يَرَاهُ الْمُؤْمِنُ بِغَيْرِ بَصَرِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ الْكِتَابَةَ، وَلَا يَرَاهُ الْكَافِرُ وَلَوْ كَانَ يَعْرِفُ الْكِتَابَةَ كَمَا يَرَى الْمُؤْمِنُ الْأَدِلَّةَ بِعَيْنِ بَصِيرَتِهِ وَلَا يَرَاهَا الْكَافِرُ فَيَخْلُقُ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ الْإِدْرَاكَ دُونَ تَعَلُّمٍ لِأَنَّ ذَلِكَ الزَّمَانَ تَنْخَرِقُ فِيهِ الْعَادَاتُ فِي ذَلِكَ وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ يَقْرَؤُهُ مَنْ كَرِهَ عَمَلَهُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ عُمُومًا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَخْتَصَّ بِبَعْضِهِمْ مِمَّنْ قَوِيَ إِيمَانُهُ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّ الْكِتَابَةَ الْمَذْكُورَةَ حَقِيقَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ عَلَامَةً قَاطِعَةً بِكَذِبِ الدَّجَّالِ فَيُظْهِرُ اللَّهُ الْمُؤْمِنَ عَلَيْهَا وَيُخْفِيهَا عَلَى مَنْ أَرَادَ شَقَاوَتَهُ. وَحَكَى عِيَاضٌ خِلَافًا وَأَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ هِيَ مَجَازٌ عَنْ سِمَةِ الْحُدُوثِ عَلَيْهِ وَهُوَ مَذْهَبٌ ضَعِيفٌ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِهِ يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ كَاتِبٍ وَغَيْرِ كَاتِبٍ أَنْ لَا تَكُونَ الْكِتَابَةُ حَقِيقَةً بَلْ يُقَدِّرُ اللَّهُ عَلَى غَيْرِ الْكَاتِبِ عِلْمَ الْإِدْرَاكِ فَيَقْرَأُ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَبَقَ لَهُ مَعْرِفَةُ الْكِتَابَةِ، وَكَأَنَّ السِّرَّ اللَّطِيفَ فِي أَنَّ الْكَاتِبَ وَغَيْرَ الْكَاتِبِ يَقْرَأُ ذَلِكَ لِمُنَاسَبَةِ أَنَّ كَوْنَهُ أَعْوَرَ يُدْرِكُهُ كُلُّ مَنْ رَآهُ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ وَالْحَادِي عَشَرَ، قَوْلُهُ:(فِيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ) أَيْ يَدْخُلُ فِي الْبَابِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ أَصْلَ الْبَابِ فَيَتَنَاوَلَ كَلَامُهُ كُلَّ شَيْءٍ وَرَدَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالدَّجَّالِ مِنْ حَدِيثِ الْمَذْكُورِينَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ خُصُوصَ الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ وَهُوَ أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ أَنْذَرَ قَوْمَهُ الدَّجَّالَ وَهُوَ أَقْرَبُ، فَمِمَّا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ فِي تَرْجَمَةِ نُوحٍ مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا عَنِ الدَّجَّالِ مَا حَدَّثَ بِهِ نَبِيٌّ قَوْمَهُ؟ إِنَّهُ أَعْوَرُ، وَإِنَّهُ يَجِيءُ مَعَهُ تِمْثَالُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَالَّتِي يَقُولُ إِنَّهَا الْجَنَّةُ هِيَ النَّارُ، وَإِنِّي أُنْذِرُكُمْ كَمَا أَنْذَرَ بِهِ نُوحٌ قَوْمَهُ وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ الصَّادِقَ الْمَصْدُوقَ يَقُولُ: يَخْرُجُ مَسِيحُ الضَّلَالَةِ فَيَبْلُغُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَبْلُغَ مِنَ الْأَرْضِ فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَيَلْقَى الْمُؤْمِنُونَ مِنْهُ شِدَّةً شَدِيدَةً الْحَدِيثَ، وَمِمَّا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا تَقَدَّمَ أَيْضًا فِي الْمَلَائِكَةِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذِكْرِ صِفَةِ مُوسَى عليه السلام وَفِيهِ وَذَكَرَ أَنَّهُ رَأَى الدَّجَّالَ وَوَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ فِي الدَّجَّالِ: أَعْوَرُ هِجَانُ - بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ؛ أَيْ أَبْيَضُ أَزْهَرُ - كَأَنَّ رَأْسَهُ أَصَلَةٌ أَشْبَهُ

النَّاسِ بِعَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قَطَنٍ، فَأَمَّا هَلَكَ الْهُلَّكُ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ وَفِي لَفْظٍ لِلطَّبَرَانِيِّ ضَخْمٌ فَيْلَمَانِيٌّ

ص: 100

- بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ نُونٌ - أَيْ عَظِيمُ الْجُثَّةِ كَأَنَّ رَأْسَهُ أَغْصَانُ شَجَرَةٍ يُرِيدُ أَنَّ شَعْرَ رَأْسِهِ كَثِيرٌ مُتَفَرِّقٌ قَائِمٌ أَشْبَهُ النَّاسِ بِعَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قَطَنٍ رَجُلٍ مِنْ خُزَاعَةَ وَفِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ: شَابٌّ قَطَطٌ عَيْنُهُ قَائِمَةٌ وَلِابْنِ مَاجَهْ كَأَنِّي أُشَبِّهُهُ بِعَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قَطَنٍ، وَعِنْدَ الْبَزَّارِ مِنْ حَدِيثِ الْغلتَانِ بْنِ عَاصِمٍ أَجْلَى الْجَبْهَةِ عَرِيضُ النَّحْرِ مَمْسُوحُ الْعَيْنِ الْيُسْرَى كَأَنَّهُ عَبْدُ الْعُزَّى بْنُ قَطَنٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَرْجَمَةِ عِيسَى سِيَاقُ نَسَبِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قَطَنٍ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ نَحْوُهُ، لَكِنْ قَالَ كَأَنَّهُ قَطَنُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى وَزَادَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ يَضُرُّنِي شَبَهُهُ؟ قَالَ: لَا ; أَنْتَ مُؤْمِنٌ وَهُوَ كَافِرٌ. وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ ضَعِيفَةٌ فَإِنَّ فِي سَنَدِهِ الْمَسْعُودِيَّ وَقَدِ اخْتَلَطَ وَالْمَحْفُوظُ أَنَّهُ عَبْدُ الْعُزَّى بْنُ قَطَنٍ وَأَنَّهُ هَلَكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَمَا قَالَ الزُّهْرِيُّ، وَالَّذِي قَالَ هَلْ يَضُرُّنِي شَبَهُهُ هُوَ أَكْتَمُ بْنُ أَبِي الْجَوْنِ، وَإِنَّمَا قَالَهُ فِي حَقِّ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ كَمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ عُرِضَتْ عَلَيَّ النَّارُ فَرَأَيْتُ فِيهَا عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ الْحَدِيثَ وَفِيهِ وَأَشْبَهُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ أَكْتَمُ بْنُ أَبِي الْجَوْنِ.

فَقَالَ أَكْتَمُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَضُرُّنِي شَبَهُهُ؟ قَالَ: لَا ; إِنَّكَ مُسْلِمٌ وَهُوَ كَافِرٌ فَأَمَّا الدَّجَّالُ فَشَبَّهَهُ بِعَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قَطَنٍ وَشَبَّهَ عَيْنَهُ الْمَمْسُوحَةَ بِعَيْنِ أَبِي يَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ جُفَالُ الشَّعْرِ وَهُوَ بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ الْفَاءِ أَيْ كَثِيرُهُ.

‌27 - بَاب لَا يَدْخُلُ الدَّجَّالُ الْمَدِينَةَ

7132 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا حَدِيثًا طَوِيلًا عَنْ الدَّجَّالِ فَكَانَ فِيمَا يُحَدِّثُنَا بِهِ أَنَّهُ قَالَ يَأْتِي الدَّجَّالُ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ نِقَابَ الْمَدِينَةِ فَيَنْزِلُ بَعْضَ السِّبَاخِ الَّتِي تَلِي الْمَدِينَةَ فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ وَهُوَ خَيْرُ النَّاسِ أَوْ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّكَ الدَّجَّالُ الَّذِي حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَهُ فَيَقُولُ الدَّجَّالُ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ قَتَلْتُ هَذَا ثُمَّ أَحْيَيْتُهُ هَلْ تَشُكُّونَ فِي الْأَمْرِ فَيَقُولُونَ لَا فَيَقْتُلُهُ ثُمَّ يُحْيِيهِ فَيَقُولُ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ فِيكَ أَشَدَّ بَصِيرَةً مِنِّي الْيَوْمَ فَيُرِيدُ الدَّجَّالُ أَنْ يَقْتُلَهُ فَلَا يُسَلَّطُ عَلَيْهِ.

7133 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُجْمِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ مَلَائِكَةٌ لَا يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ وَلَا الدَّجَّالُ

7134 -

حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْمَدِينَةُ يَأْتِيهَا الدَّجَّالُ فَيَجِدُ الْمَلَائِكَةَ يَحْرُسُونَهَا فَلَا يَقْرَبُهَا الدَّجَّالُ قَالَ وَلَا الطَّاعُونُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ

قَوْلُهُ: (بَابُ لَا يَدْخُلُ الدَّجَّالُ الْمَدِينَةَ) أَيِ الْمَدِينَةَ النَّبَوِيَّةَ، ذَكَرَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ:

الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ حَدَّثَنَا النَّبِيُّ

ص: 101

صلى الله عليه وسلم يَوْمًا حَدِيثًا طَوِيلًا عَنِ الدَّجَّالِ كَذَا وَرَدَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُبْهَمًا، وَقَدْ وَرَدَ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَا لَعَلَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ مَا لَمْ يُذْكَرْ كَمَا فِي رِوَايَةِ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ يَهُودِيٌّ، وَأَنَّهُ لَا يُولَدُ لَهُ وَأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ وَلَا مَكَّةَ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةِ عَطِيَّةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي سَعِيدٍ رَفَعَهُ فِي صِفَةِ عَيْنِ الدَّجَّالِ كَمَا تَقَدَّمَ وَفِيهِ: وَمَعَهُ مِثْلُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ رَجُلَانِ يُنْذِرَانِ أَهْلَ الْقُرَى، كُلَّمَا خَرَجَا مِنْ قَرْيَةٍ دَخَلَ أَوَائِلُهُ. أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى، وَالْبَزَّارُ وَهُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ مُطَوَّلٌ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْوَدَّاكِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَفَعَهُ فِي صِفَةِ عَيْنِ الدَّجَّالِ أَيْضًا وَفِيهِ مَعَهُ مِنْ كُلِّ لِسَانٍ، وَمَعَهُ صُورَةُ الْجَنَّةِ الْخَضْرَاءِ يَجْرِي فِيهَا الْمَاءُ وَصُورَةُ النَّارِ سَوْدَاءُ تُدَخِّنُ.

قَوْلُهُ: (يَأْتِي الدَّجَّالُ) أَيْ إِلَى ظَاهِرِ الْمَدِينَةِ.

قَوْلُهُ: (فَيَنْزِلُ بَعْضَ السِّبَاخِ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ جَمْعُ سَبَخَةٍ بِفَتْحَتَيْنِ وَهِيَ الْأَرْضُ الرَّمِلَةُ الَّتِي لَا تُنْبِتُ لِمُلُوحَتِهَا، وَهَذِهِ الصِّفَةُ خَارِجُ الْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْحِرَّةِ.

قَوْلُهُ: (الَّتِي تَلِي الْمَدِينَةَ) أَيْ مِنْ قِبَلِ الشَّامِ.

قَوْلُهُ: (فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ هُوَ خَيْرُ النَّاسِ أَوْ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ) فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَوْ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْوَدَّاكِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَيَتَوَجَّهُ قِبَلَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَلْقَاهُ مَسَالِحُ الدَّجَّالِ فَيَقُولُونَ: أَوَمَا تُؤْمِنُ بِرَبِّنَا؟ فَيَقُولُ مَا بِرَبِّنَا خَفَاءٌ. فَيَنْطَلِقُونَ بِهِ إِلَى الدَّجَّالِ بَعْدَ أَنْ يُرِيدُوا قَتْلَهُ، فَإِذَا رَآهُ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَذَا الدَّجَّالُ الَّذِي ذَكَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِي رِوَايَةِ عَطِيَّةَ: فَيَدْخُلُ الْقُرَى كُلَّهَا غَيْرَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ حُرِّمَتَا عَلَيْهِ، وَالْمُؤْمِنُونَ مُتَفَرِّقُونَ فِي الْأَرْضِ، فَيَجْمَعُهُمُ اللَّهُ، فَيَقُولُ رَجُلٌ مِنْهُمْ: وَاللَّهِ لَأَنْطَلِقَنَّ فَلَأَنْظُرَنَّ هَذَا الَّذِي أَنْذَرَنَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَيَمْنَعُهُ أَصْحَابُهُ خَشْيَةَ أَنْ يُفْتَتَنَ بِهِ، فَيَأْتِي حَتَّى إِذَا أَتَى أَدْنَى مَسْلَحَةً مِنْ مَسَالِحِهِ أَخَذُوهُ فَسَأَلُوهُ مَا شَأْنُهُ فَيَقُولُ: أُرِيدُ الدَّجَّالَ الْكَذَّابَ فَيَكْتُبُونَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ فَيَقُولُ: أَرْسِلُوا بِهِ إِلَيَّ، فَلَمَّا رَآهُ عَرَفَهُ.

قَوْلُهُ: (فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّكَ الدَّجَّالُ الَّذِي حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَهُ) فِي رِوَايَةِ عَطِيَّةَ أَنْتَ الدَّجَّالُ الْكَذَّابُ الَّذِي أَنْذَرَنَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَزَادَ فَيَقُولُ لَهُ الدَّجَّالُ: لَتُطِيعُنِي فِيمَا آمُرُكَ بِهِ أَوْ لَأَشُقَّنَّكَ شِقَّتَيْنِ، فَيُنَادِي: يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَذَا الْمَسِيحُ الْكَذَّابُ.

قَوْلُهُ: (فَيَقُولُ الدَّجَّالُ أَرَأَيْتُمْ إِنْ قَتَلْتُ هَذَا ثُمَّ أَحْيَيْتُهُ هَلْ تَشُكُّونَ فِي الْأَمْرِ؟ فَيَقُولُونَ: لَا) فِي رِوَايَةِ عَطِيَّةَ ثُمَّ يَقُولُ الدَّجَّالُ لِأَوْلِيَائِهِ وَهَذَا يُوَضِّحُ أَنَّ الَّذِي يُجِيبُهُ بِذَلِكَ أَتْبَاعُهُ، وَيَرُدُّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَقُولُونَ لَهُ ذَلِكَ تَقِيَّةً، أَوْ مُرَادُهُمْ لَا نَشُكُّ أَيْ فِي كُفْرِكِ وَبُطْلَانِ قَوْلِكِ.

قَوْلُهُ: (فَيَقْتُلُهُ ثُمَّ يُحْيِيهِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي الْوَدَّاكِ فَيَأْمُرُ بِهِ الدَّجَّالُ فَيُشْبَحُ فَيُشْبَعُ ظَهْرُهُ وَبَطْنُهُ ضَرْبًا فَيَقُولُ: أَمَا تُؤْمِنُ بِي؟ فَيَقُولُ: أَنْتَ الْمَسِيحُ الْكَذَّابُ، فَيُؤْمَرُ بِهِ فَيُوشَرُ بِالْمِيشَارِ مِنْ مَفْرِقِهِ حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَ رِجْلَيْهِ ثُمَّ يَمْشِي الدَّجَّالُ بَيْنَ الْقِطْعَتَيْنِ ثُمَّ يَقُولُ: قُمْ، فَيَسْتَوِي قَائِمًا وَفِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَيَدْعُو رَجُلًا مُمْتَلِئًا شَبَابًا فَيَضْرِبُهُ بِالسَّيْفِ فَيَقْطَعُهُ جَزْلَتَيْنِ، ثُمَّ يَدْعُوهُ فَيُقْبِلُ وَيَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ يَضْحَكُ وَفِي رِوَايَةِ عَطِيَّةَ: فَيَأْمُرُ بِهِ فَيُمَدُّ بِرِجْلَيْهِ ثُمَّ يَأْمُرُ بِحَدِيدَةٍ فَتُوضَعُ عَلَى عَجَبِ ذَنَبِهِ ثُمَّ يَشُقُّهُ شِقَّتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ الدَّجَّالُ لِأَوْلِيَائِهِ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَحْيَيْتُ لَكُمْ هَذَا، أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَبُّكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَأْخُذُ عَصًا فَضَرَبَ أَحَدَ شِقَّيْهِ فَاسْتَوَى قَائِمًا فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَوْلِيَاؤُهُ صَدَّقُوهُ وَأَحَبُّوهُ وَأَيْقَنُوا بِذَلِكَ أَنَّهُ رَبُّهُمْ وَعَطِيَّةُ ضَعِيفٌ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذَا اخْتِلَافٌ عَظِيمٌ يَعْنِي فِي قَتْلِهِ بِالسَّيْفِ وَبِالْمِيشَارِ -، قَالَ فَيُجْمَعُ بِأَنَّهُمَا رَجُلَانِ يَقْتُلُ كُلًّا مِنْهُمَا قِتْلَةً غَيْرَ قِتْلَةِ الْآخَرِ، كَذَا قَالَ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّعَدُّدِ، وَرِوَايَةُ الْمِيشَارِ تُفَسِّرُ رِوَايَةَ الضَّرْبِ بِالسَّيْفِ، فَلَعَلَّ السَّيْفَ كَانَ فِيهِ فُلُولٌ فَصَارَ كَالْمِيشَارِ وَأَرَادَ الْمُبَالَغَةَ فِي تَعْذِيبِهِ بِالْقِتْلَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ مُفَسِّرًا لِقَوْلِهِ إِنَّهُ نَشَرَهُ وَقَوْلُهُ

ص: 102

فَيَقْطَعُهُ جَزْلَتَيْنِ إِشَارَةً إِلَى آخِرِ أَمْرِهِ لِمَا يَنْتَهِي نَشْرُهُ.

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَقَدْ وَقَعَ فِي قِصَّةِ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ أَنَّهُ وَضَعَ يَدَهُ فِي رَأْسِهِ فَاقْتَلَعَهُ، وَفِي أُخْرَى فَأَضْجَعَهُ بِالسِّكِّينِ فَذَبَحَهُ، فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ تَرْجِيحِ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى لِكَوْنِ الْقِصَّةِ وَاحِدَةً. قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْكَهْفِ بَيَانُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ أَيْضًا بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُجْرِيَ اللَّهُ الْآيَةَ عَلَى يَدِ الْكَافِرِ؟ فَإِنَّ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى آيَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ، فَكَيْفَ يَنَالُهَا الدَّجَّالُ وَهُوَ كَذَّابٌ مُفْتَرٍ يَدَّعِي الرُّبُوبِيَّةَ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ عَلَى سَبِيلِ الْفِتْنَةِ لِلْعِبَادِ إِذْ كَانَ عِنْدَهُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُبْطِلٌ غَيْرُ مُحِقٍّ فِي دَعْوَاهُ، وَهُوَ أَنَّهُ أَعْوَرُ مَكْتُوبٌ عَلَى جَبْهَتِهِ كَافِرٌ يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُسْلِمٍ، فَدَعْوَاهُ دَاحِضَةٌ مَعَ وَسْمِ الْكُفْرِ وَنَقْصِ الذَّاتِ وَالْقَدْرِ، إِذْ لَوْ كَانَ إِلَهًا لَأَزَالَ ذَلِكَ عَنْ وَجْهِهِ، وَآيَاتُ الْأَنْبِيَاءِ سَالِمَةٌ مِنَ الْمُعَارَضَةِ فَلَا يَشْتَبِهَانِ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: لَا يَجُوزُ أَنْ تُعْطَى أَعْلَامُ الرُّسُلِ لِأَهْلِ الْكَذِبِ وَالْإِفْكِ فِي الْحَالَةِ الَّتِي لَا سَبِيلَ لِمَنْ عَايَنَ مَا أَتَى بِهِ فِيهَا إِلَّا الْفَصْلَ بَيْنَ الْمُحِقِّ مِنْهُمْ وَالْمُبْطِلِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ لِمَنْ عَايَنَ ذَلِكَ السَّبِيلُ إِلَى عِلْمِ الصَّادِقِ مِنَ الْكَاذِبِ فَمَنْ ظَهَرَ ذَلِكَ عَلَى يَدِهِ فَلَا يُنْكِرُ إِعْطَاءَ اللَّهِ ذَلِكَ لِلْكَذَّابِينَ، فَهَذَا بَيَانُ الَّذِي أُعْطِيَهُ الدَّجَّالُ مِنْ ذَلِكَ فِتْنَةً لِمَنْ شَاهَدَهُ، وَمِحْنَةً لِمَنْ عَايَنَهُ انْتَهَى. وَفِي الدَّجَّالِ مَعَ ذَلِكَ دَلَالَةٌ بَيِّنَةٌ لِمَنْ عَقَلَ عَلَى كَذِبِهِ.

لِأَنَّهُ ذُو أَجْزَاءٍ مُؤَلَّفَةٍ، وَتَأْثِيرُ الصَّنْعَةِ فِيهِ ظَاهِرٌ مَعَ ظُهُورِ الْآفَةِ بِهِ مِنْ عَوَرِ عَيْنَيْهِ، فَإِذَا دَعَا النَّاسَ إِلَى أَنَّهُ رَبُّهُمْ فَأَسْوَأُ حَالَ مَنْ يَرَاهُ مِنْ ذَوِي الْعُقُولِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيُسَوِّيَ خَلْقَ غَيْرِهِ وَيَعْدِلُهُ وَيُحَسِّنُهُ وَلَا يَدْفَعُ النَّقْصَ عَنْ نَفْسِهِ، فَأَقَلُّ مَا يَجِبُ أَنْ يَقُولَ: يَا مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ خَالِقُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ صَوِّرْ نَفْسَكَ وَعَدِّلْهَا وَأَزِلْ عَنْهَا الْعَاهَةَ، فَإِنْ زَعَمَتْ أَنَّ الرَّبَّ لَا يُحْدِثُ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا فَأَزِلْ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْكَ. وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: لَيْسَ فِي اقْتِدَارِ الدَّجَّالِ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَقْتُولِ الْمَذْكُورِ مَا يُخَالِفُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ أَيْ مِنْ أَنْ يُمَكَّنَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ تَمْكِينًا صَحِيحًا، فَإِنَّ اقْتِدَارَهُ عَلَى قَتْلِ الرَّجُلِ ثُمَّ إِحْيَائِهِ لَمْ يَسْتَمِرَّ لَهُ فِيهِ وَلَا فِي غَيْرِهِ وَلَا اسْتَضَرَّ بِهِ الْمَقْتُولُ إِلَّا سَاعَةَ تَأَلُّمِهِ بِالْقَتْلِ مَعَ حُصُولِ ثَوَابِ ذَلِكَ لَهُ، وَقَدْ لَا يَكُونُ وَجَدَ لِلْقَتْلِ أَلَمًا لِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى دَفْعِ ذَلِكَ عَنْهُ.

وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الَّذِي يَظْهَرُ عَلَى يَدَيِ الدَّجَّالِ مِنَ الْآيَاتِ مِنْ إِنْزَالِ الْمَطَرِ وَالْخِصْبِ عَلَى مَنْ يُصَدِّقُهُ وَالْجَدْبِ عَلَى مَنْ يُكَذِّبُهُ وَاتِّبَاعِ كُنُوزِ الْأَرْضِ لَهُ وَمَا مَعَهُ مِنْ جَنَّةٍ وَنَارٍ وَمِيَاهٍ تَجْرِي كُلُّ ذَلِكَ مِحْنَةٌ مِنَ اللَّهِ وَاخْتِبَارٌ لِيَهْلِكَ الْمُرْتَابُ وَيَنْجُوَ الْمُتَيَقِّنُ، وَذَلِكَ كُلُّهُ أَمْرٌ مُخَوِّفٌ، وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم: لَا فِتْنَةَ أَعْظَمُ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، وَكَانَ يَسْتَعِيذُ مِنْهَا فِي صَلَاتِهِ تَشْرِيعًا لِأُمَّتِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ عِنْدَ مُسْلِمٍ: غَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفُ لِي عَلَيْكُمْ فَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِلصَّحَابَةِ لِأَنَّ الَّذِي خَافَهُ عَلَيْهِمْ أَقْرَبُ إِلَيْهِمْ مِنَ الدَّجَّالِ، فَالْقَرِيبُ الْمُتَيَقَّنُ وُقُوعُهُ لِمَنْ يَخَافُ عَلَيْهِ يَشْتَدُ الْخَوْفُ مِنْهُ عَلَى الْبَعِيدِ الْمَظْنُونِ وُقُوعُهُ بِهِ وَلَوْ كَانَ أَشَدَّ.

قَوْلُهُ: (فَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا كُنْتُ فِيكَ أَشَدَّ بَصِيرَةً مِنِّي الْيَوْمَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي الْوَدَّاكِ: مَا ازْدَدْتُ فِيكَ إِلَّا بَصِيرَةً ثُمَّ يَقُولُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَا يَفْعَلُ بَعْدِي بِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ وَفِي رِوَايَةِ عَطِيَّةَ فَيَقُولُ لَهُ الدَّجَّالُ: أَمَا تُؤْمِنُ بِي؟ فَيَقُولُ: أَنَا الْآنَ أَشَدُّ بَصِيرَةً فِيكَ مِنِّي. ثُمَّ نَادَى فِي النَّاسِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَذَا الْمَسِيحُ الْكَذَّابُ، مَنْ أَطَاعَهُ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَمَنْ عَصَاهُ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَالَ ذَلِكَ لِلدَّجَّالِ ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ، كَذَا قَالَ، وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ لِلدَّجَّالِ إِذَا رَأَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ.

قَوْلُهُ: (فَيُرِيدُ الدَّجَّالُ أَنْ يَقْتُلَهُ فَلَا يُسَلَّطُ عَلَيْهِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي الْوَدَّاكِ فَيَأْخُذُهُ الدَّجَّالُ لِيَذْبَحَهُ فَيُجْعَلُ مَا بَيْنَ رَقَبَتِهِ إِلَى تَرْقُوَتِهِ نُحَاسًا، فَلَا يَسْتَطِيعُ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَفِي رِوَايَةِ عَطِيَّةَ: فَقَالَ لَهُ الدَّجَّالُ: لَتُطِيعُنِي أَوْ لَأَذْبَحَنَّكَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أُطِيعُكَ أَبَدًا، فَأَمَرَ بِهِ فَأُضْجِعَ فَلَا يَقْدِرُ

ص: 103

عَلَيْهِ وَلَا يَتَسَلَّطُ عَلَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، زَادَ فِي رِوَايَةِ عَطِيَّةَ: فَأَخَذَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فَأُلْقِيَ فِي النَّارِ وَهِيَ غَبْرَاءُ ذَاتُ دُخَانٍ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْوَدَّاكِ: فَيَأْخُذُ بِيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فَيَقْذِفُ بِهِ فَيَحْسَبُ النَّاسُ أَنَّهُ قَذَفَهُ إِلَى النَّارِ، وَإِنَّمَا أُلْقِيَ فِي الْجَنَّةِ، زَادَ فِي رِوَايَةِ عَطِيَّةَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ذَلِكَ الرَّجُلُ أَقْرَبُ أُمَّتِي مِنِّي، وَأَرْفَعُهُمْ دَرَجَةً وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْوَدَّاكِ: هَذَا أَعْظَمُ شَهَادَةً عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي يَعْلَى، وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ مِنْ رِوَايَةِ حَجَّاجِ بْنِ أَرْطَأةَ، عَنْ عَطِيَّةَ أَنَّهُ يُذْبَحُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ يَعُودُ لِيَذْبَحَهُ الرَّابِعَةَ، فَيَضْرِبُ اللَّهُ عَلَى حَلْقِهِ بِصَفِيحَةِ نُحَاسٍ، فَلَا يَسْتَطِيعُ ذَبْحَهُ وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ.

وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَفَعَهُ فِي ذِكْرِ الدَّجَّالِ يَدْعُو بِرَجُلٍ لَا يُسَلِّطُهُ اللَّهُ إِلَّا عَلَيْهِ فَذَكَرَ نَحْوَ رِوَايَةِ أَبِي الْوَدَّاكِ، وَفِي آخِرِهِ: فَيَهْوِي إِلَيْهِ بِسَيْفِهِ فَلَا يَسْتَطِيعُهُ فَيَقُولُ: أَخِّرُوهُ عَنِّي، وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُعْتَمِرٍ: ثُمَّ يَدْعُو بِرَجُلٍ فِيمَا يَرَوْنَ فَيُؤْمَرُ بِهِ فَيُقْتَلُ ثُمَّ يَقْطَعُ أَعْضَاءَهُ كُلَّ عُضْوٍ عَلَى حِدَةٍ، فَيُفَرِّقُ بَيْنَهَا حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ، ثُمَّ يَجْمَعُهَا، ثُمَّ يَضْرِبُ بِعَصَاهُ، فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ فَيَقُولُ: أَنَا اللَّهُ الَّذِي أُمِيتُ وَأُحْيِي، قَالَ: وَذَلِكَ كُلُّهُ سِحْرٌ سَحَرَ أَعْيُنَ النَّاسِ لَيْسَ يَعْمَلُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا. وَهُوَ سَنَدٌ ضَعِيفٌ جِدًّا.

وَفِي رِوَايَةِ أَبِي يَعْلَى مِنَ الزِّيَادَةِ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: كُنَّا نَرَى ذَلِكَ الرَّجُلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لِمَا نَعْلَمُ مِنْ قُوَّتِهِ وَجَلَدِهِ وَوَقَعَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَقِبَ رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: يُقَالُ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ هُوَ الْخَضِرُ كَذَا أَطْلَقَ فَظَنَّ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ أَبَا إِسْحَاقَ الْمَذْكُورَ هُوَ السَّبِيعِيُّ أَحَدَ الثِّقَاتِ مِنَ التَّابِعِينَ، وَلَمْ يُصِبْ فِي ظَنِّهِ فَإِنَّ السَّنَدَ الْمَذْكُورَ لَمْ يَجْرِ لِأَبِي إِسْحَاقَ فِيهِ ذِكْرٌ، وَإِنَّمَا أَبُو إِسْحَاقَ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ هُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ الزَّاهِدُ، رَاوِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ، كَمَا جَزَمَ بِهِ عِيَاضٌ، وَالنَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَذْكِرَتِهِ أَيْضًا قَبْلُ، فَكَأَنَّ قَوْلَهُ فِي الْمَوْضِعِ الثَّانِي: السَّبِيعِيُّ سَبْقُ قَلَمٍ، وَلَعَلَّ مُسْتَنَدَهُ فِي ذَلِكَ مَا قَالَهُ مَعْمَرٌ فِي جَامِعِهِ بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ: قَالَ مَعْمَرٌ: بَلَغَنِي أَنَّ الَّذِي يَقْتُلُ الدَّجَّالَ، الْخَضِرُ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ الْخَضِرُ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: سَمِعْتُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الَّذِي يَقْتُلُهُ الدَّجَّالُ هُوَ الْخَضِرُ، وَهَذِهِ دَعْوَى لَا بُرْهَانَ لَهَا. قُلْتُ: وَقَدْ تَمَسَّكَ مَنْ قَالَهُ بِمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ رَفَعَهُ فِي ذِكْرِ الدَّجَّالِ: لَعَلَّهُ أَنْ يُدْرِكَهُ بَعْضُ مَنْ رَآنِي أَوْ سَمِعَ كَلَامِي الْحَدِيثَ.

وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا: شَابٌّ مُمْتَلِئٌ شَبَابًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ خَصَائِصِ الْخَضِرِ أَنْ لَا يَزَالَ شَابًّا، وَيَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي حَدِيثُ نُعَيْمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ مَلَائِكَةٌ. تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي فَضَائِلِ الْمَدِينَةِ أَوَاخِرَ كِتَابِ الْحَجِّ، وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: لَيْسَ مِنْ بَلَدٍ إِلَّا سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ إِلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ، وَكَذَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: يَسِيحُ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا يَرِدُ كُلَّ بَلْدَةٍ غَيْرَ هَاتَيْنِ الْبَلْدَتَيْنِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ حَرَّمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِهِ كَالسَّنَةِ وَيَوْمٌ كَالشَّهْرِ وَيَوْمٌ كَالْجُمْعَةِ، وَبَقِيَّةُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ هَذِهِ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَهُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ بِنَحْوِهِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ، وَلَفْظُهُ: تُطْوَى لَهُ الْأَرْضُ فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا إِلَّا مَا كَانَ مِنْ طَيْبَةَ. الْحَدِيثَ وَأَصْلُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ بِلَفْظِ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا لُبْثُهُ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ يَوْمًا، فَذَكَرَهُ، وَزَادَ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَالسَّنَةِ يَكْفِينَا فِيهِ صَلَاةُ يَوْمٍ، قَالَ: لَا أَقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ. قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا إِسْرَاعُهُ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ: كَالْغَيْثِ اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ. وَلَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فِي أُمَّتِي فَيَمْكُثُ أَرْبَعِينَ، لَا أَدْرِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ أَرْبَعِينَ شَهْرًا أَوْ أَرْبَعِينَ عَامًا الْحَدِيثَ، وَالْجَزْمُ بِأَنَّهَا أَرْبَعُونَ يَوْمًا مُقَدَّمٌ عَلَى هَذَا التَّرْدِيدِ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بِلَفْظِ: يَخْرُجُ - يَعْنِي

ص: 104

الدَّجَّالُ - فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، يَرِدُ فِيهَا كُلَّ مَنْهَلٍ إِلَّا الْكَعْبَةَ وَالْمَدِينَةَ وَبَيْتَ الْمَقْدِسِ. الْحَدِيثَ.

وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ سَمُرَةَ الْمُشَارِ إِلَيْهِ قَبْلُ يَظْهَرُ عَلَى الْأَرْضِ كُلِّهَا إِلَّا الْحَرَمَيْنِ وَبَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَيَحْصُرُ الْمُؤْمِنِينَ فِيهِ ثُمَّ يُهْلِكُهُ اللَّهُ، وَفِي حَدِيثِ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ: أَتَيْنَا رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ مِنَ الصَّحَابَةِ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أُنْذِرُكُمُ الْمَسِيحَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: يَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، يَبْلُغُ سُلْطَانُهُ كُلَّ مَنْهَلٍ، لَا يَأْتِي أَرْبَعَةَ مَسَاجِدَ الْكَعْبَةَ وَمَسْجِدَ الرَّسُولِ وَمَسْجِدَ الْأَقْصَى وَالطُّورَ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ. حَدِيثُ أَنَسٍ، قَوْلُهُ (يَأْتِيهَا الدَّجَّالُ) أَيِ الْمَدِينَةَ (فَيَجِدُ الْمَلَائِكَةَ يَحْرُسُونَهَا) فِي حَدِيثِ مِحْجَنِ بْنِ الْأَدْرَعِ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالْحَاكِمِ فِي ذِكْرِ الْمَدِينَةِ: وَلَا يَدْخُلُهَا الدَّجَّالُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، كُلَّمَا أَرَادَ دُخُولَهَا تَلَقَّاهُ بِكُلِّ نَقَبٍ مِنْ أَنْقَابِهَا مَلَكٌ مُصْلِّتٌ سَيْفَهُ يَمْنَعُهُ عَنْهَا، وَعِنْدَ الْحَاكِمِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْقَرَّاظِ سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ، وَأَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولَانِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: إِلَّا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مُشْتَبِكَةٌ بِالْمَلَائِكَةِ، عَلَى كُلِّ نَقَبٍ مِنْ أَنْقَابِهَا مَلَكَانِ يَحْرُسَانِهَا لَا يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ وَلَا الدَّجَّالُ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: يُجْمَعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ: عَلَى كُلِّ نَقَبٍ مَلَكَانِ، أَنَّ سَيْفَ أَحَدِهِمَا مَسْلُولٌ وَالْآخَرُ بِخِلَافِهِ.

قَوْلُهُ: فَلَا يَقْرَبُهَا الدَّجَّالُ وَلَا الطَّاعُونُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ) قِيلَ: هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُحْتَمِلٌ لِلتَّعْلِيقِ وَمُحْتَمِلٌ لِلتَّبَرُّكِ وَهُوَ أَوْلَى، وَقِيلَ إِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالطَّاعُونِ فَقَطْ وَفِيهِ نَظَرٌ، وَحَدِيثُ مِحْجَنِ بْنِ الْأَدْرَعِ الْمَذْكُورُ آنِفًا يُؤَيِّدُ أَنَّهُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ حُجَّةٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ فِي صِحَّةِ وُجُودِ الدَّجَّالِ وَأَنَّهُ شَخْصٌ مُعَيَّنٌ يَبْتَلِي اللَّهُ بِهِ الْعِبَادَ وَيُقْدِرُهُ عَلَى أَشْيَاءَ كَإِحْيَاءِ الْمَيِّتِ الَّذِي يَقْتُلُهُ، وَظُهُورِ الْخِصْبِ وَالْأَنْهَارِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَاتِّبَاعِ كُنُوزِ الْأَرْضِ لَهُ.

وَأَمْرِهِ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ، وَالْأَرْضَ فَتُنْبِتُ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، ثُمَّ يُعْجِزُهُ اللَّهُ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى قَتْلِ ذَلِكَ الرَّجُلِ وَلَا غَيْرِهِ، ثُمَّ يُبْطِلُ أَمْرَهُ وَيَقْتُلُهُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَقَدْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ، فَأَنْكَرُوا وُجُودَهُ، وَرَدُّوا الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ، وَذَهَبَ طَوَائِفُ مِنْهُمْ كَالْجُبَّائِيِّ إِلَى أَنَّهُ صَحِيحُ الْوُجُودِ، لَكِنْ كُلُّ الَّذِي مَعَهُ مَخَارِيقُ وَخَيَالَاتٌ لَا حَقِيقَةَ لَهَا، وَأَلْجَأَهُمْ إِلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَا مَعَهُ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ لَمْ يُوثَقْ بِمُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ، وَهُوَ غَلَطٌ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدَّعِ النُّبُوَّةَ فَتَكُونُ الْخَوَارِقُ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ، وَإِنَّمَا ادَّعَى الْإِلَهِيَّةَ وَصُورَةُ حَالِهِ تُكَذِّبُهُ لِعَجْزِهِ وَنَقْصِهِ، فَلَا يَغْتَرُّ بِهِ إِلَّا رَعَاعُ النَّاسِ، إِمَّا لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ وَالْفَاقَةِ، وَإِمَّا تَقِيَّةً وَخَوْفًا مِنْ أَذَاهُ وَشَرِّهِ مَعَ سُرْعَةِ مُرُورِهِ فِي الْأَرْضِ، فَلَا يَمْكُثُ حَتَّى يَتَأَمَّلَ الضُّعَفَاءُ حَالَهُ، فَمَنْ صَدَّقَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ بُطْلَانُ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلِهَذَا يَقُولُ لَهُ الَّذِي يُحْيِيهِ بَعْدَ أَنْ يَقْتُلَهُ: مَا ازْدَدْتُ فِيكَ إِلَّا بَصِيرَةً. قُلْتُ: وَلَا يُعَكِّرُ عَلَى ذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ أَنَّهُ يَبْدَأُ فَيَقُولُ أَنَا نَبِيٌّ، ثُمَّ يُثَنِّي فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يُظْهِرُ الْخَوَارِقَ بَعْدَ قَوْلِهِ الثَّانِي.

وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ الْمَذْكُورِ: وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنْ يَقُولَ لِلْأَعْرَابِيِّ: أَرَأَيْتَ إِنْ بَعَثْتُ لَكَ أَبَاكَ وَأُمَّكَ أَتَشْهَدُ أَنِّي رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُمَثَّلَ لَهُ شَيْطَانَانِ فِي صُورَةِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ يَقُولَانِ لَهُ: يَا بُنَيَّ اتَّبِعْهُ فَإِنَّهُ رَبُّكَ، وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنْ يَمُرَّ بِالْحَيِّ فَيُكَذِّبُونَهُ فَلَا تَبْقَى لَهُمْ سَائِمَةٌ إِلَّا هَلَكَتْ، وَيَمُرَّ بِالْحَيِّ فَيُصَدِّقُونَهُ فَيَأْمُرَ السَّمَاءَ أَنْ تُمْطِرَ وَالْأَرْضَ أَنْ تُنْبِتَ فَتُمْطِرَ وَتُنْبِتَ حَتَّى تَرُوحَ مَوَاشِيهِمْ مِنْ يَوْمِهِمْ ذَلِكَ أَسْمَنَ مَا كَانَتْ وَأَعْظَمَ وَأَمَدَّهُ خَوَاصِرَ وَأَدَرَّهُ ضُرُوعًا.

‌28 - بَاب يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ

ص: 105

7135 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، ح، وَحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي أَخِي، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ. أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ حَدَّثَتْهُ، عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ زَيْنَبَ ابنة جَحْشٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمًا فَزِعًا يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدْ اقْتَرَبَ فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ، وَحَلَّقَ بِإِصْبَعَيْهِ الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا، قَالَتْ زَيْنَبُ ابنة جَحْشٍ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخُبْثُ.

7136 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يُفْتَحُ الرَّدْمُ رَدْمُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ وَعَقَدَ وُهَيْبٌ تِسْعِينَ

قَوْلُهُ: (بَابُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ خَبَرِهِمْ فِي تَرْجَمَةِ ذِي الْقَرْنَيْنِ مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّهُمْ مِنْ بَنِي آدَمَ، ثُمَّ بَنِي يَافِثَ بْنِ نُوحٍ. وَبِهِ جَزَمَ وَهْبٌ وَغَيْرُهُ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ مِنَ التُّرْكِ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ، وَقِيلَ: يَأْجُوجُ مِنَ التُّرْكِ، وَمَأْجُوجُ مِنَ الدَّيْلَمِ وَعَنْ كَعْبٍ: هُمْ مِنْ وَلَدِ آدَمَ مِنْ غَيْرِ حَوَّاءٍ، وَذَلِكَ أَنَّ آدَمَ نَامَ فَاحْتَلَمَ فَامْتَزَجَتْ نُطْفَتُهُ بِالتُّرَابِ، فَخُلِقَ مِنْهَا يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، وَرُدَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ لَا يَحْتَلِمْ، وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَنْفِيَّ أَنْ يَرَى فِي الْمَنَامِ أَنَّهُ يُجَامِعُ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ دَفَقَ الْمَاءُ فَقَطْ، وَهُوَ جَائِزٌ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَبُولَ، وَالْأَوَّلُ الْمُعْتَمَدُ، وَإِلَّا فَأَيْنَ كَانُوا حِينَ الطُّوفَانِ وَيَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ بِغَيْرِ هَمْزٍ لِأَكْثَرِ الْقُرَّاءِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ بِالْهَمْزَةِ السَّاكِنَةِ فِيهِمَا وَهِيَ لُغَةُ بَنِي أَسَدٍ، وَقَرَأَ الْعَجَّاجُ وَوَلَدُهُ رُؤْبَةُ أَأْجُوجُ بِهَمْزَةٍ بَدَلَ الْيَاءِ، وَهُمَا اسْمَانِ أَعْجَمِيَّانِ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، مُنِعَا مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ، وَقِيلَ: بَلْ عَرَبِيَّانِ، وَاخْتُلِفَ فِي اشْتِقَاقِهِمَا، فَقِيلَ: مِنْ أَجِيجِ النَّارِ وَهُوَ الْتِهَابُهَا، وَقِيلَ: مِنَ الْأَجَّةِ بِالتَّشْدِيدِ، وَهِيَ الِاخْتِلَاطُ أَوْ شِدَّةُ الْحَرِّ، وَقِيلَ: مِنَ الْأَجِّ وَهُوَ سُرْعَةُ الْعَدْوِ، وَقِيلَ: مِنَ الْأُجَاجِ، وَهُوَ الْمَاءُ الشَّدِيدُ الْمُلُوحَةِ، وَوَزْنُهُمَا: يَفْعُولُ وَمَفْعُولُ، وَهُوَ ظَاهِرُ قِرَاءَةِ عَاصِمٍ، وَكَذَا الْبَاقِينَ إِنْ كَانَتِ الْأَلِفُ مُسَهَّلَةً مِنَ الْهَمْزَةِ، فَقِيلَ: فَاعُولٌ مِنْ يَجَّ مَجَّ، وَقِيلَ: مَاجُوجُ مِنْ مَاجَ إِذَا اضْطَرَبَ، وَوَزْنُهُ أَيْضًا مَفْعُولٌ، قَالَهُ أَبُو حَاتِمٍ، قَالَ: وَالْأَصْلُ مَوْجُوجُ،

وَجَمِيعُ مَا ذُكِرَ مِنَ الِاشْتِقَاقِ مُنَاسِبٌ لِحَالِهِمْ، وَيُؤَيِّدُ الِاشْتِقَاقَ وَقَوْلَ مَنْ جَعَلَهُ مِنْ مَاجَ إِذَا اضْطَرَبَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} وَذَلِكَ حِينَ يَخْرُجُونَ مِنَ السَّدِّ، وَجَاءَ فِي صِفَتِهِمْ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ رَفَعَهُ قَالَ: يَأْجُوجُ أُمَّةٌ، وَمَأْجُوجُ أُمَّةٌ، كُلُّ أُمَّةٍ أَرْبَعُمِائَةِ أَلْفٍ، لَا يَمُوتُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى أَلْفِ ذَكَرٍ مِنْ صُلْبِهِ كُلُّهُمْ قَدْ حَمَلَ السِّلَاحَ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْعَطَّارِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، وَالْعَطَّارُ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: لَيْسَ هُوَ صَاحِبُ الْمَغَازِي بَلْ هُوَ الْعُكَّاشِيُّ، قَالَ وَالْحَدِيثُ مَوْضُوعٌ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مُنْكَرٌ، قُلْتُ: لَكِنْ لِبَعْضِهِ شَاهِدٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَقَلُّ مَا يَتْرُكُ أَحَدُهُمْ لِصُلْبِهِ أَلْفًا مِنَ الذُّرِّيَّةِ، وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ، عَنْ أَبِيهِ، رَفَعَهُ: إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ يُجَامِعُونَ مَا شَاءُوا، وَلَا يَمُوتُ رَجُلٌ مِنْهُمْ إِلَّا تَرَكَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ أَلْفًا فَصَاعِدًا.

وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ،

ص: 106

وَوَرَاءَهُمْ ثَلَاثُ أُمَمٍ، وَلَنْ يَمُوتَ مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا تَرَكَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ أَلْفًا فَصَاعِدًا، وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ مِثْلَهُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: الْجِنُّ وَالْإِنْسُ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ، فَتِسْعَةُ أَجْزَاءٍ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، وَجُزْءٌ سَائِرُ النَّاسِ، وَمِنْ طَرِيقِ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ كَعْبٍ قَالَ: هُمْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ، صِنْفٌ أَجْسَادُهُمْ كَالْأَرْزِ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ ثُمَّ زَايٍ هُوَ شَجَرٌ كِبَارٌ جِدًّا، وَصِنْفٌ أَرْبَعَةُ أَذْرُعٍ فِي أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ، وَصِنْفٌ يَفْتَرِشُونَ آذَانَهُمْ وَيَلْتَحِفُونَ بِالْأُخْرَى. وَوَقَعَ نَحْوُ هَذَا فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا هُوَ وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْجَوْزَاءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ شِبْرًا شِبْرًا وَشِبْرَيْنِ شِبْرَيْنِ، وَأَطْوَلُهُمْ ثَلَاثَةُ أَشْبَارٍ، وَهُمْ مِنْ وَلَدِ آدَمَ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: وُلِدَ لِنُوحٍ سَامٌ، وَحَامٌ، وَيَافِثُ، فَوُلِدَ لِسَامٍ الْعَرَبُ وَفَارِسُ وَالرُّومُ، وَوُلِدَ لِحَامٍ الْقِبْطُ وَالْبَرْبَرُ وَالسُّودَانُ، وَوُلِدَ لِيَافِثَ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَالتُّرْكُ وَالصَّقَالِبَةُ، وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ.

وَمِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ ثِنْتَانِ وَعِشْرُونَ قَبِيلَةً، بَنَى ذُو الْقَرْنَيْنِ السَّدَّ عَلَى إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَكَانَتْ مِنْهُمْ قَبِيلَةٌ غَائِبَةٌ فِي الْغَزْوِ، وَهُمُ الْأَتْرَاكُ، فَبَقُوا دُونَ السَّدِّ، وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ، قَالَ: التُّرْكُ سَرِيَّةٌ مِنْ سَرَايَا يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، خَرَجَتْ تُغِيرُ فَجَاءَ ذُو الْقَرْنَيْنِ فَبَنَى السَّدَّ فَبَقُوا خَارِجًا. وَوَقَعَ فِي فَتَاوَى الشَّيْخِ مُحْيِي الدِّينِ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ، لَا مِنْ حَوَّاءَ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ، فَيَكُونُ إِخْوَانُنَا لِأَبٍ كَذَا قَالَ، وَلَمْ نَرَ هَذَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ إِلَّا عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَيَرُدُّهُ الْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ: أَنَّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ وَنُوحٌ مِنْ ذُرِّيَّةِ حَوَّاءَ قَطْعًا.

قَوْلُهُ: (وَحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ أُوَيْسٍ عَبْدُ اللَّهِ الْأَصْبَحِيُّ، وَأَخُوهُ هُوَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْحَمِيدِ، وَسُلَيْمَانُ هُوَ ابْنُ بِلَالٍ. وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَتِيقٍ نُسِبَ لِجَدِّهِ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، وَهَذَا السَّنَدُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ، وَهُوَ أَنْزَلُ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ بِدَرَجَتَيْنِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَطْوَلُ سَنَدًا فِي الْبُخَارِيِّ، فَإِنَّهُ تُسَاعِيٌّ، وَغَفَلَ الزَّرْكَشِيُّ فَقَالَ: فِيهِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ صَحَابِيَّاتٍ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، بَلْ فِيهِ ثَلَاثَةٌ، كَمَا قَدَّمْتُ إِيضَاحَهُ فِي أَوَائِلِ الْفِتَنِ فِي بَابِ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: وَيْلٌ لِلْعَرَبِ، وَذَكَرْتُ هُنَاكَ الِاخْتِلَافَ عَلَى سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ فِي زِيَادَةِ حَبِيبَةَ بِنْتِ أُمِّ حَبِيبَةَ فِي الْإِسْنَادِ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمًا فَزِعًا) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ: اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ النَّوْمِ مُحْمَرًّا وَجْهُهُ يَقُولُ: فَيُجْمَعُ عَلَى أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهَا بَعْدَ أَنِ اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَزِعًا، وَكَانَتْ حُمْرَةُ وَجْهِهِ مِنْ ذَلِكَ الْفَزَعِ، وَجُمِعَ بَيْنَهُمَا فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ كَثِيرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ فَقَالَ: فَزِعًا مُحْمَرًّا وَجْهُهُ.

قَوْلُهُ: (وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ) خُصَّ الْعَرَبُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا حِينَئِذٍ مُعْظَمَ مَنْ أَسْلَمَ، وَالْمُرَادُ بِالشَّرِّ مَا وَقَعَ بَعْدَهُ مِنْ قَتْلِ عُثْمَانَ، ثُمَّ تَوَالَتِ الْفِتَنُ حَتَّى صَارَتِ الْعَرَبُ بَيْنَ الْأُمَمِ كَالْقَصْعَةِ بَيْنَ الْأَكَلَةِ كَمَا وَقَعَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا وَأَنَّ الْمُخَاطَبَ بِذَلِكَ الْعَرَبُ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالشَّرِّ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ: مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الْفِتَنِ، وَمَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الْخَزَائِنِ فَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى الْفُتُوحِ الَّتِي فُتِحَتْ بَعْدَهُ، فَكَثُرَتِ الْأَمْوَالُ فِي أَيْدِيهِمْ، فَوَقَعَ التَّنَافُسُ الَّذِي جَرَّ الْفِتَنَ، وَكَذَلِكَ التَّنَافُسُ عَلَى الْإِمْرَةِ، فَإِنَّ مُعْظَمَ مَا أَنْكَرُوهُ عَلَى عُثْمَانَ تَوْلِيَةُ أَقَارِبِهِ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ وَغَيْرِهِمْ، حَتَّى أَفْضَى ذَلِكَ أَنْ قَتَلَهُ، وَتَرَتَّبَ عَلَى قَتْلِهِ مِنَ الْقِتَالِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مَا اشْتُهِرَ وَاسْتَمَرَّ.

قَوْلُهُ: (فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) الْمُرَادُ بِالرَّدْمِ السَّدُّ الَّذِي بَنَاهُ ذُو الْقَرْنَيْنِ، وَقَدْ قَدَّمْتُ صِفَتَهُ فِي تَرْجَمَتِهِ مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ.

قَوْلُهُ: (مِثْلُ هَذِهِ وَحَلَّقَ بِأُصْبُعَيْهِ الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا) أَيْ جَعَلَهُمَا مِثْلَ الْحَلَقَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَعَقَدَ سُفْيَانُ تِسْعِينَ أَوْ مِائَةً، وَفِي رِوَايَةِ

ص: 107

سُلَيْمَانَ بْنِ كَثِيرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ، وَابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِثْلُ هَذِهِ وَعَقَدَ تِسْعِينَ وَلَمْ يُعَيِّنِ الَّذِي عَقَدَ أَيْضًا، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَمْرٍو النَّاقِدِ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَعَقَدَ سُفْيَانُ عَشَرَةً وَلِابْنِ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ شُرَيْحِ بْنِ يُونُسَ، عَنْ سُفْيَانَ وَحَلَّقَ بِيَدِهِ عَشَرَةً وَلَمْ يُعَيِّنْ أَنَّ الَّذِي حَلَّقَ هُوَ سُفْيَانُ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِدُونِ ذِكْرِ الْعَقْدِ، وَكَذَا تَقَدَّمَ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ مِنْ رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، وَفِي تَرْجَمَةِ ذِي الْقَرْنَيْنِ مِنْ طَرِيقِ عُقَيْلٍ، وَسَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ وَعَقَدَ وُهَيْبٌ تِسْعِينَ وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا، قَالَ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ: هَذِهِ الرِّوَايَاتُ مُتَّفِقَةٌ إِلَّا قَوْلَهُ عَشَرَةً. قُلْتُ: وَكَذَا الشَّكُّ فِي الْمِائَةِ لِأَنَّ صِفَاتَهَا عِنْدَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِعَقْدِ الْحِسَابِ مُخْتَلِفَةٌ وَإِنِ اتَّفَقَتْ فِي أَنَّهَا تُشْبِهُ الْحَلْقَةَ، فَعَقْدُ الْعَشَرَةِ أَنْ يُجْعَلَ طَرَفَ السَّبَّابَةِ الْيُمْنَى فِي بَاطِنِ طَيِّ عُقْدَةِ الْإِبْهَامِ الْعُلْيَا، وَعَقْدُ التِّسْعِينَ أَنْ يُجْعَلَ طَرَفَ السَّبَّابَةِ الْيُمْنَى فِي أَصْلِهَا وَيَضُمَّهَا ضَمًّا مُحْكَمًا بِحَيْثُ تَنْطَوِي عُقْدَتَاهَا حَتَّى تَصِيرَ مِثْلَ الْحَيَّةِ الْمُطَوِّقَةِ.

وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ أَنَّ صُورَتَهُ أَنْ يَجْعَلَ السَّبَّابَةَ فِي وَسَطِ الْإِبْهَامِ، وَرَدَّهُ ابْنُ التِّينِ بِمَا تَقَدَّمَ فَإِنَّهُ الْمَعْرُوفُ وَعَقْدُ الْمِائَةِ مِثْلُ عَقْدِ التِّسْعِينَ لَكِنْ بِالْخِنْصَرِ الْيُسْرَى، فَعَلَى هَذَا فَالتِّسْعُونَ وَالْمِائَةُ مُتَقَارِبَانِ، وَلِذَلِكَ وَقَعَ فِيهِمَا الشَّكُّ. وَأَمَّا الْعَشَرَةُ فَمُغَايِرَةٌ لَهُمَا. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: لَعَلَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ مُتَقَدِّمٌ فَزَادَ الْفَتْحُ بَعْدَهُ الْقَدْرَ الْمَذْكُورَ فِي حَدِيثِ زَيْنَبَ. قُلْتُ: وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْوَصْفُ الْمَذْكُورُ مِنْ أَصْلِ الرِّوَايَةِ لَاتُّجِهَ، وَلَكِنَّ الِاخْتِلَافَ فِيهِ مِنَ الرُّوَاةِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَرِوَايَةُ مَنْ رَوَى عَنْهُ تِسْعِينَ أَوْ مِائَةً أَتْقَنُ وَأَكْثَرُ مِنْ رِوَايَةِ مَنْ رَوَى عَشَرَةً، وَإِذَا اتَّحَدَ مَخْرَجُ الْحَدِيثِ وَلَا سِيَّمَا فِي أَوَاخِرِ الْإِسْنَادِ بَعْدَ الْحَمْلِ عَلَى التَّعَدُّدِ جِدًّا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فِي الْإِشَارَةِ الْمَذْكُورَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْلَمُ عَقْدَ الْحِسَابِ حَتَّى أَشَارَ بِذَلِكَ لِمَنْ يَعْرِفُهُ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يُعَارِضُ قَوْلَهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: إِنَّا أُمَّةٌ لَا نَحْسِبُ وَلَا نَكْتُبُ فَإِنَّ هَذَا إِنَّمَا جَاءَ لِبَيَانِ صُورَةٍ مُعَيَّنَةٍ خَاصَّةٍ.

قُلْتُ: وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ بِنَفْيِ الْحِسَابِ مَا يَتَعَانَاهُ أَهْلُ صِنَاعَتِهِ مِنَ الْجَمْعِ وَالْفَذْلَكَةِ وَالضَّرْبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ وَلَا نَكْتُبُ وَأَمَّا عَقْدُ الْحِسَابِ فَإِنَّهُ اصْطِلَاحٌ لِلْعَرَبِ تَوَاضَعُوهُ بَيْنَهُمْ لِيَسْتَغْنَوْا بِهِ عَنِ التَّلَفُّظِ، وَكَانَ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِمْ لَهُ عِنْدَ الْمُسَاوَمَةِ فِي الْبَيْعِ فَيَضَعُ أَحَدُهُمَا يَدَهُ فِي يَدِ الْآخَرِ فَيَفْهَمَانِ الْمُرَادَ مِنْ غَيْرِ تَلَفُّظٍ لِقَصْدِ سَتْرِ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِمَا مِمَّنْ يَحْضُرُهُمَا، فَشَبَّهَ صلى الله عليه وسلم قَدْرَ مَا فُتِحَ مِنَ السَّدِّ بِصِفَةٍ مَعْرُوفَةٍ عِنْدَهُمْ، وَقَدْ أَكْثَرَ الشُّعَرَاءُ التَّشْبِيهَ بِهَذِهِ الْعُقُودِ وَمِنْ ظَرِيفِ مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنَ النَّظْمِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِ الْأُدَبَاءِ: -

رُبَّ بُرْغُوثٍ لَيْلَةَ بِتُّ مِنْهُ

وَفُؤَادِي فِي قَبْضَةِ التِّسْعِينَ

أَسَرَتْهُ يَدُ الثَّلَاثِينَ حَتَّى

ذَاقَ طَعْمَ الْحَمَامِ فِي السَّبْعِينَ

وَعَقْدُ الثَّلَاثِينَ أَنْ يُضَمَّ طَرَفُ الْإِبْهَامِ إِلَى طَرَفِ السَّبَّابَةِ مِثْلُ مَنْ يُمْسِكُ شَيْئًا لَطِيفًا كَالْإِبْرَةِ وَكَذَلِكَ الْبُرْغُوثِ.

وَعَقْدُ السَّبْعِينَ أَنْ يَجْعَلَ طَرَفَ ظُفُرِ الْإِبْهَامِ بَيْنَ عُقْدَتَيِ السَّبَّابَةِ مِنْ بَاطِنِهَا وَيَلْوِيَ طَرَفَ السَّبَّابَةِ عَلَيْهَا مِثْلُ نَاقِدِ الدِّينَارِ عِنْدَ النَّقْدِ، وَقَدْ جَاءَ فِي خَبَرٍ مَرْفُوعٍ: إنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ يَحْفِرُونَ السَّدَّ كُلَّ يَوْمٍ وَهُوَ فِيمَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَاهُ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ فِي السَّدِّ: يَحْفِرُونَهُ كُلَّ يَوْمٍ حَتَّى إِذَا كَادُوا يَخْرِقُونَهُ قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمُ ارْجِعُوا فَسَتَخْرِقُونَهُ غَدًا فَيُعِيدُهُ اللَّهُ كَأَشَدَّ مَا كَانَ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ مُدَّتَهُمْ وَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَهُمْ قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمُ ارْجِعُوا فَسَتَخْرِقُونَهُ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَاسْتَثْنَى، قَالَ فَيَرْجِعُونَ فَيَجِدُونَهُ كَهَيْئَتِهِ

ص: 108

حِينَ تَرَكُوهُ فَيَخْرِقُونَهُ فَيَخْرُجُونَ عَلَى النَّاسِ

الْحَدِيثَ. قُلْتُ: أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ كُلُّهُمْ عَنْ قَتَادَةَ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ إِلَّا أَنَّ قَتَادَةَ مُدَلِّسٌ، وَقَدْ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْهُ فَأَدْخَلَ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةً أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، لَكِنْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ بِأَنَّ أَبَا رَافِعٍ حَدَّثَهُ وَهُوَ فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: حَدَّثَ أَبُو رَافِعٍ وَلَهُ طَرِيقٌ آخَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ، لَكِنَّهُ مَوْقُوفٌ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ ثَلَاثُ آيَاتٍ:

الْأُولَى: أَنَّ اللَّهَ مَنَعَهُمْ أَنْ يُوَالُوا الْحَفْرَ لَيْلًا وَنَهَارًا.

الثَّانِيَةُ: مَنَعَهُمْ أَنْ يُحَاوِلُوا الرُّقِيَّ عَلَى السَّدِّ بِسُلَّمٍ أَوْ آلَةٍ فَلَمْ يُلْهِمْهُمْ ذَلِكَ وَلَا عَلَّمَهُمْ إِيَّاهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ أَرْضُهُمْ لَا خَشَبَ فِيهَا وَلَا آلَاتٍ تَصْلُحُ لِذَلِكَ. قُلْتُ: وَهُوَ مَرْدُودٌ، فَإِنَّ فِي خَبَرِهِمْ عِنْدَ وَهْبٍ فِي الْمُبْتَدَأِ أَنَّ لَهُمْ أَشْجَارًا وَزُرُوعًا وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْآلَاتِ، فَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ عَنْ جَدِّهِ رَفَعَهُ أَنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ لَهُمْ نِسَاءٌ يُجَامِعُونَ مَا شَاءُوا وَشَجَرٌ يُلَقِّحُونَ مَا شَاءُوا الْحَدِيثَ.

الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ صَدَّهُمْ عَنْ أَنْ يَقُولُوا إِنْ شَاءَ اللَّهُ حَتَّى يَجِيءَ الْوَقْتُ الْمَحْدُودُ. قُلْتُ: وَفِيهِ أَنَّ فِيهِمْ أَهْلُ صِنَاعَةٍ وَأَهْلُ وِلَايَةٍ وَسَلَاطَةٍ وَرَعِيَّةٍ تُطِيعُ مَنْ فَوْقَهَا، وَأَنَّ فِيهِمْ مَنْ يَعْرِفُ اللَّهَ وَيُقِرُّ بِقُدْرَتِهِ ومَشِيئَتِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْكَلِمَةُ تَجْرِي عَلَى لِسَانِ ذَلِكَ الْوَالِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْرِفَ مَعْنَاهَا فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِبَرَكَتِهَا. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ نَحْوَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَالَ فِيهِ: فَإِذَا بَلَغَ الْأَمْرُ أَلْقَى عَلَى بَعْضِ أَلْسِنَتِهِمْ نَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ غَدًا فَنَفْرُغُ مِنْهُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ نَحْوَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفِيهِ: فَيُصْبِحُونَ وَهُوَ أَقْوَى مِنْهُ بِالْأَمْسِ حَتَّى يُسْلِمَ رَجُلٌ مِنْهُمْ حِينَ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يَبْلُغَ أَمْرُهُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ غَدًا نَفْتَحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَيُصْبِحُونَ ثُمَّ يَغْدُونَ عَلَيْهِ فَيُفْتَحُ الْحَدِيثَ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ جِدًّا.

قَوْلُهُ: (قَالَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ) هَذَا يُخَصِّصُ رِوَايَةَ سُلَيْمَانَ بْنِ كَثِيرٍ بِلَفْظِ قَالُوا أَنَهْلِكُ وَيُعَيِّنُ أَنَّ اللَّافِظَ بِهَذَا السُّؤَالِ هِيَ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ رَاوِيَةُ الْحَدِيثِ.

قَوْلُهُ (أَنَهْلِكُ) بِكَسْرِ اللَّامِ فِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ، عَنْ مَيْمُونَةَ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ فِي نَحْوِ هَذَا الْحَدِيثِ: فُرِجَ اللَّيْلَةَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ فُرْجَةٌ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُعَذِّبُنَا اللَّهُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟.

قَوْلُهُ: (وَفِينَا الصَّالِحُونَ) كَأَنَّهَا أَخَذَتْ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}

قَوْلُهُ: (قَالَ: نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ ثُمَّ مُثَلَّثَةٌ، فَسَّرُوهُ بِالزِّنَا وَبِأَوْلَادِ الزِّنَا وَبِالْفُسُوقِ وَالْفُجُورِ، وَهُوَ أَوْلَى لِأَنَّهُ قَابَلَهُ بِالصَّلَاحِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فِيهِ الْبَيَانُ بِأَنَّ الْخَيِّرَ يَهْلِكُ بِهَلَاكِ الشِّرِّيرِ إِذَا لَمْ يُغَيِّرْ عَلَيْهِ خُبْثَهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا غَيَّرَ عَلَيْهِ لَكِنْ حَيْثُ لَا يُجْدِي ذَلِكَ وَيُصِرُّ الشِّرِّيرُ عَلَى عَمَلِهِ السَّيِّئِ ; وَيَفْشُو ذَلِكَ وَيَكْثُرُ حَتَّى يَعُمَّ الْفَسَادُ فَيَهْلِكَ حِينَئِذٍ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ، ثُمَّ يُحْشَرُ كُلُّ أَحَدٍ عَلَى نِيَّتِهِ.

وَكَأَنَّهَا فَهِمَتْ مِنْ فَتْحِ الْقَدْرِ الْمَذْكُورِ مِنَ الرَّدْمِ أَنَّ الْأَمْرَ إِنْ تَمَادَى عَلَى ذَلِكَ اتَّسَعَ الْخَرْقُ بِحَيْثُ يَخْرُجُونَ، وَكَانَ عِنْدَهَا عِلْمٌ أَنَّ فِي خُرُوجِهِمْ عَلَى النَّاسِ إِهْلَاكًا عَامًّا لَهُمْ وَقَدْ وَرَدَ فِي حَالِهِمْ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ بَعْدَ ذِكْرِ الدَّجَّالِ وَقَتْلِهِ عَلَى يَدِ عِيسَى قَالَ: ثُمَّ يَأْتِيهِ قَوْمٌ قَدْ عَصَمَهُمُ اللَّهُ مِنَ الدَّجَّالِ فَيَمْسَحُ وُجُوهَهُمْ وَيُحَدِّثُهُمْ بِدَرَجَاتِهِمْ فِي الْجَنَّةِ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى عِيسَى أَنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي لَا يَدَانِ لِأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ، فَحَرِّزْ عِبَادِي إِلَى الطُّورِ، وَيَبْعَثُ اللَّهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ فَيَمُرُّ أَوَائِلُهُمْ عَلَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ فَيَقُولُونَ: لَقَدْ كَانَ بِهَذِهِ مَرَّةً مَاءٌ، وَيَحْصُرُ عِيسَى نَبِيُّ اللَّهِ وَأَصْحَابُهُ حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ

ص: 109

الثَّوْرِ لِأَحَدِهِمْ خَيْرًا مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ، فَيَرْغَبُ عِيسَى نَبِيُّ اللَّهِ وَأَصْحَابُهُ إِلَى اللَّهِ فَيُرْسِلُ عَلَيْهِمُ النَّغَفَ - بِفَتْحِ النُّونِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ فَاءٍ - فِي رِقَابِهِمْ فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى، بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ مَقْصُورٌ كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ; ثُمَّ يَهْبِطُ عِيسَى نَبِيُّ اللَّهِ وَأَصْحَابُهُ إِلَى الْأَرْضِ فَلَا يَجِدُونَ فِي الْأَرْضِ مَوْضِعَ شِبْرٍ إِلَّا مَلَأَهُ زَهَمُهُمْ وَنَتْنُهُمْ، فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى اللَّهِ، فَيُرْسِلُ طَيْرًا كَأَعْنَاقِ الْبُخْتِ فَتَحْمِلهُمْ فَتَطْرَحُهُمْ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ مَطَرًا لَا يَكُنُّ مِنْهُ مَدَرٌ وَلَا وَبَرٌ، فَيَغْسِلُ الْأَرْضَ حَتَّى يَتْرُكَهَا كَالزَّلَفَةِ، ثُمَّ يُقَالُ لِلْأَرْضِ أَنَبْتِي

ثَمَرَتَكِ وَرُدِّي بَرَكَتَكِ، فَيَوْمَئِذٍ تَأْكُلُ الْعِصَابَةُ مِنَ الرُّمَّانَةِ وَيَسْتَظِلُّونَ تَحْتَهَا، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ رِيحًا طَيِّبَةً فَتَأْخُذُهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ، فَتَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُسْلِمٍ، فَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ يَتَهَارَجُونَ تَهَارُجَ الْحُمُرِ، فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ. قُلْتُ: وَالزَّلَفَةُ بِفَتْحِ الزَّايِ وَاللَّامِ وَقِيلَ بِتَسْكِينِهَا وَقِيلَ: بِالْقَافِ هِيَ الْمِرْآةُ بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَقِيلَ الْمَصْنَعُ الَّذِي يُتَّخَذُ لِجَمْعِ الْمَاءِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الْمَاءَ يَعُمُّ جَمِيعَ الْأَرْضِ فَيُنَظِّفُهَا حَتَّى تَصِيرَ بِحَيْثُ يَرَى الرَّائِي وَجْهَهُ فِيهَا. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَيْضًا فَيَقُولُونَ لَقَدْ قَتَلْنَا مَنْ فِي الْأَرْضِ، هَلُمَّ فَلْنَقْتُلْ مَنْ فِي السَّمَاءِ، فَيَرْمُونَ بِنُشَّابِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ، فَيَرُدُّهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَخْضُوبَةً دَمًا، وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ فِي قِصَّةِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ، وَعِنْدَ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: فَلَا يَمُرُّونَ بِشَيْءٍ إِلَّا أَهْلَكُوهُ، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رَفَعَهُ: يُفْتَحُ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ فَيَعُمُّونَ الْأَرْضَ، وَتَنْحَازُ مِنْهُمُ الْمُسْلِمُونَ فَيَظْهَرُونَ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ ; فَيَقُولُ قَائِلُهُمْ: هَؤُلَاءِ أَهْلُ الْأَرْضِ قَدْ فَرَغْنَا مِنْهُمْ فَيَهُزُّ آخِرَ حَرْبَتِهِ إِلَى السَّمَاءِ فَتَرْجِعُ مُخَضَّبَةً بِالدَّمِ، فَيَقُولُونَ قَدْ قَتَلْنَا أَهْلَ السَّمَاءِ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ دَوَابّ كَنَغَفِ الْجَرَادِ فَتَأْخُذُ بِأَعْنَاقِهِمْ فَيَمُوتُونَ مَوْتَ الْجَرَادِ يَرْكَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: (وُهَيْبٌ) هُوَ ابْنُ خَالِدٍ، وَابْنُ طَاوُسٍ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ.

قَوْلُهُ (يُفْتَحُ الرَّدْمُ) كَذَا هُنَا، وَتَقَدَّمَ فِي تَرْجَمَةِ ذِي الْقَرْنَيْنِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ وُهَيْبٍ فُتِحَ بِضَمِّ الْفَاءِ وَكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ وَهِيَ رِوَايَةُ أَحْمَدَ، عَنْ عَفَّانَ، عَنْ وُهَيْبٍ.

قَوْلُهُ: (مِثْلُ هَذِهِ وَعَقَدَ وُهَيْبٌ تِسْعِينَ) أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ وُهَيْبٍ فَقَالَ فِيهِ: وَعَقَدَ تِسْعِينَ وَلَمْ يُعَيِّنِ الَّذِي عَقَدَ فَأَوْهَمَ أَنَّهُ مَرْفُوعٌ، وَقَدْ تَبَيَّنَ مِنْ رِوَايَةِ عَفَّانَ وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّ الَّذِي عَقَدَ تِسْعِينَ هُوَ وُهَيْبٌ ; وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أُمِّ حَبِيبَةَ مِنْ رِوَايَةِ شُرَيْحِ بْنِ يُونُسَ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ، وَسَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ مُفَصَّلًا، وَقَدْ جَاءَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُ أَوَّلِ حَدِيثِ أُمِّ حَبِيبَةَ، لَكِنْ فِيهِ زِيَادَةٌ رَوَاهَا الْأَعْمَشُ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ الْأَعْمَشُ: لَا أَرَاهُ إِلَّا قَدْ رَفَعَهُ: وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، أَفْلَحَ مَنْ كَفَّ يَدَهُ. قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ بِهَذَا، قَالَ: وَوَقَفَهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ يَعْنِي عَنِ الْأَعْمَشِ بِهَذَا السَّنَدِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

(خَاتِمَةٌ):

اشْتَمَلَ كِتَابُ الْفِتَنِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى مِائَةِ حَدِيثٍ وَحَدِيثٍ، الْمَوْصُولُ مِنْهَا سَبْعَةٌ وَثَمَانُونَ وَالْبَاقِيَةُ مُعَلَّقَاتٌ وَمُتَابَعَاتٌ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى ثَمَانُونَ وَالْخَالِصُ إِحْدَى وَعِشْرُونَ وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ شَرُّ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ وَحَدِيثِ أَنَسٍ لَا يَأْتِي زَمَانٌ إِلَّا وَالَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ، وَحَدِيثِ عَمَّارٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ فِي قِصَّةِ الْجَمَلِ، وَحَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ يُقَاتِلُ لِلدُّنْيَا، وَحَدِيثِ حُذَيْفَةَ فِي الْمُنَافِقِينَ، وَحَدِيثِهِ فِي النِّفَاقِ، وَحَدِيثِ أَنَسٍ فِي الْمَدِينَةِ لَا يَدْخُلُهَا الدَّجَّالُ وَلَا الطَّاعُونُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ خَمْسَةَ عَشَرَ أَثَرًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 110

بسم الله الرحمن الرحيم

‌93 - كِتَاب الْأَحْكَامِ

قَوْلُهُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - كِتَابُ الْأَحْكَامِ) كَذَا لِلْجَمِيعِ، وَسَقَطَ لَفْظُ بَابُ بَعْدَهُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَالْأَحْكَامُ جَمْعُ حُكْمٍ، وَالْمُرَادُ بَيَانُ آدَابِهِ وَشُرُوطِهِ، وَكَذَا الْحَاكِمُ وَيَتَنَاوَلُ لَفْظَ الْحَاكِمِ الْخَلِيفَةُ وَالْقَاضِي، فَذَكَرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا. وَالْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ بِالِاقْتِضَاءِ أَوِ التَّخْيِيرِ، وَمَادَّةُ الْحُكْمِ مِنَ الْإِحْكَامِ، وَهُوَ الْإِتْقَانُ لِلشَّيْءِ وَمَنْعُهُ مِنَ الْعَيْبِ.

‌1 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}

7137 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يقول: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي.

7138 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ فَالإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى أَهْلِ بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ وَعَبْدُ الرَّجُلِ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} فِي هَذَا إِشَارَةٌ مِنَ الْمُصَنِّفِ إِلَى تَرْجِيحِ الْقَوْلِ الصَّائِرِ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي طَاعَةِ الْأُمَرَاءِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ نَزَلَتْ فِي الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ رَجَّحَ ذَلِكَ أَيْضًا الطَّبَرِيُّ، وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِهَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ بَسْطُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: سَأَلْتُ زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ عَنْهَا وَلَمْ يَكُنْ بِالْمَدِينَةِ أَحَدٌ يُفَسِّرُ الْقُرْآنَ بَعْدَ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ مِثْلُهُ فَقَالَ: اقْرَأْ مَا قَبْلَهَا تَعْرِفْ، فَقَرَأْتُ:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} الْآيَةَ، فَقَالَ: هَذِهِ فِي الْوُلَاةِ، وَالنُّكْتَةُ فِي إِعَادَةِ الْعَامِلِ فِي الرَّسُولِ دُونَ أُولِي الْأَمْرِ مَعَ أَنَّ الْمُطَاعَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى كَوْنُ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ مَا يَقَعُ بِهِ التَّكْلِيفُ هُمَا الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ، فَكَأَنَّ التَّقْدِيرَ أَطِيعُوا اللَّهَ فِيمَا نَصَّ عَلَيْكُمْ فِي الْقُرْآنِ، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فِيمَا بَيَّنَ لَكُمْ مِنَ الْقُرْآنِ وَمَا يَنُصُّهُ عَلَيْكُمْ مِنَ السُّنَّةِ. أَوِ الْمَعْنَى أَطِيعُوا اللَّهَ فِيمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ مِنَ الْوَحْيِ الْمُتَعَبَّدِ بِتِلَاوَتِهِ، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فِيمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ مِنَ الْوَحْيِ الَّذِي لَيْسَ بِقُرْآنٍ.

وَمِنْ بَدِيعِ الْجَوَابِ قَوْلُ بَعْضِ التَّابِعِينَ لِبَعْضِ الْأُمَرَاءِ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ لَمَّا قَالَ لَهُ: أَلَيْسَ اللَّهُ أَمَرَكُمْ أَنْ تُطِيعُونَا فِي قَوْلِهِ: {وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} فَقَالَ لَهُ: أَلَيْسَ قَدْ نُزِعَتْ عَنْكُمْ - يَعْنِي الطَّاعَةَ - إِذَا خَالَفْتُمُ الْحَقَّ بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} قَالَ الطِّيبِيُّ:

ص: 111

أَعَادَ الْفِعْلَ فِي قَوْلِهِ {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} إِشَارَةً إِلَى اسْتِقْلَالِ الرَّسُولِ بِالطَّاعَةِ، وَلَمْ يُعِدْهُ فِي أُولِي الْأَمْرِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ يُوجَدُ فِيهِمْ مَنْ لَا تَجِبُ طَاعَتُهُ. ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} كَأَنَّهُ قِيلَ: فَإِنْ لَمْ يَعْمَلُوا بِالْحَقِّ فَلَا تُطِيعُوهُمْ، وَرُدُّوا مَا تَخَالَفْتُمْ فِيهِ إِلَى حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ.

قَوْلُهُ: (عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ. وَيُونُسُ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ.

قَوْلُهُ: (مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُنْتَزَعَةٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} ؛ أَيْ لِأَنِّي لَا آمُرُ إِلَّا بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، فَمَنْ فَعَلَ مَا آمُرُهُ بِهِ فَإِنَّمَا أَطَاعَ مَنْ أَمَرَنِي أَنْ آمُرَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِطَاعَتِي، فَمَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ أَمْرَ اللَّهِ لَهُ بِطَاعَتِي، وَفِي الْمَعْصِيَةِ كَذَلِكَ. وَالطَّاعَةُ هِيَ الْإِتْيَانُ بِالْمَأْمُورِ بِهِ وَالِانْتِهَاءُ عَنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَالْعِصْيَانُ بِخِلَافِهِ.

قَوْلُهُ: (وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي) فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ، وَالْأَعْرَجِ وَغَيْرِهِمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ وَمَنْ أَطَاعَ الْأَمِيرَ وَيُمْكِنُ رَدُّ اللَّفْظَيْنِ لِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ يَأْمُرُ بِحَقٍّ وَكَانَ عَادِلًا فَهُوَ أَمِيرُ الشَّارِعِ لِأَنَّهُ تَوَلَّى بِأَمْرِهِ وَبِشَرِيعَتِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ تَوْحِيدُ الْجَوَابِ فِي الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَقَدْ أَطَاعَنِي؛ أَيْ عَمِلَ بِمَا شَرَعْتُهُ، وَكَأَنَّ الْحِكْمَةَ فِي تَخْصِيصِ أَمِيرِهِ بِالذِّكْرِ أَنَّهُ الْمُرَادُ وَقْتَ الْخِطَابِ، وَلِأَنَّهُ سَبَبُ وُرُودِ الْحَدِيثِ. وَأَمَّا الْحُكْمُ فَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ أَيْضًا وَمَنْ يُطِعِ الْأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي بِصِيغَةِ الْمُضَارَعَةِ، وَكَذَا وَمَنْ يَعْصِ الْأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي وَهُوَ أَدْخَلَ فِي إِرَادَةِ تَعْمِيمِ مَنْ خُوطِبَ وَمَنْ جَاءَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: قِيلَ كَانَتْ قُرَيْشٌ وَمَنْ يَلِيهَا مِنَ الْعَرَبِ لَا يَعْرِفُونَ الْإِمَارَةَ فَكَانُوا يَمْتَنِعُونَ عَلَى الْأُمَرَاءِ، فَقَالَ هَذَا الْقَوْلُ يُحِثُّهُمْ عَلَى طَاعَةِ مَنْ يُؤَمِّرُهُمْ عَلَيْهِمْ وَالِانْقِيَادِ لَهُمْ إِذَا بَعَثَهُمْ فِي السَّرَايَا، وَإِذَا وَلَّاهُمُ الْبِلَادَ فَلَا يَخْرُجُوا عَلَيْهِمْ لِئَلَّا تَفْتَرِقَ الْكَلِمَةُ.

قُلْتُ: هِيَ عِبَارَةُ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ ذَكَرَهُ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا، وَعَجِبْتُ لِبَعْضِ شُيُوخِنَا الشُّرَّاحِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ كَيْفَ قَنَعَ بِنِسْبَةِ هَذَا الْكَلَامِ إِلَى ابْنِ التِّينِ مُعَبِّرًا عَنْهُ بِصِيغَةِ قِيلَ: وَابْنُ التِّينِ إِنَّمَا أَخَذَهُ مِنْ كَلَامِ الْخَطَّابِيِّ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي يَعْلَى، وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَإِنَّ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ طَاعَتِي؟ قَالُوا: بَلَى نَشْهَدُ، قَالَ: فَإِنَّ مِنْ طَاعَتِي أَنْ تُطِيعُوا أُمَرَاءَكُمْ وَفِي لَفْظٍ أَئِمَّتَكُمْ. وَفِي الْحَدِيثِ وُجُوبُ طَاعَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَهِيَ مُقَيَّدَةٌ بِغَيْرِ الْأَمْرِ بِالْمَعْصِيَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْفِتَنِ، وَالْحِكْمَةُ فِي الْأَمْرِ بِطَاعَتِهِمُ الْمُحَافَظَةُ عَلَى اتِّفَاقِ الْكَلِمَةِ لِمَا فِي الِافْتِرَاقِ مِنَ الْفَسَادِ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَذَا وَقَعَ هُنَا وَكَذَا فِي الْعِتْقِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ كَذَلِكَ، وَوَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بِهَذَا فَقَالَ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ أَخْبَرَهُ فَذَكَرَ حَدِيثَ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الْجِنَانِ الَّتِي فِي الْبُيُوتِ، وَقَالَ: كُلُّكُمْ رَاعٍ الْحَدِيثَ، هَكَذَا أَوْرَدَهُ فِي مُسْنَدِ أَبِي لُبَابَةَ، وَلَكِنْ تَقَدَّمَ فِي الْعِتْقِ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ حَدِيثَ الْبَابِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ وَقَالَ مَعْطُوفٌ عَلَى ابْنِ عُمَرَ لَا عَلَى أَبِي لُبَابَةَ، وَثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ مُسْنَدِ ابْنِ عُمَرَ لَا مِنْ مُرْسَلِهِ.

قَوْلُهُ: (أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ) كَذَا فِيهِ، وَأَلَا بِتَخْفِيفِ اللَّامِ حَرْفُ افْتِتَاحٍ، وَسَقَطَتْ مِنْ رِوَايَةِ نَافِعٍ، وَسَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَالرَّاعِي هُوَ الْحَافِظُ الْمُؤْتَمَنُ الْمُلْتَزِمُ صَلَاحَ مَا اؤْتُمِنَ عَلَى حِفْظِهِ فَهُوَ مَطْلُوبٌ بِالْعَدْلِ فِيهِ وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِ.

قَوْلُهُ: (فَالْإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ) أَيِ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْمَاضِيَةِ فِي الْعِتْقِ فَالْأَمِيرُ بَدَلَ الْإِمَامُ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ فِي النِّكَاحِ، وَلَمْ يَقُلْ الَّذِي عَلَى النَّاسِ.

ص: 112

قَوْلُهُ: (رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) فِي رِوَايَةِ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ الْمَاضِيَةِ فِي الْجُمُعَةِ الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَكَذَا فِي الْجَمِيعِ بِحَذْفِ وَهُوَ وَهِيَ مُقَدَّرَةٌ، وَثَبَتَتْ فِي الِاسْتِقْرَاضِ.

قَوْلُهُ: (وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ) فِي رِوَايَةِ سَالِمٍ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ.

قَوْلُهُ: (وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى أَهْلِ بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ) فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَفِي رِوَايَةِ سَالِمٍ: فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمِثْلُهُ لِمُوسَى لَكِنْ قَالَ عَلَى.

قَوْلُهُ: (وَعَبْدُ الرَّجُلِ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ) فِي رِوَايَةِ سَالِمٍ وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَفِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَالْعَبْدُ بَدَلَ الْخَادِمُ، وَزَادَ سَالِمٌ فِي رِوَايَتِهِ وَحَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ وَفِي رِوَايَةِ الِاسْتِقْرَاضِ سَمِعْتُ هَؤُلَاءِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَحْسَبُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: اشْتَرَكُوا أَيِ الْإِمَامُ وَالرَّجُلُ وَمَنْ ذُكِرَ فِي التَّسْمِيَةِ أَيْ فِي الْوَصْفِ بِالرَّاعِي وَمَعَانِيهِمْ مُخْتَلِفَةٌ، فَرِعَايَةُ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ حِيَاطَةُ الشَّرِيعَةِ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَالْعَدْلِ فِي الْحُكْمِ، وَرِعَايَةُ الرَّجُلِ أَهْلَهُ سِيَاسَتُهُ لِأَمْرِهِمْ وَإِيصَالُهُمْ حُقُوقَهُمْ، وَرِعَايَةُ الْمَرْأَةِ تَدْبِيرُ أَمْرِ الْبَيْتِ وَالْأَوْلَادِ وَالْخَدَمِ وَالنَّصِيحَةُ لِلزَّوْجِ فِي كُلِّ ذَلِكَ، وَرِعَايَةُ الْخَادِمِ حِفْظُ مَا تَحْتَ يَدِهِ وَالْقِيَامُ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ خِدْمَتِهِ.

قَوْلُهُ: (أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) فِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ فِي النِّكَاحِ مِثْلُهُ، وَفِي رِوَايَةِ سَالِمٍ فِي الْجُمُعَةِ وَكُلُّكُمْ وَفِي الِاسْتِقْرَاضِ فَكُلُّكُمْ وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ نَافِعٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الرَّاعِيَ لَيْسَ مَطْلُوبًا لِذَاتِهِ وَإِنَّمَا أُقِيمَ لِحِفْظِ مَا اسْتَرْعَاهُ الْمَالِكُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَصَرَّفَ إِلَّا بِمَا أَذِنَ الشَّارِعُ فِيهِ، وَهُوَ تَمْثِيلٌ لَيْسَ فِي الْبَابِ أَلْطَفُ وَلَا أَجْمَعُ وَلَا أَبْلَغُ مِنْهُ، فَإِنَّهُ أَجْمَلَ أَوَّلًا ثُمَّ فَصَّلَ وَأَتَى بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ مُكَرَّرًا، قَالَ: وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ أَلَا فَكُلُّكُمْ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٌ، وَخَتَمَ مَا يُشْبِهُ الْفَذْلَكَةَ إِشَارَةً إِلَى اسْتِيفَاءِ التَّفْصِيلِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: دَخَلَ فِي هَذَا الْعُمُومِ الْمُنْفَرِدُ الَّذِي لَا زَوْجَ لَهُ وَلَا خَادِمَ وَلَا وَلَدَ، فَإِنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ رَاعٍ عَلَى جَوَارِحِهِ حَتَّى يَعْمَلَ الْمَأْمُورَاتِ، وَيَجْتَنِبَ الْمَنْهِيَّاتِ فِعْلًا وَنُطْقًا وَاعْتِقَادًا، فَجَوَارِحُهُ وَقُوَاهُ وَحَوَاسُّهُ رَعِيَّتُهُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الِاتِّصَافِ بِكَوْنِهِ رَاعِيًا أَنْ لَا يَكُونَ مَرْعِيًّا بِاعْتِبَارٍ آخَرَ.

وَجَاءَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ مِثْلُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فَزَادَ فِي آخِرِهِ: فَأَعِدُّوا لِلْمَسْأَلَةِ جَوَابًا، قَالُوا: وَمَا جَوَابُهَا؟ قَالَ: أَعْمَالُ الْبِرِّ أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَسَنَدُهُ حَسَنٌ، وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: مَا مِنْ رَاعٍ إِلَّا يُسْأَلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَقَامَ أَمْرَ اللَّهِ أَمْ أَضَاعَهُ، وَلِابْنِ عَدِيٍّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ: إِنَّ اللَّهَ سَائِلُ كُلِّ رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ حَفِظَ ذَلِكَ أَوْ ضَيَّعَهُ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمُكَلَّفَ يُؤَاخَذُ بِالتَّقْصِيرِ فِي أَمْرِ مَنْ هُوَ فِي حُكْمِهِ، وَتَرْجَمَ لَهُ فِي النِّكَاحِ بَابُ قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَعَلَى أَنَّ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَالِ سَيِّدِهِ بِإِذْنِهِ وَكَذَا الْمَرْأَةُ وَالْوَلَدُ، وَتَرْجَمَ لِكَرَاهَةِ التَّطَاوُلِ عَلَى الرَّقِيقِ وَتَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ هُنَاكَ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ كَذِبِ الْخَبَرِ الَّذِي افْتَرَاهُ بَعْضُ الْمُتَعَصِّبِينَ لِبَنِي أُمَيَّةَ قَرَأْتُ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ لِأَبِي عَلِيٍّ الْكَرَابِيسِيِّ: أَنْبَأَنَا الشَّافِعِيُّ عَنْ عَمِّهِ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: دَخَلَ ابْنُ شِهَابٍ عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَسَأَلَهُ عَنْ حَدِيثِ: إِنَّ اللَّهَ إِذَا اسْتَرْعَى عَبْدًا الْخِلَافَةَ كَتَبَ لَهُ الْحَسَنَاتِ وَلَمْ يَكْتُبْ لَهُ السَّيِّئَاتِ فَقَالَ لَهُ: هَذَا كَذِبٌ، ثُمَّ تَلَا:{يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} - إِلَى قَوْلِهِ - {بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} فَقَالَ الْوَلِيدُ: إِنَّ النَّاسَ لَيُغْرُونَنَا عَنْ دِينِنَا.

‌2 - بَاب الْأُمَرَاءُ مِنْ قُرَيْشٍ

7139 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ يُحَدِّثُ أَنَّهُ

ص: 113

بَلَغَ مُعَاوِيَةَ - وَهُم عِنْدَهُ فِي وَفْدٍ مِنْ قُرَيْشٍ - أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَيَكُونُ مَلِكٌ مِنْ قَحْطَانَ، فَغَضِبَ فَقَامَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ رِجَالًا مِنْكُمْ يُحَدِّثُونَ أَحَادِيثَ لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا تُوثَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأُولَئِكَ جُهَّالُكُمْ، فَإِيَّاكُمْ وَالْأَمَانِيَّ الَّتِي تُضِلُّ أَهْلَهَا، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ فِي قُرَيْشٍ لَا يُعَادِيهِمْ أَحَدٌ إِلَّا كَبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ مَا أَقَامُوا الدِّينَ، تَابَعَهُ نُعَيْمٌ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ.

7140 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ قَالَ ابْنُ عُمَرَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا يَزَالُ هَذَا الأَمْرُ فِي قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ مِنْهُمْ اثْنَانِ".

قَوْلُهُ: (بَابٌ) بِالتَّنْوِينِ (الْأُمَرَاءُ مِنْ قُرَيْشٍ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةٍ نَقَلَهَا عِيَاضٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي صُفْرَةَ الْأَمْرُ بِسُكُونِ الْمِيمِ - أَمْرُ قُرَيْشٍ قَالَ وَهُوَ تَصْحِيفٌ. قُلْتُ: وَوَقَعَ فِي نُسْخَةٍ لِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مِثْلُ مَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ أَبِي صُفْرَةَ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَعْرُوفُ، وَلَفْظُ التَّرْجَمَةِ لَفْظُ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، وَأَبُو يَعْلَى، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُكَيْنُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا سَيَّارُ بْنُ سَلَامَةَ أَبُو الْمِنْهَالِ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِي عَلَى أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ الَّذِي أَوَّلُهُ إِنِّي أَصْبَحْتُ سَاخِطًا عَلَى أَحْيَاءِ قُرَيْشٍ. وَفِيهِ أَنَّ ذَاكَ الَّذِي بِالشَّامِ إِنْ يُقَاتِلُ إِلَّا عَلَى الدُّنْيَا وَفِي آخِرِهِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: الْأُمَرَاءُ مِنْ قُرَيْشٍ الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي الْفِتَنِ فِي بَابِ إِذَا قَالَ عِنْدَ قَوْمٍ شَيْئًا ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ بِخِلَافِهِ.

وَفِي لَفْظٍ لِلطَّبَرَانِيِّ الْأَئِمَّةُ بَدَلَ الْأُمَرَاءُ وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ رَفَعَهُ أَلَا إِنَّ الْأُمَرَاءَ مِنْ قُرَيْشٍ مَا أَقَامُوا ثَلَاثًا الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَأَخْرَجَهُ الطَّيَالِسِيُّ، وَالْبَزَّارُ وَالْمُصَنِّفُ فِي التَّارِيخِ مِنْ طَرِيقِ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ: الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ مَا إِذَا حَكَمُوا فَعَدَلُوا الْحَدِيثَ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَالْبُخَارِيُّ أَيْضًا فِي التَّارِيخِ، وَأَبُو يَعْلَى مِنْ طَرِيقِ بُكَيْرٍ الْجَزَرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، وَلَهُ طُرُقٌ مُتَعَدِّدَةٌ عَنْ أَنَسٍ مِنْهَا لِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ رِوَايَةِ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ إِنَّ الْمُلْكَ مِنْ قُرَيْشٍ الْحَدِيثَ، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ هَذَا اللَّفْظَ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ بِلَفْظِ: الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ، لَكِنْ فِي سَنَدِهِ انْقِطَاعٌ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ بِهَذَا اللَّفْظِ الْأَخِيرِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى شَرْطِ الْمُصَنِّفِ فِي الصَّحِيحِ اقْتَصَرَ عَلَى التَّرْجَمَةِ، وَأَوْرَدَ الَّذِي صَحَّ عَلَى شَرْطِهِ مِمَّا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ فِي الْجُمْلَةِ. وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ ; الْأَوَّلُ:

قَوْلُهُ: (كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ يُحَدِّثُ) قَالَ صَالِحٌ جَزَرَةُ الْحَافِظُ: لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ، إِلَّا مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ يَعْنِي الَّتِي ذَكَرَهَا الْبُخَارِيُّ عَقِبَ هَذَا قَالَ صَالِحٌ: وَلَا أَصْلَ لَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، وَكَانَتْ عَادَةُ الزُّهْرِيِّ إِذَا لَمْ يَسْمَعِ الْحَدِيثَ يَقُولُ: كَانَ فُلَانٌ يُحَدِّثُ، وَتَعَقَّبَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِمَا أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ أَبِي مَنِيعٍ الرُّصَافِيِّ عَنْ جَدِّهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَأَخْرَجَهُ الْحَسَنُ بْنُ رَشِيقٍ فِي فَوَائِدِهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ.

قَوْلُهُ: (أَنَّهُ بَلَغَ مُعَاوِيَةَ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ الَّذِي بَلَّغَهُ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَهُمْ عِنْدَهُ) أَيْ مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمَنْ كَانَ وَفَدَ مَعَهُ عَلَى مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ حِينَئِذٍ، وَكَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ لَمَّا بُويِعَ بِالْخِلَافَةِ عِنْدَمَا سَلَّمَ لَهُ

ص: 114

الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، فَأَرْسَلَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ جَمَاعَةً مِنْهُمْ إِلَيْهِ لِيُبَايِعُوهُ.

قَوْلُهُ: (فِي وَفْدٍ مِنْ قُرَيْشٍ) لَمْ أَقِفْ عَلَى أَسْمَائِهِمْ ; قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَفَدَ فُلَانٌ عَلَى الْأَمِيرِ أَيْ وَرَدَ رَسُولًا، وَالْوَفْدُ بِالسُّكُونِ جَمْعُ وَافِدٍ كَصَحْبٍ وَصَاحِبٍ. قُلْتُ: وَرُوِّينَاهُ فِي فَوَائِدِ أَبِي يَعْلَى الْمَوْصِلِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، عَنْ شُعَيْبٍ فَقَالَ فِيهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَيْضًا، وَكَذَا هُوَ فِي مُسْنَدِ الشَّامِيِّينَ لِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو) أَيِ ابْنِ الْعَاصِ.

قَوْلُهُ: (أَنَّهُ يَكُونُ مَلِكٌ مِنْ قَحْطَانَ) لَمْ أَقِفْ عَلَى لَفْظِ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فِي ذَلِكَ، وَهَلْ هُوَ مَرْفُوعٌ أَوْ مَوْقُوفٌ، وَقَدْ مَضَى فِي الْفِتَنِ قَرِيبًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ رَجُلٌ مِنْ قَحْطَانَ يَسُوقُ النَّاسَ بِعَصَاهُ أَوْرَدَهُ فِي بَابِ: تَغْيِيرُ الزَّمَانِ حَتَّى تُعْبَدَ الْأَوْثَانُ وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مُلْكَ الْقَحْطَانِيِّ يَقَعُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ عِنْدَ قَبْضِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَرُجُوعِ كَثِيرٍ مِمَّنْ يَبْقَى بَعْدَهُمْ إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَهُمُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُمْ بِشِرَارِ النَّاسِ الَّذِينَ تَقُومُ عَلَيْهِمُ السَّاعَةُ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ هُنَاكَ، وَذَكَرْتُ لَهُ هُنَاكَ شَاهِدًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، فَإِنْ كَانَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا مُوَافِقًا لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَلَا مَعْنَى لِإِنْكَارِهِ أَصْلًا، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَرْفَعْهُ وَكَانَ فِيهِ قَدْرٌ زَائِدٌ يُشْعِرُ بِأَنَّ خُرُوجَ الْقَحْطَانِيِّ يَكُونُ فِي أَوَائِلِ الْإِسْلَامِ فَمُعَاوِيَةُ مَعْذُورٌ فِي إِنْكَارِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرْتُ نُبْذَةً مِنْ أَخْبَارِ الْقَحْطَانِيِّ فِي شَرْحِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْفِتَنِ.

وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: سَبَبُ إِنْكَارِ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ حَمَلَ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَلَى ظَاهِرِهِ، وَقَدْ يَكُونُ مَعْنَاهُ أَنَّ قَحْطَانِيًّا يَخْرُجُ فِي نَاحِيَةٍ مِنَ النَّوَاحِي فَلَا يُعَارِضُ حَدِيثَ مُعَاوِيَةَ، وَالْمُرَادُ بِالْأَمْرِ فِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ الْخِلَافَةُ كَذَا قَالَ، وَنُقِلَ عَنِ الْمُهَلَّبِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَلِكٌ يَغْلِبُ عَلَى النَّاسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ خَلِيفَةً، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ مُعَاوِيَةُ خَشْيَةَ أَنْ يَظُنَّ أَحَدٌ أَنَّ الْخِلَافَةَ تَجُوزُ فِي غَيْرِ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا خَطَبَ بِذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَهُمْ كَذَلِكَ إِذْ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ. قُلْتُ: وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ إِنْكَارِهِمْ صِحَّةُ إِنْكَارِ مُعَاوِيَةَ مَا ذَكَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، فَقَدْ قَالَ ابْنُ التِّينِ الَّذِي أَنْكَرَهُ مُعَاوِيَةُ فِي حَدِيثِهِ مَا يُقَوِّيهِ لِقَوْلِهِ: مَا أَقَامُوا الدِّينَ فَرُبَّمَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَا يُقِيمُهُ فَيَتَسَلَّطُ الْقَحْطَانِيُّ عَلَيْهِ وَهُوَ كَلَامٌ مُسْتَقِيمٌ.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ رِجَالًا مِنْكُمْ يُحَدِّثُونَ أَحَادِيثَ لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا تُؤْثَرُ) أَيْ تُنْقَلُ (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ يُرَاعِي خَاطِرَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَمَا آثَرَ أَنْ يَنُصَّ عَلَى تَسْمِيَةِ وَلَدِهِ بَلْ نَسَبَ ذَلِكَ إِلَى رِجَالٍ بِطَرِيقِ الْإِبْهَامِ، وَمُرَادُهُ بِذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو وَمَنْ وَقَعَ مِنْهُ التَّحْدِيثُ بِمَا يُضَاهِي ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَيِ الْقُرْآنُ، وَهُوَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ فِيهِ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ شَخْصًا بِعَيْنِهِ أَوْ بِوَصْفِهِ يَتَوَلَّى الْمُلْكَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، وَقَوْلُهُ لَا يُؤْثَرُ فِيهِ تَقْوِيَةٌ، لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو لَمْ يَرْفَعِ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ إِذْ لَوْ رَفَعَهُ لَمْ يَتِمَّ نَفْيُ مُعَاوِيَةَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُؤْثَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَعَلَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَمْ يُحَدِّثْ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ حِينَئِذٍ، فَإِنَّهُ كَانَ يَتَوَقَّى مِثْلَ ذَلِكَ كَثِيرًا، وَإِنَّمَا يَقَعُ مِنْهُ التَّحْدِيثُ بِهِ فِي حَالَةٍ دُونَ حَالَةٍ، وَحَيْثُ يَأْمَنُ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ مُعَاوِيَةَ غَيْرَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ نَصًّا عَلَى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو لَمْ يَرْفَعْهُ.

قَوْلُهُ: (وَأُولَئِكَ جُهَّالُكُمْ) أَيِ الَّذِينَ يَتَحَدَّثُونَ بِأُمُورٍ مِنْ أُمُورِ الْغَيْبِ لَا يَسْتَنِدُونَ فِيهَا إِلَى الْكِتَابِ وَلَا السُّنَّةِ.

قَوْلُهُ: (فَإِيَّاكُمْ وَالْأَمَانِيَّ) بِالتَّشْدِيدِ وَيَجُوزُ التَّخْفِيفُ.

قَوْلُهُ: (الَّتِي تُضِلُّ أَهْلَهَا) بِضَمِّ أَوَّلِ تُضِلُّ مِنَ الرُّبَاعِيِّ وَأَهْلَهَا بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ. وَرُوِيَ بِفَتْحِ أَوَّلِ تُضِلُّ وَرَفْعِ أَهْلَهَا وَالْأَمَانِيُّ جَمْعُ أَمْنِيَّةٍ رَاجِعٌ إِلَى التَّمَنِّي، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهُ فِي آخِرِ كِتَابِ الْأَحْكَامِ وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِ ذَلِكَ تَحْذِيرُ مَنْ يَسْمَعُ مِنَ الْقَحْطَانِيِّينَ مِنَ التَّمَسُّكِ بِالْخَبَرِ الْمَذْكُورِ فَتُحَدِّثُهُ نَفْسُهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْقَحْطَانِيَّ، وَقَدْ تَكُونُ لَهُ

ص: 115

قُوَّةٌ وَعَشِيرَةٌ فَيَطْمَعُ فِي الْمُلْكِ وَيَسْتَنِدُ إِلَى هَذَا الْحَدِيثِ فَيَضِلُّ لِمُخَالَفَتِهِ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ فِي أَنَّ الْأَئِمَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ.

قَوْلُهُ: (فَإِنِّي سَمِعْتُ) لِمَا أَنْكَرَ وَحَذَّرَ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ مُسْتَنَدَهُ فِي ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ فِي قُرَيْشٍ) قَدْ ذَكَرْتُ شَوَاهِدَ هَذَا الْمَتْنِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ.

قَوْلُهُ: (لَا يُعَادِيهِمْ أَحَدٌ إِلَّا كَبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ) أَيْ لَا يُنَازِعُهُمْ أَحَدٌ فِي الْأَمْرِ إِلَّا كَانَ مَقْهُورًا فِي الدُّنْيَا مُعَذَّبًا فِي الْآخِرَةِ.

قَوْلُهُ: (مَا أَقَامُوا الدِّينَ) أَيْ مُدَّةَ إِقَامَتِهِمْ أُمُورَ الدِّينِ، قِيلَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَفْهُومُهُ فَإِذَا لَمْ يُقِيمُوهُ لَا يُسْمَعُ لَهُمْ، وَقِيلَ يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُقَامَ عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ إِبْقَاؤُهُمْ عَلَى ذَلِكَ ذَكَرَهُمَا ابْنُ التِّينِ، ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ أَجْمَعُوا أَنَّهُ أَيِ الْخَلِيفَةُ إِذَا دَعَا إِلَى كُفْرٍ أَوْ بِدْعَةٍ أَنَّهُ يُقَامُ عَلَيْهِ، وَاخْتَلَفُوا إِذَا غَصَبَ الْأَمْوَالَ وَسَفَكَ الدِّمَاءَ وَانْتَهَكَ هَلْ يُقَامُ عَلَيْهِ أَوْ لَا، انْتَهَى. وَمَا ادَّعَاهُ مِنَ الْإِجْمَاعِ عَلَى الْقِيَامِ فِيمَا إِذَا دَعَا الْخَلِيفَةُ إِلَى الْبِدْعَةِ مَرْدُودٌ، إِلَّا إِنْ حَمَلَ عَلَى بِدْعَةٍ تُؤَدِّي إِلَى صَرِيحِ الْكُفْرِ، وَإِلَّا فَقَدْ دَعَا الْمَأْمُونُ، وَالْمُعْتَصِمُ وَالْوَاثِقُ إِلَى بِدْعَةِ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَعَاقَبُوا الْعُلَمَاءَ مِنْ أَجْلِهَا بِالْقَتْلِ وَالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ وَأَنْوَاعِ الْإِهَانَةِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِوُجُوبِ الْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَدَامَ الْأَمْرُ بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً حَتَّى وَلِيَ الْمُتَوَكِّلُ الْخِلَافَةَ، فَأَبْطَلَ الْمِحْنَةَ وَأَمَرَ بِإِظْهَارِ السُّنَّةِ؟ وَمَا نَقَلَهُ مِنَ الِاحْتِمَالِ فِي قَوْلِهِ: مَا أَقَامُوا الدِّينَ خِلَافُ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي ذَلِكَ الدَّالَّةُ عَلَى الْعَمَلِ بِمَفْهُومِهِ، أَوْ أَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يُقِيمُوا الدِّينَ يَخْرُجُ الْأَمْرُ عَنْهُمْ.

وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ نَظِيرُ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ، ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي الْكِتَابِ الْكَبِيرِ فَذَكَرَ قِصَّةَ سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ وَبَيْعَةَ أَبِي بَكْرٍ وَفِيهَا: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَإِنَّ هَذَا الْأَمْرَ فِي قُرَيْشٍ مَا أَطَاعُوا اللَّهَ وَاسْتَقَامُوا عَلَى أَمْرِهِ وَقَدْ جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ:

الْأَوَّلُ: وَعِيدُهُمْ بِاللَّعْنِ إِذَا لَمْ يُحَافِظُوا عَلَى الْمَأْمُورِ بِهِ كَمَا فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ حَيْثُ قَالَ: الْأُمَرَاءُ مِنْ قُرَيْشٍ مَا فَعَلُوا ثَلَاثًا: مَا حَكَمُوا فَعَدَلُوا

الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يَقْتَضِي خُرُوجَ الْأَمْرِ عَنْهُمْ.

الثَّانِي: وَعِيدُهُمْ بِأَنْ يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ مَنْ يُبَالِغُ فِي أَذِيَّتِهِمْ، فَعِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّكُمْ أَهْلُ هَذَا الْأَمْرِ مَا لَمْ تُحْدِثُوا، فَإِذَا غَيَّرْتُمْ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مَنْ يَلْحَاكُمْ كَمَا يُلْحَى الْقَضِيبُ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، إِلَّا أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ عَمِّ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَلَمْ يُدْرِكْهُ، هَذِهِ رِوَايَةُ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَخَالَفَهُ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ فَرَوَاهُ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ وَلَفْظُهُ: لَا يَزَالُ هَذَا الْأَمْرُ فِيكُمْ وَأَنْتُمْ وُلَاتُهُ. الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَفِي سَمَاعِ عُبَيْدِ اللَّهِ مِنْ أَبِي مَسْعُودٍ نَظَرٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي سَنَةِ وَفَاتِهِ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ مُرْسَلِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ إِلَى عَطَاءٍ وَلَفْظُهُ: قَالَ لِقُرَيْشٍ: أَنْتُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِهَذَا الْأَمْرِ مَا كُنْتُمْ عَلَى الْحَقِّ، إِلَّا أَنْ تَعْدِلُوا عَنْهُ فَتُلْحَوْنَ كَمَا تُلْحَى هَذِهِ الْجَرِيدَةُ وَلَيْسَ فِي هَذَا أَيْضًا تَصْرِيحٌ بِخُرُوجِ الْأَمْرِ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ إِشْعَارٌ بِهِ.

الثَّالِثُ: الْإِذْنُ فِي الْقِيَامِ عَلَيْهِمْ وَقِتَالِهِمْ وَالْإِيذَانِ بِخُرُوجِ الْأَمْرِ عَنْهُمْ كَمَا أَخْرَجَهُ الطَّيَالِسِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ رَفَعَهُ: اسْتَقِيمُوا لِقُرَيْشٍ مَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَقِيمُوا فَضَعُوا سُيُوفَكُمْ عَلَى عَوَاتِقِكُمْ فَأَبِيدُوا خَضْرَاءَهُمْ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَكُونُوا زَرَّاعِينَ أَشْقِيَاءَ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، إِلَّا أَنَّ فِيهِ انْقِطَاعًا؛ لِأَنَّ رَاوِيهِ سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ ثَوْبَانَ. وَلَهُ شَاهِدٌ فِي الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ بِمَعْنَاهُ.

وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ ذِي مِخْبَرٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهُمَا رَاءٌ وَهُوَ ابْنُ أَخِي النَّجَاشِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كَانَ هَذَا الْأَمْرُ فِي حِمْيَرٍ فَنَزَعَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ وَصَيَّرَهُ فِي قُرَيْشٍ وَسَيَعُودُ إِلَيْهِمْ وَسَنَدُهُ جَيِّدٌ وَهُوَ شَاهِدٌ قَوِيٌّ

ص: 116

لِحَدِيثِ الْقَحْطَانِيِّ، فَإِنَّ حِمْيَرَ يَرْجِعُ نَسَبُهَا إِلَى قَحْطَانَ، وَبِهِ يَقْوَى أَنَّ مَفْهُومَ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ مَا أَقَامُوا الدِّينَ أَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يُقِيمُوا الدِّينَ خَرَجَ الْأَمْرُ عَنْهُمْ، وَيُؤْخَذُ مِنْ بَقِيَّةِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ خُرُوجَهُ عَنْهُمْ إِنَّمَا يَقَعُ بَعْدَ إِيقَاعِ مَا هُدِّدُوا بِهِ مِنَ اللَّعْنِ أَوَّلًا، وَهُوَ الْمُوجِبُ لِلْخِذْلَانِ وَفَسَادِ التَّدْبِيرِ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي صَدْرِ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ، ثُمَّ التَّهْدِيدِ بِتَسْلِيطِ مَنْ يُؤْذِيهِمْ عَلَيْهِمْ، وَوُجِدَ ذَلِكَ فِي غَلَبَةِ مَوَالِيهِمْ بِحَيْثُ صَارُوا مَعَهُمْ كَالصَّبِيِّ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ يَقْتَنِعُ بِلَذَّاتِهِ وَيُبَاشِرُ الْأُمُورَ غَيْرُهُ، ثُمَّ اشْتَدَّ الْخَطْبُ فَغَلَبَ عَلَيْهِمُ الدَّيْلَمُ فَضَايَقُوهُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لِلْخَلِيفَةِ إِلَّا الْخُطْبَةُ، وَاقْتَسَمَ الْمُتَغَلِّبُونَ الْمَمَالِكَ فِي جَمِيعِ الْأَقَالِيمِ، ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِمْ طَائِفَةٌ بَعْدَ طَائِفَةٍ حَتَّى انْتُزِعَ الْأَمْرُ مِنْهُمْ فِي جَمِيعِ الْأَقْطَارِ، وَلَمْ يَبْقَ لِلْخَلِيفَةِ إِلَّا مُجَرَّدُ الِاسْمِ فِي بَعْضِ الْأَمْصَارِ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ) يَعْنِي عَنْ مُعَاوِيَةَ بِهِ، وَقَدْ رَوَيْنَاهُ مَوْصُولًا فِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ قَالَ: حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ، حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، فَذَكَرَهُ مِثْلَ رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ فَغَضِبَ فَقَالَ سَمِعْتُ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا قَبْلَ قَوْلِهِ سَمِعْتُ، وَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ كُبَّ عَلَى وَجْهِهِ بِضَمِّ الْكَافِ مَبْنِيًّا لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، قَالَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ: لَمْ يَرْوِهِ عَنْ مَعْمَرٍ إِلَّا ابْنُ الْمُبَارَكِ تَفَرَّدَ بِهِ نُعَيْمٌ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الذُّهْلِيُّ فِي الزُّهْرِيَّاتِ عَنْ نُعَيْمٍ وَقَالَ: كَبَّهُ اللَّهُ.

الحديث الثاني:

قَوْلُهُ: (عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ) أَيِ ابْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ عُمَرَ) هُوَ جَدُّ الرَّاوِي عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (لَا يَزَالُ هَذَا الْأَمْرُ فِي قُرَيْشٍ) أَيِ الْخِلَافَةُ، يَعْنِي لَا يَزَالُ الَّذِي يَلِيهَا قُرَشِيًّا.

قَوْلُهُ: (مَا بَقِيَ مِنْهُمُ اثْنَانِ) قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَنَّهُمْ لَا يَبْقَى مِنْهُمْ فِي آخِرِ الزَّمَانِ إِلَّا اثْنَانِ أَمِيرٌ وَمُؤَمَّرٌ عَلَيْهِ، وَالنَّاسُ لَهُمْ تَبَعٌ. قُلْتُ: فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَنْ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: مَا بَقِيَ مِنَ النَّاسِ اثْنَانِ وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مَا بَقِيَ فِي النَّاسِ اثْنَانِ، وَأَشَارَ بِأُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَلَيْسَ الْمُرَادُ حَقِيقَةُ الْعَدَدِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ انْتِفَاءُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِي غَيْرِ قُرَيْشٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُحْمَلَ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، وَيَكُونَ التَّقْدِيرُ لَا يَزَالُ هَذَا الْأَمْرُ، أَيْ لَا يُسَمَّى بِالْخَلِيفَةِ إِلَّا مَنْ يَكُونُ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَّا أَنْ يُسَمَّى بِهِ أَحَدٌ مِنْ غَيْرِهِمْ غَلَبَةً وَقَهْرًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِلَفْظِ الْأَمْرِ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ لَفْظَ الْخَبَرِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَقَاءُ الْأَمْرِ فِي قُرَيْشٍ فِي بَعْضِ الْأَقْطَارِ دُونَ بَعْضٍ، فَإِنَّ بِالْبِلَادِ الْيَمَنِيَّةِ وَهِيَ النُّجُودُ مِنْهَا طَائِفَةً مِنْ ذُرِّيَّةِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ لَمْ تَزَلْ مَمْلَكَةُ تِلْكَ الْبِلَادِ مَعَهُمْ مِنْ أَوَاخِرِ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ، وَأَمَّا مَنْ بِالْحِجَازِ مِنْ ذُرِّيَّةِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَهُمْ أُمَرَاءُ مَكَّةَ وَأُمَرَاءُ يَنْبُعَ مِنْ ذُرِّيَّةِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَهُمْ أُمَرَاءُ الْمَدِينَةِ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا مِنْ صَمِيمِ قُرَيْشٍ لَكِنَّهُمْ تَحْتَ حُكْمِ غَيْرِهِمْ مِنْ مُلُوكِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِي قُرَيْشٍ بِقُطْرٍ مِنَ الْأَقْطَارِ فِي الْجُمْلَةِ، وَكَبِيرُ أُولَئِكَ أَيْ أَهْلُ الْيَمَنِ يُقَالُ لَهُ الْإِمَامُ، وَلَا يَتَوَلَّى الْإِمَامَةُ فِيهِمْ إِلَّا مَنْ يَكُونُ عَالِمًا مُتَحَرِّيًا لِلْعَدْلِ.

وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَمْ يَخْلُ الزَّمَانُ عَنْ وُجُودِ خَلِيفَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ إِذْ فِي الْمَغْرِبِ خَلِيفَةٌ مِنْهُمْ عَلَى مَا قِيلَ وَكَذَا فِي مِصْرَ. قُلْتُ: الَّذِي فِي مِصْرَ لَا شَكَّ فِي كَوْنِهِ قُرَشِيًّا لِأَنَّهُ مِنْ ذُرِّيَّةِ الْعَبَّاسِ، وَالَّذِي فِي صَعْدَةَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْيَمَنِ لَا شَكَّ فِي كَوْنِهِ قُرَشِيًّا لِأَنَّهُ مِنْ ذُرِّيَّةِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَأَمَّا الَّذِي فِي الْمَغْرِبِ فَهُوَ حَفْصِيٌّ مِنْ ذُرِّيَّةِ أَبِي حَفْصٍ صَاحِبِ ابْنِ تُومَرْتَ، وَقَدِ انْتَسَبُوا إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَهُوَ قُرَشِيٌّ. وَلِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ بِلَفْظِ لَا يَزَالُ هَذَا الدِّينُ وَاصِبًا مَا بَقِيَ مِنْ قُرَيْشٍ عِشْرُونَ رَجُلًا وَقَالَ النَّوَوِيُّ: حُكْمُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مُسْتَمِرٌّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا بَقِيَ مِنَ النَّاسِ اثْنَانِ، وَقَدْ ظَهَرَ مَا قَالَهُ صلى الله عليه وسلم، فَمِنْ زَمَنِهِ إِلَى الْآنَ لَمْ تَزَلِ الْخِلَافَةُ فِي قُرَيْشٍ مِنْ غَيْرِ مُزَاحَمَةٍ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَمَنْ تَغَلَّبَ عَلَى الْمُلْكِ بِطَرِيقِ الشَّرِكَةِ لَا يُنْكِرُ أَنَّ الْخِلَافَةَ فِي قُرَيْشٍ، وَإِنَّمَا يَدَّعِي أَنَّ ذَلِكَ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنْهُمْ انْتَهَى.

وَقَدْ

ص: 117

أَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ الْخَوَارِجَ فِي زَمَنِ بَنِي أُمَيَّةَ تَسَمَّوْا بِالْخِلَافَةِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَلَمْ يَكُونُوا مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَذَلِكَ ادَّعَى الْخِلَافَةَ بَنُو عُبَيْدٍ وَخُطِبَ لَهُمْ بِمِصْرَ وَالشَّامِ وَالْحِجَازِ، وَلِبَعْضِهِمْ بِالْعِرَاقِ أَيْضًا، وَأُزِيلَ الْخِلَافَةُ بِبَغْدَادَ قَدْرَ سَنَةٍ، وَكَانَتْ مُدَّةُ بَنِي عُبَيْدٍ بِمِصْرَ سِوَى مَا تَقَدَّمَ لَهُمْ بِالْمَغْرِبِ تَزِيدُ عَلَى مِائَتِي سَنَةٍ، وَادَّعَى الْخِلَافَةَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ صَاحِبُ ابْنِ تُومَرْتَ وَلَيْسَ بِقُرَشِيٍّ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ بِالْمَغْرِبِ إِلَى الْيَوْمِ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَمَّا عَنْ بَنِي عُبَيْدٍ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَلَمْ يُبَايِعُوهُ إِلَّا عَلَى هَذَا الْوَصْفِ، وَالَّذِينَ أَثْبَتُوا نِسْبَتَهُمْ لَيْسُوا بِدُونِ مَنْ نَفَاهُ، وَأَمَّا سَائِرُ مَنْ ذُكِرَ وَمَنْ لَمْ يُذْكَرْ فَهُمْ مِنَ الْمُتَغَلِّبِينَ وَحُكْمُهُمْ حُكْمُ الْبُغَاةِ فَلَا عِبْرَةَ بِهِمْ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ خَبَرٌ عَنِ الْمَشْرُوعِيَّةِ أَيْ لَا تَنْعَقِدُ الْإِمَامَةُ الْكُبْرَى إِلَّا لِقُرَشِيٍّ مَهْمَا وُجِدَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَكَأَنَّهُ جَنَحَ إِلَى أَنَّهُ خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، وَقَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِذَلِكَ فِي حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رَفَعَهُ: قَدِّمُوا قُرَيْشًا وَلَا تَقَدَّمُوهَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ، وَمِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ مِثْلَهُ، وَفِي نُسْخَةِ أَبِي الْيَمَانِ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ مُرْسَلًا أَنَّهُ بَلَغَهُ مِثْلُهُ، وَأَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ مِثْلُهُ، وَفِي الْبَابِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: النَّاسُ

تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي هَذَا الشَّأْنِ أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، كِلَاهُمَا عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَتَقَدَّمَ فِي مَنَاقِبِ قُرَيْشٍ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُهُ لَكِنْ قَالَ: فِي هَذَا الْأَمْرِ وَشَاهِدُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ، عَنْ جَابِرٍ كَالْأَوَّلِ، وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَعِنْدَ أَحْمَدَ، وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ، وَعِنْدَ الْبَزَّارِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْهَزِيلِ قَالَ لَمَّا قَدِمَ مُعَاوِيَةُ الْكُوفَةَ قَالَ رَجُلٌ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ قُرَيْشٌ لَنجْعَلَنَّ هَذَا الْأَمْرَ فِي جُمْهُورٍ مِنْ جَمَاهِيرِ الْعَرَبِ غَيْرَهُمْ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: كَذَبْتَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: قُرَيْشٌ قَادَةُ النَّاسِ.

قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنَ الْحَدِيثِ لَيْسَ مِنْ جِهَةِ تَخْصِيصِ قُرَيْشٍ بِالذِّكْرِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مَفْهُومُ لَقَبٍ وَلَا حُجَّةَ فِيهِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، وَإِنَّمَا الْحُجَّةُ وُقُوعُ الْمُبْتَدَأِ مُعَرَّفًا بِاللَّامِ الْجِنْسِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمُبْتَدَأَ بِالْحَقِيقَةِ هَاهُنَا هُوَ الْأَمْرُ الْوَاقِعُ صِفَةً لِهَذَا وَهَذَا لَا يُوصَفُ إِلَّا بِالْجِنْسِ، فَمُقْتَضَاهُ حَصْرُ جِنْسِ الْأَمْرِ فِي قُرَيْشٍ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: لَا أَمْرَ إِلَّا فِي قُرَيْشٍ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ وَالْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْخَبَرِ فَهُوَ بِمَعْنَى الْأَمْرِ كَأَنَّهُ قَالَ: ائْتَمُّوا بِقُرَيْشٍ خَاصَّةً، وَبَقِيَّةُ طُرُقِ الْحَدِيثِ تُؤَيِّدُ ذَلِكَ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الصَّحَابَةَ اتَّفَقُوا عَلَى إِفَادَةِ الْمَفْهُومِ لِلْحَصْرِ خِلَافًا لِمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ شَرْطَ الْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ قُرَشِيًّا، وَقَيَّدَ ذَلِكَ طَوَائِفُ بِبَعْضِ قُرَيْشٍ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يَجُوزُ إِلَّا مِنْ وَلَدِ عَلِيٍّ، وَهَذَا قَوْلُ الشِّيعَةِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا اخْتِلَافًا شَدِيدًا فِي تَعْيِينِ بَعْضِ ذُرِّيَّةِ عَلِيٍّ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَخْتَصُّ بِوَلَدِ الْعَبَّاسِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَأَتْبَاعِهِ. وَنَقَلَ ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ طَائِفَةً قَالَتْ: لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي وَلَدِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَقَالَتْ أُخْرَى فِي وَلَدِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي بَنِي أُمَيَّةَ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي وَلَدِ عُمَرَ، قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: وَلَا حُجَّةَ لِأَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْفِرَقِ.

وَقَالَتِ الْخَوَارِجُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ غَيْرَ قُرَشِيٍّ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْإِمَامَةَ مَنْ قَامَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ سَوَاءٌ كَانَ عَرَبِيًّا أَمْ عَجَمِيًّا، وَبَالَغَ ضِرَارُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: تَوْلِيَةُ غَيْرِ الْقُرَشِيِّ أَوْلَى لِأَنَّهُ يَكُونُ أَقَلَّ عَشِيرَةً، فَإِذَا عَصَى كَانَ أَمْكَنَ لِخَلْعِهِ.

وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ: لَمْ يُعَرِّجِ الْمُسْلِمُونَ عَلَى

ص: 118

هَذَا الْقَوْلِ بَعْدَ ثُبُوتِ حَدِيثِ الْأَئِمَّةِ مِنْ قُرَيْشٍ، وَعَمِلَ الْمُسْلِمُونَ بِهِ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى اعْتِبَارِ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ الِاخْتِلَافُ. قُلْتُ: قَدْ عَمِلَ بِقَوْلِ ضِرَارٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُوجَدَ مَنْ قَامَ بِالْخِلَافَةِ مِنَ الْخَوَارِجِ عَلَى بَنِي أُمَيَّةَ كَقَطَرِيٍّ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَدَامَتْ فِتْنَتُهُمْ حَتَّى أَبَادَهُمُ الْمُهَلَّبُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً، وَكَذَا تَسَمَّى بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ غَيْرِ الْخَوَارِجِ مِمَّنْ قَامَ عَلَى الْحَجَّاجِ، كَابْنِ الْأَشْعَثِ، ثُمَّ تَسَمَّى بِالْخِلَافَةِ مَنْ قَامَ فِي قُطْرٍ مِنَ الْأَقْطَارِ فِي وَقْتٍ مَا فَتَسَمَّى بِالْخِلَافَةِ وَلَيْسَ مِنْ قُرَيْشٍ كَبَنِي عَبَّادٍ وَغَيْرِهِمْ بِالْأَنْدَلُسِ كَعَبْدِ الْمُؤْمِنِ وَذُرِّيَّتِهِ بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ كُلِّهَا، وَهَؤُلَاءِ ضَاهَوْا الْخَوَارِجَ فِي هَذَا وَلَمْ يَقُولُوا بِأَقْوَالِهِمْ وَلَا تَمَذْهَبُوا بِآرَائِهِمْ، بَلْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ دَاعِينَ إِلَيْهَا. وَقَالَ عِيَاضٌ: اشْتِرَاطُ كَوْنِ الْإِمَامِ قُرَشِيًّا مَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً، وَقَدْ عَدُّوهَا فِي مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ فِيهَا خِلَافٌ، وَكَذَلِكَ مَنْ بَعْدَهُمْ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ، قَالَ: وَلَا اعْتِدَادَ بِقَوْلِ الْخَوَارِجِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْمُسْلِمِينَ.

قُلْتُ: وَيَحْتَاجُ مَنْ نَقَلَ الْإِجْمَاعَ إِلَى تَأْوِيلِ مَا جَاءَ عَنْ عُمَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ عُمَرَ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ أَنَّهُ قَالَ: إِنْ أَدْرَكَنِي أَجَلِي وَأَبُو عُبَيْدَةَ حَيٌّ اسْتَخْلَفْتُهُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: فَإِنْ أَدْرَكَنِي أَجَلِي وَقَدْ مَاتَ أَبُو عُبَيْدَةَ اسْتَخْلَفْتُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ الْحَدِيثَ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ أَنْصَارِيٌّ لَا نَسَبَ لَهُ فِي قُرَيْشٍ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: لَعَلَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ بَعْدَ عُمَرَ عَلَى اشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونَ الْخَلِيفَةُ قُرَشِيًّا، أَوْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ عُمَرَ فِي ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ مَنْ لَمْ يُعَيِّنِ الْخِلَافَةَ فِي قُرَيْشٍ مِنْ تَأْمِيرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَأُسَامَةَ وَغَيْرِهِمْ فِي الْحُرُوبِ فَلَيْسَ مِنَ الْإِمَامَةِ الْعُظْمَى فِي شَيْءٍ، بَلْ فِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْخَلِيفَةِ اسْتِنَابَةُ غَيْرِ الْقُرَشِيِّ فِي حَيَاتِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ مَا فَرَضَهُ الْفُقَهَاءُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُوجَدْ قُرَشِيٌّ يُسْتَخْلَفْ كِنَانِيٌّ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدُ فَمِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ أَحَدٌ مُسْتَجْمِعٌ الشَّرَائِطَ فَعَجَمِيٌّ، وَفِي وَجْهٍ جُرْهُمِيٌّ، وَإِلَّا فَمِنْ وَلَدِ إِسْحَاقَ، قَالُوا: وَإِنَّمَا فَرَضَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ عَلَى عَادَتِهُمْ فِي ذِكْرِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ عَقْلًا، وَإِنْ كَانَ لَا يَقَعُ عَادَةً أَوْ شَرْعًا.

قُلْتُ وَالَّذِي حَمَلَ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَيْهِ أَنَّهُ فَهِمَ مِنْهُ الْخَبَرَ الْمَحْضَ وَخَبَرُ الصَّادِقِ لَا يَتَخَلَّفُ، وَأَمَّا مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْأَمْرِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: قَدِّمُوا قُرَيْشًا وَلَا تَقَدَّمُوهَا وَبِغَيْرِهِ مِنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ عَلَى رُجْحَانِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لِوُرُودِ الْأَمْرِ بِتَقْدِيمِ الْقُرَشِيِّ عَلَى مَنْ لَيْسَ قُرَشِيًّا.

قَالَ عِيَاضٌ: وَلَا حُجَّةَ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَئِمَّةِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْخُلَفَاءُ، وَإِلَّا فَقَدْ قَدَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ فِي إِمَامَةِ الصَّلَاةِ وَوَرَاءَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَقَدَّمَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَابْنَهُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ فِي التَّأْمِيرِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبُعُوثِ وَالسَّرَايَا وَمَعَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ. وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ فِي الْأَحَادِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْقُرَشِيِّ مَزِيَّةً عَلَى غَيْرِهِ، فَيَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ لِتَرْجِيحِ الشَّافِعِيِّ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَيْسَ مُرَادُ الْمُسْتَدِلِّ بِهِ أَنَّ الْفَضْلَ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْقُرَشِيِّ بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ كَوْنَهُ قُرَشِيًّا مِنْ أَسْبَابِ الْفَضْلِ وَالتَّقَدُّمِ، كَمَا أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ الْفَضْلِ وَالتَّقَدُّمِ الْوَرَعُ وَالْفِقْهُ وَالْقِرَاءَةُ وَالسِّنُّ وَغَيْرُهَا، فَالْمُسْتَوِيَانِ فِي جَمِيعِ الْخِصَالِ إِذَا اخْتَصَّ أَحَدُهُمَا بِخَصْلَةٍ مِنْهَا دُونَ صَاحِبِهِ تَرَجَّحَ عَلَيْهِ فَيَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى تَقْدِيمِ الشَّافِعِيِّ عَلَى مَنْ سَاوَاهُ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ مِنْ غَيْرِ قُرَيْشٍ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قُرَشِيٌّ، وَعَجَبٌ قَوْلُ الْقُرْطُبِيِّ فِي الْمُفْهِمِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ عِيَاضٌ: أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى تَرْجِيحِ الشَّافِعِيِّ صَحِبَتْهُ غَفْلَةٌ قَارَنَهَا مِنْ صَمِيمِ التَّقْلِيدِ طَيْشُهُ، كَذَا قَالَ، وَلَعَلَّ الَّذِي أَصَابَتْهُ الْغَفْلَةُ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ مُرَادَ الْمُسْتَدِلِّ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

ص: 119

‌3 - بَاب أَجْرِ مَنْ قَضَى بِالْحِكْمَةِ

لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}

7141 -

حَدَّثَنَا شِهَابُ بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَآخَرُ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ أَجْرِ مَنْ قَضَى بِالْحِكْمَةِ) سَقَطَ لَفْظُ أَجْرِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهَا فَلَيْسَ فِي الْبَابِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ لَازِمِ الْإِذْنِ فِي تَغْبِيطِ مَنْ قَضَى بِالْحِكْمَةِ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي ثُبُوتُ الْفَضْلِ فِيهِ، وَمَا ثَبَتَ فِيهِ الْفَضْلُ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْأَجْرُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ لِمَا تَرْجَمَ بِهِ أَنَّ مَنْطُوقَ الْحَدِيثِ دَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ قَضَى بِالْحِكْمَةِ كَانَ مَحْمُودًا حَتَّى أَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَى مَنْ تَمَنَّى أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلُ الَّذِي لَهُ مِنْ ذَلِكَ لِيَحْصُلَ لَهُ مِثْلُ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ وَحُسْنِ الذِّكْرِ، وَمَفْهُومُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ فَاعِلِهِ، وَقَدْ صَرَّحَتِ الْآيَةُ بِأَنَّهُ فَاسِقٌ، وَاسْتِدْلَالُ الْمُصَنِّفِ بِهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُرَجِّحُ قَوْلَ مَنْ قَالَ إِنَّهَا عَامَّةٌ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَفِي الْمُسْلِمِينَ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ أَنَّ الْبُخَارِيَّ اقْتَصَرَ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ دُونَ مَا قَبْلَهَا عَمَلًا بِقَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّ الْآيَتَيْنِ قَبْلَهَا نَزَلَتَا فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِذَلِكَ، قَالَ: وَنَسَقُ الْآيَةِ لَا يَقْتَضِي مَا قَالَ، قُلْتُ: وَمَا نَفَاهُ ثَابِتٌ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ فِي تَفْسِيرِ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِ ; وَيَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْآيَاتِ وَإِنْ كَانَ سَبَبَهَا أَهْلُ الْكِتَابِ لَكِنَّ عُمُومَهَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُمْ، لَكِنْ لَمَّا تَقَرَّرَ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ أَنَّ مُرْتَكِبَ الْمَعْصِيَةِ لَا يُسَمَّى كَافِرًا وَلَا يُسَمَّى أَيْضًا ظَالِمًا؛ لِأَنَّ الظُّلْمَ قَدْ فُسِّرَ بِالشِّرْكِ، بَقِيَتِ الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ، فَمِنْ ثَمَّ اقْتَصَرَ عَلَيْهَا.

وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ بَعْدَ أَنْ حَكَى الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ: ظَاهِرُ الْآيَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ فَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلُوا وَاخْتَرَعَ حُكْمًا يُخَالِفُ بِهِ حُكْمَ اللَّهِ وَجَعَلَهُ دِينًا يُعْمَلُ بِهِ فَقَدْ لَزِمَهُ مِثْلُ مَا لَزِمَهُمْ مِنَ الْوَعِيدِ الْمَذْكُورِ حَاكِمًا كَانَ أَوْ غَيْرِهِ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: مَفْهُومُ الْآيَةِ أَنَّ مَنْ حَكَمَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ اسْتَحَقَّ جَزِيلَ الْأَجْرِ، وَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى جَوَازِ مُنَافَسَتِهِ فَاقْتَضَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَشْرَفِ الْأَعْمَالِ وَأَجَلِّ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رَفَعَهُ اللَّهُ مَعَ الْقَاضِي مَا لَمْ يَجُرْ. الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. قُلْتُ: وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا ابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَاسْتَغْرَبَهُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ.

قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا شِهَابُ بْنُ عَبَّادٍ) هُوَ ابْنُ عُمَرَ الْعَبْدِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ حُمَيْدٍ هُوَ الرُّؤَاسِيُّ بِضَمِّ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ، وَإِسْمَاعِيلُ هُوَ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ، وَقَيْسٌ هُوَ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالسَّنَدُ كُلُّهُ كُوفِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ) رَجُلٍ بِالْجَرِّ وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَالنَّصْبِ بِإِضْمَارِ أَعْنِي.

قَوْلُهُ: (عَلَى هَلَكَتِهِ) بِفَتَحَاتٍ أَيْ عَلَى إِهْلَاكِهِ أَيْ إِنْفَاقِهِ (فِي الْحَقِّ).

قَوْلُهُ (وَآخَرُ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً) فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ الْمَاضِيَةِ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ: وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ وَقَدْ مَضَى شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحِكْمَةِ الْقُرْآنُ كما فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، أَوْ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَضَابِطُهَا مَا مَنَعَ الْجَهْلَ وَزَجَرَ عَنِ الْقُبْحِ.

قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: الْمُرَادُ بِالْحَسَدِ هُنَا الْغِبْطَةُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالنَّفْيِ

ص: 120

حَقِيقَتُهُ وَإِلَّا لَزِمَ الْخُلْفُ، لِأَنَّ النَّاسَ حَسَدُوا فِي غَيْرِ هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ وَغَبَطُوا مَنْ فِيهِ سِوَاهُمَا فَلَيْسَ هُوَ خَبَرًا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ الْحُكْمُ، وَمَعْنَاهُ حَصْرُ الْمَرْتَبَةِ الْعُلْيَا مِنَ الْغِبْطَةِ فِي هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: هُمَا آكَدُ الْقُرُبَاتِ الَّتِي يُغْبَطُ بِهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ أَصْلِ الْغِبْطَةِ مِمَّا سِوَاهُمَا فَيَكُونُ مِنْ مَجَازِ التَّخْصِيصِ، أَيْ لَا غِبْطَةَ كَامِلَةَ التَّأْكِيدِ لِتَأْكِيدِ أَجْرِ مُتَعَلَّقِهَا إِلَّا الْغِبْطَةَ بِهَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ.

وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْخَصْلَتَانِ الْمَذْكُورَتَانِ هُنَا غِبْطَةٌ لَا حَسَدٌ ; لَكِنْ قَدْ يُطْلَقُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، أَوِ الْمَعْنَى لَا حَسَدَ إِلَّا فِيهِمَا، وَمَا فِيهِمَا لَيْسَ بِحَسَدٍ فَلَا حَسَدَ فَهُوَ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأُولَى} وَفِي الْحَدِيثِ التَّرْغِيبُ فِي وِلَايَةِ الْقَضَاءِ لِمَنِ اسْتَجْمَعَ شُرُوطَهُ وَقَوِيَ عَلَى أَعْمَالِ الْحَقِّ وَوَجَدَ لَهُ أَعْوَانًا لِمَا فِيهِ مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ وَأَدَاءِ الْحَقِّ لِمُسْتَحِقِّهِ وَكَفِّ يَدِ الظَّالِمِ وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْقُرُبَاتِ، وَلِذَلِكَ تَوَلَّاهُ الْأَنْبِيَاءُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَمِنْ ثَمَّ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ؛ لِأَنَّ أَمْرَ النَّاسِ لَا يَسْتَقِيمُ بِدُونِهِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ وَلَّى عُمَرَ الْقَضَاءَ، وَبِسَنَدٍ آخَرَ قَوِيٍّ أَنَّ عُمَرَ اسْتَعْمَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ عَلَى الْقَضَاءِ، وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى عُمَّالِهِ: اسْتَعْمِلُوا صَالِحِيكُمْ عَلَى الْقَضَاءِ وَأَكْفُوهُمْ. وَبِسَنَدٍ آخَرَ لَيِّنٍ أَنَّ مُعَاوِيَةَ سَأَلَ أَبَا الدَّرْدَاءِ وَكَانَ يَقْضِي بِدِمَشْقَ، مَنْ لِهَذَا الْأَمْرِ بَعْدَكَ، قَالَ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ: وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ وَفُضَلَائِهِمْ. وَإِنَّمَا فَرَّ مِنْهُ مَنْ فَرَّ خَشْيَةَ الْعَجْزِ عَنْهُ وَعِنْدَ عَدَمِ الْمُعِينِ عَلَيْهِ. وَقَدْ يَتَعَارَضُ الأَمْر حَيْثُ يَقَعُ تَوْلِيَةُ مَنْ يَشْتَدُّ بِهِ الْفَسَادُ إِذَا امْتَنَعَ الْمُصْلِحُ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَهَذَا حَيْثُ يَكُونُ هُنَاكَ غَيْرُهُ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ السَّلَفُ يَمْتَنِعُونَ مِنْهُ وَيَفِرُّونَ إِذَا طُلِبُوا لَهُ.

وَاخْتَلَفُوا: هَلْ يُسْتَحَبُّ لِمَنِ اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَهُ وَقَوِيَ عَلَيْهِ أَوْ لَا؟ وَالثَّانِي قَوْلُ الْأَكْثَرِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْخَطَرِ وَالْغَرَرِ، وَلِمَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ التَّشْدِيدِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَكَانَ خَامِلًا بِحَيْثُ لَا يُحْمَلُ عَنْهُ الْعِلْمُ أَوْ كَانَ مُحْتَاجًا وَلِلْقَاضِي رِزْقٌ مِنْ جِهَةٍ لَيْسَتْ بِحَرَامٍ اسْتُحِبَّ لَهُ لِيَرْجِعَ إِلَيْهِ فِي الْحُكْمِ بِالْحَقِّ وَيَنْتَفِعَ بِعِلْمِهِ، وَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا فَالْأَوْلَى لَهُ الْإِقْبَالُ عَلَى الْعِلْمِ وَالْفَتْوَى، وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ غَيْرُهُ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَحْمَدَ: لَا يَأْثَمُ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِذَا أَضَرَّ بِهِ نَفْعُ غَيْرِهُ وَلَا سِيَّمَا مَنْ لَا يُمْكِنُهُ عَمَلُ الْحَقِّ لِانْتِشَارِ الظُّلْمِ.

‌4 - بَاب السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِلْإِمَامِ مَا لَمْ تَكُنْ مَعْصِيَةً

7142 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنْ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ.

7143 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ الْجَعْدِ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ يَرْوِيهِ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَكَرِهَهُ فَلْيَصْبِرْ فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُفَارِقُ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَيَمُوتُ إِلاَّ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً

7144 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا

ص: 121

سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ

7145 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا مِنْ الأَنْصَارِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ فَغَضِبَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ أَلَيْسَ قَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُطِيعُونِي قَالُوا بَلَى قَالَ قَدْ عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ لَمَا جَمَعْتُمْ حَطَبًا وَأَوْقَدْتُمْ نَارًا ثُمَّ دَخَلْتُمْ فِيهَا فَجَمَعُوا حَطَبًا فَأَوْقَدُوا نَارًا فَلَمَّا هَمُّوا بِالدُّخُولِ فَقَامَ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّمَا تَبِعْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِرَارًا مِنْ النَّارِ أَفَنَدْخُلُهَا فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ خَمَدَتْ النَّارُ وَسَكَنَ غَضَبُهُ فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا أَبَدًا إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ.

قَوْلُهُ: بَابُ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِإِمَامٍ مَا لَمْ تَكُنْ مَعْصِيَةً) إِنَّمَا قَيَّدَهُ بِالْإِمَامِ وَإِنْ كَانَ فِي أَحَادِيثِ الْبَابِ الْأَمْرُ بِالطَّاعَةِ لِكُلِّ أَمِيرٍ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِمَامًا لِأَنَّ مَحَلَّ الْأَمْرِ بِطَاعَةِ الْأَمِيرِ أَنْ يَكُونَ مُؤَمَّرًا مِنْ قِبَلِ الْإِمَامِ. وَذَكَرَ فِيهِ أربعة أَحَادِيثَ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ) بِمُثَنَّاةٍ مَفْتُوحَةٍ وَتَحْتَانِيَّةٍ مُشَدَّدَةٍ وَآخِرُهُ مُهْمَلَةٌ وَهُوَ يَزِيدُ بْنُ حُمَيْدٍ الضُّبَعِيُّ، وَتَقَدَّمَ فِي الصَّلَاةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ التَّصْرِيحُ بِقَوْلِ شُعْبَةَ: حَدَّثَنِي أَبُو التَّيَّاحِ.

قَوْلُهُ (اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنِ اسْتُعْمِلَ) بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ أَيْ جُعِلَ عَامِلًا بِأَنْ أُمِّرَ إِمَارَةً عَامَّةً عَلَى الْبَلَدِ مَثَلًا أَوْ وَلِيَ فِيهَا وِلَايَةً خَاصَّةً كَالْإِمَامَةِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ جِبَايَةِ الْخَرَاجِ أَوْ مُبَاشَرَةِ الْحَرْبِ، فَقَدْ كَانَ فِي زَمَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مَنْ يَجْتَمِعُ لَهُ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ وَمَنْ يَخْتَصُّ بِبَعْضِهَا.

قَوْلُهُ (حَبَشِيٌّ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ مَنْسُوبٌ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَمَضَى فِي الصَّلَاةِ فِي بَابِ إِمَامَةِ الْعَبْدِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ، عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ بِلَفْظِ اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنِ اسْتُعْمِلَ حَبَشِيٌّ وَفِيهِ بَعْدَ بَابٍ مِنْ رِوَايَةِ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي ذَرٍّ: اسْمَعْ وَأَطِعْ وَلَوْ لِحَبَشِيٍّ وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ بِإِسْنَادٍ آخَرَ إِلَى أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى الرَّبَذَةِ فَإِذَا عَبْدٌ يَؤُمُّهُمْ فَذَهَبَ يَتَأَخَّرُ لِأَجْلِ أَبِي ذَرٍّ، فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: أَوْصَانِي خَلِيلِي فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَظَهَرَتْ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ الْحِكْمَةُ فِي تَخْصِيصِ أَبِي ذَرٍّ بِالْأَمْرِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ الْأَمْرُ بِذَلِكَ عُمُومًا ; وَلِمُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أُمِّ الْحُصَيْنِ: اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَلَوِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ) وَاحِدَةُ الزَّبِيبِ الْمَأْكُولِ الْمَعْرُوفِ الْكَائِنِ مِنَ الْعِنَبِ إِذَا جَفَّ، وَإِنَّمَا شَبَّهَ رَأْسَ الْحَبَشِيِّ بِالزَّبِيبَةِ لِتَجَمُّعِهَا وَلِكَوْنِ شَعْرِهِ أَسْوَدَ، وَهُوَ تَمْثِيلٌ فِي الْحَقَارَةِ وَبَشَاعَةِ الصُّورَةِ وَعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذَا الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وَنَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الْمُهَلَّبِ قَالَ: قَوْلُهُ اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَعْمَلُ لِلْعَبْدِ إِلَّا إِمَامٌ قُرَشِيٌّ، لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْإِمَامَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي قُرَيْشٍ، وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهَا لَا تَكُونُ فِي الْعَبِيدِ. قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُسَمَّى عَبْدًا بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ قَبْلَ الْعِتْقِ، وَهَذَا كُلُّهُ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا يَكُونُ بِطَرِيقِ الِاخْتِيَارِ، وَأَمَّا لَوْ تَغَلَّبَ عَبْدٌ حَقِيقَةً بِطَرِيقِ الشَّوْكَةِ، فَإِنَّ طَاعَتَهُ تَجِبُ إِخْمَادًا لِلْفِتْنَةِ مَا لَمْ يَأْمُرْ بِمَعْصِيَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ، وَقِيلَ الْمُرَادُ أَنَّ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ إِذَا اسْتَعْمَلَ الْعَبْدَ الْحَبَشِيَّ عَلَى إِمَارَةِ بَلَدٍ مَثَلًا وَجَبَتْ طَاعَتُهُ، وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ الْعَبْدَ الْحَبَشِيَّ يَكُونُ هُوَ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: قَدْ يُضْرَبُ الْمَثَلُ بِمَا لَا يَقَعُ فِي الْوُجُودِ، يَعْنِي وَهَذَا مِنْ ذَاكَ أَطْلَقَ الْعَبْدَ الْحَبَشِيَّ مُبَالَغَةً فِي الْأَمْرٍ بِالطَّاعَةِ وَإِنْ كَانَ لَا يُتَصَوَّرُ شَرْعًا أَنْ

ص: 122

يَلِيَ ذَلِكَ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي.

قَوْلُهُ: (حَمَّادٌ) هُوَ ابْنُ زَيْدٍ، وَالْجَعْدُ هُوَ أَبُو عُثْمَانَ، وَأَبُو رَجَاءٍ هُوَ الْعُطَارِدِيُّ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا السَّنَدِ فِي أَوَائِلِ الْفِتَنِ.

قَوْلُهُ (يَرْوِيهِ) هُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ تَقَدَّمَ كَذَلِكَ فِي أَوَائِلِ الْفِتَنِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَارِثِ، عَنِ الْجَعْدِ وَتَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُهُ هُنَاكَ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ صَحَابِيٌّ هُوَ ابْنُ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ فِيمَا أَحَبَّ أَوْ كَرِهَ.

قَوْلُهُ: (مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ) هَذَا يُقَيِّدُ مَا أُطْلِقَ فِي الْحَدِيثَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ مِنَ الْأَمْرِ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَلَوْ لِحَبَشِيٍّ، وَمِنَ الصَّبْرِ عَلَى مَا يَقَعُ مِنَ الْأَمِيرِ مِمَّا يُكْرَهُ، وَالْوَعِيدُ عَلَى مُفَارَقَةِ الْجَمَاعَةِ.

قَوْلُهُ: (فَإِذَا أَمَرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ) أَيْ لَا يَجِبُ ذَلِكَ بَلْ يَحْرُمُ عَلَى مَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الِامْتِنَاعِ، وَفِي حَدِيثِ مُعَاذٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: لَا طَاعَةَ لِمَنْ لَمْ يُطِعِ اللَّهَ. وَعِنْدَهُ وَعِنْدَ الْبَزَّارِ فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَالْحَكَمِ بْنِ عَمْرٍو الْغِفَارِيِّ لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَسَنَدُهُ قَوِيٌّ، وَفِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالطَّبَرَانِيِّ لَا طَاعَةَ لِمَنْ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي هَذَا الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ عُبَادَةَ فِي الْأَمْرِ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا بِمَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَتِهِ وَهُوَ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ وَمُلَخَّصُهُ أَنَّهُ يَنْعَزِلُ بِالْكُفْرِ إِجْمَاعًا فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ الْقِيَامُ فِي ذَلِكَ، فَمَنْ قَوِيَ عَلَى ذَلِكَ فَلَهُ الثَّوَابُ، وَمَنْ دَاهَنَ فِعْلَيْهِ الْإِثْمُ، وَمَنْ عَجَزَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ مِنْ تِلْكَ الْأَرْضِ. الْحَدِيثُ الرَّابِعُ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ. قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ) هُوَ السُّلَمِيُّ، وَعَلِيٌّ هُوَ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ.

قَوْلُهُ (وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ) تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ وَالْجَوَابُ عَمَّنْ غَلَّطَ رَاوِيهِ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي.

قَوْلُهُ: (فَأَوْقِدُوا نَارًا) كَذَا وَقَعَ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْمَغَازِي وَالْأَحْكَامِ أَنَّ أَمِيرَهُمْ غَضِبَ مِنْهُمْ فَقَالَ: أَوْقِدُوا نَارًا.

وَقَوْلُهُ: قَدْ عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ لَمَا بِالتَّخْفِيفِ وَجَاءَ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّثْقِيلِ إِنَّهَا بِمَعْنَى إِلَّا وَقَوْلُهُ خَمَدَتْ بِالْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ، وَضُبِطَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِكَسْرِ الْمِيمِ ولَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ. قَالَهُ ابْنُ التِّينِ. قَالَ: وَمَعْنَى خَمَدَتْ سَكَنَ لَهَبُهَا وَإِنْ لَمْ يُطْفَأْ جَمْرُهَا، فَإِنْ طُفِئَ قِيلَ هَمَدَتْ. وَقَوْلُهُ لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا قَالَ الدَّاوُدِيُّ: يُرِيدُ تِلْكَ النَّارَ لِأَنَّهُمْ يَمُوتُونَ بِتَحْرِيقِهَا فَلَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا أَحْيَاءً، قَالَ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالنَّارِ نَارَ جَهَنَّمَ وَلَا أَنَّهُمْ مُخَلَّدُونَ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ: يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ قَالَ: وَهَذَا مِنَ الْمَعَارِيضِ الَّتِي فِيهَا مَنْدُوحَةٌ، يُرِيدُ أَنَّهُ سِيقَ مَسَاقَ الزَّجْرِ وَالتَّخْوِيفِ لِيَفْهَمَ السَّامِعُ أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ خُلِّدَ فِي النَّارِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُرَادًا وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ الزَّجْرُ وَالتَّخْوِيفُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَهُ تَوْجِيهَاتٌ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي وَكَذَا قَوْلُهُ إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ سَرِيَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي وَتَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْهُ أَيْضًا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ فِي قَوْلِهِ:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ دُخُولَهُمُ النَّارَ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا أَشَارَ لَهُمْ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ طَاعَةَ الْأَمِيرِ وَاجِبَةٌ، وَمَنْ تَرَكَ الْوَاجِبَ دَخَلَ النَّارَ، فَإِذَا شَقَّ عَلَيْكُمْ دُخُولُ هَذِهِ النَّارِ فَكَيْفَ بِالنَّارِ الْكُبْرَى، وَكَأَنَّ قَصْدَهُ أَنَّهُ لَوْ رَأَى مِنْهُمُ الْجِدَّ فِي وُلُوجِهَا لَمَنَعَهُمْ.

‌5 - بَاب مَنْ لَمْ يَسْأَلْ الْإِمَارَةَ أَعَانَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا

7146 -

حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا

ص: 123

عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَائتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ.

‌6 - بَاب مَنْ سَأَلَ الْإِمَارَةَ وُكِلَ إِلَيْهَا

7147 -

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنْ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ، لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ، فَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَائتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ.

قَوْلُهُ (بَابُ مَنْ لَمْ يَسْأَلِ الْإِمَارَةَ أَعَانَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ بَابُ مَنْ سَأَلَ الْإِمَارَةَ وُكِلَ إِلَيْهَا وَذَكَرَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى سَنَدِهِ فِي كِتَابِ كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ وَعَلَى قَوْلِهِ: وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَكَفِّرْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ فَهُوَ الَّذِي فِي أَكْثَرِ طُرُقِ الْحَدِيثِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ بلَفْظ لَا يَتَمَنَّيَنَّ بِصِيغَةِ النَّهْيِ عَنِ التَّمَنِّي مُؤَكَّدًا بِالنُّونِ الثَّقِيلَةِ، وَالنَّهْيُ عَنِ التَّمَنِّي أَبْلَغُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الطَّلَبِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ مَسْأَلَةِ) أَيْ سُؤَالٍ.

قَوْلُهُ (وُكِلْتَ إِلَيْهَا) بِضَمِّ الْوَاوِ وَكَسْرِ الْكَافِ مُخَفَّفًا وَمُشَدَّدًا وَسُكُونِ اللَّامِ، وَمَعْنَى الْمُخَفَّفِ أَيْ صُرِفَ إِلَيْهَا، وَمَنْ وُكِلَ إِلَى نَفْسِهِ هَلَكَ، وَمِنْهُ فِي الدُّعَاءِ وَلَا تَكِلنِي إِلَى نَفْسِي وَوَكَلَ أَمْرَهُ إِلَى فُلَانٍ صَرَفَهُ إِلَيْهِ؛ وَوَكَّلَهُ بِالتَّشْدِيدِ اسْتَحْفَظَهُ، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ طَلَبَ الْإِمَارَةَ فَأُعْطِيَهَا تُرِكَتْ إِعَانَتُهُ عَلَيْهَا مِنْ أَجْلِ حِرْصِهِ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ طَلَبَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُكْمِ مَكْرُوهٌ فَيَدْخُلُ فِي الْإِمَارَةِ الْقَضَاءُ وَالْحِسْبَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَأَنَّ مَنْ حَرَصَ عَلَى ذَلِكَ لَا يُعَانُ، وَيُعَارِضُهُ فِي الظَّاهِرِ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: مَنْ طَلَبَ قَضَاءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَنَالَهُ ثُمَّ غَلَبَ عَدْلُهُ جَوْرَهُ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ غَلَبَ جَوْرُهُ عَدْلَهُ فَلَهُ النَّارُ. وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ لَا يُعَانُ بِسَبَبِ طَلَبِهِ أَنْ لَا يَحْصُلَ مِنْهُ الْعَدْلُ إِذَا وَلِيَ أَوْ يُحْمَلَ الطَّلَبُ هُنَا عَلَى الْقَصْدِ وَهُنَاكَ عَلَى التَّوْلِيَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى: إِنَّا لَا نُوَلِّي مَنْ حَرَصَ وَلِذَلِكَ عَبَّرَ فِي مُقَابِلِهِ بِالْإِعَانَةِ، فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ اللَّهِ عَوْنٌ عَلَى عَمَلِهِ لَا يَكُونْ فِيهِ كِفَايَةٌ لِذَلِكَ الْعَمَلِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُجَابَ سُؤَالُهُ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلَّ وِلَايَةٍ لَا تَخْلُو مِنَ الْمَشَقَّةِ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ اللَّهِ إِعَانَةٌ تَوَرَّطَ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ وَخَسِرَ دُنْيَاهُ وَعُقْبَاهُ، فَمَنْ كَانَ ذَا عَقْلٍ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلطَّلَبِ أَصْلًا، بَلْ إِذَا كَانَ كَافِيًا وَأُعْطِيهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ فَقَدْ وَعَدَهُ الصَّادِقُ بِالْإِعَانَةِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْفَضْلِ.

قَالَ الْمُهَلَّبُ: جَاءَ تَفْسِيرُ الْإِعَانَةِ عَلَيْهَا فِي حَدِيثِ بِلَالِ بْنِ مِرْدَاسٍ، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنْ أَنَسٍ رَفَعَهُ: مَنْ طَلَبَ الْقَضَاءَ، وَاسْتَعَانَ عَلَيْهِ بِالشُّفَعَاءِ وُكِلَ إِلَى نَفْسِهِ، وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَلَكًا يُسَدِّدُهُ أَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. قُلْتُ: وَكَذَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى الثَّعْلَبِيِّ، وَأَخْرَجَهُ هُوَ وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَوَانَةَ وَمِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى فَأَسْقَطَ خَيْثَمَةَ مِنَ السَّنَدِ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَرِوَايَةُ أَبِي عَوَانَةَ أَصَحُّ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ وَصَحَّحَهُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ ابْنَ مَعِينٍ لَيَّنَ خَيْثَمَةَ وَضَعَّفَ عَبْدَ الْأَعْلَى، وَكَذَا

ص: 124

قَالَ الْجُمْهُورُ فِي عَبْدِ الْأَعْلَى: لَيْسَ بِقَوِيٍّ. قَالَ الْمُهَلَّبُ: وَفِي مَعْنَى الْإِكْرَاهِ عَلَيْهِ أَنْ يُدْعَى إِلَيْهِ فَلَا يَرَى نَفْسَهُ أَهْلًا لِذَلِكَ هَيْبَةً لَهُ وَخَوْفًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمَحْذُورِ فَإِنَّهُ يُعَانُ عَلَيْهِ إِذَا دَخَلَ فِيهِ، وَيُسَدَّدُ؛ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ، وَإِلَّا فَقَدْ قَالَ يُوسُفُ {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ} وَقَالَ سُلَيْمَانُ {وَهَبْ لِي مُلْكًا} قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ.

‌7 - بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ الْحِرْصِ عَلَى الْإِمَارَةِ

7148 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الْإِمَارَةِ، وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَنِعْمَ الْمُرْضِعَةُ وَبِئْسَتْ الْفَاطِمَةُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُمْرَانَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. . . قَوْلَهُ.

7149 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَرَجُلَانِ مِنْ قَوْمِي فَقَالَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ أَمِّرْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَقَالَ الْآخَرُ مِثْلَهُ فَقَالَ إِنَّا لَا نُوَلِّي هَذَا مَنْ سَأَلَهُ وَلَا مَنْ حَرَصَ عَلَيْهِ

قَوْلُهُ (بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ الْحِرْصِ عَلَى الْإِمَارَةِ) أَيْ عَلَى تَحْصِيلِهَا، وَوَجْهُ الْكَرَاهَةِ مَأْخُوذٌ مِمَّا سَبَقَ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ مَرْفُوعًا، وَأَدْخَلَ عَبْدَ الْحَمِيدِ بْنَ جَعْفَرٍ بَيْنَ سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَجُلًا وَلَمْ يَرْفَعْهُ، وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ أَتْقَنُ مِنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ وَأَعْرَفُ بِحَدِيثِ الْمَقْبُرِيِّ مِنْهُ فَرِوَايَتُهُ هِيَ الْمُعْتَمَدَةُ، وَعَقَّبَهُ الْبُخَارِيُّ بِطَرِيقِ عَبْدِ الْحَمِيدِ إِشَارَةً مِنْهُ إِلَى إِمْكَانِ تَصْحِيحِ الْقَوْلَيْنِ، فَلَعَلَّهُ كَانَ عِنْدَ سَعِيدٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْقُوفًا عَلَى مَا رَوَاهُ عَنْهُ عَبْدُ الْحَمِيدِ، وَكَانَ عِنْدَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ مَرْفُوعًا، إِذْ وُجِدَتْ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الرَّاوِيَيْنِ عَنْ سَعِيدٍ زِيَادَةٌ؛ وَرِوَايَةُ الْوَقْفِ لَا تُعَارِضُ رِوَايَةَ الرَّفْعِ؛ لِأَنَّ الرَّاوِي قَدْ يَنْشَطُ فَيُسْنِدُ وَقَدْ لَا يَنْشَطُ فَيَقِفُ.

قَوْلُهُ: (إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ شَبَابَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ سَتُعْرِضُونَ بِالْعَيْنِ وَأَشَارَ إِلَى أَنَّهَا خَطَأٌ.

قَوْلُهُ: (عَلَى الْإِمَارَةِ) يدخل فِيهِ الْإِمَارَةُ الْعُظْمَى وَهِيَ الْخِلَافَةُ، وَالصُّغْرَى وَهِيَ الْوِلَايَةُ عَلَى بَعْضِ الْبِلَادِ، وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم بِالشَّيْءِ قَبْلَ وُقُوعِهِ فَوَقَعَ كَمَا أَخْبَرَ.

قَوْلُهُ: (وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أَيْ لِمَنْ لَمْ يَعْمَلْ فِيهَا بِمَا يَنْبَغِي، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ شَبَابَةَ وَحَسْرَةً وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ بِلَفْظِ: أَوَّلُهَا مَلَامَةٌ، وَثَانِيهَا نَدَامَةٌ، وَثَالِثُهَا عَذَابٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِلَّا مَنْ عَدَلَ. وَفِي الطَّبَرَانِيِّ الْأَوْسَطِ مِنْ رِوَايَةِ شَرِيكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ شَرِيكٌ: لَا أَدْرِي رَفَعَهُ أَمْ لَا، قَالَ: الْإِمَارَةُ أَوَّلُهَا نَدَامَةٌ، وَأَوْسَطُهَا غَرَامَةٌ، وَآخِرُهَا عَذَابٌ يَوْمَ الْقِي امَةِ وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رَفَعَهُ بِلَفْظِ أَوَّلُهَا مَلَامَةٌ وَثَانِيهَا نَدَامَةٌ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَفَعَهُ: نِعْمَ الشَّيْءُ الْإِمَارَةُ لِمَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَحِلِّهَا، وَبِئْسَ الشَّيْءُ الْإِمَارَةُ لِمَنْ أَخَذَهَا بِغَيْرِ

ص: 125

حَقِّهَا تَكُونُ عَلَيْهِ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا يُقَيِّدُ مَا أُطْلِقَ فِي الَّذِي قَبْلَهُ، وَيُقَيِّدُهُ أَيْضًا مَا أَخْرَجَ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا. قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي اجْتِنَابِ الْوِلَايَةِ وَلَا سِيَّمَا لِمَنْ كَانَ فِيهِ ضَعْفٌ.

وَهُوَ فِي حَقِّ مَنْ دَخَلَ فِيهَا بِغَيْرِ أَهْلِيَّةٍ وَلَمْ يَعْدِلْ، فَإِنَّهُ يَنْدَمُ عَلَى مَا فَرَّطَ مِنْهُ إِذَا جُوزِيَ بِالْخِزْيِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ أَهْلًا وَعَدَلَ فِيهَا فَأَجْرُهُ عَظِيمٌ كَمَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ، وَلَكِنْ فِي الدُّخُولِ فِيهَا خَطَرٌ عَظِيمٌ، وَلِذَلِكَ امْتَنَعَ الْأَكَابِرُ مِنْهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ (فَنِعْمَ الْمُرْضِعَةُ وَبِئْسَتِ الْفَاطِمَةُ) قَالَ الدَّاوُدِيُّ: نِعْمَ الْمُرْضِعَةُ أَيِ الدُّنْيَا، وَبِئْسَتِ الْفَاطِمَةُ أَيْ بَعْدَ الْمَوْتِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ إِلَى الْمُحَاسَبَةِ عَلَى ذَلِكَ، فَهُوَ كَالَّذِي يُفْطَمُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَغْنِيَ فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ هَلَاكُهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: نِعْمَ الْمُرْضِعَةُ لِمَا فِيهَا مِنْ حُصُولِ الْجَاهِ وَالْمَالِ وَنَفَاذِ الْكَلِمَةِ وَتَحْصِيلِ اللَّذَّاتِ الْحِسِّيَّةِ وَالْوَهْمِيَّةِ حَالَ حُصُولِهَا، وَبِئْسَتِ الْفَاطِمَةُ عِنْدَ الِانْفِصَالِ عَنْهَا بِمَوْتٍ أَوْ غَيْرِهِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا من التَّبِعَاتُ فِي الْآخِرَةِ.

(تَنْبِيهٌ):

أُلْحِقَتِ التَّاءُ فِي بِئْسَت دُونَ نِعْمَ، وَالْحُكْمُ فِيهِمَا إِذَا كَانَ فَاعِلُهُمَا مُؤَنَّثًا جَوَازُ الْإِلْحَاقِ وَتَرْكِهِ، فَوَقَعَ التَّفَنُّنُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِحَسَبِ ذَلِكَ وَقَالَ الطِّيبِيُّ: إِنَّمَا لَمْ يُلْحِقْهَا بِنِعْمَ لِأَنَّ الْمُرْضِعَةَ مُسْتَعَارَةٌ لِلْإِمَارَةِ وَتَأْنِيثُهَا غَيْرُ حَقِيقِيٍّ فَتَرْكُ إِلْحَاقِ التَّاءِ بِهَا وَإِلْحَاقُهَا بِئْسَ نَظَرًا إِلَى كَوْنِ الْإِمَارَةِ حِينَئِذٍ دَاهِيَةً دَهْيَاءَ. قَالَ: وَإِنَّمَا أُتِيَ بِالتَّاءِ فِي الْفَاطِمَةِ وَالْمُرْضِعَةِ إِشَارَةً إِلَى تَصْوِيرِ تَيْنِكَ الْحَالَتَيْنِ الْمُتَجَدِّدَتَيْنِ فِي الْإِرْضَاعِ وَالْفِطَامِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) هُوَ بُنْدَارٌ، وَوَقَعَ فِي مُسْتَخْرَجِ أَبِي نُعَيْمٍ أَنَّ الْبُخَارِيَّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ حِمْرَانَ هُوَ بَصْرِيٌّ صَدُوقٌ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ: يُخْطِئُ وَمَا لَهُ فِي الصَّحِيحِ إِلَّا هَذَا الْمَوْضِعُ. وَعَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ هُوَ الْمَدَنِيُّ لَمْ يُخَرِّجْ لَهُ الْبُخَارِيُّ إِلَّا تَعْلِيقًا، وَعُمَرُ بْنُ الْحَكَمِ أَيِ ابْنُ ثَوْبَانَ مَدَنِيٌّ ثِقَةٌ أَخْرَجَ لَهُ الْبُخَارِيُّ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ تَعْلِيقًا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الصِّيَامِ.

قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) أَيْ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى (وَلَا مَنْ حَرَصَ عَلَيْهِ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالرَّاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مُطَوَّلًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى فِي اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّينَ وَذَكَرْتُ شَرْحَهُ هُنَاكَ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ الَّذِي يَنَالُهُ الْمُتَوَلِّي عَنِ النَّعْمَاءِ وَالسَّرَّاءِ دُونَ مَا يَنَالُهُ مِنَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، إِمَّا بِالْعَزْلِ فِي الدُّنْيَا فَيَصِيرُ خَامِلًا وَإِمَّا بِالْمُؤَاخَذَةِ فِي الْآخِرَةِ وَذَلِكَ أَشَدُّ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَفْوَ. قَالَ الْقَاضِي الْبَيْضَاوِيُّ: فَلَا يَنْبَغِي لِعَاقِلٍ أَنْ يَفْرَحَ بِلَذَّةٍ يَعْقُبُهَا حَسَرَاتٌ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: الْحِرْصُ عَلَى الْوِلَايَةِ هُوَ السَّبَبُ فِي اقْتِتَالِ النَّاسِ عَلَيْهَا حَتَّى سُفِكَتِ الدِّمَاءُ وَاسْتُبِيحَتِ الْأَمْوَالُ وَالْفُرُوجُ وَعَظُمَ الْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ بِذَلِكَ، وَوَجْهُ النَّدَمِ أَنَّهُ قَدْ يُقْتَلُ أَوْ يُعْزَلُ أَوْ يَمُوتُ فَيَنْدَمُ عَلَى الدُّخُولِ فِيهَا لِأَنَّهُ يُطَالَبُ بِالتَّبِعَاتِ الَّتِي ارْتَكَبَهَا وَقَدْ فَاتَهُ مَا حَرَصَ عَلَيْهِ بِمُفَارَقَتِهِ، قَالَ: وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ كَأَنْ يَمُوتَ الْوَالِي وَلَا يُوجَدُ بَعْدَهُ مَنْ يَقُومُ بِالْأَمْرِ غَيْرُهُ، وَإِذَا لَمْ يَدْخُلْ فِي ذَلِكَ يَحْصُلُ الْفَسَادُ بِضَيَاعِ الْأَحْوَالِ. قُلْتُ: وَهَذَا لَا يُخَالِفُ مَا فُرِضَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ مِنَ الْحُصُولِ بِالطَّلَبِ أَوْ بِغَيْرِ طَلَبٍ بَلْ فِي التَّعْبِيرِ بِالْحِرْصِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ قَامَ بِالْأَمْرِ عِنْدَ خَشْيَةِ الضَّيَاعِ يَكُونُ كَمَنْ أُعْطِيَ بِغَيْرِ سُؤَالٍ لِفَقْدِ الْحِرْصِ غَالِبًا عَمَّنْ هَذَا شَأْنُهُ.

وَقَدْ يُغْتَفَرُ الْحِرْصُ فِي حَقِّ مَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ يَصِيرُ وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَتَوْلِيَةُ الْقَضَاءِ عَلَى الْإِمَامِ فَرْضُ عَيْنٍ وَعَلَى الْقَاضِي فَرْضُ كِفَايَةٍ إِذَا كَانَ هُنَاكَ غَيْرُهُ.

‌8 - بَاب مَنْ اسْتُرْعِيَ رَعِيَّةً فَلَمْ يَنْصَحْ

7150 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَشْهَبِ، عَنْ الْحَسَنِ: أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ عَادَ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ

ص: 126

فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَقَالَ لَهُ مَعْقِلٌ: إِنِّي مُحَدِّثُكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَا مِنْ عَبْدٍ يسترعيه اللَّهُ رَعِيَّةً فَلَمْ يَحُطْهَا بنصحه لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ.

7151 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا حُسَيْنٌ الْجُعْفِيُّ قَالَ زَائِدَةُ ذَكَرَهُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ أَتَيْنَا مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ نَعُودُهُ فَدَخَلَ عَلَيْنَا عُبَيْدُ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ مَعْقِلٌ أُحَدِّثُكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ مَا مِنْ وَالٍ يَلِي رَعِيَّةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لَهُمْ إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنِ اسْتُرْعِيَ) بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ.

قَوْلُهُ (رَعِيَّةً فَلَمْ يَنْصَحْ) أَيْ لَهَا.

قَوْلُهُ: (أَبُو الْأَشْهَبِ) هُوَ جَعْفَرُ بْنُ حِبَّانَ بِمُهْمَلَةٍ وَتَحْتَانِيَّةٍ ثَقِيلَةٍ.

قَوْلُهُ (عَنِ الْحَسَنِ) هُوَ الْبَصْرِيُّ، وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ شَيْبَانَ، عَنْ أَبِي الْأَشْهَبِ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ.

قَوْلُهُ (أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ) يَعْنِي أمير الْبَصْرَةَ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ وَوَلَدِهِ يَزِيدَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَ هَذِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَسَنَ حَضَرَ ذَلِكَ مِنْ عُبَيْدِ اللِّهِ بْنِ زِيَادٍ عِنْدَ مَعْقِلٍ.

قَوْلُهُ: (عَادَ مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ) بِتَحْتَانِيَّةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ خَفِيفَةٍ هُوَ الْمُزَنِيُّ الصَّحَابِيُّ الْمَشْهُورُ.

قَوْلُهُ (فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ) كَانَتْ وَفَاةُ مَعْقِلٍ بِالْبَصْرَةِ فِيمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ، وَذَلِكَ فِي خِلَافَةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ.

قَوْلُهُ (فَقَالَ لَهُ مَعْقِلٌ: إِنِّي مُحَدِّثُكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَادَ مُسْلِمٌ، عَنْ شَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخٍ، عَنْ أَبِي الْأَشْهَبِ لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ لِي حَيَاةً مَا حَدَّثْتُكَ.

قَوْلُهُ: (يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ) فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ اسْتَرْعَاهُ.

قَوْلُهُ: (فَلَمْ يَحُطْهَا) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ أَيْ يَكْلَؤُهَا أَوْ يَصُنْهَا وَزْنُهُ وَمَعْنَاهُ وَالِاسْمُ الْحِيَاطَةُ، يُقَالُ حَاطَهُ إِذَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ وَأَحَاطَ بِهِ مِثْلُهُ.

قَوْلُهُ: (بِنُصْحِهِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِهَاءِ الضَّمِيرِ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي بِالنَّصِيحَةِ وَوَقَعَ لِمُسْلِمٍ فِي رِوَايَةِ شَيْبَانَ يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ.

قَوْلُهُ: (لَمْ يَجِدْ) فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ إِلَّا لَمْ يَجِدْ بِزِيَادَةِ إِلَّا (رَائِحَةَ الْجَنَّةِ) زَادَ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ وَعَرْفُهَا يُوجَدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ مَسِيرَةِ سَبْعِينَ عَامًا وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَلَهُ مِثْلُهُ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ مَفْهُومُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَجِدُهَا، وَهُوَ عَكْسُ الْمَقْصُودِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ إِلَّا مُقَدَّرَةٌ أَيْ إِلَّا لَمْ يَجِدْ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ مَا مِنْ عَبْدٍ فَعَلَ كَذَا إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَلَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ اسْتِئْنَافٌ كَالْمُفَسِّرِ لَهُ، أَوْ لَيْسَتْ مَا لِلنَّفْيِ، وَجَازَتْ زِيَادَةُ مِنْ لِلتَّأْكِيدِ فِي الْإِثْبَاتِ عِنْدَ بَعْضِ النُّحَاةِ، وَقَدْ ثَبَتَ إِلَّا فِي بَعْضِ النُّسَخِ. قُلْتُ: لَمْ يَقَعِ الْجَمْعُ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ الْمُتَوَعَّدِ بِهِمَا فِي طَرِيقٍ وَاحِدَةٍ، فَقَوْلُهُ لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَشْهَبِ، وَقَوْلُهُ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْحَدِيثِ الْجَمْعُ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ فَحَفِظَ بَعْضَ مَا لَمْ يَح فَظْ بَعْضٌ وَهُوَ مُحْتَمَلٌ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَفْظٌ وَاحِدٌ تَصَرَّفَتْ فِيهِ الرُّوَاةُ.

وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي آخِرِهِ قَالَ: أَلَا كُنْتَ حَدَّثْتَنِي هَذَا قَبْلَ الْيَوْمِ؟ قَالَ: لَمْ أَكُنْ لِأُحَدِّثَكَ قِيلَ سَبَبُ ذَلِكَ هُوَ مَا وَصَفَهُ بِهِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ لَوْلَا أَنِّي مَيِّتٌ مَا حَدَّثْتُكَ فَكَأَنَّهُ كَانَ يَخْشَى بَطْشَهُ، فَلَمَّا نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ أَرَادَ أَنْ يَكُفَّ بِذَلِكَ بَعْضَ شَرِّهِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِلَى ذَلِكَ وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْمَلِيحِ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ عَادَ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ فَقَالَ لَهُ مَعْقِلٌ: لَوْلَا أَنِّي فِي الْمَوْتِ مَا حَدَّثْتُكَ وَقَدْ أَخْرَجَ

ص: 127

الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ عَلَيْنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ أَمِيرًا أَمَّرَهُ عَلَيْنَا مُعَاوِيَةُ غُلَامًا سَفِيهًا يَسْفِكُ الدِّمَاءَ سَفْكًا شَدِيدًا وَفِينَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيُّ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ لَهُ: انْتَهِ عَمَّا أَرَاكَ تَصْنَعُ، فَقَالَ لَهُ: وَمَا أَنْتَ وَذَاكَ؟ قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَقُلْنَا لَهُ: مَا كُنْتَ تَصْنَعُ بِكَلَامِ هَذَا السَّفِيهِ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ عِنْدِي عِلْمٌ فَأَحْبَبْتُ أَنْ لَا أَمُوتَ حَتَّى أَقُولَ بِهِ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ، ثُمَّ قَامَ فَمَا لَبِثَ أَنْ مَرِضَ مَرَضَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَأَتَاهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ يَعُودُهُ فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ الْبَابِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْقِصَّةُ وَقَعَتْ لِلصَّحَابِيَّيْنِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ زَائِدَةُ ذَكَرَهُ هِشَامٌ) هُوَ بِحَذْفٍ قَالَ الثَّانِيَةِ وَالتَّقْدِيرُ: قَالَ الْحُسَيْنُ الْجُعْفِيُّ: قَالَ زَائِدَةُ: ذَكَرَهُ؛ أَيِ: الْحَدِيثَ الَّذِي سَيَأْتِي هِشَامٌ وَهُوَ ابْنُ حَسَّانَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ زَكَرِيَّا، عَنِ الْحُسَيْنِ الْجُعْفِيِّ بِالْعَنْعَنَةِ فِي جَمِيعِ السَّنَدِ، وَحَاصِلُ الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّهُ أَثْبَتَ الْغِشَّ فِي إِحْدَاهُمَا، وَنَفَى النَّصِيحَةَ فِي الْأُخْرَى فَكَأَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا، وَيَحْصُلُ ذَلِكَ بِظُلْمِهِ لَهُمْ بِأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ أَوْ سَفْكِ دِمَائِهِمْ أَوِ انْتَهَاكِ أَعْرَاضِهِمْ وَحَبْسِ حُقُوقِهِمْ وَتَرْكِ تَعْرِيفِهِمْ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ وَبِإِهْمَالِ إِقَامَةِ الْحُدُودِ فِيهِمْ، وَرَدْعِ الْمُفْسِدِينَ مِنْهُمْ وَتَرْكِ حِمَايَتِهِمْ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ لَهُ مَعْقِلٌ أُحَدِّثُكَ حَدِيثًا) قَدْ ذَكَرْتُ زِيَادَةَ أَبِي الْمَلِيحِ عِنْدَ مُسْلِمٍ.

قَوْلُهُ: (مَا مِنْ وَالٍ يَلِي رَعِيَّةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَخْ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْمَلِيحِ: مَا مِنْ أَمِيرٍ بَدَلَ وَالٍ وَقَالَ فِيهِ ثُمَّ لَا يَجِدُّ لَهُ بِجِيمٍ وَدَالٍ مُشَدَّدَةٍ مِنَ الْجِدِّ بِالْكَسْرِ ضِدِّ الْهَزْلِ، وَقَالَ فِيهِ إِلَّا لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمُ الْجَنَّةَ وَلِلطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ: فَلَمْ يَعْدِلْ فِيهِمْ إِلَّا كَبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ قَالَ ابْنُ التِّينِ: يَلِي جَاءَ عَلَى غَيْرِ الْقِيَاسِ لِأَنَّ مَاضِيَهِ وَلِيَ بِالْكَسْرِ وَمُسْتَقْبَلُهُ يَوْلِي بِالْفَتْحِ وَهُوَ مِثْلُ وَرِثَ يَرِثُ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ عَلَى أَئِمَّةِ الْجَوْرِ، فَمَنْ ضَيَّعَ مَنِ اسْتَرْعَاهُ اللَّهُ أَوْ خَانَهُمْ أَوْ ظَلَمَهُمْ فَقَدْ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ الطَّلَبُ بِمَظَالِمِ الْعِبَادِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَكَيْفَ يَقْدِرُ عَلَى التَّحَلُّلِ مِنْ ظُلْمِ أُمَّةٍ عَظِيمَةٍ وَمَعْنَى حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ أَيْ أَنْفَذَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْوَعِيدَ وَلَمْ يَرْضَ عَنْهُ الْمَظْلُومِينَ. وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ نَحْوَهُ قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا فِي حَقِّ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ نَصِيحَةٍ. قُلْتُ: وَهُوَ احْتِمَالٌ بَعِيدٌ جِدًّا، وَالتَّعْلِيلُ مَرْدُودٌ، فَالْكَافِرُ أَيْضًا قَدْ يَكُونُ نَاصِحًا فِيمَا تَوَلَّاهُ وَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ الْكُفْرُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يُحْمَلُ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ، وَالْأَوْلَى أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ الْمُسْتَحِلِّ وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ الزَّجْرُ وَالتَّغْلِيظُ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ بِلَفْظِ: لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمُ الْجَنَّةَ وَهُوَ يُؤَيِّدُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ.

وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلَمْ يَحُطَّهَا وَفِي قَوْلِهِ فَيَمُوتُ مِثْلُ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} وَقَوْلُهُ: وَهُوَ غَاشٌّ؛ قَيْدٌ لِلْفِعْلِ مَقْصُودٌ بِالذِّكْرِ يُرِيدُ أَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا وَلَّاهُ عَلَى عِبَادِهِ لِيُدِيمَ لَهُمُ النَّصِيحَةَ لَا لِيَغُشَّهُمْ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا قَلَبَ الْقَضِيَّةَ اسْتَحَقَّ أَنْ يُعَاقَبَ.

‌9 - بَاب مَنْ شَاقَّ شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ

7152 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ طَرِيفٍ أَبِي تَمِيمَةَ، قَالَ: شَهِدْتُ صَفْوَانَ، وَجُنْدَبًا وَأَصْحَابَهُ وَهُوَ يُوصِيهِمْ فَقَالُوا: هَلْ سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ: وَمَنْ شاق شقق اللَّهُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَقَالُوا: أَوْصِنَا. فَقَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا ينْتَنُ

ص: 128

مِنْ الْإِنْسَانِ بَطْنُهُ، فَمَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَأْكُلَ إِلَّا طَيِّبًا فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ بِمِلْءِ كَفٍّ مِنْ دَمٍ أَهْرَاقَهُ فَلْيَفْعَلْ. قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: مَنْ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جُنْدَبٌ؟ قَالَ: نَعَمْ جُنْدَبٌ.

قَوْلُهُ: بَابُ مَنْ شَاقَّ شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ) فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ مَنْ شَقَّ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَالْمَعْنَى مَنْ أَدْخَلَ عَلَى النَّاسِ الْمَشَقَّةَ أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْمَشَقَّةَ فَهُوَ مِنَ الْجَزَاءِ بِجِنْسِ الْعَمَلِ.

قَوْلُهُ: (خَالِدٌ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّحَّانُ.

قَوْلُهُ (عَنِ الْجُرَيْرِيِّ) بِضَمِّ الْجِيمِ هُوَ سَعِيدُ بْنُ إِيَاسٍ، وَلَمْ يُخَرِّجِ الْبُخَارِيُّ، لِلْعَبَّاسِ الْجُرَيْرِيِّ شَيْئًا وَهُوَ مِنْ هَذِهِ الطَّبَقَةِ، وَخَالِدٌ الطَّحَّانُ مَعْدُودٌ فِيمَنْ سَمِعَ مِنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ قَبْلَ الِاخْتِلَاطِ، وَكَانَتْ وَفَاةُ الْجُرَيْرِيِّ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، وَاخْتَلَطَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْآجُرِّيُّ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ: مَنْ أَدْرَكَ أَيُّوبَ فَسَمَاعُهُ مِنَ الْجُرَيْرِيِّ جَيِّدٌ. قُلْتُ: وَخَالِدٌ قَدْ أَدْرَكَ أَيُّوبَ فَإِنَّ أَيُّوبَ لَمَّا مَاتَ كَانَ خَالِدٌ الْمَذْكُورُ ابْنَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً.

قَوْلُهُ: (عَنْ طَرِيفٍ) بِالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَزْنُ عَظِيمٍ.

قَوْلُهُ: (أَبِي تَمِيمَةَ) بِالْمُثَنَّاةِ وَزْنُ عَظِيمَةٍ، هُوَ ابْنُ مُجَالِدٍ بِضَمِّ الْمِيمِ وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ الْهُجَيْمِيِّ بِالْجِيمِ مُصَغَّرٌ نِسْبَةً إِلَى بَنِي الْهُجَيْمِ بَطْنٌ مِنْ تَمِيمٍ وَكَانَ مَوْلَاهُمْ، وَهُوَ بَصْرِيٌّ مَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثُ، وَلَهُ حَدِيثٌ آخَرُ تَقَدَّمَ فِي الْأَدَبِ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ.

قَوْلُهُ: (شَهِدْتُ صَفْوَانَ) هُوَ ابْنُ مُحْرِزِ بْنِ زِيَادٍ التَّابِعِيُّ الثِّقَةُ الْمَشْهُورُ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ.

قَوْلُهُ (وَجُنْدُبًا) هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ الصَّحَابِيُّ الْمَشْهُورُ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى الْبَصْرَةِ. قَالَهُ الْكَلَابَاذِيُّ.

قَوْلُهُ: (وَأَصْحَابَهُ) أَيْ أَصْحَابَ صَفْوَانَ.

قَوْلُهُ (وَهُوَ) أَيْ جُنْدُبٌ (يُوصِيهِمْ) ذَكَرَهُ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ بِلَفْظِ شَهِدْتُ صَفْوَانَ وَأَصْحَابَهُ وَجُنْدُبًا يُوصِيهِمْ وَوَقَعَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحْرِزٍ عَنْ عَمِّهِ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ أَنَّ جُنْدُبَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بَعَثَ إِلَى عَسْعَسَ بْنِ سَلَامَةَ زَمَنَ فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: اجْمَعْ لِي نَفَرًا مِنْ إِخْوَانِي حَتَّى أُحَدِّثَهُمْ، فَذَكَرَ الْقِصَّةَ فِي تَحْدِيثِهِ لَهُمْ بِقِصَّةِ الَّذِي حَمَلَ عَلَى رَجُلٍ فَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَقَتَلَهُ، وَأَظُنُّ أَنَّ الْقِصَّتَيْنِ وَاحِدَةٌ، وَيَجْمَعُهُمَا أَنَّهُ حَذَّرَهُمْ مِنَ التَّعَرُّضِ لِقَتْلِ الْمُسْلِمِ، وَزَمَنُ فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ كَانَتْ عَقِبَ مَوْتِ يَزِيدَ ابْنِ مُعَاوِيَةَ. وَوَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ، عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ فَقَالَ: ائْتِنِي بِنَفَرٍ مِنْ قُرَّاءِ الْقُرْآنِ وَلْيَكُونُوا شُيُوخًا، قَالَ: فَأَتَيْتُهُ بِنَافِعِ بْنِ الْأَزْرَقِ، وَأَبِي بِلَالٍ مِرْدَاسٍ، وَنَفَرٍ مَعَهُمَا سِتَّةٌ أَوْ ثَمَانِيَةٌ، فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ الْحَدِيثَ. قُلْتُ: وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي تَمِيمَةَ أَنَّهُ انْطَلَقَ مَعَ جُنْدُبٍ إِلَى الْبَصْرَةِ فَقَالَ: هَلْ كُنْتَ تُدَارِسُ أَحَدًا الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَائْتِنِي بِهِمْ، قَالَ: فَأَتَيْتُهُ بِنَافِعٍ، وَأَبِي بِلَالٍ مِرْدَاسٍ، وَنَجْدَةَ، وَصَالِحِ بْنِ مِشْرَحٍ، فَأَنْشَأَ يُحَدِّثُ.

قُلْتُ: وَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ مِنْ رُءُوسِ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ خَرَجُوا إِلَى مَكَّةَ لِنَصْرِ ابْنِ الزُّبَيْرِ لَمَّا جَهَّزَ إِلَيْهِ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْجُيُوشَ، فَشَهِدُوا مَعَهُ الْحِصَارَ الْأَوَّلَ، فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْخَبَرُ بِمَوْتِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ سَأَلُوا ابْنَ الزُّبَيْرِ عَنْ قَوْلِهِ فِي عُثْمَانَ، فَأَثْنَى عَلَيْهِ فَغَضِبُوا وَفَارَقُوهُ، فَحَجُّوا. وَخَرَجَ نَجْدَةُ بِالْيَمَامَةِ، فَغَلَبَ عَلَيْهَا وَعَلَى بَعْضِ بِلَادِ الْحِجَازِ، وَخَرَجَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ بِالْعِرَاقِ فَدَامَتْ فِتْنَتُهُ مُدَّةً. وَأَمَّا أَبُو بِلَالٍ مِرْدَاسٌ فَكَانَ خَرَجَ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ قَبْلَ ذَلِكَ فَقَتَلَهُ.

قَوْلُهُ: (مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قُلْتُ: تَقَدَّمَ هَذَا الْمَتْنُ مِنْ حَدِيثِ جُنْدُبٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَعَ شَرْحِهِ فِي بَابِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ مِنْ كِتَابِ الرِّقَاقِ وَفِيهِ وَمَنْ رَايَا وَلَمْ يَقَعْ فِيهِ مَقْصُودُ هَذَا الْبَابِ.

قَوْلُهُ (وَمَنْ شَاقَّ شَقَّ

ص: 129

اللَّهُ عَلَيْهِ) كَذَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ، وَلِلسَّرْخَسِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي وَمَنْ يُشَاقِقْ يَشْقُقِ اللَّهُ عَلَيْهِ بِصِيغَةِ الْمُضَارَعَةِ وَبِفَكِّ الْقَافِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ زُهَيْرٍ التَّسَتُّرِيِّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ شَاهِينَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ وَمَنْ يُشَاقِقْ يَشُقُّ اللَّهُ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالُوا: أَوْصِنَا، فَقَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا يُنْتِنُ مِنَ الْإِنْسَانِ بَطْنُهُ) يَعْنِي بَعْدَ الْمَوْتِ، وَصَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ، عَنْ جُنْدُبٍ وَلَفْظُهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ أَوَّلَ مَا يُنْتِنُ مِنْ أَحَدِكُمْ إِذَا مَاتَ بَطْنُهُ.

قَوْلُهُ (فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَأْكُلَ إِلَّا طَيِّبًا فَلْيَفْعَلْ) فِي رِوَايَةِ صَفْوَانَ فَلَا يُدْخِلْ بَطْنَهُ إِلَّا طَيِّبًا هَكَذَا وَقَعَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مَوْقُوفًا، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ - هُوَ الْبَصْرِيُّ - عَنْ جُنْدُبٍ مَوْقُوفًا، وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ، وَسِيَاقُهُ يَحْتَمِلُ الرَّفْعَ وَالْوَقْفَ، فَإِنَّهُ صُدِّرَ بِقَوْلِهِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ سَمَّعَ. . الْحَدِيثَ وَاعْلَمُوا أَنَّ أَوَّلَ مَا يُنْتِنُ وَيُنْتِنُ بِنُونٍ وَمُثَنَّاةٍ وَضَمِّ أَوَّلِهِ مِنَ الرُّبَاعِيِّ وَمَاضِيهِ: أَنْتَنَ، وَنَتَنَ، وَالنَّتْنُ الرَّائِحَةُ الْكَرِيهَةُ.

قَوْلُهُ (وَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ بِمِلْءِ كَفٍّ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ يَحُولَ وَبِلَفْظِ مِلْءِ بِغَيْرِ مُوَحَّدَةٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَالْأَصِيلِيِّ: كَفِّهِ.

قَوْلُهُ (مِنْ دَمٍ هَرَاقَهُ) أَيْ صَبَّهُ (فَلْيَفْعَلْ) قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَقَعَ فِي رِوَايَتِنَا أَهْرَاقَهُ وَهُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِهَا. قُلْتُ: هِيَ لِمَنْ عَدَا أَبَا ذَرٍّ، كَذَا وَقَعَ هَذَا الْمَتْنُ أَيْضًا مَوْقُوفًا، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ جُنْدُبٍ مَوْقُوفًا، وَزَادَ الْحَسَنُ بَعْدَ قَوْلِهِ يُهْرِيقُهُ: كَأَنَّمَا يَذْبَحُ دَجَاجَةً، كُلَّمَا تَقَدَّمَ لِبَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَوَقَعَ مَرْفُوعًا عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ جُنْدُبٍ وَلَفْظُهُ: تَعْلَمُونَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا يَحُولَنَّ بَيْنَ أَحَدِكُمْ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ وَهُوَ يَرَاهَا مِلْءُ كَفِّ دَمٍ مِنْ مُسْلِمٍ أَهْرَاقَهُ بِغَيْرِ حِلِّهِ. وَهَذَا لَوْ لَمْ يَرِدْ مُصَرَّحًا بِرَفْعِهِ لَكَانَ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ بِالرَّأْيِ، وَهُوَ وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِقَتْلِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: فِي مَعْنَى قَوْلِهِ مِلْءِ كَفٍّ مِنْ دَمٍ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مِقْدَارِ دَمِ إِنْسَانٍ وَاحِدٍ، كَذَا قَالَ وَمِنْ أَيْنَ هَذَا الْحَصْرُ؟ وَالْمُتَبَادِرُ أَنَّ ذِكْرَ مِلْءِ الْكَفِّ كَالْمِثَالِ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ لَكَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ. وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي تَمِيمَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا يَحُولَنَّ بَيْنَ أَحَدِكُمْ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ. فَذَكَرَ نَحْوَ رِوَايَةِ الْجُرَيْرِيِّ وَزَادَ فِي آخِرِهِ: قَالَ: فَبَكَى الْقَوْمُ، فَقَالَ جُنْدُبٌ: لَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ قَطُّ قَوْمًا أَحَقَّ بِالنَّجَاةِ مِنْ هَؤُلَاءِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ.

قُلْتُ: وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي تَصْدِيرِهِ كَلَامِهِ بِحَدِيثِ مَنْ سَمَّعَ وَكَأَنَّهُ تَفَرَّسَ فِيهِمْ ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ وَلَقَدْ صَدَقَتْ فِرَاسَتُهُ؛ فَإِنَّهُمْ لَمَّا خَرَجُوا بَذَلُوا السَّيْفَ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَقَتَلُوا الرِّجَالَ وَالْأَطْفَالَ، وَعَظُمَ الْبَلَاءُ بِهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَتْ إِلَيْهِ الْإِشَارَةُ فِي كِتَابِ الْمُحَارِبِينَ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْمُشَاقَّةُ فِي اللُّغَةِ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الشِّقَاقِ وَهُوَ الْخِلَافُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنِ الْقَوْلِ الْقَبِيحِ فِي الْمُؤْمِنِينَ وَكَشْفِ مسَاوِيهِمْ وَعُيُوبِهِمْ، وَتَرْكُ مُخَالَفَةِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ، وَالنَّهْيُ عَنْ إِدْخَالِ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ وَالْإِضْرَارِ بِهِمْ، قَالَ صَاحِبُ الْعَيْنِ: شَقَّ الْأَمْرُ عَلَيْكَ مَشَقَّةً أَضَرَّ بِكَ، انْتَهَى. وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ جَعَلَ الْمَشَقَّةَ وَالْمُشَاقَّةَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ فَقَدْ جَوَّزَ الْخَطَّابِيُّ فِي هَذَا أَنْ تَكُونَ الْمَشَقَّةُ مِنَ الْإِضْرَارِ فَيَحْمِلُ النَّاسَ عَلَى مَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ، وَأَنْ تَكُونَ مِنَ الشِّقَاقِ وَهُوَ الْخِلَافُ وَمُفَارَقَةُ الْجَمَاعَةِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي شِقٍّ أَيْ نَاحِيَةٍ عَنِ الْجَمَاعَةِ، وَرَجَّحَ الدَّاوُدِيُّ الثَّانِي، وَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَوَقَعَ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ. قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: مَنْ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ

ص: 130

صلى الله عليه وسلم جُنْدُبٌ؟ قَالَ: نَعَمْ جُنْدُبٌ انْتَهَى.

وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَذْكُورُ هُوَ الْمُصَنِّفُ، وَالسَّائِلُ لَهُ الْفَرَبْرِيُّ، وَقَدْ خَلَتْ رِوَايَةُ النَّسَفِيِّ عَنْ ذَلِكَ. وَقَدْ سِيقَ مِنَ الطُّرُقِ الَّتِي أَوْرَدْتُهَا مَا يُصَرِّحُ بِأَنَّ جُنْدُبًا هُوَ الْقَائِلُ، وَلَيْسَ فِيمَنْ سُمِّيَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ غَيْرُهُ.

‌10 - بَاب الْقَضَاءِ وَالْفُتْيَا فِي الطَّرِيقِ

وَقَضَى يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ فِي الطَّرِيقِ، وَقَضَى الشَّعْبِيُّ عَلَى بَابِ دَارِهِ

7153 -

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَارِجَانِ مِنْ الْمَسْجِدِ، فَلَقِيَنَا رَجُلٌ عِنْدَ سُدَّةِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَتَى السَّاعَةُ؟ فقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ فَكَأَنَّ الرَّجُلَ اسْتَكَانَ. ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَبِيرَ صِيَامٍ وَلَا صَلَاةٍ وَلَا صَدَقَةٍ، وَلَكِن أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. قَالَ: أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْقَضَاءِ وَالْفُتْيَا فِي الطَّرِيقِ) كَذَا سَوَّى بَيْنَهُمَا، وَالْأَثَرَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي التَّرْجَمَةِ صَرِيحَانِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَضَاءِ، وَالْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ يُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ الْفُتْيَا فَيَلْحَقُ بِهِ الْحُكْمُ.

قَوْلُهُ (وَقَضَى يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ) بِفَتْحِ الْمِيمِ هُوَ التَّابِعِيُّ الْجَلِيلُ الْمَشْهُورُ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَانْتَقَلَ إِلَى مَرْوَ بِأَمْرِ الْحَجَّاجِ، فَوَلِيَ قَضَاءَ مَرْوَ لِقُتَيْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْفَصَاحَةِ وَالْوَرَعِ. قَالَ الْحَاكِمُ: قَضَى فِي أَكْثَرِ مُدُنِ خُرَاسَانَ، وَكَانَ إِذَا تَحَوَّلَ إِلَى بَلَدٍ اسْتُخْلِفَ فِي الَّتِي انْتَقَلَ مِنْهَا. قَوْلُهُ (فِي الطَّرِيقِ) وَصَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ عَنْ شَبَابَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ يَسَارٍ قَالَ: رَأَيْتُ يَحْيَى بْنَ يَعْمَرَ عَلَى الْقَضَاءِ بِمَرْوَ، فَرُبَّمَا رَأَيْتُهُ يَقْضِي فِي السُّوقِ وَفِي الطَّرِيقِ، وَرُبَّمَا جَاءَهُ الْخَصْمَانِ وَهُوَ عَلَى حِمَارٍ فَيَقْضِي بَيْنَهُمَا. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدِ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ أَنَّهُ رَأَى يَحْيَى بْنَ يَعْمَرَ يَقْضِي فِي الطَّرِيقِ.

قَوْلُهُ: (وَقَضَى الشَّعْبِيُّ عَلَى بَابِ دَارِهِ) قَالَ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ: أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْرَائِيلَ: رَأَيْتُ الشَّعْبِيَّ يَقْضِي عِنْدَ بَابِ الْفِيلِ بِالْكُوفَةِ. وَأَخْرَجَ الْكَرَابِيسِيُّ فِي الْقَضَاءِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ عَلِيًّا قَضَى فِي السُّوقِ. وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّهُ مَرَّ عَلَى قَوْمٍ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَتَظَلَّمُوا مَنْ كَرَى لَهُمْ، فَنَزَلَ فَقَضَى بَيْنَهُمْ، ثُمَّ رَكِبَ، فَمَضَى إِلَى مَنْزِلِهِ.

ثم ذكر حَدِيثَ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ أَنَسٍ فِي الَّذِي سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَتَى السَّاعَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سَالِمٍ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ مَشْرُوحًا، وَقَوْلُهُ هُنَا: فَلَقِينَا رَجُلٌ عِنْدَ سُدَّةِ الْمَسْجِدِ السُّدَّةُ بِضَمِّ السِّينِ وَتَشدِيدِ الدَّالِ الْمُهْمَلَتَيْنِ هِيَ بَابُ الدَّارِ وَقِيلَ لِإِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: السُّدِّيُّ لِأَنَّهُ كَانَ يَبِيعُ الْمَقَانِعَ عِنْدَ سُدَّةِ مَسْجِدِ الْكُوفَةِ وَهِيَ مَا يَبْقَى مِنَ الطَّاقِ الْمَسْدُودِ، وَقِيلَ هِيَ الْمِظَلَّةُ عَلَى الْبَابِ لِوِقَايَةِ الْمَطَرِ وَالشَّمْسِ وَقِيلَ هِيَ الْبَابُ نَفْسُهُ وَقِيلَ عَتَبَتُهُ، وَقِيلَ السَّاحَةُ أَمَامَ الْبَابِ. وَقَوْلُهُ مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ عَدَّدْتُ وَهُوَ بِالتَّشْدِيدِ مِثْلُ {جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ} أَيْ هَيَّأَهُ، وَقَوْلُهُ اسْتَكَانَ أَيْ خَضَعَ وَهُوَ اسْتَفْعَلَ مِنَ السُّكُونِ الدَّالِّ عَلَى الْخُضُوعِ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: لَعَلَّ سَبَبَ سُؤَالِ الرَّجُلِ عَنِ السَّاعَةِ إِشْفَاقًا مِمَّا يَكُونُ فِيهَا، وَلَوْ سَأَلَ اسْتِعْجَالًا لَدَخَلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا} وَقَوْلُهُ كَبِيرَ عَمَلٍ بِالْمُوَحَّدَةِ لِلْأَكْثَرِ وَبِالْمُثَلَّثَةِ لِبَعْضِهِمْ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي حَدِيثِ أَنَسٍ جَوَازُ سُكُوتِ الْعَالِمِ عَنْ جَوَابِ السَّائِلِ وَالْمُسْتَفْتِي إِذَا كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ لَا تُعْرَفُ، أَوْ كَانَتْ

ص: 131

مِمَّا لَا حَاجَةَ بِالنَّاسِ إِلَيْهَا، أَوْ كَانَتْ مِمَّا يُخْشَى مِنْهَا الْفِتْنَةُ. أَوْ سُوءُ التَّأْوِيلِ. وَنُقِلَ عَنِ الْمُهَلَّبِ الْفُتْيَا فِي الطَّرِيقِ وَعَلَى الدَّابَّةِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ التَّوَاضُعِ، فَإِنْ كَانَتْ لِضَعِيفٍ فَهُوَ مَحْمُودٌ وَإِنْ كَانَتْ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا أَوْ لِمَنْ يُخْشَى لِسَانُهُ فَهُوَ مَكْرُوهٌ.

قُلْتُ: وَالْمِثَالُ الثَّانِي لَيْسَ بِجَيِّدٍ، فَقَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمَسْئُولِ مِنْ ذَلِكَ ضَرَرٌ، فَيُجِيبُ لِيَأْمَنَ شَرَّهُ فَيَكُونُ هَذِهِ الْحَالَةَ مَحْمُودًا قَالَ: وَاخْتُلِفَ فِي الْقَضَاءِ سَائِرًا أَوْ مَاشِيًا. فَقَالَ أَشْهَبُ: لَا بَأْسَ بِهِ إِذَا لَمْ يَشْغَلْهُ عَنِ الْفَهْمِ. وَقَالَ سَحْنُونٌ: لَا يَنْبَغِي. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: لَا بَأْسَ بِمَا كَانَ يَسِيرًا، وَأَمَّا الِابْتِدَاءُ بِالنَّظَرِ وَنَحْوِهِ فَلَا. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَهُوَ حَسَنٌ. وَقَوْلُ أَشْهَبَ أَشْبَهُ بِالدَّلِيلِ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ فِي الطَّرِيقِ فِيمَا يَكُونُ غَامِضًا كَذَا أَطْلَقَ وَالْأَشْبَهُ التَّفْصِيلُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَا تَصِحُّ حُجَّةُ مَنْ مَنَعَ الْكَلَامَ فِي الْعِلْمِ فِي الطَّرِيقِ، وَأَمَّا الْحِكَايَةُ الَّتِي تُحْكَى عَنْ مَالِكٍ فِي تَعْزِيرِهِ الْحَاكِمَ الَّذِي سَأَلَهُ فِي الطَّرِيقِ، ثُمَّ حَدَّثَهُ، فَكَانَ يَقُولُ: وَدِدْتُ لَوْ زَادَنِي سِيَاطًا وَزَادَنِي تَحْدِيثًا، فَلَا يَصِحُّ. ثُمَّ قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ حَالَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَحَالَةِ غَيْرِهِ، فَإِنَّ غَيْرَهُ فِي مَظِنَّةِ أَنْ يَتَشَاغَلَ بِلَغْوِ الطُّرُقَاتِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ تَرْجَمَةُ الْفُتْيَا عَلَى الدَّابَّةِ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عِنْدَ مُسْلِمٍ: وَطَافَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَاحِلَتِهِ لِيَرَاهُ النَّاسُ وَلِيُشْرِفَ لَهُمْ لِيَسْأَلُوهُ وَالْأَحَادِيثُ فِي سُؤَالِ الصَّحَابَةِ وَهُوَ سَائِرٌ مَاشِيًا وَرَاكِبًا كَثِيرَةٌ.

‌11 - بَاب مَا ذُكِرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ لَهُ بَوَّابٌ

7154 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، عن أَنَس بْن مَالِكٍ يَقُولُ لِامْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِهِ: تَعْرِفِينَ فُلَانَةَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِهَا، وَهِيَ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ، فَقَالَ: اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي. فَقَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّي، فَإِنَّكَ خِلْوٌ مِنْ مُصِيبَتِي. قَالَ: فَجَاوَزَهَا وَمَضَى، فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ فَقَالَ: مَا قَالَ لَكِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتْ: مَا عَرَفْتُهُ. قَالَ: إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: فَجَاءَتْ إِلَى بَابِهِ فَلَمْ تَجِدْ عَلَيْهِ بَوَّابًا. فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا عَرَفْتُكَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الصَّبْرَ عِنْدَ أَوَّلِ صَدْمَةٍ. قوله (بَاب مَا ذُكِرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ لَهُ بَوَّابٌ) ذكر فيه حَدِيثَ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي جَاءَتْ تَعْتَذِرُ عَنْ قَوْلِهَا: إِلَيْكَ عَنِّي لَمَّا أَمَرَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَوَجَدَهَا تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ - بِالصَّبْرِ، فَفِي الْحَدِيثِ: فَجَاءَتْ إِلَى بَابِهِ فَلَمْ ت جِدْ عَلَيْهِ بَوَّابًا.

قَوْلُهُ: (إِنَّ الصَّبْرَ عِنْدَ أَوَّلِ صَدْمَةٍ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ هُنَا: إِنَّ الصَّبْرَ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ زِيَارَةِ الْقُبُورِ مِنْ كِتَابِ الْجَنَائِزِ وَأَنَّ الْمَرْأَةَ لَمْ تُسَمَّ، وَأَنَّ الْمَقْبُورَ كَانَ وَلَدَهَا وَلَمْ يُسَمَّ أَيْضًا، وَأَنَّ الَّذِي ذَكَرَ لَهَا أَنَّ الَّذِي خَاطَبَهَا هُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ. وَوَقَعَ هُنَا أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ لِامْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِهِ: هَلْ تَعْرِفِينَ فُلَانَةَ، يَعْنِي صَاحِبَةَ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَلَمْ أَعْرِفِ اسْمَ الْمَرْأَةِ الَّتِي مِنْ أَهْلِ أَنَسٍ أَيْضًا، وَقَوْلُهَا: إِلَيْكَ عَنِّي أَيْ كُفَّ نَفْسَكَ وَدَعْنِي، وَقَوْلُهَا فَإِنَّكَ خِلْوٌ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ أَيْ خَالٍ مِنْ هَمِّي. قَالَ الْمُهَلَّبُ: لَمْ يَكُنْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَوَّابٌ رَاتِبٌ، يَعْنِي: فَلَا يَرِدُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَنَاقِبِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ كَانَ بَوَّابًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا جَلَسَ عَلَى الْقُفِّ، قَالَ: فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي شُغْلٍ مِنْ أَهْلِهِ وَلَا انْفِرَادٍ لِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ أَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ حِجَابَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ وَيَبْرُزُ لِطَالِبِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: دَلَّ حَدِيثُ عُمَرَ حِينَ اسْتَأْذَنَ لَهُ الْأَسْوَدُ

ص: 132

- يَعْنِي فِي قِصَّةِ حَلِفِهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَى نِسَائِهِ شَهْرًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي النِّكَاحِ - أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي وَقْتِ خَلْوَتِهِ بِنَفْسِهِ يَتَّخِذُ بَوَّابًا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَاسْتَأْذَنَ عُمَرُ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى قَوْلِهِ: يَا رَبَاحُ اسْتَأْذِنْ لِي.

قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ اسْتِئْذَانِ عُمَرَ أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يَكُونَ وَجَدَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ ابْنَتِهِ، فَأَرَادَ أَنْ يَخْتَبِرَ ذَلِكَ بِاسْتِئْذَانِهِ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَذِنَ لَهُ اطْمَأَنَّ وَتَبَسَّطَ فِي الْقَوْلِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.

وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ مُلَخّصًا لِمَا تَقَدَّمَ: مَعْنَى قَوْلِهِ لَمْ يَجِدْ عَلَيْهِ بَوَّابًا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَوَّابٌ رَاتِبٌ، أَوْ فِي حُجْرَتِهِ الَّتِي كَانَتْ مَسْكَنًا لَهُ، أَوْ لَمْ يَكُنِ الْبَوَّابُ بِتَعْيِينِهِ بَلْ بَاشَرَا ذَلِكَ بِأَنْفُسِهِمَا، يَعْنِي أَبَا مُوسَى، وَرَبَاحًا.

قُلْتُ: الْأَوَّلُ كَافٍ، وَفِي الثَّانِي نَظَرٌ لِأَنَّهُ إِذَا انْتَفَى فِي الْحُجْرَةِ مَعَ كَوْنِهَا مَظِنَّةَ الْخَلْوَةِ فَانْتِفَاؤُهُ فِي غَيْرِهَا أَوْلَى، وَإِنْ أَرَادَ إِثْبَاتَ الْبَوَّابِ فِي الْحُجْرَةِ دُونَ غَيْرِهَا كَانَ بِخِلَافِ حَدِيثِ الْبَابِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ إِنَّمَا جَاءَتْ إِلَيْهِ وَهُوَ فِي مَنْزِلِ سَكَنِهِ فَلَمْ تَجِدْ عَلَيْهِ بَوَّابًا، وَفِي الثَّالِثِ أَيْضًا نَظَرٌ لِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُمَا فَعَلَا ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمَا بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَكِنَّ تَقْرِيرَهُ لَهُمَا عَلَى ذَلِكَ يُفِيدُ مَشْرُوعِيَّتَهُ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ الْجَوَازُ مُطْلَقًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَيَّدَ بِالْحَاجَةِ وَهُوَ الْأَوْلَى، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْحِجَابِ لِلْحُكَّامِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ: يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ لَا يَتَّخِذَ حَاجِبًا، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى جَوَازِهِ، وَحُمِلَ الْأَوَّلُ عَلَى زَمَنِ سُكُونِ النَّاسِ وَاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى الْخَيْرِ وَطَوَاعِيَتِهِمْ لِلْحَاكِمِ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ حِينَئِذٍ لِيُرَتِّبَ الْخُصُومَ وَيَمْنَعَ الْمُسْتَطِيلَ وَيَدْفَعَ الشِّرِّيرَ، وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ قَالَ: الَّذِي أَحْدَثَهُ بَعْضُ الْقُضَاةِ مِنْ شِدَّةِ الْحُجَّابِ وَإِدْخَالِ بَطَائِقِ الْخُصُومِ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ السَّلَفِ انْتَهَى. فَأَمَّا اتِّخَاذُ الْحَاجِبِ فَقَدْ ثَبَتَ فِي قِصَّةِ عُمَرَ فِي مُنَازَعَةِ الْعَبَّاسِ وَعَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ لَهُ حَاجِبٌ يُقَالُ لَهُ: يَرْفَا، وَمَضَى ذَلِكَ فِي فَرْضِ الْخُمُسِ وَاضِحًا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَيَّدَ جَوَازَهُ بِغَيْرِ وَقْتِ جُلُوسِهِ لِلنَّاسِ لِفَصْلِ الْأَحْكَامِ. وَمِنْهُمْ مَنْ عَمَّمَ الْجَوَازَ كَمَا مَضَى.

وَأَمَّا الْبَطَائِقُ فَقَالَ ابْنُ التِّينِ: إِنْ كَانَ مُرَادُهُ الْبَطَائِقَ الَّتِي فِيهَا الْإِخْبَارُ بِمَا جَرَى فَصَحِيحٌ، يَعْنِي أَنَّهُ حَادِثٌ، قَالَ: وَأَمَّا الْبَطَائِقُ الَّتِي تُكْتَبُ لِلسَّبَقِ لِيَبْدَأَ بِالنَّظَرِ فِي خُصُومَةِ مَنْ سَبَقَ فَهُوَ مِنَ الْعَدْلِ فِي الْحُكْمِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: وَظِيفَةُ الْبَوَّابِ أَوِ الْحَاجِبِ أَنْ يُطَالِعَ الْحَاكِمَ بِحَالِ مَنْ حَضَرَ، وَلَا سِيَّمَا مِنَ الْأَعْيَانِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَجِيءَ مُخَاصِمًا وَالْحَاكِمُ يَظُنُّ أَنَّهُ جَاءَ زَائِرًا فَيُعْطِيَهُ حَقَّهُ مِنَ الْإِكْرَامِ الَّذِي لَا يَجُوزُ لِمَنْ يَجِيءُ مُخَاصِمًا وَإِيصَالُ الْخَبَرِ لِلْحَاكِمِ بِذَلِكَ إِمَّا بِالْمُشَافَهَةِ وَإِمَّا بِالْمُكَاتَبَةِ وَيُكْرَهُ دَوَامُ الِاحْتِجَابِ، وَقَدْ يَحْرُمُ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ أَبِي مَرْيَمَ الْأَسَدِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ شَيْئًا، فَاحْتَجَبَ عَنْ حَاجَتِهِمِ احْتَجَبَ اللَّهُ عَنْ حَاجَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ كَانَ حَاكِمًا بَيْنَ النَّاسِ فَاحْتَجَبَ عَنْهُمْ لِغَيْرِ عُذْرٍ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَأْخِيرِ إِيصَالِ الْحُقُوقِ أَوْ تَضْيِيعِهَا. وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُ الْأَسْبَقِ فَالْأَسْبَقِ وَالْمُسَافِرِ عَلَى الْمُقِيمِ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ خَشِيَ فَوَاتَ الرُّفْقَةِ، وَأَنَّ مَنِ اتَّخَذَ بَوَّابًا أَوْ حَاجِبًا أَنْ يَتَّخِذَهُ ثِقَةً عَفِيفًا أَمِينًا عَارِفًا حَسَنَ الْأَخْلَاقِ عَارِفًا بِمَقَادِيرِ النَّاسِ.

‌12 - بَاب الْحَاكِمِ يَحْكُمُ بِالْقَتْلِ عَلَى مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ دُونَ الْإِمَامِ الَّذِي فَوْقَهُ

7155 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ الذُّهْلِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأنصاري قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ ثُمَامَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: إِنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ كَانَ يَكُونُ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الشُّرَطة مِنْ الْأَمِيرِ.

ص: 133

7156 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى هُوَ الْقَطَّانُ عَنْ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ حَدَّثَنَا أَبُو بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ وَأَتْبَعَهُ بِمُعَاذٍ

7157 -

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصَّبَّاحِ حَدَّثَنَا مَحْبُوبُ بْنُ الْحَسَنِ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ رَجُلًا أَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ فَأَتَى مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَهُوَ عِنْدَ أَبِي مُوسَى فَقَالَ مَا لِهَذَا قَالَ أَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ قَالَ لَا أَجْلِسُ حَتَّى أَقْتُلَهُ قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْحَاكِمِ يَحْكُمُ بِالْقَتْلِ عَلَى مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ دُونَ الْإِمَامِ الَّذِي فَوْقَهُ) أَيِ الَّذِي وَلَّاهُ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى اسْتِئْذَانِهِ فِي خُصُوصِ ذَلِكَ. ذَكَرَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ: الْحَدِيثُ الْأَوَّلُّ:

قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ) قَالَ الْحَاكِمُ، وَالْكَلَابَاذِيُّ: أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ، فَلَمْ يُصَرِّحْ بِهِ، وَإِنَّمَا يَقُولُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ وَتَارَةً مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَيَنْسُبُهُ لِجَدِّهِ وَتَارَةً حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ فَكَأَنَّهُ نَسَبَهُ إِلَى جَدِّ أَبِيهِ لِأَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ فَارِسٍ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ وَقَعَ مَنْسُوبًا فِي حَدِيثٍ آخَرَ أَخْرَجَهُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ فِي الطِّبِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ وَهْبِ بْنِ عَطِيَّةَ فَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ الذُّهْلِيُّ وَكَذَا هُوَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ، وَأَخْرَجَ ابْنُ الْجَارُودِ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَهْبٍ الْمَذْكُورِ، وَقَالَ خَلَفٌ فِي الْأَطْرَافِ: هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ جَبَلَةَ الرَّافِقِيُّ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فَقَالَ: عِنْدِي أَنَّهُ الذُّهْلِيُّ. وَقَالَ الْمِزِّيُّ فِي التَّهْذِيبِ: قَوْلُ خَلَفٍ إِنَّهُ الرَّافِقِيُّ لَيْسَ بِشَيْءٍ. قُلْتُ: قَدْ ذَكَرَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ فِي شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، مُحَمَّدَ بْنَ خَالِدِ بْنِ جَبَلَةَ، لَكِنْ عَرَّفَهُ بِرِوَايَتِهِ عَنْهُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، وَالْحَدِيثُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ وَقَعَ فِي التَّوْحِيدِ لَكِنْ قَالَ فِيهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ فَقَطْ وَلَمْ يَنْسُبْهُ لِجَدِّهِ جَبَلَةَ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْمُوَحَّدَةِ، وَلَا لِبَلَدِهِ الرَّافِقَةِ وَهِيَ بِفَاءٍ ثُمَّ قَافٍ.

وَقَدْ ذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا فِي شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، مُحَمَّدَ بْنَ خَالِدٍ الرَّافِقِيَّ، وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ عَنْهُ فَنَسَبَهُ لِجَدِّهِ فَقَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَبَلَةَ، فَقَالَ الْمِزِّيُّ فِي تَرْجَمَتِهِ: هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ جَبَلَةَ الرَّافِقِيُّ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى بْنِ أَعْيَنَ حَدِيثًا فَقَالَ الْمِزِّيُّ فِي التَّهْذِيبِ: قِيلَ هُوَ الرَّافِقِيُّ، وَقِيلَ هُوَ الذُّهْلِيُّ وَهُوَ أَشْبَهُ، وَسَقَطَ مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ مِنْ هَذَا السَّنَدِ مِنْ أَطْرَافِ أَبِي مَسْعُودٍ فَقَالَ (خ) فِي الْأَحْكَامِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ نَفْسِهِ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ: كَذَا قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ، يَعْنِي وَالصَّوَابُ مَا وَقَعَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ أَنَّ بَيْنَ الْبُخَارِيِّ وَبَيْنَ الْأَنْصَارِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَاسِطَةً وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ الْمَذْكُورُ، وَبِهِ جَزَمَ خَلَفٌ فِي الْأَطْرَافِ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُ كَوْنَهُ عَنِ الذُّهْلِيِّ أَنَّ التِّرْمِذِيَّ أَخْرَجَهُ فِي الْمَنَاقِبِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى وَهُوَ الذُّهْلِيُّ بِهِ.

قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ) هَكَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ حَدَّثَنَا الْأَنْصَارِيُّ مُحَمَّدٌ فَقَدَّمَ النِّسْبَةَ عَلَى الِاسْمِ وَلَمْ يُسَمِّ أَبَاهُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي أَبِي) فِي رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ حَدَّثَنَا وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُثَنَّى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ، وَثُمَامَةُ شَيْخُهُ هُوَ عَمُّ أَبِيهِ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، عَنِ الْأَنْصَارِيِّ بِلَا وَاسِطَةٍ عِدَّةَ أَحَادِيثَ فِي الزَّكَاةِ وَالْقِصَاصِ وَغَيْرِهِمَا، وَرُوِيَ عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ فِي عِدَّةٍ فِي الِاسْتِسْقَاءِ وَفِي بَدْءِ الْخَلْقِ، وَفِي شُهُودِ الْمَلَائِكَةِ بَدْرًا وَغَيْرِهَا.

قَوْلُهُ (إنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ) زَادَ فِي رِوَايَةِ الْمَرْوَزِيِّ ابْنَ عُبَادَةَ وَهُوَ الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ الَّذِي كَانَ

ص: 134

وَالِدُهُ رَئِيسَ الْخَزْرَجِ. وَصَنِيعُ التِّرْمِذِيِّ يُوهِمُ أَنَّهُ قَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَإِنَّهُ أَخْرَجَ حَدِيثَ الْبَابِ فِي مَنَاقِبِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَلَا يُغْتَرُّ بِذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (كَانَ يَكُونُ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: فَائِدَةُ تَكْرَارِ لَفْظِ الْكَوْنِ إِرَادَةُ بَيَانِ الدَّوَامِ وَالِاسْتِمْرَارِ انْتَهَى. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ حِبَّانَ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَأَبِي نُعَيْمٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ طُرُقٍ عَنِ الْأَنْصَارِيِّ بِلَفْظِ كَانَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَظَهَرَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ.

قَوْلُهُ: (بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الشُّرُطَةِ مِنَ الْأَمِيرِ) زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْزُوقٍ، عَنِ الْأَنْصَارِيِّ لِمَا يُنَفِّذُ مِنْ أُمُورِهِ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ مُدْرَجَةٌ مِنْ كَلَامِ الْأَنْصَارِيِّ، بَيَّنَ ذَلِكَ التِّرْمِذِيُّ، فَإِنَّهُ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْزُوقٍ إِلَى قَوْلِهِ الْأَمِيرِ ثُمَّ قَالَ قَالَ الْأَنْصَارِيُّ: لِمَا يَلِي مِنْ أُمُورِهِ وَقَدْ خَلَتْ سَائِرُ الرِّوَايَاتِ عَنْهَا، وَقَدْ تَرْجَمَ ابْنُ حِبَّانَ لِهَذَا الْحَدِيثِ احْتِرَازُ الْمُصْطَفَى مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي مَجْلِسِهِ إِذَا دَخَلُوا عَلَيْهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَهِمَ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ لِقَيْسِ بْنِ سَعْدٍ عَلَى سَبِيلِ الْوَظِيفَةِ الرَّاتِبَةِ، وَهُوَ الَّذِي فَهِمَهُ الْأَنْصَارِيُّ رَاوِي الْحَدِيثِ؛ لَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ مَا زَادَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فَقَالَ: حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ خَلَفٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنِ الْأَنْصَارِيِّ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ ثُمَامَةَ. قَالَ الْأَنْصَارِيُّ: وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَانَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ فِي مُقَدِّمَتِهِ بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الشُّرْطَةِ مِنَ الْأَمِيرِ، فَكَلَّمَ سَعْدٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي قَيْسٍ أَنْ يَصْرِفَهُ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي وَضَعَهُ فِيهِ مَخَافَةَ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى شَيْءٍ فَصَرَفَهُ عَنْ ذَلِكَ ثُمَّ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنْ أَبِي يَعْلَى، وَمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سُوَيْدٍ جَمِيعًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنِ الْأَنْصَارِيِّ بِمِثْلِ لَفْظِ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْزُوقٍ بِدُونِ الزِّيَادَةِ الَّتِي فِي آخِرِهِ، قَالَ: وَلَمْ يَشُكَّ فِي كَوْنِهِ عَنْ أَنَسٍ.

قُلْتُ: وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ آدَمَ ابْنِ بِنْتِ السَّمَّانِ، عَنِ الْأَنْصَارِيِّ لَكِنْ لَمْ يَنْفَرِدِ الْهَيْثَمُ وَلَا شَيْخُهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى بِالزِّيَادَةِ الْمَذْكُورَةِ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَنْدَهْ فِي الْمَعْرِفَةِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ، عَنِ الْأَنْصَارِيِّ بِطُولِهِ، فَكَأَنَّ الْقَدْرَ الْمُحَقَّقَ وَصْلُهُ مِنَ الْحَدِيثِ هُوَ الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ وَأَكْثَرُ مَنْ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ فَكَانَ الْأَنْصَارِيُّ يَتَرَدَّدُ فِي وَصْلِهَا، وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهَا فَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ لِقَيْسِ بْنِ سَعْدٍ إِلَّا فِي تِلْكَ الْمَرَّةِ وَلَمْ يَسْتَمِرَّ مَعَ ذَلِكَ فِيهَا. وَالشُّرُطَةُ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ وَالنِّسْبَةُ إِلَيْهَا شُرُطِيٌّ بِضَمَّتَيْنِ، وَقَدْ تُفْتَحُ الرَّاءُ فِيهِمَا هُمْ أَعْوَانُ الْأَمِيرِ، وَالْمُرَادُ بِصَاحِبِ الشُّرُطَةِ كَبِيرُهُمْ، فَقِيلَ سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ رُذَالَةُ الْجُنْدِ، وَمِنْهُ فِي حَدِيثِ الزَّكَاةِ: وَلَا الشُّرَطِ اللَّئِيمَةِ أَيْ رَدِيءِ الْمَالِ، وَقِيلَ لِأَنَّهُمُ الْأَشِدَّاءُ الْأَقْوِيَاءُ مِنَ الْجُنْدِ، ومِنْهُ فِي حَدِيثِ الْمَلَاحِمِ وَتُشْتَرَطُ شُرُطَةٌ لِلْمَوْتِ أَيْ مُتَعَاقِدُونَ عَلَى أَنْ لَا يَفِرُّوا وَلَوْ مَاتُوا. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: شُرَطُ كُلِّ شَيْءٍ خِيَارُهُ وَمِنْهُ الشُّرَطُ لِأَنَّهُمْ نُخْبَةُ الْجُنْدِ. وَقِيلَ هُمْ أَوَّلُ طَائِفَةٍ تَتَقَدَّمُ الْجَيْشَ وَتَشْهَدُ الْوَقْعَةَ، وَقِيلَ سُمُّوا شُرَطًا؛ لِأَنَّ لَهُمْ عَلَامَاتٍ يُعْرَفُونَ بِهَا مِنْ هَيْئَةٍ وَمَلْبَسٍ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْأَصْمَعِيِّ، وَقِيلَ لِأَنَّهُمْ أَعَدُّوا أَنْفُسَهُمْ لِذَلِكَ.

يُقَالُ: أَشَرَطَ فُلَانٌ نَفْسَهُ لِأَمْرِ كَذَا إِذَا أَعَدَّهَا قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، وَقِيلَ مَأْخُوذٌ مِنَ الشَّرِيطِ وَهُوَ الْحَبْلُ الْمُبْرَمُ لِمَا فِيهِ مِنَ الشِّدَّةِ. وَقَدِ اسْتُشْكِلَتْ مُطَابَقَةُ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ، فَأَشَارَ الْكِرْمَانِيُّ إِلَى أَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ دُونَ الْحَاكِمِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ عِنْدَ، وَهَذَا جَيِّدٌ إِنْ سَاعَدَتْهُ اللُّغَةُ، وَعَلَى هَذَا فَكَأَنَّ قَيْسًا كَانَ مِنْ وَظِيفَتِهِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَمْرِهِ سَوَاءً كَانَ خَاصًّا أَمْ عَامًا، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ دُونَ بِمَعْنَى غَيْرَ قَالَ: وَهُوَ الَّذِي يَحْتَمِلُهُ الْحَدِيثُ الثَّانِي لَا غَيْرَ. قُلْتُ: فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ اسْتَعْمَلَ فِي التَّرْجَمَةِ دُونَ فِي مَعْنَيَيْنِ. وَفِي الْحَدِيثِ تَشْبِيهُ مَا مَضَى بِمَا حَدَثَ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الشُّرُطَةِ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فِي الْعَهْدِ النَّبَوِيِّ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْعُمَّالِ وَإِنَّمَا حَدَثَ فِي دَوْلَةِ بَنِي أُمَيَّةَ فَأَرَادَ أَنَسٌ تَقْرِيبَ

ص: 135

حَالِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ عِنْدَ السَّامِعِينَ فَشَبَّهَهُ بِمَا يَعْهَدُونَهُ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي.

قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ وَأَتْبَعَهُ بِمُعَاذٍ) هَذِهِ قِطْعَةٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ تَقَدَّمَ فِي اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّينَ بِهَذَا السَّنَدِ وَأَوَّلُهُ أَقْبَلْتُ وَمَعِيَ رَجُلَانِ مِنَ الْأَشْعَرِيِّينَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ بَعْدَ قَوْلِهِ لَا نَسْتَعْمِلُ عَلَى عَمَلِنَا مَنْ أَرَادَهُ وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ يَا أَبَا مُوسَى، ثُمَّ أَتْبَعَهُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ وَفِيهِ قِصَّةُ الْيَهُودِيِّ الَّذِي أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ، وَهِيَ الَّتِي اقْتَصَرَ عَلَيْهَا هُنَا بَعْدَ هَذَا.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ.

قَوْلُهُ: (مَحْبُوبٌ) بِمُهْمَلَةٍ وَمُوَحَّدَتَيْنِ ابْنُ الْحَسَنِ بْنِ هِلَالٍ، بَصْرِيٌّ وَاسْمُهُ مُحَمَّدٌ وَمَحْبُوبٌ لَقَبٌ لَهُ، وَهُوَ بِهِ أَشْهَرُ، وَهُوَ مُخْتَلَفٌ في الِاحْتِجَاجُ بِهِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ وَهُوَ فِي حُكْمِ الْمُتَابَعَةِ؛ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ فِي اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّينَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا خَالِدٌ) هُوَ الْحَذَّاءُ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ رَجُلًا أَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ) قَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ هُنَاكَ مُسْتَوْفًى. قَوْلُهُ (لَا أَجْلِسُ حَتَّى أَقْتُلَهُ قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) قَدْ تَقَدَّمَ هُنَاكَ فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ وَبِذَلِكَ يَتِمُّ مُرَادُ التَّرْجَمَةِ وَالرَّدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْحُدُودَ لَا يُقِيمُهَا عُمَّالُ الْبِلَادِ إِلَّا بَعْدَ مُشَاوَرَةِ الْإِمَامِ الَّذِي وَلَّاهُمْ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْبَابِ، فَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ حُكْمُهُ حُكْمُ الْوَكِيلِ لَا يُطْلِقُ يَدَهُ إِلَّا فِيمَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ، وَحُكْمُهُ عِنْدَ غَيْرِهِمْ حُكْمُ الْوَصِيِّ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَيُطْلِقُ يَدَهُ عَلَى النَّظَرِ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ إِلَّا مَا اسْتُثْنِيَ. وَنَقَلَ الطَّحَاوِيُّ عَنْهُمْ أَنَّ الْحُدُودَ لَا يُقِيمُهَا إِلَّا أُمَرَاءُ الْأَمْصَارِ، وَلَا يُقِيمُهَا عَامِلُ السَّوَادِ وَلَا نَحْوُهُ. وَنَقَلَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمِيَاهِ بَلْ تُجْلَبُ إِلَى الْأَمْصَارِ، وَلَا يُقَامُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلِ فِي مِصْرَ كُلِّهَا إِلَّا بِالْفُسْطَاطِ، يَعْنِي لِكَوْنِهَا مَنْزِلَ مُتَوَلِّي مِصْرَ قَالَ: أَوْ يَكْتُبُ إِلَى وَالِي الْفُسْطَاطِ بِذَلِكَ أَيْ يَسْتَأْذِنُهُ. وَقَالَ أَشْهَبُ: بَلْ مَنْ فَوَّضَ لَهُ الْوَالِي ذَلِكَ مِنْ عُمَّالِ الْمِيَاهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ. وَعَنِ الشَّافِعِيِّ نَحْوُهُ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَالْحُجَّةُ فِي الْجَوَازِ حَدِيثُ مُعَاذٍ فَإِنَّهُ قَتَلَ الْمُرْتَدَّ دُونَ أَنْ يَرْفَعَ أَمْرَهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

‌13 - بَاب هَلْ يَقْضِي الْقَاضِي أَوْ يُفْتِي وَهُوَ غَضْبَانُ؟

7158 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ، سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: كَتَبَ أَبُو بَكْرَةَ إِلَى ابْنِهِ وَكَانَ بِسِجِسْتَانَ، بِأَنْ لَا تَقْضِيَ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَأَنْتَ غَضْبَانُ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ.

7159 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي وَاللَّهِ لَاتَأَخَّرُ عَنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلَانٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا فِيهَا قَالَ فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَطُّ أَشَدَّ غَضَبًا فِي مَوْعِظَةٍ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ ثُمَّ قَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُوجِزْ فَإِنَّ فِيهِمْ الْكَبِيرَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ

7160 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي يَعْقُوبَ الْكَرْمَانِيُّ حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ هُوَ الزُّهْرِيُّ أَخْبَرَنِي سَالِمٌ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَذَكَرَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم،

ص: 136

فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ لِيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ فَتَطْهُرَ فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا

قَوْلُهُ: (بَابٌ هَلْ يَقْضِي الْقَاضِي أَوْ يُفْتِي وَهُوَ غَضْبَانُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ الْحَاكِمُ ذَكَرَ فِيهِ ثَلَاثةَ أَحَادِيثَ أَحَدُهَا.

قَوْلُهُ: (كَتَبَ أَبُو بَكْرَةَ) يَعْنِي وَالِدَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الرَّاوِيَ الْمَذْكُورَ.

قَوْلُهُ (إِلَى ابْنِهِ) كَذَا وَقَعَ هُنَا غَيْرَ مُسَمًّى، وَوَقَعَ فِي أَطْرَافِ الْمِزِّيِّ إِلَى ابْنِهِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَقَدْ سُمِّيَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَلَكِنْ بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: كَتَبَ أَبِي وَكَتَبْتُ لَهُ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ وَوَقَعَ فِي الْعُمْدَةِ كَتَبَ أَبِي وَكَتَبْتُ لَهُ إِلَى ابْنِهِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَقَدْ سُمِّيَ إِلَخْ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِسِيَاقِ مُسْلِمٍ إِلَّا أَنَّهُ زَادَ لَفْظَ ابْنِهِ قِيلَ مَعْنَاهُ كَتَبَ أَبُو بَكْرَةَ بِنَفْسِهِ مَرَّةً وَأَمَرَ وَلَدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَنْ يَكْتُبَ لِأَخِيهِ فَكَتَبَ لَهُ مَرَّةً أُخْرَى. قُلْتُ: وَلَا يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ، بَلِ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ كَتَبَ أَبِي أَيْ أَمَرَ بِالْكِتَابَةِ، وَقَوْلَهُ وَكَتَبْتُ لَهُ أَيْ بَاشَرْتُ الْكِتَابَةَ الَّتِي أَمَرَ بِهَا، وَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّعَدُّدِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ الْمَكْتُوبِ: إِنِّي سَمِعْتُ فَإِنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ لِأَبِي بَكْرَةَ لَا لِابْنِهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَإِنَّهُ لَا صُحْبَةَ لَهُ وَهُوَ أَوَّلُ مَوْلُودٍ وُلِدَ بِالْبَصْرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرَةَ لَوْ دَخَلُوا عَلَيَّ مَا بهَشْتُ لَهُمْ بِقَصَبَةٍ.

قَوْلُهُ (وَكَانَ بِسِجِسْتَانَ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَهُوَ قَاضٍ بِسِجِسْتَانَ وَهِيَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ وَسِجِسْتَانُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَالْجِيمِ عَلَى الصَّحِيحِ بَعْدَهُمَا مُثَنَّاةٌ سَاكِنَةٌ وَهِيَ إِلَى جِهَةِ الْهِنْدِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ كَرْمَانَ مِائَةُ فَرْسَخٍ، مِنْهَا أَرْبَعُونَ فَرْسَخًا مَفَازَةً لَيْسَ فِيهَا مَاءٌ وَيُنْسَبُ إِلَيْهَا سِجِسْتَانِيٌّ وَسِجِزْتِيٌّ بِزَايٍ بَدَلَ السِّينِ الثَّانِيَةِ وَالتَّاءِ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَسِجِسْتَانُ لَا تُصْرَفُ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ أَوْ زِيَادَةِ الْأَلِفِ وَالنُّونِ، قَالَ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ: كَانَ زِيَادٌ فِي وِلَايَتِهِ عَلَى الْعِرَاقِ قَرَّبَ أَوْلَادَ أَخِيهِ لِأُمِّهِ أَبِي بَكْرَةَ وَشَرَّفَهُمْ وَأَقْطَعَهُمْ وَوَلَّى عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرةٍ سِجِسْتَانَ، قَالَ وَمَاتَ أَبُو بَكْرَةَ فِي وِلَايَةِ زِيَادٍ.

قَوْلُهُ: (أَنْ لَا تَقْضِيَ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَأَنْتَ غَضْبَانُ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَنْ لَا تَحْكُمَ.

قَوْلُهُ: (لَا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ لَا يَحْكُمُ أَحَدٌ وَالْبَاقِي سَوَاءٌ، وَفِي رِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ بِسَنَدِهِ لَا يَقْضِي الْقَاضِي أَوْ لَا يَحْكُمِ الْحَاكِمُ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ وَلَمْ يَذْكُرِ الْقِصَّةَ. وَالْحَكَمُ بِفَتْحَتَيْنِ هُوَ الْحَاكِمُ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْقَيِّمِ بِمَا يُسْنَدُ إِلَيْهِ. قَالَ الْمُهَلَّبُ: سَبَبُ هَذَا النَّهْيِ أَنَّ الْحُكْمَ حَالَةَ الْغَضَبِ قَدْ يَتَجَاوَزُ بِالْحَاكِمِ إِلَى غَيْرِ الْحَقِّ فَمُنِعَ، وَبِذَلِكَ قَالَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: فِيهِ النَّهْيُ عَنِ الْحُكْمِ حَالَةَ الْغَضَبِ لِمَا يَحْصُلُ بِسَبَبِهِ مِنَ التَّغَيُّرِ الَّذِي يَخْتَلُّ بِهِ النَّظَرُ فَلَا يَحْصُلُ اسْتِيفَاءُ الْحُكْمِ عَلَى الْوَجْهِ قَالَ: وَعَدَّاهُ الْفُقَهَاءُ بِهَذَا الْمَعْنَى إِلَى كُلِّ مَا يَحْصُلُ بِهِ تَغَيُّرُ الْفِكْرِ كَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ الْمُفْرِطَيْنِ وَغَلَبَةِ النُّعَاسِ وَسَائِرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقَلْبُ تَعَلُّقًا يَشْغَلُهُ عَنِ اسْتِيفَاءِ النَّظَرِ، وَهُوَ قِيَاسُ مَظِنَّةٍ عَلَى مَظِنَّةٍ، وَكَأَنَّ الْحِكْمَةَ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى ذِكْرِ الْغَضَبِ لِاسْتِيلَائِهِ عَلَى النَّفْسِ وَصُعُوبَةِ مُقَاوَمَتِهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ.

وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَفَعَهُ لَا يَقْضِ الْقَاضِي إِلَّا وَهُوَ شَبْعَانُ رَيَّانُ وَقَوْلُ الشَّيْخِ وَهُوَ قِيَاسُ مَظِنَّةٍ عَلَى مَظِنَّةٍ صَحِيحٌ، وَهُوَ اسْتِنْبَاطُ مَعْنًى دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ فَإِنَّهُ لَمَّا نَهَى عَنِ الْحُكْمِ حَالَةَ الْغَضَبِ، فُهِمَ مِنْهُ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي حَالَةِ اسْتِقَامَةِ الْفِكْرِ، فَكَانَتْ عِلَّةُ النَّهْيِ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكُ وَهُوَ تَغَيُّرُ الْفِكْرِ، وَالْوَصْفُ بِالْغَضَبِ يُسَمَّى عِلَّةً بِمَعْنَى أَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَيْهِ فَأُلْحِقَ بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ كَالْجَائِعِ قَالَ الشَّافِعِيُّ

ص: 137

فِي الْأُمِّ: أَكْرَهُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ وَهُوَ جَائِعٌ أَوْ تَعِبٌ أَوْ مَشْغُولُ الْقَلْبِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُغَيِّرُ الْقَلْبَ.

(فَرْعٌ):

لَوْ خَالَفَ فَحَكَمَ فِي حَالِ الْغَضَبِ صَحَّ إِنْ صَادَفَ الْحَقَّ مَعَ الْكَرَاهَةِ، هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَضَى لِلزُّبَيْرِ بِشِرَاجِ الْحَرَّةِ بَعْدَ أَنْ أَغْضَبَهُ خَصْمُ الزُّبَيْرِ، لَكِنْ لَا حُجَّةَ فِيهِ لِرَفْعِ الْكَرَاهَةِ عَنْ غَيْرِهِ لِعِصْمَتِهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا يَقُولُ فِي الْغَضَبِ إِلَّا كَمَا يَقُولُ فِي الرِّضَا.

قَالَ النَّوَوِيُّ فِي حَدِيثِ اللُّقَطَةِ: فِيهِ جَوَازُ الْفَتْوَى فِي حَالِ الْغَضَبِ وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ وَيَنْفُذُ وَلَكِنَّهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ فِي حَقِّنَا، وَلَا يُكْرَهُ فِي حَقِّهِ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّهُ لَا يُخَافُ عَلَيْهِ فِي الْغَضَبِ مَا يُخَافُ عَلَى غَيْرِهِ، وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ: يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي الْحُكْمِ قَبْلَ وُصُولِهِ فِي الْغَضَبِ إِلَى تَغَيُّرِ الْفِكْرِ، وَيُؤْخَذُ مِنَ الْإِطْلَاقِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَرَاتِبِ الْغَضَبِ وَلَا أَسْبَابِهِ، وَكَذَا أَطْلَقَهُ الْجُمْهُورُ، وَفَصَّلَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْبَغَوِيُّ فَقَيَّدَا الْكَرَاهَةَ بِمَا إِذَا كَانَ الْغَضَبُ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَاسْتَغْرَبَ الرُّويَانِيُّ هَذَا التَّفْصِيلَ وَاسْتَبْعَدَهُ غَيْرُهُ لِمُخَالَفَتِهِ لِظَوَاهِرِ الْحَدِيثِ وَلِلْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ نُهِيَ عَنِ الْحُكْمِ حَالَ الْغَضَبِ، وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: لَا يَنْفُذُ الْحُكْمُ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ لِثُبُوتِ النَّهْيِ عَنْهُ وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ وَفَصَّلَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْغَضَبُ طَرَأَ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنِ اسْتَبَانَ لَهُ الْحُكْمُ فَلَا يُؤَثِّرُ وَإِلَّا فَهُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ، وَهُوَ تَفْصِيلٌ مُعْتَبَرٌ وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: أَدْخَلَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ أَبِي بَكْرَةَ الدَّالَّ عَلَى الْمَنْعِ، ثُمَّ حَدِيثَ أَبِي مَسْعُودٍ الدَّالَّ عَلَى الْجَوَازِ تَنْبِيهًا مِنْهُ عَلَى طَرِيقِ الْجَمْعِ بِأَنْ يَجْعَلَ الْجَوَازَ خَاصًّا بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِوُجُودِ الْعِصْمَةِ فِي حَقِّهِ وَالْأَمْنِ مِنَ التَّعَدِّي، أَوْ أَنَّ غَضَبَهُ إِنَّمَا كَانَ لِلْحَقِّ فَمَنْ كَانَ فِي مِثْلِ حَالِهِ جَازَ وَإِلَّا مُنِعَ، وَهُوَ كَمَا قِيلَ فِي شَهَادَةِ الْعَدُوِّ إِنْ كَانَتْ دُنْيَوِيَّةً رُدَّتْ، وَإِنْ كَانَتْ دِينِيَّةً لَمْ تُرَدَّ قَالَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَغَيْرُهُ.

وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْكِتَابَةَ بِالْحَدِيثِ كَالسَّمَاعِ مِنَ الشَّيْخِ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ، وَأَمَّا فِي الرِّوَايَةِ فَمَنَعَ مِنْهَا قَوْمٌ إِذَا تَجَرَّدَتْ عَنِ الْإِجَازَةِ، وَالْمَشْهُورُ الْجَوَازُ. نَعَمْ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْأَدَاءِ أَنْ لَا يُطْلَقَ الْإِخْبَارُ بَلْ يَقُولُ كَتَبَ إِلَيَّ أَوْ كَاتَبَنِي أَوْ أَخْبَرَنِي فِي كِتَابِهِ، وَفِيهِ ذِكْرُ الْحُكْمِ مَعَ دَلِيلِهِ فِي التَّعْلِيمِ، وَيَجِيءُ مِثْلُهُ فِي الْفَتْوَى. وَفِيهِ شَفَقَةُ الْأَبِ عَلَى وَلَدِهِ وَإِعْلَامُهُ بِمَا يَنْفَعُهُ وَتَحْذِيرُهُ مِنَ الْوُقُوعِ فِيمَا يُنْكَرُ. وَفِيهِ نَشْرُ الْعِلْمِ لِلْعَمَلِ بِهِ وَالِاقْتِدَاءِ وَإِنْ لَمْ يُسْأَلِ الْعَالِمُ عَنْهُ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ (عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ.

قَوْلُهُ (جَاءَ رَجُلٌ) تَقَدَّمَ فِي بَابِ تَخْفِيفِ الْإِمَامِ مِنْ أَبْوَابِ الْإِمَامَةِ أَنَّهُ لَمْ يُسَمَّ، وَوَهِمَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ حَزْمُ بْنُ كَعْبٍ وَإِنَّ الْمُرَادَ هُنَا بِفُلَانٍ هُوَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ هُنَاكَ مُسْتَوْفًى، وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْغَضَبِ فِي بَابِ الْغَضَبِ فِي الْمَوْعِظَةِ مِنْ كِتَابِ الْعِلْمِ.

الحديث الثالث: حديث ابن عمر في طلاق امرأته وهي حائض.

قَوْلُهُ: (يُونُسُ) هُوَ ابْنُ يَزِيدَ الْأَيْلِيُّ.

قَوْلُهُ (فَتَغَيَّظَ فِيهِ) وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ عَلَيْهِ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ فِيهِ يَعُودُ لِلْفِعْلِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ الطَّلَاقُ الْمَوْصُوفُ، وَفِي عَلَيْهِ لِلْفَاعِلِ وَهُوَ ابْنُ عُمَرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ مَشْرُوحًا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ.

‌14 - بَاب مَنْ رَأَى لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ فِي أَمْرِ النَّاسِ إِذَا لَمْ يَخَفْ الظُّنُونَ وَالتُّهَمَةَ،

كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِهِنْدٍ: خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ. وَذَلِكَ إِذَا كَانَ أَمْرًا مَشْهُورًا

7161 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي عُرْوَةُ: أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: جَاءَتْ هِنْدٌ بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ

ص: 138

يَذِلُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ، وَمَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ يَعِزُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ. ثُمَّ قَالَتْ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ، فَهَلْ عَلَيَّ مِنْ حَرَجٍ أَنْ أُطْعِمَ مِنْ الَّذِي لَهُ عِيَالَنَا؟ قَالَ لَهَا: لَا حَرَجَ عَلَيْكِ أَنْ تُطْعِمِيهِمْ مِنْ مَعْرُوفٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ رَأَى لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ فِي أَمْرِ النَّاسِ إِذَا لَمْ يَخَفِ الظُّنُونَ وَالتُّهْمَةَ) أَشَارَ إِلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِه فِي حُقُوقِ النَّاسِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ كَالْحُدُودِ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُسَامَحَةِ، وَلَهُ فِي حُقُوقِ النَّاسِ تَفْصِيلٌ، قَالَ: إِنْ كَانَ مَا عَلِمَهُ قَبْلَ وِلَايَتِهِ لَمْ يَحْكُمْ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَا سَمِعَهُ مِنَ الشُّهُودِ وَهُوَ غَيْرُ حَاكِمٍ، بِخِلَافِ مَا عَلِمَهُ فِي وِلَايَتِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ إِذَا لَمْ يَخَفِ الظُّنُونَ وَالتُّهْمَةَ فَقَيَّدَ بِهِ قَوْلَ مَنْ أَجَازَ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ مَنَعُوا ذَلِكَ مُطْلَقًا اعْتَلُّوا بِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْصُومٍ فَيَجُوزُ أَنْ تَلْحَقَهُ التُّهْمَةُ إِذَا قَضَى بِعِلْمِهِ أَنْ يَكُونَ حَكَمَ لِصَدِيقِهِ عَلَى عَدُوِّهُ فَحُسِمَتِ الْمَادَّةُ، فَجَعَلَ الْمُصَنِّفُ مَحَلَّ الْجَوَازِ مَا إِذَا لَمْ يَخَفِ الْحَاكِمُ الظُّنُونَ وَالتُّهْمَةَ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ الْمَنْعِ مِنْ أَجْلِ حَسْمِ الْمَادَّةِ أَنْ يَسْمَعَ مَثَلًا رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ طَلَاقًا بَائِنًا.

ثُمَّ رَفَعَتْهُ إِلَيْهِ فَأَنْكَرَ، فَإِذَا حَلَّفَهُ فَحَلَفَ لَزِمَ أَنْ يُدِيمَهُ عَلَى فَرْجٍ حَرَامٍ فَيَفْسُقَ بِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنْ أَنْ لَا يَقْبَلَ قَوْلَهُ وَيَحْكُمَ عَلَيْهِ بِعِلْمِهِ، فَإِنْ خَشِيَ التُّهْمَةَ فَلَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ وَيُقِيمَ شَهَادَتَهُ عَلَيْهِ عِنْدَ حَاكِمٍ آخَرَ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ تَكُونُ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَقَالَ الْكَرَابِيسِيُّ: الَّذِي عِنْدِي أَنَّ شَرْطَ جَوَازِ الْحُكْمِ بِالْعِلْمِ أَنْ يَكُونَ الْحَاكِمُ مَشْهُورًا بِالصَّلَاحِ وَالْعَفَافِ وَالصِّدْقِ وَلَمْ يُعْرَفْ بِكَبِيرِ زَلَّةٍ وَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِ خَرِبَةٌ بِحَيْثُ تَكُونُ أَسْبَابُ التُّقَى فِيهِ مَوْجُودَةً وَأَسْبَابُ التُّهَمِ فِيهِ مَفْقُودَةً، فَهَذَا الَّذِي يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ مُطْلَقًا. قُلْتُ: وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخَذَ ذَلِكَ عَنْهُ فَإِنَّهُ مِنْ مَشَايِخِهِ.

قَوْلُهُ: (كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِهِنْدٍ: خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ) هَذَا اللَّفْظُ وَصَلَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي النَّفَقَاتِ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، وَقَدْ سَاقَ الْقِصَّةَ فِي هَذَا الْبَابِ بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ وَقَوْلُهُ وَذَلِكَ إِذَا كَانَ أَمْرًا مَشْهُورًا هَذَا تَفْسِيرُ قَوْلِ مَنْ قَالَ يَقْضِي بِعِلْمِهِ مُطْلَقًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْمَشْهُورِ الشَّيْءُ الْمَأْمُورُ بِأَخْذِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ هند بِنْتِ عُتْبَةَ.

قَوْلُهُ (مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَخْ) تَقَدَّمَ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ فِي الْمَنَاقِبِ وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ مَا تَضَمَّنَهُ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فِي كِتَابِ النَّفَقَاتِ وَفِيهِ بَيَانُ اسْتِدْلَالِ مَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِعِلْمِهِ وَرَدُّ قَوْلِ الْمُسْتَدِلِّ بِهِ عَلَى الْحُكْمِ عَلَى الْغَائِبِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: احْتَجَّ مَنْ أَجَازَ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ بِحَدِيثِ الْبَابِ، فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَضَى لَهَا بِوُجُوبِ النَّفَقَةِ لَهَا وَلِوَلَدِهَا لِعِلْمِهِ بِأَنَّهَا زَوْجَةُ أَبِي سُفْيَانَ وَلَمْ يَلْتَمِسْ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً، وَمِنْ حَيْثُ النَّظَرُ أَنَّ عِلْمَهُ أَقْوَى مِنَ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهُ يَتَيَقَّنُ مَا عَلِمَهُ، وَالشَّهَادَةُ قَدْ تَكُونُ كَذِبًا، وَحُجَّةُ مَنْ مَنَعَ قَوْلُهُ في حَدِيث أُمِّ سَلَمَةَ إِنَّمَا أَقْضِي لَهُ بِمَا أَسْمَعُ وَلَمْ يَقُلْ بِمَا أَعْلَمُ.

وَقَالَ لَلْحَضْرَمِيِّ شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ وَفِيهِ وَلَيْسَ لَكَ إِلَّا ذَلِكَ وَلِمَا يُخْشَى مِنْ قُضَاةِ السُّوءِ أَنْ يَحْكُمَ أَحَدُهُمْ بِمَا شَاءَ وَيُحِيلَ عَلَى عِلْمِهِ احْتَجَّ مَنْ مَنَعَ مُطْلَقًا بِالتُّهْمَةِ، وَاحْتَجَّ مَنْ فَصَّلَ بِأَنَّ الَّذِي عَلِمَهُ الْحَاكِمُ قَبْلَ الْقَضَاءِ كَانَ عَلَى طَرِيقِ الشَّهَادَةِ، فَلَوْ حَكَمَ بِهِ لَحَكَمَ بِشَهَادَةِ نَفْسِهِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَضَى بِدَعْوَاهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَأَيْضًا فَيَكُونُ كَالْحَاكِمِ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَهُ تَعْلِيلٌ آخَرُ، وَأَمَّا فِي حَالِ الْقَضَاءِ فَفِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ فَإِنَّمَا أَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ سَمَاعِهِ مِنْ شَاهِدٍ أَوْ مُدَّعٍ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ الْمَذَاهِبِ فِي الْحُكْمِ بِالْعِلْمِ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ تَكُونُ عِنْدَ الْحَاكِمِ فِي وِلَايَةِ الْقَضَاءِ

ص: 139

وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَمْ يَتَعَرَّضِ ابْنُ بَطَّالٍ لِمَقْصُودِ الْبَابِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ احْتَجَّ لِجَوَازِ الْحُكْمِ بِالْعِلْمِ بِقِصَّةِ هِنْدٍ، فَكَانَ يَنْبَغِي لِلشَّارِحِ أَنْ يَتَعَقَّبَ ذَلِكَ بِأَنْ لَا دَلِيلَ فِيهِ لِأَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْفُتْيَا وَكَلَامُ الْمُفْتِي يَتَنَزَّلُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ إِنْهَاءِ الْمُسْتَفْتِي، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ يَمْنَعُكَ حَقَّكَ جَازَ لَكَ اسْتِيفَاؤُهُ مَعَ الْإِمْكَانِ.

قَالَ: وَقَدْ أَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ أَحْوَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْحُكْمُ وَالْإِلْزَامُ، فَيَجِبُ تَنْزِيلُ لَفْظِهِ عَلَيْهِ لَكِنْ يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَا ذَكَرَ فِي قِصَّةِ هِنْدٍ أَنَّهُ يَعْلَمُ صِدْقَهَا، بَلْ ظَاهِرُ الْأَمْرِ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ هَذِهِ الْقِصَّةَ إِلَّا مِنْهَا فَكَيْفَ يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ بِعِلْمِهِ؟ قُلْتُ: وَمَا ادَّعَى نَفْيَهُ بَعِيدٌ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْلَمْ صِدْقَهَا لَمْ يَأْمُرْهَا بِالْأَخْذِ؛ وَاطِّلَاعُهُ عَلَى صِدْقِهَا مُمْكِنٌ بِالْوَحْيِ دُونَ مَنْ سِوَاهُ فَلَا بُدَّ مِنْ سَبْقِ عِلْمٍ، وَيُؤَيِّدُ اطِّلَاعَهُ عَلَى حَالِهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَذْكُرَ مَا ذَكَرَتْ مِنَ الْمُصَاهَرَةِ، وَلِأَنَّهُ قَبِلَ قَوْلَهَا إِنَّهَا زَوْجَةُ أَبِي سُفْيَانَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ وَاكْتَفَى فِيهِ بِالْعِلْمِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ فُتْيَا لَقَالَ مَثَلًا تَأْخُذُ، فَلَمَّا أَتَى بِصِيغَةِ الْأَمْرِ بِقَوْلِهِ خُذِي دَلَّ عَلَى الْحُكْمِ، وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيدٌ فِي بَابِ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ أَيْضًا: لَوْ كَانَ حُكْمًا لَاسْتَدْعَى مَعْرِفَةَ الْمَحْكُومِ بِهِ، وَالْوَاقِعُ أَنَّ الْمَحْكُومَ بِهِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، كَذَا قَالَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌15 - بَاب الشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ الْمَخْتُومِ، وَمَا يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ وَمَا يَضِيقُ عَلَيْهِ

وَكِتَابِ الْحَاكِمِ إِلَى عمالِهِ، وَالْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي

وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: كِتَابُ الْحَاكِمِ جَائِزٌ إِلَّا فِي الْحُدُودِ، ثُمَّ قَالَ: إِنْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ هَذَا مَالٌ بِزَعْمِهِ، وَإِنَّمَا صَارَ مَالًا بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ الْقَتْلُ، فَالْخَطَأُ وَالْعَمْدُ وَاحِدٌ. وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ إِلَى عَامِلِهِ فِي الحدود، وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي سِنٍّ كُسِرَتْ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: كِتَابُ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي جَائِزٌ إِذَا عَرَفَ الْكِتَابَ وَالْخَاتَمَ، وَكَانَ الشَّعْبِيُّ يُجِيزُ الْكِتَابَ الْمَخْتُومَ بِمَا فِيهِ مِنْ الْقَاضِي، وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُهُ. وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ الثَّقَفِيُّ: شَهِدْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ يَعْلَى قَاضِيَ الْبَصْرَةِ وَإِيَاسَ بْنَ مُعَاوِيَةَ وَالْحَسَنَ وَثُمَامَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ وَبِلَالَ بْنَ أَبِي بُرْدَةَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيَّ وَعَامِرَ بْنَ عَبدَةَ وَعَبَّادَ بْنَ مَنْصُورٍ يُجِيزُونَ كُتُبَ الْقُضَاةِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الشُّهُودِ، فَإِنْ قَالَ الَّذِي جِيءَ عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ إِنَّهُ زُورٌ، قِيلَ لَهُ: اذْهَبْ فَالْتَمِسْ الْمَخْرَجَ مِنْ ذَلِكَ، وَأَوَّلُ مَنْ سَأَلَ عَلَى كِتَابِ الْقَاضِي الْبَيِّنَةَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَسَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. وَقَالَ لَنَا أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحْرِزٍ جِئْتُ بِكِتَابٍ مِنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ قَاضِي الْبَصْرَةِ وَأَقَمْتُ عِنْدَهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ لِي عِنْدَ فُلَانٍ كَذَا وَكَذَا وَهُوَ بِالْكُوفَةِ، وَجِئْتُ بِهِ الْقَاسِمَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَأَجَازَهُ. وَكَرِهَ الْحَسَنُ وَأَبُو قِلَابَةَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى وَصِيَّةٍ حَتَّى يَعْلَمَ مَا فِيهَا لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّ فِيهَا جَوْرًا. وَقَدْ كَتَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَهْلِ خَيْبَرَ: إِمَّا أَنْ تَدُوا صَاحِبَكُمْ، وَإِمَّا أَنْ تُؤْذِنُوا بِحَرْبٍ.

وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ السِّتْرِ: إِنْ عَرَفْتَهَا فَاشْهَدْ وَإِلَّا تعرفها فَلَا تَشْهَدْ

ص: 140

7162 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الرُّومِ قَالُوا: إِنَّهُمْ لَا يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلَّا مَخْتُومًا، فَاتَّخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِهِ، وَنَقْشُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ الْمَخْتُومِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِمُعْجَمَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ الْمَحْكُومِ بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ كَافٍ أَيِ الْمَحْكُومِ بِهِ، وَسَقَطَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ لِابْنِ بَطَّالٍ، وَمُرَادُهُ هَلْ تَصِحُّ الشَّهَادَةُ عَلَى الْخَطِّ أَيْ بِأَنَّهُ خَطُّ فُلَانٍ، وَقَيَّدَ بِالْمَخْتُومِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى عَدَمِ التَّزْوِيرِ عَلَى الْخَطِّ.

قَوْلُهُ: (وَمَا يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ وَمَا يَضِيقُ عَلَيْهِ) يُرِيدُ أَنَّ الْقَوْلَ بِذَلِكَ لَا يَكُونُ عَلَى التَّعْمِيمِ إِثْبَاتًا وَنَفْيًا، بَلْ لَا يُمْنَعُ ذَلِكَ مُطْلَقًا فَتَضِيعُ الْحُقُوقُ، وَلَا يُعْمَلُ بِذَلِكَ مُطْلَقًا فَلَا يُؤْمَنُ فِيهِ التَّزْوِيرُ فَيَكُونُ جَائِزًا بِشُرُوطٍ.

قَوْلُهُ: (وَكِتَابُ الْحَاكِمِ إِلَى عَامِلِهِ وَالْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي) يُشِيرُ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ أَجَازَ الشَّهَادَةَ عَلَى الْخَطِّ وَلَمْ يُجِزْهَا فِي كِتَابِ الْقَاضِي وَكِتَابِ الْحَاكِمِ وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَنْ قَالَهُ وَالْبَحْثُ مَعَهُ فِيهِ. قَوْلُهُ (وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: كِتَابُ الْحَاكِمِ جَائِزٌ إِلَّا فِي الْحُدُودِ، ثُمَّ قَالَ: إِنْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ هَذَا مَالٌ بِزَعْمِهِ، وَإِنَّمَا صَارَ مَالًا بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ الْقَتْلُ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: حُجَّةُ الْبُخَارِيِّ عَلَى مَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَاضِحَةٌ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُجِزِ الْكِتَابَ بِالْقَتْلِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ مَالًا بَعْدَ الثُّبُوتِ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَالْعَمْدُ أَيْضًا رُبَّمَا آلَ إِلَى الْمَالِ فَاقْتَضَى النَّظَرُ التَّسْوِيَةَ.

قَوْلُهُ: (وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ إِلَى عَامِلِهِ فِي الْحُدُودِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ فِي الْجَارُودِ بِجِيمٍ خَفِيفَةٍ وَبَعْدَ الْأَلِفِ رَاءٌ مَضْمُومَةٌ وَهُوَ ابْنُ الْمُعَلَّى، وَيُقَالُ: ابْنُ عَمْرِو بْنِ الْمُعَلَّى الْعَبْدِيُّ، وَيُقَالُ: كَانَ اسْمُهُ بِشْرًا وَالْجَارُودُ لَقَبُهُ، وَكَانَ الْجَارُودُ الْمَذْكُورُ قَدْ أَسْلَمَ وَصَحِبَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْبَحْرَيْنِ فَكَانَ بِهَا، وَلَهُ قِصَّةٌ مَعَ قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ عَامِلِ عُمَرَ عَلَى الْبَحْرَيْنِ أَخْرَجَهَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: اسْتَعْمَلَ عُمَرُ، قُدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ فَقَدِمَ الْجَارُودُ سَيِّدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى عُمَرَ فَقَالَ: إِنَّ قُدَامَةَ شَرِبَ فَسَكِرَ فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى قُدَامَةَ فِي ذَلِكَ، فَذَكَرَ الْقِصَّةَ بِطُولِهَا فِي قُدُومِ قُدَامَةَ وَشَهَادَةِ الْجَارُودِ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ عَلَيْهِ، وَفِي احْتِجَاجِ قُدَامَةَ بِآيَةِ الْمَائِدَةِ، وَفِي رَدِّ عُمَرَ عَلَيْهِ وَجَلْدِهِ الْحَدَّ وَسَنَدُهَا صَحِيحٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آخِرِ الْحُدُودِ، وَنُزُولِ الْجَارُودِ الْبَصْرَةَ بَعْدَ ذَلِكَ وَاسْتُشْهِدَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ سَنَةَ عِشْرِينَ.

قَوْلُهُ (وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي سِنٍّ كُسِرَتْ) وَصَلَهُ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ الْقِصَاصِ وَالدِّيَاتِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ زُرَيْقٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ كِتَابًا أَجَازَ فِيهِ شَهَادَةَ رَجُلٍ عَلَى سِنٍّ كُسِرَتْ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: كِتَابُ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي جَائِزٌ إِذَا عُرِفَ الْكِتَابُ وَالْخَاتَمُ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، عَنْ عُبَيْدَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ.

قَوْلُهُ (وَكَانَ الشَّعْبِيُّ يُجِيزُ الْكِتَابَ الْمَخْتُومَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْقَاضِي) وَصَلَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عِيسَى بْنِ أَبِي عَزَّةَ قَالَ: كَانَ عَامِرٌ يَعْنِي الشَّعْبِيَّ يُجِيزُ الْكِتَابَ الْمَخْتُومَ يَجِيئُهُ مِنَ الْقَاضِي وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لَا يَشْهَدُ وَلَوْ عَرَفَ الْكِتَابَ وَالْخَاتَمَ حَتَّى يَذْكُرَ وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْأَوَّلَ إِذَا كَانَ مِنَ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي وَالثَّانِي فِي حَقِّ الشَّاهِدِ.

قَوْلُهُ (وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُهُ) قُلْتُ: لَمْ يَقَعْ لِي هَذَا الْأَثَرُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ إِلَى الْآنَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ الثَّقَفِيُّ) هُوَ الْمَعْرُوفُ بِالضَّالِّ بِضَادٍ مُعْجَمَةٍ وَلَامٍ ثَقِيلَةٍ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ ضَلَّ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ؛ قَالَهُ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ الْمِصْرِيُّ، وَوَثَّقَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَعِينٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَمَاتَ سَنَةَ ثَمَانِينَ وَمِائَةٍ، وَكَانَ مُعَمِّرًا

ص: 141

أَدْرَكَ أَبَا رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيَّ، وَقَدْ وَصَلَ أَثَرَهُ هَذَا وَكِيعٌ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْهُ.

قَوْلُهُ (شَهِدْتُ) أَيْ حَضَرْتُ (عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ يَعْلَى قَاضِي الْبَصْرَةِ) هُوَ اللَّيْثِيُّ تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ، وَكَانَ يَزِيدُ بْنُ هُبَيْرَةَ وَلَّاهُ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ لَمَّا وَلِيَ إِمَارَتَهَا مِنْ قِبَلِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، ذَكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي أَخْبَارِ الْبَصْرَةِ، وَقَالَ: إِنَّهُ مَاتَ وَهُوَ عَلَى الْقَضَاءِ، وَأَرَّخَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ سَنَةَ مِائَةٍ فَوَهِمَ، وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ أَنَّهُ كَانَ قَاضِيًا قَبْلَ الْحَسَنِ وَمَاتَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالصَّوَابُ بَعْدَ الْحَسَنِ، وَقَوْلُ عُمَرَ بْنِ شَبَّةَ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَأَنَّ ابْنَ هُبَيْرَةَ هُوَ الَّذِي وَلَّاهُ، وَمَاتَ عَلَى الْقَضَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ بَعْدَ الْمِائَةِ بِسَنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ، وَيُقَالُ بَلْ عَاشَ إِلَى خِلَافَةِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَعَزَلَهُ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ وَوَلَّى ثُمَامَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ.

قَوْلُهُ (وَإِيَاسَ بْنَ مُعَاوِيَةَ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ التَّحْتَانِيَّةِ هُوَ الْمُزَنِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالذَّكَاءِ، وَكَانَ قَدْ وَلِيَ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَلَّاهُ عَدِيُّ بْنُ أَرْطَاةَ عَامِلُ عُمَرَ عَلَيْهَا بَعْدَ امْتِنَاعِهِ مِنْهُ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ أَخْبَارٌ، مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الْكَرَابِيسِيُّ فِي أَدَبِ الْقَضَاءِ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَائِشَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَيْسِيُّ قَالَ: قَالُوا لِإِيَاسٍ لَمَّا امْتَنَعَ مِنَ الْوِلَايَةِ: يَا أَبَا وَاثِلَةَ اخْتَرْ لَنَا، قَالَ: لَا أَتَقَلَّدُ ذَلِكَ، قِيلَ لَهُ: لَوْ وَجَدْتَ رَجُلًا تَرْضَاهُ أَكُنْتَ تُشِيرُ بِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ وَتَرْضَى لَهُ أَنْ يَلِيَ إِذَا كَانَ رِضًا؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ لَهُ: فَإِنَّكَ خِيَارٌ، رِضًا، فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى وَلِيَ. قُلْتُ: ثُمَّ وَقَعَ بَيْنَهُمَا فَرَكِبَ إِيَاسٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَبَادَرَ عَدِيٌّ فَوَلَّى الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ الْقَضَاءَ، فَكَتَبَ عُمَرُ يُنْكِرُ عَلَى عَدِيٍّ مَا ذَكَرَهُ عَنْهُ إِيَاسٌ وَيُوَفِّقُ صُنْعَهُ فِي تَوْلِيَةِ الْحَسَنِ الْقَضَاءَ؛ ذَكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، وَمَاتَ إِيَاسٌ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَهُوَ ثِقَةٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ.

قَوْلُهُ: (وَالْحَسَنَ) هُوَ ابْنُ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ الْإِمَامِ الْمَشْهُورِ، وَكَانَ وَلِيَ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ مُدَّةً لَطِيفَةً وَلَّاهُ عَدِيٌّ أَمِيرُهَا لِمَا ذَكَرْنَا، وَمَاتَ الْحَسَنُ سَنَةَ عَشْرٍ وَمِائَةٍ.

قَوْلُهُ: (وَثُمَامَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ) هُوَ الرَّاوِي الْمَشْهُورُ، وَكَانَ تَابِعِيًّا ثِقَةً، نَابَ فِي الْقَضَاءِ بِالْبَصْرَةِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، ثُمَّ وَلِيَ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ أَيْضًا فِي أَوَائِلِ خِلَافَةِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَلَّاهُ خَالِدٌ الْقَسْرِيُّ سَنَةَ سِتٍّ وَمِائَةٍ، وَعَزَلَهُ سَنَةَ عَشْرٍ، وَقِيلَ سَنَةَ تِسْعٍ، وَوَلَّى بِلَالَ بْنَ أَبِي بُرْدَةَ، وَمَاتَ ثُمَامَةُ بَعْدَ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ (وَبِلَالَ بْنَ أَبِي بُرْدَةَ) أَيِ ابْنَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَكَانَ صَدِيقَ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ، فَوَلَّاهُ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ لَمَّا وَلِيَ إِمْرَتَهَا مِنْ قِبَلِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَضَمَّ إِلَيْهِ الشُّرُطَةَ، فَكَانَ أَمِيرًا قَاضِيًا، وَلَمْ يَزَلْ قَاضِيًا إِلَى أَنْ قَتَلَهُ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ الثَّقَفِيُّ لَمَّا وَلِيَ الْإِمْرَةَ بَعْدَ خَالِدٍ، وَعَذَّبَ خَالِدًا وَعُمَّالَهُ وَمِنْهُمْ بِلَالٌ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَيُقَالُ إِنَّهُ مَاتَ فِي حَبْسِ يُوسُفَ، وَقَدْ أَخْرَجَ لَهُ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثًا وَاحِدًا، وَلَمْ يَكُنْ مَحْمُودًا فِي أَحْكَامِهِ، وَيُقَالُ إِنَّهُ كَانَ يَقُولُ أنَّ الرَّجُلَيْنِ لَيَخْتَصِمَانِ إِلَيَّ فَأَجِدُ أَحَدَهُمَا أَخَفَّ عَلَى قَلْبِي فَأَقْضِي لَهُ، ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدُ فِي الْكَامِلِ.

قَوْلُهُ (وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيَّ) هُوَ التَّابِعِيُّ الْمَشْهُورُ، وَكَانَ وَلِيَ قَضَاءَ مَرْوَ بَعْدَ أَخِيهِ سُلَيْمَانَ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، إِلَى أَنْ مَاتَ وَهُوَ عَلَى قَضَائِهَا سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، وَذَلِكَ فِي وِلَايَةِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ عَلَى خُرَاسَانَ وَهُوَ أَخُو خَالِدٍ الْقَسْرِيِّ، وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ بْنِ الْخَصِيبِ هَذَا فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ.

قَوْلُهُ: (وَعَامِرَ بْنَ عَبْدَةَ) هُوَ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَقِيلَ بِسُكُونِهَا؛ ذَكَرَهُ ابْنُ مَاكُولَا بِالْوَجْهَيْنِ، وَقِيلَ فِيهِ أَيْضًا عَبِيدَةُ بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَزِيَادَةِ يَاءٍ، وَجَمِيعُ مَنْ فِي الْبُخَارِيِّ بِالسُّكُونِ إِلَّا بَجَالَةَ بْنَ عَبَدَةَ الْمُقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي كِتَابِ الْجِزْيَةِ فَإِنَّهُ بِالتَّحْرِيكِ، وَعَامِرٌ هُوَ الْبَجَلِيُّ أَبُو إِيَاسٍ الْكُوفِيُّ وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ مِنْ قُدَمَاءِ التَّابِعِينَ لَهُ رِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَرَوَى عَنْهُ الْمُسَيِّبُ بْنُ رَافِعٍ، وَأَبُو إِسْحَاقَ، وَحَدِيثُهُ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَكَانَ وَلِيَ الْقَضَاءَ بِالْكُوفَةِ مَرَّةً وَعَمَّرَ.

قَوْلُهُ (وَعَبَّادَ بْنَ مَنْصُورٍ) أَيِ النَّاجِيُّ

ص: 142

بِالنُّونِ وَالْجِيمِ يُكْنَى أَبَا سَلَمَةَ بَصْرِيٌّ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَلِيَ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ وَذَكَرَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَا وَلِيَ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَلَّاهُ يَزِيدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ هُبَيْرَةَ فَلَمَّا عُزِلَ وَوَلِيَ مُسْلِمُ بْنُ قُتَيْبَةَ عَزَلَهُ وَوَلَّى مُعَاوِيَةَ بْنَ عَمْرٍو، ثُمَّ اسْتَعْفَى فَأَعْفَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَعَادَ عَبَّادَ بْنَ مَنْصُورٍ، وَكَانَ عَبَّادٌ يُرْمَى بِالْقَدَرِ وَيُدَلِّسُ فَضَعَّفُوهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَيُقَالُ إِنَّهُ تَغَيَّرَ، وَحَدِيثُهُ فِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، وَعَلَّقَ لَهُ الْبُخَارِيُّ شَيْئًا، وَمَاتَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ.

قَوْلُهُ: (يُجِيزُونَ كُتُبَ الْقُضَاةِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنَ الشُّهُودِ إِلَخْ) يَعْنِي قَوْلَهُ فَالْتَمِسِ الْمَخْرَجَ وَهُوَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ، وَآخِرُهُ جِيمٌ أَطْلُبُ الْخُرُوجَ مِنْ عُهْدَةِ ذَلِكَ، إِمَّا بِالْقَدْحِ فِي الْبَيِّنَةِ بِمَا يُقْبَلُ فَتَبْطُلُ الشَّهَادَةُ، وَإِمَّا بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْبَرَاءَةِ مِنَ الْمَشْهُودِ بِهِ.

قَوْلُهُ (وَأَوَّلُ مَنْ سَأَلَ عَلَى كِتَابِ الْقَاضِي الْبَيِّنَةَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَاضِي الْكُوفَةِ وَإِمَامُهَا، وَلِيَهَا فِي زَمَنِ يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ الثَّقَفِيِّ فِي خِلَافَةِ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ، وَمَاتَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ وَهُوَ صَدُوقٌ، اتَّفَقُوا عَلَى ضَعْفِ حَدِيثِهِ مِنْ قِبَلِ سُوءِ حِفْظِهِ. وَقَالَ السَّاجِيُّ: كَانَ يُمْدَحُ فِي قَضَائِهِ، فَأَمَّا فِي الْحَدِيثِ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ. وَقَالَ أَحْمَدُ: فِقْهُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ حَدِيثِهِ. وَحَدِيثُهُ فِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، وَأَغْفَلَ الْمِزِّيُّ أَنْ يُعَلِّمَ لَهُ فِي التَّهْذِيبِ عَلَامَةَ تَعْلِيقِ الْبُخَارِيِّ، كَمَا أَغْفَلَ أَنْ يُتَرْجِمَ لِسَوَّارِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَذْكُورِ بَعْدَهُ أَصْلًا مَعَ أَنَّهُ أَعْلَمُ لِكُلِّ مَنْ ذَكَرَهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ هُنَا مِمَّنْ لَمْ يُخَرِّجْ لَهُ شَيْئًا مَوْصُولًا.

قَوْلُهُ: (وَسَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ وَهُوَ الْعَنْبَرِيُّ نِسْبَةً إِلَى بَنِي الْعَنْبَرِ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، قَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ: كَانَ فَقِيهًا، وَلَّاهُ الْمَنْصُورُ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ، سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، فَبَقِيَ عَلَى قَضَائِهَا إِلَى أَنْ مَاتَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ، وَحَفِيدُهُ سَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَوَّارِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَلِيَ قَضَاءَ الرُّصَافَةِ بِبَغْدَادَ وَالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، وَحَدِيثُهُ فِي السُّنَنِ الثَّلَاثَةِ، وَمَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ لَنَا أَبُو نُعَيْمٍ) هُوَ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ) بِالتَّصْغِيرِ (ابْنُ مُحْرِزٍ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ بَعْدَهَا زَايٌ هُوَ كُوفِيٌّ، مَا رَأَيْتُ لَهُ رَاوِيًا غَيْرَ أَبِي نُعَيْمٍ، وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْأَثَرِ، وَلَمْ يَزِدِ الْمِزِّيُّ فِي تَرْجَمَتِهِ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الْأَثَرُ.

قَوْلُهُ (جِئْتُ بِكِتَابٍ مِنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ قَاضِي الْبَصْرَةِ) أَيِ ابْنِ مَالِكٍ التَّابِعِيِّ الْمَشْهُورِ، وَكَانَ وَلِيَ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ فِي وِلَايَةِ الْحَكَمِ بْنِ أَيُّوبَ الثَّقَفِيِّ، وَهُوَ ثِقَةٌ حَدِيثُهُ فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ: مَاتَ بَعْدَ أَخِيهِ النَّضْرِ بِالْبَصْرَةِ، وَكَانَتْ وَفَاةُ النَّضْرِ قَبْلَ وَفَاةِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ سَنَةَ ثَمَانٍ أَوْ تِسْعٍ وَمِائَةٍ.

قَوْلُهُ: (فَجِئْتُ بِهِ الْقَاسِمَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) أَيِ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ الْمَسْعُودِيَّ يُكْنَى أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَقَالَ الْعِجْلِيُّ: ثِقَةٌ وَكَانَ عَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ زَمَنَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَكَانَ لَا يَأْخُذُ عَلَى الْقَضَاءِ أَجْرًا، وَكَانَ ثِقَةً صَالِحًا وَهُوَ تَابِعِيٌّ. قَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: لَمْ يَلْقَ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَّا جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ مَاتَ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ.

قَوْلُهُ (فَأَجَازَهُ) بِجِيمٍ وَزَايٍ أَيْ أَمْضَاهُ وَعَمِلَ بِهِ.

(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي الْمُغْنِي لِابْنِ قُدَامَةَ: يُشْتَرَطُ فِي قَوْلِ أَئِمَّةِ الْفَتْوَى أَنْ يَشْهَدَ بِكِتَابِ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي شَاهِدَانِ عَدْلَانِ، وَلَا تَكْفِي مَعْرِفَةُ خَطِّ الْقَاضِي وَخَتْمِهِ، وَحَكَى عَنِ الْحَسَنِ، وَسَوَّارٍ، وَالْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِذَا كَانَ يَعْرِفُ خَطَّهُ وَخَتْمَهُ قَبِلَهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ. قُلْتُ: وَهُوَ خِلَافُ مَا نَقَلَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ سَوَّارٍ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَأَلَ الْبَيِّنَةَ، وَيَنْضَمُّ إِلَى مَنْ ذَكَرَهُمُ ابْنُ قُدَامَةَ سَائِرُ مَنْ ذَكَرَهُمُ الْبُخَارِيُّ مِنْ قُضَاةِ الْأَمْصَارِ مِنَ التَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ.

قَوْلُهُ: (وَكَرِهَ الْحَسَنُ) هُوَ الْبَصْرِيُّ، وَأَبُو قِلَابَةَ هُوَ الْجَرْمِيُّ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ.

قَوْلُهُ: (أَنْ يَشْهَدَ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَالْفَاعِلُ مَحْذُوفٌ أَيِ الشَّاهِدُ.

قَوْلُهُ (عَلَى وَصِيَّةٍ حَتَّى يَعْلَمَ مَا فِيهَا) أَمَّا أَثَرُ الْحَسَنِ فَوَصَلَهُ الدَّارِمِيُّ مِنْ رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ

ص: 143

عَنْهُ قَالَ: لَا تَشْهَدْ عَلَى وَصِيَّةٍ حَتَّى تُقْرَأَ عَلَيْكَ، وَلَا تَشْهَدْ عَلَى مَنْ لَا تَعْرِفُ، وَأَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ نَحْوَهُ. وَأَمَّا أَثَرُ أَبِي قِلَابَةَ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَيَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ جَمِيعًا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ قَالَ: قَالَ أَبُو قِلَابَةَ فِي الرَّجُلِ يَقُولُ: اشْهَدُوا عَلَى مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، قَالَ: لَا حَتَّى يُعْلَمَ مَا فِيهَا زَادَ يَعْقُوبُ وَقَالَ: لَعَلَّ فِيهَا جَوْرًا. وَفِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ بَيَانُ السَّبَبِ فِي الْمَنْعِ الْمَذْكُورِ. وَقَدْ وَافَقَ الدَّاوُدِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ هَذَا الْقَوْلَ فَقَالَ: هَذَا هُوَ الصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يَشْهَدُ عَلَى وَصِيَّةٍ حَتَّى يَعْرِفَ مَا فِيهَا. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّهَا إِذَا كَانَ فِيهَا جَوْرٌ لَمْ يَمْنَعِ التَّحَمُّلَ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ قَادِرٌ عَلَى رَدِّهِ إِذَا أَوْجَبَ حُكْمُ الشَّرْعِ رَدَّهُ، وَمَا عَدَاهُ يَعْمَلُ بِهِ فَلَيْسَ خَشْيَةُ الْجَوْرِ فِيهَا مَانِعًا مِنَ التَّحَمُّلِ، وَإِنَّمَا الْمَانِعُ الْجَهْلُ بِمَا يَشْهَدُ بِهِ. قَالَ: وَوَجْهُ الْجَوْرِ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَرْغَبُ فِي إِخْفَاءِ أَمْرِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يَمُوتَ فَيَحْتَاطُ بِالْإِشْهَادِ، وَيَكُونُ حَالُهُ مُسْتَمِرًّا عَلَى الْإِخْفَاءِ.

قَوْلُهُ: (وَقَدْ كَتَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَهْلِ خَيْبَرَ إِلَخْ) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ فِي قِصَّةِ حُوَيِّصَةَ، وَمُحَيِّصَةَ وَقَتْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ بِخَيْبَرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي الدِّيَاتِ فِي بَابِ الْقَسَامَةِ وَيَأْتِي بِهَذَا اللَّفْظِ فِي بَابِ كِتَابَةِ الْحَاكِمِ إِلَى عُمَّالِهِ بَعْدَ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ بَابًا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنَ السِّتْرِ) أَيْ مِنْ وَرَائِهِ.

قَوْلُهُ (إِنْ عَرَفْتَهَا فَاشْهَدْ) وَصَلَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِنَحْوِهِ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَرَاهَا حَالَةَ الْإِشْهَادِ، بَلْ يَكْفِي أَنْ يَعْرِفَهَا بِأَيِّ طَرِيقٍ فُرِضَ، وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ أُشِيرُ إِلَيْهِ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ.

قَوْلُهُ: (لَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الرُّومِ) كَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ سِتٍّ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي شَرْحِ حَدِيثِ أَبِي سُفْيَانَ الطَّوِيلِ الْمُذْكُورِ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ.

قَوْلُهُ: (قَالُوا إِنَّهُمْ لَا يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلَّا مَخْتُومًا) لَمْ أَعْرِفِ اسْمَ الْقَائِلِ بِعَيْنِهِ.

قَوْلُهُ: (فَاتَّخَذَ خَاتَمًا إِلَخْ) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي أَوَاخِرِ اللِّبَاسِ، وَجُمْلَةُ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ بِآثَارِهَا ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ: الشَّهَادَةُ عَلَى الْخَطِّ، وَكِتَابُ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي، وَالشَّهَادَةُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِمَا فِي الْكِتَابِ.

وَظَاهِرُ صَنِيعِ الْبُخَارِيِّ جَوَازُ جَمِيعِ ذَلِكَ، فَأَمَّا الْحُكْمُ الْأَوَّلُ فَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَجُوزُ لِلشَّاهِدِ إِذَا رَأَى خَطَّهُ إِلَّا إِذَا تَذَكَّرَ تِلْكَ الشَّهَادَةَ، فَإِنْ كَانَ لَا يَحْفَظُهَا فَلَا يَشْهَدْ، فَإِنَّهُ مَنْ شَاءَ انْتَقَشَ خَاتَمًا وَمَنْ شَاءَ كَتَبَ كِتَابًا، وَقَدْ فُعِلَ مِثْلُهُ فِي أَيَّامِ عُثْمَانَ فِي قِصَّةٍ مَذْكُورَةٍ فِي سَبَبِ قَتْلِهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وَأَجَازَ مَالِكٌ الشَّهَادَةَ عَلَى الْخَطِّ، وَنَقَلَ ابْنُ شَعْبَانَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا آخُذُ بِقَوْلِ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: خَالَفَ مَالِكًا جَمِيعُ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ وَعَدُّوا قَوْلَهُ فِي ذَلِكَ شُذُوذًا، لِأَنَّ الْخَطَّ قَدْ يُشْبِهُ الْخَطَّ، وَلَيْسَتْ شَهَادَةً عَلَى قَوْلٍ مِنْهُ وَلَا مُعَايَنَةً.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَارِثِ: الشَّهَادَةُ عَلَى الْخَطِّ خَطَأٌ، فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ قَالَ: سَمِعْتُ فُلَانًا يَقُولُ: رَأَيْتُ فُلَانًا قَتَلَ فُلَانًا أَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَوْ قَذَفَ: لَا يَشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِهِ إِلَّا أنْ أَشْهَدَهُ. قَالَ: فَالْخَطُّ أَبْعَدُ مِنْ هَذَا وَأَضْعَفُ، قَالَ: وَالشَّهَادَةُ عَلَى الْخَطِّ فِي الْحَقِيقَةِ اسْتِشْهَادُ الْمَوْتَى، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ: لَا يُقْضَى فِي دَهْرِنَا بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ؛ لِأَنَّ النَّاسَ قَدْ أَحْدَثُوا ضُرُوبًا مِنَ الْفُجُورِ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: يَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقَضِيَةٌ عَلَى نَحْوِ مَا أَحْدَثُوا مِنَ الْفُجُورِ. وَقَدْ كَانَ النَّاسُ فِيمَا مَضَى يُجِيزُونَ الشَّهَادَةَ عَلَى خَاتَمِ الْقَاضِي، ثُمَّ رَأَى مَالِكٌ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، فَهَذِهِ أَقْوَالُ جَمَاعَةِ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ تُوَافِقُ الْجُمْهُورَ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْكَرَابِيسِيُّ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَضَاءِ لَهُ: أَجَازَ الشَّهَادَةَ عَلَى الْخَطِّ قَوْمٌ لَا نَظَرَ لَهُمْ، فَإِنَّ الْكُتَّابَ يُشَبِّهُونَ الْخَطَّ بِالْخَطِّ حَتَّى يُشْكِلَ ذَلِكَ عَلَى أَعْلَمِهِمْ انْتَهَى.

وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ فَكَيْفَ بِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ وَهُمْ أَكْثَرُ مُسَارَعَةً إِلَى الشَّرِّ مِمَّنْ مَضَى وَأَدَقُّ نَظَرًا فِيهِ

ص: 144

وَأَكْثَرُ هُجُومًا عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّانِي فَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: اخْتَلَفُوا فِي كُتُبِ الْقُضَاةِ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى الْجَوَازِ، وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ الْحُدُودَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَالَّذِي احْتَجَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ عَلَى الْحَنَفِيَّةِ قَوِيٌّ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مَالًا إِلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ الْقَتْلِ قَالَ: وَمَا ذَكَرَهُ عَنِ الْقُضَاةِ مِنَ التَّابِعِينَ مِنْ إِجَازَةِ ذَلِكَ حُجَّتُهُمْ فِيهِ ظَاهِرَةٌ مِنَ الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَى الْمُلُوكِ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَشْهَدَ أَحَدًا عَلَى كِتَابِهِ. قَالَ: ثُمَّ أَجْمَعَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ سَوَّارٌ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى مِنَ اشْتِرَاطِ الشُّهُودِ لِمَا دَخَلَ النَّاسُ مِنَ الْفَسَادِ فَاحْتِيطَ لِلدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ.

وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ الْقَدِيمِ إِجَازَةُ الْخَوَاتِيمِ حَتَّى أَنَّ الْقَاضِيَ لَيَكْتُبُ لِلرَّجُلِ الْكِتَابَ، فَمَا يَزِيدُ عَلَى خَتْمِهِ فَيُعْمَلُ بِهِ، حَتَّى اتُّهِمُوا فَصَارَ لَا يُقْبَلُ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ.

وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّالِثُ فَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: اخْتَلَفُوا إِذَا أَشْهَدَ الْقَاضِي شَاهِدَيْنِ عَلَى مَا كَتَبَهُ وَلَمْ يَقْرَأْهُ عَلَيْهِمَا وَلَا عَرَّفَهُمَا بِمَا فِيهِ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ ذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا} قَالَ: وَحُجَّةُ مَالِكٍ أَنَّ الْحَاكِمَ إِذَا أَقَرَّ أَنَّهُ كِتَابُهُ فَالْغَرَضُ مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ أَنْ يُعْلِمَ الْقَاضِيَ الْمَكْتُوبَ إِلَيْهِ أَنَّ هَذَا كِتَابُ الْقَاضِي إِلَيْهِ، وَقَدْ يَثْبُتُ عِنْدَ الْقَاضِي مِنْ أُمُورِ النَّاسِ مَا لَا يَجِبُ أَنْ يَعْلَمَهُ كُلُّ أَحَدٍ كَالْوَصِيَّةِ إِذَا ذَكَرَ الْمُوصِي مَا فَرَّطَ فِيهِ مَثَلًا. قَالَ: وَقَدْ أَجَازَ مَالِكٌ أَيْضًا أَنْ يَشْهَدَا عَلَى الْوَصِيَّةِ الْمَخْتُومَةِ وَعَلَى الْكِتَابِ الْمَطْوِيِّ، وَيَقُولَانِ لِلْحَاكِمِ: نَشْهَدُ عَلَى إِقْرَارِهِ بِمَا فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَالْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ كُتُبُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى عُمَّالِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْرَأَهَا عَلَى مَنْ حَمَلَهَا، وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْأَحْكَامِ وَالسُّنَنِ.

وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: يُسْتَفَادُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ الْكِتَابَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَخْتُومًا فَالْحُجَّةُ بِمَا فِيهِ قَائِمَةٌ لِكَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا اتَّخَذَ الْخَاتَمَ لِقَوْلِهِمْ إِنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ الْكِتَابَ إِلَّا إِذَا كَانَ مَخْتُومًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كِتَابَ الْقَاضِي حُجَّةٌ مَخْتُومًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَخْتُومٍ. وَاخْتُلِفَ فِي الْحُكْمِ بِالْخَطِّ الْمُجَرَّدِ كَأَنْ يَرَى الْقَاضِي خَطَّهُ بِالْحُكْمِ فَيَطْلُبُ مِنْهُ الْمَحْكُومُ لَهُ الْعَمَلَ بِهِ، فَالْأَكْثَرُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ حَتَّى يَتَذَكَّرَ الْوَاقِعَةَ كَمَا فِي الشَّاهِدِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ الْمَكْتُوبُ فِي حِرْزِ الْحَاكِمِ أَوِ الشَّاهِدِ مُنْذُ حُكِمَ فِيهِ أَوْ تَحَمَّلَ إِلَى أَنْ طُلِبَ مِنْهُ الْحُكْمُ أَوِ الشَّهَادَةُ جَازَ وَلَوْ لَمْ يَتَذَكَّرْ وَإِلَّا فَلَا، وَقِيلَ: إِذَا تَيَقَّنَ أَنَّهُ خَطُّهُ سَاغَ لَهُ الْحُكْمُ وَالشَّهَادَةُ وَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ، وَالْأَوْسَطُ أَعْدَلُ الْمَذَاهِبِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ رَجَّحَهَا كَثِيرٌ مِنْ أَتْبَاعِهِ، وَالْأَوَّلُ قَوْلُ مَالِكٍ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.

قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَمْ يَتَعَرَّضِ الشَّارِحُ لِمَقْصُودِ الْبَابِ لِأَنَّ الْبُخَارِيَّ اسْتَدَلَّ عَلَى الْخَطِّ بِكِتَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الرُّومِ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ مَضْمُونَ الْكِتَابِ دُعَاؤُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ قَدِ اشْتَهَرَ لِثُبُوتِ الْمُعْجِزَةِ وَالْقَطْعِ بِصِدْقِهِ فِيمَا دَعَا إِلَيْهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُمْ بِمُجَرَّدِ الْخَطِّ، فَإِنَّهُ عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِ إِنَّمَا يُفِيدُ ظَنًّا، وَالْإِسْلَامُ لَا يُكْتَفَى فِيهِ بِالظَّنِّ إِجْمَاعًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ حَصَلَ بِمَضْمُونِ الْخَطِّ مَقْرُونًا بِالتَّوَاتُرِ السَّابِقِ عَلَى الْكِتَابِ، فَكَانَ الْكِتَابُ كَالتَّذْكِرَةِ وَالتَّوْكِيدِ فِي الْإِنْذَارِ، مَعَ أَنَّ حَامِلَ الْكِتَابِ قَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اطَّلَعَ عَلَى مَا فِيهِ وَأُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ.

وَالْحَقُّ أَنَّ الْعُمْدَةَ عَلَى أَمْرِهِ الْمَعْلُومِ مَعَ قَرَائِنِ الْحَالِ الْمُصَاحِبَةُ لِحَامِلِ الْكِتَابِ، وَمَسْأَلَةُ الشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ مَفْرُوضَةٌ فِي الِاكْتِفَاءِ بِمُجَرَّدِ الْخَطِّ، قَالَ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ وَبَيْنَ كِتَابِ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي فِي أَنَّ الْقَائِلَ بِالْأَوَّلِ أَقَلُّ مِنَ الْقَائِلِ بِالثَّانِي تَطَرُّقُ الِاحْتِمَالِ فِي الْأَوَّلِ وَنُدُورهُ فِي الثَّانِي لِبُعْدِ احْتِمَالِ التَّزْوِيرِ عَلَى الْقَاضِي، وَلَا سِيَّمَا حَيْثُ تُمْكِنُ الْمُرَاجَعَةُ، وَلِذَلِكَ شَاعَ الْعَمَلُ بِهِ فِيمَا بَيْنَ الْقُضَاةِ وَنُوَّابِهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌16 - بَاب مَتَى يَسْتَوْجِبُ الرَّجُلُ الْقَضَاءَ؟

ص: 145

وَقَالَ الْحَسَنُ: أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْحُكَّامِ أَنْ لَا يَتَّبِعُوا الْهَوَى، وَلَا يَخْشَوْا النَّاسَ، وَلَا يَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا، ثُمَّ قَرَأَ:{يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} وَقَرَأَ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ * بِمَا سْتُحْفِظُوا} اسْتُوْدِعُوا {مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} الآية، وَقَرَأَ:{وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} فَحَمِدَ سُلَيْمَانَ وَلَمْ يَلُمْ دَاوُدَ، وَلَوْلَا مَا ذَكَرَ اللَّهُ مِنْ أَمْرِ هَذَيْنِ لَرَأَيْتُ أَنَّ الْقُضَاةَ هَلَكُوا، فَإِنَّهُ أَثْنَى عَلَى هَذَا بِعِلْمِهِ، وَعَذَرَ هَذَا بِاجْتِهَادِهِ. وَقَالَ مُزَاحِمُ بْنُ زُفَرَ: قَالَ لَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: خَمْسٌ إِذَا أَخْطَأَ الْقَاضِي مِنْهُنَّ خطة كَانَتْ فِيهِ وَصْمَةٌ: أَنْ يَكُونَ فَهِمًا، حَلِيمًا، عَفِيفًا، صَلِيبًا، عَالِمًا، سَئُولًا عَنْ الْعِلْمِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَتَى يَسْتَوْجِبُ الرَّجُلُ الْقَضَاءَ)؟ أَيْ مَتَى يَسْتَحِقُّ أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْكَرَابِيسِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ آدَابِ الْقَضَاءِ لَهُ: لَا أَعْلَمُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ مِمَّنْ سَلَفَ خِلَافًا أَنَّ أَحَقَّ النَّاسِ أَنْ يَقْضِيَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ بَانَ فَضْلُهُ وَصِدْقُهُ وَعِلْمُهُ وَوَرَعُهُ، قَارِئًا لِكِتَابِ اللَّهِ، عَالِمًا بِأَكْثَرِ أَحْكَامِهِ، عَالِمًا بِسُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ حَافِظًا لِأَكْثَرِهَا، وَكَذَا أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ، عَالِمًا بِالْوِفَاقِ وَالْخِلَافِ وَأَقْوَالِ فُقَهَاءِ التَّابِعِينَ يَعْرِفُ الصَّحِيحَ مِنَ السَّقِيمِ يَتَّبِعُ فِي النَّوَازِلِ الْكِتَابَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَالسُّنَنُ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ عَمِلَ بِمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ، فَإِنِ اخْتَلَفُوا فَمَا وَجَدَهُ أَشْبَهَ بِالْقُرْآنِ ثُمَّ بِالسُّنَّةِ ثُمَّ بِفَتْوَى أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ عَمِلَ بِهِ، وَيَكُونُ كَثِيرَ الْمُذَاكَرَةِ مَعَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْمُشَاوَرَةِ لَهُمْ مَعَ فَضْلٍ وَوَرَعٍ، وَيَكُونُ حَافِظًا لِلِسَانِهِ وَبَطْنِهِ وَفَرْجِهِ، فَهِمًا بِكَلَامِ الْخُصُومِ، ثُمَّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا مَائِلًا عَنِ الْهَوَى ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا وَإِنْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَدٌ يَجْمَعُ هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَلَكِنْ يَجِبُ أَنْ يُطْلَبَ مِنْ أَهْلِ كُلِّ زَمَانٍ أَكْمَلُهُمْ وَأَفْضَلُهُمْ. وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: لَا يَكْفِي فِي اسْتِحْبَابِ الْقَضَاءِ أَنْ يَرَى نَفْسَهُ أَهْلًا لِذَلِكَ، بَلْ أَنْ يَرَاهُ النَّاسُ أَهْلًا لِذَلِكَ.

وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ، عَنْ مَالِكٍ: لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي عَالِمًا عَاقِلًا. قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِلْمٌ فَعَقْلٌ وَوَرَعٌ؛ لِأَنَّهُ بِالْوَرَعِ يَقِفُ وَبِالْعَقْلِ يَسْأَلُ، وَهُوَ إِذَا طَلَبَ الْعِلْمَ وَجَدَهُ، وَإِذَا طَلَبَ الْعَقْلَ لَمْ يَجِدْهُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ غَنِيًّا، وَالْأَصْلُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ} الْآيَةَ. قَالَ: وَالْقَاضِي لَا يَكُونُ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ إِلَّا غَنِيًّا؛ لِأَنَّ غِنَاهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَإِذَا مُنِعَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَاحْتَاجَ كَانَ تَوْلِيَةُ مَنْ يَكُونُ غَنِيًّا أَوْلَى مِنْ تَوْلِيَةِ مَنْ يَكُونُ فَقِيرًا؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ فِي مَظِنَّةِ مَنْ يَتَعَرَّضُ لِتَنَاوُلِ مَا لَا يَجُوزُ تَنَاوُلُهُ. قُلْتُ: وَهَذَا قَالَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الزَّمَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ وَلَمْ يُدْرِكْ زَمَانَهُ هَذَا الَّذِي صَارَ مَنْ يَطْلُبُ الْقَضَاءَ فِيهِ يُصَرِّحُ بِأَنَّ سَبَبَ طَلَبِهِ الِاحْتِيَاجُ إِلَى مَا يَقُومُ بِأَوَدِهِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. وَاتَّفَقُوا عَلَى اشْتِرَاطِ الذُّكُورِيَّةِ فِي الْقَاضِي إِلَّا عَنِ

ص: 146

الْحَنَفِيَّةِ، وَاسْتَثْنَوُا الْحُدُودَ، وَأَطْلَقَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: مَا أَفْلَحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أُمُورَهُمُ امْرَأَةً وَقَدْ تَقَدَّمَ؛ وَلِأَنَّ الْقَاضِي يَحْتَاجُ إِلَى كَمَالِ الرَّأْيِ، وَرَأْيُ الْمَرْأَةِ نَاقِصٌ وَلَا سِيَّمَا فِي مَحَافِلِ الرِّجَالِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَسَنُ) هُوَ الْبَصْرِيُّ.

قَوْلُهُ (أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْحُكَّامِ أَنْ لَا يَتَّبِعُوا الْهَوَى وَلَا يَخْشَوُا النَّاسَ) وَلَا يَشْتَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، ثُمَّ قَرَأَ:{يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} - إِلَى - {يَوْمَ الْحِسَابِ} وَقَرَأَ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} - إِلَى قَوْلِهِ -: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} . قُلْتُ: فَأَرَادَ مِنْ آيَةِ (يَا دَاوُدُ) قَوْلَهُ: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} وَأَرَادَ مِنْ آيَةِ الْمَائِدَةِ: بَقِيَّةَ مَا ذُكِرَ، وَأَطْلَقَ عَلَى هَذِهِ الْمَنَاهِي أَمْرًا إِشَارَةً إِلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ، فَفِي النَّهْيِ عَنِ الْهَوَى أَمْرٌ بِالْحُكْمِ بِالْحَقِّ، وَفِي النَّهْيِ عَنْ خَشْيَةِ النَّاسِ أَمْرٌ بِخَشْيَةِ اللَّهِ، وَمِنْ لَازِمِ خَشْيَةِ اللَّهِ الْحُكْمُ بِالْحَقِّ، وَفِي النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ آيَاتِهِ الْأَمْرُ بِاتِّبَاعِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا وُصِفَ الثَّمَنُ بِالْقِلَّةِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ وَصْفٌ لَازِمٌ لَهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْعِوَضِ، فَإِنَّهُ أَغْلَى مِنْ جَمِيعِ مَا حَوَتْهُ الدُّنْيَا.

قَوْلُهُ: (بِمَا اسْتُحْفِظُوا: اسْتُوْدِعُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ الْآيَةَ) ثَبَتَ هَذَا لِلْمُسْتَمْلِي، وَهُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} أَيْ بِمَا اسْتُودِعُوا، اسْتَحْفَظْتُهُ كَذَا اسْتَوْدَعْتُهُ إِيَّاهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَرَأَ) أَيِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ الْمَذْكُورُ {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} إِلَى آخِرِهَا رُوِّينَاهُ مَوْصُولًا فِي حِلْيَةِ الْأَوْلِيَاءِ لِأَبِي نُعَيْمٍ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْحَافِظِ الْمَعْرُوفِ بِمُرَبَّعٍ بِمُوَحَّدَةٍ وَمُهْمَلَةٍ وَزْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَوَّامِ هُوَ عِمْرَانُ الْقَطَّانُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ وَهُوَ ابْنُ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فَذَكَرَهُ، وَمَعْنَى أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْحُكَّامِ عَهِدَ إِلَيْهِمْ.

قَوْلُهُ: (فَحَمِدَ سُلَيْمَانَ وَلَمْ يَلُمْ دَاوُدَ، وَلَوْلَا مَا ذَكَرَ اللَّهُ مِنْ أَمْرِ هَذَيْنِ) يَعْنِي دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ، وَقَوْلُهُ لَرَأَيْتُ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: لَرَوَيْتُ أَنَّ الْقُضَاةَ هَلَكُوا يَعْنِي لِمَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَتَانِ الْمَاضِيَتَانِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ كَافِرٌ، فَدَخَلَ فِي عُمُومِهِ الْعَامِدُ وَالْمُخْطِئُ، وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} يَشْمَلُ الْعَامِدَ وَالْمُخْطِئَ، فَاسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ الْأُخْرَى فِي قِصَّةِ الْحَرْثِ أَنَّ الْوَعِيدَ خَاصٌّ بِالْعَامِدِ، فَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّهُ أَثْنَى عَلَى هَذَا بِعِلْمِهِ؛ أَيْ بِسَبَبِ عِلْمِهِ أَيْ مَعْرِفَتِهِ وَفَهْمِهِ وَجْهَ الْحُكْمِ وَالْحُكْمَ بِهِ، وَعَذَرَ بِفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ هَذَا بِاجْتِهَادِهِ. وَرُوِّينَا بَعْضَهُ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَفِي الْمُجَالَسَةِ لِأَبِي بَكْرٍ الدِّينَوَرِيِّ وَفِي أَمَالِي الصُّولِيِّ جَمِيعًا يَزِيدُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ قَالَ: دَخَلْنَا مَعَ الْحَسَنِ عَلَى إِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ حِينَ اسْتُقْضِيَ قَالَ: فَبَكَى إِيَاسٌ وَقَالَ: يَا أَبَا سَعِيدٍ - يَعْنِي الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ الْمَذْكُورَ - يَقُولُونَ: الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: رَجُلٌ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ مَالَ مَعَ الْهَوَى فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ اجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ فَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ فِيمَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ سُلَيْمَانَ مَا يَرُدُّ عَلَى مَنْ قَالَ هَذَا وَقَرَأَ: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} - إِلَى قَوْلِهِ - {شَاهِدِينَ} قَالَ: فَحَمِدَ سُلَيْمَانَ لِصَوَابِهِ وَلَمْ يَذُمَّ دَاوُدَ لِخَطَئِهِ.

ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَخَذَ عَلَى الْحُكَّامِ عَهْدًا بِأَنْ لَا يَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا وَلَا يَتَّبِعُوا فِيهِ الْهَوَى وَلَا يَخْشَوْا فِيهِ أَحَدًا، ثُمَّ تَلَا:{يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً} إِلَى آخَرِ الْآيَةِ. قُلْتُ: وَالْحَدِيثُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ إِيَاسٌ أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ، وَلَكِنْ عِنْدَهُمُ الثَّالِثُ قَضَى بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَقَدْ جَمَعْتُ طُرُقَهُ فِي جُزْءٍ مُفْرَدٍ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَنَّهُ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ، وَسَيَأْتِي حُكْمُ مَنِ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ بَعْدَ أَبْوَابٍ، وَاسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ عَلَى أَنَّ لِلنَّبِيِّ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْأَحْكَامِ وَلَا يَنْتَظِرَ نُزُولَ الْوَحْيِ؛ لِأَنَّ دَاوُدَ عليه السلام عَلَى مَا وَرَدَ اجْتَهَدَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَضَى فِيهَا بِالْوَحْيِ مَا خَصَّ اللَّهُ سُلَيْمَانَ بِفَهْمِهَا دُونَهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ مَنْ أَجَازَ لِلنَّبِيِّ أَنْ يَجْتَهِدَ هَلْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ فِي اجْتِهَادِهِ؟ فَاسْتَدَلَّ مَنْ أَجَازَ

ص: 147

ذَلِكَ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ. وَقَدِ اتَّفَقَ الْفَرِيقَانِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَخْطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ لَمْ يُقَرَّ عَلَى الْخَطَأِ وَأَجَابَ مَنْ مَنَعَ الِاجْتِهَادَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ دَاوُدَ اجْتَهَدَ وَلَا أَخْطَأَ، وَإِنَّمَا ظَاهِرُهَا أَنَّ الْوَاقِعَةَ اتَّفَقَتْ فَعُرِضَتْ عَلَى دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ فَقَضَى فِيهَا سُلَيْمَانُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ فَهَّمَهُ حُكْمَهَا، وَلَمْ يَقْضِ فِيهَا دَاوُدُ بِشَيْءٍ، وَيُرَدُّ عَلَى مَنْ تَمَسَّكَ بِذَلِكَ بِمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ النَّقْلِ فِي صُورَةِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ. وَقَدْ تَضَمَّنَ أَثَرُ الْحَسَنِ الْمَذْكُورُ أَنَّهُمَا جَمِيعًا حَكَمَا.

وَقَدْ تَعَقَّبَ ابْنُ الْمُنِيرِ قَوْلَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَلَمْ يَذُمَّ دَاوُدَ بِأَنَّ فِيهِ نَقْصًا لَحِقَ دَاوُدَ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ قَالَ {وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} فَجَمَعَهُمَا فِي الْحُكْمِ وَالْعِلْمِ، وَمَيَّزَ سُلَيْمَانَ بِالْفَهْمِ، وَهُوَ عِلْمٌ خَاصٌّ زَادَ عَلَى الْعَامِّ بِفَصْلِ الْخُصُومَةِ. قَالَ: وَالْأَصَحُّ فِي الْوَاقِعَةِ أَنَّ دَاوُدَ أَصَابَ الْحُكْمَ وَسُلَيْمَانَ أَرْشَدَ إِلَى الصُّلْحِ، وَلَا يَخْلُو قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} أَنْ يَكُونَ عَامًّا أَوْ فِي وَاقِعَةِ الْحَرْثِ فَقَطْ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يَكُونُ أَثْنَى عَلَى دَاوُدَ فِيهَا بِالْحُكْمِ وَالْعِلْمِ فَلَا يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ عُذْرِ الْمُجْتَهِدِ إِذَا أَخْطَأَ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ لَيْسَ حُكْمًا وَلَا عِلْمًا وَإِنَّمَا هُوَ ظَنٌّ غَيْرُ مُصِيبٍ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الْوَاقِعَةِ فَلَا يَكُونُ تَعَالَى أَخْبَرَ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ بِخُصُوصِهَا عَنْ دَاوُدَ بِإِصَابَةٍ وَلَا خَطَأٍ، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِتَفْهِيمِ سُلَيْمَانَ وَمَفْهُومُهُ لَقَبٌ وَالِاحْتِجَاجُ بِهِ ضَعِيفٌ، فَلَا يُقَالُ: فَهِمَهَا سُلَيْمَانُ دُونَ دَاوُدَ، وَإِنَّمَا خُصَّ سُلَيْمَانُ بِالتَّفْهِيمِ لِصِغَرِ سِنِّهِ فَيُسْتَغْرَبُ مَا يَأْتِي بِهِ.

قُلْتُ: وَمَنْ تَأَمَّلَ مَا نُقِلَ فِي الْقِصَّةِ ظَهَرَ لَهُ أَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ كَانَ فِي الْأَوْلَوِيَّةِ لَا فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِ الْحَسَنِ حَمِدَ سُلَيْمَانَ أَيْ لِمُوَافَقَتِهِ الطَّرِيقَ الْأَرْجَحَ وَلَمْ يَذُمَّ دَاوُدَ لِاقْتِصَارِهِ عَلَى الطَّرِيقِ الرَّاجِحِ، وَقَدْ وَقَعَ لِعُمَرَ رضي الله عنه قَرِيبٌ مِمَّا وَقَعَ لِسُلَيْمَانَ، وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ مَاتَ وَخَلَّفَ مَالًا لَهُ نَمَاءٌ وَدُيُونًا، فَأَرَادَ أَصْحَابُ الدُّيُونِ بَيْعَ الْمَالِ فِي وَفَاءِ الدَّيْنِ لَهُمْ، فَاسْتَرْضَاهُمْ عُمَرُ بِأَنْ يُؤَخِّرُوا التَّقَاضِيَ حَتَّى يَقْبِضُوا دُيُونَهُمْ مِنَ النَّمَاءِ، وَيَتَوَفَّرَ لِأَيْتَامِ الْمُتَوَفَّى أَصْلُ الْمَالِ، فَاسْتُحْسِنَ ذَلِكَ مِنْ نَظَرِهِ.

وَلَوْ أَنَّ الْخُصُومَ امْتَنَعُوا لَمَا مَنَعَهُمْ مِنَ الْبَيْعِ. وَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ يُمْكِنُ تَنْزِيلُ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْحَرْثِ وَالْغَنَمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَتَقَدَّمَ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ شَرْحُ الْقِصَّةِ الَّتِي وَقَعَتْ لِدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ فِي الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ أَخَذَ الذِّئْبُ ابْنَ إِحْدَاهُمَا وَاخْتِلَافُ حُكْمِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ فِي ذَلِكَ، وَتَوْجِيهُ حُكْمِ دَاوُدَ بِمَا يَقْرُبُ مِمَّا ذُكِرَ هُنَا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَوَقَعَتْ لَهُمَا قِصَّةٌ ثَالِثَةٌ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الشُّهُودِ فِي قِصَّةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي اتُّهِمَتْ بِأَنَّهَا تَحْمِلُ عَلَى نَفْسِهَا، فَشَهِدَ عَلَيْهَا أَرْبَعَةٌ بِذَلِكَ، فَأَمَرَ دَاوُدُ بِرَجْمِهَا، فَعَمَدَ سُلَيْمَانُ وَهُوَ غُلَامٌ فَصَوَّرَ مِثْلَ قِصَّتِهَا بَيْنَ الْغِلْمَانِ، ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَ الشُّهُودِ وَامْتَحَنَهُمْ فَتَخَالَفُوا فَدَرَأَ عَنْهَا، وَوَقَعَتْ لَهُمَا رَابِعَةٌ فِي قِصَّةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي صُبَّ فِي دُبُرِهَا مَاءُ الْبَيْضِ وَهِيَ نَائِمَةٌ، وَقِيلَ: إِنَّهَا زَنَتْ فَأَمَرَ دَاوُدُ بِرَجْمِهَا، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: يُشْوَى ذَلِكَ الْمَاءُ فَإِنِ اجْتَمَعَ فَهُوَ بَيْضٌ، وَإِلَّا فَهُوَ مَنِيٌّ، فَشُوِيَ فَاجْتَمَعَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: كَانَ حَرْثُهُمْ عِنَبًا نَفَشَتْ فِيهِ الْغَنَمُ أَيْ رَعَتْ لَيْلًا، فَقَضَى دَاوُدُ بِالْغَنَمِ لَهُمْ، فَمَرُّوا عَلَى سُلَيْمَانَ فَأَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ فَقَالَ سُلَيْمَانُ: لَا، وَلَكِنْ أَقْضِي بَيْنَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا الْغَنَمَ فَيَكُونَ لَهُمْ لَبَنُهَا وَصُوفُهَا وَمَنْفَعَتُهَا وَيَقُومُ هَؤُلَاءِ عَلَى حَرْثِهِمْ، حَتَّى إِذَا عَادَ كَمَا كَانَ رَدُّوا عَلَيْهِمْ غَنَمَهُمْ.

وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ لَيِّنٌ فَقَالَ: فِيهِ عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَسَنَدُهُ حَسَنٌ، وَعَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: قَضَى دَاوُدُ أَنْ يَأْخُذُوا الْغَنَمَ، فَفَهَّمَهَا اللَّهُ سُلَيْمَانَ فَقَالَ: خُذُوا الْغَنَمَ فَلَكُمْ مَا خَرَجَ مِنْ رَسَلِهَا وَأَوْلَادِهَا وَصُوفِهَا إِلَى الْحَوْلِ.

وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: أَعْطَاهُمْ دَاوُدُ رِقَابَ الْغَنَمِ بِالْحَرْثِ، فَحَكَمَ سُلَيْمَانُ بِجِزَّةِ الْغَنَمِ وَأَلْبَانِهَا لِأَهْلِ الْحَرْثِ وَعَلَيْهِمْ رِعَايَتُهَا، وَيَحْرُثُ لَهُمْ أَهْلُ الْغَنَمِ حَتَّى يَكُونَ كَهَيْئَةِ يَوْمَ أُكِلَ، ثُمَّ يُدْفَعُ لِأَهْلِهِ وَيَأْخُذُونَ غَنَمَهُمْ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ الْقِصَّةَ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ

ص: 148

زَيْدٍ، عَنْ خَلِيفَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَمِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَكِنْ قَالَ فِيهَا: قَالَ سُلَيْمَانُ: إِنَّ الْحَرْثَ لَا يَخْفَى عَلَى صَاحِبِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ كُلَّ عَامٍ، فَلَهُ مِنْ صَاحِبِ الْغَنَمِ أَنْ يَبِيعَ مِنْ أَوْلَادِهَا وَصُوفِهَا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ ثَمَنَ حَرْثِهِ، فَقَالَ دَاوُدُ: قَدْ أَصَبْتَ وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ، عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ نَحْوَ الْأَوَّلِ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: قِيلَ: عَلِمَ سُلَيْمَانُ أَنَّ قِيمَةَ مَا أَفْسَدَتِ الْغَنَمُ مِثْلُ مَا يَصِيرُ إِلَيْهِمْ مِنْ لَبَنِهَا وَصُوفِهَا.

وَقَالَ أَيْضًا: وَرَدَ فِي قِصَّةِ نَاقَةِ الْبَرَاءِ الَّتِي أَفْسَدَتْ فِي حَائِطٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى أَنَّ عَلَى أَهْلِ الْحَوَائِطِ حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ، وَإنَّ الَّذِي أَفْسَدَتِ الْمَوَاشِي بِاللَّيْلِ ضَمَانُهُ عَلَى أَهْلِهَا أَيْ ضَمَانُ قِيمَتِهِ، هَذَا خِلَافُ شَرْعِ سُلَيْمَانَ قَالَ: فَلَوْ تَرَاضَيَا بِالدَّفْعِ عَنْ قِيمَةِ مَا أَفْسَدَتْ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَتَّى يَعْرِفَا الْقِيمَةَ قُلْتُ: وَرِوَايَةُ الْعَوْفِيِّ إِنْ كَانَتْ مَحْفُوظَةً تَرْفَعُ الْإِشْكَالَ، وَإِلَّا فَالْجَوَابُ مَا نَقَلَ ابْنُ التِّينِ أَوَّلًا، وَلَا يَكُونُ بَيْنَ الشَّرْعَيْنِ مُخَالَفَةٌ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُزَاحِمٌ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَتَخْفِيفِ الزَّايِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ حَاءٌ مُهْمَلَةٌ (ابْنُ زُفَرَ) بِزَايٍ وَفَاءٍ وَزْنُ عُمَرَ، هُوَ الْكُوفِيُّ، وَيُقَالُ مُزَاحِمُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ ثِقَةٌ أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ.

قَوْلُهُ: (قَالَ لَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ) أَيِ الْخَلِيفَةُ الْمَشْهُورُ الْعَادِلُ.

قَوْلُهُ: خَمْسٌ إِذَا أَخْطَأَ الْقَاضِي مِنْهُنَّ خُطَّةً بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ، كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ عَنْ غَيْرِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَلَهُ عَنْهُ خَصْلَةً بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ الْبَاقِينَ وَهُمَا بِمَعْنًى.

قَوْلُهُ: (وَصْمَةٌ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ عَيْبًا.

قَوْلُهُ: (أَنْ يَكُونَ) تَفْسِيرٌ لِحَالِ الْقَاضِي الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ: (فَهِمًا) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ وَهُوَ مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ، وَيَجُوزُ تَسْكِينُ الْهَاءِ أَيْضًا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي فَقِيهًا وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ خَصْلَةَ الْفِقْهِ دَاخِلَةٌ فِي خَصْلَةِ الْعِلْمِ وَهِيَ مَذْكُورَةٌ بَعْدُ.

قَوْلُهُ: (حَلِيمًا) أَيْ يُغْضِي عَلَى مَنْ يُؤْذِيهِ وَلَا يُبَادِرُ إِلَى الِانْتِقَامِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ قَوْلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ صَلِيبًا لِأَنَّ الْأَوَّلَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَالثَّانِي فِي حَقِّ غَيْرِهِ.

قَوْلُهُ: (عَفِيفًا) أَيْ يَعِفُّ عَنِ الْحَرَامِ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ عَالِمًا وَلَمْ يَكُنْ عَفِيفًا كَانَ ضَرَرُهُ أَشَدَّ مِنْ ضَرَرِ الْجَاهِلِ. قَوْلُهُ (صَلِيبًا) بِصَادٍ مُهْمَلَةٍ وَبَاءٍ مُوَحَّدَةٍ مِنَ الصَّلَابَةِ بِوَزْنِ عَظِيمٍ، أَيْ قَوِيًّا شَدِيدًا يَقِفُ عِنْدَ الْحَقِّ وَلَا يَمِيلُ مَعَ الْهَوَى، وَيَسْتَخْلِصُ حَقَّ الْمُحِقِّ مِنَ الْمُبْطِلِ وَلَا يُحَابِيهِ.

قَوْلُهُ (عَالِمًا سَئُولًا عَنِ الْعِلْمِ) هِيَ خَصْلَةٌ وَاحِدَةٌ أَيْ يَكُونُ مَعَ مَا يَسْتَحْضِرُهُ مِنَ الْعِلْمِ مُذَاكِرًا لَهُ غَيْرُهُ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ مَا هُوَ أَقْوَى مِمَّا عِنْدَهُ. وَهَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي السُّنَنِ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبَّادٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ عَنْ عَفَّانَ كِلَاهُمَا قَالَ حَدَّثَنَا مُزَاحِمُ بْنُ زُفَرَ قَالَ: قَدِمْنَا عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي خِلَافَتِهِ وَفْدٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَسَأَلَنَا عَنْ بِلَادِنَا وَقَاضِينَا وَأَمْرِهِ، وَقَالَ: خَمْسٌ إِذَا أَخْطَأَ وَرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِلَفْظٍ آخَرَ أَخْرَجَهُ أَيْضًا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَسَدِيِّ هُوَ أَحْمَدُ الزُّبَيْرِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ هُوَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا حَتَّى يَكُونَ فِيهِ خَمْسُ خِصَالٍ: عَفِيفٌ، حَلِيمٌ، عَالِمٌ بِمَا كَانَ قَبْلَهُ، يَسْتَشِيرُ ذَوِي الرَّأْيِ، لَا يُبَالِي بِمَلَامَةِ النَّاسِ وَجَاءَ فِي اسْتِحْبَابِ الِاسْتِشَارَةِ آثَارٌ جِيَادٌ. وَأَخْرَجَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالْوَثِيقَةِ مِنَ الْقَضَاءِ فَلْيَأْخُذْ بِقَضَاءِ عُمَرَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَسْتَشِيرُ.

‌17 - بَاب رِزْقِ الْحَاكِمِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا. وَكَانَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي يَأْخُذُ عَلَى الْقَضَاءِ أَجْرًا.

وَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَأْكُلُ الْوَصِيُّ بِقَدْرِ عمَالَتِهِ، وَأَكَلَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ

ص: 149

7163 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ ابْنُ أُخْتِ نَمِرٍ أَنَّ حُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزَّى أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ السَّعْدِيِّ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ فِي خِلَافَتِهِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَلَمْ أُحَدَّثْ أَنَّكَ تَلِيَ مِنْ أَعْمَالِ النَّاسِ أَعْمَالًا، فَإِذَا أُعْطِيتَ الْعُمَالَةَ كَرِهْتَهَا؟ فَقُلْتُ: بَلَى. فَقَالَ عُمَرُ: مَا تُرِيدُ إِلَى ذَلِكَ؟ قُلْتُ: إِنَّ لِي أَفْرَاسًا وَأَعْبُدًا وَأَنَا بِخَيْرٍ، وَأُرِيدُ أَنْ تَكُونَ عُمَالَتِي صَدَقَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ. قَالَ عُمَرُ: لَا تَفْعَلْ، فَإِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الَّذِي أَرَدْتَ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِينِي الْعَطَاءَ، فَأَقُولُ: أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي، حَتَّى أَعْطَانِي مَرَّةً مَالًا، فَقُلْتُ: أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: خُذْهُ، فَتَمَوَّلْهُ وَتَصَدَّقْ بِهِ، فَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ فَخُذْهُ، وَإِلَّا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ.

7164 -

وَعَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْطِينِي الْعَطَاءَ فَأَقُولُ: أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي، حَتَّى أَعْطَانِي مَرَّةً مَالًا، فَقُلْتُ: أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّي، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ وَتَصَدَّقْ بِهِ، فَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ فَخُذْهُ وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ رِزْقِ الْحَاكِمِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا) هُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ، وَالرِّزْقُ مَا يُرَتِّبُهُ الْإِمَامُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِمَنْ يَقُومُ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالَ الْمُطَرِّزِيُّ: الرِّزْقُ مَا يُخْرِجُهُ الْإِمَامُ كُلَّ شَهْرٍ لِلْمُرْتَزِقَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَالْعَطَاءُ مَا يُخْرِجُهُ كل عَامّ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} عَطْفًا عَلَى الْحَاكِمِ أَيْ وَرِزْقُ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا أَيْ عَلَى الْحُكُومَاتِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَوْرَدَ الْجُمْلَةَ عَلَى الْحِكَايَةِ يُرِيدُ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى جَوَازِ أَخْذِ الرِّزْقِ بِآيَةِ الصَّدَقَاتِ وَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْمُسْتَحِقِّينَ لَهَا لِعَطْفِهِمْ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ بَعْدَ قَوْلِهِ {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} قَالَ الطَّبَرِيُّ: ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِ أَخْذِ الْقَاضِي الْأُجْرَةَ عَلَى الْحُكْمِ لِكَوْنِهِ يَشْغَلُهُ الْحُكْمُ عَنِ الْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِ، غَيْرَ أَنَّ طَائِفَةً مِنَ السَّلَفِ كَرِهَتْ ذَلِكَ وَلَمْ يُحَرِّمُوهُ مَعَ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْكَرَابِيسِيُّ: لَا بَأْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَأْخُذَ الرِّزْقَ عَلَى الْقَضَاءِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ قَاطِبَةً مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ لَا أَعْلَمُ بَيْنَهُمَا اخْتِلَافًا، وَقَدْ كَرِهَ ذَلِكَ قَوْمٌ مِنْهُمْ مَسْرُوقٌ، وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْهُمْ حَرَّمَهُ. وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: وَجْهُ الْكَرَاهَةِ أَنَّهُ فِي الْأَصْلِ مَحْمُولٌ عَلَى الِاحْتِسَابِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} فَأَرَادُوا أَنْ يَجْرِيَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي وَضَعَهُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ، وَلِئَلَّا يَدْخُلَ فِيهِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ فَيَتَحَيَّلَ عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ.

وَقَالَ غَيْرُهُ: أَخْذُ الرِّزْقِ عَلَى الْقَضَاءِ إِذَا كَانَتْ جِهَةُ الْأَخْذِ مِنَ الْحَلَالِ جَائِزًا إِجْمَاعًا، وَمَنْ تَرَكَهُ إِنَّمَا تَرَكَهُ تَوَرُّعًا، وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ هُنَاكَ شُبْهَةٌ فَالْأَوْلَى التَّرْكُ جَزْمًا، وَيَحْرُمُ إِذَا كَانَ الْمَالُ يُؤْخَذُ لِبَيْتِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ، وَاخْتُلِفَ إِذَا كَانَ الْغَالِبُ حَرَامًا: وَأَمَّا مِنْ غَيْرِ بَيْتِ الْمَالِ فَفِي جَوَازِ الْأَخْذِ مِنَ الْمُتَحَاكِمَيْنِ خِلَافٌ، وَمَنْ أَجَازَهُ شَرَطَ فِيهِ شُرُوطًا لَا بُدَّ مِنْهَا، وَقَدْ جَرَّ الْقَوْلُ بِالْجَوَازِ إِلَى إِلْغَاءِ الشُّرُوطِ، وَفَشَا ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ بِحَيْثُ تَعَذَّرَ إِزَالَةُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي يَأْخُذُ عَلَى الْقَضَاءِ أَجْرًا) هُوَ شُرَيْحُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ النَّخَعِيُّ الْكُوفِيُّ قَاضِي الْكُوفَةِ، وَلَّاهُ عُمَرُ ثُمَّ قَضَى لِمَنْ بَعْدَهُ بِالْكُوفَةِ دَهْرًا طَوِيلًا،

ص: 150

وَلَهُ مَعَ عَلِيٍّ أَخْبَارٌ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ ثِقَةٌ مُخَضْرَمٌ أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ وَالْإِسْلَامَ، وَيُقَالُ إِنَّ لَهُ صُحْبَةً، مَاتَ قَبْلَ الثَّمَانِينَ وَقَدْ جَاوَزَ الْمِائَةَ. وَهَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ مَجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ بِلَفْظِ: كَانَ مَسْرُوقٌ لَا يَأْخُذُ عَلَى الْقَضَاءِ أَجْرًا، وَكَانَ شُرَيْحٌ يَأْخُذُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَتْ عَائِشَةُ يَأْكُلُ الْوَصِيُّ بِقَدْرِ عُمَالَتِهِ) قُلْتُ: وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} قَالَتْ: أَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي وَالِي مَالِ الْيَتِيمِ يَقُومُ عَلَيْهِ بِمَا يُصْلِحُهُ إِنْ كَانَ مُحْتَاجًا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ.

قَوْلُهُ (وَأَكَلَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ) أَمَّا أَثَرُ أَبِي بَكْرٍ فَوَصَلَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا اسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ: قَدْ عَلِمَ قَوْمِي أَنَّ حِرْفَتِي لَمْ تَكُنْ تَعْجِزْ عَنْ مُؤْنَةِ أَهْلِي، وَقَدْ شُغِلْتُ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ قِصَّةُ عُمَرَ، وَقَدْ أَسْنَدَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْبُيُوعِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَبَقِيَّتُهُ فَسَيَأْكُلُ آلُ أَبِي بَكْرٍ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَيَحْتَرِفُ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ وَفِيهِ أَنَّ عُمَرَ لَمَّا وَلِيَ أَكَلَ هُوَ وَأَهْلُهُ مِنَ الْمَالِ، وَاحْتَرَفَ فِي مَالِ نَفْسِهِ. وَأَمَّا أَثَرُ عُمَرَ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: إِنِّي أَنْزَلْتُ نَفْسِي مِنْ مَالِ اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ قَيِّمِ الْيَتِيمِ، إِنِ اسْتَغْنَيْتُ عَنْهُ تَرَكْتُ وَإِنِ افْتَقَرْتُ إِلَيْهِ أَكَلْتُ بِالْمَعْرُوفِ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ. وَأَخْرَجَ الْكَرَابِيسِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ الْأَحْنَفِ قَالَ: كُنَّا بِبَابِ عُمَرَ - فَذَكَرَ قِصَّةً وَفِيهَا - فَقَالَ عُمَرُ: أَنَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا أَسْتَحِلُّ: مَا أَحُجُّ عَلَيْهِ وَأَعْتَمِرُ، وَحُلَّتَيِ الشِّتَاءِ وَالْقَيْظِ، وَقُوتِي وَقُوتُ عِيَالِي كَرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ لَيْسَ بِأَعْلَاهُمْ وَلَا أَسْفَلَهُمْ وَرَخَّصَ الشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَعَنْ أَحْمَدَ: لَا يُعْجِبُنِي، وَإِنْ كَانَ فَبِقَدْرِ عَمَلِهِ مِثْلُ وَلِيِّ الْيَتِيمِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (ابْنُ أُخْتِ نَمِرٍ) بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْمِيمِ بَعْدَهَا رَاءٌ، هُوَ الصَّحَابِيُّ الْمَشْهُورُ، تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِرَارًا مِنْ أَقْرَبِهَا فِي الْحُدُودِ، وَأَدْرَكَ مِنْ زَمَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سِتَّ سِنِينَ وَحَفِظَ عَنْهُ، وَهُوَ مِنْ أَوَاخِرِ الصَّحَابَةِ مَوْتًا، وَآخِرُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ بِالْمَدِينَةِ، وَقِيلَ مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَقِيلَ مَحْمُودُ بْنُ لَبِيدٍ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ حُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزَّى) أَيِ ابْنَ أَبِي قَيْسِ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ الْقُرَشِيَّ الْعَامِرِيَّ، كَانَ مِنْ أَعْيَانِ قُرَيْشٍ. وَأَسْلَمَ فِي الْفَتْحِ، وَكَانَ حَمِيدَ الْإِسْلَامِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَهُوَ مِمَّنْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ عَاشَ سِتِّينَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَسِتِّينَ فِي الْإِسْلَامِ تَجَوُّزًا، وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ تَحْقِيقًا؛ لِأَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ بِزَمَانِ الْإِسْلَامِ أَوَّلُ الْبَعْثَةِ فَيَكُونُ عَاشَ فِيهَا سَبْعًا وَسِتِّينَ، أَوِ الْهِجْرَةُ فَيَكُونُ عَاشَ فِيهِ أَرْبَعًا وَخَمْسِينَ، أَوْ زَمَنُ إِسْلَامِهِ هُوَ فَيَكُونُ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ، وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى الْإِطْلَاقِ عَلَى طَرِيقَةِ جَبْرِ الْكَسْرِ تَارَةً وَإِلْغَائِهِ أُخْرَى.

قَوْلُهُ: (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ السَّعْدِيِّ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَقْدَانَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَيُقَالُ اسْمُ أَبِيهِ عُمَرُ وَوَقْدَانُ جَدُّهُ وَيُقَالُ قُدَامَةُ بَدَلَ وَقْدَانَ، وَعَبْدُ شَمْسٍ هُوَ ابْنُ عَبْد ودِ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حَسْلِ بْنِ عَامِرٍ وَهُوَ أَيْضًا مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ مِنْ قُرَيْشٍ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ ابْنُ السَّعْدِيِّ؛ لِأَنَّ أَبَاهُ كَانَ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي سَعْدٍ وَمَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ بَعْدَ حُوَيْطِبَ الرَّاوِي عَنْهُ بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَيُقَالُ بَلْ مَاتَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ وَالْأَوَّلُ أَقْوَى وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثُ الْوَاحِدُ، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ السَّاعِدِيِّ، وَخَالَفَهُ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْرٍ فَقَالَ: عَنِ ابْنِ السَّعْدِيِّ وَهُوَ الْمَحْفُوظُ.

(تَنْبِيهٌ): أَخْرَجَ مُسْلِمٌ أَيْضًا هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّعْدِيِّ، عَنْ عُمَرَ، فَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ بَلْ أَحَالَ عَلَى سِيَاقِ رِوَايَةِ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ، وَسَقَطَ مِنَ السَّنَدِ حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ

ص: 151

الْعُزَّى بَيْنَ السَّائِبِ، وَابْنِ السَّعْدِيِّ، وَوَهِمَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ تَبَعًا لِخَلَفٍ فَأَثْبَتَ حُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزَّى فِي السَّنَدِ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَزَعَمَ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَتِهِ ابْنُ السَّاعِدِيِّ بِزِيَادَةِ أَلِفٍ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ نُسَخِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ لَا إِثْبَاتَ حُوَيْطِبَ وَلَا الْأَلِفَ فِي السَّاعِدِيِّ وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى سُقُوطِ حُوَيْطِبَ مِنْ سَنَدِ مُسْلِمٍ، أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ، وَالْمَازِرِيُّ، وَعِيَاضٌ وَغَيْرُهُمْ، وَلَكِنَّهُ ثَابِتٌ فِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ فِي غَيْرِ كِتَابِ مُسْلِمٍ كما أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ، وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ سَلَامَةَ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِي السَّائِبُ أَنَّ حُوَيْطِبًا أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ أَخْبَرَهُ فَذَكَرَهُ، وَهُوَ وَهْمٌ مِنْ سَلَامَةَ قَالَهُ الرَّهَاوِيُّ.

قَوْلُهُ: (أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ فِي خِلَافَتِهِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَلَمْ أُحَدِّثْ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ.

قَوْلُهُ: (أَنَّكَ تَلِي مِنْ أَعْمَالِ النَّاسِ) أَيِ الْوِلَايَاتِ مِنْ إِمْرَةٍ أَوْ قَضَاءٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ اسْتَعْمَلَنِي عُمَرُ عَلَى الصَّدَقَةِ فَعَيَّنَ الْوِلَايَةَ.

قَوْلُهُ: (الْعُمَالَةَ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ أَيْ أُجْرَةَ الْعَمَلِ، وَأَمَّا الْعَمَالَةُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ فَهِيَ نَفْسُ الْعَمَلِ.

قَوْلُهُ: (مَا تُرِيدُ إِلَى ذَلِكَ) أَيْ مَا غَايَةُ قَصْدِكِ بِهَذَا الرَّدِّ. وَقَدْ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ وَأُرِيدُ أَنْ تَكُونَ عُمَالَتِي صَدَقَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ.

قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ: أنَّ لِي أَفْرَاسًا) بِفَاءٍ وَمُهْمَلَةٍ جَمْعُ فَرَسٍ.

قَوْلُهُ (وَأَعْبُدًا) لِلْأَكْثَرِ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ، وَلِلكُشْمِيهَنِيِّ بِمُثَنَّاةٍ بَدَلَ الْمُوَحَّدَةِ جَمْعُ عَتِيدٍ وَهُوَ الْمَالُ الْمُدَّخَرُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ. وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ أَنَّ عُمَرَ أَعْطَى ابْنَ السَّعْدِيِّ أَلْفَ دِينَارٍ، فَذَكَرَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ نَحْوَ الَّذِي هُنَا، وَرُوِّينَاهُ في الْجُزْءَ الثَّالِثَ مِنْ فَوَائِدِ أَبِي بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيِّ الزِّيَادَاتِ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّعْدِيِّ قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ فَأَرْسَلَ إِلَيَّ أَلْفَ دِينَارٍ، فَرَدَدْتُهَا وَقُلْتُ: أَنَا عَنْهَا غَنِيٌّ فَذَكَرَهُ أَيْضًا بِنَحْوِهِ، وَاسْتُفِيدَ مِنْهُ قَدْرَ الْعُمَالَةِ الْمَذْكُورَةِ.

قَوْلُهُ: (فَإِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الَّذِي أَرَدْتَ) بِالْفَتْحِ عَلَى الْخِطَابِ.

قَوْلُهُ: (يُعْطِينِي الْعَطَاءَ) أَيِ الْمَالَ الَّذِي يَقْسِمُهُ الْإِمَامُ فِي الْمَصَالِحِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَإِنِّي عَمِلْتُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَمَّلَنِي بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيْ أَعْطَانِي أُجْرَةَ عَمَلِي فَقُلْتُ مِثْلَ قَوْلِكِ.

قَوْلُهُ: (فَأَقُولُ أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي) فِي رِوَايَةِ سَالِمٍ فَأَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالْبَاقِي سَوَاءٌ. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: جَازَ الْفَصْلُ بَيْنَ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ وَبَيْنَ كَلِمَةِ مِنْ لِأَنَّ الْفَاصِلَ لَيْسَ أَجْنَبِيًّا بَلْ هُوَ أَلْصَقُ بِهِ مِنَ الصِّلَةِ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ بِحَسَبِ جَوْهَرِ اللَّفْظِ، وَالصِّلَةُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهَا بِحَسَبِ الصِّيغَةِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ وَتَصَدَّقْ بِهِ) فِي رِوَايَةِ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَوْ تَصَدَّقْ بِهِ بِلَفْظِ أَوْ بَدَلَ الْوَاوِ، وَهُوَ أَمْرُ إِرْشَادٍ عَلَى الصَّحِيحِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَشَارَ صلى الله عليه وسلم عَلَى عُمَرَ بِالْأَفْضَلِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَأْجُورًا بِإِيثَارِهِ لِعَطَائِهِ عَنْ نَفْسِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنْهُ، فَإِنَّ أَخْذَهُ لِلْعَطَاءِ وَمُبَاشَرَتَهُ لِلصَّدَقَةِ بِنَفْسِهِ أَعْظَمُ لِأَجْرِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ فَضْلِ الصَّدَقَةِ بَعْدَ التَّمَوُّلِ لِمَا فِي النُّفُوسِ مِنَ الشُّحِّ عَلَى الْمَالِ.

قَوْلُهُ: (غَيْرُ مُشْرِفٍ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ بَعْدَهَا فَاءٌ أَيْ مُتَطَلِّعٍ إِلَيْهِ، يُقَالُ أَشْرَفَ الشَّيْءَ عَلَاهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ فِي بَابِ مَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ.

قَوْلُهُ (وَلَا سَائِلٍ) أَيْ طَالِبٍ، قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ النَّهْيُ عَنِ السُّؤَالِ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى النَّهْيِ عَنْهُ لِغَيْرِ الضَّرُورَةِ، وَاخْتُلِفَ فِي مَسْأَلَةِ الْقَادِرِ عَلَى الْكَسْبِ وَالْأَصَحُّ التَّحْرِيمُ، وَقِيلَ يُبَاحُ بِثَلَاثِ شُرُوطٍ: أَنْ لَا يُذِلَّ نَفْسَهُ، وَلَا يُلِحَّ فِي السُّؤَالِ، وَلَا يُؤْذِيَ الْمَسْئُولَ، فَإِنْ فُقِدَ شَرْطٌ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ فَهِيَ حَرَامٌ بِالِاتِّفَاقِ.

قَوْلُهُ: (فَخُذْهُ وَإِلَّا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ) أَيْ إِنْ لَمْ يَجِئْ إِلَيْكَ فَلَا تَطْلُبْهُ، بَلِ اتْرُكْهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مَنْعَهُ مِنَ الْإِيثَارِ، بَلْ لِأَنَّ أَخْذَهُ ثُمَّ مُبَاشَرَتَهُ الصَّدَقَةَ بِنَفْسِهِ أَعْظَمُ لِأَجْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: في هَذَا الْحَدِيثُ مَنْقَبَةٌ

ص: 152

لِعُمَرَ وَبَيَانُ فَضْلِهِ وَزُهْدِهِ وَإِيثَارِهِ. قُلْتُ: وَكَذَا لِابْنِ السَّعْدِيِّ فَقَدْ طَابَقَ فِعْلُهُ فِعْلَ عُمَرَ سَوَاءً، وَفِي سَنَدِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ السَّائِبِ أَرْبَعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي نَسَقٍ السَّائِبُ، وَحُوَيْطِبُ، وَابْنُ السَّعْدِيِّ، وَعُمَرُ، وَقَدْ أَشَرْتُ إِلَى ذَلِكَ فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ مِنْ كِتَابِ الزَّكَاةِ وَذَكَرْتُ أَنَّ مُسْلِمًا أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَأَوْهَمَ كَلَامُ الْمِزِّيِّ فِي الْأَطْرَافِ أَنَّ رِوَايَةَ شُعَيْبٍ، وَعَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ مُتَّفِقَتَانِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ حُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزَّى سَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَقَدْ وَقَعَتِ الْمُقَارَضَةُ لِمُسْلِمٍ، وَالْبُخَارِيِّ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ الرُّبَاعِيَّيْنِ، فَأَوْرَدَ مُسْلِمٌ الرُّبَاعِيَّ الَّذِي فِي سَنَدِهِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ بِتَمَامِ الْأَرْبَعِ، وَأَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ بِنُقْصَانِ وَاحِدَةٍ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلَ كِتَابِ الْفِتَنِ وَأَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ الرُّبَاعِيَّ الَّذِي فِي سَنَدِهِ أَرْبَعَةُ رِجَالٍ بِتَمَامِ الْأَرْبَعَةِ، وَأَوْرَدَهُ مُسْلِمٌ بِنُقْصَانِ رَجُلٍ، وَهَذَا مِنْ لَطَائِفِ مَا اتُّفِقَ.

وَقَدْ وَافَقَ شُعَيْبًا عَلَى زِيَادَةِ حُوَيْطِبَ فِي السَّنَدِ الزُّبَيْدِيُّ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عِنْدَهُ، وَمَعْمَرٌ عِنْدَ الْحُمَيْدِيِّ فِي مُسْنَدِهِ ثَلَاثَتُهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَقَدْ جَزَمَ النَّسَائِيُّ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنِ السَّكَنِ بِأَنَّ السَّائِبَ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنِ ابْنِ السَّعْدِيِّ، قَالَ النَّوَوِيُّ: رُوِّينَا عَنِ الْحَافِظِ عَبْدِ الْقَادِرِ الرَّهَاوِيِّ فِي كِتَابِهِ الرُّبَاعِيَّاتِ أَنَّ الزُّبَيْدِيَّ، وَشُعَيْبَ بْنَ حَمْزَةَ، وَعُقَيْلَ بْنَ خَالِدٍ، وَيُونُسَ بْنَ يَزِيدَ، وَعَمْرَو بْنَ الْحَارِثِ رَوَوْهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِذِكْرِ حُوَيْطِبَ، ثُمَّ ذَكَرَ طُرُقَهُمْ بِأَسَانِيدَ مُطَوَّلَةٍ. قَالَ: وَرَوَاهُ النُّعْمَانُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فَأَسْقَطَ ذِكْرَ حُوَيْطِبَ، وَاخْتُلِفَ عَلَى مَعْمَرَ فَرَوَاهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْهُ كَالنُّعْمَانِ، وَرَوَاهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَمُوسَى بْنُ أَعْيَنَ عَنْهُ كَالْجَمَاعَةِ، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ فَأَسْقَطَ اثْنَيْنِ جَعَلَهُ عَنِ السَّائِبِ، عَنْ عُمَرَ، قَالَ: وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. قُلْتُ: وَمُقْتَضَاهُ أَنْ يَكُونَ سُقُوطُ حُوَيْطِبَ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَهْمًا مِنْهُ أَوْ مِنْ شَيْخِهِ، وَإِلَّا فَذِكْرُهُ ثَابِتٌ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ نَظَمَ بَعْضُهُمُ السَّنَدَ الْمَذْكُورَ فِي بَيْتَيْنِ فَقَالَ:

وَفِي الْعُمَالَةِ إِسْنَادٌ بِأَرْبَعَةٍ

مِنَ الصَّحَابَةِ فِيهِ عَنْهُمُ ظَهَرَا

السَّائِبُ بْنُ يزَيْدَ، عَنْ حُوَيْطِبٍ

عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَهُ بِذَلِكَ عَنْ عُمَرَا

قَوْلُهُ: (وَعَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي سَالِمٌ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا إِلَى الزُّهْرِيِّ، وَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي الْيَمَانِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ الْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ بِالسَّنَدَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ إِلَى عُمَرَ، وَأَمَّا مُسْلِمٌ فَإِنَّهُ لَمَّا أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ سَاقَهُ عَلَى رِوَايَةِ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ ثُمَّ عَقَّبَهُ بِرِوَايَةِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ بَيْنَ السِّيَاقَيْنِ تَفَاوُتٌ إِلَّا فِي قِصَّةِ ابْنِ السَّعْدِيِّ، عَنْ عُمَرَ فَلَمْ يَسُقْهَا مُسْلِمٌ وَإِلَّا مَا بَيَّنْتُهُ، وَزَادَ سَالِمٌ فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يَسْأَلُ أَحَدًا شَيْئًا وَلَا يَرُدُّ شَيْئًا أُعْطِيَهُ قُلْتُ: وَهَذَا بِعُمُومِهِ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ كَانَ لَا يَرُدُّ مَا فِيهِ شُبْهَةٌ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ يَقْبَلُ هَدَايَا الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ الثَّقَفِيِّ وَهُوَ أَخُو صَفِيَّةَ زَوْجِ ابْنِ عُمَرَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ، وَكَانَ الْمُخْتَارُ غَلَبَ عَلَى الْكُوفَةِ وَطَرَدَ عُمَّالَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَأَقَامَ أَمِيرًا عَلَيْهَا مُدَّةً فِي غَيْرِ طَاعَةِ خَلِيفَةٍ وَتَصَرَّفَ فِيمَا يَتَحَصَّلُ مِنْهَا مِنَ الْمَالِ عَلَى مَا يَرَاهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقْبَلُ هَدَايَاهُ وَكَانَ مُسْتَنَدُهُ أَنَّ لَهُ حَقًّا فِي بَيْتِ الْمَالِ فَلَا يَضُرُّهُ عَلَى أَيِّ كَيْفِيَّةٍ وَصَلَ إِلَيْهِ، أَوْ كَانَ يَرَى أَنَّ التَّبِعَةَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْآخِذِ الْأَوَّلِ، أَوْ أَنَّ لِلْمُعْطِي الْمَذْكُورِ مَالًا آخَرَ فِي الْجُمْلَةِ وَحَقًّا مَا فِي الْمَالِ الْمَذْكُورِ، فَلَمَّا لَمْ يَتَمَيَّزْ وَأَعْطَاهُ لَهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ دَخَلَ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: مَا أَتَاكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ وَلَا اسْتِشْرَافٍ

فَخُذْهُ فَرَأَى أَنَّهُ لَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا عَلِمَهُ

ص: 153

حَرَامًا مَحْضًا قَالَ الطَّبَرِيُّ: فِي حَدِيثِ عُمَرَ الدَّلِيلُ الْوَاضِحُ عَلَى أَنَّ لِمَنْ شُغِلَ بِشَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ أَخْذَ الرِّزْقِ عَلَى عَمَلِهِ ذَلِكَ كَالْوُلَاةِ وَالْقُضَاةِ وَجُبَاةِ الْفَيْءِ وَعُمَّالِ الصَّدَقَةِ وَشَبَهِهِمْ، لِإِعْطَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عُمَرَ الْعُمَالَةَ عَلَى عَمَلِهِ، وَذَكَرَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ كَانَ يَأْخُذُ الْأَجْرَ عَلَى الْقَضَاءِ، وَاحْتَجَّ أَبُو عُبَيْدٍ فِي جَوَازِ ذَلِكَ بِمَا فَرَضَ اللَّهُ لِلْعَامِلِينَ عَلَى الصَّدَقَةِ وَجَعَلَ لَهُمْ مِنْهَا حَقًّا لِقِيَامِهِمْ وَسَعْيِهِمْ فِيهَا، وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنِ الْعُلَمَاءِ هَلِ الْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ خُذْهُ وَتَمَوَّلْهُ لِلْوُجُوبِ أَوْ لِلنَّدْبِ، ثَالِثُهَا إِنْ كَانَتِ الْعَطِيَّةُ مِنَ السُّلْطَانِ فَهِيَ حَرَامٌ أَوْ مَكْرُوهَةٌ أَوْ مُبَاحَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِهِ فَمُسْتَحَبَّةٌ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إِنْ غَلَبَ الْحَرَامُ حَرُمَتْ، وَكَذَا إِنْ كَانَ مَعَ عَدَمِ الِاسْتِحْقَاقِ وَإِنْ لَمْ يَغْلِبِ الْحَرَامُ وَكَانَ الْآخِذُ مُسْتَحِقًّا فَيُبَاحُ، وَقِيلَ يُنْدَبُ فِي عَطِيَّةِ السُّلْطَانِ دُونَ غَيْرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَحَدِيثُ ابْنِ السَّعْدِيِّ حُجَّةٌ فِي جَوَازِ أَرْزَاقِ الْقُضَاةِ مِنْ وُجُوهِهَا. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي الْحَدِيثِ أَنَّ أَخْذَ مَا جَاءَ مِنَ الْمَالِ عَنْ غَيْرِ سُؤَالٍ أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهِ لِأَنَّهُ يَقَعُ فِي إِضَاعَةِ الْمَالِ، وَقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ.

وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْإِضَاعَةِ فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْإِضَاعَةَ التَّبْذِيرُ بِغَيْرِ وَجْهٍ صَحِيحٍ، وَأَمَّا التَّرْكُ تَوْفِيرًا عَلَى الْمُعْطَى تَنْزِيهًا عَنِ الدُّنْيَا وَتَحَرُّجًا أَنْ لَا يَكُونَ قَائِمًا بِالْوَظِيفَةِ عَلَى وَجْهِهَا فَلَيْسَ مِنَ الْإِضَاعَةِ. ثُمَّ قَالَ: وَالْوَجْهُ فِي تَعْلِيلِ الْأَفْضَلِيَّةِ أَنَّ الْآخِذَ أَعْوَنُ فِي الْعَمَلِ وَأَلْزَمُ لِلنَّصِيحَةِ مِنَ التَّارِكِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَأْخُذْ كَانَ عِنْدَ نَفْسِهِ مُتَطَوِّعًا بِالْعَمَلِ، فَقَدْ لَا يَجِدُّ جِدّ مَنْ أَخَذَ رُكُونًا إِلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُلْتَزِمٍ بِخِلَافِ الَّذِي يَأْخُذُ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُسْتَشْعِرًا بِأَنَّ الْعَمَلَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَيَجِدُّ جِدّ فِيهَا. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ كَرَاهَةُ أَخْذِ الرِّزْقِ عَلَى الْقَضَاءِ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ وَأَنَّ الْمَالَ طَيِّبًا، كَذَا قَالَ: قَالَ: وَفِيهِ جَوَازُ الصَّدَقَةِ بِمَا لَمْ يُقْبَضْ إِذَا كَانَ لِلْمُتَصَدِّقِ وَاجِبًا، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ وَتَصَدَّقْ بِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّصَدُّقَ بِهِ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ إِذَا مَلَكَهُ الْإِنْسَانُ وَتَصَدَّقَ بِهِ طَيِّبَةٌ بِهِ نَفْسُهُ كَانَ أَفْضَلُ مِنْ تَصَدُّقِهِ بِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَحْصُلُ بِيَدِهِ هُوَ أَحْرَصُ عَلَيْهِ مِمَّا لَمْ يَدْخُلْ فِي يَدِهِ، فَإِنِ اسْتَوَتْ عِنْدَ أَحَدِ الْحَالَانِ فَمَرْتَبَتُهُ أَعْلَى، وَلِذَلِكَ أَمَرَهُ بِأَخْذِهِ وَبَيَّنَ لَهُ جَوَازَ تَمَوُّلِهِ إِنْ أَحَبَّ أَوِ التَّصَدُّقِ بِهِ. قَالَ: وَذَهَبَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمَالَ إِذَا جَاءَ بِغَيْرِ سُؤَالٍ فَلَمْ يَقْبَلْهُ، فَإِنَّ الرَّادَّ لَهُ يُعَاقَبُ بِحِرْمَانِ الْعَطَاءِ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ فِيهِ ذَمُّ التَّطَلُّعِ إِلَى مَا فِي أَيْدِي الْأَغْنِيَاءِ وَالتَّشَوُّفِ إِلَى فُضُولِهِ وَأَخْذِهِ مِنْهُمْ، وَهِيَ حَالَةٌ مَذْمُومَةٌ تَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ الرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا وَالرُّكُونِ إِلَى التَّوَسُّعِ فِيهَا، فَنَهَى الشَّارِعُ عَنِ الْأَخْذِ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ الْمَذْمُومَةِ قَمْعًا لِلنَّفْسِ وَمُخَالَفَةً لَهَا فِي هَوَاهَا انْتَهَى. وَتَقَدَّمَتْ سَائِرُ مَبَاحِثِهِ وَفَوَائِدِهِ فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ مِنْ كِتَابِ الزَّكَاةِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.

‌18 - بَاب مَنْ قَضَى وَلَاعَنَ فِي الْمَسْجِدِ. وَلَاعَنَ عُمَرُ عِنْدَ مِنْبَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم،

وَقَضَى شُرَيْحٌ وَالشَّعْبِيُّ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ فِي الْمَسْجِدِ. وَقَضَى مَرْوَانُ عَلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ بِالْيَمِينِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، وَكَانَ الْحَسَنُ وَزُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى يَقْضِيَانِ فِي الرَّحَبَةِ خَارِجًا مِنْ الْمَسْجِدِ.

7165 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ الزُّهْرِيُّ:، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: شَهِدْتُ الْمُتَلَاعِنَيْنِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا.

7166 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سَهْلٍ أَخِي بَنِي سَاعِدَةَ:

ص: 154

أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ؟ فَتَلَاعَنَا فِي الْمَسْجِدِ وَأَنَا شَاهِدٌ.

قَوْلُهُ (بَابُ مَنْ قَضَى وَلَاعَنَ فِي الْمَسْجِدِ) الظَّرْفُ يَتَعَلَّقُ بِالْأَمْرَيْنِ فَهُوَ مِنْ تَنَازُعِ الْفِعْلَيْنِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَضَى لِدُخُولِ لَاعَنَ فِيهِ فَإِنَّهُ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ وَلَاعَنَ حَكَمَ بِإِيقَاعِ التَّلَاعُنِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فَهُوَ مَجَازٌ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يُبَاشِرَ تَلْقِينَهُمَا ذَلِكَ بِنَفْسِهِ.

قَوْلُهُ: (وَلَاعَنَ عُمَرُ عِنْدَ مِنْبَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَذَا أَبْلَغُ فِي التَّمَسُّكِ بِهِ عَلَى جَوَازِ اللِّعَانِ فِي الْمَسْجِدِ، وَإِنَّمَا خَصَّ عُمَرُ الْمِنْبَرَ لِأَنَّهُ كَانَ يَرَى التَّحْلِيفَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ أَبْلَغَ فِي التَّغْلِيظِ وَوَرَدَ فِي التَّحْلِيفِ عِنْدَهُ حَدِيثُ جَابِرٍ: لَا يُحْلَفُ عِنْدَ مِنْبَرِي الْحَدِيثَ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ التَّغْلِيظُ فِي الْأَيْمَانِ بِالْمَكَانِ، وَقَاسُوا عَلَيْهِ الزَّمَانَ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ مَعَ أَنَّ الْمَحْلُوفَ بِهِ عَظِيمٌ لِأَنَّ لِلْمُعَظَّمِ الَّذِي يُشَاهِدُهُ الْحَالِفُ تَأْثِيرًا فِي التَّوَقِّي عَنِ الْكَذِبِ.

قَوْلُهُ: (وَقَضَى مَرْوَانُ عَلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ بِالْيَمِينِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهَذَا طَرَفٌ مِنْ أَثَرٍ مَضَى فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ وَذَكَرْتُ هُنَاكَ مَنْ وَصَلَهُ، وَهُوَ فِي الْمُوَطَّأِ وَلَفْظُهُ عَلَى الْمِنْبَرِ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ.

قَوْلُهُ: (وَقَضَى شُرَيْحٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ فِي الْمَسْجِدِ) أَمَّا أَثَرُ شُرَيْحٍ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ قَالَ: رَأَيْتُ شُرَيْحًا يَقْضِي فِي الْمَسْجِدِ وَعَلَيْهِ بُرْنُسُ خَزٍّ وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ أَنَّهُ رَأَى شُرَيْحًا يَقْضِي فِي الْمَسْجِدِ. وَأَمَّا أَثَرُ الشَّعْبِيِّ فَوَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيُّ فِي جَامِعِ سُفْيَانَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شُبْرُمَةَ: رَأَيْتُ الشَّعْبِيَّ جَلَدَ يَهُودِيًّا فِي قَرْيَةٍ فِي الْمَسْجِدِ وَكَذَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ. وَأَمَّا أَثَرُ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: رَأَيْتُ يَحْيَى بْنَ يَعْمُرَ يَقْضِي فِي الْمَسْجِدِ وَأَخْرَجَ الْكَرَابِيسِيُّ فِي أَدَبِ الْقَضَاءِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزِّنَادِ قَالَ كَانَ سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَابْنُهُ وَمُحَمَّدُ بْنُ صَفْوَانَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبِ بْنِ شُرَحْبِيلَ يَقْضُونَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَذَكَرَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ آخَرُونَ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ الْحَسَنُ، وَزُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى يَقْضِيَانِ فِي الرَّحَبَةِ خَارِجًا مِنَ الْمَسْجِدِ) الرَّحَبَةُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ هِيَ بِنَاءٌ يَكُونُ أَمَامَ بَابِ الْمَسْجِدِ غَيْرُ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ، هَذِهِ رَحَبَةُ الْمَسْجِدِ، وَوَقَعَ فِيهَا الِاخْتِلَافُ، وَالرَّاجِحُ أَنَّ لَهَا حُكْمَ الْمَسْجِدِ فَيَصِحُّ فِيهَا الِاعْتِكَافُ وَكُلُّ مَا يُشْتَرَطُ لَهُ الْمَسْجِدُ، فَإِنْ كَانَتِ الرَّحَبَةُ مُنْفَصِلَةٌ فَلَيْسَ لَهَا حُكْمُ الْمَسْجِدِ. وَأَمَّا الرَّحْبَةُ بِسُكُونِ الْحَاءِ فَهِيَ مَدِينَةٌ مَشْهُورَةٌ. وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ مَجْمُوعِ هَذِهِ الْآثَارِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّحَبَةِ هُنَا الرَّحَبَةُ الْمَنْسُوبَةُ لِلْمَسْجِدِ، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ الْمُثَنَّى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: رَأَيْتُ الْحَسَنَ، وَزُرَارَةَ بْنَ أَوْفَى يَقْضِيَانِ فِي الْمَسْجِدِ وَأَخْرَجَ الْكَرَابِيسِيُّ فِي أَدَبِ الْقَضَاءِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّ الْحَسَنَ، وَزُرَارَةَ، وَإِيَاسَ بْنَ مُعَاوِيَةَ كَانُوا إِذَا دَخَلُوا الْمَسْجِدَ لِلْقَضَاءِ صَلَّوْا رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسُوا. ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي قِصَّةِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ مُخْتَصَرًا مِنْ طَرِيقَيْنِ:

إِحْدَاهُمَا مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ وَهُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ قَال: قَالَ الزُّهْرِيُّ: عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فَذَكَرَهُ مُخْتَصَرًا، وَلَفْظُهُ: شَهِدْتُ الْمُتَلَاعِنَيْنِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَقَدْ أَخْرَجَهُ فِي كِتَابِ اللِّعَانِ مُطَوَّلًا وَتَقَدَّمَتْ فَوَائِدُهُ هُنَاكَ.

ثَانِيهُمَا مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ وَهُوَ الزُّهْرِيُّ فَذَكَرَهُ مُخْتَصَرًا أَيْضًا، وَلَفْظُهُ: أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ جَاءَ فَذَكَرَهُ إِلَى قَوْلِهِ أَيَقْتُلُهُ فَتَلَاعَنَا فِي الْمَسْجِدِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مُطَوَّلًا وَشَرْحُهُ هُنَاكَ أَيْضًا. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: اسْتَحَبَّ الْقَضَاءَ فِي الْمَسْجِدِ طَائِفَةٌ، وَقَالَ مَالِكٌ

ص: 155

هُوَ الْأَمْرُ الْقَدِيمُ، لِأَنَّهُ يَصِلُ إِلَى الْقَاضِي فِيهِ الْمَرْأَةُ وَالضَّعِيفُ، وَإِذَا كَانَ فِي مَنْزِلِهِ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ النَّاسُ لِإِمْكَانِ الِاحْتِجَابِ قَالَ: وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ: وَكَرِهَتْ ذَلِكَ طَائِفَةٌ، وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنْ لَا تَقْضِيَ فِي الْمَسْجِدِ؛ فَإِنَّهُ يَأْتِيكَ الْحَائِضُ وَالْمُشْرِكُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يُقْضَى فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ لِذَلِكَ. وَقَالَ الْكَرَابِيسِيُّ: كَرِهَ بَعْضُهُمُ الْحُكْمَ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْحُكْمُ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَمُشْرِكٍ فَيَدْخُلُ الْمُشْرِكُ الْمَسْجِدَ، قَالَ: وَدُخُولُ الْمُشْرِكِ الْمَسْجِدَ مَكْرُوهٌ، وَلَكِنَّ الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ لَمْ يَزَلْ مِنْ صَنِيعِ السَّلَفِ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِ. ثُمَّ سَاقَ فِي ذَلِكَ آثَارًا كَثِيرَةً. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَحَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ حُجَّةٌ لِلْجَوَازِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى صِيَانَةَ الْمَسْجِدِ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: كَانَ مَنْ مَضَى يَجْلِسُونَ فِي رِحَابِ الْمَسْجِدِ إِمَّا فِي مَوْضِعِ الْجَنَائِزِ وَإِمَّا فِي رَحَبَةِ دَارِ مَرْوَانَ، قَالَ: وَإِنِّي لَأَسْتَحِبُّ ذَلِكَ فِي الْأَمْصَارِ لِيَصِلَ إِلَيْهِ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ وَالْحَائِضُ وَالضَّعِيفُ، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى التَّوَاضُعِ.

وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لِرَحَبَةِ الْمَسْجِدِ حُكْمُ الْمَسْجِدِ إِلَّا إِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً عَنْهُ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهَا كَانَتْ مُنْفَصِلَةً عَنْهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ جُلُوسُ الْقَاضِي فِي الرَّحَبَةِ الْمُتَّصِلَةِ وَقِيَامُ الْخُصُومِ خَارِجًا عَنْهَا أَوْ فِي الرَّحَبَةِ الْمُتَّصِلَةِ، وَكَأَنَّ التَّابِعِيَّ الْمَذْكُورَ يَرَى أَنَّ الرَّحَبَةَ لَا تُعْطَى حُكْمَ الْمَسْجِدِ وَلَوِ اتَّصَلَتْ بِالْمَسْجِدِ، وَهُوَ خِلَافٌ مَشْهُورٌ، فَقَدْ وَقَعَ لِلشَّافِعِيَّةِ فِي حُكْمِ رَحَبَةِ الْمَسْجِدِ اخْتِلَافٌ فِي التَّعْرِيفِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ مَنْ فِي الرَّحَبَةِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْمَسْجِدِ بِصَلَاةِ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ قَالَ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَرِيمِ وَالرَّحَبَةِ أَنَّ لِكُلِّ مَسْجِدٍ حَرِيمًا وَلَيْسَ لِكُلِّ مَسْجِدٍ رَحَبَةٌ، فَالْمَسْجِدُ الَّذِي يَكُونُ أَمَامَهُ قِطْعَةٌ مِنَ الْبُقْعَةِ هِيَ الرَّحَبَةُ وَهِيَ الَّتِي لَهَا حُكْمُ الْمَسْجِدِ. وَالْحَرِيمُ هُوَ الَّذِي يُحِيطُ بِهَذِهِ الرَّحَبَةِ وَبِالْمَسْجِدِ، وَإِنْ كَانَ سُورُ الْمَسْجِدِ مُحِيطًا بِجَمِيعِ الْبُقْعَةِ فَهُوَ مَسْجِدٌ بِلَا رَحَبَةٍ، وَلَكِنْ لَهُ حَرِيمٌ كَالدُّورِ انْتَهَى. مُلَخَّصًا.

وَسَكَتَ عَمَّا إِذَا بَنَى صَاحِبُ الْمَسْجِدِ قِطْعَةً مُنْفَصِلَةً عَنِ الْمَسْجِدِ هَلْ هِيَ رَحَبَةٌ تُعْطَى حُكْمَ الْمَسْجِدِ؟ وَعَمَّا إِذَا كَانَ فِي الْحَائِطِ الْقِبْلِيِّ مِنَ الْمَسْجِدِ رِحَابٌ بِحَيْثُ لَا تَصِحُّ صَلَاةُ مَنْ صَلَّى فِيهَا خَلْفَ إِمَامِ الْمَسْجِدِ هَلْ تُعْطَى حُكْمَ الْمَسْجِدِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُعْطَى حُكْمَ الْمَسْجِدِ فَتَصِحُّ الصَّلَاةُ فِي الْأُولَى وَيَصِحُّ الِاعْتِكَافُ فِي الثَّانِيَةِ، وَقَدْ يُفَرَّقُ حُكْمُ الرَّحَبَةِ مِنَ الْمَسْجِدِ فِي جَوَازِ اللَّغَطِ وَنَحْوِهِ فِيهَا بِخِلَافِ الْمَسْجِدِ مَعَ إِعْطَائِهَا حُكْمَ الْمَسْجِدِ فِي الصَّلَاةِ فِيهَا، فَقَدْ أَخْرَجَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ مِنْ طَرِيقِ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: بَنَى عُمَرُ إِلَى جَانِبِ الْمَسْجِدِ رَحَبَةً فَسَمَّاهَا الْبَطْحَاءَ فَكَانَ يَقُولُ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَلْغَطَ أَوْ يُنْشِدَ شِعْرًا أَوْ يَرْفَعَ صَوْتًا فَلْيَخْرُجْ إِلَى هَذِهِ الرَّحَبَةِ.

‌19 - بَاب مَنْ حَكَمَ فِي الْمَسْجِدِ، حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حَدٍّ أَمَرَ أَنْ يُخْرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَيُقَامَ.

وَقَالَ عُمَرُ: أَخْرِجَاهُ مِنْ الْمَسْجِدِ وضربه، وَيُذْكَرُ عَنْ عَلِيٍّ نَحْوُهُ

7167 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، فَنَادَاهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعًا، قَالَ: أَبِكَ جُنُونٌ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ.

7168 -

قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُ بِالْمُصَلَّى.

رَوَاهُ يُونُسُ وَمَعْمَرٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الرَّجْمِ.

ص: 156

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ حَكَمَ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حَدٍّ أَمَرَ أَنْ يُخْرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ فَيُقَامَ) كَأَنَّهُ يُشِيرُ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى مَنْ خَصَّ جَوَازَ الْحُكْمِ فِي الْمَسْجِدِ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شَيْءٌ يَتَأَذَّى بِهِ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ يَقَعُ بِهِ لِلْمَسْجِدِ نَقْصٌ كَالتَّلْوِيثِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُمَرُ: أَخْرِجَاهُ مِنَ الْمَسْجِدِ وَضَرَبَهُ، وَيُذْكَرُ عَنْ عَلِيٍّ نَحْوُهُ) أَمَّا أَثَرُ عُمَرَ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ كِلَاهُمَا مِنْ طَرِيقِ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: أُتِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِرَجُلٍ فِي حَدٍّ فَقَالَ: أَخْرِجَاهُ مِنَ الْمَسْجِدِ ثُمَّ اضْرِبَاهُ وَسَنَدُهُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَأَمَّا أَثَرُ عَلِيٍّ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ مَعْقِلٍ وَهُوَ بِمُهْمَلَةٍ سَاكِنَةٍ وَقَافٍ مَكْسُورَةٍ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى عُمَرَ فَسَارَّهُ، فَقَالَ: يَا قَنْبَرُ أَخْرِجْهُ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَأَقِمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَفِي سَنَدِهِ مَنْ فِيهِ مَقَالٌ. ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ الَّذِي أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى فَأَعْرَضَ عَنْهُ، وَفِيهِ: أَبِكَ جُنُونٌ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ وَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ الْمُرَادُ فِي التَّرْجَمَةِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَسْلَمُ مِنْ خَدْشٍ؛ لِأَنَّ الرَّجْمَ يَحْتَاجُ إِلَى قَدْرٍ زَائِدٍ مِنْ حَفْرٍ وَغَيْرِهِ مِمَّا لَا يُلَائِمُ الْمَسْجِدَ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِهِ فِيهِ تَرْكُ إِقَامَةِ غَيْرِهِ مِنَ الْحُدُودِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي بَابِ رَجْمِ الْمُحْصَنِ مِنْ كِتَابِ الْحُدُودِ.

قَوْلُهُ: (رَوَاهُ يُونُسُ، وَمَعْمَرٌ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ) يُرِيدُ أَنَّهُمْ خَالَفُوا عُقَيْلًا فِي الصَّحَابِيِّ، فَإِنَّهُ جَعَلَ أَصْلَ الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَوْلُ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ: كُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُ بِالْمُصَلَّى وَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا الْحَدِيثَ كُلَّهُ عَنْ جَابِرٍ، وَرِوَايَةُ مَعْمَرٍ وَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي الْحُدُودِ، وَكَذَلِكَ رِوَايَةُ يُونُسَ، وَأَمَّا رِوَايَةُ ابْنِ جُرَيْجٍ فَوَصَلَهَا وَتَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا هُنَاكَ أَيْضًا، حَيْثُ قَالَ عَقِبَ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ: لَمْ يَقُلْ يُونُسُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ فَصَلَّى عَلَيْهِ وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: ذَهَبَ إِلَى الْمَنْعِ مِنْ إِقَامَةِ الْحُدُودِ فِي الْمَسْجِدِ الْكُوفِيُّونَ وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَجَازَهُ الشَّعْبِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا بَأْسَ بِالضَّرْبِ بِالسِّيَاطِ الْيَسِيرَةِ، فَإِذَا كَثُرَتِ الْحُدُودُ فَلْيَكُنْ ذَلِكَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَقَوْلُ مَنْ نَزَّهَ الْمَسْجِدَ عَنْ ذَلِكَ أَوْلَى، وَفِي الْبَابِ حَدِيثَانِ ضَعِيفَانِ فِي النَّهْيِ عَنْ إِقَامَةِ الْحُدُودِ فِي الْمَسَاجِدِ انْتَهَى. وَالْمَشْهُورُ فِيهِ حَدِيثُ مَكْحُولٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَوَاثِلَةَ، وَأَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا: جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: وَإِقَامَةَ حُدُودِكُمْ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْخِلَافِيَّاتِ، وَأَصْلُهُ فِي ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ وَاثِلَةَ فَقَطْ، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْحُدُودِ، وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ، وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ: خِصَالٌ لَا تَنْبَغِي فِي الْمَسْجِدِ: لَا يُتَّخَذُ طَرِيقًا الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: وَلَا يُضْرَبُ فِيهِ حَدٌّ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ أَيْضًا.

وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: مَنْ كَرِهَ إِدْخَالَ الْمَيِّتِ الْمَسْجِدَ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ خَشْيَةَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَوْلَى بِأَنْ يَقُولَ لَا يُقَامَ الْحَدُّ فِي الْمَسْجِدِ؛ إِذْ لَا يُؤْمَنُ خُرُوجُ الدَّمِ مِنَ الْمَجْلُودِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْقَتْلِ أَوْلَى بِالْمَنْعِ.

‌20 - بَاب مَوْعِظَةِ الْإِمَامِ لِلْخُصُومِ

7169 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زَيْنَبَ ابنة أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِي عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ.

ص: 157

قَوْلُهُ: (بَابُ مَوْعِظَةِ الْإِمَامِ الْخُصُومَ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ: وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ بَعْدَ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ، وَمُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ ظَاهِرَةٌ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

‌21 - بَاب الشَّهَادَةِ تَكُونُ عِنْدَ الْحَاكِمِ فِي وِلَايَة الْقَضَاء أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ لِلْخَصْمِ

وَقَالَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي، وَسَأَلَهُ إِنْسَانٌ الشَّهَادَةَ فَقَالَ: ائْتِ الْأَمِيرَ حَتَّى أَشْهَدَ لَكَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: قَالَ عُمَرُ، لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: لَوْ رَأَيْتَ رَجُلًا عَلَى حَدٍّ - زِنًا أَوْ سَرِقَةٍ - وَأَنْتَ أَمِيرٌ، فَقَالَ: شَهَادَتُكَ شَهَادَةُ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ: صَدَقْتَ. وقَالَ عُمَرُ: لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَكَتَبْتُ آيَةَ الرَّجْمِ بِيَدِي، وَأَقَرَّ مَاعِزٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالزِّنَا أَرْبَعًا فَأَمَرَ بِرَجْمِهِ، وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَشْهَدَ مَنْ حَضَرَهُ. وَقَالَ حَمَّادٌ: إِذَا أَقَرَّ مَرَّةً عِنْدَ الْحَاكِمِ رُجِمَ. وَقَالَ الْحَكَمُ: أَرْبَعًا.

7170 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ يَحْيَى بن عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ، أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ: مَنْ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى قَتِيلٍ قَتَلَهُ فَلَهُ سَلَبُهُ، فَقُمْتُ لِأَلْتَمِسَ بَيِّنَةً عَلَى قَتِيلِي فَلَمْ أَرَ أَحَدًا يَشْهَدُ لِي، فَجَلَسْتُ، ثُمَّ بَدَا لِي، فَذَكَرْتُ أَمْرَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ: سِلَاحُ هَذَا الْقَتِيلِ الَّذِي يَذْكُرُ عِنْدِي. قَالَ: فَأَرْضِهِ مِنْهُ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَلَّا، لَا يُعْطِهِ أُصَيْبِغَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَيَدَعَ أَسَدًا مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، قَالَ: فقام رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَدَّاهُ إِلَيَّ، فَاشْتَرَيْتُ مِنْهُ خِرَافًا، فَكَانَ أَوَّلَ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ اللَّيْثِ: فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَدَّاهُ إِلَيَّ. وَقَالَ أَهْلُ الْحِجَازِ: الْحَاكِمُ لَا يَقْضِي بِعِلْمِهِ، شَهِدَ بِذَلِكَ فِي وِلَايَتِهِ أَوْ قَبْلَهَا، وَلَوْ أَقَرَّ خَصْمٌ عِنْدَهُ لِآخَرَ بِحَقٍّ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَقْضِي عَلَيْهِ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ حَتَّى يَدْعُوَ بِشَاهِدَيْنِ فَيُحْضِرَهُمَا إِقْرَارَهُ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِرَاقِ: مَا سَمِعَ أَوْ رَآهُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ قَضَى بِهِ، وَمَا كَانَ فِي غَيْرِهِ لَمْ يَقْضِ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ يحضرهما إقراره. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: بَلْ يَقْضِي بِهِ لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ، وَإِنَّمَا يُرَادُ مِنْ الشَّهَادَةِ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ فَعِلْمُهُ أَكْثَرُ مِنْ الشَّهَادَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَقْضِي بِعِلْمِهِ فِي الْأَمْوَالِ، وَلَا يَقْضِي فِي غَيْرِهَا.

وَقَالَ الْقَاسِمُ: لَا يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يقضي قَضَاءً بِعِلْمِهِ دُونَ عِلْمِ غَيْرِهِ، مَعَ أَنَّ عِلْمَهُ أَكْثَرُ مِنْ شَهَادَةِ غَيْرِهِ، وَلَكِنَّ فِيهِ تَعَرُّضًا لِتُهَمَةِ نَفْسِهِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِيقَاعًا لَهُمْ فِي الظُّنُونِ، وَقَدْ كَرِهَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الظَّنَّ، فَقَالَ: إِنَّمَا هَذِهِ صَفِيَّةُ.

7171 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأُوَيْسِيُّ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَتْهُ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ فَلَمَّا رَجَعَتْ انْطَلَقَ مَعَهَا فَمَرَّ بِهِ رَجُلَانِ مِنْ الأَنْصَارِ فَدَعَاهُمَا

ص: 158

فَقَالَ إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ قَالَا سُبْحَانَ اللَّهِ قَالَ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ رَوَاهُ شُعَيْبٌ وَابْنُ مُسَافِرٍ وَابْنُ أَبِي عَتِيقٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَلِيٍّ يَعْنِي ابْنَ حُسَيْنٍ عَنْ صَفِيَّةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ (بَابُ الشَّهَادَةِ تَكُونُ عِنْدَ الْحَاكِمِ فِي وِلَايَةِ الْقَضَاءِ أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ لِلْخَصْمِ) أَيْ هَلْ يَقْضِي لَهُ عَلَى خَصْمِهِ بِعِلْمِهِ ذَلِكَ أَوْ يَشْهَدُ لَهُ عِنْدَ حَاكِمٍ آخَرَ؟ هَكَذَا أَوْرَدَ التَّرْجَمَةَ مُسْتَفْهِمًا بِغَيْرِ جَزْمٍ لِقُوَّةِ الْخِلَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَإِنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ يَقْتَضِي اخْتِيَارَ أَنْ لَا يَحْكُمَ بِعِل مِهِ فِيهَا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي) هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ الْمَاضِي ذِكْرُهُ قَرِيبًا.

قَوْلُهُ (وَسَأَلَهُ إِنْسَانٌ الشَّهَادَةَ فَقَالَ: ائْتِ الْأَمِيرَ حَتَّى أَشْهَدَ لَكَ) وَصَلَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شُبْرُمَةَ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: أَشْهَدَ رَجُلٌ شُرَيْحًا ثم جَاءَ فَخَاصَمَ إِلَيْهِ فَقَالَ: ائْتِ الْأَمِيرَ وَأَنَا أَشْهَدُ لَكَ وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ شُبْرُمَةَ قَالَ: قُلْتُ لِلشَّعْبِيِّ: يَا أَبَا عَمْرٍو، أَرَأَيْتَ رَجُلَيْنِ اسْتُشْهِدَا عَلَى شَهَادَةٍ، فَمَاتَ أَحَدُهُمَا وَاسْتُقْضِيَ الْآخَرُ، فَقَالَ: أُتِيَ شُرَيْحٌ فِيهَا وَأَنَا جَالِسٌ فَقَالَ: ائْتِ الْأَمِيرَ وَأَنَا أَشْهَدُ لَكَ.

قَوْلُهُ: وَقَالَ عِكْرِمَةُ: قَالَ عُمَرُ، لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: لَوْ رَأَيْتَ رَجُلًا عَلَى حَدٍّ إِلَخْ) وَصَلَهُ الثَّوْرِيُّ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ بِهِ، وَوَقَعَ فِي الْأَصْلِ: لَوْ رَأَيْتَ - بِالْفَتْحِ - وَأَنْتَ أَمِيرٌ وَفِي الْجَوَابِ: فَقَالَ شَهَادَتُكَ وَوَقَعَ فِي الْجَامِعِ بِلَفْظِ أَرَأَيْتَ - بِالْفَتْحِ - لَوْ رَأَيْتُ بِالضَّمِّ - رَجُلًا سَرَقَ أَوْ زَنَا، قَالَ: أَرَى شَهَادَتَكَ وَقَالَ: أَصَبْتَ بَدَلَ قَوْلِهِ: صَدَقْتَ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بِلَفْظِ: أَرَأَيْتَ لَوْ كُنْتَ الْقَاضِيَ أَوِ الْوَالِيَ وَأَبْصَرْتَ إِنْسَانًا عَلَى حَدٍّ أَكُنْتَ تُقِيمُهُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: لَا، حَتَّى يَشْهَدَ مَعِي غَيْرِي، قَالَ: أَصَبْتَ لَوْ قُلْتَ غَيْرَ ذَلِكَ لَمْ تُجِدَّ وَهُوَ بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ وَكَسْرِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الدَّالِ مِنَ الْإِجَادَةِ.

قُلْتُ: وَقَدْ جَاءَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ نَحْوُ هَذَا وَسَأَذْكُرُهُ بَعْدُ، وَهَذَا السَّنَدُ مُنْقَطِعٌ بَيْنَ عِكْرِمَةَ وَمَنْ ذَكَرَهُ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَضْلًا عَنْ عُمَرَ، وَهَذَا مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُنَبَّهُ عَلَيْهَا مَنْ يُغْتَرُّ بِتَعْمِيمِ قَوْلِهِمْ: إِنَّ التَّعْلِيقَ الْجَازِمَ صَحِيحٌ، فَيَجِبُ تَقْيِيدُ ذَلِكَ بِأَنْ يُزَادَ إِلَى مَنْ عُلِّقَ عَنْهُ وَيَبْقَى النَّظَرُ فِيمَا فَوْقَ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُمَرُ: لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَكَتَبْتُ آيَةَ الرَّجْمِ بِيَدِي) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ آخَرَ أَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ عُمَرَ كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي بَابِ الِاعْتِرَافِ بِالزِّنَا فِي شَرْحِ حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ فِي قِصَّةِ الرَّجْمِ الَّذِي هُوَ طَرَفٌ مِنْ قِصَّةِ بَيْعَةِ أَبِي بَكْرٍ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: اسْتَشْهَدَ الْبُخَارِيُّ لِقَوْلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ بِقَوْلِ عُمَرَ هَذَا أَنَّهُ كَانَتْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ فِي آيَةِ الرَّجْمِ أَنَّهَا مِنَ الْقُرْآنِ فَلَمْ يُلْحِقْهَا بِنَصِّ الْمُصْحَفِ بِشَهَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَأَفْصَحَ فِي الْعِلَّةِ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لَوْلَا أَنْ يُقَالَ زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَأَشَارَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَطْعِ الذَّرَائِعِ لِئَلَّا تَجِدَ حُكَّامَ السُّوءِ سَبِيلًا إِلَى أَنْ يَدَّعُوا الْعِلْمَ لِمَنْ أَحَبُّوا لَهُ الْحُكْمَ بِشَيْءٍ.

قَوْلُهُ: (وَأَقَرَّ مَاعِزٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالزِّنَا أَرْبَعًا فَأَمَرَ بِرَجْمِهِ، وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَشْهَدَ مَنْ حَضَرَهُ) هَذَا طَرَفٌ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي ذُكِرَ قَبْلُ بِبَابٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَحِكَايَةِ الْخِلَافِ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ فِي اسْمِ صَحَابِيِّهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ حَمَّادٌ) هُوَ ابْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ فَقِيهُ الْكُوفَةِ.

قَوْلُهُ: (إِذَا أَقَرَّ مَرَّةً عِنْدَ الْحَاكِمِ رُجِمَ) وَقَالَ الْحَكَمُ، هُوَ ابْنُ عُتَيْبَةَ بِمُثَنَّاةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ مُصَغَّرٌ وَهُوَ فَقِيهُ الْكُوفَةِ أَيْضًا.

قَوْلُهُ (أَرْبَعًا) أَيْ لَا يُرْجَمُ حَتَّى يقر أَرْبَعَ مَرَّاتٍ كَمَا فِي حَدِيثِ مَاعِزٍ، وَقَدْ وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ قَالَ: سَأَلْتُ حَمَّادًا

ص: 159

عَنِ الرَّجُلِ يُقِرُّ بِالزِّنَا كَمْ يُرَدُّ؟ قَالَ: مَرَّةً. قَالَ: وَسَأَلْتُ الْحَكَمَ فَقَالَ: أَرْبَعَ مَرَّاتٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي شَرْحِ قِصَّةِ مَاعِزٍ فِي أَبْوَابِ الرَّجْمِ. ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي قَتَادَةَ فِي قِصَّةِ سَلَبِ الْقَتِيلِ الَّذِي قَتَلَهُ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ، وَقَوْلُهُ هُنَا قَالَ: فَأَرْضِهِ مِنْهُ هِيَ رِوَايَةُ الْأَكْثَرِ، وَعِنْدَ الْكُشْمِيهَنِيِّ مِنِّي وَقَوْلُهُ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَدَّاهُ إِلَيَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ عَنْ غَيْرِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَعَلِمَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ بَدَلَ فَقَامَ وَكَذَا لِأَكْثَرِ رُوَاةِ الْفَرَبْرِيِّ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ قُتَيْبَةَ، وَهُوَ الْمَحْفُوظُ فِي رِوَايَةِ قُتَيْبَةَ هَذِهِ، وَمِنْ ثَمَّ عَقَّبَهَا الْبُخَارِيُّ بِقَوْلِهِ: وَقَالَ لِي عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنِ اللَّيْثِ: فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَدَّاهُ إِلَيَّ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ فَأَمَرَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمِيمِ بَعْدَهَا رَاءٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ الْمَذْكُورُ هُوَ ابْنُ صَالِحٍ أَبُو صَالِحٍ وَهُوَ كَاتِبُ اللَّيْثِ، وَالْبُخَارِيُّ يَعْتَمِدُهُ فِي الشَّوَاهِدِ، وَلَوْ كَانَتْ رِوَايَةُ قُتَيْبَةَ بِلَفْظِ فَقَامَ لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ مَعْنًى.

قَالَ الْمُهَلَّبُ: قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ قُتَيْبَةَ: فَعَلِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي عَلِمَ أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ هُوَ قَاتِلُ الْقَتِيلِ الْمَذْكُورِ، قَالَ: وَهِيَ وَهْمٌ قَالَ: وَالصَّحِيحُ فِيهِ رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ بِلَفْظِ فَقَامَ قَالَ: وَقَدْ رَدَّ بَعْضُ النَّاسِ الْحُجَّةَ الْمَذْكُورَةَ فَقَالَ: لَيْسَ فِي إِقْرَارِ مَاعِزٍ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا حُكْمِهِ بِالرَّجْمِ دُونَ أَنْ يَشْهَدَ مَنْ حَضَرَهُ، وَلَا فِي إِعْطَائِهِ السَّلَبَ لِأَبِي قَتَادَةَ حُجَّةٌ لِلْقَضَاءِ بِالْعِلْمِ؛ لِأَنَّ مَاعِزًا إِنَّمَا كَانَ إِقْرَارُهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ، إِذْ مَعْلُومٌ أَنَّهُ كَانَ صلى الله عليه وسلم لَا يَقْعُدُ وَحْدَهُ فَلَمْ يَحْتَجِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُشْهِدَهُمْ عَلَى إِقْرَارِهِ لِسَمَاعِهِمْ مِنْهُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ قِصَّةُ أَبِي قَتَادَةَ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَا حُجَّةَ فِي قِصَّةِ أَبِي قَتَادَةَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فَعَلِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ فَحَكَمَ عَلَيْهِ، فَهِيَ حُجَّةٌ لِلْمَذْهَبِ، يَعْنِي الصَّائِرَ إِلَى جَوَازِ الْقَضَاءِ بِالْعِلْمِ فِيمَا يَقَعُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: ظَاهِرُ أَوَّلِ الْقِصَّةِ يُخَالِفُ آخِرَهَا؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ الْبَيِّنَةَ بِالْقَتْلِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ السَّلَبِ، ثُمَّ دَفَعَ السَّلَبَ لِأَبِي قَتَادَةَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، وَأَجَابَ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّ الْخَصْمَ اعْتَرَفَ، يَعْنِي فَقَامَ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ، وَبِأَنَّ الْمَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِي مِنْهُ مَنْ شَاءَ وَيَمْنَعُ مَنْ شَاءَ.

قُلْتُ: وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَالْبَيِّنَةُ لَا تَنْحَصِرُ فِي الشَّهَادَةِ، بَلْ كُلُّ مَا كَشَفَ الْحَقَّ يُسَمَّى بَيِّنَةً.

قَوْلُهُ (وَقَالَ أَهْلُ الْحِجَازِ: الْحَاكِمُ لَا يَقْضِي بِعِلْمِهِ، شَهِدَ بِذَلِكَ فِي وِلَايَتِهِ أَوْ قَبْلَهَا) هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْكَرَابِيسِيُّ: لَا يَقْضِي الْقَاضِي بِمَا عَلِمَ لِوُجُودِ التُّهْمَةِ؛ إِذْ لَا يُؤْمَنُ عَلَى التَّقِيِّ أَنْ يَتَطَرَّقَ إِلَيْهِ التُّهْمَةُ قَالَ: وَأَظُنُّهُ ذَهَبَ إِلَى مَا رَوَاهُ ابْنُ شِهَابٍ عَنْ زُبَيْدِ بْنِ الصَّلْتِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ: لَوْ وَجَدْتُ رَجُلًا عَلَى حَدٍّ مَا أَقَمْتُهُ عَلَيْهِ حَتَّى يَكُونَ مَعِي غَيْرِي ثُمَّ سَاقَهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: وَلَا أَحْسَبُ مَالِكًا ذَهَبَ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ قَلَّدَ أَكْثَرَ هَذِهِ الْأُمَّةَ فَضْلًا وَعِلْمًا. قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَهَبَ إِلَى الْأَثَرِ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُ عَنْ عُمَرَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: وَيَلْزَمُ مَنْ أَجَازَ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ مُطْلَقًا أَنَّهُ لَوْ عَمَدَ إِلَى رَجُلٍ مَسْتُورٍ لَمْ يُعْهَدْ مِنْهُ فُجُورٌ قَطُّ أَنْ يَرْجُمَهُ وَيَدَّعِيَ أَنَّهُ رَآهُ يَزْنِي، أَوْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ وَيَزْعُمَ أَنَّهُ سَمِعَهُ يُطَلِّقُهَا، أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَمَتِهِ وَيَزْعُمَ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَعْتِقُهَا، فَإِنَّ هَذَا الْبَابَ لَوْ فُتِحَ لَوَجَدَ كُلُّ قَاضٍ السَّبِيلَ إِلَى قَتْلِ عَدُوِّهُ وَتَفْسِيقِهِ وَالتَّفْرِيقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ يُحِبُّ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوْلَا قُضَاةُ السُّوءِ لَقُلْتُ: إِنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ انْتَهَى.

وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ فَمَا الظَّنُّ بِالْمُتَأَخِّرِ، فَيَتَعَيَّنُ حَسْمُ مَادَّةِ تَجْوِيزِ الْقَضَاءِ بِالْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ الْمُتَأَخِّرَةِ لِكَثْرَةِ مَنْ يَتَوَلَّى الْحُكْمَ مِمَّنْ لَا يُؤْمَنُ عَلَى ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ (وَلَوْ أَقَرَّ خَصْمٌ عِنْدَهُ لِآخَرَ بِحَقٍّ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَقْضِي عَلَيْهِ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ حَتَّى يَدْعُوَ بِشَاهِدَيْنِ فَيُحْضِرَهُمَا إِقْرَارَهُ) قَالَ ابْنُ التِّينِ: مَا ذُكِرَ عَنْ عُمَرَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ.

وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: يَحْكُمُ بِمَا عَلِمَهُ فِيمَا

ص: 160

أَقَرَّ بِهِ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ عِنْدَهُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ:، وَأَشْهَبُ لَا يَقْضِي بِمَا يَقَعُ عِنْدَهُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ إِلَّا إِذَا شَهِدَ بِهِ عِنْدَهُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ مَنْ حَكَمَ بِعِلْمِهِ يَقْضِي عَلَى الْمَشْهُورِ، إِلَّا إِنْ كَانَ عِلْمُهُ حَادِثًا بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْمُحَاكَمَةِ فَقَوْلَانِ، وَأَمَّا مَا أَقَرَّ بِهِ عِنْدَهُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ فَيَحْكُمُ مَا لَمْ يُنْكِرِ الْخَصْمُ بَعْدَ إِقْرَارِهِ وَقَبْلَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ قَالَ: لَا يَحْكُمُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ وَيَكُونُ شَاهِدًا. وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ. وَفِي الْمَذْهَبِ تَفَارِيعُ طَوِيلَةٌ فِي ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَقَوْلُ مَنْ قَالَ لَا بُدَّ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ فِي الْمَجْلِسِ شَاهِدَانِ يُؤَوَّلُ إِلَى الْحُكْمِ بِالْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يُؤَدِّيَا أَوْ لَا؛ إِنْ أَدَّيَا فَلَا بُدَّ مِنَ الْأَعْذَارِ، فَإِنْ أُعْذِرَ احْتِيجَ إِلَى الْإِثْبَاتِ وَتَسَلْسَلَتِ الْقَضِيَّةُ، وَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ رَجَعَ إِلَى الْحُكْمِ بِالْإِقْرَارِ، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّيَا كَالْعَدَمِ. وَأَجَابَ غَيْرُهُ أَنَّ فَائِدَةَ ذَلِكَ رَدْعُ الْخَصْمِ عَنِ الْإِنْكَارِ، لِأَنَّهُ إِذَا عَرَفَ أَنَّ هُنَاكَ مَنْ يَشْهَدُ امْتَنَعَ مِنَ الْإِنْكَارِ خَشْيَةَ التَّعْزِيرِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا أَمِنَ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِرَاقِ: مَا سَمِعَ أَوْ رَآهُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ قَضَى بِهِ، وَمَا كَانَ فِي غَيْرِهِ لَمْ يَقْضِ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ يُحْضِرُهُمَا إِقْرَارَهُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ مِنَ الرُّبَاعِيِّ. قُلْتُ: وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَيُوَافِقُهُمْ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ، وَأَصْبَغُ، وَسَحْنُونٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَجَرَى بِهِ الْعَمَلُ، وَيُوَافِقُهُ مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: اعْتَرَفَ رَجُلٌ عِنْدَ شُرَيْحٍ بِأَمْرٍ ثُمَّ أَنْكَرَهُ فَقَضَى عَلَيْهِ بِاعْتِرَافِهِ، فَقَالَ: أَتَقْضِي عَلَيَّ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ فَقَالَ: شَهِدَ عَلَيْكَ ابْنُ أُخْتِ خَالَتِكَ، يَعْنِي نَفْسَهُ.

قَوْلُهُ (وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: بَلْ يَقْضِي بِهِ؛ لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ) بِفَتْحِ الْمِيمِ اسْمُ مَفْعُولٍ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِالشَّهَادَةِ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ، فَعِلْمُهُ أَكْبَرُ مِنَ الشَّهَادَةِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمَنْ تَبِعَهُ وَوَافَقَهُمُ الشَّافِعِيُّ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْكَرَابِيسِيُّ قَالَ الشَّافِعِيُّ بِمِصْرَ فِيمَا بَلَغَنِي عَنْهُ: إِنْ كَانَ الْقَاضِي عَدْلًا لَا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ فِي حَدٍّ وَلَا قِصَاصٍ إِلَّا مَا أُقِرَّ بِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيَحْكُمُ بِعِلْمِهِ فِي كُلِّ الْحُقُوقِ مِمَّا عَلِمَهُ قَبْلَ أَنْ يَلِيَ الْقَضَاءَ أَوْ بَعْدَ مَا وَلِيَ، فَقَيَّدَ ذَلِكَ بِكَوْنِ الْقَاضِي عَدْلًا إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ رُبَّمَا وَلِيَ الْقَضَاءَ مَنْ لَيْسَ بِعَدْلٍ بِطَرِيقِ التَّغَلُّبِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ بَعْضُهُمْ) يَعْنِي أَهْلَ الْعِرَاقِ (يَقْضِي بِعِلْمِهِ فِي الْأَمْوَالِ وَلَا يَقْضِي فِي غَيْرِهَا) هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ فِيمَا نَقَلَهُ الْكَرَابِيسِيُّ عَنْهُ إِذَا رَأَى الْحَاكِمُ رَجُلًا يَزْنِي مَثَلًا لَمْ يَقْضِ بِعِلْمِهِ حَتَّى تَكُونَ بَيِّنَةٌ تَشْهَدُ بِذَلِكَ عِنْدَهُ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْقِيَاسُ أَنَّهُ يَحْكُمُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بِعِلْمِهِ، وَلَكِنْ أَدع الْقِيَاسَ وَأَسْتَحْسِنُ أَنْ لَا يَقْضِيَ فِي ذَلِكَ بِعِلْمِهِ.

(تَنْبِيهٌ):

اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَقْضِي فِي قَبُولِ الشَّاهِدِ وَرَدِّهِ بِمَا يَعْلَمُهُ مِنْهُ مِنْ تَجْرِيحٍ أَوْ تَزْكِيَةٍ. وَمُحَصَّلُ الْآرَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ سَبْعَةٌ، ثَالِثُهَا فِي زَمَنِ قَضَائِهِ خَاصَّةً، رَابِعُهَا فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ، خَامِسُهَا فِي الْأَمْوَالِ دُونَ غَيْرِهَا، سَادِسُهَا مِثْلُهُ، وَفِي الْقَذْفِ أَيْضًا وَهُوَ عَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، سَابِعُهَا فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا فِي الْحُدُودِ وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَا يَقْضِي الْحَاكِمُ بِعِلْمِهِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ عِنْدَنَا الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ فِي الْحُدُودِ، ثُمَّ أَحْدَثَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلًا مُخَرَّجًا أَنَّهُ يَجُوزُ فِيهَا أَيْضًا حِينَ رَأَوْا أَنَّهَا لَازِمَةً لَهُمْ، كَذَا قَالَ فَجَرَى عَلَى عَادَتِهِ فِي التَّهْوِيلِ وَالْإِقْدَامِ عَلَى نَقْلِ الْإِجْمَاعِ مَعَ شُهْرَةِ الِاخْتِلَافِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْقَاسِمُ: لَا يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يَقْضِيَ قَضَاءً بِعِلْمِهِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ يَمْضِي.

قَوْلُهُ: (دُونَ عِلْمِ غَيْرِهِ) أَيْ إِذَا كَانَ وَحْدَهُ عَالِمًا بِهِ لَا غَيْرُهُ.

قَوْلُهُ: (وَلَكِنَّ) بِالتَّشْدِيدِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّخْفِيفِ وَتَعَرُّضٌ بِالرَّفْعِ.

قَوْلُهُ: (وَإِيقَاعًا) عَطْفٌ عَلَى تَعَرُّضًا أَوْ نُصِبَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مَعَهُ وَالْعَامِلُ فِيهِ مُتَعَلَّقُ الظَّرْفِ، وَالْقَاسِمُ الْمَذْكُورُ كُنْتُ أَظُنُّهُ أَنَّهُ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَحَدُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا أُطْلِقَ فِي الْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ انْصَرَفَ الذِّهْنُ إِلَيْهِ، لَكِنْ رَأَيْتُ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ الَّذِي

ص: 161

تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ قَرِيبًا فِي بَابِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ أَصْحَابَهُ الْكُوفِيِّينَ وَوَافَقَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فِي هَذَا الْحُكْمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ (وَقَدْ كَرِهَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الظَّنَّ فَقَالَ: إِنَّمَا هَذِهِ صَفِيَّةُ) هُوَ طَرَفٌ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي وَصَلَهُ بَعْدُ، وَقَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الْمَوْصُولَةِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَيِ ابْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ الْمُلَقَّبُ بِزَيْنِ الْعَابِدِينَ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَتْهُ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ) هَذَا صُورَتُهُ مُرْسَلٌ، وَمِنْ ثَمَّ عَقَّبَهُ الْبُخَارِيُّ بِقَوْلِهِ رَوَاهُ شُعَيْبٌ، وَابْنُ مُسَافِرٍ، وَابْنُ أَبِي عَتِيقٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ - أَيِ ابْنِ الْحُسَيْنِ - عَنْ صَفِيَّةَ يَعْنِي فَوَصَلُوهُ، فَتُحْمَلُ رِوَايَةُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَلَى أَنَّ عَلِيَّ بْنَ حُسَيْنٍ تَلَقَّاهُ عَنْ صَفِيَّةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ مَعَ شَرْحِ حَدِيثِ صَفِيَّةَ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الِاعْتِكَافِ فَإِنَّهُ سَاقَهُ هُنَاكَ تَامًّا وَأَوْرَدَهُ هُنَا مُخْتَصَرًا.

وَرِوَايَةُ شُعَيْبٍ وَهُوَ ابْنُ أَبِي حَمْزَةَ وَصَلَهَا الْمُصَنِّفُ فِي الِاعْتِكَافِ أَيْضًا وَفِي كِتَابِ الْأَدَبِ وَرِوَايَةُ ابْنِ مُسَافِرٍ وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ مُسَافِرٍ الْفَهْمِيُّ، وَصَلَهَا أَيْضًا فِي الصَّوْمِ وَفِي فَرْضِ الْخُمُسِ، وَرِوَايَةُ ابْنِ أَبِي عَتِيقٍ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَصَلَهَا الْمُصَنِّفُ فِي الِاعْتِكَافِ وَأَوْرَدَهَا فِي الْأَدَبِ أَيْضًا مَقْرُونَةً بِرِوَايَةِ شُعَيْبٍ، وَرِوَايَةُ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى وَصَلَهَا الذُّهْلِيُّ فِي الزُّهْرِيَّاتِ وَرَوَاهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَيْضًا مَعْمَرٌ فَاخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي صِفَةِ إِبْلِيسَ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْهُ وَمُرْسَلًا فِي فَرْضِ الْخُمُسِ مِنْ رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ مَعْمَرٍ، وَأَوْرَدَهَا النَّسَائِيُّ مَوْصُولَةً مِنْ رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ أَعْيَنَ، عَنْ مَعْمَرٍ وَمُرْسَلَةً مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْهُ وَوَصَلَهُ أَيْضًا عَنِ الزُّهْرِيِّ عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ بْنِ مُوسَى التَّيْمِيُّ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، وَأَبِي عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ أَيْضًا، وَهُشَيْمٌ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ وَآخَرُونَ. وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِحَدِيثِ صَفِيَّةَ لِمَنْ مَنَعَ الْحُكْمَ بِالْعِلْمِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَرِهَ أَنْ يَقَعَ فِي قَلْبِ الْأَنْصَارِيِّينَ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ شَيْءٌ، فَمُرَاعَاةُ نَفْيِ التُّهْمَةِ عَنْهُ مَعَ عِصْمَتِهِ تَقْتَضِي مُرَاعَاةَ نَفْيِ التُّهْمَةِ عَمَّنْ هُوَ دُونَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ مَنْ رَأَى لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ بَيَانُ حُجَّةِ مَنْ أَجَازَ وَمَنْ مَنَعَ بِمَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.

‌22 - بَاب أَمْرِ الْوَالِي إِذَا وَجَّهَ أَمِيرَيْنِ إِلَى مَوْضِعٍ أَنْ يَتَطَاوَعَا وَلَا يَتَعَاصَيَا

7172 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا الْعَقَدِيُّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَبِي وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ: يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا. فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى: إِنَّهُ يُصْنَعُ بِأَرْضِنَا الْبِتْعُ. فَقَالَ: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ. وَقَالَ النَّضْرُ وَأَبُو دَاوُدَ وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ وَوَكِيعٌ: عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: بَابُ أَمْرِ الْوَالِي إِذَا وَجَّهَ أَمِيرَيْنِ إِلَى مَوْضِعٍ أَنْ يَتَطَاوَعَا وَلَا يَتَعَاصَيَا) بِمُهْمَلَتَيْنِ وَيَاءٍ تَحْتَانِيَّةٍ، وَلِبَعْضِهِمْ بِمُعْجَمَتَيْنِ وَمُوَحَّدَةٍ. ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي بُرْدَةَ بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَبِي يَعْنِي أَبَا مُوسَى، وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ وَقَبْلَ ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي.

قَوْلُهُ: (بَشِّرَا) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْمَغَازِي.

قَوْلُهُ: (وَتَطَاوَعَا) أَيْ تَوَافَقَا فِي الْحُكْمِ وَلَا تَخْتَلِفَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى اخْتِلَافِ أَتْبَاعِكُمَا، فَيُفْضِي إِلَى الْعَدَاوَةِ ثُمَّ الْمُحَارَبَةِ، وَالْمَرْجِعُ فِي الِاخْتِلَافِ إِلَى مَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ

ص: 162

وَالرَّسُولِ} وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَيَانٍ لِذَلِكَ فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ (وَقَالَ النَّضْرُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، وَوَكِيعٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ) يَعْنِي مَوْصُولًا، وَرِوَايَةُ النَّضْرِ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَوَكِيعٍ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي فِي بَابِ بَعْثِ أَبِي مُوسَى، وَمُعَاذٍ إِلَى الْيَمَنِ وَرِوَايَةُ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، وَصَلَهَا أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُ: فِي الْحَدِيثِ الْحَضُّ عَلَى الِاتِّفَاقِ لِمَا فِيهِ مِنْ ثَبَاتِ الْمَحَبَّةِ وَالْأُلْفَةِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْحَقِّ، وَفِيهِ جَوَازُ نَصْبِ قَاضِيَيْنِ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ فَيَقْعُدُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي نَاحِيَةٍ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَشْرَكَهُمَا فِيمَا وَلَّاهُمَا، فَكَانَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي تَوْلِيَةِ اثْنَيْنِ قَاضِيَيْنِ مُشْتَرِكَيْنِ فِي الْوِلَايَةِ كَذَا جَزَمَ بِهِ، قَالَ: وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ فِيمَا إِذَا نَفَذَ حُكْمُ كُلٍّ مِنْهُمَا فِيهِ، لَكِنْ قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَلَّاهُمَا لِيَشْتَرِكَا فِي الْحُكْمِ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَسْتَقِلَّ كُلٌّ مِنْهُمَا بِمَا يَحْكُمُ بِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا عَمَلٌ يَخُصُّهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ كَيْفَ كَانَ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: الظَّاهِرُ اشْتِرَاكُهُمَا، لَكِنْ جَاءَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ أَقَرَّ كُلًّا مِنْهُمَا عَلَى مِخْلَافٍ، وَالْمِخْلَافُ الْكُورَةُ، وَكَانَ الْيَمَنُ مِخْلَافَيْنِ.

قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَالرِّوَايَةُ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا تَقَدَّمَتْ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُورِ، وَتَقَدَّمَ فِي الْمَغَازِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَانَ إِذَا سَارَ فِي عَمَلِهِ زَارَ رَفِيقَهُ، وَكَانَ عَمَلُ مُعَاذٍ النُّجُودَ وَمَا تَعَالَى مِنْ بِلَادِ الْيَمَنِ، وَعَمَلُ أَبِي مُوسَى التَّهَائِمَ وَمَا انْخَفَضَ مِنْهَا، فَعَلَى هَذَا فَأَمْرُهُ صلى الله عليه وسلم لَهُمَا بِأَنْ يَتَطَاوَعَا وَلَا يَتَخَالَفَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا اتَّفَقَتْ قَضِيَّةٌ يَحْتَاجُ الْأَمْرُ فِيهَا إِلَى اجْتِمَاعِهِمَا، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ فِي التَّرْجَمَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِهِ: تَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا أَنْ يَكُونَا شَرِيكَيْنِ كَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. وَقَالَ أَيْضًا: فَإِذَا اجْتَمَعَا فَإِنِ اتَّفَقَا فِي الْحُكْمِ وَإِلَّا تَبَاحَثَا حَتَّى يَتَّفِقَا عَلَى الصَّوَابِ وَإِلَّا رَفَعَا الْأَمْرَ لِمَنْ فَوْقَهُمَا. وَفِي الْحَدِيثِ الْأَمْرُ بِالتَّيْسِيرِ فِي الْأُمُورِ وَالرِّفْقُ بِالرَّعِيَّةِ وَتَحْبِيبُ الْإِيمَانِ إِلَيْهِمْ وَتَرْكُ الشِّدَّةِ لِئَلَّا تَنْفِرَ قُلُوبُهُمْ وَلَا سِيَّمَا فِيمَنْ كَانَ قَرِيبَ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ أَوْ قَارَبَ حَدَّ التَّكْلِيفِ مِنَ الْأَطْفَالِ لِيَتَمَكَّنَ الْإِيمَانُ مِنْ قَلْبِهِ وَيَتَمَرَّنَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْإِنْسَانُ فِي تَدْرِيبِ نَفْسِهِ عَلَى الْعَمَلِ إِذَا صَدَقَتْ إِرَادَتُهُ لَا يُشَدِّدْ عَلَيْهَا، بَلْ يَأْخُذْهَا بِالتَّدْرِيجِ وَالتَّيْسِيرِ حَتَّى إِذَا أَنِسَتْ بِحَالَةٍ دَاوَمَتْ عَلَيْهَا نَقَلَهَا لِحَالٍ آخَرَ وَزَادَ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنَ الْأُولَى حَتَّى يَصِلَ إِلَى قَدْرِ احْتِمَالِهَا وَلَا يُكَلِّفْهَا بِمَا لَعَلَّهَا تَعْجِزُ عَنْهُ.

وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الزِّيَارَةِ وَإِكْرَامُ الزَّائِرِ وَأَفْضَلِيَّةُ مُعَاذٍ فِي الْفِقْهِ عَلَى أَبِي مُوسَى، وَقَدْ جَاءَ: أَعْلَمُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ.

‌23 - بَاب إِجَابَةِ الْحَاكِمِ الدَّعْوَةَ، وَقَدْ أَجَابَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ عَبْدًا لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ

7173 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فُكُّوا الْعَانِيَ، وَأَجِيبُوا الدَّاعِيَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِجَابَةِ الْحَاكِمِ الدَّعْوَةَ) الْأَصْلُ فِيهِ عُمُومُ الْخَبَرِ ورُودُ الْوَعِيدِ فِي التَّرْكِ مِنْ قَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَاخِرِ النِّكَاحِ. وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: لَا يُجِيبُ الْحَاكِمُ دَعْوَةَ شَخْصٍ بِعَيْنِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الرَّعِيَّةِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ كَسْرِ قَلْبِ مَنْ لَمْ يُجِبْهُ، إِلَّا إِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ فِي تَرْكِ الْإِجَابَةِ كَرُؤْيَةِ الْمُنْكَرِ الَّذِي لَا يُجَابُ إِلَى إِزَالَتِهِ، فَلَوْ كَثُرَتْ بِحَيْثُ تَشْغَلُهُ عَنِ الْحُكْمِ الَّذِي تَعَيَّنَ عَلَيْهِ سَاغَ لَهُ أَنْ لَا يُجِيبَ.

قَوْلُهُ (وَقَدْ أَجَابَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ عَبْدًا لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ الْعَبْدِ الْمَذْكُورِ، وَالْأَثَرُ رُوِّينَاهُ مَوْصُولًا فِي فَوَائِدِ أَبِي مُحَمَّدِ

ص: 163

بْنِ صَاعِدٍ وَفِي زَوَائِدِ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ لِابْنِ الْمُبَارَكِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ إِلَى أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ: إِنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أَجَابَ عَبْدًا لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ دَعَاهُ وَهُوَ صَائِمٌ فَقَالَ: أَرَدْتُ أَنْ أُجِيبَ الدَّاعِيَ وَأَدْعُوَ بِالْبَرَكَةِ.

ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى: فُكُّوا الْعَانِيَ - بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ نُونٍ هُوَ الْأَسِيرُ - وَأَجِيبُوا الدَّاعِيَ. وَهُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ تَقَدَّمَ فِي الْوَلِيمَةِ وَغَيْرِهَا بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنْ مَالِكٍ: لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُجِيبَ الدَّعْوَةَ إِلَّا فِي الْوَلِيمَةِ خَاصَّةً، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَكَلَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَالتَّرْكُ أَحَبُّ إِلَيْنَا لِأَنَّهُ أَنْزَهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِأَخٍ فِي اللَّهِ أَوْ خَالِصِ قَرَابَةٍ أَوْ مَوَدَّةٍ. وَكَرِهَ مَالِكٌ لِأَهْلِ الْفَضْلِ أَنْ يُجِيبُوا كُلَّ مَنْ دَعَاهُمْ انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ أَحْكَامِ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ فِي الْوَلِيمَةِ وَغَيْرِهَا بِمَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَتِهِ.

‌24 - بَاب هَدَايَا الْعُمَّالِ

7174 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ، أَخْبَرَنَا أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ قَالَ: اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا مِنْ بَنِي أَسْدٍ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ الْأُتَبِيَّةِ عَلَى صَدَقَةٍ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ لِي. فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ - قَالَ سُفْيَانُ أَيْضًا: فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ - فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيَأْتِي فيَقُولُ: هَذَا لَكَ وَهَذَا لِي، فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لَا؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَأْتِي بِشَيْءٍ إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ - ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ - أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟ ثَلَاثًا. قَالَ سُفْيَانُ: قَصَّهُ عَلَيْنَا الزُّهْرِيُّ، وَزَادَ هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ قَالَ: سَمِعَ أُذُنَايَ وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنِي، وَسَلُوا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ؛ فَإِنَّهُ سَمِعَهُ مَعِي، وَلَمْ يَقُلْ الزُّهْرِيُّ: سَمِعَ أُذُنِي. خُوَارٌ: صَوْتٌ، وَالْجُؤَارُ: مِنْ تَجْأَرُونَ كَصَوْتِ الْبَقَرَةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ هَدَايَا الْعُمَّالِ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ لَفْظُ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو عَوَانَةَ، مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ رَفَعَهُ: هَدَايَا الْعُمَّالِ غُلُولٌ وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ يَحْيَى، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ عَنِ الْحِجَازِيِّينَ وَهِيَ ضَعِيفَةٌ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ اخْتَصَرَهُ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْهِبَةِ، وَأَوْرَدَ فِيهِ قِصَّةَ ابْنِ اللُّتْبِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ شَرْحِهَا فِي الْهِبَةِ وَفِي الزَّكَاةِ وَفِي تَرْكِ الْحِيَلِ وَفِي الْجُمُعَةِ، وَتَقَدَّمَ شَيْءٌ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْغُلُولِ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ.

قَوْلُهُ: (سُفْيَانُ) هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ.

قَوْلُهُ: (عَنِ الزُّهْرِيِّ) قَدْ ذَكَرَ فِي آخِرِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُفْيَانَ سَمِعَهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ وَهُوَ قَوْلُهُ قَالَ سُفْيَانُ: قَصَّهُ عَلَيْنَا الزُّهْرِيُّ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِهِ، وَعِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: قَصَّهُ عَلَيْنَا الزُّهْرِيُّ وَحَفِظْنَاهُ.

قَوْلُهُ: (أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ) فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ.

قَوْلُهُ: (اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا مِنْ بَنِي أَسْدٍ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ، كَذَا وَقَعَ هُنَا وَهُوَ يُوهِمُ أَنَّهُ بِفَتْحِ السِّينِ نِسْبَةً إِلَى بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ الْقَبِيلَةِ الْمَشْهُورَةِ أَوْ إِلَى بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بَطْنٍ مِنْ قُرَيْشٍ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا قُلْتُ إِنَّهُ يُوهِمُهُ؛ لِأَنَّ الْأَزْدِيَّ تُلَازِمُهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الِاسْتِعْمَالِ أَسْمَاءً وَأَنْسَابًا، بِخِلَافِ بَنِي أَسْدٍ فَبِغَيْرِ أَلِفٍ وَلَامٍ فِي الِاسْمِ، وَوَقَعَ

ص: 164

فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ هُنَا مِنْ بَنِي الْأَسْدِ بِزِيَادَةِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَلَا إِشْكَالَ فِيهَا مَعَ سُكُونِ السِّينِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي الْهِبَةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْجُعْفِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ اسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنَ الْأَزْدِ وَكَذَا قَالَ أَحْمَدُ، وَالْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدَيْهِمَا عَنْ سُفْيَانَ وَمِثْلُهُ لِمُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرِهِ عَنْ سُفْيَانَ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ بَدَلَ الزَّايِ، ثُمَّ وَجَدْتُ مَا يُزِيلُ الْإِشْكَالَ إِنْ ثَبَتَ، وَذَلِكَ أَنَّ أَصْحَابَ الْأَنْسَابِ ذَكَرُوا أَنَّ فِي الْأَزْدِ بَطْنًا يُقَالُ لَهُمْ بَنُو أَسَدٍ بِالتَّحْرِيكِ يُنْسَبُونَ إِلَى أَسَدِ بْنِ شُرَيْكٍ بِالْمُعْجَمَةِ مُصَغَّرًا ابْنِ مَالِكِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ فَهْمٍ، وَبَنُو فَهْمٍ بَطْنٌ شَهِيرٌ مِنَ الْأَزْدِ فَيَحْتَمِلُ أَنَّ ابْنَ الْأُتْبِيَّةِ كَانَ مِنْهُمْ فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِيهِ الْأَزْدِيُّ بِسُكُونِ الزَّايِ وَالْأَسْدِيُّ بِسُكُونِ السِّينِ وَبِفَتْحِهَا مِنْ بَنِي أَسَدٍ بِفَتْحِ السِّينِ وَمِنْ بَنِي الْأَزْدِ أَوِ الْأَسْدِ بِالسُّكُونِ فِيهِمَا لَا غَيْرَ، وَذَكَرُوا مِمَّنْ يُنْسَبُ كَذَلِكَ مُسَدَّدًا شَيْخَ الْبُخَارِيِّ.

قَوْلُهُ (يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْأُتْبِيَّةِ) كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمُثَنَّاةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، وَفِي الْهَامِشِ بِاللَّامِ بَدَلَ الْهَمْزَةِ، كَذَلِكَ وَوَقَعَ كَالْأَوَّلِ لِسَائِرِهِمْ وَكَذَا تَقَدَّمَ فِي الْهِبَةِ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ بِاللَّامِ الْمَفْتُوحَةِ ثُمَّ الْمُثَنَّاةِ السَّاكِنَةِ، وَبَعْضُهُمْ يَفْتَحُهَا، وَقَدِ اخْتُلِفَ عَلَى هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ بِاللَّامِ أَوْ بِالْهَمْزَةِ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا فِي بَابِ مُحَاسَبَةِ الْإِمَامِ عُمَّالَهُ بِالْهَمْزَةِ، وَوَقَعَ لِمُسْلِمٍ بِاللَّامِ، وَقَالَ عِيَاضٌ: ضَبَطَهُ الْأَصِيلِيُّ بِخَطِّهِ فِي هَذَا الْبَابِ بِضَمِّ اللَّامِ وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ، وَكَذَا قَيَّدَهُ ابْنُ السَّكَنِ، قَالَ: وَهُوَ الصَّوَابُ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ، ابْنُ اللُّتَبِيَّةِ بِضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَيُقَالُ بِالْهَمْزِ بَدَلَ اللَّامِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ اسْمَهُ عَبْدُ اللَّهِ وَاللُّتْبِيَّةُ أُمُّهُ لَمْ نَقِفْ عَلَى تَسْمِيَتِهَا.

قَوْلُهُ: (عَلَى صَدَقَةٍ) وَقَعَ فِي الْهِبَةِ عَلَى الصَّدَقَةِ وَكَذَا لِمُسْلِمٍ، وَتَقَدَّمَ فِي الزَّكَاةِ تَعْيِينُ مَنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْهِمْ.

قَوْلُهُ: (فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي) فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَجَاءَ بِالْمَالِ فَدَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: هَذَا مَالُكُمْ وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي وَفِي رِوَايَةِ هِشَامٍ الْآتِيَةِ قَرِيبًا: فَلَمَّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَحَاسَبَهُ قَالَ: هَذَا الَّذِي لَكُمْ، وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ عُرْوَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَجَاءَ بِسَوَادٍ كَثِيرٍ. وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ فَجَعَلَ يَقُولُ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي وَأَوَّلُهُ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ بَعَثَ مُصَدِّقًا إِلَى الْيَمَنِ. فَذَكَرَهُ. وَالْمُرَادُ بِالسَّوَادِ الْأَشْيَاءُ الْكَثِيرَةُ وَالْأَشْخَاصُ الْبَارِزَةُ مِنْ حَيَوَانٍ وَغَيْرِهِ، وَلَفْظُ السَّوَادِ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ شَخْصٍ وَلِأَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ يَتَوَفَّى مِنْهُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ: فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ أَيْ أَمَرَ مَنْ يُحَاسِبُهُ وَيَقْبِضُ مِنْهُ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ أَيْضًا: فَجَعَلَ يَقُولُ هَذَا لَكُمْ وَهَذَا لِي حَتَّى مَيَّزَهُ قَالَ: يَقُولُونَ: مِنْ أَيْنَ هَذَا لَكَ؟ قَالَ: أُهْدِيَ لِي، فَجَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَا أَعْطَاهُمْ.

قَوْلُهُ (فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ) زَادَ فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ قَبْلَ ذَلِكَ فَقَالَ: أَلَا جَلَسْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكِ وَبَيْتِ أُمِّكَ حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا؟ ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ.

قَوْلُهُ (قَالَ سُفْيَانُ: أَيْضًا فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ) يُرِيدُ أَنَّ سُفْيَانَ كَانَ تَارَةً يَقُولُ قَامَ وَتَارَةً صَعِدَ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ ثُمَّ قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَشِيَّةً بَعْدَ الصَّلَاةِ وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ ثُمَّ قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الزِّنَادِ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ: فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ وَهُوَ مُغْضَبٌ.

قَوْلُهُ (مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيَأْتِي فَيَقُولُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ يَقُولُ بِحَذْفِ الْفَاءِ، وَفِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ فَمَا بَالُ الْعَامِلِ نَسْتَعْمِلُهُ فَيَأْتِينَا فَيَقُولُ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ عَلَى أُمُورٍ مِمَّا وَلَّانِي اللَّهُ.

قَوْلُهُ: (هَذَا لَكَ وَهَذَا لِي) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي وَفِي رِوَايَةِ هِشَامٍ: فَيَقُولُ: هَذَا الَّذِي لَكُمْ وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي رِوَايَةِ أَبِي الزِّنَادِ مِنَ الزِّيَادَةِ.

قَوْلُهُ: (فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَنْظُرَ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لَا)؟ فِي

ص: 165

رِوَايَةِ هِشَامٍ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ إِنْ كَانَ صَادِقًا.

قَوْلُهُ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ.

قَوْلُهُ: (لَا يَأْتِي بِشَيْءٍ إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) يَعْنِي لَا يَأْتِي بِشَيْءٍ يَحُوزُهُ لِنَفْسِهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ: لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْهَا شَيْئًا وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ: لَا يَنَالُ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْهَا شَيْئًا وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الزِّنَادِ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ: لَا يَغُلُّ مِنْهُ شَيْئًا إِلَّا جَاءَ بِهِ وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ، وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ كِلَاهُمَا بِلَفْظِ: لَا يَغُلُّ بِضَمِّ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ مِنَ الْغُلُولِ وَأَصْلُهُ الْخِيَانَةُ فِي الْغَنِيمَةِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ خِيَانَةٍ.

قَوْلُهُ (يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ عَلَى عُنُقِهِ وَفِي رِوَايَةِ هِشَامٍ لَا يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مِنْهَا شَيْئًا قَالَ هِشَامٌ بِغَيْرِ حَقِّهِ وَلَمْ يَقَعْ قَوْلُهُ: قَالَ هِشَامٌ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ الْمَذْكُورَةِ، وَأَوْرَدَهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامٍ بِدُونِ قَوْلِهِ بِغَيْرِ حَقِّهِ وَهَذَا مُشْعِرٌ بِإِدْرَاجِهَا.

قَوْلُهُ: (إِنْ كَانَ) أَيِ الَّذِي غَلَّهُ (بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ) بِضَمِّ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْمُعْجَمَةِ مَعَ الْمَدِّ هُوَ صَوْتُ الْبَعِيرِ.

قَوْلُهُ: (خُوَارٌ) يَأْتِي ضَبْطُهُ.

قَوْلُهُ (أَوْ شَاةً تَيْعَرُ) بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقَانِيَّةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ مَفْتُوحَةٌ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا، وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ التِّينِ أَوْ شَاةً لَهَا يُعَارٌ وَيُقَالُ يَعَارٌ قَالَ: وَقَالَ الْقَزَّازُ: هُوَ يَعَارٌ بِغَيْرِ شَكٍّ يَعْنِي بِفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ وَتَخْفِيفِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ صَوْتُ الشَّاةِ الشَّدِيدِ قَالَ: وَالْيُعَارُ لَيْسَ بِشَيْءٍ كَذَا فِيهِ، وَكَذَا لَمْ أَرَهُ هُنَا فِي شَيْءٍ مِنْ نُسَخِ الصَّحِيحِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْيُعَارُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ صَوْتُ الْمَعْزِ، يَعَرَتِ الْعَنْزُ تَيْعَرُ بِالْكَسْرِ وَبِالْفَتْحِ يُعَارًا إِذَا صَاحَتْ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبِطَيْهِ) وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ عُفْرَةَ إِبْطِهِ بِالْإِفْرَادِ، وَلِأَبِي ذَرٍّ عَفْرَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَلِبَعْضِهِمْ بِفَتْحِ الْفَاءِ أَيْضًا بِلَا هَاءٍ، وَكَالْأَوَّلِ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ بِلَفْظِ: حَتَّى إِنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى وَالْعُفْرَةُ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْفَاءِ تَقَدَّمَ شَرْحُهَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْعَفَرَ بَيَاضٌ لَيْسَ بِالنَّاصِعِ.

قَوْلُهُ: (أَلَا) بِالتَّخْفِيفِ (هَلْ بَلَّغْتُ) بِالتَّشْدِيدِ (ثَلَاثًا) أَيْ أَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ فِي الْهِبَةِ: اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ ثَلَاثًا وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ قَالَ: اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ مَرَّتَيْنِ وَمِثْلُهُ لِأَبِي دَاوُدَ، وَلَمْ يَقُلْ مَرَّتَيْنِ وَصَرَّحَ فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ بِالثَّالِثَةِ اللَّهُمَّ بَلَّغْتُ وَالْمُرَادُ بَلَّغْتُ حُكْمَ اللَّهِ إِلَيْكُمُ امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى لَهُ: بَلِّغْ وَإِشَارَةً إِلَى مَا يَقَعُ فِي الْقِيَامَةِ مِنْ سُؤَالِ الْأُمَمِ هَلْ بَلَّغَهُمْ أَنْبِيَاؤُهُمْ مَا أُرْسِلُوا بِهِ إِلَيْهِمْ.

قَوْلُهُ (وَزَادَ هِشَامٌ) هُوَ مِنْ مَقُولِ سُفْيَانَ وَلَيْسَ تَعْلِيقًا مِنَ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، وَهِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ قَالَا: حَدَّثَنَا عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَسَاقَهُ عَنْهُمَا مَسَاقًا وَاحِدًا، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: قَالَ سُفْيَانُ: زَادَ فِيهِ هِشَامٌ.

قَوْلُهُ: (سَمِعَ أُذُنِي) بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ، وَأُذُنِي بِالْإِفْرَادِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنِي قَالَ عِيَاضٌ: بِسُكُونِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمِيمِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَالْعَيْنِ لِلْأَكْثَرِ وَحُكِيَ عَنْ سِيبَوَيْهِ قَالَ: الْعَرَبُ تَقُولُ: سَمُعَ أُذُنِي زَيْدًا بِضَمِّ الْعَيْنِ، قَالَ عِيَاضٌ: وَالَّذِي فِي تَرْكِ الْحِيَلِ وَجْهُهُ النَّصْبُ عَلَى الْمَصْدَرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الْمَفْعُولَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ فِي تَرْكِ الْحِيَلِ، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ بَصْرَ وَسَمْعَ بِالسُّكُونِ فِيهِمَا، وَالتَّثْنِيَةِ فِي أُذُنَيَّ وَعَيْنَيَّ، وَعِنْدَهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ نُمَيْرٍ: بَصِرَ عَيْنَايَ وَسَمِعَ أُذُنَايَ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ هِشَامٍ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ: بَصُرَ عَيْنَا أَبِي حُمَيْدٍ وَسَمِعَ أُذُنَاهُ. قُلْتُ: وَهَذَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ بِضَمِّ الصَّادِ وَكَسْرِ الْمِيمِ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ عُرْوَةَ قُلْتُ لِأَبِي حُمَيْدٍ: أَسَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: مِنْ فِيهِ إِلَى أُذُنِي، قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ إِنَّنِي أَعْلَمُهُ عِلْمًا يَقِينًا لَا أَشُكُّ فِي عِلْمِي بِهِ.

قَوْلُهُ: (وَسَلُوا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَإِنَّهُ سَمِعَهُ مَعِي) فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ فَإِنَّهُ كَانَ حَاضِرًا مَعِي وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ

ص: 166

مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ هِشَامٍ يَشْهَدُ عَلَى مَا أَقُولُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَحُكُّ مَنْكِبَهُ مَنْكِبِي، رَأَى مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ الَّذِي رَأَيْتُ، وَشَهِدَ مِثْلَ الَّذِي شَهِدْتُ وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ أَنِّي لَمْ أَجِدْهُ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ.

قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَقُلِ الزُّهْرِيُّ سَمِعَ أُذُنِي) هُوَ مَقُولُ سُفْيَانَ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (خُوَارٌ صَوْتٌ، وَالْجُؤَارُ مِنْ تَجْأَرُونَ كَصَوْتِ الْبَقَرَةِ) هَكَذَا وَقَعَ هُنَا، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَالْأَوَّلُ بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ يُفَسِّرُ قَوْلَهُ فِي حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ وَهُوَ فِي الرِّوَايَةِ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَلِبَعْضِهِمْ بِالْجِيمِ، وَأَشَارَ إِلَى مَا فِي سُورَةِ طَهَ:{عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} وَهُوَ صَوْتُ الْعِجْلِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ الْبَقَرِ مِنَ الْحَيَوَانِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَالْجُؤَارُ فَهُوَ بِضَمِّ الْجِيمِ وَوَاوٍ مَهْمُوزَةٍ وَيَجُوزُ تَسْهِيلُهَا، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ يَجْأَرُونَ إِلَى مَا فِي سُورَةِ قَدْ أَفْلَحَ:{بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَيْ يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ كَمَا يَجْأَرُ الثَّوْرُ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ بِالْجِيمِ وَبِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ بِمَعْنًى، إِلَّا أَنَّهُ بِالْخَاءِ لِلْبَقَرِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْحَيَوَانِ، وَبِالْجِيمِ لِلْبَقَرِ وَالنَّاسِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} وَفِي قِصَّةِ مُوسَى: لَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللَّهِ بِالتَّلْبِيَةِ أَيْ صَوْتٌ عَالٍ، وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ أَصْلُهُ فِي الْبَقَرِ وَاسْتُعْمِلَ فِي النَّاسِ، وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ أَيْضًا إِلَى قِرَاءَةِ الْأَعْمَشِ: عِجْلًا جَسَدًا لَهُ جُؤَارٌ بِالْجِيمِ، وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ أَنَّ الْإِمَامَ يَخْطُبُ فِي الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ، وَاسْتِعْمَالُ أَمَّا بَعْدُ فِي الْخُطْبَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْجُمُعَةِ، وَمَشْرُوعِيَّةُ مُحَاسَبَةِ الْمُؤْتَمَنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ فِي الزَّكَاةِ، وَمَنْعِ الْعُمَّالِ مِنْ قَبُولِ الْهَدِيَّةِ مِمَّنْ لَهُ عَلَيْهِ حُكْمٌ، وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي تَرْكِ الْحِيَلِ، وَمَحَلُّ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ، لِمَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: لَا تُصِيبَنَّ شَيْئًا بِغَيْرِ إِذْنِي فَإِنَّهُ غُلُولٌ وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: فِيهِ أَنَّهَا إِذَا أُخِذَتْ تُجْعَلُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَلَا يَخْتَصُّ الْعَامل مِنْهَا إِلَّا بِمَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ الْإِمَامُ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ أَخَذَ مِنْهُ مَا ذَكَرَ أَنَّهُ أُهْدِيَ لَهُ وَهُوَ ظَاهِرُ السِّيَاقِ، وَلَا سِيَّمَا فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ قَبْلُ، وَلَكِنْ لَمْ أَرَ ذَلِكَ صَرِيحًا.

وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي لَمَّا ذَكَرَ الرِّشْوَةَ: وَعَلَيْهِ رَدُّهَا لِصَاحِبِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تُجْعَلَ فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْمُرِ ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ بِرَدِّ الْهَدِيَّةِ الَّتِي أُهْدِيَتْ لَهُ لِمَنْ أَهْدَاهَا. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: يَلْحَقُ بِهَدِيَّةِ الْعَامِلِ الْهَدِيَّةُ لِمَنْ لَهُ دَيْنٌ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يُحَاسَبَ بِذَلِكَ مِنْ دَيْنِهِ. وَفِيهِ إِبْطَالُ كُلِّ طَرِيقٍ يَتَوَصَّلُ بِهَا مَنْ يَأْخُذُ الْمَالَ إِلَى مُحَابَاةِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ وَالِانْفِرَادِ بِالْمَأْخُوذِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ: هَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ. جَوَازُ قَبُولِ الْهَدِيَّةِ مِمَّنْ كَانَ يُهَادِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ، كَذَا قَالَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَزِدْ عَلَى الْعَادَةِ. وَفِيهِ أَنَّ مَنْ رَأَى مُتَأَوِّلًا أَخْطَأَ فِي تَأْوِيلٍ يَضُرُّ مَنْ أَخَذَ بِهِ أَنْ يُشْهِرَ الْقَوْلَ لِلنَّاسِ، وَيُبَيِّنَ خَطَأَهُ لِيَحْذَرَ مِنَ الِاغْتِرَارِ بِهِ. وَفِيهِ جَوَازُ تَوْبِيخِ الْمُخْطِئِ، وَاسْتِعْمَالُ الْمَفْضُولِ فِي الْإِمَارَةِ وَالْإِمَامَةِ وَالْأَمَانَةِ مَعَ وُجُودِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَفِيهِ اسْتِشْهَادُ الرَّاوِي وَالنَّاقِلِ بِقَوْلِ مَنْ يُوَافِقُهُ لِيَكُونَ أَوْقَعَ فِي نَفْسِ السَّامِعِ وَأَبْلَغَ فِي طُمَأْنِينَتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌25 - بَاب اسْتِقْضَاءِ الْمَوَالِي وَاسْتِعْمَالِهِمْ

7175 -

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ، أَنَّ نَافِعًا أَخْبَرَهُ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ قَالَ: كَانَ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ يَؤُمُّ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ وَأَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ، فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَأَبُو سَلَمَةَ، وَزَيْدٌ، وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ.

ص: 167

قَوْلُهُ (بَابُ اسْتِقْضَاءِ الْمَوَالِي) أَيْ تَوْلِيَتِهِمُ الْقَضَاءَ (وَاسْتِعْمَالِهِمْ) أَيْ عَلَى إِمْرَةِ الْبِلَادِ حَرْبًا أَوْ خَرَاجًا أَوْ صَلَاةً.

قَوْلُهُ: (كَانَ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ) تَقَدَّمَ التَّعْرِيفُ بِهِ فِي الرَّضَاعِ.

قَوْلُهُ: (يَؤُمُّ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ) أَيِ الَّذِينَ سَبَقُوا بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ.

قَوْلُهُ: (فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَأَبُو سَلَمَةَ) أَيِ ابْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ الْمَخْزُومِيُّ زَوْجُ أُمِّ سَلَمَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَزَيْدٌ أَيِ ابْنُ حَارِثَةَ، وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ أَيِ الْعَنَزِيُّ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ بَعْدَهَا زَايٌ وَهُوَ مَوْلَى عُمَرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ فِي أَبْوَابِ الْإِمَامَةِ مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْأَوَّلُونَ الْعَصَبَةَ مَوْضِعٌ بِقُبَاءَ قَبْلَ مَقْدَمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَؤُمُّهُمْ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ وَكَانَ أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا، فَأَفَادَ سَبَبُ تَقْدِيمِهِ لِلْإِمَامَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ فِي بَابِ إِمَامَةِ الْمَوْلَى وَالْجَوَابُ عَنِ اسْتِشْكَالِ عَدِّ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فِيهِمْ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا هَاجَرَ صُحْبَةً لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ مَقْدَمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَذَكَرْتُ جَوَابَ الْبَيْهَقِيِّ بِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَالِمٌ اسْتَمَرَّ يَؤُمُّهُمْ بَعْدَ أَنْ تَحَوَّلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ، وَنَزَلَ بِدَارِ أَبِي أَيُّوبَ قَبْلَ بِنَاءِ مَسْجِدِهِ بِهَا، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي خَلْفَهُ إِذَا جَاءَ إِلَى قُبَاءَ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَكَانَا يُقْرِئَانِ النَّاسَ، ثُمَّ قَدِمَ بِلَالٌ، وَسَعْدٌ، وَعَمَّارٌ، ثُمَّ قَدِمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي عِشْرِينَ وَذَكَرْتُ هُنَاكَ أَنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ سَمَّى مِنْهُمْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ نَفْسًا، وَأَنَّ الْبَقِيَّةَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَذَكَرْتُ هُنَاكَ الِاخْتِلَافَ فِيمَنْ قَدِمَ مُهَاجِرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ الرَّاجِحَ أَنَّهُ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَدْخُلُ أَبُو بَكْرٍ وَلَا أَبُو سَلَمَةَ فِي الْعِشْرِينَ الْمَذْكُورِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ أَنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ ذَكَرَ أَنَّ عَامِرَ بْنَ رَبِيعَةَ أَوَّلُ مَنْ هَاجَرَ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ حَدِيثَ الْبَابِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَأْتَمُّ بِسَالِمٍ بَعْدَ أَنْ هَاجَرَ سَالِمٌ.

وَمُنَاسَبَةُ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ تَقْدِيمِ سَالِمٍ وَهُوَ مَوْلًى عَلَى مَنْ ذُكِرَ مِنَ الْأَحْرَارِ فِي إِمَامَةِ الصَّلَاةِ، وَمَنْ كَانَ رِضًا فِي أَمْرِ الدِّينِ فَهُوَ رِضًا فِي أُمُورِ الدُّنْيَا، فَيَجُوزُ أَنْ يُوَلَّى الْقَضَاءَ وَالْإِمْرَةَ عَلَى الْحَرْبِ وَعَلَى جِبَايَةِ الْخَرَاجِ، وَأَمَّا الْإِمَامَةُ الْعُظْمَى فَمِنْ شُرُوطِ صِحَّتِهَا أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ قُرَشِيًّا، وَقَدْ مَضَى الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْأَحْكَامِ وَيَدْخُلُ فِي هَذَا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الطُّفَيْلِ أَنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ لَقِيَ عُمَرَ بِعُسْفَانَ، وَكَانَ عُمَرُ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى مَكَّةَ فَقَالَ: مَنِ اسْتَعْمَلْتَ عَلَيْهِمْ؟ فَقَالَ: ابْنُ أَبْزَى يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: اسْتَعْمَلْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى! قَالَ: إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللَّهِ عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ نَبِيَّكُمْ قَدْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ.

‌26 - بَاب الْعُرَفَاءِ لِلنَّاسِ

7176، 7177 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَمِّهِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ:، حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ، وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَاهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ حِينَ أَذِنَ لَهُمْ الْمُسْلِمُونَ فِي عِتْقِ سَبْيِ هَوَازِنَ: إِنِّي لَا أَدْرِي مَنْ أَذِنَ فيكم مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ. فَرَجَعَ النَّاسُ، فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ، فَرَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ النَّاسَ قَدْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا.

ص: 168

قَوْلُهُ (بَابُ الْعُرَفَاءِ لِلنَّاسِ) بِالْمُهْمَلَةِ وَالْفَاءِ جَمْعُ عَرِيفٍ بِوَزْنِ عَظِيمٍ، وَهُوَ الْقَائِمُ بِأَمْرِ طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ: مِنْ عَرَفْتُ بِالضَّمِّ وَبِالْفَتْحِ عَلَى الْقَوْمِ أَعْرُفُ بِالضَّمِّ، فَأَنَا عَارِفٌ وَعَرِيفٌ، أَيْ وُلِّيتُ أَمْرَ سِيَاسَتِهِمْ وَحِفْظَ أُمُورِهِمْ، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ يَتَعَرَّفُ أُمُورَهُمْ حَتَّى يُعَرِّفَ بِهَا مَنْ فَوْقَهُ عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ. وَقِيلَ الْعَرِيفُ دُونَ الْمَنْكِبِ وَهُوَ دُونَ الْأَمِيرِ.

قَوْلُهُ: (إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هُوَ ابْنُ عُقْبَةَ، وَالسَّنَدُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ) فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ فُلَيْحٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ قَالَ لِيَ ابْنُ شِهَابٍ أَخْرَجَهَا أَبُو نُعَيْمٍ.

قَوْلُهُ: (حِينَ أَذِنَ لَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فِي عِتْقِ سَبْيِ هَوَازِنَ) فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ فُلَيْحٍ حَتَّى أَذِنَ لَهُ بِالْأَفْرَادِ وَكَذَا لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَأَبِي نُعَيْمٍ، وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الضَّمِيرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ تَبِعَهُ أَوْ مَنْ أَقَامَهُ فِي ذَلِكَ. وَهَذِهِ الْقِطْعَةُ مُقْتَطَعَةٌ مِنْ قِصَّةِ السَّبْيِ الَّذِي غَنِمَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي وَقْعَةِ حُنَيْنٍ وَنُسِبُوا إِلَى هَوَازِنَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا رَأْسَ تِلْكَ الْوَقْعَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ وَتَفْصِيلُ الْأَمْرِ فِيهِ فِي وَقْعَةِ حُنَيْنٍ، وَأَخْرَجَهَا هُنَاكَ مُطَوَّلَةً مِنْ رِوَايَةِ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ وَفِيهِ: وَإِنِّي رَأَي تُ أَنِّي أَرُدُّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُطَيِّبَ بِذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ. وَفِيهِ: فَقَالَ النَّاسُ: قَدْ طَيَّبَنَا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ، فَقَالَ: إِنَّا لَا نَدْرِي إِلَخْ.

قَوْلُهُ (مَنْ أَذِنَ فِيكُمْ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مِنْكُمْ وَكَذَا لِلنَّسَائِيِّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ.

قَوْلُهُ (فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ النَّاسَ قَدْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا) تَقَدَّمَ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ نِسْبَةَ الْإِذْنِ وَغَيْرِهِ إِلَيْهِمْ حَقِيقَةً: وَلَكِنَّ سَبَبَ ذَلِكَ مُخْتَلِفٌ، فَالْأَغْلَبُ الْأَكْثَرُ طَابَتْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ يَرُدُّوا السَّبْيَ لِأَهْلِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَبَعْضُهُمْ رَدَّهُ بِشَرْطِ التَّعْوِيضِ، وَمَعْنَى طَيَّبُوا وَهُوَ بِالتَّشْدِيدِ حَمَلُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى تَرْكِ السَّبَايَا حَتَّى طَابَتْ بِذَلِكَ، يُقَالُ: طَيَّبْتُ نَفْسِي بِكَذَا إِذَا حَمَلْتُهَا عَلَى السَّمَاحِ بِهِ مِنْ غَيْرِ إِكْرَاهٍ فَطَابَتْ بِذَلِكَ، وَيُقَالُ طَيَّبْتُ بِنَفْسِ فُلَانٍ إِذَا كَلَّمْتُهُ بِكَلَامٍ يُوَافِقُهُ، وَقِيلَ هُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ طَابَ الشَّيْءُ إِذَا صَارَ حَلَالًا، وَإِنَّمَا عَدَّاهُ بِالتَّضْعِيفِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُطَيِّبَ ذَلِكَ أَيْ يَجْعَلَهُ حَلَالًا، وَقَوْلُهُمْ طَيَّبْنَا فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ قَوْلُ الْعُرَفَاءِ أَنَّهُمْ طَيَّبُوا. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي الْحَدِيثِ مَشْرُوعِيَّةُ إِقَامَةِ الْعُرَفَاءِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُبَاشِرَ جَمِيعَ الْأُمُورِ بِنَفْسِهِ فَيَحْتَاجَ إِلَى إِقَامَةِ مَنْ يُعَاوِنُهُ لِيَكْفِيَهُ مَا يُقِيمُهُ فِيهِ، قَالَ: وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ إِذَا تَوَجَّهَ إِلَى الْجَمِيعِ يَقَعُ التَّوَكُّلُ فِيهِ مِنْ بَعْضِهِمْ فَرُبَّمَا وَقَعَ التَّفْرِيطُ، فَإِذَا أَقَامَ عَلَى كُلِّ قَوْمٍ عَرِيفًا لَمْ يَسَعْ كُلَّ أَحَدٍ إِلَّا الْقِيَامُ بِمَا أُمِرَ بِهِ.

وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: يُسْتَفَادُ مِنْهُ جَوَازُ الْحُكْمِ بِالْإِقْرَارِ بِغَيْرِ إِشْهَادٍ، فَإِنَّ الْعُرَفَاءَ مَا أَشْهَدُوا عَلَى كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ شَاهِدَيْنِ بِالرِّضَا، وَإِنَّمَا أَقَرَّ النَّاسَ عِنْدَهُمْ وَهُمْ نُوَّابٌ لِلْإِمَامِ، فَاعْتَبِرْ ذَلِكَ، وَفِيهِ أَنَّ الْحَاكِمَ يَرْفَعُ حُكْمَهُ إِلَى حَاكِمٍ آخَرَ مُشَافَهَةً فَيُنْفِذُهُ إِذَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي مَحَلِّ وِلَايَتِهِ. قُلْتُ: وَقَعَ فِي سِيَرِ الْوَاقِدِيِّ أَنَّ أَبَا رُهْمٍ الْغِفَارِيَّ كَانَ يَطُوفُ عَلَى الْقَبَائِلِ حَتَّى جَمَعَ الْعُرَفَاءَ وَاجْتَمَعَ الْأُمَنَاءُ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ. وَفِيهِ أَنَّ الْخَبَرَ الْوَارِدَ فِي ذَمِّ الْعُرَفَاءِ لَا يَمْنَحُ إِقَامَةَ الْعُرَفَاءِ؛ لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ - إِنْ ثَبَتَ - عَلَى أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْعُرَفَاءِ الِاسْتِطَالَةُ وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، وَتَرْكُ الْإِنْصَافِ الْمُفْضِي إِلَى الْوُقُوعِ فِي الْمَعْصِيَةِ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ رَفَعَهُ: الْعَرَافَةُ حَقٌّ، وَلَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ عَرِيفٍ، وَالْعُرَفَاءُ فِي النَّارِ وَلِأَحْمَدَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ عَبَّادِ بْنِ أَبِي عَلِيٍّ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: وَيْلٌ لِلْأُمَرَاءِ، وَيْلٌ لِلْعُرَفَاءِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: وَالْعُرَفَاءُ فِي النَّارِ. ظَاهِرٌ أُقِيمَ مَقَامَ الضَّمِيرِ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْعَرَافَةَ عَلَى خَطَرٍ، وَمَنْ بَاشَرَهَا غَيْرُ آمِنٍ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمَحْذُورِ الْمُفْضِي إِلَى الْعَذَابِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} فَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذَرٍ مِنْهَا لِئَلَّا يَتَوَرَّطَ فِيمَا يُؤَدِّيهِ إِلَى النَّارِ.

قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ الْحَدِيثُ الْآخَرُ، حَيْثُ تَوَعَّدَ الْأُمَرَاءَ بِمَا تَوَعَّدَ بِهِ الْعُرَفَاءَ،

ص: 169

فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ لَا يَسْلَمُ وَأَنَّ الْكُلَّ عَلَى خَطَرٍ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُقَدَّرٌ فِي الْجَمِيعِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: الْعَرَافَةُ حَقٌّ فَالْمُرَادُ بِهِ أَصْلُ نَصْبِهِمْ، فَإِنَّ الْمَصْلَحَةَ تَقْتَضِيهِ لِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْأَمِيرُ مِنَ الْمُعَاوَنَةِ عَلَى مَا يَتَعَاطَاهُ بِنَفْسِهِ، وَيَكْفِي فِي الِاسْتِدْلَالِ لِذَلِكَ وُجُودُهُمْ فِي الْعَهْدِ النَّبَوِيِّ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْبَابِ.

‌27 - بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ ثَنَاءِ السُّلْطَانِ وَإِذَا خَرَجَ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ

7178 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ: قَالَ أُنَاسٌ لِابْنِ عُمَرَ: إِنَّا نَدْخُلُ عَلَى سُلْطَانِنَا فَنَقُولُ لَهُمْ بخِلَافَ مَا نَتَكَلَّمُ إِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِمْ. قَالَ: كُنَّا نَعُدُّهَا نِفَاقًا.

7179 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عِرَاكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ شَرَّ النَّاسِ ذُو الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ

قَوْلُهُ: (مَا يُكْرَهُ مِنْ ثَنَاءِ السُّلْطَانِ) الْإِضَافَةُ فِيهِ لِلْمَفْعُولِ أَيْ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى السُّلْطَانِ بِحَضْرَتِهِ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَإِذَا خَرَجَ - أَيْ مِنْ عِنْدِهِ - قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ بَطَّالٍ: مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى السُّلْطَانِ وَكَذَا عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ أَبِي أَحْمَدَ الْجُرْجَانِيِّ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى هَذِهِ التَّرْجَمَةِ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْفِتَنِ. إِذَا قَالَ عِنْدَ قَوْمٍ شَيْئًا، ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ بِخِلَافِهِ وَهَذِهِ أَخَصُّ مِنْ تِلْكَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ أُنَاسٌ لِابْنِ عُمَرَ) قُلْتُ: سُمِّيَ مِنْهُمْ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ مِنْ طَرِيقِ مُعَاذٍ، عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِيهِ: دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى ابْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِهِ.

قَوْلُهُ: (إِنَّا نَدْخُلُ عَلَى سُلْطَانِنَا) فِي رِوَايَةِ الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ عَاصِمٍ: سَلَاطِينِنَا. بِصِيغَةِ الْجَمْعِ.

قَوْلُهُ (فَنَقُولُ لَهُمْ) أَيْ نُثْنِي عَلَيْهِمْ، فِي رِوَايَةِ الطَّيَالِسِيِّ فَنَتَكَلَّمُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ بِشَيْءٍ، وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الشَّعْثَاءِ قَالَ: دَخَلَ قَوْمٌ عَلَى ابْنِ عُمَرَ فَوَقَعُوا فِي يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: أَتَقُولُونَ هَذَا فِي وُجُوهِهِمْ؟ قَالُوا: بَلْ نَمْدَحُهُمْ وَنُثْنِي عَلَيْهِمْ. وَفِي رِوَايَةِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عِنْدَ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ، وَالْبَيْهَقِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ ابْنَ عُمَرَ فَقُلْتُ: إِنَّا نَجْلِسُ إِلَى أَئِمَّتِنَا هَؤُلَاءِ فَيَتَكَلَّمُونَ فِي شَيْءٍ نَعْلَمُ أَنَّ الْحَقَّ غَيْرُهُ فَنُصَدِّقُهُمْ، فَقَالَ: كُنَّا نَعُدُّ هَذَا نِفَاقًا، فَلَا أَدْرِي كَيْفَ هُوَ عِنْدَكُمْ لَفْظُ الْبَيْهَقِيِّ فِي رِوَايَةِ الْحَارِثِ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّا نَدْخُلُ عَلَى الْإِمَامِ يَقْضِي بِالْقَضَاءِ نَرَاهُ جَوْرًا، فَنَقُولُ: تَقَبَّلَ اللَّهُ، فَقَالَ: إِنَّا نَحْنُ مُعَاشِرَ مُحَمَّدٍ فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَفِي كِتَابِ الْإِيمَانِ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُمَرَ الْأَصْبَهَانِيِّ بِسَنَدِهِ عَنْ عَرِيبٍ الْهَمْدَانِيِّ قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ فَذَكَرَ نَحْوَهُ وَعَرِيبٌ بِمُهْمَلَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ وَزْنُ عَظِيمٍ، وَلِلْخَرَائِطِيِّ فِي الْمَسَاوِي مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: إِنَّا نَدْخُلُ عَلَى أُمَرَائِنَا فَنَمْدَحُهُمْ، فَإِذَا خَرَجْنَا قُلْنَا لَهُمْ خِلَافَ ذَلِكَ.

فَقَالَ كُنَّا نَعُدُّ هَذَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نِفَاقًا وَفِي مُسْنَدِ مُسَدَّدٍ مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ رَجُلًا قَدِمَ عَلَى ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ أَنْتُمْ وَأَبُو أُنَيْسٍ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ قَالَ: إِذَا لَقِينَاهُ قُلْنَا لَهُ مَا يُحِبُّ، وَإِذَا وَلَّيْنَا عَنْهُ قُلْنَا لَهُ غَيْرَ ذَلِكَ، قَالَ: ذَاكَ مَا كُنَّا نَعُدُّهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ النِّفَاقِ وَفِي الْأَوْسَطِ لِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ الشَّيْبَانِيِّ يَعْنِي أَبَا إِسْحَاقَ، وَسُلَيْمَانَ بْنَ فَيْرُوزٍ الْكُوفِيَّ.

قَوْلُهُ (كُنَّا نَعُدُّهَا) بِضَمِّ الْعَيْنِ مِنَ الْعَدِّ هَكَذَا اخْتَصَرَهُ أَبُو ذَرٍّ، وَلَهُ عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ نَعُدُّ هَذَا وَعِنْدَ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ مِثْلُهُ، وَزَادُوا نِفَاقًا وَعِنْدَ ابْنِ بَطَّالٍ ذَلِكَ بَدَلَ هَذَا وَمِثْلُهُ لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَعِنْدَهُ مِنَ النِّفَاقِ وَزَادَ: قَالَ عَاصِمٌ: فَسَمِعَنِي

ص: 170

أَخِي - يَعْنِي عُمَرَ - أُحَدِّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: قَالَ أَبِي: قَالَ ابْنُ عُمَرَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَذَا أَخْرَجَهُ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عَاصِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ إِلَى قَوْلِهِ: نِفَاقًا قَالَ عَاصِمٌ: فَحَدَّثَنِي أَخِي عَنْ أَبِي أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: كُنَّا نَعُدُّهُ نِفَاقًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَوَقَعَ فِي الْأَطْرَافِ لِلْمِزِّيِّ مَا نَصُّهُ خ فِي الْأَحْكَامِ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ بِهِ قَالَ: وَرَوَاهُ مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ، عَنْ عَاصِمٍ. وَقَالَ فِي آخِرِهِ:«فَحَدَّثْتُ بِهِ أَخِي عُمَرَ فَقَالَ: إِنَّ أَبَاكَ كَانَ يَزِيدُ فِيهِ: فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم»

وَمِنْ قَوْلِهِ وَقَالَ مُعَاذٌ إِلَى آخِرِهِ: لَمْ يَذْكُرْهُ أَبُو مَسْعُودٍ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَقَلَهُ مِنْ كِتَابِ خَلَفٍ، وَلَمْ أَرَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي وَقَعَتْ لَنَا عَنِ الْفَرَبْرِيِّ وَلَا غَيْرِهِ عَنِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: عَقِبَ الزِّيَادَةِ الْمَذْكُورَةِ لَيْسَ فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ: عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ.

قَوْلُهُ (عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ) هُوَ الْمِصْرِيُّ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ.

قَوْلُهُ (عَنْ عِرَاكٍ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَآخِرُهُ كَافٌ هُوَ ابْنُ مَالِكٍ الْغِفَارِيُّ الْمَدَنِيُّ، فَالسَّنَدُ دَائِرٌ بَيْنَ مِصْرِيٍّ وَمَدَنِيٍّ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ شَرَّ النَّاسِ ذُو الْوَجْهَيْنِ) تَقَدَّمَ فِي بَابِ مَا قِيلَ فِي ذِي الْوَجْهَيْنِ مِنْ كِتَابِ الْأَدَبِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ مِنْ شَرِّ النَّاسِ وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ وَسَائِرُ فَوَائِدِهِ هُنَاكَ. وَتَعَرَّضَ ابْنُ بَطَّالٍ هُنَا لِذِكْرِ مَا يُعَارِضُ ظَاهِرَهُ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِلَّذِي اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ: بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ، فَلَمَّا دَخَلَ أَلَانَ لَهُ الْقَوْلَ وَتَكَلَّمَ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ حَيْثُ ذَمَّهُ كَانَ لِقَصْدِ التَّعْرِيفِ بِحَالِهِ، وَحَيْثُ تَلَقَّاهُ بِالْبِشْرِ كَانَ لِتَأْلِيفِهِ أَوْ لِاتِّقَاءِ شَرِّهِ، فَمَا قَصَدَ بِالْحَالَتَيْنِ إِلَّا نَفْعَ الْمُسْلِمِينَ. وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ لَمْ يَصِفْهُ فِي حَالِ لِقَائِهِ بِأَنَّهُ فَاضِلٌ وَلَا صَالِحٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ أَيْضًا فِي بَابِ لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاحِشًا مِنْ كِتَابِ الْأَدَبِ وَتَقَدَّمَ فِيهِ أَيْضًا بَيَانُ مَا يَجُوزُ مِنَ الِاغْتِيَابِ فِي بَابٍ آخَرَ بَعْدَ ذَلِكَ.

‌28 - بَاب الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ

7180 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ هِنْدًا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، فَأَحْتَاجُ أَنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ. قَالَ صلى الله عليه وسلم: خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ.

قَوْلُهُ (الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ) أَيْ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ دُونَ حُقُوقِ اللَّهِ بِالِاتِّفَاقِ، حَتَّى لَوْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى غَائِبٍ بِسَرِقَةٍ مَثَلًا، حُكِمَ بِالْمَالِ دُونَ الْقَطْعِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَجَازَ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ وَجَمَاعَةٌ الْحُكْمَ عَلَى الْغَائِبِ، وَاسْتَثْنَى ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ مَا يَكُونُ لِلْغَائِبِ فِيهِ حُجَجٌ كَالْأَرْضِ وَالْعَقَارِ إِلَّا إِنْ طَالَتْ غَيْبَتُهُ أَوِ انْقَطَعَ خَبَرُهُ، وَأَنْكَرَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ صِحَّةَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ وَقَالَ: الْعَمَلُ بِالْمَدِينَةِ عَلَى الْحُكْمِ عَلَى الْغَائِبِ مُطْلَقًا حَتَّى لَوْ غَابَ بَعْدَ أَنْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ قُضِيَ عَلَيْهِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْضَى عَلَى الْغَائِبِ مُطْلَقًا. وَأَمَّا مَنْ هَرَبَ أَوِ اسْتَتَرَ بَعْدَ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فَيُنَادِي الْقَاضِي عَلَيْهِ ثَلَاثًا، فَإِنْ جَاءَ وَإِلَّا أَنْفَذَ الْحُكْمَ عَلَيْهِ وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: أَجَازَهُ أَيْضًا ابْنُ شُبْرُمَةَ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ وَهُوَ أَحَدُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَمَنَعَهُ أَيْضًا الشَّعْبِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ قَالَ: وَاسْتَثْنَى أَبُو حَنِيفَةَ مَنْ لَهُ وَكِيلٌ مَثَلًا، فَيَجُوزُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بَعْدَ الدَّعْوَى عَلَى وَكِيلِهِ وَاحْتَجَّ مَنْ مَنَعَ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَفَعَهُ: لَا تَقْضِي لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ حَتَّى تَسْمَعَ مِنَ الْآخَرِ.

وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَبِحَدِيثِ الْأَمْرِ بِالْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ، وَبِأَنَّهُ لَوْ حَضَرَ لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي حَتَّى يَسْأَلَ

ص: 171

الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَإِذَا غَابَ فَلَا تُسْمَعُ، وَبِأَنَّهُ لَوْ جَازَ الْحُكْمُ مَعَ غَيْبَتِهِ لَمْ يَكُنِ الْحُضُورُ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَأَجَابَ مَنْ أَجَازَ: بِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لَا يَمْنَعُ الْحُكْمَ عَلَى الْغَائِبِ؛ لِأَنَّ حُجَّتَهُ إِذَا حَضَرَ قَائِمَةٌ فَتُسْمَعُ وَيُعْمَلُ بِمُقْتَضَاهَا، وَلَوْ أَدَّى إِلَى نَقْضِ الْحُكْمِ السَّابِقِ، وَحَدِيثُ عَلِيٍّ مَحْمُولٌ عَلَى الْحَاضِرَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: حَدِيثُ عَلِيٍّ، إِنَّمَا هُوَ مَعَ إِمْكَانِ السَّمَاعِ، فَأَمَّا مَعَ تَعَذُّرِهِ بِمَغِيبٍ فَلَا يَمْنَعُ الْحُكْمَ، كَمَا لَوْ تَعَذَّرَ بِإِغْمَاءٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ حَجْرٍ أَوْ صِغَرٍ، وَقَدْ عَمِلَ الْحَنَفِيَّةُ بِذَلِكَ فِي الشُّفْعَةِ وَالْحُكْمُ عَلَى مَنْ عِنْدَهُ لِلْغَائِبِ مَالٌ أَنْ يَدْفَعَ مِنْهُ نَفَقَةَ زَوْجِ الْغَائِبِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ هِنْدٍ، وَقَدِ احْتَجَّ بِهَا الشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ لِجَوَازِ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ أَبَا سُفْيَانَ كَانَ حَاضِرًا فِي الْبَلَدِ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ النَّفَقَاتِ مَعَ شَرْحِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَذَكَرَ ابْنُ التِّينِ فِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ: خُرُوجَ الْمَرْأَةِ فِي حَوَائِجِهَا، وَأَنَّ صَوْتَهَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ. قُلْتُ: وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا نَظَرٌ، وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ جَاءَ أَنَّ هِنْدًا كَانَتْ جَاءَتْ لِلْبَيْعَةِ فَوَقَعَ ذِكْرُ النَّفَقَةِ تَبَعًا. وَأَمَّا الثَّانِي فَحَالُ الضَّرُورَةِ مُسْتَثْنًى وَإِنَّمَا النِّزَاعُ حَيْثُ لَا ضَرُورَةَ.

‌29 - بَاب مَنْ قُضِيَ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذْهُ

فَإِنَّ قَضَاءَ الْحَاكِمِ لَا يُحِلُّ حَرَامًا وَلَا يُحَرِّمُ حَلَالًا

7181 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ زَيْنَبَ ابنة أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ، أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ سَمِعَ خُصُومَةً بِبَابِ حُجْرَتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّهُ يَأْتِينِي الْخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ، فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَادِقٌ فَأَقْضِي لَهُ بِذَلِكَ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنْ النَّارِ، فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ لِيَتْرُكْهَا.

7182 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ مِنِّي فَاقْبِضْهُ إِلَيْكَ، فَلَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ أَخَذَهُ سَعْدٌ، فَقَالَ: ابْنُ أَخِي قَدْ كَانَ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ. فَقَامَ إِلَيْهِ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، فَقَالَ: أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ. فَتَسَاوَقَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْنُ أَخِي، كَانَ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ. وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ، ثُمَّ قَالَ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ: احْتَجِبِي مِنْهُ لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ. فَمَا رَآهَا حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (بَابٌ) بِالتَّنْوِينِ مَنْ قُضِيَ لَهُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ بِحَقِّ أَخِيهِ أَيْ خَصْمِهِ فَهِيَ أُخُوَّةٌ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ وَهُوَ

ص: 172

الْجِنْسُ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ وَالذِّمِّيَّ وَالْمُعَاهَدَ وَالْمُرْتَدَّ فِي هَذَا الْحُكْمِ سَوَاءٌ، فَهُوَ مُطَّرِدٌ فِي الْأَخِ مِنَ النَّسَبِ وَمِنَ الرَّضَاعِ وَفِي الدِّينِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَخْصِيصُ الْأُخُوَّةِ بِالذِّكْرِ مِنْ بَابِ التَّهْيِيجِ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِقَوْلِهِ بِحَقِّ أَخِيهِ مُرَاعَاةً لِلَفْظِ الْخَبَرِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: فَلَا يَأْخُذْهُ لِأَنَّهُ بَقِيَّةُ الْخَبَرِ، وَهَذَا اللَّفْظُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَرْكِ الْحِيَلِ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّ قَضَاءَ الْحَاكِمِ لَا يُحِلُّ حَرَامًا وَلَا يُحَرِّمُ حَلَالًا) هَذَا الْكَلَامُ أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ قَالَ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأُمَّةَ، إِنَّمَا كُلِّفُوا الْقَضَاءَ عَلَى الظَّاهِرِ وَفِيهِ أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي لَا يُحَرِّمُ حَلَالًا وَلَا يُحِلُّ حَرَامًا.

قَوْلُهُ: (عَنْ صَالِحٍ) هُوَ ابْنُ كَيْسَانَ، وَصَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ.

قَوْلُهُ (سَمِعَ خُصُومَةً) فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ سَمِعَ جَلَبَةَ خِصَامٍ وَالْجَلَبَةُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَاللَّامِ: اخْتِلَاطُ الْأَصْوَاتِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ عِنْدَ مُسْلِمٍ جَلَبَةَ خَصْمٍ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَسُكُونِ الصَّادِ، وَهُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ وَالْمُثَنَّى مُذَكَّرًا وَمُؤَنَّثًا، وَيَجُوزُ جَمْعُهُ وَتَثْنِيَتُهُ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْبَابِ خُصُومٌ وَكَمَا فِي قَوْلِخهِ تَعَالَى:{هَذَانِ خَصْمَانِ} وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ هِشَامٍ لَجَبَةَ بِتَقْدِيمِ اللَّامِ عَلَى الْجِيمِ، وَهِيَ لُغَةٌ فِيهَا، فَأَمَّا الْخُصُومُ فَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِهِمْ، وَوَقَعَ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُمَا كَانَا اثْنَيْنِ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَلَفْظُهُ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلَانِ يَخْتَصِمَانِ. وَأَمَّا الْخُصُومَةُ فَبَيَّنَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ أَنَّهَا كَانَتْ فِي مَوَارِيثَ لَهُمَا وَفِي لَفْظٍ عِنْدَهُ فِي مَوَارِيثَ وَأَشْيَاءَ قَدْ دَرَسَتْ.

قَوْلُهُ (بِبَابِ حُجْرَتِهِ) فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، وَيُونُسَ عِنْدَ مُسْلِمٍ عِنْدَ بَابِهِ وَالْحُجْرَةُ الْمَذْكُورَةُ هِيَ مَنْزِلُ أُمِّ سَلَمَةَ، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ بِبَابِ أُمِّ سَلَمَةَ.

قَوْلُهُ: (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ) الْبَشَرُ الْخَلْقُ، يُطْلَقُ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَالْوَاحِدِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ مِنْهُمْ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ مُشَارِكٌ لِلْبَشَرِ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ، وَلَوْ زَادَ عَلَيْهِمْ بِالْمَزَايَا الَّتِي اخْتَصَّ بِهَا فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَالْحَصْرُ هُنَا مَجَازِيٌّ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْعِلْمِ الْبَاطِنِ وَيُسَمَّى قَصْرَ قَلْبٍ لِأَنَّهُ أَتَى بِهِ رَدًّا عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَنْ كَانَ رَسُولًا فَإِنَّهُ يَعْلَمُ كُلَّ غَيْبٍ، حَتَّى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ الْمَظْلُومُ.

قَوْلُهُ: (وَأَنَّهُ يَأْتِينِي الْخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ) فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ فِي تَرْكِ الْحِيَلِ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ وَمِثْلُهُ لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، وَتَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ أَلْحَنَ فِي تَرْكِ الْحِيَلِ.

قَوْلُهُ: (فَأَحْسَبُ أَنَّهُ صَادِقٌ) هَذَا يُؤْذِنُ أَنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا تَقْدِيرُهُ وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ كَاذِبٌ وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ فَأَظُنُّهُ صَادِقًا.

قَوْلُهُ: (فَأَقْضِي لَهُ بِذَلِكَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ فَأَقْضِي لَهُ عَلَيْهِ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ: إِنِّي إِنَّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ بِرَأْيِي فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيَّ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ) فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ، وَمَعْمَرٍ: فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ وَفِي رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ: فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْئًا وَكَأَنَّهُ ضَمَّنَ قَضَيْتُ مَعْنَى أَعْطَيْتُ وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ: فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ بِشَيْءٍ فَلَا يَأْخُذْهُ. وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ، وَالدَّارَقُطْنِيِّ: فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِقَضِيَّةٍ أَرَاهَا يُقْطَعُ بِهَا قِطْعَةٌ ظُلْمًا فَإِنَّمَا يُقْطَعُ لَهُ بِهَا قِطْعَةٌ مِنْ نَارٍ إِسْطَامًا يَأْتِي بِهَا فِي عُنُقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَالْإِسْطَامُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ قِطْعَةٌ فَكَأَنَّهَا لِلتَّأْكِيدِ.

قَوْلُهُ (فَإِنَّمَا هِيَ) الضَّمِيرُ لِلْحَالَةِ أَوِ الْقِصَّةِ.

قَوْلُهُ (قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ) أَيْ الَّذِي قَضَيْتُ لَهُ بِهِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ إِذَا كَانَ فِي الْبَاطِنِ لَا يَسْتَحِقُّهُ فَهُوَ عَلَيْهِ حَرَامٌ يَئُولُ بِهِ إِلَى النَّارِ، وَقَوْلُهُ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ، تَمْثِيلٌ يُفْهَمُ مِنْهُ شِدَّةُ التَّعْذِيبِ عَلَى مَنْ يَتَعَاطَاهُ فَهُوَ مِنْ مَجَازِ التَّشْبِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا}

قَوْلُهُ (فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ لِيَتْرُكْهَا) فِي رِوَايَةِ يُونُسَ فَلْيَحْمِلْهَا

ص: 173

أَوْ لِيَذَرْهَا وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامٍ: فَلَا يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: هِشَامٌ وَإِنْ كَانَ ثِقَةً لَكِنَّ الزُّهْرِيَّ أَحْفَظُ مِنْهُ، وَحَكَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيِّ. قُلْتُ: وَرِوَايَةُ الزُّهْرِيِّ تَرْجِعُ إِلَى رِوَايَةِ هِشَامٍ، فَإِنَّ الْأَمْرَ فِيهِ لِلتَّهْدِيدِ لَا لِحَقِيقَةِ التَّخْيِيرِ، بَلْ هُوَ كَقَوْلِهِ:{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} قَالَ ابْنُ التِّينِ: هُوَ خِطَابٌ لِلْمُقْضَى لَهُ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ أَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ، هَلْ هُوَ مُحِقٌّ أَوْ مُبْطِلٌ؟ فَإِنْ كَانَ مُحِقًّا فَلْيَأْخُذْ، وَإِنْ كَانَ مُبْطِلًا فَلْيَتْرُكْ، فَإِنَّ الْحُكْمَ لَا يَنْقُلُ الْأَصْلَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ.

(تَنْبِيهٌ): زَادَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَافِعٍ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: فَبَكَى الرَّجُلَانِ، وَقَالَ كُلُّ مِنْهُمَا: حَقِّي لَكَ. فَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَمَّا إِذَا فَعَلْتُمَا فَاقْتَسِمَا وَتَوَخَّيَا الْحَقَّ، ثُمَّ اسْتَهِمَا، ثُمَّ تَحَالَلَا.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ إِثْمُ مَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ حَتَّى اسْتَحَقَّ بِهِ فِي الظَّاهِرِ شَيْئًا هُوَ فِي الْبَاطِلِ حَرَامٌ عَلَيْهِ، وَفِيهِ أَنَّ مَنِ ادَّعَى مَالًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، فَحَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِبَرَاءَةِ الْحَالِفِ، أَنَّهُ لَا يُبَرَّأُ فِي الْبَاطِنِ، وَأَنَّ الْمُدَّعِي لَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً بَعْدَ ذَلِكَ تُنَافِي دَعْوَاهُ سُمِعَتْ وَبَطَلَ الْحُكْمُ، وَفِيهِ أَنَّ مَنِ احْتَالَ لِأَمْرٍ بَاطِلٍ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْحِيَلِ حَتَّى يَصِيرَ حَقًّا فِي الظَّاهِرِ وَيُحْكَمُ لَهُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ تَنَاوُلُهُ فِي الْبَاطِنِ وَلَا يَرْتَفِعُ عَنْهُ الْإِثْمُ بِالْحُكْمِ، وَفِيهِ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ قَدْ يُخْطِئُ فَيُرَدُّ بِهِ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَفِيهِ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ إِذَا أَخْطَأَ لَا يَلْحَقْهُ إِثْمٌ بَلْ يُؤْجَرُ كَمَا سَيَأْتِي، وَفِيهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْضِي بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ فِيهِ شَيْءٌ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ قَوْمٌ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَصْرَحِ مَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَفِيهِ أَنَّهُ رُبَّمَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى أَمْرٍ فَيَحْكُمُ بِهِ وَيَكُونُ فِي الْبَاطِنِ بِخِلَافِ ذَلِكَ، لَكِنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَوْ وَقَعَ لَمْ يُقَرَّ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم لِثُبُوتِ عِصْمَتِهِ، وَاحْتَجَّ مَنْ مَنَعَ مُطْلَقًا بِأَنَّهُ لَوْ جَازَ وُقُوعُ الْخَطَأِ فِي حُكْمِهِ لَلَزِمَ أَمْرَ الْمُكَلَّفِينَ بِالْخَطَأِ لِثُبُوتِ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِهِ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ، حَتَّى قَالَ تَعَالَى:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الْآيَةَ، وَبِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مَعْصُومٌ مِنَ الْخَطَأِ، فَالرَّسُولُ أَوْلَى بِذَلِكَ لِعُلُوِّ رُتْبَتِهِ، وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْأَمْرَ إِذَا اسْتَلْزَمَ إِيقَاعَ

الْخَطَأِ لَا مَحْذُورَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي حَقِّ الْمُقَلِّدِينَ، فَإِنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِاتِّبَاعِ الْمُفْتِي وَالْحَاكِمِ، وَلَوْ جَازَ عَلَيْهِ الْخَطَأُ.

وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّ الْمُلَازَمَةَ مَرْدُودَةٌ، فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ إِذَا فُرِضَ وُجُودُهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ مُسْتَنَدَهُمْ مَا جَاءَ عَنِ الرَّسُولِ، فَرَجَعَ الِاتِّبَاعُ إِلَى الرَّسُولِ لَا إِلَى نَفْسِ الْإِجْمَاعِ، وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ لِمَنْ أَثْبَتَ أَنَّهُ قَدْ يُحْكَمُ بِالشَّيْءِ فِي الظَّاهِرِ، وَيَكُونُ الْأَمْرُ فِي الْبَاطِنِ بِخِلَافِهِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ؛ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ مُحَالٌ عَقْلًا وَلَا نَقْلًا، وَأَجَابَ مَنْ مَنَعَهُ بِأَنَّ الْحَدِيثَ يَتَعَلَّقُ بِالْحُكُومَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي فَصْلِ الْخُصُومَاتِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْإِقْرَارِ أَوِ الْبَيِّنَةِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ وُقُوعِ ذَلِكَ فِيهَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يُقَرُّ عَلَى الْخَطَأِ، وَإِنَّمَا الْمُمْتَنِعَةُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ الْخَطَأُ أَنْ يُخْبِرَ عَنْ أَمْرٍ بِأَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ فِيهِ كَذَا، وَيَكُونُ ذَلِكَ نَاشِئًا عَنِ اجْتِهَادِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا حَقًّا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} الْآيَةَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ فَيَعُودُ الْإِشْكَالُ كَمَا كَانَ.

وَمِنْ حُجَجِ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ، فَيُحْكَمُ بِإِسْلَامِ مَنْ تَلَفَّظَ بِالشَّهَادَتَيْنِ - وَلَوْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ يَعْتَقِدُ خِلَافَ ذَلِكَ - وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُ اطِّلَاعُهُ بِالْوَحْيِ عَلَى كُلِّ حُكُومَةٍ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُشَرِّعًا، كَانَ يَحْكُمُ بِمَا شَرَعَ لِلْمُكَلَّفِينَ، وَيَعْتَمِدُهُ الْحُكَّامُ بَعْدَهُ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَيْ فِي الْحُكْمِ بِمِثْلِ مَا كُلِّفُوا بِهِ وَإِلَى هَذِهِ النُّكْتَةِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِإِيرَادِهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ ابْنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، حَيْثُ حَكَمَ صلى الله عليه وسلم بِالْوَلَدِ لِعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ وَأَلْحَقَهُ بِزَمْعَةَ، ثُمَّ لَمَّا رَأَى شبهَه بِعُتْبَةَ أَمَرَ سَوْدَةَ أَنْ

ص: 174

تَحْتَجِبَ مِنْهُ احْتِيَاطًا، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ فِي قِصَّةِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ لَمَّا وَضَعَتِ الَّتِي لُوعِنَتْ وَلَدًا يُشْبِهُ الَّذِي رُمِيَتْ بِهِ: لَوْلَا الْإيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ.

فَأَشَارَ الْبُخَارِيُّ إِلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم حَكَمَ فِي ابْنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ بِالظَّاهِرِ، وَلَوْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَيْسَ مِنْ زَمْعَةَ وَلَا يُسَمَّى ذَلِكَ خَطَأٌ فِي الِاجْتِهَادِ، وَلَا هُوَ مِنْ مَوَارِدِ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ، وَسَبَقَهُ إِلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ، فَإِنَّهُ لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى حَدِيثِ الْبَابِ قَالَ: وَفِيهِ أَنَّ الْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ يَقَعُ عَلَى مَا يُسْمَعُ مِنَ الْخَصْمَيْنِ بِمَا لَفَظُوا بِهِ، وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي قُلُوبِهِمْ غَيْرُ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا يُقْضَى عَلَى أَحَدٍ بِغَيْرِ مَا لَفَظَ بِهِ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ قَالَ: وَمِثْلُ هَذَا قَضَاؤُهُ لِعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ بِابْنِ الْوَلِيدَةِ، فَلَمَّا رَأَى الشَّبَهَ بَيِّنًا بِعُتْبَةَ قَالَ: احْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ. انْتَهَى. وَلَعَلَّ السِّرَّ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ} امْتِثَالُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} أَيْ فِي إِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَى الظَّاهِرِ الَّذِي يَسْتَوِي فِيهِ جَمِيعُ الْمُكَلَّفِينَ، فَأُمِرَ أَنْ يَحْكُمَ بِمِثْلِ مَا أُمِرُوا أَنْ يَحْكُمُوا بِهِ، لِيَتِمَّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ وَتَطِيبَ نُفُوسُ الْعِبَادِ لِلِانْقِيَادِ إِلَى الْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى الْبَاطِنِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ هُنَا مَقَامَيْنِ أَحَدُهُمَا طَرِيقُ الْحُكْمِ وَهُوَ الَّذِي كُلِّفَ الْمُجْتَهِدُ بِالتَّبَصُّرِ فِيهِ، وَبِهِ يَتَعَلَّقُ الْخَطَأُ وَالصَّوَابُ، وَفِيهِ الْبَحْثُ. وَالْآخَرُ مَا يُبْطِنُهُ الْخَصْمُ وَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ، وَمَنْ شَاءَ مِنْ رُسُلِهِ، فَلَمْ يَقَعِ التَّكْلِيفُ بِهِ.

قَالَ الطَّحَاوِيُّ: ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْحُكْمَ بِتَمْلِيكِ مَالٍ أَوْ إِزَالَةِ مِلْكٍ أَوْ إِثْبَاتِ نِكَاحٍ أَوْ فُرْقَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، إِنْ كَانَ فِي الْبَاطِنِ كَمَا هُوَ فِي الظَّاهِرِ نَفَذَ عَلَى مَا حَكَمَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْبَاطِنِ عَلَى خِلَافِ مَا اسْتَنَدَ إِلَيْهِ الْحَاكِمُ مِنَ الشَّهَادَةِ أَوْ غَيْرِهَا لَمْ يَكُنِ الْحُكْمُ مُوجِبًا لِلتَّمْلِيكِ وَلَا الْإِزَالَةِ وَلَا النِّكَاحِ وَلَا الطَّلَاقِ وَلَا غَيْرِهَا، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَمَعَهُمْ أَبُو يُوسُفَ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ الْحُكْمَ إِنْ كَانَ فِي مَالٍ، وَكَانَ الْأَمْرُ فِي الْبَاطِنِ بِخِلَافِ مَا اسْتَنَدَ إِلَيْهِ الْحَاكِمُ مِنَ الظَّاهِرِ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُوجِبًا لِحِلِّهِ لِلْمَحْكُومِ لَهُ، وَإِنْ كَانَ فِي نِكَاحٍ أَوْ طَلَاقٍ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَحَمَلُوا حَدِيثَ الْبَابِ عَلَى مَا وَرَدَ فِيهِ وَهُوَ الْمَالُ، وَاحْتَجُّوا لِمَا عَدَاهُ بِقِصَّةِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ، فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم فَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ قَدْ صَدَقَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ، قَالَ: فَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنَّ كُلَّ قَضَاءٍ لَيْسَ فِيهِ تَمْلِيكُ مَالٍ أَنَّهُ عَلَى الظَّاهِرِ وَلَوْ كَانَ الْبَاطِنُ بِخِلَافِهِ وَأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ يُحْدِثُ فِي ذَلِكَ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْفُرْقَةَ فِي اللِّعَانِ إِنَّمَا وَقَعَتْ عُقُوبَةً لِلْعِلْمِ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا كَاذِبٌ، وَهُوَ أَصْلٌ بِرَأْسِهِ فَلَا يُقَاس عَلَيْهِ، وَأَجَابَ غَيْرُهُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِسَمَاعِ كَلَامِ الْخَصْمِ، حَيْثُ لَا بَيِّنَةَ هُنَاكَ وَلَا يَمِينَ، وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِيهِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الْحُكْمِ الْمُرَتَّبِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَبِأَنَّ مَنْ فِي

قَوْلِهِ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ شَرْطِيَّةٌ - وَهِيَ لَا تَسْتَلْزِمُ الْوُقُوعَ - فَيَكُونُ مِنْ فَرْضِ مَا لَمْ يَقَعْ وَهُوَ جَائِزٌ فِيمَا تَعَلَّقَ بِهِ غَرَضٌ، وَهُوَ هُنَا مُحْتَمِلٌ لِأَنْ يَكُونَ لِلتَّهْدِيدِ وَالزَّجْرِ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِاللَّسَنِ وَالْإِبْلَاغِ فِي الْخُصُومَةِ، وَهُوَ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَسْتَلْزِمَ عَدَمَ نُفُوذِ الْحُكْمِ بَاطِنًا فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ، لَكِنَّهُ لَمْ يُسَقْ لِذَلِكَ فَلَا يَكُونُ فِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ مَنَعَ، وَبِأَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِهِ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم يُقِرُّ عَلَى الْخَطَأِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مَا قَضَى بِهِ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ إِلَّا إِذَا اسْتَمَرَّ الْخَطَأُ، وَإِلَّا فَمَتَى فُرِضَ أَنَّهُ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُبْطِلَ ذَلِكَ الْحُكْمَ وَيَرُدَّ الْحَقَّ لِمُسْتَحِقِّهِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يُخَالِفُ ذَلِكَ، فَإِمَّا أَنْ يَسْقُطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ وَيُؤَوَّلَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَإِمَّا أَنْ يَسْتَلْزِمَ اسْتِمْرَارَ التَّقْرِيرِ عَلَى الْخَطَأِ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَكَذَا الثَّانِي، وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّالِثِ: أَنَّ الْخَطَأَ الَّذِي لَا يُقَرُّ عَلَيْهِ هُوَ الْحُكْمُ الَّذِي صَدَرَ عَنِ اجْتِهَادِهِ فِيمَا لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ فِيهِ، وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِيهِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الْحُكْمِ الصَّادِرِ مِنْهُ بِنَاءً عَلَى شَهَادَةِ زُورٍ أَوْ يَمِينٍ فَاجِرَةٍ، فَلَا يُسَمَّى خَطَأً لِلِاتِّفَاقِ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ

ص: 175

بِالشَّهَادَةِ وَبِالْإِيمَانِ، وَإِلَّا لَكَانَ الْكَثِيرُ مِنَ الْأَحْكَامِ يُسَمَّى خَطَأً وَلَيْسَ كَذَلِكَ، كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي حَدِيثِ: أُمِرْتْ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحَدِيثِ: إِنِّي لَمْ أُومَرْ بِالتَّنْقِيبِ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ.

وَعَلَى هَذَا فَالْحُجَّةُ مِنَ الْحَدِيثِ ظَاهِرَةٌ فِي شُمُولِ الْخَبَرِ: الْأَمْوَالَ وَالْعُقُودَ وَالْفُسُوخَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّهُ لَا فَرْقَ فِي دَعْوَى حِلِّ الزَّوْجَةِ لِمَنْ أَقَامَ بِتَزْوِيجِهَا بِشَاهِدَيْ زُورٍ وَهُوَ يَعْلَمُ بِكَذِبِهِمَا، وَبَيْنَ مَنِ ادَّعَى عَلَى حُرٍّ أَنَّهُ فِي مِلْكِهِ وَأَقَامَ بِذَلِكَ شَاهِدَيْ زُورٍ، وَهُوَ يَعْلَمُ حُرِّيَّتَهُ، فَإِذَا حَكَمَ لَهُ الْحَاكِمُ بِأَنَّهُ مِلْكُهُ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَسْتَرِقَّهُ بِالْإِجْمَاعِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْقَوْلُ بِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ يَحِلُّ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا مُخَالِفٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَلِلْإِجْمَاعِ السَّابِقِ عَلَى قَائِلَةٍ، وَلِقَاعِدَةٍ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَيْهَا، وَوَافَقَهُمُ الْقَائِلُ الْمَذْكُورُ، وَهُوَ أَنَّ الْأَبْضَاعَ أَوْلَى بِالِاحْتِيَاطِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنْ كَانَ حَاكِمًا نَفَذَ عَلَى الْمَحْكُومِ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مُفْتِيًا لَمْ يَحِلَّ، فَإِنْ كَانَ الْمُفْتَى لَهُ مُجْتَهِدًا يَرَى بِخِلَافِ مَا أَفْتَاهُ بِهِ لَمْ يَجُزْ، وَإِلَّا جَازَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ: وَيُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَتَوَخَّيَا الْحَقَّ جَوَازُ الْإِبْرَاءِ مِنَ الْمَجْهُولِ؛ لِأَنَّ التَّوَخِّيَ لَا يَكُونُ فِي الْمَعْلُومِ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: شَنَّعُوا عَلَى مَنْ قَالَ ذَلِكَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا لِمُخَالَفَةِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَلِأَنَّ فِيهِ صِيَانَةَ الْمَالِ وَابْتِذَالَ الْفُرُوجِ، وَهِيَ أَحَقُّ أَنْ يُحْتَاطَ لَهَا وَتُصَانَ وَاحْتَجَّ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِمَا جَاءَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ رَجُلًا خَطَبَ امْرَأَةً فَأَبَتْ، فَادَّعَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ، فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ أنَّهُمَا شَهِدَا بِالزُّورِ، فَزَوِّجْنِي أَنْتَ مِنْهُ فَقَدْ رَضِيتُ، فَقَالَ: شَهِدَاكِ زَوَّجَاكِ، وَأَمْضَى عَلَيْهَا النِّكَاحَ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ عَلِيٍّ، وَاحْتَجَّ الْمَذْكُورُ مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ بِأَنَّ الْحَاكِمَ قَضَى بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ فِيمَا لَهُ وِلَايَةُ الْإِنْشَاءِ فِيهِ، فَجَعَلَ الْإِنْشَاءَ تَحَرُّزًا عَنِ الْحَرَامِ، وَالْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي الْمَالِ، وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِيهِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَمْلِكُ دَفْعَ مَالِ زَيْدٍ إِلَى عَمْرٍو، وَيَمْلِكُ إِنْشَاءَ الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ، فَإِنَّهُ يَمْلِكُ بَيْعَ أَمَةِ زَيْدٍ مَثَلًا مِنْ عَمْرٍو حَالَ خَوْفِ الْهَلَاكِ لِلْحِفْظِ وَحَالَ الْغَيْبَةِ، وَيَمْلِكُ إِنْشَاءَ النِّكَاحِ عَلَى الصَّغِيرَةِ، وَالْفُرْقَةِ عَلَى الْعَيْنَيْنِ، فَيَجْعَلُ الْحُكْمَ إِنْشَاءً احْتِرَازًا عَنِ الحرام، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْفُذْ بَاطِنًا فَلَوْ حَكَمَ بِالطَّلَاقِ لَبَقِيَتْ حَلَالًا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ بَاطِنًا وَلِلثَّانِي ظَاهِرًا، فَلَوِ ابْتُلِيَ الثَّانِي مِثْلُ مَا ابْتُلِيَ الْأَوَّلُ حَلَّتْ لِلثَّالِثِ، وَهَكَذَا فَتَحِلُّ لِجَمْعٍ مُتَعَدِّدٍ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ، وَلَا يَخْفَى فُحْشة، بِخِلَافِ مَا إِذَا قُلْنَا بِنَفَاذِهِ بَاطِنًا فَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ إِلَّا لِوَاحِدٍ، انْتَهَى.

وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْجُمْهُورَ إِنَّمَا قَالُوا فِي هَذَا: تَحْرُمُ عَلَى الثَّانِي مَثَلًا إِذَا عَلِمَ أَنَّ الْحُكْمَ تَرَتَّبَ عَلَى شَهَادَةِ الزُّورِ، فَإِذَا اعْتَمَدَ الْحُكْمَ وَتَعَمَّدَ الدُّخُولَ بِهَا فَقَدِ ارْتَكَبَ مُحَرَّمًا، كَمَا لَوْ كَانَ الْحُكْمُ بِالْمَالِ فَأَكَلَهُ، وَلَوِ ابْتُلِيَ الثَّانِي كَانَ حُكْمُ الثَّالِثِ كَذَلِكَ، وَالْفُحْشُ إِنَّمَا لَزِمَ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى تَعَاطِي الْمُحَرَّمِ، فَكَانَ كَمَا لَوْ زَنَوْا ظَاهِرًا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ.

وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: شَرْطُ صِحَّةِ الْحُكْمِ وُجُودُ الْحُجَّةِ وَإِصَابَةُ الْمَحَلِّ، وَإِذَا كَانَتِ الْبَيِّنَةُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ شُهُودَ زُورٍ لَمْ تَحْصُلِ الْحُجَّةُ؛ لِأَنَّ حُجَّةَ الْحُكْمِ هِيَ الْبَيِّنَةُ الْعَادِلَةُ، فَإِنَّ حَقِيقَةَ الشَّهَادَةِ إِظْهَارُ الْحَقِّ، وَحَقِيقَةَ الْحُكْمِ إِنْفَاذُ ذَلِكَ، وإذا كَانَ الشُّهُودُ كَذَبَةً لَمْ تَكُنْ شَهَادَتُهُمْ حَقًّا، قَالَ: فَإِنِ احْتَجُّوا بِأَنَّ الْقَاضِيَ حَكَمَ بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ أَمَرَ اللَّهُ بِهَا، وَهِيَ الْبَيِّنَةُ الْعَادِلَةُ فِي عِلْمِهِ، وَلَمْ يُكَلَّفْ بِالِاطِّلَاعِ عَلَى صِدْقِهِمْ فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ، فَإِذَا حَكَمَ بِشَهَادَتِهِمْ فَقَدِ امْتَثَلَ مَا أُمِرَ بِهِ، فَلَوْ قُلْنَا: لَا يَنْفُذُ فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ لَلَزِمَ إِبْطَالُ مَا وَجَبَ بِالشَّرْعِ؛ لِأَنَّ صِيَانَةَ الْحُكْمِ عَنِ الْإِبْطَالِ مَطْلُوبَةٌ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقَاضِي فِي مَسْأَلَةٍ اجْتِهَادِيَّةٍ عَلَى مُجْتَهِدٍ لَا يَعْتَقِدُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ قَبُولُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ لَا يَعْتَقِدُهُ صِيَانَةً لِلْحُكْمِ. وَأَجَابَ ابْنُ السَّمْعَانِيُّ بِأَنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ لِلنُّفُوذِ، وَلِهَذَا لَا يَأْثَمُ الْقَاضِي، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ نُفُوذُ الْقَضَاءِ حَقِيقَةً فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ صِيَانَةُ الْقَضَاءِ عَنِ الْإِبْطَالِ إِذَا

ص: 176

صَادَفَ حُجَّةً صَحِيحَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ: لَوْ كَانَ الْمَحْكُومُ لَهُ يَعْتَقِدُ خِلَافَ مَا حَكَمَ لَهُ بِهِ الْحَاكِمُ، هَلْ يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ مَا حَكَمَ لَهُ بِهِ أَوْ لَا؟ كَمَنْ مَاتَ ابْنُ ابْنِهِ وَتَرَكَ أَخًا شَقِيقًا فَرَفَعَهُ لِقَاضٍ يَرَى فِي الْجَدِّ رأْيَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَحَكَمَ لَهُ بِجَمِيعِ الْإِرْثِ دُونَ الشَّقِيقِ، وَكَانَ الْجَدُّ الْمَذْكُورُ يَرَى رَأْيَ الْجُمْهُورِ، نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْأَكْثَرِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْجَدِّ أَنْ يُشَارِكَ الْأَخَ الشَّقِيقَ عَمَلًا بِمُعْتَقَدِهِ وَالْخِلَافُ فِي الْمَسْأَلَةِ مَشْهُورٌ، وَاسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ لِمَنْ قَالَ: إِنَّ الْحَاكِمَ لَا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ بِدَلِيلِ الْحَصْرِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا أَقْضِي لَهُ بِمَا أَسْمَعُ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ قَبْلُ، وَفِيهِ: إِنَّ التَّعَمُّقَ فِي الْبَلَاغَةِ بِحَيْثُ يَحْصُلُ اقْتِدَارُ صَاحِبِهَا عَلَى تَزْيِينِ الْبَاطِلِ فِي صُورَةِ الْحَقِّ وَعَكْسُهُ مَذْمُومٌ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ أَبْلَغُ أَيْ أَكْثَرُ بَلَاغَةً وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي التَّوَصُّلِ إِلَى الْحَقِّ لَمْ يُذَمَّ، وَإِنَّمَا يُذَمُّ مِنْ ذَلِكَ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الْبَاطِلِ فِي صُورَةِ الْحَقِّ، فَالْبَلَاغَةُ إِذَنْ لَا تُذَمُّ لِذَاتِهَا وَإِنَّمَا تُذَمُّ بِحَسَبِ التَّعَلُّقِ الَّذِي يُمْدَحُ بِسَبَبِهِ، وَهِيَ فِي حَدِّ ذَاتِهَا مَمْدُوحَةٌ، وَهَذَا كَمَا يُذَمُّ صَاحِبُهَا إِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ بِسَبَبِهَا الْإِعْجَابُ، وَتَحْقِيرُ غَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يَصِلْ إِلَى دَرَجَتِهِ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ الْغَيْرُ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ فَإِنَّ الْبَلَاغَةَ إِنَّمَا تُذَمُّ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ بِحَسَبِ مَا يَنْشَأُ عَنْهَا مِنَ الْأُمُورِ الْخَارِجِيَّةِ عَنْهَا، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْبَلَاغَةِ وَغَيْرِهَا، بَلْ كُلُّ فِتْنَةٍ تُوَصِّلُ إِلَى الْمَطْلُوبِ مَحْمُودَةٌ فِي حَدِّ ذَاتِهَا، وَقَدْ تُذَمُّ أَوْ تُمْدَحُ بِحَسَبِ مُتَعَلَّقِهَا،

وَاخْتُلِفَ فِي تَعْرِيفِ الْبَلَاغَةِ فَقِيلَ: أَنْ يُبَلِّغَ بِعِبَارَةِ لِسَانِهِ كُنْهَ مَا فِي قَلْبِهِ، وَقِيلَ: إِيصَالُ الْمَعْنَى إِلَى الْغَيْرِ بِأَحْسَنِ لَفْظٍ، وَقِيلَ: الْإِيجَازُ مَعَ الْإِفْهَامِ وَالتَّصَرُّفُ مِنْ غَيْرِ إِضْمَارٍ، وَقِيلَ: قَلِيلٌ لَا يُبْهَمُ وَكَثِيرٌ لَا يُسْأَمُ، وَقِيلَ: إِجْمَالُ اللَّفْظِ وَاتِّسَاعُ الْمَعْنَى، وَقِيلَ: تَقْلِيلُ اللَّفْظِ وَتَكْثِيرُ الْمَعْنَى، وَقِيلَ: حُسْنُ الْإِيجَازِ مَعَ إِصَابَةِ الْمَعْنَى، وَقِيلَ: سُهُولَةُ اللَّفْظِ مَعَ الْبَدِيهَةِ، وَقِيلَ: لَمْحَةٌ دَالَّةٌ أَوْ كَلِمَةٌ تَكْشِفُ عَنِ الْبُغْيَةِ، وَقِيلَ: الْإِيجَازُ مِنْ غَيْرِ عَجْزٍ وَالْإِطْنَابُ مِنْ غَيْرِ خَطَأٍ، وَقِيلَ: النُّطْقُ فِي مَوْضِعِهِ وَالسُّكُوتُ فِي مَوْضِعِهِ، وَقِيلَ مَعْرِفَةُ الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ، وَقِيلَ: الْكَلَامُ الدَّالُّ أَوَّلُهُ عَلَى آخِرِهِ وَعَكْسُهُ. وَهَذَا كُلُّهُ عَنِ الْمُتَقَدِّمِينَ. وَعَرَّفَ أَهْلُ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ الْبَلَاغَةَ بِأَنَّهَا مُطَابَقَةُ الْكَلَامِ لِمُقْتَضَى الْحَالِ وَالْفَصَاحَةِ وَهِيَ خُلُوُّهُ عَنِ التَّعْقِيدِ، وَقَالُوا: الْمُرَادُ بِالْمُطَابَقَةِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُتَكَلِّمُ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ الْمَقَامَاتِ، كَالتَّأْكِيدِ وَحَذْفِهِ، وَالْحَذْفِ وَعَدَمِهِ، أَوِ الْإِيجَازِ وَالْإِسْهَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَفِيهِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ حَكَمَ بِمَا يَقَعُ فِي خَاطِرِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِنَادٍ إِلَى أَمْرٍ خَارِجِيٍّ مِنْ بَيِّنَةٍ وَنَحْوِهَا، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الشَّاهِدَ الْمُتَّصِلَ بِهِ أَقْوَى مِنَ الْمُنْفَصِلِ عَنْهُ، وَوَجْهُ الرَّدِّ عَلَيْهِ كَوْنُهُ صلى الله عليه وسلم أَعْلَى فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ مُطْلَقًا، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ دَلَّ حَدِيثُهُ هَذَا عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ، فَلَوْ كَانَ الْمُدَّعَى صَحِيحًا لَكَانَ الرَّسُولُ أَحَقَّ بِذَلِكَ، فإِنَّهُ أَعْلَمَ إنَّهُ تَجْرِي الْأَحْكَامُ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَلَوْ كَانَ يُمْكِنُ أَنَّ اللَّهَ يُطْلِعُهُ عَلَى غَيْبِ كُلِّ قَضِيَّةٍ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ تَشْرِيعَ الْأَحْكَامِ وَاقِعٌ عَلَى يَدِهِ، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ تَعْلِيمَ غَيْرِهِ مِنَ الْحُكَّامِ أَنْ يَعْتَمِدُوا ذَلِكَ. نَعَمْ: لَوْ شَهِدَتِ الْبَيِّنَةُ مَثَلًا بِخِلَافِ مَا يَعْلَمُهُ عِلْمًا حِسِّيًّا بِمُشَاهَدَةٍ أَوْ سَمَاعٍ، يَقِينِيًّا أَوْ ظَنِّيًّا رَاجِحًا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ، وَنَقَلَ بَعْضُهُمُ الِاتِّفَاقَ وَإِنْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الْقَضَاءِ بِالْعِلْمِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ تَكُونُ عِنْدَ الْحَاكِمِ فِي وِلَايَتِهِ الْقَضَاءَ، وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا: مَوْعِظَةُ الْإِمَامِ الْخُصُومَ لِيَعْتَمِدُوا الْحَقَّ وَالْعَمَلُ بِالنَّظَرِ الرَّاجِحِ وَبِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ وَهُوَ أَمْرٌ إِجْمَاعِيٌّ لِلْحَاكِمِ وَالْمُفْتِي، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

‌30 - بَاب الْحُكْمِ فِي الْبِئْرِ وَنَحْوِهَا

7183 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، وَالْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي

ص: 177

وَائِلٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا يَحْلِفُ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بها مَالًا وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ إِلَّا لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} الْآيَةَ.

7184 -

فَجَاءَ الْأَشْعَثُ، وَعَبْدُ اللَّهِ يُحَدِّثُهُمْ فَقَالَ: فِيَّ نَزَلَتْ، وَفِي رَجُلٍ خَاصَمْتُهُ فِي بِئْرٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَلْيَحْلِفْ. قُلْتُ: إِذًا يَحْلِفُ، فَنَزَلَتْ:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} الْآيَةَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْحُكْمِ فِي الْبِئْرِ وَنَحْوِهَا) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ - وَهُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ - فِي نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} وَفِيهِ قَوْلُ الْأَشْعَثِ: فِيَّ نَزَلَتْ، وَفِي رَجُلٍ خَاصَمْتُهُ فِي بِئْرٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ فِي أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ فِي الظَّاهِرِ لَا يُحِلُّ الْحَرَامَ وَلَا يُبِيحُ الْمَحْظُورَ، لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم حَذَّرَ أُمَّتَهُ عُقُوبَةَ مَنِ اقْتَطَعَ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِيَمِينٍ فَاجِرَةٍ، وَالْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ مِنْ أَشَدِّ وَعِيدٍ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ، فَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ تَحَيَّلَ عَلَى أَخِيهِ وَتَوَصَّلَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ حَقِّهِ بِالْبَاطِلِ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ لِشِدَّةِ الْإِثْمِ فِيهِ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَجْهُ دُخُولِ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ فِي الْقِصَّةِ مَعَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْبِئْرِ وَالدَّارِ وَالْعَبْدِ حَتَّى تَرْجَمَ عَلَى الْبِئْرِ وَحْدَهَا، أَنَّهُ أَرَادَ الرَّدَّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَاءَ لَا يُمْلَكُ، فَحَقَّقَ بِالتَّرْجَمَةِ أَنَّهُ يُمْلَكُ لِوُقُوعِ الْحُكْمِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ فِيهَا، انْتَهَى. وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ فِي التَّرْجَمَةِ عَلَى الْبِئْرِ بَلْ قَالَ وَنَحْوِهَا، وَالثَّانِي: لَوِ اقْتَصَرَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ مَنَعَ بَيْعَ الْمَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الْبِئْرِ وَلَا يَدْخُلُ الْمَاءُ، وَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ تَصْرِيحٌ بِالْمَاءِ فَكَيْفَ يَصِحُّ الرَّدُّ.

‌31 - بَاب الْقَضَاء فِي كثير الْمَالِ وقليله

وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ ابْنِ شُبْرُمَةَ: الْقَضَاءُ فِي قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ سَوَاءٌ

7185 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ، عَنْ أُمِّهَا أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَلَبَةَ خِصَامٍ عِنْدَ بَابِهِ، فَخَرَجَ إلَيْهِمْ، فَقَالَ لهم: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّهُ يَأْتِينِي الْخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضًا أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ أَقْضِي لَهُ بِذَلِكَ وَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَادِقٌ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنْ النَّارِ فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ لِيَدَعْهَا.

قَوْلُهُ (بَابٌ) بِالتَّنْوِينِ (الْقَضَاءُ فِي قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ سَوَاءٌ) قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: كَأَنَّهُ خَشِيَ غَائِلَةَ لتخْصِيصِ فِي التَّرْجَمَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ فَتَرْجَمَ بِأَنَّ الْقَضَاءَ عَامٌّ فِي كُلِّ شَيْءٍ: قَلَّ أَوْ جَلَّ ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ الْمَذْكُورَ قَبْلَ ببَابٍ، لِقَوْلِهِ فِيهِ: فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ وَهُوَ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَنِيبَ بَعْضَ مَنْ يُرِيدُ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ دُونَ بَعْضٍ، بِحَسَبِ قُوَّةِ مَعْرِفَتِهِ وَنَفَاذِ كَلِمَتِهِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، أَوْ عَلَى مَنْ قَالَ: لَا يَجِبُ الْيَمِينُ إِلَّا فِي قَدْرٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْمَالِ، وَلَا تَجِبُ فِي الشَّيْءِ

ص: 178

التَّافِهِ أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ مِنَ الْقُضَاةِ لَا يَتَعَاطَى الْحُكْمَ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ، بَلْ إِذَا رُفِعَ إِلَيْهِ رَدَّهُ إِلَى نَائِبِهِ مَثَلًا قَالَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ، قَالَ: وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْكِبْرِ، وَالْأَوَّلُ أَلْيَقُ بِمُرَادِ الْبُخَارِيِّ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ) هُوَ سُفْيَانُ الْهِلَالِيُّ (عَنِ ابْنِ شُبْرُمَةَ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ الضَّبِّيُّ (الْقَضَاءُ فِي قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ سَوَاءٌ) وَلَمْ يَقَعْ لِي هَذَا الْأَثَرُ مَوْصُولًا.

‌32 - بَاب بَيْعِ الْإِمَامِ عَلَى النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَضِيَاعَهُمْ

وَقَدْ بَاعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُدَبَّرًا مِنْ نُعَيْمِ بْنِ النَّحَّامِ

7186 -

حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ أَعْتَقَ غُلَامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرَهُ، فَبَاعَهُ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ أَرْسَلَ بِثَمَنِهِ إِلَيْهِ.

قَوْلُهُ (بَابُ بَيْعِ الْإِمَامِ عَلَى النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَضِيَاعَهُمْ) قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: أَضَافَ الْبَيْعَ إِلَى الْإِمَامِ لِيُشِيرَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ فِي مَالِ السَّفِيهِ أَوْ فِي وَفَاءِ دَيْنِ الْغَائِبِ أَوْ مَنْ يَمْتَنِعُ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ لِيَتَحَقَّقَ أَنَّ لِلْإِمَامِ التَّصَرُّفَ فِي عُقُودِ الْأَمْوَالِ فِي الْجُمْلَةِ.

قَوْلُهُ: (وَقَدْ بَاعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُدَبَّرًا مِنْ نُعَيْمِ بْنِ النَّحَّامِ) قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: ذَكَرَ فِي التَّرْجَمَةِ الضِّيَاعَ وَلَمْ يَذْكُرْ إِلَّا بَيْعَ الْعَبْدِ، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى قِيَاسِ الْعَقَارِ عَلَى الْحَيَوَانِ ثُمَّ أَسْنَدَ حَدِيثَ جَابِرٍ قَالَ: بَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ أَعْتَقَ غُلَامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَبَاعَهُ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ ثُمَّ أَرْسَلَ بِثَمَنِهِ إِلَيْهِ. وَقَدْ مَضَى شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْعِتْقِ وَوَقَعَ هُنَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ عَنْ دَيْنٍ بِفَتْحِ الدَّالِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا نُونٌ، بَدَلَ قَوْلِهِ عَنْ دُبُرٍ بِضَمِّ الدَّالِ وَالْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا رَاءٌ، وَالثَّانِي هُوَ الْمَعْرُوفُ وَالْمَشْهُورُ فِي الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا وَالْأَوَّلُ تَصْحِيفٌ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: إِنَّمَا يَبِيعُ الْإِمَامُ عَلَى النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ إِذَا رَأَى مِنْهُمْ سَفَهًا فِي أَمْوَالِهِمْ، وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ بِسَفِيهٍ فَلَا يُبَاعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ مَالِهِ إِلَّا فِي حَقٍّ يَكُونُ عَلَيْهِ، يَعْنِي إِذَا امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الْحَقِّ وَهُوَ كَمَا قَالَ: لَكِنَّ قِصَّةَ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ تَرُدُّ عَلَى هَذَا الْحَصْرِ، وَقَدْ أَجَابَ عَنْهَا بِأَنَّ صَاحِبَ الْمُدَبَّرِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَلَمَّا رَآهُ أَنْفَقَ جَمِيعَ مَالِهِ، وَأَنَّهُ تَعَرَّضَ بِذَلِكَ لِلتَّهْلُكَةِ نَقَضَ عَلَيْهِ فِعْلَهُ وَلَوْ كَانَ لَمْ يُنْفِقْ جَمِيعَ مَالِهِ لَمْ يَنْقُضْ فِعْلَهُ كَمَا قَالَ لِلَّذِي كَانَ يُخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ: قُلْ لَا خِلَابَةَ لِأَنَّهُ لَمْ يُفَوِّتْ عَلَى نَفْسِهِ جَمِيعَ مَالِهِ انْتَهَى. فَكَأَنَّهُ كَانَ فِي حُكْمِ السَّفِيهِ فَلِذَلِكَ بَاعَ عَلَيْهِ مَالَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌33 - بَاب مَنْ لَمْ يَكْتَرِثْ بِطَعْنِ مَنْ لَا يَعْلَمُ فِي الْأُمَرَاءِ حَدِيثًا

7187 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْثًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَطُعِنَ فِي إِمَارَتِهِ، فقَالَ: إِنْ تَطْعَنُوا فِي إِمَارَتِهِ، فَقَدْ كُنْتُمْ تَطْعَنُونَ فِي إِمَارَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلِهِ، وَأيْمُ اللَّهِ، إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلْإِمْرَةِ، وَإِنْ كَانَ لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ بَعْدَهُ.

قَوْلُهُ (بَابُ مَنْ لَمْ يَكْتَرِثْ بِطَعْنِ مَنْ لَا يَعْلَمُ فِي الْأُمَرَاءِ حَدِيثًا) أَيْ لَمْ يَلْتَفِتْ وَزْنُهُ وَمَعْنَاهُ وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنَ

ص: 179

الْكِرْثِ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ وَآخِرُهُ مُثَلَّثَةٌ، وَهُوَ الْمَشَقَّةُ وَيُسْتَعْمَلُ نَفْيُهُ فِي مَوْضِعِ عَدَمِ الْمُبَالَاةِ. قَالَ الْمُهَلَّبُ: مَعْنَى هَذِهِ التَّرْجَمَةِ، أَنَّ الطَّاعِنَ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ حَالَ الْمَطْعُونِ عَلَيْهِ فَرَمَاهُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ: لَا يُعْبَأُ بِذَلِكَ الطَّعْنِ وَلَا يُعْمَلُ بِهِ وَقَيَّدَهُ فِي التَّرْجَمَةِ بِمَنْ لَا يَعْلَمُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ مَنْ طَعَنَ بِعِلْمٍ أَنَّهُ يُعْمَلُ بِهِ فَلَوْ طَعَنَ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ كَانَ ذَلِكَ رَاجِعًا إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ. وَعَلَى هَذَا يَتَنَزَّلُ فِعْلُ عُمَرَ مَعَ سَعْدٍ حَتَّى عَزَلَهُ، مَعَ بَرَاءَتِهِ مِمَّا رَمَاهُ بِهِ أَهْلُ الْكُوفَةِ، وَأَجَابَ الْمُهَلَّبُ بِأَنَّ عُمَرَ لَمْ يَعْلَمْ مِنْ مَغِيبِ سَعْدٍ مَا عَلِمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ زَيْدٍ، وَأُسَامَةَ يَعْنِي فَكَانَ سَبَبَ عَزْلِهِ قِيَامُ الِاحْتِمَالِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ رَأْيُ عُمَرَ احْتِمَالَ أَخَفِّ الْمَفْسَدَتَيْنِ. فَرَأَى أَنَّ عَزْلَ سَعْدٍ أَسْهَلُ مِنْ فِتْنَةٍ يُثِيرُهَا مَنْ قَامَ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْبَلَدِ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ فِي وَصِيَّتِهِ: لَمْ أَعْزِلْهُ لِضَعْفٍ وَلَا لِخِيَانَةٍ وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: قَطَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِسَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ فِي إِمْرَةِ أُسَامَةَ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ لِطَعْنِ مَنْ طَعَنَ وَأَمَّا عُمَرُ فَسَلَكَ سَبِيلَ الِاحْتِيَاطِ لِعَدَمِ قَطْعِهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي بَعْثِ أُسَامَةَ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي أَوَاخِرِ الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي.

قَوْلُهُ: (فَطُعِنَ فِي إِمَارَتِهِ) بِضَمِّ الطَّاءِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَقَوْلُهُ: إِنْ تَطْعَنُوا فِي إِمَارَتِهِ فَقَدْ كُنْتُمْ تَطْعَنُونَ فِي إِمَارَةِ أَبِيهِ أَيْ إِنْ طَعَنْتُمْ فِيهِ فَأُخْبِرُكُمْ بِأَنَّكُمْ طَعَنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فِي أَبِيهِ، وَالتَّقْدِيرُ إِنْ تَطْعَنُوا فِي إِمَارَتِهِ فَقَدْ أَثِمْتُمْ بِذَلِكَ لِأَنَّ طَعْنَكُمْ بِذَلِكَ لَيْسَ حَقًّا كَمَا كُنْتُمْ تَطْعَنُونَ فِي إِمَارَةِ أَبِيهِ، وَظَهَرَتْ كِفَايَتُهُ وَصَلَاحِيَتُهُ لِلْإِمَارَةِ، وَأَنَّهُ كَانَ مُسْتَحِقًّا لَهَا فَلَمْ يَكُنْ لِطَعْنِكُمْ مُسْتَنَدٌ، فَلِذَلِكَ لَا اعْتِبَارَ بِطَعْنِكُمْ فِي إِمَارَةِ وَلَدِهِ، وَلَا الْتِفَاتَ إِلَيْهِ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّمَا طَعَنُوا فِيهِ لِكَوْنِهِ مَوْلًى. وَقِيلَ: إِنَّمَا كَانَ الطَّاعِنُ فِيهِ مَنْ يُنْسَبُ إِلَى النِّفَاقِ. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ سُمِّيَ مِمَّنْ طَعَنَ فِيهِ عَيَّاشَ بِتَحْتَانِيَّةٍ وَشِينٍ مُعْجَمَةٍ ابْنَ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيَّ، وَكَانَ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ لَكِنَّهُ كَانَ مِنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ، فَعَلَى هَذَا فَالْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: إِنْ تَطْعَنُوا لِعُمُومِ الطَّاعِنِينَ سَوَاءٌ اتَّحَدَ الطَّاعِنُ فِيهِمَا أَمِ اخْتَلَفَ، وَقَوْلُهُ: إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا أَيْ مُسْتَحِقًّا، وَقَوْلُهُ لِلْإِمْرَةِ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ لِلْإِمَارَةِ وَهُمَا بِمَعْنًى.

‌34 - بَاب الْأَلَدِّ الْخَصِمِ، وَهُوَ الدَّائِمُ فِي الْخُصُومَةِ. لُدًّا: عُوجًا. ألد: أعوج.

7188 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ يُحَدِّثُ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَبْغَضُ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْأَلَدِّ الْخَصِمِ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْمُرَادِ بِهِ فِي كِتَابِ الْمَظَالِمِ وَفِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَقَوْلُهُ وَهُوَ الدَّائِمُ فِي الْخُصُومَةِ مِنْ تَفْسِيرِ الْمُصَنِّفِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الشَّدِيدُ الْخُصُومَةِ فَإِنَّ الْخَصِمَ مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ فَيَحْتَمِلُ الشِّدَّةَ وَيَحْتَمِلُ الْكَثْرَةَ، وَقَوْلُهُ: لُدًّا عُوجًا، وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَلَدُّ أَعْوَجُ وَهُوَ يَرُدُّ عَلَى ابْنِ الْمُنِيرِ حَيْثُ صَحَّفَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ فَقَالَ: قَوْلُهُ إِدًّا عُوجًا، لَا أَعْلَمُ لِهَذَا فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ وَجْهًا إِلَّا إِنْ كَانَ أَرَادَ أَنَّ الْأَلَدَّ مُشْتَقٌّ مِنَ اللَّدَدِ، وَهُوَ الِاعْوِجَاجُ وَالِانْحِرَافُ عَنِ الْحَقِّ، وَأَصْلُهُ مِنَ اللَّدِيدِ وَهُوَ جَانِبُ الْوَادِي وَيُطْلَقُ عَلَى جَانِبِ الْفَمِ، وَمِنْهُ اللَّدُودُ وَهُوَ صَبُّ الدَّوَاءِ مُنْحَرِفًا عَنْ وَسَطِ الْفَمِ إِلَى جَانِبِهِ، فَأَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الْعِوَجَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَعَانِي كَمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَعْيَانِ، فَمِنَ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْمَعَانِي اللَّدُودُ وَالْإِدُّ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} أَيْ شَيْئًا مُنْحَرِفًا عَنِ الصَّوَابِ وَمُعْوَجًّا عَنْ سِمَةِ الِاعْتِدَالِ. قُلْتُ: وَلَمْ أَرَهَا فِي شَيْءٍ مِنْ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ هُنَا إِلَّا بِاللَّامِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ مَرْيَمَ نَقَلَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِدًّا

ص: 180

عَظِيمًا وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: لُدًّا عُوجًا وَذَكَرْتُ هُنَاكَ مَنْ وَصَلَهُمَا، وَوَجَدْتُ فِي تَفْسِيرِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَوْمًا لُدًّا.

قَالَ: جَدِلًا بِالْبَاطِلِ، وَمِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: الْجَدِلُ: الْخَصِمُ وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَا يَسْتَقِيمُونَ وَهَذَا نَحْوُ قَوْلِهِ: عُوجًا، وَأَسْنَدَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ فِي قَوْلِهِ:{وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} قَالَ: عُوجًا عَنِ الْحَقِّ وَهُوَ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْوَاوِ، وَفِيهِ: تَقْوِيَةٌ لِمَا وَقَعَ فِي نُسَخِ الصَّحِيحِ، وَاللُّدُّ بِضَمِّ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ، جَمْعُ أَلَدُّ وَقَدْ أَسْنَدَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: اللَّدُّ: الْخَصِمُ وَكَأَنَّهُ تَفْسِيرٌ بِاللَّازِمِ؛ لِأَنَّ مَنِ اعْوَجَّ عَنِ الْحَقِّ كَانَ كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: الْأَلَدُّ: الْكَذَّابُ وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ مَنْ يُكْثِرُ الْمُخَاصَمَةَ يَقَعُ فِي الْكَذِبِ كَثِيرًا، وَتَفْسِيرُ: الْأَلَدُّ بِالْأَعْوَجِ عَلَى مَا وَقَعَ عِنْدَ الْكُشْمِيهَنِيِّ يُحْمَلُ عَلَى انْحِرَافِهِ عَنِ الْحَقِّ وَتَفْسِيرُ الْأَلَدُّ بِالشَّدِيدِ الْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا أُخِذَ عَلَيْهِ جَانِبٌ مِنَ الْحُجَّةِ أَخَذَ فِي آخَرَ أَوْ لِأَعْمَالِهِ لَدِيدِيَّةٌ، وَهُمَا جَانِبَا فَمِهِ فِي الْمُخَاصَمَةِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي كِتَابِ الْمَجَازِ فِي قَوْلِهِ:{قَوْمًا لُدًّا} وَاحِدُهُمْ أَلَدٌّ وَهُوَ الَّذِي يَدَّعِي الْبَاطِلَ وَلَا يَقْبَلُ الْحَقَّ وَذَكَرَ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي: الْأَلَدِّ وَقَدْ سَبَقَ شَرْحُهُ وَقَوْلُهُ: أَبْغَضُ الرِّجَالِ إِلَخْ قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْأَبْغَضُ هُوَ الْكَافِرُ فَمَعْنَى الْحَدِيثِ: أَبْغَضُ الرِّجَالِ الْكُفَّارُ الْكَافِرُ: الْمُعَانِدُ أَوْ بَعْضُ الرِّجَالِ الْمُخَاصِمِينَ.

قُلْتُ: وَالثَّانِي هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا، فَإِنْ كَانَ كَافِرًا فَأَفْعَلُ التَّفْضِيلِ فِي حَقِّهِ عَلَى حَقِيقَتِهَا فِي الْعُمُومِ، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا فَسَبَبُ الْبُغْضِ أَنَّ كَثْرَةَ الْمُخَاصَمَةِ تُفْضِي غَالِبًا إِلَى مَا يُذَمُّ صَاحِبُهُ أَوْ يُخَصُّ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ بِمَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَيَشْهَدُ لِلْأَوَّلِ حَدِيثُ كَفَى بِكَ إِثْمًا أَنْ لَا تَزَالَ مُخَاصِمًا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ وَوَرَدَ التَّرْغِيبُ فِي تَرْكِ الْمُخَاصَمَةِ؛ فَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَفَعَهُ: أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: وَالرَّبَضُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا ضَادٌ مُعْجَمَةٌ الْأَسْفَلُ.

‌35 - بَاب إِذَا قَضَى الْحَاكِمُ بِجَوْرٍ أَوْ خِلَافِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَهُوَ رَدٌّ

7189 -

حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَالِدًا ح. وَحَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، أخبرنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا أَسْلَمْنَا فَقَالُوا: صَبَأْنَا صَبَأْنَا، فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ وَيَأْسِرُ وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ فَأَمَرَ كُلَّ رَجُلٍ مِنَّا أَنْ يَقْتُلَ أَسِيرَهُ فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَقْتُلُ أَسِيرِي، وَلَا يَقْتُلُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِي أَسِيرَهُ، فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مَرَّتَيْنِ.

قَوْلُهُ: بَابُ إِذَا قَضَى الْحَاكِمُ بِجَوْرٍ أَوْ خِلَافَ أَهْلِ الْعِلْمِ فَهُوَ رَدٌّ) أَيْ: مَرْدُودٌ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ) هُوَ ابْنُ غَيْلَانَ، وَقَوْلُهُ: وَحَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَلِغَيْرِهِ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ الْمُصَنِّفُ: حَدَّثَنِي نُعَيْمٌ وَسَاقَ غَيْرُ أَبِي ذَرٍّ أَيْضًا السَّنَدَ إِلَى قَوْلِهِ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَالِدًا وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ

ص: 181

عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِسَنَدِهِ إِلَى سَالِمٍ - وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - عَنْ أَبِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الْمَغَازِي فِي بَابِ بَعْثِ خَالِدٍ إِلَى بَنِي جُذَيْمَةَ وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ يَعْنِي مِنْ قَتْلِهِ الَّذِينَ قَالُوا: صَبَأْنَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَفْسِرَهُمْ عَنْ مُرَادِهِمْ بِذَلِكَ الْقَوْلِ، فَإِنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى تَصْوِيبِ فِعْلِ ابْنِ عُمَرَ، وَمَنْ تَبِعَهُ فِي تَرْكِهِمْ مُتَابَعَةَ خَالِدٍ عَلَى قَتْلِ مَنْ أَمَرَهُمْ بِقَتْلِهِمْ مِنَ الْمَذْكُورِينَ بِهِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْحِكْمَةُ فِي تَبَرُّئِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ فِعْلِ خَالِدٍ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يُعَاقِبْهُ عَلَى ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مُجْتَهِدًا أَنْ يَعْرِفَ أَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي ذَلِكَ خَشْيَةَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَحَدٌ أَنَّهُ كَانَ بِإِذْنِهِ، وَلِيَنْزَجِرَ غَيْرُ خَالِدٍ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ مِثْلِ فِعْلِهِ.

اهـ مُلَخَّصًا، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْإِثْمُ وَإِنْ كَانَ سَاقِطًا عَنِ الْمُجْتَهِدِ فِي الْحُكْمِ إِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ بِخِلَافِ جَمَاعَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، لَكِنَّ الضَّمَانَ لَازِمٌ لِلْمُخْطِئِ عِنْدَ الْأَكْثَرِ مَعَ الِاخْتِلَافِ، هَلْ يَلْزَمُ ذَلِكَ عَاقِلَةُ الْحَاكِمِ أَمْ بَيْتُ الْمَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ وَالَّذِي يَظْهَرُ: أَنَّ التَّبَرُّؤَ مِنَ الْفِعْلِ لَا يَسْتَلْزِمُ إِثْمَ فَاعِلِهِ وَلَا إِلْزَامَهُ الْغَرَامَةَ، فَإِنَّ إِثْمَ الْمُخْطِئِ مَرْفُوعٌ وَإِنْ كَانَ فِعْلُهُ لَيْسَ بِمَحْمُودٍ.

‌36 - بَاب الْإِمَامِ يَأْتِي قَوْمًا فَيُصْلِحُ بَيْنَهُمْ

7190 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ الْمَدَينِيُّ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ، قَالَ: كَانَ قِتَالٌ بَيْنَ بَنِي عَمْرٍو فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ أَتَاهُمْ يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ فَلَمَّا حَضَرَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَأَذَّنَ بِلَالٌ وَأَقَامَ وَأَمَرَ أَبَا بَكْرٍ فَتَقَدَّمَ وَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ فِي الصَّلَاةِ فَشَقَّ النَّاسَ حَتَّى قَامَ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ فَتَقَدَّمَ فِي الصَّفِّ الَّذِي يَلِيهِ قَالَ: وَصَفَّحَ الْقَوْمُ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَلْتَفِتْ حَتَّى يَفْرُغَ فَلَمَّا رَأَى التَّصْفِيحَ لَا يُمْسَكُ عَلَيْهِ الْتَفَتَ فَرَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَلْفَهُ فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ أمْضِهْ وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ هَكَذَا وَلَبِثَ أَبُو بَكْرٍ هُنَيَّةً فحْمَدُ اللَّهَ عَلَى قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ مَشَى الْقَهْقَرَى فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ تَقَدَّمَ فَصَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالنَّاسِ فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ قَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ مَا مَنَعَكَ إِذْ أَوْمَأْتُ إِلَيْكَ أَنْ لَا تَكُونَ مَضَيْتَ؟ قَالَ: لَمْ يَكُنْ لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يَؤُمَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ لِلْقَوْمِ: إِذَا نابَكُمْ أَمْرٌ فَلْيُسَبِّحْ الرِّجَالُ وَلْيُصَفِّحْ النِّسَاءُ.

قَوْلُهُ: بَابُ الْإِمَامِ يَأْتِي قَوْمًا فَيُصْلِحُ بَيْنَهُمْ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ لِيُصْلِحَ بِاللَّامِ بَدَلَ الْفَاءِ.

قَوْلُهُ: (كَانَ قِتَالٌ بَيْنَ بَنِي عَمْرٍو) فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ الْمَاضِيَةِ فِي أَبْوَابِ الْإِمَامَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَهَبَ إِلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ وَذَكَرَهُ هُنَاكَ بِلَفْظِ: فَلْيُصَفِّق وَالتَّصْفِيق وَوَقَعَ هُنَا بِلَفْظِ: فَلْيُصَفِّحْ وَالتَّصْفِيحُ وَهُمَا بِمَعْنًى وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ: فَلَمَّا حَضَرَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَأَذَّنَ وَأَقَامَ قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: جَوَابُ الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا مَحْذُوفٌ سَوَاءٌ كَانَتْ لَمَّا شَرْطِيَّةً أَوْ ظَرْفِيَّةً وَالتَّقْدِيرُ: جَاءَ الْمُؤَذِّنُ قُلْتُ: إِنَّمَا اخْتَصَرَهُ الْبُخَارِيُّ وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، عَنْ حَمَّادٍ، فَقَالَ فِيهِ بَعْدَ قَوْلِهِ: ثُمَّ أَتَاهُمْ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ فَقَالَ لِبِلَالٍ: إِنْ حَضَرَتْ صَلَاةَ الْعَصْرِ، وَلَمْ آتِكَ فَمُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ، فَلَمَّا حَضَرَتِ الْعَصْرُ أَذَّنَ بِلَالٌ ثُمَّ أَقَامَ فَذَكَرَهُ، وَقَوْلُهُ: أَنْ أَمْضِهِ فِعْلُ أَمْرٍ بِالْمُضِيِّ وَالْهَاءُ لِلسَّكْتِ، وَقَوْلُهُ: هَكَذَا أَيْ إِشَارَةً إِلَيْهِ بِالْمُكْثِ فِي مَكَانِهِ،

ص: 182

وَقَوْلُهُ: يَحْمَدُ اللَّهَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فَحَمِدَ اللَّهَ بِالْفَاءِ بَدَلَ التَّحْتَانِيَّةِ، وَفِي قَوْلِهِ: لَمْ يَكُنْ لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ هَضْمٌ لِنَفْسِهِ وَتَوَاضُعٌ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ لِي وَلَا لِأَبِي بَكْرٍ وَعَادَةُ الْعَرَبِ إِذَا عَظَّمَتِ الرَّجُلَ ذَكَرَتْهُ بِاسْمِهِ وَكُنْيَتِهِ أَوْ لَقَبِهِ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ تَنْسُبُهُ إِلَى أَبِيهِ وَلَا تُسَمِّيهِ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: فِقْهُ التَّرْجَمَةِ التَّنْبِيهُ عَلَى جَوَازِ مُبَاشَرَةِ الْحَاكِمِ الصُّلْحَ بَيْنَ الْخُصُومِ وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ تَصْحِيفًا فِي الْحُكْمِ، وَعَلَى جَوَازِ ذَهَابِ الْحَاكِمِ إِلَى مَوْضِعِ

الْخُصُومِ لِلْفَصْلِ بَيْنَهُمْ إِمَّا عِنْدَ عِظَمِ الْخَطْبِ وَإِمَّا لِيَكْشِفَ مَا لَا يُحَاطُ بِهِ إِلَّا بِالْمُعَايَنَةِ، وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ تَخْصِيصًا وَلَا تَمْيِيزًا وَلَا وَهَنًا.

(تَنْبِيهٌ):

وَقَعَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: لَمْ يَقُلْ هَذَا الْحَرْفَ يَا بِلَالُ فَمُرْ أَبَا بَكْرٍ غَيْرُ حَمَّادٍ.

‌37 - بَاب يُسْتَحَبُّ لِلْكَاتِبِ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا عَاقِلًا

7191 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، أَبُو ثَابِتٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: بَعَثَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ لِمَقْتَلِ أَهْلِ الْيَمَامَةِ وَعِنْدَهُ عُمَرُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ: إِنَّ الْقَتْلَ قَدْ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ فِي الْمَوَاطِنِ كُلِّهَا فَيَذْهَبَ قُرْآنٌ كَثِيرٌ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ قُلْتُ: كَيْفَ أَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ عُمَرُ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي فِي ذَلِكَ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ عُمَرَ وَرَأَيْتُ فِي ذَلِكَ الَّذِي رَأَى عُمَرُ قَالَ زَيْدٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَإِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لَا نَتَّهِمُكَ قَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَتَبَّعْ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ قَالَ زَيْدٌ: فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنْ الْجِبَالِ مَا كَانَ بِأَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا كَلَّفَنِي مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ قُلْتُ: كَيْفَ تَفْعَلَانِ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ فَلَمْ يَزَلْ يَحُثُّ مُرَاجَعَتِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ اللَّهُ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَرَأَيْتُ فِي ذَلِكَ الَّذِي رَأَيَا فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنْ الْعُسُبِ وَالرِّقَاعِ وَاللِّخَافِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ فَوَجَدْتُ آخِرِ سُورَةِ التَّوْبَةِ {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} إِلَى آخِرِهَا مَعَ خُزَيْمَةَ أَوْ أَبِي خُزَيْمَةَ فَأَلْحَقْتُهَا فِي سُورَتِهَا، وَكَانَتْ الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَيَاتَهُ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عز وجل ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَيَاتَهُ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ: اللِّخَافُ يَعْنِي الْخَزَفَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ يُسْتَحَبُّ لِلْكَاتِبِ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا عَاقِلًا) أَيْ كَاتِبُ الْحُكْمِ وَغَيْرُهُ.

ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي قِصَّتِهِ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ فِي جَمْعِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ.

وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ، لِزَيْدٍ إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لَا نَتَّهِمُكَ وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ قَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بِالتَّصْغِيرِ وَهُوَ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ الَّذِي رَوَى عَنْهُ هَذَا الْحَدِيثَ فَسَّرَ اللِّخَافَ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَهِيَ بِكَسْرِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ بِالْخَزَفِ، وَهِيَ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالزَّايِ بَعْدَهَا فَاءٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي تَفْسِيرِهَا هُنَاكَ، وَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الْمُهَلَّبِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْعَقْلَ أَصْلُ الْخِلَالِ الْمَحْمُودَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِفْ زَيْدًا بِأَكْثَرَ مِنَ الْعَقْلِ وَجَعَلَهُ سَبَبًا لِائْتِمَانِهِ وَرَفْعِ التُّهْمَةِ عَنْهُ.

قُلْتُ: وَلَيْسَ كَمَا قَالَ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ ذَكَرَ عَقِبَ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبَ الْوَحْيَ

ص: 183

لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمِنْ ثَمَّ اكْتَفَى بِوَصْفِهِ بِالْعَقْلِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ تَثْبُتْ أَمَانَتُهُ وَكِفَايَتُهُ وَعَقْلُهُ لَمَا اسْتَكْتَبَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْوَحْيَ وَإِنَّمَا وَصَفَهُ بِالْعَقْلِ وَعَدَمِ الِاتِّهَامِ دُونَ مَا عَدَاهُمَا إِشَارَةً إِلَى اسْتِمْرَارِ ذَلِكَ لَهُ، وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ قَوْلِهِ لَا نَتَّهِمُكُ مَعَ قَوْلِهِ عَاقِلٌ، لَا يَكْفِي فِي ثُبُوتِ الْكِفَايَةِ وَالْأَمَانَةِ فَكَمْ مِنْ بَارِعٍ فِي الْعَقْلِ وَالْمَعْرِفَةِ وُجِدَتْ مِنْهُ الْخِيَانَةُ قَالَ وَفِيهِ اتِّخَاذُ الْكَاتِبِ لِلسُّلْطَانِ وَالْقَاضِي وَأَنَّ مَنْ سَبَقَ لَهُ عِلْمٌ بِأَمْرٍ يَكُونُ أَوْلَى بِهِ مِنْ غ يْرِهِ إِذَا وَقَعَ، وَعِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَكْتَبَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْأَرْقَمِ، فَكَانَ يَكْتُبُ لَهُ إِلَى الْمُلُوكِ فَبَلَغَ مِنْ أَمَانَتِهِ عِنْدَهُ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُهُ أَنْ يَكْتُبَ وَيَخْتِمَ وَلَا يَقْرَؤُهُ، ثُمَّ اسْتَكْتَبَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَكَانَ يَكْتُبُ الْوَحْيَ، وَيَكْتُبُ إِلَى الْمُلُوكِ، وَكَانَ إِذَا غَابَا كَتَبَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَكَتَبَ لَهُ أَيْضًا أَحْيَانًا جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمِنْ طَرِيقِ عِيَاضٍ الْأَشْعَرِيِّ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ اسْتَكْتَبَ نَصْرَانِيًّا فَانْتَهَرَهُ عُمَرُ وَقَرَأَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} الْآيَةَ.

فَقَالَ أَبُو مُوسَى: وَاللَّهِ مَا تَوَلَّيْتُهُ وَإِنَّمَا كَانَ يَكْتُبُ فَقَالَ: أَمَا وَجَدْتَ فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ مَنْ يَكْتُبُ لَا تُدْنِهِمْ إِذْ أَقْصَاهُمُ اللَّهُ، وَلَا تَأْتَمِنْهُمْ إِذْ خَوَّنَهُمُ اللَّهُ، وَلَا تُعِزَّهُمْ بَعْدَ أَنْ ذَلَّهُمُ اللَّه.

‌38 - بَاب كِتَابِ الْحَاكِمِ إِلَى عُمَّالِهِ وَالْقَاضِي إِلَى أُمَنَائِهِ

7192 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي لَيْلَى، ح. وحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أَبِي لَيْلَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ هُوَ وَرِجَالٌ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ، وَمُحَيِّصَةَ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهُمْ فَأُخْبِرَ مُحَيِّصَةُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ قُتِلَ وَطُرِحَ فِي قِفيرٍ أَوْ عَيْنٍ فَأَتَى يَهُودَ فَقَالَ: أَنْتُمْ وَاللَّهِ قَتَلْتُمُوهُ. قَالُوا: مَا قَتَلْنَاهُ وَاللَّهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ فَذَكَرَ لَهُمْ وَأَقْبَلَ هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ فَذَهَبَ لِيَتَكَلَّمَ وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِمُحَيِّصَةَ: كَبِّرْ كَبِّرْ يُرِيدُ السِّنَّ فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ، وَإِمَّا أَنْ يُؤْذِنُوا بِحَرْبٍ فَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ بِهِ فَكُتِبَ مَا قَتَلْنَاهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِحُوَيِّصَةَ، وَمُحَيِّصَةَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: أَفَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودُ؟ قَالُوا: لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عِنْدِهِ مِائَةَ نَاقَةٍ حَتَّى أُدْخِلَتْ الدَّارَ قَالَ سَهْلٌ: فَرَكَضَتْنِي مِنْهَا نَاقَةٌ.

قَوْلُهُ: بَابُ كِتَابِ الْحَاكِمِ إِلَى عُمَّالِهِ) بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ جَمْعُ عَامِلٍ، وَهُوَ الْوَالِي عَلَى بَلَدٍ مَثَلًا لِجَمْعِ خَرَاجِهَا أَوْ زَكَوَاتِهَا أَوِ الصَّلَاةِ بِأَهْلِهَا أَوِ التَّأْمِيرِ عَلَى جِهَادِ عَدُوِّهَا.

قَوْلُهُ: (وَالْقَاضِي إِلَى أُمَنَائِهِ) أَيِ الَّذِينَ يُقِيمُهُمْ فِي ضَبْطِ أُمُورِ النَّاسِ

ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ وَقَتْلِهِ بِخَيْبَرَ وَقِيَامِ حُوَيِّصَةَ وَمَنْ مَعَهُ فِي ذَلِكَ.

وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ فِيهِ: فَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ - أَيْ إِلَى أَهْلِ خَيْبَرَ - بِهِ أَيْ بِالْخَبَرِ الَّذِي نُقِلَ إِلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مَعَ شَرْحِ الْحَدِيثِ فِي بَابِ الْقَسَامَةِ وَقَوْلُهُ هُنَا: فَكَتَبَ مَا قَتَلْنَاهُ، فِي

ص: 184

رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فَكَتَبُوا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ وَهُوَ أَوْلَى وَوَجَّهَ الْكِرْمَانِيُّ الْأَوَّلَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ: الْحَيُّ الْمُسَمَّى بِالْيَهُودِ قَالَ: وَفِيهِ تَكَلُّفٌ. قُلْتُ: وَأَقْرَبُ مِنْهُ أَنْ يُرَادَ: الْكَاتِبُ عَنْهُمْ لِأَنَّ الَّذِي يُبَاشِرُ الْكِتَابَةَ إِنَّمَا هُوَ وَاحِدٌ فَالتَّقْدِيرُ فَكَتَبَ كَاتِبُهُمْ قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَى نَائِبِهِ وَلَا إِلَى أَمِينِهِ وَإِنَّمَا كَتَبَ إِلَى الْخُصُومِ أَنْفُسِهِمْ لَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ مُكَاتَبَةِ الْخُصُومِ وَالْبِنَاءِ عَلَى ذَلِكَ جَوَازُ مُكَاتَبَةِ النُّوَّابِ وَالْكُتَّابِ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.

‌39 - بَاب هَلْ يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَبْعَثَ رَجُلًا وَحْدَهُ لِلنَّظَرِ فِي الْأُمُورِ

7193، 7194 - حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، قَالَا: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، فَقَامَ خَصْمُهُ فَقَالَ: صَدَقَ فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ فَقَالُوا لِي: عَلَى ابْنِكَ الرَّجْمُ فَفَدَيْتُ ابْنِي مِنْهُ بِمِائَةٍ مِنْ الْغَنَمِ وَوَلِيدَةٍ، ثُمَّ سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَقَالُوا: إِنَّمَا عَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ أَمَّا الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ فَرَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَأَمَّا أَنْتَ يَا أُنَيْسُ لِرَجُلٍ فَاغْدُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَارْجُمْهَا فَغَدَا عَلَيْهَا أُنَيْسٌ فَرَجَمَهَا.

قَوْلُهُ: بَابُ هَلْ يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَبْعَثَ رَجُلًا وَحْدَهُ لِلنَّظَرِ فِي الْأُمُورِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ: يَنْظُرُ وَكَذَا عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ فِي قِصَّةِ الْعَسِيفِ وَقَدْ مَضَى شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا وَقَدْ تَقَدَّمَ الِاخْتِلَافُ فِي أَنَّ أُنَيْسًا كَانَ حَاكِمًا أَوْ مُسْتَخْبِرًا، وَالْحِكْمَةُ فِي إِيرَادِهِ التَّرْجَمَةَ بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِشَارَةُ إِلَى خِلَافِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ أَقَرَّ عِنْدِي فُلَانٌ بِكَذَا لِشَيْءٍ يَقْضِي بِهِ عَلَيْهِ مِنْ قَتْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ طَلَاقٍ، حَتَّى يَشْهَدَ مَعَهُ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُهُ وَادَّعَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْحُكْمِ الَّذِي فِي حَدِيثِ الْبَابِ خَاصٌّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَالَ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي أَبَدًا عَدْلَانِ يَسْمَعَانِ مَنْ يُقِرُّ وَيَشْهَدَانِ عَلَى ذَلِكَ فَيَنْفُذُ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِمَا نَقَلَهُ ابْنُ بَطَّالٍ وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: فِيهِ حُجَّةٌ لِمَالِكٍ فِي جَوَازِ إِنْفَاذِ الْحَاكِمِ رَجُلًا وَاحِدًا فِي الْأَعْذَارِ، وَفِي أَنْ يَتَّخِذَ وَاحِدًا يَثِقُ بِهِ يَكْشِفَ عَنْ حَالِ الشُّهُودِ فِي السِّرِّ، كَمَا يَجُوزُ قَبُولُ الْفَرْدِ فِيمَا طَرِيقُهُ الْخَبَرُ لَا الشَّهَادَةُ، قَالَ: وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهِ قَوْمٌ فِي جَوَازِ تَنْفِيذِ الْحُكْمِ دُونَ إِعْذَارٍ إِلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ ; قَالَ: وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ ; لِأَنَّ الْإِعْذَارَ يُشْتَرَطُ فِيمَا كَانَ الْحُكْمُ فِيهِ بِالْبَيِّنَةِ، لَا مَا كَانَ بِالْإِقْرَارِ كَمَا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، لِقَوْلِهِ: فَإِنِ اعْتَرَفَتْ قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ مَسْأَلَةِ الْإِعْذَارِ عِنْدَ شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ.

‌40 - بَاب تَرْجَمَةِ الْحُكَّامِ وَهَلْ يَجُوزُ تَرْجُمَانٌ وَاحِدٌ؟

7195 -

وقال خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ كِتَابَ

ص: 185

الْيَهُودِ حَتَّى كَتَبْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كُتُبَهُ وَأَقْرَأْتُهُ كُتُبَهُمْ إِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ وَقَالَ عُمَرُ: وَعِنْدَهُ عَلِيٌّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَعُثْمَانُ مَاذَا تَقُولُ هَذِهِ؟ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَاطِبٍ: فَقُلْتُ: تُخْبِرُكَ بِصَاحِبِهَا الَّذِي صَنَعَ بِهَا، وَقَالَ أَبُو جَمْرَةَ: كُنْتُ أُتَرْجِمُ بَيْنَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبَيْنَ النَّاسِ وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَا بُدَّ لِلْحَاكِمِ مِنْ مُتَرْجِمَيْنِ.

7196 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَقَالَ لِلتُّرْجُمَانِ: قُلْ لَهُ إِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ.

قَوْلُهُ: بَابُ تَرْجَمَةِ الْحُكَّامِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ الْحَاكِمِ بِالْإِفْرَادِ.

قَوْلُهُ: (وَهَلْ يَجُوزُ تَرْجُمَانٌ وَاحِدٌ) يُشِيرُ إِلَى الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ فَالِاكْتِفَاءُ بِالْوَاحِدِ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَاخْتَارَهَا الْبُخَارِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَطَائِفَةٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيٌّ: وَهِيَ الرِّوَايَةُ الرَّاجِحَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِذَا لَمْ يَعْرِفِ الْحَاكِمُ لِسَانَ الْخَصْمِ، لَمْ يَقْبَلْ فِيهِ إِلَّا عَدْلَيْنِ لِأَنَّهُ نَقْلُ مَا خَفِيَ عَلَى الْحَاكِمِ إِلَيْهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُكُومَةِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدْلُ كَالشَّهَادَةِ، وَلِأَنَّهُ أَخْبَرَ الْحَاكِمَ بِمَا لَمْ يَفْهَمْهُ فَكَانَ كَنَقْلِ الْإِقْرَارِ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ مَجْلِسِهِ.

قَوْلُهُ: وَقَالَ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ) هُوَ أَبُوهُ.

قَوْلُهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ). كِتَابَ الْيَهُودِ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ الْيَهُودِيَّةِ بِزِيَادَةِ النِّسْبَةِ وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْخَطُّ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى كَتَبْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كُتُبَهُ) يَعْنِي إِلَيْهِمْ (وَأَقْرَأْتُهُ كُتُبَهُمْ) أَيِ الَّتِي يَكْتُبُونَهَا إِلَيْهِ، وَهَذَا التَّعْلِيقُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي لَمْ يُخَرِّجْهَا الْبُخَارِيُّ إِلَّا مُعَلَّقَةً وَقَدْ وَصَلَهُ مُطَوَّلًا فِي كِتَابِ التَّارِيخِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ زَيْدٍ قَالَ: أَتَى بِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُقَدِّمَةَ الْمَدِينَةِ فَأُعْجِبَ بِي، فَقِيلَ لَهُ: هَذَا غُلَامٌ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ قَدْ قَرَأَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ بِضْعَ عَشْرَةَ سُورَةً فَاسْتَقْرَأَنِي فَقَرَأْتُ ق فَقَالَ لِي: تَعَلَّمْ كِتَابَ يَهُودَ، فَإِنِّي مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابِي فَتَعَلَّمْتُهُ فِي نِصْفِ شَهْرٍ، حَتَّى كَتَبْتُ لَهُ إِلَى يَهُودَ وَأَقْرَأُ لَهُ إِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ وَوَقَعَ لَنَا بِعُلُوٍّ فِي فَوَائِدِ الْفَاكِهِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي مَيْسَرَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيهِ فَذَكَرَهُ وَفِيهِ: فَمَا مَرَّ بِي سِوَى خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حَتَّى تَعَلَّمْتُهُ وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ ; وَقَدْ رَوَاهُ الْأَعْمَشُ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ السُّرْيَانِيَّةَ.

قُلْتُ: وَهَذِهِ الطَّرِيقُ وَقَعَتْ لِي بِعُلُوٍّ فِي فَوَائِدِ هِلَالٍ الْحَفَّارِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَيَّاشٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ بْنِ السُّرِّيِّ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ فَذَكَرَهُ وَزَادَ: فَتَعَلَّمْتُهَا فِي سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ فِي: مُسْنَدَيْهِمَا وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ فِي: كِتَابِ الْمَصَاحِفِ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ طَرِيقِهِ وَعِنْدَهُ: إِنِّي أَكْتُبُ إِلَى قَوْمٍ فَأَخَافُ أَنْ يَزِيدُوا عَلَيَّ وَيَنْقُصُوا فَتَعَلَّمِ السُّرْيَانِيَّةَ فَذَكَرَهُ، وَلَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى أَخْرَجَهَا ابْنُ سَعْدٍ، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ عَبْدَ

ص: 186

الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي الزِّنَادِ تَفَرَّدَ بِهِ، نَعَمْ لَمْ يَرْوِهِ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ خَارِجَةَ إِلَّا عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَهُوَ تَفَرُّدٌ نِسْبِيٌّ، وَقِصَّةُ ثَابِتٍ يُمْكِنُ أَنْ تَتَّحِدَ مَعَ قِصَّةِ خَارِجَةَ بِأَنَّ مِنْ لَازِمِ تَعَلُّمِ كِتَابَةِ الْيَهُودِيَّةِ تَعَلُّمَ لِسَانِهِمْ، وَلِسَانُهُمُ السُّرْيَانِيَّةُ.

لَكِنَّ الْمَعْرُوفَ أَنَّ لِسَانَهُمُ الْعِبْرَانِيَّةُ فَيَحْتَمِلُ أَنَّ زَيْدًا تَعَلَّمَ اللِّسَانَيْنِ لِاحْتِيَاجِهِ إِلَى ذَلِكَ وَقَدِ اعْتَرَضَ بَعْضُهُمْ عَلَى ابْنِ الصَّلَاحِ وَمَنْ تَبِعَهُ فِي أَنَّ الَّذِي يَجْزِمُ بِهِ الْبُخَارِيُّ يَكُونُ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ، وَقَدْ جَزَمَ بِهَذَا مَعَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي الزِّنَادِ قَدْ قَالَ فِيهِ ابْنُ مَعِينٍ: لَيْسَ مِمَّنْ يَحْتَجُّ بِهِ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ، لَيْسَ بِشَيْءٍ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ ضَعِيفٌ وَعَنْهُ هُوَ دُونَ الدَّرَاوَرْدِيِّ وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ شَبَّةَ: صَدُوقٌ وَفِي حَدِيثِهِ ضَعْفٌ سَمِعْتُ عَلِيَّ ابْنَ الْمَدِينِيِّ يَقُولُ: حَدِيثُهُ بِالْمَدِينَةِ مُقَارِبٌ وَبِالْعِرَاقِ مُضْطَرِبٌ وَقَالَ صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ، عَنْ أَبِيهِ: مُضْطَرِبُ الْحَدِيثِ وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ: نَحْوَ قَوْلِ عَلِيٍّ، وَقَالَا: كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ يَحُطُّ عَلَى حَدِيثِهِ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ، وَالنَّسَائِيُّ: لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ وَوَثَّقَهُ جَمَاعَةٌ غَيْرُهُمْ كَالْعِجْلِيِّ، وَالتِّرْمِذِيِّ فَيَكُونُ غَايَةُ أَمْرِهِ أَنَّهُ: مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَلَا يَتَّجِهُ الْحُكْمُ بِصِحَّةِ مَا يَنْفَرِدُ بِهِ بَلْ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ حَسَنًا، وَكُنْتُ سَأَلْتُ شَيْخَيَّ الْإِمَامَيْنِ الْعِرَاقِيَّ، وَالْبُلْقِينِيَّ عَنْ هَذَا الْمَوْضِعِ فَكَتَبَ لِي كُلٌّ مِنْهُمَا بِأَنَّهُمَا: لَا يَعْرِفَانِ لَهُ مُتَابِعًا وَعَوَّلَا جَمِيعًا عَلَى أَنَّهُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ: ثِقَةٌ فَاعْتَمَدَهُ وَزَادَ شَيْخُنَا الْعِرَاقِيُّ أَنَّ صِحَّةَ مَا يَجْزِم بِهِ الْبُخَارِيُّ لَا يَتَوَقَّفُ أَنْ يَكُونَ عَلَى شَرْطِهِ وَهُوَ تَنْقِيبٌ جَيِّدٌ، ثُمَّ ظَفِرْتُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْمُتَابِعِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ فَانْتَفَى الِاعْتِرَاضُ مِنْ أَصْلِهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.

قَوْلُهُ: وَقَالَ عُمَرُ) أَيِ ابْنُ الْخَطَّابِ (وَعِنْدَهُ عَلِيٌّ) أَيِ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ (وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ) أَيِ ابْنُ عَوْفٍ (وَعُثْمَانُ) أَيِ ابْنُ عَفَّانَ (مَاذَا تَقُولُ هَذِهِ) أَيِ الْمَرْأَةُ الَّتِي وُجِدَتْ حُبْلَى (قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَاطِبٍ فَقُلْتُ: تُخْبِرُكَ بِصَاحِبِهَا الَّذِي صَنَعَ بِهَا) وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ عَنْ أَبِيهِ نَحْوَهُ.

قَوْلُهُ: وَقَالَ أَبُو جَمْرَةَ كُنْتُ أُتَرْجِمُ بَيْنَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبَيْنَ النَّاسِ) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي الْعِلْمِ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ فَذَكَرَهُ وَبَعْدَهُ فَقَالَ: إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ أَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي قِصَّتِهِمْ، وَهُوَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ بِزِيَادَةٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَبَيْنَ النَّاسِ فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَسَأَلَتْهُ عَنْ نَبِيذِ الْجَرِّ فَنَهَى عَنْهُ، وَقَالَ: إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَا بُدَّ لِلْحَاكِمِ مِنْ مُتَرْجِمِينَ) نَقَلَ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ أَنَّهَا رُوِيَتْ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ وَبِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ، وَوَجْهُ الْأَوَّلِ: بِأَنَّ الْأَلْسِنَةَ قَدْ تَكْثُرُ فَيَحْتَاجُ إِلَى تَكْثِيرِ الْمُتَرْجِمِينَ. قُلْتُ: وَالثَّانِي هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَالْمُرَادُ بِبَعْضِ النَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فَإِنَّهُ الَّذِي اشْتَرَطَ أَنْ لَا بُدَّ فِي التَّرْجَمَةِ مِنَ اثْنَيْنِ وَنَزَّلَهَا مَنْزِلَةَ الشَّهَادَةِ وَخَالَفَ أَصْحَابُهُ الْكُوفِيِّينَ وَوَافَقَهُ الشَّافِعِيُّ فَتَعَلَّقَ بِذَلِكَ مُغَلْطَايْ فَقَالَ: فِيهِ رَدٌّ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْبُخَارِيَّ إِذَا قَالَ: قَالَ بَعْضُ النَّاسِ يُرِيدُ الْحَنَفِيَّةَ، وَتَعَقَّبَهُ الْكِرْمَانِيُّ فَقَالَ: يُحْمَلُ عَلَى الْأَغْلَبِ أَوْ أَرَادَ هُنَا بَعْضَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا قَائِلٌ بِذَلِكَ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ أَنْ يُوَافِقَهُ الشَّافِعِيُّ كَمَا لَا يَمْنَعُ أَنْ يُوَافِقَ الْحَنَفِيَّةَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ.

ثُمَّ ذَكَرَ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سُفْيَانَ فِي قِصَّةِ هِرَقْلَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ بِهَذَا السَّنَدِ مُطَوَّلًا وَالْغَرَضَ مِنْهُ.

قَوْلُهُ: ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ قُلْ لَهُ إِلَخْ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَمْ يُدْخِلِ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ هِرَقْلَ حُجَّةً عَلَى جَوَازِ التَّرْجُمَانِ الْمُشْتَرَكِ، لِأَنَّ تَرْجُمَانَ هِرَقْلَ كَانَ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، وَإِنَّمَا أَدْخَلَهُ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ التَّرْجُمَانَ كَانَ يَجْرِي عِنْدَ الْأُمَمِ مَجْرَى الْخَبَرِ لَا مَجْرَى الشَّهَادَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْ قِصَّةِ هِرَقْلَ مَعَ أَنَّ فِعْلَهُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا صَوَابٌ مِنْ رَأْيِهِ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِمَّا أَوْرَدَهُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ صَوَابٌ مُوَافِقٌ لِلْحَقِّ، فَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ تَصْوِيبُ حَمَلَةِ الشَّرِيعَةِ لِهَذَا وَأَمْثَالِهِ مِنْ رَأْيِهِ وَحُسْنِ تَفَطُّنِهِ وَمُنَاسَبَةِ اسْتِدْلَالِهِ وَإِنْ كَانَ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الشَّقَاوَةُ، انْتَهَى.

وَتَكْمِلَةُ هَذَا أَنْ يُقَالَ:

ص: 187

يُؤْخَذُ مِنْ صِحَّةِ اسْتِدْلَالِهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ أَنَّهُ كَانَ مُطَّلِعًا عَلَى شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ فَتُحْمَلُ تَصَرُّفَاتُهُ عَلَى وَفْقِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي كَانَ مُتَمَسِّكًا بِهَا، كَمَا سَأَذْكُرُهُ مِنْ عِنْدِ الْكِرْمَانِيِّ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ مُسْتَنَدَ الْبُخَارِيِّ تَقْرِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ مِنَ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِمْ عَلَى ذَلِكَ ; وَمِنْ ثَمَّ احْتَجَّ بِاكْتِفَائِهِ بِتَرْجَمَةِ أَبِي جَمْرَةَ لَهُ، فَالْأَثَرَانِ رَاجِعَانِ لِابْنِ عَبَّاسٍ أَحَدُهُمَا مِنْ تَصَرُّفِهِ وَالْآخَرُ مِنْ تَقْرِيرِهِ، وَإِذَا انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ فِعْلُ عُمَرَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافُهُ قَوِيَتِ الْحُجَّةُ ; وَلَمَّا نَقَلَ الْكِرْمَانِيُّ كَلَامَ ابْنِ بَطَّالٍ تَعَقَّبَهُ بِأَنْ قَالَ: أَقُولُ وَجْهُ الِاحْتِجَاجِ أَنَّهُ كَانَ يَعْنِي هِرَقْلَ نَصْرَانِيًّا، وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا حُجَّةٌ لَنَا مَا لَمْ يُنْسَخْ قَالَ: وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ أَسْلَمَ، فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ. قُلْتُ: بَلْ هُوَ أَشَدُّ إِشْكَالًا؛ لِأَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِي فِعْلِهِ عِنْدَ أَحَدٍ إِذْ لَيْسَ صَحَابِيًّا، وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ أَسْلَمَ فَالْمُعْتَمَدُ مَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَجَازَ الْأَكْثَرُ تَرْجَمَةَ وَاحِدٍ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَا بُدَّ مِنْ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ كَالْبَيِّنَةِ وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَانِ قَالَ: وَحُجَّةُ الْأَوَّلِ تَرْجَمَةُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَحْدَهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي جَمْرَةَ، لِابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَّ التَّرْجُمَانَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَقُولَ: أَشْهَدُ بَلْ يَكْفِيهِ مُجَرَّدُ الْإِخْبَارِ وَهُوَ تَفْسِيرُ مَا يَسْمَعُهُ مِنَ الَّذِي يُتَرْجِمُ عَنْهُ، وَنَقَلَ الْكَرَابِيسِيُّ، عَنْ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ: الِاكْتِفَاءُ بِتَرْجُمَانٍ وَاحِدٍ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: الِاكْتِفَاءُ بِوَاحِدٍ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: اثْنَيْنِ وَعَنْ زُفَرَ: لَا يَجُوزُ أَقَلُّ مِنَ اثْنَيْنِ

وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْحَقُّ أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يُحَرِّرْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إِذْ لَا نِزَاعَ لِأَحَدٍ أَنَّهُ يَكْفِي تَرْجُمَانٌ وَاحِدٌ عِنْدَ الْإِخْبَارِ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ اثْنَيْنِ عِنْدَ الشَّهَادَةِ فَيَرْجِعُ الْخِلَافُ إِلَى أَنَّهَا إِخْبَارٌ أَوْ شَهَادَةٌ، فَلَوْ سَلَّمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهَا إِخْبَارٌ لَمْ يُشْتَرَطِ الْعَدَدُ ; وَلَوْ سَلَّمَ الْحَنَفِيُّ أَنَّهَا شَهَادَةٌ لَقَالَ بِالْعَدَدِ، وَالصُّوَرُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْبَابِ كُلُّهَا إِخْبَارَاتٌ، أَمَّا الْمَكْتُوبَاتُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا قِصَّةُ الْمَرْأَةِ وَقَوْلُ أَبِي جَمْرَةَ فَأَظْهَرُ فَلَا مَحَلَّ لِأَنْ يُقَالَ عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِرَاضِ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: بَلْ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ أَوْجَهُ فَإِنَّهُ نَصَبَ الْأَدِلَّةَ فِي غَيْرِ مَا تَرْجَمَ عَلَيْهِ وَهُوَ تَرْجَمَةُ الْحَاكِمِ إِذْ لَا حُكْمَ فِيمَا اسْتَدَلَّ بِهِ، انْتَهَى.

وَهُوَ أَوْلَى بِأَنْ يُقَالَ فِي حَقِّهِ إِنَّهُ مَا حُرِّرَ فَإِنَّ أَصْلَ مَا احْتَجَّ بِهِ اكْتِفَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِتَرْجَمَةِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَاكْتِفَائِهِ بِهِ وَحْدَهُ وَإِذَا اعْتَمَدَ عَلَيْهِ فِي قِرَاءَةِ الْكُتُبِ الَّتِي تَرِدُ، وَفِي كِتَابَةِ مَا يُرْسِلُهُ إِلَى مَنْ يُكَاتِبُهُ، الْتَحَقَ بِهِ اعْتِمَادُهُ عَلَيْهِ فِيمَا يُتَرْجِمُ لَهُ عَمَّنْ حَضَرَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ اللِّسَانِ، فَإِذَا اكْتَفَى بِقَوْلِهِ فِي ذَلِكَ وَأَكْثَرُ تِلْكَ الْأُمُورِ يَشْتَمِلُ عَلَى تِلْكَ الْأَحْكَامِ وَقَدْ يَقَعُ فِيمَا طَرِيقُهُ مِنْهَا الْإِخْبَارُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ فَكَيْفَ لَا تَتَّجِهُ الْحُجَّةُ بِهِ لِلْبُخَارِيِّ وَكَيْفَ يُقَالُ إِنَّهُ مَا حَرَّرَ الْمَسْأَلَةَ، وَقَدْ تَرْجَمَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ فِي الْأَحْكَامِ: ذَكَرَ اتِّخَاذَ مُتَرْجِمٍ وَالِاكْتِفَاءَ بِوَاحِدٍ وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَمَا عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عُمَرَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ثُمَّ قَالَ: احْتَجَّ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى جَوَازِ الِاقْتِصَارِ عَلَى مُتَرْجِمٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يَتَعَقَّبْهُ.

وَأَمَّا قِصَّةُ الْمَرْأَةِ مَعَ عُمَرَ، فَظَاهِرُ السِّيَاقِ أَنَّهَا كَانَتْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُكْمِ لِأَنَّهُ دَرَأَ الْحَدَّ عَنِ الْمَرْأَةِ لِجَهْلِهَا بِتَحْرِيمِ الزِّنَا بَعْدَ أَنِ ادَّعَى عَلَيْهَا، وَكَادَ يُقِيمُ عَلَيْهَا الْحَدَّ وَاكْتَفَى فِي ذَلِكَ بِإِخْبَارِ وَاحِدٍ يُتَرْجِمُ لَهُ عَنْ لِسَانِهَا وَأَمَّا قِصَّةُ أَبِي جَمْرَةَ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقِصَّةُ هِرَقْلَ فَإِنَّهُمَا وَإِنْ كَانَا فِي مَقَامِ الْإِخْبَارِ الْمَحْضِ فَلَعَلَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَهُمَا اسْتِظْهَارًا وَتَأْكِيدًا، وَأَمَّا دَعْوَاهُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَوْ سَلَّمَ أَنَّهَا إِخْبَارٌ لَمَا اشْتَرَطَ الْعَدَدَ إِلَخْ فَصَحِيحٌ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهِ مَا يَمْنَعُ مِنْ نَصْبِ الْخِلَافِ مَعَ مَنْ يَشْتَرِطُ الْعَدَدَ، وَأَقَلُّ مَا فِيهِ إِنَّهُ إِطْلَاقٌ فِي مَوْضِعِ التَّقْيِيدِ فَيَحْتَاجُ إِلَى التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ وَإِلَى ذَلِكَ يُشِيرُ الْبُخَارِيُّ بِتَقْيِيدِهِ بِالْحَاكِمِ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ غَيْرَ الْحَاكِمِ يَكْتَفِي بِالْوَاحِدِ؛ لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ مَحْضٌ وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِيهِ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِيمَا يَقَعُ عِنْدَ الْحَاكِمِ فَإِنَّ غَالِبَهُ يَئُولُ إِلَى الْحُكْمِ، وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ تَصَرُّفَ الْحَاكِمِ بِمُجَرَّدِهِ حُكْمٌ وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: الْقِيَاسُ يَقْتَضِي اشْتِرَاطَ الْعَدَدِ

ص: 188

فِي الْأَحْكَامِ، لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ غَابَ عَنِ الْحَاكِمِ لَا يُقْبَلُ فِيهِ إِلَّا الْبَيِّنَةُ الْكَامِلَةُ وَالْوَاحِدُ لَيْسَ بَيِّنَةً كَامِلَةً حَتَّى يُضَمَّ إِلَيْهِ كَمَالُ النِّصَابِ، غَيْرَ أَنَّ الْحَدِيثَ إِذَا صَحَّ سَقَطَ النَّظَرُ وَفِي الِاكْتِفَاءِ بِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَحْدَهُ حُجَّةٌ ظَاهِرَةٌ لَا يَجُوزُ خِلَافُهَا انْتَهَى.

وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ أَنْ لَيْسَ غَيْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْحُكَّامِ فِي ذَلِكَ مِثْلَهُ لِإِمْكَانِ اطِّلَاعِهِ عَلَى مَا غَابَ عَنْهُ بِالْوَحْيِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ بَلْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَكْثَرِ مِنْ وَاحِدٍ، فَمَهْمَا كَانَ طَرِيقَهُ الْإِخْبَارُ يَكْتَفِي فِيهِ بِالْوَاحِدِ، وَمَهْمَا كَانَ طَرِيقَهُ الشَّهَادَةُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ اسْتِيفَاءِ النِّصَابِ، وَقَدْ نَقَلَ الْكَرَابِيسِيُّ أَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ وَالْمُلُوكَ بَعْدَهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ إِلَّا تَرْجُمَانٌ وَاحِدٌ وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ التِّينِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ لَا يُتَرْجِمُ إِلَّا حُرٌّ عَدْلٌ وَإِذَا أَقَرَّ الْمُتَرْجِمُ بِشَيْءٍ فَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَسْمَعَ ذَلِكَ مِنْهُ شَاهِدَانِ وَيَرْفَعَانِ ذَلِكَ إِلَى الْحَاكِمِ.

‌41 - بَاب مُحَاسَبَةِ الْإِمَامِ عُمَّالَهُ

7197 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَعْمَلَ ابْنَ الْلتَبِيَّةِ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ فَلَمَّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَحَاسَبَهُ قَالَ: هَذَا الَّذِي لَكُمْ، وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَهَلَّا جَلَسْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَبَيْتِ أُمِّكَ حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا؟ ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَخَطَبَ النَّاسَ، وَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ رِجَالًا مِنْكُمْ عَلَى أُمُورٍ مِمَّا وَلَّانِي اللَّهُ فَيَأْتِي أَحَدُكُمْ فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَبَيْتِ أُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ إِنْ كَانَ صَادِقًا؟ فَوَاللَّهِ لَا يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مِنْهَا شَيْئًا - قَالَ هِشَامٌ: بِغَيْرِ حَقِّهِ - إِلَّا جَاءَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا فَلَأَعْرِفَنَّ مَا جَاءَ اللَّهَ رَجُلٌ بِبَعِيرٍ لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بِبَقَرَةٍ لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةٍ تَيْعَرُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ.

قَوْلُهُ: بَابُ مُحَاسَبَةِ الْإِمَامِ عُمَّالَهُ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي حُمَيْدٍ فِي قِصَّةِ ابْنِ اللُّتْبِيَّةِ، وَقَدْ مَضَى شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي: بَابِ هَدَايَا الْعُمَّالِ وَقَوْلُهُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ،، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ مُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ سَلَّامٍ، وَعَبْدَةُ هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ، وَقَوْلُهُ: فَهَلَّا فِي رِوَايَةٍ غَيْرِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَلَا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَهُمَا بِمَعْنًى ; وَالْمَقْصُودُ هُنَا قَوْلُهُ: فَلَمَّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَحَاسَبَهُ أَيْ عَلَى مَا قَبَضَ وَصَرَفَ.

‌42 - بَاب بِطَانَةِ الْإِمَامِ وَأَهْلِ مَشُورَتِهِ الْبِطَانَةُ الدُّخَلَاءُ

7198 -

حَدَّثَنَا أَصْبَغُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ وَلَا اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَةٍ إِلَّا كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ، بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ فَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ سُلَيْمَانُ: عَنْ يَحْيَى أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ بِهَذَا، وَعَنْ ابْنِ أَبِي عَتِيقٍ، وَمُوسَى، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ مِثْلَهُ. وَقَالَ

ص: 189

شُعَيْبٌ: عَنْ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَوْلَهُ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حُسَيْنٍ وَسَعِيدُ بْنُ زِيَادٍ: عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَوْلَهُ، وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ: حَدَّثَنِي صَفْوَانُ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: بَابُ بِطَانَةِ الْإِمَامِ وَأَهْلِ مَشُورَتِهِ) بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَفَتْحِ الرَّاءِ مَنْ يَسْتَشِيرُهُ فِي أُمُورِهِ.

قَوْلُهُ: الْبِطَانَةُ الدُّخَلَاءُ) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا} الْبِطَانَةُ: الدُّخَلَاءُ، وَالْخَبَالُ: الشَّرُّ انْتَهَى. وَالدُّخَلَاءُ بِضَمٍّ ثُمَّ فَتْحٍ جَمْعُ دَخِيلٍ: وَهُوَ الَّذِي يَدْخُلُ عَلَى الرَّئِيسِ فِي مَكَانِ خَلْوَتِهِ وَيُفْضِي إِلَيْهِ بِسِرِّهِ وَيُصَدِّقُهُ فِيمَا يُخْبِرُهُ بِهِ مِمَّا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ رَعِيَّتِهِ وَيَعْمَلُ بِمُقْتَضَاهُ، وَعَطْفُ أَهْلِ مَشُورَتِهِ عَلَى الْبِطَانَةِ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَقَدْ ذَكَرْتُ حُكْمَ الْمَشُورَةِ فِي بَابِ مَتَى يَسْتَوْجِبُ الرَّجُلُ الْقَضَاءَ وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْحَزْمُ؟ قَالَ: أَنْ تُشَاوِرَ ذَا لُبٍّ ثُمَّ تُطِيعُهُ. وَمِنْ رِوَايَةِ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ مِثْلُهُ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: ذَا رَأْيٍ قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: فَسَّرَ الْبُخَارِيُّ الْبِطَانَةَ: بِالدُّخَلَاءِ فَجَعَلَهُ جَمْعًا، انْتَهَى، وَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ وَلَا اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَةٍ) فِي رِوَايَةِ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ وَلَا بَعْدَهُ مِنْ خَلِيفَةٍ وَالرِّوَايَةُ الَّتِي فِي الْبَابِ تُفَسِّرُ الْمُرَادَ بِهَذَا، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِبَعْثِ الْخَلِيفَةِ اسْتِخْلَافُهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ، وَمُعَاوِيَةَ بْنِ سَلَّامٍ: مَا مِنْ وَالٍ وَهِيَ أَعَمُّ.

قَوْلُهُ: (بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ) فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ: بِالْخَيْرِ وَفِي رِوَايَةِ مُعَاوِيَةَ بْنِ سَلَّامٍ: بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَاهُ عَنِ الْمُنْكَرِ وَهِيَ تُفَسِّرُ الْمُرَادَ بِالْخَيْرِ.

قَوْلُهُ: وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَضَادٍ مُعْجَمَةٍ ثَقِيلَةٍ أَيْ تُرَغِّبُهُ فِيهِ وَتُؤَكِّدُهُ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ) فِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ وَبِطَانَةٌ لَا تَأْلُوهُ خَبَالًا وَقَدِ اسْتَشْكَلَ هَذَا التَّقْسِيمُ بِالنِّسْبَةِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ جَازَ عَقْلًا أَنْ يَكُونَ فِيمَنْ يُدَاخِلُهُ مَنْ يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الشَّرِّ لَكِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ أَنْ يَصْغي إِلَيْهِ، وَلَا يَعْمَلَ بِقَوْلِهِ لِوُجُودِ الْعِصْمَةِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ فِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ الْإِشَارَةُ إِلَى سَلَامَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ تَعَالَى فَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ مَنْ يُشِيرُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالشَّرِّ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْبِطَانَتَيْنِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ الْمَلَكُ وَالشَّيْطَانُ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: وَلَكِنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ. وَقَوْلُهُ: لَا تَأْلُوهُ خَبَالًا أَيْ: لَا تُقَصِّرْ فِي إِفْسَادِ أَمْرِهِ لِعَمَلِ مَصْلَحَتِهِمْ، وَهُوَ اقْتِبَاسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا} وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ، عَنْ أَشْهَبَ أَنَّهُ: يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يَتَّخِذَ مَنْ يَسْتَكْشِفُ لَهُ أَحْوَالَ النَّاسِ فِي السِّرِّ، وَلْيَكُنْ ثِقَةً مَأْمُونًا فَطِنًا عَاقِلًا لِأَنَّ الْمُصِيبَةَ إِنَّمَا تَدْخُلُ عَلَى الْحَاكِمِ الْمَأْمُونِ مِنْ قَبُولِهِ قَوْلَ مَنْ لَا يَوْثُقُ بِهِ إِذَا كَانَ هُوَ حَسَنُ الظَّنِّ بِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَثَبَّتَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: فَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ فِي رِوَايَةِ بَعْضِهِمْ: مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ بِزِيَادَةِ الضَّمِيرِ، وَهُوَ مُقَدَّرٌ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ، وَمُعَاوِيَةَ بْنِ سَلَّامٍ، وَمَنْ وُقِيَ شَرَّهَا فَقَدْ وُقِيَ وَهُوَ مِنَ الَّذِي غَلَبَ عَلَيْهِ مِنْهُمَا، وَفِي رِوَايَةِ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ فَمَنْ وُقِيَ بِطَانَةَ السُّوءِ فَقَدْ وُقِيَ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَالْمُرَادُ بِهِ إِثْبَاتُ الْأُمُورِ كُلِّهَا لِلَّهِ تَعَالَى: فَهُوَ الَّذِي يَعْصِمُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ فَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ لَا مَنْ عَصَمَتْهُ نَفْسُهُ إِذْ لَا يُوجَدُ مَنْ تَعْصِمُهُ نَفْسُهُ حَقِيقَةً إِلَّا إِنْ كَانَ اللَّهُ عَصَمَهُ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ثَمَّ قِسْمًا ثَالِثًا وَهُوَ: أَنَّ

ص: 190

مَنْ يَلِي أُمُورَ النَّاسِ قَدْ يَقْبَلُ مِنْ بِطَانَةِ الْخَيْرِ دُونَ بِطَانَةِ الشَّرِّ دَائِمًا، وَهَذَا اللَّائِقُ بِالنَّبِيِّ، وَمِنْ ثَمَّ عَبَّرَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ بِلَفْظَةِ: الْعِصْمَةُ وَقَدْ يَقْبَلُ مِنْ بِطَانَةِ الشَّرِّ دُونَ بِطَانَةِ الْخَيْرِ، وَهَذَا قَدْ يُوجَدُ وَلَا سِيَّمَا مِمَّنْ يَكُونُ كَافِرًا، وَقَدْ يَقْبَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ تَارَةً، وَمِنْ هَؤُلَاءِ تَارَةً، فَإِنْ كَانَ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ فَلَمْ يَعَترضْ لَهُ فِي الْحَدِيثِ لِوُضُوحِ الْحَالِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ عَلَيْهِ الْقَبُولَ مِنْ أَحَدِهِمَا فَهُوَ مُلْحَقٌ بِهِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَفِي مَعْنَى حَدِيثِ الْبَابِ حَدِيثُ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: مَنْ وَلِيَ مِنْكُمْ عَمَلًا فَأَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا جَعَلَ لَهُ وَزِيرًا صَالِحًا إِنْ نَسِيَ ذَكَّرَهُ، وَإِنْ ذَكَرَ أَعَانَهُ قَالَ ابْنُ التِّينِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْبِطَانَتَيْنِ الْوَزِيرَيْنِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَلَكَ وَالشَّيْطَانَ وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ

بِالْبِطَانَتَيْنِ النَّفْسَ الْأَمَّارَةَ بِالسُّوءِ وَالنَّفْسَ اللَّوَّامَةَ الْمُحَرِّضَةَ عَلَى الْخَيْرِ إِذْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا قُوَّةٌ مَلَكِيَّةٌ وَقُوَّةٌ حَيَوَانِيَّةٌ انْتَهَى. وَالْحَمْلُ عَلَى الْجَمِيعِ أَوْلَى إِلَّا أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ لَا يَكُونَ لِبَعْضِهِمْ إِلَّا الْبَعْضُ، وَقَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: الْبِطَانَةُ: الْأَوْلِيَاءُ وَالْأَصْفِيَاءُ وَهُوَ مَصْدَرٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الِاسْمِ يَصْدُقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ مُذَكَّرًا وَمُؤَنَّثًا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ سُلَيْمَانُ) هُوَ ابْنُ بِلَالٍ (عَنْ يَحْيَى) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ (أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ بِهَذَا) وَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ قَالَ: قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ قَالَ: فَذَكَرَ مِثْلَهُ.

قَوْلُهُ: وَعَنِ ابْنِ أَبِي عَتِيقٍ، وَمُوسَى، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ مِثْلَهُ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ. وَابْنُ أَبِي عَتِيقٍ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَمُوسَى هُوَ ابْنُ عُقْبَةَ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: رَوَى سُلَيْمَانُ عَنِ الثَّلَاثَةِ، لَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَرْوِيَّ فِي الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ هُوَ الْمَذْكُورُ بِعَيْنِهِ، وَفِي الثَّانِي هُوَ مِثْلُهُ. قُلْتُ: وَلَا يَظْهَرُ بَيْنَ هَذَيْنِ فَرْقٌ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ سر الْإِفْرَادَ أَنَّ سُلَيْمَانَ سَاقَ لَفْظَ يَحْيَى ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ رِوَايَةَ الْآخَرَيْنِ، وَأَحَالَ بِلَفْظِهِمَا عَلَيْهِ فَأَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ عَلَى وَفْقِهِ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ، وَمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ بِهِ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْمَخْزُومِيِّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ عَنْهُمَا بِهِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَخْزُومِيُّ ضَعِيفٌ جِدًّا كَذَّبَهُ مَالِكٌ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى أَنَّ الْمُسْتَخْرَجَ لَا يَطَّرِدُ كَوْنَ رِجَالِهِ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحِ.

قَوْلُهُ: وَقَالَ شُعَيْبٌ هُوَ ابْنُ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ إِلَخْ، وَقَوْلُهُ: قَوْلُهُ يَعْنِي إِنَّهُمْ يَرْفَعْهُ، بَلْ جَعَلَهُ مِنْ كَلَامِ أَبِي سَعِيدٍ، وَهُوَ بِالنَّصْبِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ مِنْ قَوْلِهِ وَرِوَايَةُ شُعَيْبٍ هَذِهِ الْمَوْقُوفَةُ وَصَلَهَا الذُّهْلِيُّ فِي جَمْعِهِ حَدِيثَ الزُّهْرِيِّ، وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: لَمْ تَقَعْ بِيَدِي. قُلْتُ: وَقَدْ رُوِّينَاهَا فِي فَوَائِدِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْجِكَّانِيِّ: بِكَسْرِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْكَاِفِ ثُمَّ نُونٍ، عَنْ أَبِي الْيَمَانِ مَرْفُوعَةً.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ، حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) يُرِيدُ أَنَّهُمَا خَالَفَا مَنْ تَقَدَّمَ فَجَعَلَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بَدَلَ أَبِي سَعِيدٍ وَخَالَفَا شُعَيْبًا أَيْضًا فِي وَقْفِهِ فَرَفَعَاهُ، فَأَمَّا رِوَايَةُ الْأَوْزَاعِيِّ فَوَصَلَهَا أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْهُ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ حَبِيبٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، فَقَالَ: عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَيَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

قُلْتُ: فَعَلَى هَذَا فَلَعَلَّ الْوَلِيدَ حَمَلَ رِوَايَةَ الزُّهْرِيِّ عَلَى رِوَايَةِ يَحْيَى، فَكَأَنَّهُ عِنْدَ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعِنْدَ الزُّهْرِيِّ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ فَلَعَلَّ الْأَوْزَاعِيَّ حَدَّثَ بِهِ مَجْمُوعًا فَظَنَّ الرَّاوِي عَنْهُ أَنَّهُ عِنْدَهُ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالطَّرِيقَيْنِ فَلَمَّا أَفْرَدَ أَحَدَ الطَّرِيقَيْنِ انْقَلَبَتْ عَلَيْهِ، لَكِنَّ رِوَايَةَ مَعْمَرٍ الَّتِي بَعْدَهَا قَدْ تَدْفَعُ هَذَا الِاحْتِمَالَ، وَيُقَرِّبُ أَنَّهُ عِنْدَ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْهُمَا جَمِيعًا، وَقَدْ قِيلَ: عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بَدَلَ أَبِي سَلَمَةَ أَخْرَجَهُ إِسْحَاقُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ الْفَضْلِ بْنِ يُونُسَ،

ص: 191

عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، وَالْفَضْلُ صَدُوقٌ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: لَمَّا ذَكَرَهُ فِي الثِّقَاتِ رُبَّمَا أَخْطَأَ فَكَانَ هَذَا مِنْ ذَاكَ، وَأَمَّا رِوَايَةُ مُعَاوِيَةَ بْنِ سَلَّامٍ، وَهُوَ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ فَوَصَلَهَا النَّسَائِيُّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ - بِالتَّشْدِيدِ أَيْضًا - ابْنِ يَعْمُرَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ فَذَكَرَهُ.

قَوْلُهُ: وَقَالَ ابْنُ أَبِي حُسَيْنٍ، وَسَعِيدُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَوْلَهُ) أَيْ: وَقَفَاهُ أَيْضًا، وَابْنُ أَبِي حُسَيْنٍ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ النَّوْفَلِيُّ الْمَكِّيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ زِيَادٍ هُوَ الْأَنْصَارِيُّ الْمَدَنِيُّ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ، رَوَى عَنْ جَابِرٍ وَحَدِيثُهُ عَنْهُ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَمَا لَهُ رَاوٍ إِلَّا سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ، وَقَدْ قَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ مَجْهُولٌ، وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ ذِكْرٌ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ: حَدَّثَنِي صَفْوَانُ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ) أَمَّا عُبَيْدُ اللَّهِ فَهُوَ الْمِصْرِيُّ، وَاسْمُ أَبِي جَعْفَرٍ يَسَارٌ بِتَحْتَانِيَّةٍ وَمُهْمَلَةٍ خَفِيفَةٍ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ، وَقَدْ وَصَلَ هَذِهِ الطَّرِيقَ النَّسَائِيُّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ، مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ ; حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ، هُوَ الْمَدَنِيُّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ فَذَكَرَهُ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: مُحَصَّلُ مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ أَنَّ الْحَدِيثَ مَرْفُوعٌ مِنْ رِوَايَةِ ثَلَاثَةِ أَنْفُسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ إِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ صُورَةِ الْوَاقِعَةِ، وَأَمَّا عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَدِّثِينَ فَهُوَ حَدِيثٌ وَاحِدٌ، وَاخْتُلِفَ عَلَى التَّابِعِيِّ فِي صَحَابِيِّهِ فَأَمَّا صَفْوَانُ فَجَزَمَ بِأَنَّهُ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، وَأَمَّا الزُّهْرِيُّ فَاخْتُلِفَ عَلَيْهِ هَلْ هُوَ أَبُو سَعِيدٍ أَوْ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي وَقْفِهِ وَرَفْعِهِ فَلَا تَأْثِيرَ لَهُ؛ لِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الِاجْتِهَادِ، فَالرِّوَايَةُ الْمَوْقُوفَةُ لَفْظًا مَرْفُوعَةٌ حُكْمًا، وَيُرَجَّحُ كَوْنَهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مُوَافَقَةُ ابْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، وَسَعِيدِ بْنِ زِيَادٍ لِمَنْ قَالَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ.

وَإِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا الزُّهْرِيُّ، وَصَفْوَانُ، فَالزُّهْرِيُّ أَحْفَظُ مِنْ صَفْوَانَ بِدَرَجَاتٍ، فَمِنْ ثَمَّ يَظْهَرُ قُوَّةُ نَظَرِ الْبُخَارِيِّ فِي إِشَارَتِهِ إِلَى تَرْجِيحِ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ فَلِذَلِكَ سَاقَهَا مَوْصُولَةً وَأَوْرَدَ الْبَقِيَّةَ بِصِيَغِ التَّعْلِيقِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْخِلَافَ الْمَذْكُورَ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ، إِمَّا عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي بَيَّنْتُهَا مِنَ التَّرْجِيحِ، وَإِمَّا عَلَى تَجْوِيزِ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ عِنْدَ أَبِي سَلَمَةَ عَلَى الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَطَرِيقُ أَبِي سَعِيدٍ أَرْجَحُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَوَجَدْتُ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ لِلْبُخَارِيِّ مَا يَتَرَجَّحُ بِهِ رِوَايَةُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَإِنَّهُ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ كَذَلِكَ فِي آخِرِ حَدِيثٍ طَوِيلٍ

‌43 - بَاب كَيْفَ يُبَايِعُ الْإِمَامُ النَّاسَ

7199 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَادَةُ بْنُ الْوَلِيدِ، أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ.

7200 -

وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُومَ أَوْ نَقُولَ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا ولَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ.

7201 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قال: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي غَدَاةٍ بَارِدَةٍ وَالْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ فَقَالَ:

اللَّهُمَّ إِنَّ الْخَيْرَ خَيْرُ الْآخِرَهْ

فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ

فَأَجَابُوا

ص: 192

نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا

عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا.

7202 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كُنَّا إِذَا بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ يَقُولُ لَنَا: فِيمَا اسْتَطَعْتُمْ.

7203 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، قَالَ: شَهِدْتُ ابْنَ عُمَرَ حَيْثُ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ: كَتَبَ إِنِّي أُقِرُّ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِعَبْدِ اللَّهِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ مَا اسْتَطَعْتُ، وَإِنَّ بَنِيَّ قَدْ أَقَرُّوا بِمِثْلِ ذَلِكَ.

[الحديث 7203 - طرفاه في: 7205، 7272]

7204 -

حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا سَيَّارٌ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: بَايَعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فَلَقَّنَنِي فِيمَا اسْتَطَعْتُ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ.

7205 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، قَالَ: لَمَّا بَايَعَ النَّاسُ عَبْدَ الْمَلِكِ كَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: إِلَى عَبْدِ اللَّهِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِنِّي أُقِرُّ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِعَبْدِ اللَّهِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ فِيمَا اسْتَطَعْتُ، وَإِنَّ بَنِيَّ قَدْ أَقَرُّوا بِذَلِكَ.

7206 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا حَاتِمٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ "قُلْتُ لِسَلَمَةَ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ بَايَعْتُمْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ قَالَ عَلَى الْمَوْتِ"

7207 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَهُ أَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ الرَّهْطَ الَّذِينَ وَلَاهُمْ عُمَرُ اجْتَمَعُوا فَتَشَاوَرُوا فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ لَسْتُ بِالَّذِي أُنَافِسُكُمْ عَلَى هَذَا الأَمْرِ وَلَكِنَّكُمْ إِنْ شِئْتُمْ اخْتَرْتُ لَكُمْ مِنْكُمْ فَجَعَلُوا ذَلِكَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَلَمَّا وَلَّوْا عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَمْرَهُمْ فَمَالَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَتَّى مَا أَرَى أَحَدًا مِنْ النَّاسِ يَتْبَعُ أُولَئِكَ الرَّهْطَ وَلَا يَطَأُ عَقِبَهُ وَمَالَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ يُشَاوِرُونَهُ تِلْكَ اللَّيَالِي حَتَّى إِذَا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَصْبَحْنَا مِنْهَا فَبَايَعْنَا عُثْمَانَ قَالَ الْمِسْوَرُ طَرَقَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بَعْدَ هَجْعٍ مِنْ اللَّيْلِ فَضَرَبَ الْبَابَ حَتَّى اسْتَيْقَظْتُ فَقَالَ أَرَاكَ نَائِمًا فَوَاللَّهِ مَا اكْتَحَلْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ بِكَبِيرِ نَوْمٍ انْطَلِقْ فَادْعُ الزُّبَيْرَ وَسَعْدًا فَدَعَوْتُهُمَا لَهُ فَشَاوَرَهُمَا ثُمَّ دَعَانِي فَقَالَ ادْعُ لِي عَلِيًّا فَدَعَوْتُهُ فَنَاجَاهُ حَتَّى ابْهَارَّ اللَّيْلُ ثُمَّ قَامَ عَلِيٌّ مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ عَلَى طَمَعٍ وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَخْشَى مِنْ عَلِيٍّ شَيْئًا ثُمَّ قَالَ ادْعُ لِي عُثْمَانَ فَدَعَوْتُهُ فَنَاجَاهُ حَتَّى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا

ص: 193

الْمُؤَذِّنُ بِالصُّبْحِ فَلَمَّا صَلَّى لِلنَّاسِ الصُّبْحَ وَاجْتَمَعَ أُولَئِكَ الرَّهْطُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ فَأَرْسَلَ إِلَى مَنْ كَانَ حَاضِرًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَأَرْسَلَ إِلَى أُمَرَاءِ الأَجْنَادِ وَكَانُوا وَافَوْا تِلْكَ الْحَجَّةَ مَعَ عُمَرَ فَلَمَّا اجْتَمَعُوا تَشَهَّدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ يَا عَلِيُّ إِنِّي قَدْ نَظَرْتُ فِي أَمْرِ النَّاسِ فَلَمْ أَرَهُمْ يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ فَلَا تَجْعَلَنَّ عَلَى نَفْسِكَ سَبِيلًا فَقَالَ أُبَايِعُكَ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ فَبَايَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَبَايَعَهُ النَّاسُ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ وَأُمَرَاءُ الأَجْنَادِ وَالْمُسْلِمُونَ

: قَوْلُهُ (بَابُ كَيْفَ يُبَايِعُ الْإِمَامُ النَّاسَ) الْمُرَادُ بِالْكَيْفِيَّةِ: الصِّيَغُ الْقَوْلِيَّةُ لَا الْفِعْلِيَّةُ، بِدَلِيلِ مَا ذَكَرَهُ فِيهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ السِّتَّةِ وَهِيَ الْبَيْعَةُ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَعَلَى الْهِجْرَةِ، وَعَلَى الْجِهَادِ، وَعَلَى الصَّبْرِ، وَعَلَى عَدَمِ الْفِرَارِ، وَلَوْ وَقَعَ الْمَوْتُ، وَعَلَى بَيْعَةِ النِّسَاءِ، وَعَلَى الْإِسْلَامِ وَكُلُّ ذَلِكَ وَقَعَ عِنْدَ الْبَيْعَةِ بَيْنَهُمْ فِيهِ بِالْقَوْلِ.

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ الْحَدِيثَ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْفِتَنِ مُسْتَوْفًى.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ أَنَسٍ وَالْمُرَادُ مِنْهُ قَوْلُهُ:

نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدًا

عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدًا

وَقَدْ تَقَدَّمَ بِأَتَمَّ مِمَّا هُنَا مَشْرُوحًا فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي الْبَيْعَةِ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَفِيهِ يَقُولُ لَنَا: فِيمَا اسْتَطَعْتُمْ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ: فِيمَا اسْتَطَعْتُ بِالْإِفْرَادِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي فِي الْمُوَطَّأِ وَهُوَ يُقَيِّدُ مَا أُطْلِقَ فِي الْحَدِيثَيْنِ قَبْلَهُ وَكَذَلِكَ حَدِيثُ جَرِيرٍ وَهُوَ الرَّابِعُ، وَسَيَّارٌ فِي السَّنَدِ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ هُوَ ابْنُ وَرْدَانَ، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَذَكَرَ لَهُ طَرِيقًا قَبْلَ حَدِيثِ جَرِيرٍ وَآخَرَ بَعْدَهُ وَفِيهِمَا مَعًا: أُقِرُّ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ مَا اسْتَطَعْتُ وَهُوَ مُنْتَزَعٌ مِنْ حَدِيثِهِ الْأَوَّلِ، فَالثَّلَاثَةُ فِي حُكْمِ حَدِيثٍ وَاحِدٍ، وَقَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ مُسَدَّدٍ، عَنْ يَحْيَى هُوَ الْقَطَّانُ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: إِنِّي أُقِرُّ إِلَخْ بَيَّنَ فِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ: وَإِنَّ بَنِيَّ قَدْ أَقَرُّوا بِمِثْلِ ذَلِكَ فَهُوَ إِخْبَارٌ مِنَ ابْنِ عُمَرَ عَنْ بَنِيهِ بِأَنَّهُ سَبَقَ مِنْهُمُ الْإِقْرَارُ الْمَذْكُورُ بِحَضْرَتِهِ ; كَتَبَ بِهِ ابْنُ عُمَرَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ وَقَوْلُهُ: قَدْ أَقَرُّوا بِمِثْلِ ذَلِكَ زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ بُنْدَارٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، كِلَاهُمَا عَنْ سُفْيَانَ فِي آخِرِهِ وَالسَّلَامُ وَقَوْلُهُ: فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ كَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إِلَى عَبْد اللَّهِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِنِّي أُقِرُّ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ إِلَخْ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سُفْيَانَ بِلَفْظِ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ يَكْتُبُ، وَكَانَ إِذَا كَتَبَ يَكْتُبُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

أَمَّا بَعْدُ ; فَإِنِّي أُقِرُّ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِعَبْدِ اللَّهِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَقَالَ فِي آخِرِهِ أَيْضًا: وَالسَّلَامُ قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: قَالَ أَوَّلًا إِلَيْهِ وَثَانِيًا إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ ثُمَّ بِالْعَكْسِ وَلَيْسَ تَكْرَارًا، وَالثَّانِي: هُوَ الْمَكْتُوبُ لَا الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ أَيْ كَتَبَ هَذَا، وَهُوَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، وَتَقْدِيرُهُ: مِنَ ابْنِ عُمَرَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ وَقَوْلُهُ: حَيْثُ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يُرِيدُ ابْنَ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَالْمُرَادُ بِالِاجْتِمَاعِ اجْتِمَاعُ الْكَلِمَةِ وَكَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ مُفَرَّقَةً، وَكَانَ فِي الْأَرْضِ قَبْلَ ذَلِكَ اثْنَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا يُدَّعَى لَهُ بِالْخِلَافَةِ، وَهُمَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَأَمَّا ابْنُ الزُّبَيْرِ فَكَانَ أَقَامَ بِمَكَّةَ وَعَاذَ بِالْبَيْتِ بَعْدَ مَوْتِ مُعَاوِيَةَ، وَامْتَنَعَ مِنَ الْمُبَايَعَةِ لِيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَجَهَّزَ إِلَيْهِ يَزِيدُ الْجُيُوشَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى فَمَاتَ يَزِيدُ وَجُيُوشُهُ مُحَاصِرُونَ ابْنَ الزُّبَيْرِ، وَلَمْ يَكُنِ ابْنُ الزُّبَيْرِ ادَّعَى الْخِلَافَةَ حَتَّى

ص: 194

مَاتَ يَزِيدُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، فَبَايَعَهُ النَّاسُ بِالْخِلَافَةِ بِالْحِجَازِ، وَبَايَعَ أَهْلُ الْآفَاقِ لِمُعَاوِيَةَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَلَمْ يَعِشْ إِلَّا نَحْوَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَمَاتَ، فَبَايَعَ مُعْظَمُ الْآفَاقِ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَانْتَظَمَ لَهُ مُلْكُ الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ، وَمِصْرَ، وَالْعِرَاقِ، وَالْمَشْرِقِ كُلِّهِ وَجَمِيعِ بِلَادِ الشَّامِ حَتَّى دِمَشْقَ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْ بَيْعَتِهِ إِلَّا جَمِيعُ بَنِي أُمَيَّةَ، وَمَنْ يَهْوَى هَوَاهُمْ وَكَانُوا بِفِلَسْطِينَ، فَاجْتَمَعُوا عَلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ فَبَايَعُوهُ بِالْخِلَافَةِ، وَخَرَجَ بِمَنْ أَطَاعَهُ إِلَى جِهَةِ دِمَشْقَ

وَالضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ قَدْ بَايَعَ فِيهَا لِابْنِ الزُّبَيْرِ، فَاقْتَتَلُوا: بِمَرْجِ رَاهِطٍ فَقُتِلَ الضَّحَّاكُ وَذَلِكَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا، وَغَلَبَ مَرْوَانُ عَلَى الشَّامِ، ثُمَّ لَمَّا انْتَظَمَ لَهُ مُلْكُ الشَّامِ كُلُّهُ تَوَجَّهَ إِلَى مِصْرَ فَحَاصَرَ بِهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ جَحْدَرٍ عَامِلَ ابْنِ الزُّبَيْرِ حَتَّى غَلَبَ عَلَيْهَا فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ ثُمَّ مَاتَ فِي سَنَتِهِ، فَكَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِهِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ ; وَعَهِدَ إِلَى ابْنِهِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فَقَامَ مَقَامَهُ وَكَمُلَ لَهُ مُلْكُ الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْمَغْرِبِ، وَلِابْنِ الزُّبَيْرِ مُلْكُ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَالْمَشْرِقِ إِلَّا أَنَّ الْمُخْتَارَ بْنَ أَبِي عُبَيْدٍ، غَلَبَ عَلَى الْكُوفَةِ، وَكَانَ يَدْعُو إِلَى الْمَهْدِيِّ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ فَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ نَحْوَ السَّنَتَيْنِ، ثُمَّ سَارَ إِلَيْهِ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ لِأَخِيهِ فَحَاصَرَهُ حَتَّى قُتِلَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ، وَانْتَظَمَ أَمْرُ الْعِرَاقِ كُلُّهُ لِابْنِ الزُّبَيْرِ فَدَامَ ذَلِكَ إِلَى سَنَةِ إِحْدَى وَسَبْعِينَ، فَسَارَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى مُصْعَبٍ فَقَاتَلَهُ حَتَّى قَتَلَهُ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْهَا وَمَلَكَ الْعِرَاقَ كُلَّهُ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ إِلَّا الْحِجَازُ وَالْيَمَنُ فَقَطْ، فَجَهَّزَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ، الْحَجَّاجَ فَحَاصَرَهُ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ إِلَى أَنْ قُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ امْتَنَعَ أَنْ يُبَايِعَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ أَوْ لِعَبْدِ الْمَلِكِ كَمَا كَانَ امْتَنَعَ أَنْ يُبَايِعَ لِعَلِيٍّ أَوْ مُعَاوِيَةَ، ثُمَّ بَايَعَ لِمُعَاوِيَةَ لَمَّا اصْطَلَحَ مَعَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ، وَبَايَعَ لِابْنِهِ يَزِيدَ بَعْدَ مَوْتِ مُعَاوِيَةَ لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ عَلَيْهِ، ثُمَّ امْتَنَعَ مِنَ الْمُبَايَعَةِ لِأَحَدٍ حَالَ الِاخْتِلَافِ إِلَى أَنْ قُتِلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَانْتَظَمَ الْمُلْكُ كُلُّهُ لِعَبْدِ الْمَلِكِ فَبَايَعَ لَهُ حِينَئِذٍ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: لَمَّا اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ.

وَأَخْرَجَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ فِي تَارِيخِهِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ حَرْبٍ الْعَبْدِيِّ قَالَ: بَعَثُوا إِلَى ابْنِ عُمَرَ لَمَّا بُويِعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَمَدَّ يَدَهُ وَهِيَ تَرْعُدُ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا كُنْتُ لِأُعْطِي بَيْعَتِي فِي فُرْقَةٍ، وَلَا أَمْنَعُهَا مِنْ جَمَاعَةٍ ثُمَّ لَمْ يَلْبَثِ ابْنُ عُمَرَ أَنْ تُوُفِّيَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ بِمَكَّةَ، وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ وَصَّى الْحَجَّاجَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ فِي مَنَاسِكِ الْحَجِّ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْحَجِّ فَدَسَّ الْحَجَّاجُ عَلَيْهِ الْحَرْبَةَ الْمَسْمُومَةَ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْعِيدَيْنِ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ مَوْتِهِ رضي الله عنه.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: حَدِيثُ سَلَمَةَ فِي الْمُبَايَعَةِ عَلَى الْمَوْتِ ذَكَرَهُ مُخْتَصَرًا وَقَدْ تَقَدَّمَ بِتَمَامِهِ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ فِي بَابِ الْبَيْعَةِ عَلَى الْحَرْبِ أَنْ لَا يَفِرُّوا.

فَلَمْ أَرَهُمْ يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ فَلَا تَجْعَلَنَّ عَلَى نَفْسِكَ سَبِيلًا، فَقَالَ: أُبَايِعُكَ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ وَسنة رَسُولِهِ وَالْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ، فَبَايَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَبَايَعَهُ النَّاسُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، وَأُمَرَاءُ الْأَجْنَادِ، وَالْمُسْلِمُونَ.

الْحَدِيثُ السَّادِسُ: قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ بِالْجِيمِ مُصَغَّرُ جَارِيَةٍ هُوَ ابْنُ أَسْمَاءَ الضُّبَعِيُّ، وَهُوَ عَمُّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ الرَّاوِي عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ الرَّهْطَ الَّذِينَ وَلَّاهُمْ عُمَرُ) أَيْ عَيَّنَهُمْ فَجَعَلَ الْخِلَافَةَ شُورَى بَيْنَهُمْ أَيْ وَلَّاهُمُ التَّشَاوُرَ فِيمَنْ يُعْقَدُ لَهُ الْخِلَافَةُ مِنْهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ مُفَصَّلًا فِي مَنَاقِبِ عُثْمَانَ فِي الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ الَّذِي أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيِّ أَحَدِ كِبَارِ التَّابِعِينَ فِي ذِكْرِ قَتْلِ عُمَرَ، وَقَوْلُهُمْ لِعُمَرَ - لَمَّا طَعَنَهُ أَبُو لُؤْلُؤَةَ - اسْتَخْلِفْ فَقَالَ: مَا أَحَدٌ أَحَقُّ بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْ هَؤُلَاءِ الرَّهْطِ فَسَمَّى: عَلِيًّا، وَعُثْمَانَ، وَالزُّبَيْرَ، وَطَلْحَةَ، وَسَعْدًا، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ وَفِيهِ: فَلَمَّا فُرِغَ مِنْ دَفْنِهِ اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ الرَّهْطُ وَأَوْرَدَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ جُوَيْرِيَةَ مُطَوَّلًا وَأَوَّلُهُ عِنْدَهُ: لَمَّا طُعِنَ عُمَرُ قِيلَ لَهُ: اسْتَخْلِفْ قَالَ، وَقَدْ رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِهِمْ مَا رَأَيْتُ - إِلَى أَنْ قَالَ - هَذَا الْأَمْرُ بَيْنَ سِتَّةِ رَهْطٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَذَكَرَهُمْ وَبَدَأَ بِعُثْمَانَ ثُمَّ قَالَ: وَعَلِيٌّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرُ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَانْتَظِرُوا أَخَاكُمْ

ص: 195

طَلْحَةَ ثَلَاثًا، فَإِنْ قَدِمَ فِيهِمْ فَهُوَ شَرِيكُهُمْ فِي الْأَمْرِ.

وَقَالَ: إِنَّ النَّاسَ لَنْ يَعْدُوكُمْ أَيُّهَا الثَّلَاثَةُ، فَإِنْ كُنْتَ يَا عُثْمَانُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ فَاتَّقِ اللَّهَ، وَلَا تَحْمِلَنَّ بَنِي أُمَيَّةَ، وَبَنِي أَبِي مُعَيْطٍ عَلَى رِقَابِ النَّاسِ، وَإِنْ كُنْتَ يَا عَلِيُّ فَاتَّقِ اللَّهَ، وَلَا تَحْمِلَنَّ بَنِي هَاشِمٍ عَلَى رِقَابِ النَّاسِ، وَإِنْ كُنْتَ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَاتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَحْمِلَنَّ أَقَارِبَكَ عَلَى رِقَابِ النَّاسِ، قَالَ: وَيَتَّبِعُ الْأَقَلُّ الْأَكْثَرَ، وَمَنْ تَأَمَّرَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤَمَّرَ فَاقْتُلُوهُ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: أَغْرَبَ سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ، عَنْ جُوَيْرِيَةَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ، وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ، عَنْ عَمِّهِ فَلَمْ يَذْكُرْهَا، يُشِيرُ إِلَى رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، قَالَ: وَتَابَعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدٍ إِبْرَاهِيمُ ابْنُ طَهْمَانَ، وَسَعِيدُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَحَبِيبٌ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ مَالِكٍ. قُلْتُ: وَسَاقَ الثَّلَاثَةَ لَكِنَّ رِوَايَةَ حَبِيبٍ مُخْتَصَرَةٌ وَالْأخَريينَ مُوَافِقَتَانِ لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: دَخَلَ الرَّهْطُ عَلَى عُمَرَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ بِهِ، فَسَمَّى السِّتَّةَ. فَذَكَرَ قِصَّةً، إِلَى أَنْ قَالَ: فَإِنَّمَا الْأَمْرُ إِلَى سِتَّةٍ: إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَالزُّبَيْرِ، وَطَلْحَةَ، وَسَعْدٍ وَكَانَ طَلْحَةُ غَائِبًا فِي أَمْوَالِهِ بِالسَّرَاةِ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَرَاءٍ خَفِيفَةٍ، بِلَادٌ مَعْرُوفَةٌ بَيْنَ الْحِجَازِ وَالشَّامِ، فَبَدَأَ فِي هَذِهِ بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ قَبْلَ الْجَمِيعِ وَبِعُثْمَانَ قَبْلَ عَلِيٍّ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ فِي السِّيَاقِ الْأَوَّلِ لَمْ يَقْصِدِ التَّرْتِيبَ.

قَوْلُهُ: فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ إِلَخْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي مَنَاقِبِ عُثْمَانَ بِأَتَمَّ مِنْ سِيَاقِهِ، وَفِيهِ: مَا يَدُلُّ عَلَى حُضُورِ طَلْحَةَ، وَأَنَّ سَعْدًا جَعَلَ أَمْرَهُ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالزُّبَيْرَ إِلَى عَلِيٍّ، وَطَلْحَةَ إِلَى عُثْمَانَ، وَفِيهِ: قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَيُّكُمْ يَبْرَأُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ وَيَكُونُ لَهُ الِاخْتِيَارُ فِيمَنْ بَقِيَ. فَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ فَتُرْوَى بَعْدَ ذَلِكَ فِي عُثْمَانَ أَوْ عَلِيٍّ، وَقَوْلُهُ: أُنَافِسُكُمْ بِالنُّونِ وَالْفَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ أُنَازِعُكُمْ فِيهِ، إِذْ لَيْسَ لِي فِي الِاسْتِقْلَالِ فِي الْخِلَافَةِ رَغْبَةٌ، وَقَوْلُهُ: عَنْ هَذَا الْأَمْرِ أَيْ مِنْ جِهَتِهِ وَلِأَجْلِهِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: عَلَى، بَدَلَ عَنْ وَهِيَ أَوْجَهٌ.

قَوْلُهُ: فَلَمَّا وَلَّوْا عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَمْرَهُمْ يَعْنِي أَمْرَ الِاخْتِيَارِ مِنْهُمْ.

قَوْلُهُ: (فَمَالَ النَّاسُ) فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ عَامِرٍ فَانْثَالَ النَّاسُ، وَهِيَ بِنُونٍ وَمُثَلَّثَةٍ أَيْ قَصَدُوهُ كُلُّهُمْ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَأَصْلُ النَّثْلِ الصَّبُّ يُقَالُ: نَثَلَ كِنَانَتَهُ أَيْ صَبَّ مَا فِيهَا مِنَ السِّهَامِ.

قَوْلُهُ: وَلَا يَطَأُ عَقِبَهُ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَكَسْرِ الْقَافِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ أَيْ: يَمْشِي خَلْفَهُ وَهِيَ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِعْرَاضِ.

قَوْلُهُ: (وَمَالَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ) أَعَادَهَا لِبَيَانِ سَبَبِ الْمَيْلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: يُشَاوِرُونَهُ تِلْكَ اللَّيَالِيَ زَادَ الزُّبَيْدِيُّ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ يُشَاوِرُونَهُ وَيُنَاجُونَهُ تِلْكَ اللَّيَالِيَ، لَا يَخْلُو بِهِ رَجُلٌ ذُو رَأْيٍ فَيَعْدِلَ بِعُثْمَانَ أَحَدًا.

قَوْلُهُ: (بَعْدَ هَجْعٍ) بِفَتْحِ الْهَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ بَعْدَهَا عَيْنٌ مُهْمَلَةٌ أَيْ: بَعْدَ طَائِفَةٍ مِنَ اللَّيْلِ يُقَالُ: لَقِيتُهُ بَعْدَ هَجْعٍ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَقُولُ بَعْدَ هَجْعَةٍ، وَالْهَجْعُ وَالْهَجْعَةُ وَالْهَجِيعُ وَالْهُجُوعُ بِمَعْنًى، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي: التَّارِيخِ الصَّغِيرِ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ: بَعْدَ هَجِيعٍ بِوَزْنِ عَظِيمٍ.

قَوْلُهُ: (فَوَاللَّهِ مَا اكْتَحَلْتُ هَذِهِ الثَّلَاثَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَلِلْمُسْتَمْلِي اللَّيْلَةَ وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ عَامِرٍ: وَاللَّهِ مَا حَمَلْتُ فِيهَا غَمْضًا مُنْذُ ثَلَاثٍ وَفِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: فِي هَذِهِ اللَّيَالِيَ وَقَوْلُهُ: بِكَثِيرِ نَوْمٍ بِالْمُثَلَّثَةِ وَبِالْمُوَحَّدَةِ أَيْضًا، وَهُوَ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْعِبِ اللَّيْلَ سَهَرًا بَلْ نَامَ لَكِنْ يَسِيرًا مِنْهُ وَالِاكْتِحَالُ كِنَايَةٌ عَنْ دُخُولِ النَّوْمِ جَفْنَ الْعَيْنِ كَمَا يَدْخُلُهَا الْكُحْلُ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ: مَا ذَاقَتْ عَيْنَاي كَثِيرَ النَّوْمِ.

قَوْلُهُ: (فَادْعُ الزُّبَيْرَ، وَسَعْدًا، فَدَعَوْتُهُمَا لَهُ فَشَاوَرَهُمَا) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي: فَسَارَّهُمَا بِمُهْمَلَةٍ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، وَلَمْ أَرَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ لِطَلْحَةَ ذِكْرًا فَلَعَلَّهُ كَانَ شَاوَرَهُ قَبْلَهُمَا.

قَوْلُهُ: (حَتَّى ابْهَارَّ اللَّيْلُ) بِالْمُوَحَّدَةِ سَاكِنَةٌ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَمَعْنَاهُ انْتَصَفَ وَبَهْرَةُ كُلِّ شَيْءٍ وَسَطُهُ، وَقِيلَ: مُعْظَمُهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ زَادَ سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَتِهِ: فَجَعَلَ يُنَاجِيهِ تَرْتَفِعُ أَصْوَاتُهُمَا أَحْيَانًا فَلَا يَخْفَى عَلَيَّ

ص: 196

شَيْءٌ مِمَّا يَقُولَانِ وَيُخْفِيَانِ أَحْيَانًا.

قَوْلُهُ: ثُمَّ قَامَ عَلِيٌّ مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ عَلَى طَمَعٍ أَيْ: أَنْ يُوَلِّيَهُ، وَقَوْلُهُ: وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَخْشَى مِنْ عَلِيٍّ شَيْئًا قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ: أَظُنُّهُ أَشَارَ إِلَى الدَّعَايَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي عَلِيٍّ أَوْ نَحْوِهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ خَافَ مِنْ عَلِيٍّ عَلَى نَفْسِهِ. قُلْتُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ خَافَ إِنْ بَايَعَ لِغَيْرِهِ أَنْ لَا يُطَاوِعَهُ، وَإِلَى ذَلِكَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ فِيمَا بَعْدُ: فَلَا تَجْعَلْ عَلَى نَفْسِكَ سَبِيلًا وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ عَامِرٍ فَأَصْبَحْنَا وَمَا أَرَاهُ يُبَايَعُ إِلَّا لِعَلِيٍّ يَعْنِي مِمَّا ظَهَرَ لَهُ مِنْ قَرَائِنِ تَقْدِيمِهِ.

قَوْلُهُ: ثُمَّ قَالَ ادْعُ لِي عُثْمَانَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ تَكَلَّمَ مَعَ عَلِيٍّ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ قَبْلَ عُثْمَانَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ عَامِرٍ عَكْسُ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ قَالَ لَهُ أَوَّلًا: اذْهَبْ فَادْعُ عُثْمَانَ وَفِيهِ: فَخَلَا بِهِ وَفِيهِ: لَا أَفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِمَا شَيْئًا فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَهْمًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَكَرَّرَ مِنْهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ فَمَرَّةً بَدَأَ بِهَذِهِ وَمَرَّةً بَدَأَ بِهَذَا.

قَوْلُهُ: (وَأَرْسَلَ إِلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ وَكَانُوا وَافَوْا تِلْكَ الْحَجَّةَ مَعَ عُمَرَ) أَيْ قَدِمُوا إِلَى مَكَّةَ فَحَجُّوا مَعَ عُمَرَ وَرَافَقُوهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَهُمْ مُعَاوِيَةُ أَمِيرُ الشَّامِ، وَعُمَيْرُ بْنُ سَعِدٍ أَمِيرُ حِمْصٍ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَمِيرُ الْكُوفَةِ، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ أَمِيرُ مِصْرَ.

قَوْلُهُ: فَلَمَّا اجْتَمَعُوا تَشَهَّدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَفِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ جَلَسَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَى الْمِنْبَرِ وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ عَامِرٍ: فَلَمَّا صَلَّى صُهَيْبٌ بِالنَّاسِ صَلَاةَ الصُّبْحِ، جَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَتَخَطَّى حَتَّى صَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَجَاءَهُ رَسُولُ سَعْدٍ يَقُولُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: ارْفَعْ رَأْسَكَ وَانْظُرْ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ وَبَايِعْ لِنَفْسِكَ.

قَوْلُهُ: أَمَّا بَعْدُ زَادَ سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ: فَأَعْلَنَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ، يَا عَلِيُّ إِنِّي نَظَرْتُ فِي أَمْرِ النَّاسِ فَلَمْ أَرَهُمْ يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ أَيْ لَا يَجْعَلُونَ لَهُ مُسَاوِيًا بَلْ يُرَجِّحُونَهُ.

قَوْلُهُ: (فَلَا تَجْعَلَنَّ عَلَى نَفْسِكَ سَبِيلًا) أَيْ مِنَ الْمَلَامَةِ إِذَا لَمْ تُوَافِقِ الْجَمَاعَةَ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَمْ يَتَرَدَّدْ عِنْدَ الْبَيْعَةِ فِي عُثْمَانَ، لَكِنْ قَدْ تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ: بَدَأَ بِعَلِيٍّ فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَقَالَ: لَكَ قَرَابَةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْقِدَمُ فِي الْإِسْلَامِ مَا قَدْ عَلِمْتَ، وَاللَّهِ عَلَيْكَ لَئِنْ أَمَّرْتُكَ لَتَعْدِلَنَّ، وَلَئِنْ أَمَّرْتُ عُثْمَانَ لَتَسْمَعَنَّ وَلَتُطِيعَنَّ، ثُمَّ خَلَا بِالْآخَرِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا أَخَذَ الْمِيثَاقَ قَالَ: ارْفَعْ يَدَكَ يَا عُثْمَانُ فَبَايَعَهُ وَبَايَعَ لَهُ عَلِيٌّ وَطَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَنَّ عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ حَفِظَ مَا لَمْ يَحْفَظْهُ الْآخَرُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ حَفِظَهُ لَكِنْ طَوَى بَعْضُ الرُّوَاةِ ذِكْرَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَقَعَ فِي اللَّيْلِ لَمَّا تَكَلَّمَ مَعَهُمَا وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ، فَأَخَذَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ عَرَضَ عَلَى عَلِيٍّ فَلَمْ يُوَافِقْهُ عَلَى بَعْضِ الشُّرُوطِ، وَعَرَضَ عَلَى عُثْمَانَ فَقَبِلَ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ كَيْفَ بَايَعْتُمْ عُثْمَانَ وَتَرَكْتُمْ عَلِيًّا فَقَالَ: مَا ذَنْبِي بَدَأْتُ بِعَلِيٍّ فَقُلْتُ لَهُ: أُبَايِعُكَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَسِيرَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، فَقَالَ فِيمَا اسْتَطَعْتُ وَعَرَضْتُهَا عَلَى عُثْمَانَ فَقَبِلَ أَخْرَجَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زِيَادَاتِ الْمُسْنَدِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ وَكِيعٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْهُ، وَسُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ ضَعِيفٌ.

وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ زَائِدَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ، لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: مَا لَكَ جَفَوْتَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَعْنِي عُثْمَانَ فَذَكَرَ قِصَّةً، وَفِيهَا: قَوْلُ عُثْمَانَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: سِيرَةُ عُمَرَ فَإِنِّي لَا أُطِيقُهَا وَلَا هُوَ، وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ بَايَعَهُ عَلَى أَنْ يَسِيرَ سِيرَةَ عُمَرَ فَعَاتَبَهُ عَلَى تَرْكِهَا وَيُمْكِنُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ هَذَا ضَعْفُ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ وَكِيعٍ إِذْ لَوْ كَانَ اسْتَخْلَفَ بِشَرْطِ أَنْ يَسِيرَ بِسِيرَةِ عُمَرَ لَمْ يَكُنْ مَا أَجَابَ بِهِ عُذْرًا فِي التَّرْكِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَإِنَّمَا قَالَ لِعَلِيٍّ ذَلِكَ دُونَ مَنْ سِوَاهُ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ لَمْ يَكُنْ يَطْمَعْ فِي الْخِلَافَةِ مَعَ وُجُودِهِ وَوُجُودِ عُثْمَانَ، وَسُكُوتُ مَنْ حَضَرَ مِنْ أَهْلِ الشُّورَى وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ دَلِيلٌ عَلَى تَصْدِيقِهِمْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ فِيمَا قَالَ، وَعَلَى الرِّضَا بِعُثْمَانَ. قُلْتُ: وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي

ص: 197

شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ قَالَ: حَجَجْتُ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ فَلَمْ أَرَهُمْ يَشُكُّونَ أَنَّ الْخَلِيفَةَ بَعْدَهُ عُثْمَانُ وَأَخْرَجَ يَعْقُوبُ بْنُ شَبَّةَ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ إِلَى حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ لِي عُمَرُ مَنْ تَرَى قَوْمَكَ يُؤَمِّرُونَ بَعْدِي. قَالَ. قُلْتُ: قَدْ نَظَرَ النَّاسُ إِلَى عُثْمَانَ وَشَهَرُوهُ لَهَا. وَأَخْرَجَ الْبَغَوِيُّ فِي مُعْجَمِهِ وَخَيْثَمَةُ فِي فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّب، حَجَجْتُ مَعَ عُمَرَ فَكَانَ الْحَادِي يَحْدُو أَنَّ الْأَمِيرَ بَعْدَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ) أَيْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مُخَاطِبًا لِعُثْمَانَ (أُبَايِعُكَ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَالْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ فَبَايَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ) فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَقَالَ: نَعَمْ، فَبَايَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ. وَأَخْرَجَ الذُّهْلِيُّ فِي الزُّهْرِيَّاتِ وَابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ عُثْمَانَ مِنْ طَرِيقِهِ ثُمَّ مِنْ رِوَايَةِ عِمْرَانَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ الزُّهْرِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِأَمْرِ الشُّورَى لِأَنِّي كُنْتُ رَسُولَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ وَفِي آخِرِهِ. فَقَالَ: هَلْ أَنْتَ يَا عَلِيُّ مُبَايِعِي إِنْ وَلَّيْتُكَ هَذَا الْأَمْرَ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَسُنَّةِ الْمَاضِينَ قَبْلُ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ عَلَى طَاقَتِي، فَأَعَادَهَا ثَلَاثًا. فَقَالَ عُثْمَانُ: أَنَا يَا أَبَا مُحَمَّدٍ أُبَايِعُكَ عَلَى ذَلِكَ، قَالَهَا ثَلَاثًا فَقَامَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَاعْتَمَّ وَلَبِسَ السَّيْفَ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ ثُمَّ رَقَى الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ أَشَارَ إِلَى عُثْمَانَ فَبَايَعَهُ فَعَرَفْتُ أَنَّ خَالِيَ أُشْكِلَ عَلَيْهِ أَمْرُهُمَا فَأَعْطَاهُ أَحَدُهُمَا وَثِيقَةً، وَمَنَعَهُ الْآخَرُ إِيَّاهَا، وَاسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ الْأَخِيرَةِ عَلَى جَوَازِ تَقْلِيدِ الْمُجْتَهِدِ، وَأَنَّ عُثْمَانَ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ كَانَا يَرَيَانِ ذَلِكَ بِخِلَافِ عَلِيٍّ، وَأَجَابَ مَنْ مَنَعَهُ وَهُمُ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالسِّيرَةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَدْلِ وَنَحْوِهِ لَا التَّقْلِيدُ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.

وَإِذَا فَرَّعْنَا عَلَى جَوَازِ تَجَزُّؤِ الِاجْتِهَادِ احْتَمَلَ أَنْ يُرَادَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمَا فِيمَا لَمْ يَظْهَرْ لِلتَّابِعِ فِيهِ الِاجْتِهَادُ فَيَعْمَلُ بِقَوْلِهِمَا لِلضَّرُورَةِ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: لَمْ يَكُنْ فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ أَحَدٌ لَهُ مِنَ الْمَنْزِلَةِ فِي الدِّينِ وَالْهِجْرَةِ وَالسَّابِقَةِ وَالْعَقْلِ وَالْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ بِالسِّيَاسَةِ مَا لِلسِّتَّةِ الَّذِينَ جَعَلَ عُمَرُ الْأَمْرَ شُورَى بَيْنَهُمْ، فَإِنْ قِيلَ: كَانَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ السِّتَّةِ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ وَكَانَ رَأْيُ عُمَرَ أَنَّ الْأَحَقَّ بِالْخِلَافَةِ أَرْضَاهُمْ دِينًا، وَأَنَّهُ لَا تَصِحُّ وِلَايَةُ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْفَاضِلِ، فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِالْأَفْضَلِ مِنْهُمْ لَكَانَ قَدْ نَصَّ عَلَى اسْتِخْلَافِهِ، وَهُوَ قَصَدَ أَنْ لَا يَتَقَلَّدَ الْعُهْدَةَ فِي ذَلِكَ ; فَجَعَلَهَا فِي سِتَّةٍ مُتَقَارِبِينَ فِي الْفَضْلِ، لِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ أَنَّهُمْ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى تَوْلِيَةِ الْمَفْضُولِ، وَلَا يَأْلُونَ الْمُسْلِمِينَ نُصْحًا فِي النَّظَرِ وَالشُّورَى، وَأَنَّ الْمَفْضُولَ مِنْهُمْ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَى الْفَاضِلِ، وَلَا يَتَكَلَّمُ فِي مَنْزِلَةٍ وَغَيْرُهُ أَحَقُّ بِهَا مِنْهُ، وَعَلِمَ رِضَا الْأُمَّةِ بِمَنْ رَضِيَ بِهِ السِّتَّةُ.

وَيُؤْخَذُ مِنْهُ بُطْلَانُ قَوْلِ الرَّافِضَةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَصَّ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَةَ فِي أَشْخَاصٍ بِأَعْيَانِهِمْ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا أَطَاعُوا عُمَرَ فِي جَعْلِهَا شُورَى، وَلَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ مَا وَجْهُ التَّشَاوُرِ فِي أَمْرٍ كُفِينَاهُ بِبَيَانِ اللَّهِ لَنَا عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، فَفِي رِضَا الْجَمِيعِ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْعَهْدِ فِي الْإِمَامَةِ أَوْصَافٌ مَنْ وُجِدَتْ فِيهِ اسْتَحَقَّهَا، وَإِدْرَاكُهَا يَقَعُ بِالِاجْتِهَادِ، وَفِيهِ أَنَّ الْجَمَاعَةَ الْمَوْثُوقَ بِدِيَانَتِهِمْ إِذَا عَقَدُوا عَقْدَ الْخِلَافَةِ لِشَخْصٍ بَعْدَ التَّشَاوُرِ وَالِاجْتِهَادِ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِمْ أَنْ يَحِلَّ ذَلِكَ الْعَقْدَ، إِذْ لَوْ كَانَ الْعَقْدُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِاجْتِمَاعِ الْجَمِيعِ، لَقَالَ قَائِلٌ لَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِ هَؤُلَاءِ السِّتَّةِ، فَلَمَّا لَمْ يَعْتَرِضْ مِنْهُمْ مُعْتَرِضٌ بَلْ رَضُوا وَبَايَعُوا، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ، انْتَهَى. مُلَخَّصًا مِنْ كِتَابِ ابْنِ بَطَّالٍ.

وَيَتَحَصَّلُ مِنْهُ جَوَابُ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَرَى جَوَازَ وِلَايَةِ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْفَاضِلِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ سِيرَةِ عُمَرَ فِي أُمَرَائِهِ الَّذِينَ كَانَ يُؤَمِّرُهُمْ فِي الْبِلَادِ، أَنَّهُ كَانَ لَا يُرَاعِي الْأَفْضَلَ فِي الدِّينِ فَقَطْ بَلْ يُضَمُّ إِلَيْهِ مَزِيدُ الْمَعْرِفَةِ بِالسِّيَاسَةِ مَعَ اجْتِنَابِ مَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ مِنْهَا، فَلِأَجْلِ هَذَا اسْتَخْلَفَ مُعَاوِيَةَ، وَالْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ، وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ مَعَ وُجُودِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمْ فِي أَمْرِ الدِّينِ وَالْعِلْمِ،

ص: 198

كَأَبِي الدَّرْدَاءِ فِي الشَّامِ وَابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْكُوفَةِ، وَفِيهِ أَنَّ الشُّرَكَاءَ فِي الشَّيْءِ إِذَا وَقَعَ بَيْنَهُمُ التَّنَازُعُ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ يُسْنِدُونَ أَمْرَهُمْ إِلَى وَاحِدٍ لِيَخْتَارَ لَهُمْ بَعْدَ أَنْ يُخْرِجَ نَفْسَهُ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ، وَفِيهِ أَنَّ مَنْ أُسْنِدَ إِلَيْهِ ذَلِكَ يَبْذُلُ وُسْعَهُ فِي الِاخْتِيَارِ، وَيَهْجُرُ أَهْلَهُ وَلَيْلَهُ اهْتِمَامًا بِمَا هُوَ فِيهِ حَتَّى يُكْمِلَهُ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَكِيلَ الْمُفَوَّضَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ وَإِنْ لَمْ يُنَصَّ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ الْخَمْسَةَ أَسْنَدُوا الْأَمْرَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَأَفْرَدُوهُ بِهِ فَاسْتَقَلَّ مَعَ أَنَّ عُمَرَ لَمْ يَنُصَّ لَهُمْ عَلَى الِانْفِرَادِ، قَالَ: وَفِيهِ تَقْوِيَةٌ لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْفُلَانِيَّةِ قَوْلَانِ، أَيِ: انْحَصَرَ الْحَقُّ عِنْدِي فِيهِمَا، وَأَنَا فِي مُهْلَةِ النَّظَرِ فِي التَّعْيِينِ، وَفِيهِ: أَنَّ إِحْدَاثَ قَوْلٍ زَائِدٍ عَلَى مَا أُجْمِعَ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ كَإِحْدَاثِ سَابِعٍ فِي أَهْلِ الشُّورَى، قَالَ: وَفِي تَأْخِيرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُؤَامَرَةَ عُثْمَانَ عَنْ مُؤَامَرَةِ عَلِيٍّ سِيَاسَةٌ حَسَنَةٌ مُنْتَزَعَةٌ مِنْ تَأْخِيرِ يُوسُفَ

تَفْتِيشَ رَحْلِ أَخِيهِ فِي قِصَّةِ الصَّاعِ، إِبْعَادًا لِلتُّهْمَةِ وَتَغْطِيَةً لِلْحَدْسِ، لِأَنَّهُ رَأَى أَنْ لَا يَنْكَشِفَ اخْتِيَارُهُ لِعُثْمَانَ قَبْلَ وُقُوعِ الْبَيْعَةِ.

‌44 - بَاب مَنْ بَايَعَ مَرَّتَيْنِ

7208 -

حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ قَالَ: بَايَعْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَقَالَ لِي: يَا سَلَمَةُ أَلَا تُبَايِعُ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ بَايَعْتُ فِي الْأَوَّلِ قَالَ: وَفِي الثَّانِي.

قَوْلُهُ: بَابُ مَنْ بَايَعَ مَرَّتَيْنِ) أَيْ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ.

قَوْلُهُ: عَنْ سَلَمَةَ تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْبَيْعَةِ فِي الْحَرْبِ مِنْ كِتَابِ الْجِهَادِ مِنْ رِوَايَةِ الْمَكِّيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ، وَفِيهِ: بَايَعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ عَدَلْتُ إِلَى ظِلِّ شَجَرَةٍ فَلَمَّا خَفَّ النَّاسُ قَالَ: يَا ابْنَ الْأَكْوَعِ أَلَا تُبَايِعُ.

قَوْلُهُ: (قَدْ بَايَعَتُ فِي الْأَوَّلِ قَالَ وَفِي الثَّانِي) وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ الْوَقْتِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فِي الْأُولَى بِالتَّأْنِيثِ قَالَ: وَفِي الثَّانِيَةِ وَالْمُرَادُ السَّاعَةُ أَوِ الطَّائِفَةُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَكِّيٍّ: فَقُلْتُ قَدْ بَايَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: وَأَيْضًا فَبَايَعْتُهُ الثَّانِيَةَ وَزَادَ فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا مُسْلِمٍ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تُبَايِعُونَ يَوْمَئِذٍ، قَالَ: عَلَى الْمَوْتِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ هُنَاكَ، وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ بَطَّالٍ: أَرَادَ أَنْ يُؤَكِّدَ بَيْعَةَ سَلَمَةَ لِعِلْمِهِ بِشُجَاعَتِهِ وَعَنَائِهِ فِي الْإِسْلَامِ وَشُهْرَتِهِ بِالثَّبَاتِ، فَلِذَلِكَ أَمَرَهُ بِتَكْرِيرِ الْمُبَايَعَةِ لِيَكُونَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَضِيلَةٌ.

قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَلَمَةُ لَمَّا بَادَرَ إِلَى الْمُبَايَعَةِ ثُمَّ قَعَدَ قَرِيبًا، وَاسْتَمَرَّ النَّاسُ يُبَايِعُونَ إِلَى أَنْ خَفُّوا، أَرَادَ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ أَنْ يُبَايِعَ لِلتوالي الْمُبَايَعَةُ مَعَهُ، وَلَا يَقَعُ فِيهَا تَخَلُّلٌ، لِأَنَّ الْعَادَةَ فِي مَبْدَأِ كُلِّ أَمْرٍ أَنْ يَكْثُرَ مَنْ يُبَاشِرُهُ فَيَتَوَالَى، فَإِذَا تَنَاهَى قَدْ يَقَعُ بَيْنَ مَنْ يَجِيءُ آخِرًا تَخَلُّلٌ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ اخْتِصَاصُ سَلَمَةَ بِمَا ذُكِرَ وَالْوَاقِعُ أَنَّ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ بَطَّالٍ مِنْ حَالِ سَلَمَةَ فِي الشُّجَاعَةِ وَغَيْرِهَا لَمْ يَكُنْ ظَهَرَ بَعْدُ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا وَقَعَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ ذِي قَرَدٍ حَيْثُ اسْتَعَادَ السَّرْحَ الَّذِي كَانَ الْمُشْرِكُونَ أَغَارُوا عَلَيْهِ فَاسْتَلَبَ ثِيَابَهُمْ، وَكَانَ آخِرُ أَمْرِهِ أَنْ أَسْهَمَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَهْمَ الْفَارِسِ وَالرَّاجِلِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ تَفَرَّسَ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ فَبَايَعَهُ مَرَّتَيْنِ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ سَيَقُومُ فِي الْحَرْبِ مَقَامَ رَجُلَيْنِ فَكَانَ كَذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: يُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ إِعَادَةَ لَفْظِ الْعَقْدِ فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ لَيْسَ فَسْخًا لِلْعَقْدِ الْأَوَّلِ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ ذَلِكَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ.

قُلْتُ: الصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَا يَكُونُ فَسْخًا كَمَا قَالَ الْجُمْهُورُ.

ص: 199

‌45 - بَاب بَيْعَةِ الْأَعْرَابِ

7209 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَصَابَهُ وَعْكٌ فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي فَأَبَى ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي فَأَبَى فَخَرَجَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا، وَتنْصَعُ طِيبُهَا.

قَوْلُهُ: بَابُ بَيْعَةِ الْأَعْرَابِ أَيْ: مُبَايَعَتِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْجِهَادِ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ أَعْرَابِيًّا) تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى اسْمِهِ فِي فَضْلِ الْمَدِينَةِ أَوَاخِرَ الْحَجِّ.

قَوْلُهُ: (عَلَى الْإِسْلَامِ) ظَاهِرٌ فِي أَنَّ طَلَبَهُ الْإِقَالَةَ كَانَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي شَيْءٍ مِنْ عَوَارِضِهِ كَالْهِجْرَةِ، وَكَانَتْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَاجِبَةً، وَوَقَعَ الْوَعِيدُ عَلَى مَنْ رَجَعَ أَعْرَابِيًّا بَعْدَ هِجْرَتِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ قَرِيبًا وَالْوَعْكُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَقَدْ تُفْتَحُ بَعْدَهَا كَافٌ الْحُمَّى، وَقِيلَ: أَلَمُهَا، وَقِيلَ: أرْعَادُهَا. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: أَصْلُهُ شِدَّةُ الْحَرِّ، فَأُطْلِقَ عَلَى حَرِّ الْحُمَّى وَشِدَّتِهَا.

قَوْلُهُ: (أَقِلْنِي بَيْعَتِي فَأَبَى) تَقَدَّمَ فِي فَضْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ أَنَّهُ أَعَادَ ذَلِكَ ثَلَاثًا وَكَذَا سَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ.

قَوْلُهُ: فَخَرَجَ أَيْ مِنَ الْمَدِينَةِ رَاجِعًا إِلَى الْبَدْوِ.

قَوْلُهُ: الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ إِلَخْ ذَكَرَ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ فِي كِتَابِ الْأَسْبَابِ لَهُ عِنْدَ ذِكْرِ حَدِيثِ الْمَدِينَةِ تَنْفِي الْخَبَثَ كَمَا تَنْفِي النَّارُ خَبَثَ الْحَدِيدِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَهُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ وَفِيهِ نَظَرٌ، وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ قَالَهُ فِي قِصَّةِ الَّذِينَ رَجَعُوا عَنِ الْقِتَالِ مَعَهُ يَوْمَ أُحُدٍ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي.

قَوْلُهُ: تَنْفِي بِفَتْحِ أَوَّلِهِ (خَبَثَهَا) بِمُعْجَمَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ مَفْتُوحَتَيْنِ.

قَوْلُهُ: (وَتَنْصَعُ) تَقَدَّمَ ضَبْطُهُ فِي فَضْلِ الْمَدِينَةِ، وَبَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِيهِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: إِنَّمَا امْتَنَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِقَالَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعِينُ عَلَى مَعْصِيَةٍ، لِأَنَّ الْبَيْعَةَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ كَانَتْ عَلَى أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَّا بِإِذْنٍ فَخُرُوجُهُ عِصْيَانٌ. قَالَ: وَكَانَتِ الْهِجْرَةُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَرْضًا قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ عَلَى كُلِّ مَنْ أَسْلَمَ وَمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ مُوَالَاةٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} فَلَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ قَالَ صلى الله عليه وسلم: لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ فَفِي هَذَا إِشْعَارٌ بِأَنَّ مُبَايَعَةَ الْأَعْرَابِيِّ الْمَذْكُورِ كَانَتْ قَبْلَ الْفَتْحِ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ ذَمُّ مَنْ خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ وَهُوَ مُشْكِلٌ فَقَدْ خَرَجَ مِنْهَا جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَسَكَنُوا غَيْرَهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَكَذَا مَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْفُضَلَاءِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَذْمُومَ مَنْ خَرَجَ عَنْهَا كَرَاهَةً فِيهَا وَرَغْبَةً عَنْهَا، كَمَا فَعَلَ الْأَعْرَابِيُّ الْمَذْكُورُ وَأَمَّا الْمُشَارُ إِلَيْهِمْ فَإِنَّمَا خَرَجُوا لِمَقَاصِدَ صَحِيحَةٍ كَنَشْرِ الْعِلْمِ وَفَتْحِ بِلَادِ الشِّرْكِ وَالْمُرَابَطَةِ فِي الثُّغُورِ وَجِهَادِ الْأَعْدَاءِ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ عَلَى اعْتِقَادِ فَضْلِ الْمَدِينَةِ وَفَضْلِ سُكْنَاهَا، وَسَيَأْتِي شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌46 - بَاب بَيْعَةِ الصَّغِيرِ

7210 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، هُوَ ابْنُ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَقِيلٍ زُهْرَةُ بْنُ مَعْبَدٍ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِشَامٍ، وَكَانَ قَدْ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَذَهَبَتْ بِهِ أُمُّهُ زَيْنَبُ ابِنْة حُمَيْدٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَايِعْهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: هُوَ صَغِيرٌ فَمَسَحَ رَأْسَهُ وَدَعَا لَهُ وَكَانَ يُضَحِّي بِالشَّاةِ الْوَاحِدَةِ عَنْ جَمِيعِ أَهْلِهِ.

ص: 200

قَوْلُهُ: بَابُ بَيْعَةِ الصَّغِيرِ أَيْ: هَلْ تُشْرَعُ أَوْ لَا؟ قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: التَّرْجَمَةُ مُوهِمَةٌ، وَالْحَدِيثُ يُزِيلُ إِيهَامَهَا، فَهُوَ دَالٌّ عَلَى عَدَمِ انْعِقَادِ بَيْعَةِ الصَّغِيرِ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِشَامٍ التَّيْمِيِّ، وَهُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ تَقَدَّمَ بِكَمَالِهِ فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، وَفِيهِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَايِعْهُ. فَقَالَ: هُوَ صَغِيرٌ فَمَسَحَ رَأْسَهُ وَدَعَا لَهُ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ يُضَحِّي بِالشَّاةِ الْوَاحِدَةِ عَنْ جَمِيعِ أَهْلِهِ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هِشَامٍ الْمَذْكُورُ، وَهَذَا الْأَثَرُ الْمَوْقُوفُ صَحِيحٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ فِي بَابِ الْأُضْحِيَّةِ عَنِ الْمُسَافِرِ وَالنِّسَاءِ وَالنَّقْلُ عَمَّنْ قَالَ: لَا تجْزِئُ أُضْحِيَّةُ الرَّجُلِ عَنْ نَفْسِهِ، وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ مَعَ أَنَّ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ يَحْذِفُ الْمَوْقُوفَاتِ غَالِبًا، لِأَنَّ الْمَتْنَ قَصِيرٌ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ هِشَامٍ عَاشَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم زَمَانًا بِبَرَكَةِ دُعَائِهِ لَهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ.

‌47 - بَاب مَنْ بَايَعَ ثُمَّ اسْتَقَالَ الْبَيْعَةَ

7211 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَصَابَ الْأَعْرَابِيَّ وَعْكٌ بِالْمَدِينَةِ فَأَتَى الْأَعْرَابِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقِلْنِي بَيْعَتِي فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي فَأَبَى ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي فَأَبَى فَخَرَجَ الْأَعْرَابِيُّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَتنْصَعُ طِيبُهَا.

قَوْلُهُ: بَابُ مَنْ بَايَعَ ثُمَّ اسْتَقَالَ الْبَيْعَةَ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ الْأَعْرَابِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ قَبْلَ ببَابٍ.

‌48 - بَاب مَنْ بَايَعَ رَجُلًا لَا يُبَايِعُهُ إِلَّا لِلدُّنْيَا

7212 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ يَمْنَعُ مِنْهُ ابْنَ السَّبِيلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لَا يُبَايِعُهُ إِلَّا لِدُنْيَاهُ إِنْ أَعْطَاهُ مَا يُرِيدُ وَفَى لَهُ، وَإِلَّا لَمْ يَفِ لَهُ، وَرَجُلٌ بَايِعُ رَجُلًا بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ فَحَلَفَ بِاللَّهِ لَقَدْ أُعْطِيَ بِهَا كَذَا وَكَذَا فَصَدَّقَهُ فَأَخَذَهَا وَلَمْ يُعْطَ بِهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ بَايَعَ رَجُلًا لَا يُبَايِعُهُ إِلَّا لِلدُّنْيَا) أَيْ وَلَا يَقْصِدُ طَاعَةَ اللَّهِ فِي مُبَايَعَةِ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْإِمَامَةَ.

قَوْلُهُ: عَنْ أَبِي حَمْزَةَ بِالْمُهْمَلَةِ وَالزَّايِ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ مَيْمُونٍ السُّكَّرِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي صَالِحٍ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الشُّرْبِ.

قَوْلُهُ: ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ زَادَ جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَسَقَطَ مِنْ رِوَايَتِهِ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقَدْ مَرَّ فِي الشَّهَادَاتِ وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَاحِدِ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَسَقَطَ مِنْ رِوَايَتِهِ وَلَا يُكَلِّمُهُمْ وَثَبَتَ الْجَمِيعُ لِأَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ عِنْدَ مُسْلِمٍ عَلَى وَفْقِ الْآيَةِ الَّتِي فِي آلِ عِمْرَانَ، وَقَالَ: فِي آخِرِ الْحَدِيثِ. ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ {إِنَّ الَّذِينَ

ص: 201

يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} يَعْنِي إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.

قَوْلُهُ: (رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ يَمْنَعُ مِنْهُ ابْنَ السَّبِيلِ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَاحِدِ: رَجُلٌ كَانَ لَهُ فَضْلُ مَاءٍ مَنَعَهُ مِنَ ابْنِ السَّبِيلِ وَالْمَقْصُودُ وَاحِدٌ وَإِنْ تَغَايَرَ الْمَفْهُومَانِ لِتَلَازُمِهِمَا؛ لِأَنَّهُ إِذَا مَنَعَهُ مِنَ الْمَاءِ فَقَدْ مَنَعَ الْمَاءَ مِنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الشُّرْبِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ بِالْفَلَاةِ وَهِيَ الْمُرَادُ بِالطَّرِيقِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ. وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ فِي الشُّرْبِ أَيْضًا. وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: الْيَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الشُّرْبِ أَيْضًا، وَتَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ فَوَائِدِهِ فِي كِتَابِ تَرْكِ الْحِيَلِ.

قَوْلُهُ: وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَاحِدِ إِمَامَهُ.

قَوْلُهُ: (إِنْ أَعْطَاهُ مَا يُرِيدُ وَفَّى لَهُ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَاحِدِ رَضا.

قَوْلُهُ: وَإِلَّا لَمْ يَفِ لَهُ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَاحِدِ: سَخِطَ.

قَوْلُهُ: (وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلًا) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ: يُبَايِعُ بِصِيغَةِ الْمُضَارَعَةِ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَاحِدِ: أَقَامَ سِلْعَةً بَعْدَ الْعَصْرِ وَفِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ وَرَجُلٌ سَاوَمَ رَجُلًا سِلْعَةً بَعْدَ الْعَصْرِ.

قَوْلُهُ: فَحَلَفَ بِاللَّهِ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَاحِدِ فَقَالَ: وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ.

قَوْلُهُ: (لَقَدْ أُعْطِيَ بِهَا كَذَا وَكَذَا) وَقَعَ مَضْبُوطًا بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الطَّاءِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَكَذَا قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: وَلَمْ يُعْطَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الطَّاءِ، وَفِي بَعْضِهَا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالطَّاءِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَالضَّمِيرُ لِلْحَالِفِ وَهِيَ أَرْجَحُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بِلَفْظِ: لَقَدْ أُعْطِيتُ بِهَا وَفِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ ; فَحَلَفَ لَهُ بِاللَّهِ لَأَخَذَهَا بِكَذَا أَيْ لَقَدْ أَخَذَهَا، وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ: لَقَدْ أُعْطِيَ بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى وَضُبِطَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالطَّاءِ، وَفِي بَعْضِهَا بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الطَّاءِ، وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ.

قَوْلُهُ: (فَصَدَّقَهُ وَأَخَذَهَا) أَيِ الْمُشْتَرِي (وَلَمْ يُعْطِ بِهَا) أَيِ الْقَدْرَ الَّذِي حَلَفَ أَنَّهُ أَعْطَى عِوَضَهَا، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ: فَصَدَّقَهُ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

تَنْبِيهَانِ:

أَحَدُهُمَا: خَالَفَ الْأَعْمَشُ فِي سِيَاقِ هَذَا الْمَتْنِ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ فَمَضَى فِي الشُّرْبِ وَيَأْتِي فِي التَّوْحِيدِ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، نَحْوَ صَدْرِ حَدِيثِ الْبَابِ، وَقَالَ فِيهِ: وَرَجُلٌ عَلَى سِلْعَةٍ الْحَدِيثَ، وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ، الْحَدِيثَ. وَرَجُلٌ حَارثة عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: ذِكْرُ عِوَضِ الرَّجُلِ الثَّانِي وَهُوَ الْمُبَايِعُ لِلْإِمَامِ آخِرُ، وَهُوَ الْحَالِفُ لِيَقْتَطِعَ مَالَ الْمُسْلِمِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِاخْتِلَافٍ، لِأَنَّ التَّخْصِيصَ بِعَدَدٍ لَا يَنْفِي مَا زَادَ عَلَيْهِ انْتَهَى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الرَّاوِيَيْنِ حَفِظَ مَا لَمْ يَحْفَظِ الْآخَرُ، لِأَنَّ الْمُجْتَمِعَ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ أَرْبَعُ خِصَالٍ، وَكُلٌّ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ مُصَدَّرٌ بِثَلَاثَةٍ، فَكَأَنَّهُ كَانَ فِي الْأَصْلِ أَرْبَعَةً، فَاقْتَصَرَ كُلٌّ مِنَ الرَّاوِيَيْنِ عَلَى وَاحِدٍ ضَمَّهُ مَعَ الِاثْنَيْنِ اللَّذَيْنِ تَوَافَقَا عَلَيْهِمَا فَصَارَ فِي رِوَايَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا ثَلَاثَةً، وَيُؤَيِّدُهُ مَا سَيَأْتِي فِي التَّنْبِيهِ الثَّانِي.

ثَانِيهُمَا: أَخْرَجَ مُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ أَيْضًا لَكِنْ عَنْ شَيْخٍ لَهُ آخَرَ بِسِيَاقٍ آخَرَ، فَذَكَرَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، وَوَكِيعٍ جَمِيعًا عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كَصَدْرِ حَدِيثِ الْبَابِ، لَكِنْ قَالَ: شَيْخٌ زَانٍ وَمَلِكٌ كَذَّابٌ وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا حَدِيثٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَنِ الْأَعْمَشِ فَقَالَ: عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُسْهِرٍ، عَنْ خَرْشَةَ بْنِ الْحُرِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْمَنَّانُ الَّذِي لَا يُعْطِي شَيْئًا إِلَّا مَنَّهُ، وَالْمُنْفِقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْفَاجِرِ، وَالْمُسْبِلُ إِزَارَهُ وَلَيْسَ هَذَا الِاخْتِلَافُ عَلَى الْأَعْمَشِ فِيهِ بِقَادِحٍ، لِأَنَّهَا ثَلَاثَةُ أَحَادِيثَ عِنْدَهُ بِثَلَاثَةِ طُرُقٍ، وَيَجْتَمِعُ مِنْ مَجْمُوعِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ تِسْعُ خِصَالٍ وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَبْلُغَ عَشْرًا ; لِأَنَّ الْمُنْفِقَ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ مُغَايِرٌ لِلَّذِي حَلَفَ لَقَدْ أُعْطِيَ بِهَا كَذَا ; لِأَنَّ هَذَا خَاصٌّ بِمَنْ يَكْذِبُ فِي أَخْبَارِ الشِّرَاءِ، وَالَّذِي

ص: 202

قَبْلَهُ أَعَمُّ مِنْهُ فَتَكُونُ خَصْلَةً أُخْرَى، قَالَ النَّوَوِيُّ: قِيلَ مَعْنَى: لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ تَكْلِيمُ مَنْ رَضَا عَنْهُ بِإِظْهَارِ الرِّضَا بَلْ بِكَلَامٍ يَدُلُّ عَلَى السُّخْطِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّهُ يُعْرِضُ عَنْهُمْ، وَقِيلَ: لَا يُكَلِّمُهُمْ كَلَامًا يَسُرُّهُمْ، وَقِيلَ: لَا يُرْسِلُ إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ بِالتَّحِيَّةِ، وَمَعْنَى لَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ: يُعْرِضُ عَنْهُمْ، وَمَعْنَى نَظَرِهِ لِعِبَادِهِ: رَحْمَتُهُ لَهُمْ وَلُطْفُهُ بِهِمْ، وَمَعْنَى لَا يُزَكِّيهِمْ: لَا يُطَهِّرُهُمْ مِنَ الذُّنُوبِ وَقِيلَ: لَا يُثْنِي عَلَيْهِمْ، وَالْمُرَادُ بِابْنِ السَّبِيلِ: الْمُسَافِرُ

الْمُحْتَاجُ إِلَى الْمَاءِ، لَكِنْ يُسْتَثْنَى مِنْهُ الْحَرْبِيُّ وَالْمُرْتَدُّ إِذَا أَصَرَّا عَلَى الْكُفْرِ، فَلَا يَجِبُ بَذْلُ الْمَاءِ لَهُمَا، وَخَصَّ بَعْدَ الْعَصْرِ بِالْحَلِفِ لِشَرَفِهِ بِسَبَبِ اجْتِمَاعِ مَلَائِكَةِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَمَّا الَّذِي بَايَعَ الْإِمَامَ بِالصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ فَاسْتِحْقَاقُهُ هَذَا الْوَعِيدَ لِكَوْنِهِ غَشَّ إِمَامَ الْمُسْلِمِينَ ; وَمِنْ لَازِمِ غِشِّ الْإِمَامِ غَشُّ الرَّعِيَّةِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّسَبُّبِ إِلَى إِثَارِهِ الْفِتْنَةَ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ مِمَّنْ يُتَّبَعُ عَلَى ذَلِكَ، انْتَهَى. مُلَخَّصًا.

وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: خَصَّ وَقْتَ الْعَصْرِ بِتَعْظِيمِ الْإِثْمِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَتِ الْيَمِينُ الْفَاجِرَةُ مُحَرَّمَةٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ، لِأَنَّ اللَّهَ عَظَّمَ شَأْنَ هَذَا الْوَقْتِ بِأَنْ جَعَلَ الْمَلَائِكَةَ تَجْتَمِعُ فِيهِ وَهُوَ وَقْتُ خِتَامِ الْأَعْمَالِ، وَالْأُمُورُ بِخَوَاتِيمِهَا فَغَلُظَتِ الْعُقُوبَةُ فِيهِ لِئَلَّا يُقْدِمَ عَلَيْهَا تَجَرُّؤًا، فَإِنَّ مَنْ تَجَرَّأَ عَلَيْهَا فِيهِ اعْتَادَهَا فِي غَيْرِهِ، وَكَانَ السَّلَفُ يَحْلِفُونَ بَعْدَ الْعَصْرِ ; وَجَاءَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ أَيْضًا، وَفِي الْحَدِيثِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ فِي نَكْثِ الْبَيْعَةِ، وَالْخُرُوجِ عَلَى الْإِمَامِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَفَرُّقِ الْكَلِمَةِ، وَلِمَا فِي الْوَفَاءِ مِنْ تَحْصِينِ الْفُرُوجِ وَالْأَمْوَالِ وَحَقْنِ الدِّمَاءِ، وَالْأَصْلُ فِي مُبَايَعَةِ الْإِمَامِ أَنْ يُبَايِعَهُ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ بِالْحَقِّ وَيُقِيمَ الْحُدُودَ وَيَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، فَمَنْ جَعَلَ مُبَايَعَتَهُ لِمَالٍ يُعْطَاهُ دُونَ مُلَاحَظَةِ الْمَقْصُودِ فِي الْأَصْلِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا، وَدَخَلَ فِي الْوَعِيدِ الْمَذْكُورِ وَحَاقَ بِهِ إِنْ لَمْ يَتَجَاوَزِ اللَّهُ عَنْهُ، وَفِيهِ أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ لَا يُقْصَدُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ وَأُرِيدَ بِهِ عَرَضُ الدُّنْيَا فَهُوَ فَاسِدٌ وَصَاحِبُهُ آثِمٌ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

‌49 - بَاب بَيْعَةِ النِّسَاءِ رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

7213 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، ح. وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ يَقُولُ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ فِي مَجْلِسٍ: تُبَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ، وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ، وَأَرْجُلِكُمْ، وَلَا تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ، فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ.

7214 -

حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُبَايِعُ النِّسَاءَ بِالْكَلَامِ بِهَذِهِ الْآيَةِ {لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} قَالَتْ وَمَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَ امْرَأَةٍ إِلاَّ امْرَأَةً يَمْلِكُهَا

7215 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ حَفْصَةَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ بَايَعْنَا النَّبِيَّ

ص: 203

صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَ عَلَيْنَا {أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} وَنَهَانَا عَنْ النِّيَاحَةِ فَقَبَضَتْ امْرَأَةٌ مِنَّا يَدَهَا فَقَالَتْ فُلَانَةُ أَسْعَدَتْنِي وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَجْزِيَهَا فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا فَذَهَبَتْ ثُمَّ رَجَعَتْ فَمَا وَفَتْ امْرَأَةٌ إِلاَّ أُمُّ سُلَيْمٍ وَأُمُّ الْعَلَاءِ وَابْنَةُ أَبِي سَبْرَةَ امْرَأَةُ مُعَاذٍ أَوْ ابْنَةُ أَبِي سَبْرَةَ وَامْرَأَةُ مُعَاذٍ

قَوْلُهُ: بَابُ بَيْعَةِ النِّسَاءِ) ذَكَرَ فِيهِ اللَّهُ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ، الْأَوَّلُ:

قَوْلُهُ: (رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ) كَأَنَّهُ يُرِيدُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْعِيدَيْنِ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ شَهِدْتُ الْفِطْرَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ حِينَ يَجْلِسُ بِيَدِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ يَشُقُّهُمْ حَتَّى جَاءَ النِّسَاءَ مَعَهُ بِلَالٌ فَقَالَ:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ حِينَ فَرَغَ مِنْهَا: أَنْتُنَّ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ تَقَدَّمَ فَوَائِدُهُ هُنَاكَ فِي تَفْسِيرِ الْمُمْتَحَنَةِ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فِي مُبَايَعَتِهمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى مِثْلِ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ أَوَائِلَ الْكِتَابِ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ عَنْ عُبَادَةَ قَالَ: أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا أَخَذَ عَلَى النِّسَاءِ أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا نَسْرِقَ، وَلَا نَزْنِيَ، الْحَدِيثَ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الْأَشْعَثِ الصَّنْعَانِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ وَإِلَى هَذِهِ الطَّرِيقِ أَشَارَ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: أَدْخَلَ حَدِيثَ عُبَادَةَ فِي تَرْجَمَةِ بَيْعَةِ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّهَا وَرَدَتْ فِي الْقُرْآنِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ فَعُرِفَتْ بِهِنَّ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَتْ فِي الرِّجَالِ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: حَدِيثُ عَائِشَةَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُبَايِعُ النِّسَاءَ بِالْكَلَامِ بِهَذِهِ الْآيَةِ: {لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} كَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِسَنَدِ حَدِيثِ الْبَابِ إِلَى عَائِشَةَ قَالَتْ. جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ عُتْبَةَ - أَيِ ابْنِ رَبِيعَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ أُخْتُ هِنْدِ بِنْتِ عُقبَةَ - تُبَايِعُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَ عَلَيْهَا أَنْ لَا تَزْنِيَ، فَوَضَعَتْ يَدَهَا عَلَى رَأْسِهَا حَيَاءً، فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: بَايِعِي أَيَّتُهَا الْمَرْأَةُ، فَوَاللَّهِ مَا بَايَعْنَاهُ إِلَّا عَلَى هَذَا قَالَتْ: فَنَعَمْ إِذًا وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فَوَائِدُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُمْتَحَنَةِ وَفِي أَوَّلِ هَذَا الْحَدِيثِ هُنَاكَ زِيَادَةٌ غَيْرُ الزِّيَادَةِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا هُنَا مِنْ عِنْدَ الْبَزَّارِ.

قَوْلُهُ: قَالَتْ وَمَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَ امْرَأَةٍ إِلَّا امْرَأَةً يَمْلِكُهَا هَذَا الْقَدْرُ أَفْرَدَهُ النَّسَائِيُّ فَأَخْرَجَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِسَنَدِ حَدِيثِ الْبَابِ بِلَفْظِ لَكِنْ مَا مَسَّ وَقَالَ: يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ، وَكَذَا أَفْرَدَهُ مَالِكٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ: مَا مَسَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ امْرَأَةً قَطُّ، إِلَّا أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهَا فَإِذَا أَخَذَ عَلَيْهَا فَأَعْطَتْهُ قَالَ: اذْهَبِي فَقَدْ بَايَعْتُكِ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: مَا مَسَّ يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ، وَلَكِنْ يَأْخُذُ عَلَيْهَا الْبَيْعَةَ. ثُمَّ يَقُولُ لَهَا اذْهَبِي إِلَخْ. قَالَ: وَهَذَا التَّقْدِيرُ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَلَا بُدَّ مِنْهُ انْتَهَى.

وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي تَفْسِيرِ الْمُمْتَحَنَةِ مَنْ خَالَفَ ظَاهِرَ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ، مِنَ اقْتِصَارِهِ فِي مُبَايَعَتِهِ صلى الله عليه وسلم النِّسَاءَ عَلَى الْكَلَامِ ; وَمَا وَرَدَ أَنَّهُ بَايَعَهُنَّ بِحَائِلٍ أَن بِوَاسِطَةٍ بِمَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَتِهِ، وَيُعَكِّرُ عَلَى مَا جَزَمَ بِهِ مِنَ التَّقْدِيرِ، وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِ أُمِّ عَطِيَّةَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ فَقَبَضَتِ امْرَأَةٌ يَدَهَا، أَنَّ بَيْعَةَ النِّسَاءِ كَانَتْ أَيْضًا بِالْأَيْدِي فَتُخَالِفُ مَا نُقِلَ عَنْ عَائِشَةَ مِنْ هَذَا الْحَصْرِ، وَأُجِيبَ بِمَا ذُكِرَ مِنَ الْحَائِلِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُنَّ كُنَّ يُشِرْنَ بِأَيْدِيهِنَّ عِنْدَ الْمُبَايَعَةِ بِلَا مُمَاسَّةٍ، وَقَدْ أَخْرَجَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ مَرْفُوعًا: إِنِّي لَا أُصَافِحُ النِّسَاءَ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ كَلَامَ الْأَجْنَبِيَّةِ مُبَاحٌ سَمَاعُهُ، وَأَنَّ صَوْتَهَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ، وَمَنَعُ لَمْسِ بَشَرَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ لِذَلِكَ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: (عَنْ أَيُّوبَ) هُوَ السَّخْتِيَانِيُّ وَ (حَفْصَةُ) هِيَ بِنْتُ سِيرِينَ أُخْتُ مُحَمَّدٍ، وَالسَّنَدُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ، وَتَقَدَّمَ

ص: 204

شَرْحُ حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ هَذَا فِي: كِتَابِ الْجَنَائِزِ مُسْتَوْفًى، وَفِيهِ تَسْمِيَةُ النِّسْوَةِ الْمَذْكُورَاتِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَتَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهَا أَسْعَدَتْنِي فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُمْتَحَنَةِ.

‌50 - بَاب مَنْ نَكَثَ بَيْعَةً

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}

7216 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، سَمِعْتُ جَابِرًا قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: بَايِعْنِي عَلَى الْإِسْلَامِ فَبَايَعَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، ثُمَّ جَاءَ الْغَدَ مَحْمُومًا فَقَالَ: أَقِلْنِي فَأَبَى فَلَمَّا وَلَّى، قَالَ: الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا، وَتنْصَعُ طِيبُهَا.

قَوْلُهُ: بَابُ مَنْ نَكَثَ بَيْعَةً فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: بَيْعَتَهُ بِزِيَادَةِ الضَّمِيرِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى) فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ وَقَوْلُهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} الْآيَةَ سَاقَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ إِلَى قَوْلِهِ: فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ قَالَ إِلَى قَوْلِهِ: فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا، وَسَاقَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ الْآيَةَ كُلَّهَا.

ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ الْأَعْرَابِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ قَرِيبًا فِي بَابِ بَيْعَةِ الْأَعْرَابِيِّ وَوَرَدَ فِي الْوَعِيدِ عَلَى نَكْثِ الْبَيْعَةِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: لَا أَعْلَمُ غَدْرًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يُبَايِعَ رَجُلٌ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. ثُمَّ يَنْصِبُ لَهُ الْقِتَالَ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْفِتَنِ وَجَاءَ نَحْوُهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: مَنْ أَعْطَى بَيْعَةً ثُمَّ نَكَثَهَا لَقِيَ اللَّهَ وَلَيْسَتْ مَعَهُ يَمِينُهُ. أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ، وَفِيهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: الصَّلَاةُ كَفَّارَةٌ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَنَكْثُ الصَّفْقَةِ، الْحَدِيثَ. وَفِيهِ تَفْسِيرُ نَكْثِ الصَّفْقَةِ أَنْ تُعْطِيَ رَجُلًا بَيْعَتَكَ ثُمَّ تُقَاتِلُهُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ.

‌51 - بَاب الِاسْتِخْلَافِ

7217 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، قال: سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: وَارَأْسَاهْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ذَاكِ لَوْ كَانَ وَأَنَا حَيٌّ فَأَسْتَغْفِرُ لَكِ وَأَدْعُو لَكِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَاثُكْلِيَاهْ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَظُنُّكَ تُحِبُّ مَوْتِي، وَلَوْ كَانَ ذَلكَ لَظَلَلْتَ آخِرَ يَوْمِكَ مُعَرِّسًا بِبَعْضِ أَزْوَاجِكَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: بَلْ أَنَا وَارَأْسَاهْ لَقَدْ هَمَمْتُ أَوْ أَرَدْتُ أَنْ أُرْسِلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَابْنِهِ فَأَعْهَدَ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُونَ أَوْ يَتَمَنَّى الْمُتَمَنُّونَ ثُمَّ قُلْتُ: يَأْبَى اللَّهُ وَيَدْفَعُ الْمُؤْمِنُونَ أَوْ يَدْفَعُ اللَّهُ، وَيَأْبَى الْمُؤْمِنُونَ.

7218 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ قِيلَ لِعُمَرَ أَلَا تَسْتَخْلِفُ قَالَ إِنْ أَسْتَخْلِفْ فَقَدْ اسْتَخْلَفَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي أَبُو بَكْرٍ وَإِنْ أَتْرُكْ فَقَدْ تَرَكَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَثْنَوْا عَلَيْهِ فَقَالَ رَاغِبٌ رَاهِبٌ وَدِدْتُ أَنِّي نَجَوْتُ مِنْهَا

ص: 205

كَفَافًا لَا لِي وَلَا عَلَيَّ لَا أَتَحَمَّلُهَا حَيًّا وَلَا مَيِّتًا

7219 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ خُطْبَةَ عُمَرَ الْآخِرَةَ حِينَ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَذَلِكَ الْغَدَ مِنْ يَوْمٍ تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَتَشَهَّدَ وَأَبُو بَكْرٍ صَامِتٌ لَا يَتَكَلَّمُ قَالَ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَعِيشَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَدْبُرَنَا يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ آخِرَهُمْ فَإِنْ يَكُ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم قَدْ مَاتَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ نُورًا تَهْتَدُونَ بِهِ هَدَى اللَّهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَانِيَ اثْنَيْنِ فَإِنَّهُ أَوْلَى الْمُسْلِمِينَ بِأُمُورِكُمْ فَقُومُوا فَبَايِعُوهُ وَكَانَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ قَدْ بَايَعُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ وَكَانَتْ بَيْعَةُ الْعَامَّةِ عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ الزُّهْرِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ لِأَبِي بَكْرٍ يَوْمَئِذٍ اصْعَدْ الْمِنْبَرَ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَبَايَعَهُ النَّاسُ عَامَّةً

[الحديث 7220 - طرفه في: 7269]

7220 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم امْرَأَةٌ فَكَلَّمَتْهُ فِي شَيْءٍ فَأَمَرَهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ جِئْتُ وَلَمْ أَجِدْكَ كَأَنَّهَا تُرِيدُ الْمَوْتَ قَالَ إِنْ لَمْ تَجِدِينِي فَأْتِي أَبَا بَكْرٍ

7221 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنِي قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه قَالَ لِوَفْدِ بُزَاخَةَ تَتْبَعُونَ أَذْنَابَ الإِبِلِ حَتَّى يُرِيَ اللَّهُ خَلِيفَةَ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُهَاجِرِينَ أَمْرًا يَعْذِرُونَكُمْ بِهِ

قَوْلُهُ: (بَابُ الِاسْتِخْلَافِ) أَيْ: تَعْيِينُ الْخَلِيفَةِ عِنْدَ مَوْتِهِ خَلِيفَةً بَعْدَهُ، أَوْ يُعَيِّنُ جَمَاعَةً لِيَتَخَيَّرُوا مِنْهُمْ وَاحِدًا، ذَكَرَ فِيهِ خَمْسَةَ أَحَادِيثَ:

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ هُوَ الْأَنْصَارِيُّ وَالسَّنَدُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّنَدِ فِي: كِتَابِ كَفَّارَةِ الْمَرَضِ وَتَقَدَّمَ الْكَثِيرُ مِنْ فَوَائِدِ الْمَتْنِ هُنَاكَ.

قَوْلُهُ: (فَأَعْهَدَ) أَيْ: أُعَيِّنَ الْقَائِمَ بِالْأَمْرِ بَعْدِي، هَذَا هُوَ الَّذِي فَهِمَهُ الْبُخَارِيُّ فَتَرْجَمَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْعَهْدُ أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ، لَكِنْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظِ: ادْعِي لِي أَبَاكِ وَأَخَاكِ حَتَّى أَكْتُبَ كِتَابًا، وَقَالَ فِي آخَرَ: وَيَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: ادْعِي لِي أَبَا بَكْرٍ أَكْتُبَ كِتَابًا فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ وَيَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَزَّارِ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ تَخْتَلِفَ النَّاسُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فَهَذَا يُرْشِدُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْخِلَافَةُ، وَأَفْرَطَ الْمُهَلَّبُ فَقَالَ: فِيهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَالْعَجَبُ أَنَّهُ قَرَّرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْتَخْلِفْ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: (سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الرَّاوِي عَنْهُ هُوَ الْفِرْيَابِيُّ.

قَوْلُهُ: (قِيلَ لِعُمَرَ أَلَا تَسْتَخْلِفُ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: حَضَرْتُ أَبِي حِينَ أُصِيبَ قَالُوا: اسْتَخْلِفْ وَأَوْرَدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ هُوَ ابْنُ عُمَرَ رَاوِي الْحَدِيثِ، أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ:

ص: 206

أَنَّ حَفْصَةَ قَالَتْ لَهُ: أَعَلِمْتَ أَنَّ أَبَاكَ غَيْرُ مُسْتَخْلِفٍ؟ قَالَ: فَحَلَفْتُ أَنْ أُكَلِّمَهُ فِي ذَلِكَ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ وَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: لَوْ كَانَ لَكَ رَاعِي غَنَمٍ ثُمَّ جَاءَكَ وَتَرَكَهَا لَرَأَيْتَ أَنْ قَدْ ضَيَّعَ، فَرِعَايَةُ النَّاسِ أَشَدُّ: وَفِيهِ قَوْلُ عُمَرَ فِي جَوَابِ ذَلِكَ: إِنَّ اللَّهَ يَحْفَظُ دِينَهُ.

قَوْلُهُ: إِنْ أَسْتَخْلِفْ إِلَخْ فِي رِوَايَةِ سَالِمٍ: إِنْ لَا أَسْتَخْلِفْ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْتَخْلِفْ، وَإِنْ أَسْتَخْلِفْ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ قَدِ اسْتَخْلَفَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ ذَكَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ فَعَلِمْتُ أَنَّهُ لَمْ يَعْدِلْ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَدًا، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَخْلِفٍ وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَأَظُنُّهُ ابْنَ عُمَيْرٍ قَالَ: قَالَ أُنَاسٌ لِعُمَرَ أَلَا تَعْهَدُ؟ قَالَ: أَيُّ ذَلِكَ آخُذُ فَقَدْ تَبَيَّنَ لِي أَنَّ الْفِعْلَ وَالتَّرْكَ وَهُوَ مُشْكِلٌ وَيُزِيلُهُ أَنَّ دَلِيلَ التَّرْكِ مِنْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم وَاضِحٌ، وَدَلِيلُ الْفِعْلِ يُؤْخَذُ مِنْ عَزْمِهِ الَّذِي حَكَتْهُ عَائِشَةُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَهُوَ لَا يَعْزِمُ إِلَّا عَلَى جَائِزٍ، فَكَأَنَّ عُمَرَ قَالَ: إِنْ أَسْتَخْلِفْ فَقَدْ عَزَمَ صلى الله عليه وسلم عَلَى الِاسْتِخْلَافِ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ، وَإِنْ أَتْرُكْ فَقَدْ تَرَكَ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ، وَفَهِمَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ عَزْمِهِ الْجَوَازَ فَاسْتَعْمَلَهُ، وَاتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى قَبُولِهِ، قَالَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ.

قُلْتُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ عُمَرَ رَجَحَ عِنْدَهُ التَّرْكُ، لِأَنَّهُ الَّذِي وَقَعَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم بِخِلَافِ الْعَزْمِ وَهُوَ يُشْبِهُ عَزْمَهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى التَّمَتُّعِ فِي الْحَجِّ، وَفِعْلَهُ الْإِفْرَادَ فَرُجِّحَ الْإِفْرَادُ.

قَوْلُهُ: (فَأَثْنَوْا عَلَيْهِ فقَالَ رَاغِبٌ وَرَاهِبٌ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الَّذِينَ أَثْنَوْا عَلَيْهِ إِمَّا رَاغِبٌ فِي حُسْنِ رَأْيِي فِيهِ وَتَقَرُّبِي لَهُ، وَإِمَّا رَاهِبٌ مِنْ إِظْهَارِ مَا يُضْمِرُهُ مِنْ كَرَاهَتِهِ، أَوِ الْمَعْنَى رَاغِبٌ فِيمَا عِنْدِي وَرَاهِبٌ مِنِّي، أَوِ الْمُرَادُ النَّاسُ رَاغِبٌ فِي الْخِلَافَةِ وَرَاهِبٌ مِنْهَا، فَإِنْ وَلَّيْتُ الرَّاغِبَ فِيهَا خَشِيتَ أَنْ لَا يُعَانَ عَلَيْهَا، وَإِنْ وَلَّيْتُ الرَّاهِبَ مِنْهَا خَشِيتُ أَنْ لَا يَقُومَ بِهَا. وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ تَوْجِيهًا آخَرَ: إِنَّهُمَا وَصْفَانِ لِعُمَرَ أَيْ رَاغِبٌ فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ، رَاهِبٌ مِنْ عِقَابِهِ، فَلَا أُعَوِّلُ عَلَى ثَنَائِكُمْ وَذَلِكَ يَشْغَلُنِي عَنِ الْعِنَايَةِ بِالِاسْتِخْلَافِ عَلَيْكُمْ.

قَوْلُهُ: وَدِدْتُ أَنِّي نَجَوْتُ مِنْهَا أَيْ مِنَ الْخِلَافَةِ (كَفَافًا) بِفَتْحِ الْكَافِ وَتَخْفِيفِ الْفَاءِ أَيْ مَكْفُوفًا عَنِّي شَرُّهَا وَخَيْرُهَا. وَقَدْ فَسَّرَهُ فِي الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ: لَا لِي وَلَا عَلَيَّ وَقَدْ تَقَدَّمَ نَحْوُ هَذَا مِنْ قَوْلِ عُمَرَ فِي مَنَاقِبِهِ فِي مُرَاجَعَتِهِ لِأَبِي مُوسَى فِيمَا عَمِلُوهُ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ: لَوَدِدْتُ لَوْ أَنَّ حَظِّي مِنْهَا الْكَفَافُ.

قَوْلُهُ: (لَا أَتَحَمَّلُهَا حَيًّا وَمَيِّتًا) فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ: أَتَحَمَّلُ أَمْرَكُمْ حَيًّا وَمَيِّتًا وَهُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ حُذِفَتْ مِنْهُ أَدَاتُهُ، وَقَدْ بَيَّنَ عُذْرَهُ فِي ذَلِكَ لَكِنَّهُ لَمَّا أَثَّرَ فِيهِ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ حَيْثُ مَثَّلَ لَهُ أَمْرَ النَّاسِ بِالْغَنَمِ مَعَ الرَّاعِي خَصَّ الْأَمْرَ بِالسِّتَّةِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَخْتَارُوا مِنْهُمْ وَاحِدًا، وَإِنَّمَا خَصَّ السِّتَّةَ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَمْرَانِ كَوْنُهُ مَعْدُودًا فِي أَهْلِ بَدْرٍ، وَمَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَنْهُ رَاضٍ، وَقَدْ صَرَّحَ بِالثَّانِي الْحَدِيثُ الْمَاضِي فِي مَنَاقِبِ عُثْمَانَ، وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَأَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ أَبْزَى، عَنْ عُمَرَ قَالَ: هَذَا الْأَمْرَ فِي أَهْلِ بَدْرٍ مَا بَقِيَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، ثُمَّ فِي أَهْلِ أُحُدٍ. ثُمَّ فِي كَذَا، وَلَيْسَ فِيهَا لِطَلِيقٍ وَلَا لِمُسْلِمَةِ الْفَتْحِ شَيْءٌ. وَهَذَا مَصِيرٌ مِنْهُ إِلَى اعْتِبَارِ تَقْدِيمِ الْأَفْضَلِ فِي الْخِلَافَةِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ مَا حَاصِلُهُ: أَنَّ عُمَرَ سَلَكَ فِي هَذَا الْأَمْرِ مَسْلَكًا مُتَوَسِّطًا خَشْيَةَ الْفِتْنَةِ فَرَأَى أَنَّ الِاسْتِخْلَافَ أَضْبَطُ لِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَجَعَلَ الْأَمْرَ مَعْقُودًا مَوْقُوفًا عَلَى السِّتَّةِ لِئَلَّا يَتْرُكَ الِاقْتِدَاءَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ، فَأَخَذَ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم طَرَفًا وَهُوَ تَرْكُ التَّعْيِينِ، وَمِنْ فِعْلِ أَبِي بَكْرٍ طَرَفًا، وَهُوَ الْعَقْدُ لِأَحَدِ السِّتَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ انْتَهَى. مُلَخَّصًا.

قَالَ: وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ عَقْدِ الْخِلَافَةِ مِنَ الْإِمَامِ الْمُتَوَلِّي لِغَيْرِهِ بَعْدَهُ، وَأَنَّ أَمْرَهُ فِي ذَلِكَ جَائِزٌ عَلَى عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ لِإِطْبَاقِ الصَّحَابَةِ، وَمَنْ مَعَهُمْ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا عَهِدَهُ أَبُو بَكْرٍ، لِعُمَرَ، وَكَذَا لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي قَبُولِ عَهْدِ عُمَرَ إِلَى السِّتَّةِ، قَالَ: وَهُوَ شَبِيهٌ بِإِيصَاءِ الرَّجُلِ عَلَى وَلَدِهِ لِكَوْنِ نَظَرِهِ فِيمَا يَصْلُحُ أَتَمَّ مِنْ غَيْرِهِ فَكَذَلِكَ الْإِمَامُ، انْتَهَى.

ص: 207

وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ جَزَمَ كَالطَّبَرِيِّ، وَقَبْلَهُ بَكْرُ ابْنُ أُخْتِ عَبْدِ الْوَاحِدِ، وَبَعْدَهُ ابْنُ حَزْمٍ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَخْلَفَ أَبَا بَكْرٍ قَالَ: وَوَجْهُهُ جَزْمُ عُمَرَ بِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَخْلِفْ، لَكِنْ تَمَسَّكَ مَنْ خَالَفَهُ بِإِطْبَاقِ النَّاسِ عَلَى تَسْمِيَةِ أَبِي بَكْرٍ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ، وَاحْتَجَّ الطَّبَرِيُّ أَيْضًا بِمَا أَخْرَجَهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ رَأَيْتُ عُمَرَ يُجْلِسُ النَّاسَ وَيَقُولُ اسْمَعُوا لِخَلِيفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قُلْتُ: وَنَظِيرُهُ مَا فِي الْحَدِيثِ الْخَامِسِ مِنْ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ: حَتَّى يَرَى اللَّهُ خَلِيفَةَ نَبِيِّهِ وَرُدَّ بِأَنَّ الصِّيغَةَ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ مَفْعُولٍ، وَمِنْ فَاعِلٍ فَلَا حُجَّةَ فِيهَا، وَيَتَرَجَّحُ كَوْنُهَا مِنْ فَاعِلٍ جَزْمُ عُمَرَ بِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَخْلِفْ وَمُوَافَقَةُ ابْنِ عُمَرَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَعَلَى هَذَا فَمَعْنَى: خَلِيفَةِ رَسُولِ اللَّهِ الَّذِي خَلَفَهُ فَقَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ فَسُمِّيَ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ لِذَلِكَ، وَأَنَّ عُمَرَ أَطْلَقَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ بِمَا تَضَمَّنَهُ حَدِيثُ الْبَابِ، وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا تَصْرِيحٌ، لَكِنَّ مَجْمُوعَهَا يُؤْخَذُ مِنْهُ ذَلِكَ، فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ، وَكَذَا فِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ مِنَ الرَّاوَنْدِيَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَصَّ عَلَى الْعَبَّاسِ، وَعَلَى قَوْلِ الرَّوَافِضِ كُلِّهَا أَنَّهُ نَصَّ عَلَى عَلِيٍّ.

وَوَجْهُ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ إِطْبَاقُ الصَّحَابَةِ عَلَى مُتَابَعَةِ أَبِي بَكْرٍ ثُمَّ عَلَى طَاعَتِهِ فِي مُبَايَعَةِ عُمَرَ، ثُمَّ عَلَى الْعَمَلِ بِعَهْدِ عُمَرَ فِي الشُّورَى، وَلَمْ يَدَّعِ الْعَبَّاسُ، وَلَا عَلِيٌّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَهِدَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ: أَجْمَعُوا عَلَى انْعِقَادِ الْخِلَافَةِ بِالِاسْتِخْلَافِ، وَعَلَى انْعِقَادِهَا بِعَقْدِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ لِإِنْسَانٍ حَيْثُ لَا يَكُونُ هُنَاكَ اسْتِخْلَافٌ غَيْرَهُ، وَعَلَى جَوَازِ جَعْلِ الْخَلِيفَةِ الْأَمْرَ شُورَى بَيْنَ عَدَدٍ مَحْصُورٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ نَصْبُ خَلِيفَةً، وَعَلَى أَنَّ وُجُوبَهُ بِالشَّرْعِ لَا بِالْعَقْلِ، وَخَالَفَ بَعْضُهُمْ كَالْأَصَمِّ وَبَعْضِ الْخَوَارِجِ فَقَالُوا: يَجِبُ نَصْبُ الْخَلِيفَةِ. وَخَالَفَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ فَقَالُوا: يَجِبُ بِالْعَقْلِ لَا بِالشَّرْعِ، وَهُمَا بَاطِلَانِ. أَمَّا الْأَصَمُّ فَاحْتَجَّ بِبَقَاءِ الصَّحَابَةِ بِلَا خَلِيفَةٍ مُدَّةَ التَّشَاوُرِ أَيَّامَ السَّقِيفَةِ وَأَيَّامَ الشُّورَى بَعْدَ مَوْتِ عُمَرَ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُطْبِقُوا عَلَى التَّرْكِ بَلْ كَانُوا سَاعِينَ فِي نَصْبِ الْخَلِيفَةِ، آخِذِينَ فِي النَّظَرِ فِيمَنْ يَسْتَحِقُّ عَقْدَهَا لَهُ، وَيَكْفِي فِي الرَّدِّ عَلَى الْأَصَمِّ أَنَّهُ مَحْجُوجٌ بِإِجْمَاعِ مَنْ قَبْلَهُ، وَأَمَّا الْقَوْلُ الْآخَرُ فَفَسَادُهُ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ وَلَا التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ ذَلِكَ بِحَسَبِ الْعَادَةِ انْتَهَى.

وَفِي قَوْلِ الْمَذْكُورِ مُدَّةَ التَّشَاوُرِ أَيَّامَ السَّقِيفَةِ خَدْشٌ يَظْهَرُ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَأَنَّهُمْ بَايَعُوا أَبَا بَكْرٍ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ لِتَصْرِيحِهِ فِيهِ بِأَنَّ عُمَرَ خَطَبَ الْغَدَ مِنْ يَوْمِ تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَذَكَرَ أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ: فَقُومُوا فَبَايِعُوهُ وَكَانَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ قَدْ بَايَعُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ وَعَقْدِ الْخِلَافَةِ لِأَبِي بَكْرٍ إِلَّا دُونَ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ إِيضَاحُ ذَلِكَ فِي مَنَاقِبِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ:

قَوْلُهُ: هِشَامٌ هُوَ ابْنُ يُوسُفَ الصَّنْعَانِيُّ.

قَوْلُهُ: إِنَّهُ سَمِعَ خُطْبَةَ عُمَرَ الْآخِرَةَ حِينَ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَذَلِكَ الْغَدَ مِنْ يَوْمِ تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَذَا الَّذِي حَكَاهُ أَنَسٌ أَنَّهُ شَاهَدَهُ وَسَمِعَهُ كَانَ بَعْدَ عَقْدِ الْبَيْعَةِ لِأَبِي بَكْرٍ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ كَمَا سَبَقَ بَسْطُهُ وَبَيَانُهُ فِي بَابِ رَجْمِ الْحُبْلَى مِنَ الزِّنَا وَذَكَرَ هُنَاكَ أَنَّهُ بَايَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ ثُمَّ الْأَنْصَارُ فَكَأَنَّهُمْ لَمَّا أَنْهَوُا الْأَمْرَ هُنَاكَ، وَحَصَلَتِ الْمُبَايَعَةُ لِأَبِي بَكْرٍ جَاءُوا إِلَى الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ فَتَشَاغَلُوا بِأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ ذَكَرَ عُمَرُ لِمَنْ لَمْ يَحْضُرْ عَقْدَ الْبَيْعَةِ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ مَا وَقَعَ هُنَاكَ، ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى مُبَايَعَةِ أَبِي بَكْرٍ فَبَايَعَهُ حِينَئِذٍ مَنْ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا، وَكُلُّ ذَلِكَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَلَا يَقْدَحُ فِيهِ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي قُلْتُ لَكُمْ أَمْسَ مَقَالَةً لِأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ خُطْبَتَهُ الْمَذْكُورَةَ كَانَتْ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ كَذَلِكَ، وَزَادَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: قُلْتُ لَكُمْ أَمْسَ مَقَالَةً وَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ كَمَا قُلْتُ وَاللَّهِ مَا وَجَدْتُ الَّذِي قُلْتُ

ص: 208

لَكُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا فِي عَهْدٍ عَهِدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَكِنْ رَجَوْتُ أَنْ يَعِيشَ. إِلَخْ.

قَوْلُهُ: (قَالَ) يَعْنِي عُمَرُ (كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَعِيشَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَدْبُرَنَا) ضَبَطَهُ ابْنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الدَّالِ وَضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ، أَيْ يَكُونُ آخِرَنَا قَالَ الْخَلِيلُ: دَبَرْتُ الشَّيْءَ دَبْرًا أَتْبَعْتُهُ، وَدَبَرَنِي فُلَانٌ: جَاءَ خَلْفِي. وَقَدْ فَسَّرَهُ فِي الْخَبَرِ بِقَوْلِهِ: يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ آخِرَهُمْ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ وَلَكِنْ رَجَوْتُ أَنْ يَعِيشَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يُدَبِّرَ أَمْرَنَا وَهُوَ بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ وَعَلَى هَذَا فَيُقْرَأُ الَّذِي فِي الْأَصْلِ كَذَلِكَ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ يُدَبِّرَنَا: يُدَبِّرَ أَمْرَنَا لَكِنْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ أَيْضًا حَتَّى يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آخِرنَا وَهَذَا كُلُّهُ قَالَهُ عُمَرُ مُعْتَذِرًا عَمَّا سَبَقَ مِنْهُ حَيْثُ خَطَبَ قَبْلَ أَبِي بَكْرٍ حِينَ مَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَمُتْ وَقَدْ سَبَقَ ذَلِكَ وَاضِحًا.

قَوْلُهُ: (فَإِنْ يَكُ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم قَدْ مَاتَ) هُوَ بَقِيَّةُ كَلَامِ عُمَرَ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ، فَاخْتَارَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ الَّذِي يَبْقَى عَلَى الَّذِي عِنْدَكُمْ.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ نُورًا تَهْتَدُونَ بِهِ بِمَا هَدَى اللَّهُ مُحَمَّدًا) يَعْنِي الْقُرْآنَ وَوَقَعَ بَيَانُهُ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي أَوَائِلِ الِاعْتِصَامِ بِلَفْظِ: وَهَذَا الْكِتَابُ الَّذِي هَدَى اللَّهُ بِهِ رَسُولَكُمْ فَخُذُوا بِهِ تَهْتَدُوا كَمَا هَدَى اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ: وَهَدَى اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا فَاعْتَصِمُوا بِهِ تَهْتَدُوا فَإِنَّمَا هَدَى اللَّهُ مُحَمَّدًا بِهِ وَفِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ: قَدْ جَعَلَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ كِتَابَهُ الَّذِي هَدَى بِهِ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فَخُذُوا بِهِ تَهْتَدُوا.

قَوْلُهُ: (وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَخْ) قَالَ ابْنُ التِّينِ: قَدَّمَ الصُّحْبَةَ لِشَرَفِهَا، وَلَمَّا كَانَ غَيْرُهُ قَدْ يُشَارِكُهُ فِيهَا عَطَفَ عَلَيْهَا مَا انْفَرَدَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ كَوْنُهُ ثَانِيَ اثْنَيْنِ وَهِيَ أَعْظَمُ فَضَائِلِهِ الَّتِي اسْتَحَقَّ بِهَا أَنْ يَكُونَ الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَإِنَّهُ أَوْلَى النَّاسِ بِأُمُورِكُمْ.

قَوْلُهُ: فَقُومُوا فَبَايِعُوهُ وَكَانَ طَائِفَةٌ إِلَخْ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى بَيَانِ السَّبَبِ فِي هَذِهِ الْمُبَايَعَةِ، وَإِنَّهُ لِأَجْلِ مَنْ لَمْ يَحْضُرْ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَتْ بَيْعَةُ الْعَامَّةِ عَلَى الْمِنْبَرِ) أَيْ فِي الْيَوْمِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ صَبِيحَةُ الْيَوْمِ الَّذِي بُويِعَ فِيهِ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ.

قَوْلُهُ: قَالَ الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَنَسٍ هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مُخْتَصَرًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ.

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ لِأَبِي بَكْرٍ يَوْمَئِذٍ اصْعَدِ الْمِنْبَرَ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: لَقَدْ رَأَيْتُ عُمَرَ يُزْعِجُ أَبَا بَكْرٍ إِلَى الْمِنْبَرِ إِزْعَاجًا

قَوْلُهُ: (حَتَّى صَعِدَ الْمِنْبَرَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: حَتَّى أَصْعَدَهُ الْمِنْبَرَ قَالَ ابْنُ التِّينِ: سَبَبُ إِلْحَاحِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ لِيُشَاهِدَ أَبَا بَكْرٍ مَنْ عَرَفَهُ، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ، انْتَهَى. وَكَانَ تَوَقُّفُ أَبِي بَكْرٍ فِي ذَلِكَ مِنْ تَوَاضُعِهِ وَخَشْيَتِهِ.

قَوْلُهُ: (فَبَايَعَهُ النَّاسُ عَامَّةً) أَيْ كَانَتِ الْبَيْعَةُ الثَّانِيَةُ أَعَمَّ وَأَشْهَرَ، وَأَكْثَرَ مِنَ الْمُبَايَعَةِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى بَيَانِ ذَلِكَ عِنْدَ شَرْحِ أَصْلِ بَيْعَةِ أَبِي بَكْرٍ مِنْ كِتَابِ الْحُدُودِ

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: حَدِيثُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ الَّذِي فِيهِ: إِنْ لَمْ تَجِدِينِي، فَأْتِي أَبَا بَكْرٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَّلِ مَنَاقِبِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَسَيَأْتِي شَيْءٌ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ: يَحْيَى هُوَ الْقَطَّانُ، وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ.

قَوْلُهُ: عَنْ أَبِي بَكْرٍ قَالَ لِوَفْدِ بُزَاخَةَ أَيْ: أَنَّهُ قَالَ وَلَفْظُهُ: أَنَّهُ يَحْذِفُونَهَا كَثِيرًا مِنَ الْخَطِّ، وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقٍ قَالَ: جَاءَ وَفْدُ بُزَاخَةَ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ، وَبُزَاخَةُ: بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَتَخْفِيفِ الزَّايِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ خَاءٌ مُعْجَمَةٌ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَهْدِيٍّ الْمَذْكُورَةِ مِنْ أَسَدٍ وَغَطَفَانَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى ذَكَرَهَا ابْنُ بَطَّالٍ، وَهُمْ مِنْ طَيِّئٍ وَأَسَدٌ قَبِيلَةٌ كَبِيرَةٌ يُنْسَبُونَ إِلَى أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ، وَهُمْ إِخْوَةُ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ أَصْلُ قُرَيْشٍ.

وَغَطَفَانُ قَبِيلَةٌ كَبِيرَةٌ يُنْسَبُونَ إِلَى غَطَفَانَ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا فَاءٌ، ابْنُ سَعْدِ

ص: 209

بْنِ قَيْسِ عَيْلَانَ بْنِ مُضَرَ، وَطَيِّئٌ بِفَتْحِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ آخِرِ الْحُرُوفِ بَعْدَهَا أُخْرَى مَهْمُوزَةٌ، وَكَانَ هَؤُلَاءِ الْقَبَائِلُ ارْتَدُّوا بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاتَّبَعُوا طُلَيْحَةَ بْنَ خُوَيْلِدٍ الْأَسَدِيَّ، وَكَانَ قَدِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَطَاعُوهُ لِكَوْنِهِ مِنْهُمْ فَقَاتَلَهُمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بَعْدَ أَنْ فَرَغَ مِنْ مُسَيْلِمَةَ بِالْيَمَامَةِ، فَلَمَّا غَلَبَ عَلَيْهِمْ بَعَثُوا وَفْدَهُمْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، وَقَدْ ذَكَرَ قِصَّتَهُمُ الطَّبَرِيُّ، وَغَيْرُهُ فِي أَخْبَارِ الرِّدَّةِ، وَمَا وَقَعَ مِنْ مُقَاتَلَةِ الصَّحَابَةِ لَهُمْ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ الْبَكْرِيُّ فِي مُعْجَمِ الْأَمَاكِنِ أَنَّ بُزَاخَةَ مَاءٌ لِطَيِّئٍ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ، وَلِبَنِي أَسَدٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو يَعْنِي الشَّيْبَانِيَّ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هِيَ رَمْلَةٌ مِنْ وَرَاءِ النِّبَاجِ، انْتَهَى. وَالنِّبَاجُ بِنُونٍ وَمُوَحَّدَةٍ خَفِيفَةٍ ثُمَّ جِيمٍ مَوْضِعٌ فِي طَرِيقِ الْحَاجِّ مِنَ الْبَصْرَةِ.

قَوْلُهُ: تَتَّبِعُونَ أَذْنَابَ الْإِبِلِ إِلَخْ كَذَا ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ هَذِهِ الْقِطْعَةَ مِنَ الْخَبَرِ مُخْتَصَرَةً، وَلَيْسَ غَرَضُهُ مِنْهَا إِلَّا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ خَلِيفَةِ نَبِيِّهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الثَّالِثِ، وَقَدْ أَوْرَدَهَا أَبُو بَكْرٍ الْبَرْقَانِيُّ فِي مُسْتَخْرَجِهِ، وَسَاقَهَا الْحُمَيْدِيُّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ، وَلَفْظُهُ الْحَدِيثُ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، قَالَ: جَاءَ وَفْدُ بُزَاخَةَ مِنْ أَسَدٍ وَغَطَفَانَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ يَسْأَلُونَهُ الصُّلْحَ، فَخَيَّرَهُمْ بَيْنَ الْحَرْبِ الْمُجْلِيَةِ وَالسِّلْمِ الْمُخْزِيَةِ، فَقَالُوا: هَذِهِ الْمُجْلِيَةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا فَمَا الْمُخْزِيَةُ، قَالَ: نَنْزِعُ مِنْكُمُ الْحَلْقَةَ وَالْكُرَاعَ وَنَغْنَمُ مَا أَصَبْنَا مِنْكُمْ، وَتَرُدُّونَ عَلَيْنَا مَا أَصَبْتُمْ مِنَّا وَتَدُونَ لَنَا قَتْلَانَا، وَيَكُونُ قَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ، وَتَتْرُكُونَ أَقْوَامًا يَتَّبِعُونَ أَذْنَابَ الْإِبِلِ حَتَّى يُرِيَ اللَّهُ خَلِيفَةَ رَسُولِهِ وَالْمُهَاجِرِينَ أَمْرًا يَعْذُرُونَكُمْ بِهِ، فَعَرَضَ أَبُو بَكْرٍ مَا قَالَ عَلَى الْقَوْمِ، فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: قَدْ رَأَيْتُ رَأْيًا وَسَنُشِيرُ عَلَيْكَ، أَمَّا مَا ذَكَرْتَ - فَذَكَرَ الْحُكْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ - قَالَ: فَنِعْمَ مَا ذَكَرْتَ، وَأَمَّا تَدُونَ قَتْلَانَا وَيَكُونُ قَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ، فَإِنَّ قَتْلَانَا قَاتَلَتْ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، وَأُجُورُهَا عَلَى اللَّهِ لَيْسَتْ لَهَا دِيَاتٌ قَالَ: فَتَتَابَعَ الْقَوْمُ عَلَى مَا قَالَ عُمَرُ. قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: اخْتَصَرَهُ الْبُخَارِيُّ فَذَكَرَ طَرَفًا مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُهُ لَهُمْ: يَتَّبِعُونَ أَذْنَابَ الْإِبِلِ - إِلَى قَوْلِهِ - يَعْذُرُونَكُمْ بِهِ وَأَخْرَجَهُ بِطُولِهِ الْبَرْقَانِيُّ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْهُ، انْتَهَى.

مُلَخَّصًا. وَذَكَرَهُ ابْنُ بَطَّالٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ بِهَذَا السَّنَدِ مُطَوَّلًا أَيْضًا لَكِنْ قَالَ فِيهِ: وَفْدُ بُزَاخَةَ وَهُمْ مِنْ طَيِّئٍ وَقَالَ فِيهِ: فَخَطَبَ أَبُو بَكْرٍ النَّاسَ فَذَكَرَ مَا قَالُوا، وَقَالَ: وَالْبَاقِي سَوَاءٌ، وَالْمُجْلِيَةُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْجِيمِ بَعْدَهَا لَامٌ مَكْسُورَةٌ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٌ مِنَ الْجَلَاءِ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ مَعَ الْمَدِّ وَمَعْنَاهَا: الْخُرُوجُ عَنْ جَمِيعِ الْمَالِ. وَالْمُخْزِيَةُ بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ وَزَايٍ بِوَزْنِ الَّتِي قَبْلَهَا: مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْخِزْيِ، وَمَعْنَاهَا: الْقَرَارُ عَلَى الذُّلِّ وَالصَّغَارِ، وَالْحَلْقَةُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ بَعْدَهَا قَافٌ: السِّلَاحُ، وَالْكُرَاعُ بِضَمِّ الْكَافِ عَلَى الصَّحِيحِ وَبِتَخْفِيفِ الرَّاءِ: جَمِيعُ الْخَيْلِ.

وَفَائِدَةُ نَزْعِ ذَلِكَ مِنْهُمْ أَنْ لَا يَبْقَى لَهُمْ شَوْكَةٌ لِيَأْمَنَ النَّاسُ مِنْ جِهَتِهِمْ، وَقَوْلُهُ: وَنَغْنَمُ مَا أَصَبْنَا مِنْكُمْ أَيْ يَسْتَمِرُّ ذَلِكَ لَنَا غَنِيمَةً نَقْسِمُهَا عَلَى الْفَرِيضَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَا نَرُدُّ عَلَيْكُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَقَوْلُهُ: وَتَرُدُّونَ عَلَيْنَا مَا أَصَبْتُمْ مِنَّا أَيْ مَا انْتَهَبْتُمُوهُ مِنْ عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ فِي حَالَةِ الْمُحَارَبَةِ، وَقَوْلُهُ: تَدُونَ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ، وَتَخْفِيفِ الدَّالِ الْمَضْمُومَةِ: أَيْ تَحْمِلُونَ إِلَيْنَا دِيَاتِهِمْ، وَقَوْلُهُ: قَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ أَيْ لَا دِيَاتَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا؛ لِأَنَّهُمْ مَاتُوا عَلَى شِرْكِهِمْ، فَقُتِلُوا بِحَقٍّ فَلَا دِيَةَ لَهُمْ، وَقَوْلُهُ وَتُتْرَكُونَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَيَتَّبِعُونَ أَذْنَابَ الْإِبِلِ أَيْ فِي رِعَايَتِهَا؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا نُزِعَتْ مِنْهُمْ آلَةُ الْحَرْبِ رَجَعُوا أَعْرَابًا فِي الْبَوَادِي لَا عَيْشَ لَهُمْ إِلَّا مَا يَعُودُ عَلَيْهِمْ مِنْ مَنَافِعِ إِبِلِهِمْ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: كَانُوا ارْتَدُّوا ثُمَّ تَابُوا، فَأَوْفَدُوا رُسُلَهُمْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ فَأَحَبَّ أَبُو بَكْرٍ أَنْ لَا يَقْضِيَ بَيْنَهُمْ إِلَّا بَعْدَ الْمُشَاوَرَةِ فِي أَمْرِهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ: ارْجِعُوا

ص: 210

وَاتَّبِعُوا أَذْنَابَ الْإِبِلِ فِي الصَّحَارِي، انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْغَايَةِ الَّتِي أَنْظَرَهُمْ إِلَيْهَا أَنْ تَظْهَرَ تَوْبَتُهُمْ وَصَلَاحُهُمْ بِحُسْنِ إِسْلَامِهِمْ.

باب

7222، 7223 - حَدَّثَنِا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: يَكُونُ اثْنَا عَشَرَ أَمِيرًا فَقَالَ كَلِمَةً لَمْ أَسْمَعْهَا فَقَالَ أَبِي: إِنَّهُ قَالَ: كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ.

قَوْلُهُ: بَابُ كَذَا لِلْجَمِيعِ بِغَيْرِ تَرْجَمَةٍ وَسَقَطَ لَفْظُ: بَابُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، والسَّرَخْسِيِّ، وَهُوَ كَالْفَصْلِ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَتَعَلُّقُهُ بِهِ ظَاهِرٌ.

قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ حَدَّثَنِي بِالْإِفْرَادِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ) فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ.

قَوْلُهُ: (يَكُونُ اثْنَا عَشَرَ أَمِيرًا) فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ الْمَذْكُورَةِ لَا يَزَالُ أَمْرُ النَّاسِ مَاضِيًا مَا وَلِيَهُمُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا.

قَوْلُهُ: فَقَالَ كَلِمَةً لَمْ أَسْمَعْهَا فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ، ثُمَّ تَكَلَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكَلِمَةٍ خَفِيَتْ عَلَيَّ.

قَوْلُهُ: فَقَالَ أَبِي: إِنَّهُ قَالَ كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ: فَسَأَلْتُ أَبِي مَاذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ سَبَبُ خَفَاءِ الْكَلِمَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى جَابِرٍ، وَلَفْظُهُ: لَا يَزَالُ هَذَا الدِّينُ عَزِيزًا إِلَى اثَّنَي عَشَرَ خَلِيفَةً قَالَ: فَكَبَّرَ النَّاسُ وَضَجُّوا، فَقَالَ: كَلِمَةً خَفِيَّةً فَقُلْتُ لِأَبِي: يَا أَبَتِ مَا قَالَ. فَذَكَرَهُ، وَأَصْلُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ دُونَ قَوْلِهِ: فَكَبَّرَ النَّاسُ وَضَجُّوا وَوَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِي آخِرِهِ: فَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَأَبَي فِي أُنَاسٍ فَأَثْبَتُوا إِلَيَّ الْحَدِيثَ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَنْقَضِي حَتَّى يَمْضِيَ فِيهِمُ اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ بِلَفْظِ: لَا يَزَالُ الْإِسْلَامُ عَزِيزًا إِلَى اثَّنَي عَشَرَ خَلِيفَةً وَمِثْلُهُ عِنْدَهُ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ وَزَادَ فِي رِوَايَةِ عَنْهُ: مَنِيعًا وَعُرِفَ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ: مَاضِيًا أَيْ مَاضِيًا أَمْرُ الْخَلِيفَةِ فِيهِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: عَزِيزًا قَوِيًّا وَمَنِيعًا بِمَعْنَاهُ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ عِنْدَ الْبَزَّارِ، وَالطَّبَرَانِيِّ نَحْوُ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ بِلَفْظِ: لَا يَزَالُ أَمْرُ أُمَّتِي صَالِحًا.

وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ الْأَسْوَدِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ نَحْوَهُ قَالَ: وَزَادَ فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ أَتَتْهُ قُرَيْشٌ فَقَالُوا، ثُمَّ يَكُونُ مَاذَا؟ قَالَ: الْهَرْجُ وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ فِيهَا: ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: ثُمَّ يَكُونُ مَاذَا؟ قَالَ الْهَرْجُ.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الْمُهَلَّبِ: لَمْ أَلْقَ أَحَدًا يَقْطَعُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ - يَعْنِي بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ - فَقَوْمٌ قَالُوا يَكُونُونَ بِتَوَالِي إِمَارَتِهِمْ، وَقَوْمٌ قَالُوا يَكُونُونَ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ، كُلُّهُمْ يَدَّعِي الْإِمَارَةَ. قَالَ وَالَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَخْبَرَ بِأَعَاجِيبَ تَكُونُ بَعْدَهُ مِنَ الْفِتَنِ، حَتَّى يَفْتَرِقَ النَّاسُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ عَلَى اثَّنَي عَشَرَ أَمِيرًا، قَالَ: وَلَوْ أَرَادَ غَيْرَ هَذَا لَقَالَ: يَكُونُ اثْنَا عَشَرَ أَمِيرًا يَفْعَلُونَ كَذَا، فَلَمَّا أَعْرَاهُمْ مِنَ الْخَبَرِ عَرَفْنَا أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ انْتَهَى. وَهُوَ كَلَامُ مَنْ لَمْ يَقِفْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْحَدِيثِ غَيْرِ الرِّوَايَةِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي الْبُخَارِيِّ هَكَذَا مُخْتَصَرَةٌ.

وَقَدْ عَرَفْتُ مِنَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا مِنْ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، أَنَّهُ ذَكَرَ الصِّفَةَ الَّتِي تَخْتَصُّ بِوِلَايَتِهِمْ وَهُوَ كَوْنُ الْإِسْلَامِ عَزِيزًا مَنِيعًا، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى صِفَةٌ أُخْرَى وَهُوَ أَنَّ كُلَّهُمْ يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ النَّاسُ، كَمَا وَقَعَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ فَإِنَّهُ أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ

ص: 211

أَبِي خَالِدٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ بِلَفْظِ: لَا يَزَالُ هَذَا الدِّينُ قَائِمًا حَتَّى يَكُونَ عَلَيْكُمُ اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً كُلُّهُمْ تَجْتَمِعُ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ بِلَفْظِ: لَا تَضُرُّهُمْ عَدَاوَةُ مَنْ عَادَاهُمْ وَقَدْ لَخَصَّ الْقَاضِي عِيَاضٌ ذَلِكَ فَقَالَ: تَوَجَّهَ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ سُؤَالَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُعَارِضُ ظَاهِرَ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ سَفِينَةَ يَعْنِي الَّذِي أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ: الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا. لِأَنَّ الثَّلَاثِينَ سَنَةً لَمْ يَكُنْ فِيهَا إِلَّا الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ وَأَيَّامُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ. وَالثَّانِي أَنَّهُ وَلِيَ الْخِلَافَةَ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا الْعَدَدِ، قَالَ: وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ أَرَادَ فِي حَدِيثِ سَفِينَةَ: خِلَافَةَ النُّبُوَّةِ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ بِذَلِكَ. وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ لَا يَلِي إِلَّا اثْنَا عَشَرَ وَإِنَّمَا قَالَ: يَكُونُ اثْنَا عَشَرَ وَقَدْ وَلِيَ هَذَا الْعَدَدُ وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِمْ.

قَالَ: وَهَذَا إِنْ جُعِلَ اللَّفْظُ وَاقِعًا عَلَى كُلِّ مَنْ وَلِيَ، وَإِلَّا فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْخِلَافَةَ مِنْ أَئِمَّةِ الْعَدْلِ، وَقَدْ مَضَى مِنْهُمُ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ وَلَا بُدَّ مِنْ تَمَامِ الْعِدَّةِ قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ يَفْتَرِقُ النَّاسُ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ وَقَعَ فِي الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ فِي الْأَنْدَلُسِ وَحْدَهَا سِتَّةُ أَنْفُسَ كُلُّهُمْ يَتَسَمَّى بِالْخِلَافَةِ، وَمَعَهُمْ صَاحِبُ مِصْرَ وَالْعَبَّاسِيَّةُ بِبَغْدَادَ إِلَى مَنْ كَانَ يَدَّعِي الْخِلَافَةَ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ مِنَ الْعَلَوِيَّةِ وَالْخَوَارِجِ، قَالَ وَيَعْضُدُ هَذَا التَّأْوِيلَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثٍ آخَرَ فِي مُسْلِمٍ: سَتَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنْ يَكُونَ الِاثْنَا عَشَرَ فِي مُدَّةِ عِزَّةِ الْخِلَافَةِ وَقُوَّةِ الْإِسْلَامِ وَاسْتِقَامَةِ أُمُورِهِ وَالِاجْتِمَاعِ عَلَى مَنْ يَقُومُ بِالْخِلَافَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ: كُلُّهُمْ تَجْتَمِعُ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ وَهَذَا قَدْ وُجِدَ فِيمَنِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ إِلَى أَنِ اضْطَرَبَ أَمْرُ بَنِي أُمَيَّةَ، وَوَقَعَتْ بَيْنَهُمُ الْفِتْنَةُ زَمَنَ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ، فَاتَّصَلَتْ بَيْنَهُمْ إِلَى أَنْ قَامَتِ الدَّوْلَةُ الْعَبَّاسِيَّةُ فَاسْتَأْصَلُوا أَمْرَهُمْ، وَهَذَا الْعَدَدُ مَوْجُودٌ صَحِيحٌ إِذَا اعْتُبِرَ.

قَالَ: وَقَدْ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أُخَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِ نَبِيِّهِ انْتَهَى. وَالِاحْتِمَالُ الَّذِي قَبْلَ هَذَا وَهُوَ اجْتِمَاعُ اثْنَي عَشَرَ فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ كُلُّهُمْ يَطْلُبُ الْخِلَافَةَ هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْمُهَلَّبُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ ذَكَرْتُ وَجْهَ الرَّدِّ عَلَيْهِ وَلَوْ لَمْ يَرِدْ إِلَّا قَوْلُهُ: كُلُّهُمْ يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ النَّاسُ فَإِنَّ فِي وَجُودِهِمْ فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ يُوجَدُ عَيْنُ الِافْتِرَاقِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادَ، وَيُؤَيِّدُ مَا وَقَعَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِسَنَدٍ حَسَنٍ: أَنَّهُ سُئِلَ كَمْ يَمْلِكُ هَذِهِ الْأُمَّةَ مِنْ خَلِيفَةٍ؟ فَقَالَ: سَأَلْنَا عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: اثْنَا عَشَرَ كَعِدَّةِ نُقَبَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فِي كَشْفِ الْمُشْكِلِ قَدْ أَطَلْتُ الْبَحْثَ عَنْ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ وَتَطَلَّبْتُ مَظَانَّهُ وَسَأَلْتُ عَنْهُ فَلَمْ أَقَعْ عَلَى الْمَقْصُودِ بِهِ؛ لِأَنَّ أَلْفَاظَهُ مُخْتَلِفَةٌ وَلَا أَشُكُّ أَنَّ التَّخْلِيطَ فِيهَا مِنَ الرُّوَاةِ، ثُمَّ وَقَعَ لِي فِيهِ شَيْءٌ وَجَدْتُ الْخَطَّابِيَّ بَعْدَ ذَلِكَ قَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ، ثُمَّ وَجَدْتُ كَلَامًا لِأَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ الْمُنَادِي وَكَلَامًا لِغَيْرِهِ، فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَإِنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا يَكُونُ بَعْدَهُ وَبَعْدَ أَصْحَابِهِ وَأَنَّ حُكْمَ أَصْحَابِهِ مُرْتَبِطٌ بِحُكْمِهِ.

فَأَخْبَرَ عَنْ الْوِلَايَاتِ الْوَاقِعَةِ بَعْدَهُمْ، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى عَدَدِ الْخُلَفَاءِ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ، وَكَأَنَّ قَوْلَهُ: لَا يَزَالُ الدِّينُ - أَيِ الْوِلَايَةُ - إِلَى أَنْ يَلِيَ اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِلَى صِفَةٍ أُخْرَى أَشَدَّ مِنَ الْأُولَى، وَأَوَّلُ بَنِي أُمَيَّةَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ وَآخِرُهُمْ مَرْوَانُ الْحِمَارُ وَعِدَّتُهُمْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَلَا يُعَدُّ عُثْمَانُ، وَمُعَاوِيَةُ وَلَا ابْنُ الزُّبَيْرِ، لِكَوْنِهِمْ صَحَابَةً فَإِذَا أَسْقَطْنَا مِنْهُمْ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ لِلِاخْتِلَافِ فِي صُحْبَتِهِ، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَغَلِّبًا بَعْدَ أَنِ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ صَحَّتِ الْعِدَّةُ، وَعِنْدَ خُرُوجِ الْخِلَافَةِ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ وَقَعَتِ الْفِتَنُ الْعَظِيمَةُ وَالْمَلَاحِمُ الْكَثِيرَةُ حَتَّى اسْتَقَرَّتْ دَوْلَةُ بَنِي الْعَبَّاسِ فَتَغَيَّرَتِ الْأَحْوَالُ عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ تَغَيُّرًا بَيِّنًا.

قَالَ: وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ

ص: 212

تَدُورُ رَحَى الْإِسْلَامِ لِخَمْسٍ وَثَلَاثِينَ أَوْ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ أَوْ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ، فَإِنْ هَلَكُوا فَسَبِيلُ مَنْ هَلَكَ، وَإِنْ يَقُمْ لَهُمْ دِينُهُمْ يَقُمْ لَهُمْ سَبْعِينَ عَامًا، زَادَ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْخَطَابِيُّ فَقَالُوا: سِوَى مَا مَضَى؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: رَحَى الْإِسْلَامِ كِنَايَةٌ عَنِ الْحَرْبِ شَبَّهَهَا بِالرَّحَى الَّتِي تَطْحَنُ الْحَبَّ لِمَا يَكُونُ فِيهَا مِنْ تَلَفِ الْأَرْوَاحِ، وَالْمُرَادُ بِالدِّينِ فِي قَوْلِهِ: يَقُمْ لَهُمْ دِينُهُمْ الْمُلْكُ، قَالَ فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى مُدَّةِ بَنِي أُمَيَّةَ فِي الْمُلْكِ وَانْتِقَالِهِ عَنْهُمْ إِلَى بَنِي الْعَبَّاسِ، فَكَانَ مَا بَيْنَ اسْتِقْرَارِ الْمُلْكِ لِبَنِي أُمَيَّةَ وَظُهُورِ الْوَهَنِ فِيهِ، نَحْوٌ مِنْ سَبْعِينَ سَنَةً.

قُلْتُ: لَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّ مِنَ اسْتِقْرَارِ الْمُلْكِ لِبَنِي أُمَيَّةَ عِنْدَ اجْتِمَاعِ النَّاسِ عَلَى مُعَاوِيَةَ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ إِلَى أَنْ زَالَتْ دَوْلَةُ بَنِي أُمَيَّةَ فَقُتِلَ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ فِي أَوَائِلِ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ أَزْيَدَ مِنْ تِسْعِينَ سَنَةً، ثُمَّ نُقِلَ عَنِ الْخَطِيبِ أَبِي بَكْرٍ الْبَغْدَادِيِّ قَوْلُهُ: تَدُورُ رَحَى الْإِسْلَامِ مَثَلٌ يُرِيدُ أَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ إِذَا انْتَهَتْ حَدَثَ فِي الْإِسْلَامِ أَمْرٌ عَظِيمٌ يُخَافُ بِسَبَبِهِ عَلَى أَهْلِهِ الْهَلَاكُ يُقَالُ لِلْأَمْرِ إِذَا تَغَيَّرَ وَاسْتَحَالَ: دَارَتْ رَحَاهُ، قَالَ: وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى انْتِقَاضِ مُدَّةِ الْخِلَافَةِ، وَقَوْلُهُ: يَقُمْ لَهُمْ دِينُهُمْ أَيْ مُلْكُهُمْ، وَكَانَ مِنْ وَقْتِ اجْتِمَاعِ النَّاسِ عَلَى مُعَاوِيَةَ إِلَى انْتِقَاضِ مُلْكِ بَنِي أُمَيَّةَ نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ.

قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَفَعَهُ: إِذَا مَلَكَ اثْنَا عَشَرَ مِنْ بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ كَانَ النَّقْفُ وَالنِّقَافُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ انْتَهَى. وَالنَّقْفُ ظَهَرَ لِي أَنَّهُ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْقَافِ وَهُوَ كَسْرُ الْهَامَةِ عَنِ الدِّمَاغِ، وَالنِّقَافُ بِوَزْنِ فِعَالٍ مِنهُ، وَكُنِّيَ بِذَلِكَ عَنِ الْقَتْلِ وَالْقِتَالِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي بَعْضِ طُرُقِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ ثُمَّ يَكُونُ الْهَرْجُ وَأَمَّا صَاحِبُ النِّهَايَةِ فَضَبَطَهُ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ بَدَلَ النُّونِ وَفَسَّرَهُ بِالْجَدِّ الشَّدِيدِ فِي الْخِصَامِ، وَلَمْ أَرَ فِي اللُّغَةِ تَفْسِيرَهُ بِذَلِكَ بَلْ مَعْنَاهُ: الْفِطْنَةُ وَالْحَذْقُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَفِي قَوْلِهِ: مِنْ بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِمْ مِنْ قُرَيْشٍ، لِأَنَّ لُؤَيًّا هُوَ ابْنُ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ وَفِيهِمْ جِمَاعُ قُرَيْشٍ، وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ غَيْرَهُمْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ قُرَيْشٍ، فَتَكُونُ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى الْقَحْطَانِيِّ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ.

قَالَ: وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: فَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْمُنَادِي: فِي الْجُزْءِ الَّذِي جَمَعَهُ فِي الْمَهْدِيِّ يَحْتَمِلُ فِي مَعْنَى حَدِيثِ يَكُونُ اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً أَنْ يَكُونَ هَذَا بَعْدَ الْمَهْدِيِّ الَّذِي يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ فَقَدْ وَجَدْتُ فِي كِتَابِ دَانْيَالَ إِذَا مَاتَ الْمَهْدِيُّ مَلَكَ بَعْدَهُ خَمْسَةُ رِجَالٍ مِنْ وَلَدِ السِّبْطِ الْأَكْبَرِ، ثُمَّ خَمْسَةٌ مِنْ وَلَدِ السِّبْطِ الْأَصْغَرِ ; ثُمَّ يُوصِي آخِرُهُمْ بِالْخِلَافَةِ لِرَجُلٍ مِنْ وَلَدِ السِّبْطِ الْأَكْبَرِ، ثُمَّ يَمْلِكُ بَعْدَهُ وَلَدُهُ فَيَتِمُّ بِذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ مَلِكًا ; كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِمَامٌ مَهْدِيٌّ، قَالَ ابْنُ الْمُنَادِي: وَفِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْمَهْدِيُّ اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ رَجُلٌ رَبْعَةٌ مُشْرَبٌ بِحُمْرَةٍ يُفَرِّجُ اللَّهُ بِهِ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ كُلَّ كَرْبٍ، وَيَصْرِفُ بِعَدْلِهِ كُلَّ جَوْرٍ، ثُمَّ يَلِي الْأَمْرَ بَعْدَهُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، سِتَّةٌ مِنْ وَلَدِ الْحَسَنِ، وَخَمْسَةٌ مِنْ وَلَدِ الْحُسَيْنِ، وَآخَرُ مِنْ غَيْرِهِمْ ; ثُمَّ يَمُوتُ فَيَفْسُدُ الزَّمَانُ وَعَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ يَكُونُ اثْنَا عَشَرَ مَهْدِيًّا، ثُمَّ يَنْزِلُ رُوحُ اللَّهِ، فَيَقْتُلُ الدَّجَّالَ.

قَالَ: وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ وُجُودُ اثْنَي عَشَرَ خَلِيفَةً فِي جَمِيعِ مُدَّةِ الْإِسْلَامِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ يَعْمَلُونَ بِالْحَقِّ وَإِنْ لَمْ تَتَوَالَ أَيَّامُهُمْ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ مُسَدَّدٌ فِي مُسْنَدِهِ الْكَبِيرِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَحْرٍ، أَنَّ أَبَا الْجَلْدِ حَدَّثَهُ أَنَّهُ لَا تَهْلِكُ هَذِهِ الْأُمَّةُ حَتَّى يَكُونَ مِنْهَا اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً كُلُّهُمْ يَعْمَلُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، مِنْهُمْ رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ مُحَمَّدٍ، يَعِيشُ أَحَدُهُمَا أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَالْآخَرُ ثَلَاثِينَ سَنَةً: وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ يَكُونُ الْهَرْجُ أَيِ الْفِتَنُ الْمُؤْذِنَةُ بِقِيَامِ السَّاعَةِ، مِنْ خُرُوجِ الدَّجَّالِ ثُمَّ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، إِلَى أَنْ تَنْقَضِيَ الدُّنْيَا، انْتَهَى. كَلَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ مُلَخَّصًا بِزِيَادَاتٍ يَسِيرَةٍ. وَالْوَجْهَانِ الْأَوَّلُ وَالْآخَرُ قَدِ اشْتَمَلَ عَلَيْهِمَا كَلَامُ الْقَاضِي عِيَاضٌ،

ص: 213

فَكَأَنَّهُ مَا وَقَفَ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ أَنَّ فِي كَلَامِهِ زِيَادَةً لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَيْهَا كَلَامُهُ، وَيَنْتَظِمُ مِنْ مَجْمُوعِ مَا ذَكَرَاهُ أَوْجُهٌ، أَرْجَحُهَا الثَّالِثُ مِنْ أَوْجُهِ الْقَاضِي لِتَأْيِيدِهِ بِقَوْلِهِ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحَةِ: كُلُّهُمْ يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ النَّاسُ وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاجْتِمَاعِ انْقِيَادُهُمْ لِبَيْعَتِهِ.

وَالَّذِي وَقَعَ أَنَّ النَّاسَ اجْتَمَعُوا عَلَى أَبِي بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرَ ثُمَّ عُثْمَانَ ثُمَّ عَلِيٍّ إِلَى أَنْ وَقَعَ أَمْرُ الْحَكَمَيْنِ فِي صِفِّينَ، فَسُمِّيَ مُعَاوِيَةُ يَوْمَئِذٍ بِالْخِلَافَةِ، ثُمَّ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى مُعَاوِيَةَ عِنْدَ صُلْحِ الْحَسَنِ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا عَلَى وَلَدِهِ يَزِيدَ وَلَمْ يَنْتَظِمْ لِلْحُسَيْنِ أَمْرٌ بَلْ قُتِلَ قَبْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ لَمَّا مَاتَ يَزِيدُ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ إِلَى أَنِ اجْتَمَعُوا عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بَعْدَ قَتْلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا عَلَى أَوْلَادِهِ الْأَرْبَعَةِ: الْوَلِيدِ ثُمَّ سُلَيْمَانَ ثُمَّ يَزِيدَ ثُمَّ هِشَامٍ، وَتَخَلَّلَ بَيْنَ سُلَيْمَانَ، وَيَزِيدَ، عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَهَؤُلَاءِ سَبْعَةٌ بَعْدَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَالثَّانِي عَشَرَ هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ لَمَّا مَاتَ عَمُّهُ هِشَامٌ، فَوَلِيَ نَحْوَ أَرْبَعِ سِنِينَ ثُمَّ قَامُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ، وَانْتَشَرَتِ الْفِتَنُ وَتَغَيَّرَتِ الْأَحْوَالُ مِنْ يَوْمِئِذٍ، وَلَمْ يَتَّفِقْ أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَى خَلِيفَةٍ بَعْدَ ذَلِكَ، لِأَنَّ يَزِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ الَّذِي قَامَ عَلَى ابْنِ عَمِّهِ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ لَمْ تَطُلْ مُدَّتُهُ بَلْ ثَارَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ ابْنُ عَمِّ أَبِيهِ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ وَلَمَّا مَاتَ يَزِيدُ وَلِيَ أَخُوهُ إِبْرَاهِيمُ فَغَلَبَهُ مَرْوَانُ، ثُمَّ ثَارَ عَلَى مَرْوَانَ بَنُو الْعَبَّاسِ إِلَى أَنْ قُتِلَ، ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ: أَبُو الْعَبَّاسِ السَّفَّاحُ، وَلَمْ تَطُلْ مُدَّتُهُ مَعَ كَثْرَةِ مَنْ ثَارَ عَلَيْهِ، ثُمَّ وَلِيَ أَخُوهُ الْمَنْصُورُ فَطَالَتْ مُدَّتُهُ، لَكِنْ خَرَجَ عَنْهُمُ الْمَغْرِبُ الْأَقْصَى بِاسْتِيلَاءِ الْمَرْوَانِيِّينَ عَلَى الْأَنْدَلُسِ، وَاسْتَمَرَّتْ فِي أَيْدِيهِمْ مُتَغَلِّبِينَ

عَلَيْهَا إِلَى أَنْ تَسَمَّوْا بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَانْفَرَطَ الْأَمْرُ فِي جَمِيعِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ إِلَى أَنْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الْخِلَافَةِ إِلَّا الِاسْمُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ، بَعْدَ أَنْ كَانُوا فِي أَيَّامِ بَنِي عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يُخْطَبُ لِلْخَلِيفَةِ فِي جَمِيعِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ شَرْقًا وَغَرْبًا وَشِمَالًا وَيَمِينًا مِمَّا غَلَبَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَلَا يَتَوَلَّى أَحَدٌ فِي بَلَدٍ مِنَ الْبِلَادِ كُلِّهَا الْإِمَارَةَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا إِلَّا بِأَمْرِ الْخَلِيفَةِ، وَمَنْ نَظَرَ فِي أَخْبَارِهِمْ عَرَفَ صِحَّةَ ذَلِكَ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ يَكُونُ الْهَرْجُ يَعْنِي الْقَتْلُ النَّاشِئُ عَنِ الْفِتَنِ وُقُوعًا فَاشِيًّا يَفْشُو وَيَسْتَمِرُّ وَيَزْدَادُ عَلَى مَدَى الْأَيَّامِ، وَكَذَا كَانَ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

وَالْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنَادِي لَيْسَ بِوَاضِحٍ، وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ جَابِرٍ الصَّدَفِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، رَفَعَهُ سَيَكُونُ مِنْ بَعْدِي خُلَفَاءُ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِ الْخُلَفَاءِ أُمَرَاءُ، وَمِنْ بَعْدِ الْأُمَرَاءِ مُلُوكٌ، وَمِنْ بَعْدِ الْمُلُوكِ جَبَابِرَةٌ، ثُمَّ يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا ثُمَّ يُؤَمَّرُ الْقَحْطَانِيُّ فَوَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ مَا هُوَ دُونَهُ فَهَذَا يَرُدُّ عَلَى مَا نَقَلَهُ ابْنُ الْمُنَادِي مِنْ كِتَابِ دَانْيَالَ وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ فَوَاهٍ جِدًّا، وَكَذَا عَنْ كَعْبٍ، وَأَمَّا مُحَاوَلَةُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ الْجَمْعَ بَيْنَ حَدِيثِ تَدُورُ رَحَى الْإِسْلَامِ وَحَدِيثِ الْبَابِ ظَاهِرُ التَّكَلُّفِ، وَالتَّفْسِيرُ الَّذِي فَسَّرَهُ بِهِ الْخَطَّابِيُّ، ثُمَّ الْخَطِيبُ بَعِيدٌ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: تَدُورُ رَحَى الْإِسْلَامِ أَنْ تَدُومَ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ، وَأَنَّ ابْتِدَاءَ ذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ الْبَعْثَةِ النَّبَوِيَّةِ فَيَكُونُ انْتِهَاءُ الْمُدَّةِ بِقَتْلِ عُمَرَ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَإِذَا انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً وَسِتَّةُ أَشْهُرٍ مِنَ الْمَبْعَثِ فِي رَمَضَانَ كَانَتِ الْمُدَّةُ خَمْسًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَسِتَّةُ أَشْهُرٍ، فَيَكُونُ ذَلِكَ جَمِيعَ الْمُدَّةِ النَّبَوِيَّةِ وَمُدَّةُ الْخَلِيفَتَيْنِ بَعْدَهُ خَاصَّةٌ، وَيُؤَيِّدُ حَدِيثَ حُذَيْفَةَ الْمَاضِي قَرِيبًا الَّذِي يُشِيرُ إِلَى أَنَّ بَابَ الْأَمْنِ مِنَ الْفِتْنَةِ يُكْسَرُ بِقَتْلِ عُمَرَ، فَيُفْتَحُ بَابُ الْفِتَنِ، وَكَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذُكِرَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ فَإِنْ يَهْلِكُوا فَسَبِيلُ مَنْ هَلَكَ، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ لَهُمْ دِينُهُمْ يَقُمْ سَبْعِينَ سَنَةً

فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِذَلِكَ انْقِضَاءُ أَعْمَارِهِمْ، وَتَكُونُ الْمُدَّةُ سَبْعِينَ سَنَةً إِذَا جعلَ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ أَوَّلِ سَنَةِ ثَلَاثِينَ عِنْدَ انْقِضَاءِ سِتِّ سِنِينَ مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ، فَإِنَّ ابْتِدَاءَ الطَّعْنِ فِيهِ إِلَى أَنْ آلَ الْأَمْرُ إِلَى قَتْلِهِ كَانَ بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ مَضَتْ مِنْ خِلَافَتِهِ،

ص: 214

وَعِنْدَ انْقِضَاءِ السَّبْعِينَ لَمْ يَبْقَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَحَدٌ، فَهَذَا الَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَا تَعَرُّضُ فِيهِ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِاثْنَيْ عَشَرَ خَلِيفَةً، وَعَلَى تَقْدِيرِ ذَلِكَ فَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ: يَكُونُ بَعْدِي اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً عَلَى حَقِيقَةِ الْبَعْدِيَّةِ، فَإِنَّ جَمِيعَ مَنْ وَلِيَ الْخِلَافَةَ مِنَ الصِّدِّيقِ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ نَفْسًا، مِنْهُمُ اثْنَانِ لَمْ تَصِحَّ وِلَايَتُهُمَا وَلَمْ تَطُلْ مُدَّتُهُمَا وَهُمَا: مُعَاوِيَةُ بْنُ يَزِيدَ، وَمَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، وَالْبَاقُونَ اثْنَا عَشَرَ نَفْسًا عَلَى الْوَلَاءِ كَمَا أَخْبَرَ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَتْ وَفَاةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ سَنَةَ إِحْدَى وَمِائَةٍ، وَتَغَيَّرَتِ الْأَحْوَالُ بَعْدَهُ، وَانْقَضَى الْقَرْنُ الْأَوَّلُ الَّذِي هُوَ خَيْرُ الْقُرُونِ، وَلَا يَقْدَحُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ: يَجْتَمِعُ عَلَيْهِمُ النَّاسُ لِأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْأَكْثَرِ الْأَغْلَبِ، لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ لَمْ تُفْقَدْ مِنْهُمْ إِلَّا فِي الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ مَعَ صِحَّةِ وِلَايَتِهِمَا، وَالْحُكْمُ بِأَنَّ مَنْ خَالَفَهُمَا لَمْ يَثْبُتِ اسْتِحْقَاقُهُ إِلَّا بَعْدَ تَسْلِيمِ الْحَسَنِ وَبَعْدَ قَتْلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَكَانَتِ الْأُمُورُ فِي غَالِبِ أَزْمِنَةِ هَؤُلَاءِ الِاثْنَيْ عَشَرَ مُنْتَظِمَةً وَإِنْ وُجِدَ فِي بَعْضِ مُدَّتِهِمْ خِلَافُ ذَلِكَ، فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الِاسْتِقَامَةِ نَادِرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ تَكَلَّمَ ابْنُ حِبَّانَ عَلَى مَعْنَى حَدِيثِ: تَدُورُ رَحَى الْإِسْلَامِ فَقَالَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَدُورُ رَحَى الْإِسْلَامِ لِخَمْسٍ وَثَلَاثِينَ أَوْ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ.

انْتِقَالُ أَمْرِ الْخِلَافَةِ إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ، وَذَلِكَ أَنَّ قِيَامَ مُعَاوِيَةَ، عَنْ عَلِيٍّ بِصِفِّينَ حَتَّى وَقَعَ التَّحْكِيمُ هُوَ مَبْدَأُ مُشَارَكَةِ بَنِي أُمَيَّةَ ; ثُمَّ اسْتَمَرَّ الْأَمْرُ فِي بَنِي أُمَيَّةَ مِنْ يَوْمِئِذٍ سَبْعِينَ سَنَةً، فَكَانَ أَوَّلُ مَا ظَهَرَتْ دُعَاةُ بَنِي الْعَبَّاسِ بِخُرَاسَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَمِائَةٍ، وَسَاقَ ذَلِكَ بِعِبَارَةٍ طَوِيلَةٍ عَلَيْهِ فِيهَا مُؤَاخَذَاتٌ كَثِيرَةٌ أَوَّلُهَا: دَعْوَاهُ أَنَّ قِصَّةَ الْحَكَمَيْنِ كَانَتْ فِي أَوَاخِرِ سَنَةِ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَهُوَ خِلَافُ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ الْأَخْبَارِ، فَإِنَّهَا كَانَتْ بَعْدَ وَقْعَةِ صِفِّينَ بِعِد أَشْهُرٍ، وَكَانَتْ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَالَّذِي قَدَّمْتُهُ أَوْلَى بِأَنْ يُحْمَلَ الْحَدِيثُ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌52 - بَاب إِخْرَاجِ الْخُصُومِ وَأَهْلِ الرِّيَبِ مِنْ الْبُيُوتِ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ

وَقَدْ أَخْرَجَ عُمَرُ أُخْتَ أَبِي بَكْرٍ حِينَ نَاحَتْ

7224 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ يُحْتَطَبُ ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيَؤُمَّ النَّاسَ ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُكُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَرْقًا سَمِينًا أَوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ الْعِشَاءَ. قال محمد بن يوسف: قال يونس: قال محمد بن سليمان، قال أبو عبد الله: مرماة بين ظلف الشاة من اللحم مثل منساة وميضاة، الميم مخفوضة.

قَوْلُهُ: بَابُ إِخْرَاجِ الْخُصُومِ وَأَهْلِ الرِّيَبِ مِنَ الْبُيُوتِ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ، وَقَدْ أَخْرَجَ عُمَرُ أُخْتَ أَبِي بَكْرٍ حِينَ نَاحَتْ) تَقَدَّمَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ وَالْأَثَرُ الْمُعَلَّقُ فِيهَا وَالْحَدِيثُ فِي: كِتَابِ الْأَشْخَاصِ وَقَالَ فِيهِ الْمَعَاصِي بَدَلَ أَهْلِ الرِّيَبِ وَسَاقَ الْحَدِيثَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي أَوَائِلِ بَابِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَقَوْلُهُ فِي

ص: 215

آخِرِ الْبَابِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ يُونُسُ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: مِرْمَاةٌ مَا بَيْنَ ظِلْفِ الشَّاةِ مِنَ اللَّحْمِ مِثْلُ مِنْسَاةٍ وَمِيضَاةٍ الْمِيمُ مَخْفُوضَةٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْمِرْمَاتَيْنِ هُنَاكَ وَمُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ هَذَا هُوَ الْفَرَبْرِيُّ رَاوِي الصَّحِيحِ عَنِ الْبُخَارِيِّ، وَيُونُسُ هُوَ ابْنُ

(1)

.. وَمُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ هُوَ أَبُو أَحْمَدَ الْفَارِسِيُّ رَاوِي التَّارِيخِ الْكَبِيرِ عَنِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ نَزَلَ الْفَرَبْرِيُّ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ دَرَجَتَيْنِ، فَإِنَّهُ أَدْخَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَيْخِهِ الْبُخَارِيِّ رَجُلَيْنِ، أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ، وَثَبَتَ هَذَا التَّفْسِيرُ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ.

وَقَوْلُهُ: مِثْلَ مِنْسَاةٍ وَمِيضَاةٍ أَمَّا مِنْسَاةٌ بِالْوَزْنِ الَّذِي ذَكَرَهُ بِغَيْرِ هَمْزٍ فَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو، وَنَافِعٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} وَقَالَ الشَّاعِرُ:

إِذَا دَبَبْتَ عَلَى الْمِنْسَاةِ مِنْ هَرَمٍ

فَقَدْ تَبَاعَدَ عَنْكَ اللَّهْوُ وَالْغَزَلُ

أَنْشَدَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ ثُمَّ قَالَ: وَبَعْضُهُمْ يَهْمِزُهَا فَيَقُولُ: مِنْسَأَتَهُ. قُلْتُ: وَهِيَ قِرَاءَةُ الْبَاقِينَ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ إِلَّا ابْنَ ذَكْوَانَ فَسَكَّنَ الْهَمْزَةَ، وَفِيهَا قِرَاءَاتٌ أُخَرُ فِي الشَّوَاذِّ، وَالْمِنْسَاةُ: الْعَصَا اسْمُ آلَةٍ مِنْ أَنْسَا الشَّيْءَ إِذَا أَخَّرَهُ، وَقَوْلُهُ الْمِيمُ مَخْفُوضَةٌ أَيْ فِي كُلٍّ من الْمِنْسَاةِ وَالْمِيضَاةِ، وَفِي الْمِيضَاةِ اللُّغَاتُ الْمَذْكُورَةُ.

‌53 - بَاب هَلْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَمْنَعَ الْمُجْرِمِينَ وَأَهْلَ الْمَعْصِيَةِ مِنْ الْكَلَامِ مَعَهُ وَالزِّيَارَةِ وَنَحْوِهِ

7225 -

حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَكَانَ قَائِدَ كَعْبٍ مِنْ بَنِيهِ حِينَ عَمِيَ قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَذَكَرَ حَدِيثَهُ وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلَامِنَا فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً وَآذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ هَلْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَمْنَعَ الْمُجْرِمِينَ وَأَهْلَ الْمَعْصِيَةِ مِنَ الْكَلَامِ مَعَهُ وَالزِّيَارَةِ وَنَحْوِهِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي أَحْمَدَ الْجُرْجَانِيِّ: الْمَحْبُوسَ بَدَلَ الْمُجْرِمِينَ، وَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ التِّينِ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ وَهُوَ أَوْجَهُ لِأَنَّ الْمَحْبُوسَ قَدْ لَا يَتَحَقَّقُ عِصْيَانُهُ وَالْأَوَّلُ يَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِحَدِيثِ الْبَابِ ظَاهِرًا وَذَكَرَ فِيهِ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ فِي قِصَّةِ تَخَلُّفِهِ عَنْ تَبُوكَ وَتَوْبَتِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهَا مُسْتَوْفًى فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْمَغَازِي بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى.

(1)

هكذا بياض بالأصل

ص: 216

بسم الله الرحمن الرحيم

‌94 - كِتَاب التَّمَنِّي

‌1 - بَاب مَا جَاءَ فِي التَّمَنِّي وَمَنْ تَمَنَّى الشَّهَادَةَ

7226 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا أَنَّ رِجَالًا يَكْرَهُونَ أَنْ يَتَخَلَّفُوا بَعْدِي وَلَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ مَا تَخَلَّفْتُ لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ.

7227 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ وَدِدْتُ أَنِّي أُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ، فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُهُنَّ ثَلَاثًا: أَشْهَدُ بِاللَّهِ.

قَوْلُهُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم - كِتَابُ التَّمَنِّي). (باب ما جاء في التمني، ومن تمنى الشهادة) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْمُسْتَمْلِي، وَكَذَا لِابْنِ بَطَّالٍ لَكِنْ بِغَيْرِ بَسْمَلَةٍ وَأَثْبَتَهَا ابْنُ التِّينِ لَكِنْ حَذَفَ لَفْظَ: بَابُ وَلِلنَّسَفِيِّ بَعْدَ الْبَسْمَلَةِ مَا جَاءَ فِي التَّمَنِّي وَلِلْقَابِسِيِّ بِحَذْفِ الْوَاوِ وَالْبَسْمَلَةِ وَكِتَابِ وَمِثْلُهُ لِأَبِي نُعَيْمٍ، عَنِ الْجُرْجَانِيِّ، وَلَكِنْ أَثْبَتَ الْوَاوَ وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ كِتَابُ التَّمَنِّي: وَالْأَمَانِيُّ وَاقْتَصَرَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ عَلَى بَابُ مَا جَاءَ فِي تَمَنِّي الشَّهَادَةِ وَالتَّمَنِّي تَفَعُّلٌ مِنَ الْأُمْنِيَّةِ وَالْجَمْعُ أَمَانِيٌّ، وَالتَّمَنِّي إِرَادَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ فَإِنْ كَانَتْ فِي خَيْرٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِحَسَدٍ فَهِيَ مَطْلُوبَةٌ، وَإِلَّا فَهِيَ مَذْمُومَةٌ.

وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ بَيْنَ التَّمَنِّي وَالتَّرَجِّي عُمُومًا وَخُصُوصًا، فَالتَّرَجِّي فِي الْمُمْكِنِ، وَالتَّمَنِّي فِي أَعَمِّ مِنْ ذَلِكَ، وَقِيلَ: التَّمَنِّي يَتَعَلَّقُ بِمَا فَاتَ وَعَبَّرَ عَنْهُ بَعْضُهُمْ بِطَلَبِ مَا لَا يُمْكِنُ حُصُولُهُ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: قَدْ يَتَضَمَّنُ التَّمَنِّي مَعْنَى الْوُدِّ، لِأَنَّهُ يَتَمَنَّى حُصُولَ مَا يَوَدُّ، وَقَوْلُهُ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ هُوَ ابْنُ مُسَافِرٍ الْفَهْمِيُّ الْمِصْرِيُّ وَنِصْفُ السَّنَدِ مِصْرِيُّونَ، وَنِصْفُهُ الْأَعْلَى مَدَنِيُّونَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ: لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيَا وَوَقَعَ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ: وَدِدْتُ أَنِّي أُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ وَهِيَ أَبْيَنُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: لَأُقَاتِلُ بِزِيَادَةِ لَامِ التَّأْكِيدِ، وَوَدِدْتُ مِنَ الْوِدَادَةِ وَهِيَ إِرَادَةُ وُقُوعِ الشَّيْءِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ يُرَادُ وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْوُدُّ مَحَبَّةُ الشَّيْءِ وَتَمَنِّي حُصُولَهُ فَمِنَ الْأَوَّلِ: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} الْآيَةَ، وَمِنَ الثَّانِي:{وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} الْآيَةَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ حَدِيثِ الْبَابِ وَتَوْجِيهُ تَمَنِّي الشَّهَادَةِ مَعَ مَا يُشْكِلُ عَلَى ذَلِكَ فِي بَابِ تَمَنِّي الشَّهَادَةِ مِنْ كِتَابِ الْجِهَادِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌2 - بَاب تَمَنِّي الْخَيْرِ وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَوْ كَانَ لِي أُحُدٌ ذَهَبًا

7228 -

حَدَّثَنَي إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ

ص: 217

صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَوْ كَانَ عِنْدِي أُحُدٌ ذَهَبًا لَأَحْبَبْتُ أَنْ لَا يَأْتِيَ عَلَيَّ ثَلَاثٌ وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ، لَيْسَ شَيْءٌ أَرْصُدُهُ فِي دَيْنٍ عَلَيَّ أَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهُ.

قَوْلُهُ: بَابُ تَمَنِّي الْخَيْرِ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ أَعَمُّ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا؛ لِأَنَّ تَمَنِّيَ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ جُمْلَةِ الْخَيْرِ وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ التَّمَنِّيَ الْمَطْلُوبَ لَا يَنْحَصِرُ فِي طَلَبِ الشَّهَادَةِ وَقَوْلُهُ: وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَوْ كَانَ لِي أُحُدٌ ذَهَبًا أَسْنَدَهُ فِي الْبَابِ بِلَفْظِ: لَوْ كَانَ عِنْدِي وَاللَّفْظُ الْمُعَلَّقُ وَصَلَهُ فِي الرِّقَاقِ بِلَفْظِ: لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا وَقَوْلُهُ فِي الْمَوْصُولِ: وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ لَيْسَ شَيْءٌ أَرْصُدُهُ فِي دَيْنٍ عَلَيَّ أَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهُ كَذَا وَقَعَ، وَذَكَرَ الصَّغَانِيُّ أَنَّ الصَّوَابَ لَيْسَ شَيْئًا بِالنَّصْبِ، وَقَالَ عِيَاضٌ: فِي هَذَا السِّيَاقِ نَظَرٌ، وَالصَّوَابُ تَقْدِيمُ أَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهُ وَتَأْخِيرُ لَيْسَ وَمَا بَعْدَهَا، وَقَدِ اعْتَرَضَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فَقَالَ: هَذَا لَا يُشْبِهُ التَّمَنِّيَ، وَغَفَلَ عَنْ قَوْلِهِ فِي سِيَاقِ رِوَايَةِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَأَحْبَبْتُ فَإِنَّهَا بِمَعْنَى وَدِدْتُ، وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ الْبُخَارِيِّ أَنْ يُتَرْجِمَ بِبَعْضِ مَا وَرَدَ مِنْ طُرُقِ بَعْضِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي: كِتَابِ الرِّقَاقِ وَتَقَدَّمَ كَلَامُ ابْنِ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ هُنَاكَ.

‌3 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ

7229 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَحَلَلْتُ مَعَ النَّاسِ حِينَ حَلُّوا.

7230 -

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَبَّيْنَا بِالْحَجِّ وَقَدِمْنَا مَكَّةَ لِأَرْبَعٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ فَأَمَرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَطُوفَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَأَنْ نَجْعَلَهَا عُمْرَةً وَلنَحِلَّ إِلَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ قَالَ: وَلَمْ يَكُنْ مَعَ أَحَدٍ مِنَّا هَدْيٌ غَيْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَطَلْحَةَ وَجَاءَ عَلِيٌّ مِنْ الْيَمَنِ مَعَهُ الْهَدْيُ فَقَالَ: أَهْلَلْتُ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: نَنْطَلِقُ إِلَى مِنًى، وَذَكَرُ أَحَدِنَا يَقْطُرُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ، وَلَوْلَا أَنَّ مَعِي الْهَدْيَ لَحَلَلْتُ قَالَ: وَلَقِيَهُ سُرَاقَةُ وَهُوَ يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَنَا هَذِهِ خَاصَّةً؟ قَالَ: لَا، بَلْ لِأَبَدٍ، قَالَ: وَكَانَتْ عَائِشَةُ قَدِمَتْ مَعَهُ مَكَّةَ وَهِيَ حَائِضٌ فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَنْسُكَ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا غَيْرَ أَنَّهَا لَا تَطُوفُ، وَلَا تُصَلِّي حَتَّى تَطْهُرَ، فَلَمَّا نَزَلُوا الْبَطْحَاءَ قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَنْطَلِقُونَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ وَأَنْطَلِقُ بِحَجَّةٍ؟ قَالَ: ثُمَّ أَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنْ يَنْطَلِقَ مَعَهَا إِلَى التَّنْعِيمِ فَاعْتَمَرَتْ عُمْرَةً فِي ذِي الْحَجَّةِ بَعْدَ أَيَّامِ الْحَجِّ.

قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ بِلَفْظِهِ وَبَعْدَهُ: مَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَقَدْ مَضَى مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَتَمُّ مِنْ هَذَا فِي كِتَابِ الْحَجِّ ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ حَدِيثَ جَابِرٍ وَفِيهِ إِنِّي لَوِ اسْتَقْبَلْتُ

ص: 218

مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ، مَا أَهْدَيْتُ وَحَبِيبٌ فِي السَّنَدِ هُوَ ابْنُ أَبِي قَرِيبَةَ، وَاسْمُهُ زَيْدٌ، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِالْعَلَمِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْحَجِّ وَقَدْ وَقَعَ فِيهِ لَوْ مُجَرَّدَةٌ عَنِ النَّفْيِ وَمُعَقَّبَةٌ بِالنَّفْيِ حَيْثُ جَاءَ فِيهِ: لَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ وَقَالَ بَعْدَهُ: وَلَوْلَا أَنَّ مَعِيَ الْهَدْي لَأَحْلَلْتُ وَسَيَأْتِي مَا قِيلَ فِيهِمَا بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ.

‌4 - بَاب قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: لَيْتَ كَذَا وَكَذَا

7231 -

حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ:، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: أَرِقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقَالَ: لَيْتَ رَجُلًا صَالِحًا مِنْ أَصْحَابِي يَحْرُسُنِي اللَّيْلَةَ إِذْ سَمِعْنَا صَوْتَ السِّلَاحِ قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جِئْتُ أَحْرُسُكَ فَنَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى سَمِعْنَا غَطِيطَهُ، قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَقَالَتْ عَائِشَةُ: قَالَ بِلَالٌ:

أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً

بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ؟

فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْتَ كَذَا وَكَذَا) لَيْتَ حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ التَّمَنِّي يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَحِيلِ غَالِبًا، وَبِالْمُمْكِنِ قَلِيلًا، وَمِنْهُ حَدِيثُ الْبَابِ فَإِنَّ كُلًّا مِنَ الْحِرَاسَةِ وَالْمَبِيتِ بِالْمَكَانِ الَّذِي تَمَنَّاهُ قَدْ وُجِدَ.

قَوْلُهُ: أَرِقَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ سَهِرَ وَزْنُهُ وَمَعْنَاهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي بَابِ الْحِرَاسَةِ فِي الْغَزْوِ مَعَ شَرْحِهِ، وَقَوْلُهُ: مَنْ هَذَا؟ قِيلَ: سَعْدٌ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ قَالَ سَعْدٌ: وَهُوَ أَوْلَى فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْجِهَادِ بِلَفْظِ: فَقَالَ أَنَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ. وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ تَعْيِينُهُ.

تَنْبِيهٌ:

ذَكَرْتُ فِي بَابِ الْحِرَاسَةِ مِنْ كِتَابِ الْجِهَادِ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحْرَسُ حَتَّى نَزَلَتْ: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يُحْرَسْ بَعْدَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى سَبْقِ نُزُولِ الْآيَةِ، لَكِنْ وَرَدَ فِي عِدَّةِ أَخْبَارٍ أَنَّهُ حُرِسَ فِي بَدْرٍ، وَفِي أُحُدٍ، وَفِي الْخَنْدَقِ وَفِي رُجُوعِهِ مِنْ خَيْبَرَ، وَفِي وَادِي الْقُرَى، وَفِي عَمْرَةِ الْقَضِيَّةِ، وَفِي حُنَيْنٍ، فَكَأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ مُتَرَاخِيَةً عَنْ وَقْعَةِ حُنَيْنٍ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: كَانَ الْعَبَّاسُ فِيمَنْ يَحْرُسُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَرَكَ وَالْعَبَّاسُ إِنَّمَا لَازَمَهُ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ حُنَيْنٍ، وَحَدِيثُ حِرَاسَتِهِ لَيْلَةَ حُنَيْنٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ أَنَّ أَنَسَ بْنَ أَبِي مَرْثَدٍ حَرَسَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَتَتَبَّعَ بَعْضُهُمْ أَسْمَاءَ مَنْ حَرَسَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَجُمِعَ مِنْهُمْ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَالزُّبَيْرُ، وَأَبُو أَيُّوبَ، وَذَكْوَانُ بْنُ عَبْدِ الْقَيْسِ، وَالْأَدْرَعُ السُّلَمِيُّ، وَابْنُ الْأَدْرَعِ، وَاسْمُهُ مِحْجَنٌ، وَيُقَالُ: سَلَمَةُ، وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ، وَالْعَبَّاسُ، وَأَبُو رَيْحَانَةَ، وَلَيْسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ فِي الْوَقَائِعِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا حَرَسَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَحْدَهُ، بَلْ ذُكِرَ فِي مُطْلَقِ الْحَرَسِ فَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ خَاصًّا بِهِ كَأَبِي أَيُّوبَ حِينَ

بِنَائِهِ بِصَفِيَّةَ بَعْدَ الرُّجُوعِ مِنْ خَيْبَرَ، وَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ حَرَسَ أَهْلُ تِلْكَ الْغَزْوَةِ كَأَنَسِ بْنِ أَبِي مَرْثَدٍ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: وَقَالَتْ عَائِشَةُ قَالَ بِلَالٌ: أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً، إِلَخْ) هَذَا حَدِيثٌ آخَرُ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا بِتَمَامِهِ فِي مَقْدَمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ كِتَابِ الْهِجْرَةِ وَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ قَوْلُهَا فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ مِنَ الْحَدِيثِ عَلَيْهَا، وَالَّذِي فِي الرِّوَايَةِ الْمَوْصُولَةِ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجِئْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ.

ص: 219

‌5 - بَاب تَمَنِّي الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ

7232 -

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَحَاسُدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ يَقُولُ: لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ هَذَا لَفَعَلْتُ كَمَا يَفْعَلُ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا يُنْفِقُهُ فِي حَقِّهِ فَيَقُولُ: لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ هذا لَفَعَلْتُ كَمَا يَفْعَلُ. حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ بِهَذَا.

قَوْلُهُ: بَابُ تَمَنِّي الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا تَحَاسُدُ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي تَمَنِّي الْقُرْآنِ وَأَضَافَ الْعِلْمَ إِلَيْهِ بِطَرِيقِ الْإِلْحَاقِ بِهِ فِي الْحُكْمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْعِلْمِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْأَعْمَشِ وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْعِلْمِ وَقَوْلُهُ هُنَا: فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: مِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ بِزِيَادَةِ مِنْ.

قَوْلُهُ: يَقُولُ لَوْ أُوتِيتُ كَذَا فِيهِ بِحَذْفِ الْقَائِلِ وَظَاهِرُهُ الَّذِي أُوتِيَ الْقُرْآنَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ السَّامِعُ وَأَفْصَحَ بِهِ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ وَلَفْظُهُ ; فَسَمِعَهُ جَارٌ لَهُ فَقَالَ: لَيْتَنِي أُوتِيتُ إِلَخْ، وَلَفْظُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ: أَدْخَلُ فِي التَّمَنِّي لَكِنَّهُ جَرَى عَلَى عَادَتِهِ فِي الْإِشَارَةِ.

‌6 - بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ التَّمَنِّي {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ

لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}

7233 -

حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه: لَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا تَمَنَّوْا الْمَوْتَ لَتَمَنَّيْتُ.

7234 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ ابْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسٍ قَالَ أَتَيْنَا خَبَّابَ بْنَ الأَرَتِّ نَعُودُهُ وَقَدْ اكْتَوَى سَبْعًا فَقَالَ لَوْلَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَ بِالْمَوْتِ لَدَعَوْتُ بِهِ

7235 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ - اسْمُهُ سَعْدُ بْنُ عُبَيْدٍ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَزْهَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "لَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ يَزْدَادُ وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ يَسْتَعْتِبُ

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّمَنِّي) قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يَجُوزُ تَمَنِّي مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالْغَيْرِ أَيْ مِمَّا يُبَاحُ، وَعَلَى هَذَا فَالنَّهْيُ عَنِ التَّمَنِّي مخُصُوصِ بِمَا يَكُونُ دَاعِيَةً إِلَى الْحَسَدِ، وَالتَّبَاغُضِ، وَعَلَى هَذَا يحملُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: لَوْلَا أَنَّا نَأْثَمُ بِالتَّمَنِّي لَتَمَنَّيْنَا أَنْ يَكُونَ كَذَا. وَلَمْ يَرِدْ أَنَّ كُلَّ التَّمَنِّي يَحْصُلُ بِهِ الْإِثْمُ.

قَوْلُهُ: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَاقَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ الْآيَةَ كُلَّهَا، ذَكَرَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ كُلُّهَا فِي الزَّجْرِ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ، وَفِي مُنَاسَبَتِهَا لِلْآيَةِ غُمُوضٌ، إِلَّا إِنْ كَانَ أَرَادَ أَنَّ الْمَكْرُوهَ مِنَ التَّمَنِّي هُوَ جِنْسُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ، وَمَا دَلَّ

ص: 220

عَلَيْهِ الْحَدِيثُ، وَحَاصِلُ مَا فِي الْآيَةِ الزَّجْرُ عَنِ الْحَسَدِ، وَحَاصِلُ مَا لَهُ فِي الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى الصَّبْرِ) لِأَنَّ تَمَنِّيَ الْمَوْتِ غَالِبًا يَنْشَأُ عَنْ وُقُوعِ أَمْرٍ يَخْتَارُ الَّذِي يَقَعُ بِهِ الْمَوْتَ عَلَى الْحَيَاةِ، فَإِذَا نَهَى عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ كَأنَ أَمَرَ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا نَزَلَ بِهِ، وَيَجْمَعُ الْحَدِيثُ وَالْآيَةُ الْحَثَّ عَلَى الرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَالتَّسْلِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ مِنْ طَرِيقِ ثَابِتٍ عَنْهُ فِي: بَابِ تَمَنِّي الْمَرِيضِ الْمَوْتَ مِنْ كِتَابِ الْمَرْضَى بَعْدَ النَّهْيِ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ ; فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، الْحَدِيثَ، وَلَا يَرُدُّ عَلَى ذَلِكَ مَشْرُوعِيَّةُ الدُّعَاءِ بِالْعَافِيَةِ مَثَلًا ; لِأَنَّ الدُّعَاءَ بِتَحْصِيلِ الْأُمُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ بِالْغَيْبِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ إِظْهَارِ الِافْتِقَارِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّذَلُّلِ لَهُ وَالِاحْتِيَاجِ وَالْمَسْكَنَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالدُّعَاءُ بِتَحْصِيلِ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ لِاحْتِيَاجِ الدَّاعِي إِلَيْهَا فَقَدْ تَكُونُ قُدِّرَتْ لَهُ إِنْ دَعَا بِهَا فَكُلٌّ مِنَ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ مُقَدَّرٌ، وَهَذَا كُلُّهُ بِخِلَافِ الدُّعَاءِ بِالْمَوْتِ فَلَيْسَتْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ ظَاهِرَةٌ بَلْ فِيهِ مَفْسَدَةٌ. وَهِيَ طَلَبُ إِزَالَةِ نِعْمَةِ الْحَيَاةِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْفَوَائِدِ، لَا سِيَّمَا لِمَنْ يَكُونُ مُؤْمِنًا، فَإِنَّ اسْتِمْرَارَ الْإِيمَانِ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَوْلُهُ في الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ: عَاصِمٌ هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ الْمَعْرُوفُ بِالْأَحْوَلِ وَقَدْ سَمِعَ مِنْ أَنَسٍ، وَرُبَّمَا أَدْخَلَ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةً كَهَذَا، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ أَنَسٌ: وَأَنَسٌ يَوْمَئِذٍ حَيٌّ، فَذَكَرَهُ. وَقَوْلُهُ: لَا تَمَنَّوْا بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَثَانِيهِ وَثَالِثُهُ مُشَدَّدًا وَهِيَ عَلَى حَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَثَبَتَتْ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ لَا تَتَمَنَّوْا وَزَادَ فِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ الْمَذْكُورَةِ عَنْ أَنَسٍ: لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، الْحَدِيثَ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْمَرْضَى وَأَوْرَدَ نَحْوَهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ فِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ.

وَمُحَمَّدٌ في الْحَدِيثِ الثَّانِي هُوَ ابْنُ سَلَّامٍ، وَعَبْدَةَ هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ، وَابْنُ أَبِي خَالِدٍ هُوَ إِسْمَاعِيلُ، وَقَيْسٌ هُوَ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، وَالسَّنَدُ كُلُّهُ كُوفِيُّونَ إِلَّا شَيْخَ الْبُخَارِيِّ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْمَرْضَى

وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ: عَنِ الزُّهْرِيِّ كَذَا لِهِشَامِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ مَعْمَرٍ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ:، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالطَّرِيقَانِ مَحْفُوظَانِ لِمَعْمَرٍ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَتَابَعَهُ فِيهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، شُعَيْبٌ، وَابْنُ أَبِي حَفْصَةَ، وَيُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، وَقَوْلُهُ: عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ هُوَ سَعْدُ بْنُ عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَبد الزُّهْرِيِّ فَقَالَ: عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، لَكِنْ قَالَ النَّسَائِيُّ: إِنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الصَّوَابُ.

قَوْلُهُ: (لَا يَتَمَنَّى) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِلَفْظِ النَّفْيِ، وَالْمُرَادُ بِهِ النَّهْيُ أَوْ هُوَ لِلنَّهْيِ وَأُشْبِعَتِ الْفَتْحَةُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: لَا يَتَمَنَّيَنَّ بِزِيَادَةِ نُونِ التَّأْكِيدِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ الْمُشَارِ إِلَيْهَا لَا يَتَمَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ، وَلَا يَدْعُ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ فَجَمَعَ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ بَيْنَ الْقَصْدِ وَالنُّطْقِ، وَفِي قَوْلِهِ: قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ إِشَارَةٌ إِلَى الزَّجْرِ عَنْ كَرَاهِيَتِهِ إِذَا حَضَرَ لِئَلَّا يَدْخُلَ فِيمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِلَى ذَلِكَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ حُضُورِ أَجَلِهِ: اللَّهُمَّ أَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى، وَكَلَامُهُ صلى الله عليه وسلم بَعْدَمَا خُيِّرَ بَيْنَ الْبَقَاءِ فِي الدُّنْيَا وَالْمَوْتِ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ، وَقَدْ خَطَبَ بِذَلِكَ وَفَهِمَهُ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْمَنَاقِبِ، وَحِكْمَةُ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ فِي طَلَبِ الْمَوْتِ قَبْلَ حُلُولِهِ نَوْعَ اعْتِرَاضٍ وَمُرَاغَمَةً لِلْقَدَرِ وَإِنْ كَانَتِ الْآجَالُ لَا تَزِيدُ وَلَا تَنْقُصُ، فَإِنَّ تَمَنِّيَ الْمَوْتِ لَا يُؤَثِّرُ فِي زِيَادَتِهَا وَلَا نَقْصِهَا، وَلَكِنَّهُ أَمْرٌ قَدْ غُيِّبَ عَنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَمِّ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ يَقُولُ: يَا لَيْتَنِي مَكَانَهُ، وَلَيْسَ بِهِ الدِّينُ إِلَّا الْبَلَاءُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ ذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ

ص: 221

تَمَنِّي الْمَرِيضِ الْمَوْتَ مِنْ كِتَابِ الْمَرْضَى قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْحَدِيثِ التَّصْرِيحُ بِكَرَاهَةِ تَمَنِّي الْمَوْتِ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ مِنْ فَاقَةٍ أَوْ مِحْنَةٍ بِعَدُوٍّ وَنَحْوِهِ مِنْ مَشَاقِّ الدُّنْيَا،

فَأَمَّا إِذَا خَافَ ضَرَرًا أَوْ فِتْنَةً فِي دِينِهِ فَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ لِمَفْهُومِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ فعَلَهُ خَلَائِقُ مِنَ السَّلَفِ لذَلِكَ وَفِيهِ أَنَّ مَنْ خَالَفَ فَلَمْ يَصْبِرْ عَلَى الضُّرِّ وَتَمَنَّى الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ فَلْيَقُلِ الدُّعَاءَ الْمَذْكُورَ. قُلْتُ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ الْمَنْعُ مُطْلَقًا، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى الدُّعَاءِ مُطْلَقًا، لَكِنَّ الَّذِي قَالَهُ الشَّيْخُ لَا بَأْسَ بِهِ لِمَنْ وَقَعَ مِنْهُ التَّمَنِّي لِيَكُونَ عَوْنًا عَلَى تَرْكِ التَّمَنِّي.

قَوْلُهُ: (إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ يَزْدَادُ وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ يُسْتَعْتَبُ) كَذَا لَهُمْ بِالنَّصْبِ فِيهِمَا وَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ عَامِلِ نَصْبٍ نَحْوُ يَكُونُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِالرَّفْعِ فِيهِمَا، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ الْمَذْكُورَةِ وَهِيَ وَاضِحَةٌ، وَقَوْلُهُ: يُسْتَعْتَبُ أَيْ يَسْتَرْضِي اللَّهَ بِالْإِقْلَاعِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالِاسْتِعْتَابُ طَلَبُ الْإِعْتَابِ وَالْهَمْزَةُ لِلْإِزَالَةِ، أَيْ: يَطْلُبُ إِزَالَةَ الْعِتَابِ، عَاتَبَهُ: لَامَهُ، وَأَعْتَبَهُ: أَزَالَ عِتَابَهُ: قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَهُوَ مِمَّا جَاءَ عَلَى غَيْرِ الْقِيَاسِ إِذْ الِاسْتِفْعَالُ إِنَّمَا يَنْبَنِي مِنَ الثُّلَاثِيِّ لَا مِنَ الْمَزِيدِ فِيهِ انْتَهَى.

وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ انْحِصَارُ حَالِ الْمُكَلَّفِ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ، وَبَقِيَ قِسْمٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُخَلِّطًا فَيَسْتَمِرَّ عَلَى ذَلِكَ أَوْ يَزِيدَ إِحْسَانًا أَوْ يَزِيدَ إِسَاءَةً أَوْ يَكُونَ مُحْسِنًا فَيَنْقَلِبَ مُسِيئًا أَوْ يَكُونَ مُسِيئًا فَيَزْدَادَ إِسَاءَةً، وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ لِأَنَّ غَالِبَ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ ذَلِكَ، وَلَا سِيَّمَا وَالْمُخَاطَبُ بِذَلِكَ شِفَاهًا الصَّحَابَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ مَبْسُوطًا مَعَ شَرْحِهِ هُنَاكَ، وَقَدْ خَطَرَ لِي فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَغْبِيطِ الْمُحْسِنِ بِإِحْسَانِهِ وَتَحْذِيرِ الْمُسِيءِ مِنْ إِسَاءَتِهِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: مَنْ كَانَ مُحْسِنًا فَلْيَتْرُكْ تَمَنِّيَ الْمَوْتِ وَلْيَسْتَمِرَّ عَلَى إِحْسَانِهِ وَالِازْدِيَادِ مِنْهُ، وَمَنْ كَانَ مُسِيئًا فَلْيَتْرُكْ تَمَنِّيَ الْمَوْتِ وَلْيُقْلِعْ عَنِ الْإِسَاءَةِ لِئَلَّا يَمُوتَ عَلَى إِسَاءَتِهِ فَيَكُونَ عَلَى خَطَرٍ، وَأَمَّا مَنْ عَدَا ذَلِكَ مِمَّنْ تَضَمَّنَهُ التَّقْسِيمُ فَيُؤْخَذُ حُكْمُهُ مِنْ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ إِذْ لَا انْفِكَاكَ عَنْ أَحَدِهِمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

تَنْبِيهٌ:

أَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: إِذَا تَمَنَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَنْظُرْ مَا يَتَمَنَّى فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَا يُعْطَى وَهُوَ عِنْدَهُ مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَيْسَ عَلَى شَرْطِهِ فَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحِ.

‌7 - بَاب قَوْلِ الرَّجُلِ لَوْلَا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا

7236 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ شُعْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَنْقُلُ مَعَنَا التُّرَابَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ وَارَى التُّرَابُ بَيَاضَ بَطْنِهِ يَقُولُ: لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا، وَلَا تَصَدَّقْنَا، وَلَا صَلَّيْنَا، فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا إِنَّ الْأُلَى وَرُبَّمَا قَالَ: الْمَلَا قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا أَبَيْنَا يَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ الرَّجُلِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَلِلْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ: قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا) إِشَارَةٌ إِلَى رِوَايةٍ مُخْتَصَرَةٍ أَوْرَدَهَا فِي بَابِ حَفْرِ الْخَنْدَقِ فِي أَوَائِلِ الْجِهَادِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَنْقُلُ وَيَقُولُ: لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا، وَأَوْرَدَهُ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ شُعْبَةَ أَتَمَّ سِيَاقًا وَقَوْلُهُ: هُنَا

لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا

وَفِي بَعْضِهَا: لَوْلَا اللَّهُ هَكَذَا وَقَعَ بِحَذْفِ بَعْضِ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ وَيُسَمَّى الْخَرْمَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ السَّاكِنَةِ، وَتَقَدَّمَ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ:

وَاللَّهِ لَوْلَا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا

ص: 222

وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلَفْظِ التَّرْجَمَةِ، وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ:

اللَّهُمَّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا

وَفِي أَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ زِيَادَةُ سَبَبٍ خَفِيفٍ وَهُوَ الْخَزْمُ بِالزَّايِ، وَتَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى هَذَا فِي كِتَابِ الْأَدَبِ وَالرِّوَايَةُ الْوُسْطَى سَالِمَةٌ مِنَ الْخَرْمِ وَالْخَزْمِ مَعًا. وَقَوْلُهُ هُنَا: إِنَّ الْأُلَى وَرُبَّمَا قَالَ:

إِنَّ الْمَلَأَ قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا

تَقَدَّمَ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ

إِنَّ الْأُلَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا

وَلَمْ يَتَرَدَّدْ وَالْأُلَى بِهَمْزَةٍ مَضْمُومًا غَيْرِ مَمْدُودَةٍ. وَاللَّامُ بَعْدَهَا مَفْتُوحَةٌ وَهِيَ بِمَعْنَى الَّذِينَ وَإِنَّمَا يَتَّزِنُ بِلَفْظِ الَّذِينَ فَكَأَنَّ أَحَدَ الرُّوَاةِ ذَكَرَهَا بِالْمَعْنَى، وَمَضَى فِي الْجِهَادِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ بِلَفْظِ: إِنَّ الْعِدَا وَهُوَ غَيْرُ مَوْزُونٍ أَيْضًا وَلَوْ كَانَ الْأَعَادِي لَا تُزَنْ، وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ:

وَالْمُشْرِكُونَ قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا

وَهَذَا مَوْزُونٌ، ذَكَرَهُ فِي رَجَزِ عَامِرِ بْنِ الْأَكْوَعِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي غَزَوْهِ خَيْبَرَ.

قَوْلُهُ: قَبْلَ ذَلِكَ وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ وَارَى التُّرَابُ) بِسُكُونِ الْأَلِفِ وَفَتْحِ الرَّاءِ بِلَفْظِ: الْفِعْلِ الْمَاضِي مِنَ الْمُوَارَاةِ، أَيْ غَطَّى وَزْنُهُ وَمَعْنَاهُ كَذَا لِلْجَمِيعِ إِلَّا الْكُشْمِيهَنِيَّ فَوَقَعَ فِي رِوَايَتِهِ: وَإِنَّ التُّرَابَ لَمُوَارٍ.

قَوْلُهُ: (بَيَاضَ بَطْنِهِ) كَذَا لِلْجَمِيعِ إِلَّا الْكُشْمِيهَنِيَّ فَقَالَ: بَيَاضَ إِبْطَيْهِ تَثْنِيَةُ الْإِبْطِ وَوَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي الْمَغَازِي حَتَّى اغْبَرَّ بَطْنُهُ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى رَأَيْتُهُ يَنْقُلُ مِنْ تُرَابِ الْخَنْدَقِ، حَتَّى وَارَى عَنِّي التُّرَابُ جِلْدَةَ بَطْنِهِ فَسَمِعْتُهُ يَرْتَجِزُ بِكَلِمَاتِ ابْنِ رَوَاحَةَ، يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ الشَّاعِرَ الْأَنْصَارِيَّ الصَّحَابِيَّ الْمَشْهُورَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ أَنَّهُ مِنْ شِعْرِ عَامِرِ بْنِ الْأَكْوَعِ، وَذَكَرْتُ وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا هُنَاكَ، وَمَا فِي الْأَبْيَاتِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ زِحَافٍ وَتَوْجِيهَهُ.

وَتَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِحُكْمِ الشِّعْرِ إِنْشَادًا وَإِنْشَاءً فِي حَقِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِي حَقِّ مَنْ دُونَهُ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْأَدَبِ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَوْلَا عِنْدَ الْعَرَبِ يَمْتَنِعُ بِهَا الشَّيْءُ لِوُجُودِ غَيْرِهِ تَقُولُ: لَوْلَا زَيْدٌ مَا صِرْتُ إِلَيْكَ أَيْ كَانَ مَصِيرِي إِلَيْكَ مِنْ أَجْلِ زَيْدٍ وَكَذَلِكَ لَوْلَا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا أَيْ كَانَتْ هِدَايَتُنَا مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ الرَّاغِبُ: لِوُقُوعِ غَيْرِهِ، وَيَلْزَمُ خَبَرَهُ الْحَذْفُ وَيُسْتَغْنَى بِجَوَابِهِ عَنِ الْخَبَرِ قَالَ وَتَجِيءُ بِمَعْنَى هَلَّا نَحْوَ لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا وَمِثْلُهُ: لَوْمَا بِالْمِيمِ بَدَلَ اللَّامِ وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: لَوْلَا تَجِيءُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنْ تَدْخُلَ عَلَى جُمْلَةٍ لِتَرْبِطَ امْتِنَاعَ الثَّانِيَةِ بِوُجُودِ الْأُولَى نَحْوُ لَوْلَا زَيْدٌ لَأَكْرَمْتُكَ أَيْ لَوْلَا وُجُودُهُ، وَأَمَّا حَدِيثُ: لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ فَالتَّقْدِيرُ: لَوْلَا مَخَافَةُ أَنْ أَشُقَّ لَأَمَرْتُ أَمْرَ إِيجَابٍ وَإِلَّا لَانْعَكَسَ مَعْنَاهَا، إِذِ الْمُمْتَنِعُ الْمَشَقَّةُ، وَالْمَوْجُودُ الْأَمْرُ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَجِيءُ لِلْحَضِّ وَهُوَ طَلَبٌ بِحَثٍّ وَإِزْعَاجٍ وَلِلْعَرْضِ وَهُوَ طَلَبٌ بِلِينٍ وَأَدَبٍ، فَتَخْتَصُّ بِالْمُضَارِعِ نَحْوُ {لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ}

وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا تَجِيءُ لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّنَدُّمِ فَتَخْتَصُّ بِالْمَاضِي نَحْوُ {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} أَيْ: هَلَّا انْتَهَى.

وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ الْهَرَوِيُّ فِي الْغَرِيبَيْنَ أَنَّهَا تَجِيءُ بِمَعْنَى لِمَ لَا وَجَعَلَ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ} وَالْجُمْهُورُ أَنَّهَا مِنَ الْقِسْمِ الثَّالِثِ، وَمَوْقِعُ الْحَدِيثِ مِنَ التَّرْجَمَةِ أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ إِذَا عَلَّقَ بِهَا الْقَوْلَ الْحَقَّ، لَا يَمْنَعُ بِخِلَافِ مَا لَوْ عَلَّقَ بِهَا مَا لَيْسَ بِحَقٍّ، كَمَنْ يَفْعَلُ شَيْئًا فَيَقَعُ فِي مَحْذُورٍ فَيَقُولُ: لَوْلَا فَعَلْتُ كَذَا مَا كَانَ كَذَا، فَلَوْ حَقَّقَ لَعَلِمَ أَنَّ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ، سَوَاءٌ فَعَلَ أَمْ تَرَكَ فَقَوْلُهَا وَاعْتِقَادُ مَعْنَاهَا يُفْضِي إِلَى التَّكْذِيبِ بِالْقَدَرِ.

‌8 - بَاب كَرَاهِيَةِ تَمَنِّي لِقَاءِ الْعَدُوِّ وَرَوَاهُ الْأَعْرَجُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

7237 -

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمٍ

ص: 223

أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَكَانَ كَاتِبًا لَهُ قَالَ: كَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى فَقَرَأْتُهُ فَإِذَا فِيهِ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ كَرَاهِيَةِ تَمَنِّي لِقَاءِ الْعَدُوِّ) تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ الْجِهَادِ بَابُ لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ تَوْجِيهُهُ مَعَ جَوَازِ تَمَنِّي الشَّهَادَةِ، وَطَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ ظَاهِرَهُمَا التَّعَارُضُ، لِأَنَّ تَمَنِّيَ الشَّهَادَةِ مَحْبُوبٌ، فَكَيْفَ يَنْهَى عَنْ تَمَنِّي لِقَاءِ الْعَدُوِّ وَهُوَ يُفْضِي إِلَى الْمَحْبُوبِ؟ وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ حُصُولَ الشَّهَادَةِ أَخَصُّ مِنَ اللِّقَاءِ لِإِمْكَانِ تَحْصِيلِ الشَّهَادَةِ مَعَ نُصْرَةِ الْإِسْلَامِ وَدَوَامِ عِزِّهِ بِكَسْرَةِ الْكُفَّارِ، وَاللِّقَاءُ قَدْ يُفْضِي إِلَى عَكْسِ ذَلِكَ فَنَهَى عَنْ تَمَنِّيهِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ تَمَنِّيَ الشَّهَادَةِ، أَوْ لَعَلَّ الْكَرَاهِيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِمَنْ يَثِقُ بِقُوَّتِهِ وَيُعْجَبُ بِنَفْسِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَرَوَاهُ الْأَعْرَجُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) عَلَّقَهُ فِي الْجِهَادِ لِأَبِي عَامِرٍ وَهُوَ الْعَقَدِيُّ، عَنْ مُغِيرَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، وَقَدْ ذَكَرْتُ هُنَاكَ مَنْ وَصَلَهُ ثُمَّ ذَكَرْتُ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى مَوْصُولًا مُخْتَصَرًا، وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ مَوْصُولًا تَامًّا فِي كِتَابِ الْجِهَادِ

‌9 - بَاب مَا يَجُوزُ مِنْ اللَّوْ وَقَوْلِهِ تَعَالَى {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً}

7238 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْمُتَلَاعِنَيْنِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ: أَهِيَ الَّتِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا امْرَأَةً مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ؟ قَالَ: لَا، تِلْكَ امْرَأَةٌ أَعْلَنَتْ.

7239 -

حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو حَدَّثَنَا عَطَاءٌ قَالَ أَعْتَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْعِشَاءِ فَخَرَجَ عُمَرُ فَقَالَ الصَّلَاةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ رَقَدَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ فَخَرَجَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ يَقُولُ لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي أَوْ عَلَى النَّاسِ وَقَالَ سُفْيَانُ أَيْضًا عَلَى أُمَّتِي لَامَرْتُهُمْ بِالصَّلَاةِ هَذِهِ السَّاعَةَ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الصَّلَاةَ فَجَاءَ عُمَرُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ رَقَدَ النِّسَاءُ وَالْوِلْدَانُ فَخَرَجَ وَهُوَ يَمْسَحُ الْمَاءَ عَنْ شِقِّهِ يَقُولُ إِنَّهُ لَلْوَقْتُ لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي وَقَالَ عَمْرٌو حَدَّثَنَا عَطَاءٌ لَيْسَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ أَمَّا عَمْرٌو فَقَالَ رَأْسُهُ يَقْطُرُ وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ يَمْسَحُ الْمَاءَ عَنْ شِقِّهِ وَقَالَ عَمْرٌو لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ إِنَّهُ لَلْوَقْتُ لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا مَعْنٌ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

7240 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَامَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ

7241 -

حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه

ص: 224

قَالَ وَاصَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم آخِرَ الشَّهْرِ وَوَاصَلَ أُنَاسٌ مِنْ النَّاسِ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَوْ مُدَّ بِيَ الشَّهْرُ لَوَاصَلْتُ وِصَالًا يَدَعُ الْمُتَعَمِّقُونَ تَعَمُّقَهُمْ إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ إِنِّي أَظَلُّ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِ تَابَعَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ مُغِيرَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

7242 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْوِصَالِ قَالُوا فَإِنَّكَ تُوَاصِلُ قَالَ أَيُّكُمْ مِثْلِي إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِ فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا ثُمَّ رَأَوْا الْهِلَالَ فَقَالَ لَوْ تَأَخَّرَ لَزِدْتُكُمْ كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ

7243 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ حَدَّثَنَا أَشْعَثُ عَنْ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْجَدْرِ أَمِنَ الْبَيْتِ هُوَ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ فَمَا لَهُمْ لَمْ يُدْخِلُوهُ فِي الْبَيْتِ قَالَ إِنَّ قَوْمَكِ قَصَّرَتْ بِهِمْ النَّفَقَةُ قُلْتُ فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا قَالَ فَعَلَ ذَاكِ قَوْمُكِ لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أَنْ أُدْخِلَ الْجَدْرَ فِي الْبَيْتِ وَأَنْ أَلْصِقْ بَابَهُ فِي الأَرْضِ

7244 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الأَنْصَارِ وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَسَلَكَتْ الأَنْصَارُ وَادِيًا أَوْ شِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ أَوْ شِعْبَ الأَنْصَارِ

7245 -

حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الأَنْصَارِ وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا أَوْ شِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ وَشِعْبَهَا تَابَعَهُ أَبُو التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الشِّعْبِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يَجُوزُ مِنَ اللَّوِّ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: يُرِيدُ مَا يَجُوزُ مِنْ قَوْلِ الرَّاضِي بِقَضَاءِ اللَّهِ لَوْ كَانَ كَذَا لَكَانَ كَذَا فَأَدْخَلَ عَلَى لَوْ الْأَلِفَ وَاللَّامَ الَّتِي لِلْعَهْدِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، لِأَنَّ لَوْ حَرْفٌ وَهُمَا لَا يَدْخُلَانِ عَلَى الْحُرُوفِ، وَكَذَا وَقَعَ عِنْدَ بَعْضِ رُوَاةِ مُسْلِمٍ إِيَّاكَ وَاللَّوَّ فَإِنَّ اللَّوَّ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَالْمَحْفُوظُ إِيَّاكَ وَلَوْ فَإِنَّ لَوْ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَلَامٍ فِيهِمَا، قَالَ: وَوَقَعَ لِبَعْضِ الشُّعَرَاءِ تَشْدِيدُ وَاوِ لَوْ وَذَلِكَ لِضَرُورَةِ الشِّعْرِ انْتَهَى. وَقَالَ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ: لَمَّا أَقَامَهَا مَقَامَ الِاسْمِ صَرَفَهَا فَصَارَتْ عِنْدَهُ كَالنَّدَمِ وَالتَّمَنِّي، وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: الْأَصْلُ لَوْ سَاكِنَةَ الْوَاوِ، وَهِيَ حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ الْمَعَانِي، يَمْتَنِعُ بِهَا الشَّيْءُ لِامْتِنَاعِ غَيْرِهِ غَالِبًا، فَلَمَّا سُمِّيَ بِهَا زِيدَ فِيهَا فَلَمَّا أَرَادَ إِعْرَابَهَا أَتَى فِيهَا

ص: 225

بِالتَّعْرِيفِ لِيَكُونَ عَلَامَةً لِذَلِكَ، وَمِنْ ثَمَّ شَدَّدَ الْوَاوَ وَقَدْ سُمِعَ بِالتَّشْدِيدِ مُنَوَّنًا قَالَ الشَّاعِرُ:

أُلَامُ عَلَى لَوٍّ وَلَوْ كُنْتُ عَالِمًا

بِأَدْبَارِ لَوٍّ لَمْ تَفُتْنِي أَوَائِلُهُ

وَقَالَ آخَرُ:

لَيْتَ شِعْرِي وَأَيْنَ مِنِّي

لَيْتَ إِنَّ لَيْتًا وَإِنَّ لَوًّا عَنَاءُ

وَقَالَ آخَرُ:

حَاوَلْتُ لَوًّا فَقُلْتُ لَهَا:

إِنَّ لَوًّا ذَاكَ أَعْيَانَا وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: إِذَا نُسِبَ إِلَى حَرْفٍ أَوْ غَيْرِهِ حُكِمَ هُوَ لِلَفْظِهِ دُونَ مَعْنَاهُ، جَازَ أَنْ يُحْكَى وَجَازَ أَنْ يُعْرَبَ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْعَامِلُ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى حَرْفَيْنِ ثَانِيهُمَا حَرْفُ لِينٍ وَجُعِلَتِ اسْمًا ضُعِّفَ ثَانِيهُمَا، فَمِنْ ثَمَّ قِيلَ فِي لَوْ لَوٌّ وَفِي فِي: فِيٌّ وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: أَيْضًا الْأَدَاةُ الَّتِي حُكِمَ لَهَا بِالِاسْمِيَّةِ فِي هَذَا الِاسْتِعْمَالِ إِنْ أُوِّلَتْ بِكَلِمَةٍ مُنِعَ صَرْفُهَا إِلَّا إِنْ كَانَتْ ثُلَاثِيَّةً سَاكِنَةَ الْوَسَطِ فَيَجُوزُ صَرْفُهَا وَإِنْ أُوِّلَتْ بِلَفْظٍ صُرِفَتْ قَوْلًا وَاحِدًا. قُلْتُ: وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ عَنْ مَشَايِخِهِ مَا يَجُوزُ مِنْ أَنْ لَوْ فَجُعِلَ أَصْلُهَا أَنْ لَوْ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَهَا نُونٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ حَرْفُ لَوْ فَأُدْغِمَتِ النُّونُ فِي اللَّامِ وَسُهِّلَتْ هَمْزَةُ أَنْ فَصَارَتْ تُشْبِهُ أَدَاةَ التَّعْرِيفِ. وَذَكَرَ الْكِرْمَانِيُّ أَنَّ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مَا يَجُوزُ مِنْ لَوْ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَلَامٍ وَلَا تَشْدِيدٍ عَلَى الْأَصْلِ، وَالتَّقْدِيرُ: مَا يَجُوزُ مِنْ قَوْلِ لَوْ ثَمَّ رَأَيْتُهُ فِي شَرْحِ ابْنِ التِّينِ، كَذَلِكَ فَلَعَلَّهُ مِنْ إِصْلَاحِ بَعْضِ الرُّوَاةِ لِكَوْنِهِ لَمْ يَعْرِفْ وَجْهَهُ، وَإِلَّا فَالنُّسَخُ الْمُعْتَمَدَةُ مِنَ الصَّحِيحِ وَشُرُوحِهِ مُتَوَارِدَةٌ عَلَى الْأَوَّلِ، وَقَالَ السُّبْكِيُّ الْكَبِيرُ: لَوْ إِنَّمَا لَا تَدْخُلُهَا الْأَلِفُ وَلَا اللَّامُ إِذَا بَقِيَتْ عَلَى الْحَرْفِيَّةِ، أَمَّا إِذَا سُمِّيَ بِهَا فَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ الْحُرُوفِ الَّتِي سُمِعَتِ التَّسْمِيَةُ بِهَا مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ وَحُرُوفُ الْمَعَانِي وَمِنْ شَوَاهِدِهِ قَوْلُهُ:

وَقَدَمًا أَهْلَكْتُهُ لَوْ كَثِيرًا،

وَقَبْلَ الْيَوْمِ عَالَجَهَا قِدَارُ

فَأَضَافَ إِلَيْهَا وَاوًا أُخْرَى وَأَدْغَمَهَا وَجَعَلَهَا فَاعِلًا، وَحَكَى سِيبَوَيْهِ أَنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ يَهْمِزُ لَوًّا أَيْ سَوَاءً كَانَتْ بَاقِيَةً عَلَى حَرْفِيَّتِهَا أَوْ سُمِّيَ بِهَا، وَأَمَّا حَدِيثُ إِيَّاكَ وَلَوْ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَعْلِهَا اسْمَ إِنَّ أَنْ تَكُونَ خَرَجَتْ عَنِ الْحَرْفِيَّةِ بَلْ هُوَ إِخْبَارٌ لَفْظِيٌّ يَقَعُ فِي الِاسْمِ وَالْفِعْلِ وَالْحَرْفِ ; كَقَوْلِهِمْ حَرْفُ عَنْ ثُنَائِيٌّ، وَحَرْفُ إِلَى ثُلَاثِيٌّ هُوَ إِخْبَارٌ عَنِ اللَّفْظِ عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ، وَأَمَّا إِذَا أُضِيفَ إِلَيْهَا الْأَلِفُ وَاللَّامُ فَإِنَّهَا تَصِيرُ اسْمًا أَوْ تَكُونُ إِخْبَارًا عَنِ الْمَعْنَى الْمُسَمَّى بِذَلِكَ اللَّفْظِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَوْ تَدُلُّ عِنْدَ الْعَرَبِ عَلَى امْتِنَاعِ الشَّيْءِ لِامْتِنَاعِ غَيْرِهِ تَقُولُ لَوْ جَاءَنِي زَيْدٌ لَأَكْرَمْتُكَ مَعْنَاهُ إِنِّي امْتَنَعْتُ مِنْ إِكْرَامِكَ لِامْتِنَاعِ مَجِيءِ زَيْدٍ، وَعَلَى هَذَا جَرَى أَكْثَرُ الْمُتَقَدِّمِينَ.

وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: لَوْ حَرْفٌ لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ أَيْ يَقْتَضي فِعْلًا مَاضِيًا كَانَ يُتَوَقَّعُ ثُبُوتُهُ لِثُبُوتِ غَيْرِهِ فَلَمْ يَقَعْ وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِقَوْلِهِ: لِمَا كَانَ سَيَقَعُ دُونَ قَوْلِهِ: لِمَا لَمْ يَقَعْ مَعَ أَنَّهُ أَخْصَرُ ; لِأَنَّ كَانَ لِلْمَاضِي وَلَوْ لِلِامْتِنَاعِ وَلِمَا لِلْوُجُوبِ وَالسِّينُ لِلتَّوَقُّعِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ لِمُجَرَّدِ الرَّبْطِ فِي الْمَاضِي مِثْلَ إِنْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَقَدْ تَجِيءُ بِمَعْنَى إِنِ الشَّرْطِيَّةِ نَحْوَ: {وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} أَيْ وَإِنْ أَعْجَبَتْكُمْ وَتَرِدُ لِلتَّقْلِيلِ، نَحْوَ الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ قَالَهُ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ وَتَبِعَهُ ابْنُ هِشَامٍ الْخَضْرَاوِيُّ، وَمِثْلَ فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، وَتَبِعَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ، وَمَثَّلَ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ بِظِلْفٍ مُحَرَّقٍ وَهُوَ أَبْلَغُ فِي التَّقْلِيلِ، وَتَرِدُ لِلْعَرْضِ نَحْوَ: لَوْ تَنْزِلُ عِنْدَنَا فَتُصِيبَ خَيْرًا وَلِلْحَضِّ نَحْوَ: لَوْ فَعَلْتَ كَذَا بِمَعْنَى افْعَلْ، وَالْأَوَّلُ طَلَبٌ بِأَدَبٍ وَلِينٍ، وَالثَّانِي طَلَبٌ

ص: 226

بِقُوَّةٍ وَشِدَّةٍ، وَذَكَرَ ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ أَنَّهَا تَأْتِي بِمَعْنَى هَلَّا وَمَثَّلَ بِقَوْلِهِ:{لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ تَفْسِيرُ مَعْنًى؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يُسَاعِدُهُ، وَتَأْتِي بِمَعْنَى التَّمَنِّي نَحْوَ {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} أَيْ فَلَيْتَ لَنَا، وَلِهَذَا نُصِبَ فَتَكُونُ فِي جَوَابِهَا كَمَا انْتَصَبَ فَأَفُوزَ فِي جَوَابِ لَيْتَ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ هِيَ الِامْتِنَاعِيَّةُ أُشْرِبَتْ مَعْنَى التَّمَنِّي أَوِ الْمَصْدَرِيَّةُ أَوْ قِسْمٌ بِرَأْسِهِ، رَجَّحَ الْأَخِيرَ ابْنُ مَالِكٍ وَلَا يُعَكِّرُ عَلَيْهِ وُرُودُهَا مَعَ فِعْلِ التَّمَنِّي، لِأَنَّ مَحَلَّ مَجِيئِهَا لِلتَّمَنِّي أَنْ

لَا يَصْحَبَهَا فِعْلُ التَّمَنِّي، قَالَ الْقَاضِي شِهَابُ الدِّينِ الْخُوبِيُّ: لَوِ الشَّرْطِيَّةُ لِتَعْلِيقِ الثَّانِي بِالْأَوَّلِ فِي الْمَاضِي، فَتَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْأَوَّلِ إِذْ لَوْ كَانَ ثَابِتًا لَلَزِمَ ثُبُوتُ الثَّانِي لِأَنَّهَا لِثُبُوتِ الثَّانِي عَلَى تَقْدِيرِ الْأَوَّلِ، فَمَتَى كَانَ الْأَوَّلُ لَازِمًا لِلثَّانِي دَلَّ عَلَى امْتِنَاعِ الثَّانِي لِامْتِنَاعِ الْأَوَّلِ ضَرُورَةُ انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْأَوَّلُ لَازِمًا لِلثَّانِي لَمْ يَدُلَّ إِلَّا عَلَى مُجَرَّدِ الشَّرْطِ، وَقَالَ التَّفْتَازَانِيُّ: قَدْ تُسْتَعْمَلُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْجَزَاءَ لَازِمُ الْوُجُودِ دَائِمًا فِي قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ الشَّرْطُ مِمَّا يُسْتَبْعَدُ اسْتِلْزَامُهُ لِذَلِكَ الْجَزَاءِ، وَيَكُونُ نَقِيضُ ذَلِكَ الشَّرْطِ الْمُثْبَتِ أَوْلَى بِاسْتِلْزَامِهِ ذَلِكَ الْجَزَاءَ، فَيَلْزَمُ وُجُودُ اسْتِمْرَارِ الْجَزَاءِ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِ الشَّرْطِ وَعَدَمِهِ نَحْوَ: لَوْ لَمْ تَكُنْ تُكْرِمْنِي لِأُثْنِيَ عَلَيْكَ فَإِذَا ادَّعَى لُزُومَ وُجُودِ الْجَزَاءِ لِهَذَا الشَّرْطِ مَعَ اسْتِبْعَادِ لُزُومِهِ لَهُ فَوُجُودُهُ عِنْدَ عَدَمِ هَذَا الشَّرْطِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى انْتَهَى.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ الشِّعْرِيَّةِ قَوْلُ الْمَعَرِّيِّ.

لَوِ اخْتَصَرْتُمْ مِنَ الْإِحْسَانِ زُرْتُكُمُ الْبَيْتَ

فَإِنَّ الْإِحْسَانَ يَسْتَدْعِي اسْتِدَامَةَ الزِّيَارَةِ لَا تَرْكَهَا لَكِنَّهُ أَرَادَ الْمُبَالَغَةَ فِي وَصْفِ الْمَمْدُوحِ بِالْكِرْمِ، وَوَصْفَ نَفْسَهُ بِالْعَجْزِ عَنْ شُكْرِهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: جَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ كَأَنَّهُ قَالَ: لَحُلْتُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مَا جِئْتُمْ لَهُ مِنَ الْفَسَادِ قَالَ: وَحَذْفُهُ أَبْلَغُ لِأَنَّهُ يَحْصِرُ بِالنَّفْيِ ضُرُوبَ الْمَنْعِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ لُوطٌ عليه السلام الْعِدَّةَ مِنَ الرِّجَالِ، وَإِلَّا فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ رُكْنًا شَدِيدًا ; وَلَكِنَّهُ جَرَى عَلَى الْحُكْمِ الظَّاهِرِ، قَالَ وَتَضَمَّنَتِ الْآيَةُ الْبَيَانَ عَمَّا يُوجِبُهُ حَالُ الْمُؤْمِنِ إِذَا رَأَى مُنْكَرًا لَا يَقْدِرُ عَلَى إِزَالَتِهِ، أَنَّهُ يَتَحَسَّرُ عَلَى فَقْدِ الْمُعِينِ عَلَى دَفْعِهِ، وَيَتَمَنَّى وُجُودَهُ حِرْصًا عَلَى طَاعَةِ رَبِّهِ وَجَزَعًا مِنَ اسْتِمْرَارِ مَعْصِيَتِهِ، وَمِنْ ثَمَّ وَجَبَ أَنْ يُنْكِرَ بِلِسَانِهِ ثُمَّ بِقَلْبِهِ إِذَا لَمْ يُطْلِقِ الدَّفْعَ انْتَهَى.

وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ السُّبْكِيُّ هُوَ الَّذِي رَمَزَ إِلَيْهِ الْبُخَارِيُّ بِقَوْلِهِ: مَا يَجُوزُ مِنَ اللَّوْ فَإِنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهَا فِي الْأَصْلِ لَا يَجُوزُ إِلَّا مَا اسْتَثْنَى، وَهُوَ مُخَرَّجٌ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ، وَالطَّحَاوِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَلَا تَعْجِزْ فَإِنْ غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ اللَّهُ، وَإِيَّاكَ وَاللَّوْ فَإِنَّ اللَّوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ لَفْظُ ابْنِ مَاجَهْ وَلَفْظُ النَّسَائِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَالْبَاقِي سَوَاءٌ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: وَمَا شَاءَ وَإِيَّاكَ وَاللَّوْ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ: احْرِصْ إِلَخْ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا قَبْلَهُ.

وَقَالَ: فَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، ولَكِنْ قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ مِفْتَاحُ الشَّيْطَانِ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ فُضَيْلِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ فَأَدْخَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَعْرَجِ أَبَا الزِّنَادِ، وَلَفْظُهُ: مُؤْمِنٌ قَوِيٌّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ، وَفِيهِ: فَقُلْ قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ صَنَعَ، قَالَ النَّسَائِيُّ: فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ لَيْسَ بِقَوِيٍّ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَالطَّبَرِيُّ، وَالطَّحَاوِيُّ، مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ فَأَدْخَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَعْرَجِ رَبِيعَةَ بْنَ عُثْمَانَ، وَلَفْظُ النَّسَائِيِّ كَالْأَوَّلِ، لَكِنْ قَالَ: وَأَفْضَلُ وَقَالَ: وَمَا شَاءَ صَنَعَ وَأَخْرَجَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ رَبِيعَةَ، قَالَ: سَمِعْتُهُ مِنْ رَبِيعَةَ، وَحِفْظِي لَهُ عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ رَبِيعَةَ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ وَقَالَ: دَلَّسَهُ ابْنُ عَجْلَانَ، عَنِ الْأَعْرَجِ وَإِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ رَبِيعَةَ ثُمَّ رَوَاهُ الثَّلَاثَةُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ

ص: 227

اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عُثْمَانَ، فَقَالَ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، عَنِ الْأَعْرَجِ بَدَلَ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، وَلَفْظُ النَّسَائِيِّ: وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، وَفِيهِ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ، وَإِذَا أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَّرَ اللَّهُ، وَمَا شَاءَ فَعَلَ وَهَذِهِ الطَّرِيقُ أَصَحُّ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ أَيْضًا، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهَا وَلَمْ يُخَرِّجْ بَقِيَّةَ الطُّرُقِ مِنْ أَجْلِ الِاخْتِلَافِ عَلَى ابْنِ عَجْلَانَ فِي سَنَدِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ

رَبِيعَةُ سَمِعَهُ مِنَ ابْنِ حِبَّانَ، وَمِنَ ابْنِ عَجْلَانَ، فَإِنَّ ابْنَ الْمُبَارَكِ حَافِظٌ كَابْنِ إِدْرِيسَ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَفْظُ: اللَّوْ بِالتَّشْدِيدِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ طَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذَا النَّهْيِ، وَبَيْنَ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى الْجَوَازِ، أَنَّ النَّهْيَ مَخْصُوصٌ بِالْجَزْمِ بِالْفِعْلِ الَّذِي لَمْ يَقَعْ، فَالْمَعْنَى: لَا تَقُلْ لِشَيْءٍ لَمْ يَقَعْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَذَا لَوَقَعَ قَاضِيًا بِتَحَتُّمِ ذَلِكَ غَيْرَ مُضْمِرٍ فِي نَفْسِكَ شَرْطَ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِ لَوْ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا كَانَ قَائِلُهُ مُوقِنًا بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ، وَهُوَ كَقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ فِي الْغَارِ: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ رَفَعَ قَدَمَهُ لَأَبْصَرَنَا فَجَزَمَ بِذَلِكَ مَعَ تَيَقُّنِهِ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَصْرِفَ أَبْصَارَهُمْ عَنْهُمَا بِعَمًى أَوْ غَيْرِهِ، لَكِنْ جَرَى عَلَى حُكْمِ الْعَادَةِ الظَّاهِرَةِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِأَنَّهُمْ لَوْ رَفَعُوا أَقْدَامَهُمْ لَمْ يُبْصِرُوهُمَا إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، انْتَهَى. مُلَخَّصًا.

وَقَالَ عِيَاضٌ: الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ تَرْجَمَةِ الْبُخَارِيِّ وَمِمَّا ذَكَرَهُ فِي الْبَابِ مِنَ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ لَوْ وَلَوْلَا فِيمَا يَكُونُ لِلِاسْتِقْبَالِ مِمَّا فَعَلَهُ لِوُجُودِ غَيْرِهِ وَهُوَ مِنْ بَابِ لَوْ لِكَوْنِهِ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْبَابِ إِلَّا مَا هُوَ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَمَا هُوَ حَقٌّ صَحِيحٌ مُتَيَقَّنٌ، بِخِلَافِ الْمَاضِي وَالْمُنْقَضِي أَوْ مَا فِيهِ اعْتِرَاضٌ عَلَى الْغَيْبِ وَالْقَدَرِ السَّابِقِ. قَالَ: وَالنَّهْيُ إِنَّمَا هُوَ حَيْثُ قَالَهُ مُعْتَقِدًا ذَلِكَ حَتْمًا، وَأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يُصِبْهُ مَا أَصَابَهُ قَطْعًا، فَأَمَّا مَنْ رَدَّ ذَلِكَ إِلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ ذَلِكَ مَا وَقَعَ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا قَالَ وَالَّذِي عِنْدِي فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ النَّهْيَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَعُمُومِهِ لَكِنَّهُ نَهْيُ تَنْزِيهٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ أَيْ يُلْقِي فِي الْقَلْبِ مُعَارَضَةَ الْقَدَرِ فَيُوَسْوِسُ بِهِ الشَّيْطَانُ، وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّهُ جَاءَ مِنَ اسْتِعْمَالِ لَوْ فِي الْمَاضِي مِثْلَ قَوْلِهِ: لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ إِطْلَاقُ ذَلِكَ فِيمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَهُ تَأَسُّفًا عَلَى مَا فَاتَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ أَوْ مَا هُوَ مُتعْذِرٌ عَلَيْهِ مِنْهُ وَنَحْوُ هَذَا فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ أَكْثَرُ الِاسْتِعْمَالِ الْمَوْجُودِ فِي الْأَحَادِيثِ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ: الْمُرَادُ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَنَّ الَّذِي يَتَعَيَّنُ بَعْدَ وُقُوعِ الْمَقْدُورِ التَّسْلِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالرِّضَى بِمَا قَدَّرَ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْ الِالْتِفَاتِ لِمَا فَاتَ، فَإِنَّهُ إِذَا فكَّرَ فِيمَا فَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَذَا لَكَانَ كَذَا، جَاءَتْهُ وَسَاوِسُ الشَّيْطَانِ فَلَا تَزَالُ بِهِ حَتَّى يُفْضِيَ إِلَى الْخُسْرَانِ، فَيُعَارِضَ بِتَوَهُّمِ التَّدْبِيرِ سَابِقَ الْمَقَادِيرِ، وَهَذَا هُوَ عَمَلُ الشَّيْطَانِ الْمَنْهِيُّ عَنْ تَعَاطِي أَسْبَابِهِ بِقَوْلِهِ: فَلَا تَقُلْ لَوْ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ تَرْكَ النُّطْقِ بِلَوْ مُطْلَقًا إِذْ قَدْ نَطَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهَا فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ، وَلَكِنَّ مَحَلَّ النَّهْيِ عَنْ إِطْلَاقِهَا إِنَّمَا هُوَ فِيمَا إِذَا أُطْلِقَتْ مُعَارِضَةً لِلْقَدَرِ، مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّ ذَلِكَ الْمَانِعَ لَوِ ارْتَفَعَ لَوَقَعَ خِلَافُ الْمَقْدُورِ، لَا مَا إِذَا أَخْبَرَ بِالْمَانِعِ عَلَى جِهَةِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ فَائِدَةٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُخْتَلَفُ فِي جَوَازِ إِطْلَاقِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ فَتْحٌ لِعَمَلِ الشَّيْطَانِ وَلَا مَا يُفْضِي إِلَى تَحْرِيمٍ. وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي هَذَا الْبَابِ تِسْعَةَ أَحَادِيثَ فِي بَعْضِهَا النُّطْقُ بِلَوْ وَفِي بَعْضِهَا بِلَوْلَا فَمِنَ الْأَوَّلِ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ وَالسَّادِسُ وَالثَّامِنُ وَالتَّاسِعُ وَمِنَ الثَّانِي: الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ وَالسَّابِعُ.

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: حَدِيثُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْمُتَلَاعِنَيْنِ الْحَدِيثَ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ اللِّعَانِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: لَوْ كُنْتُ

ص: 228

رَاجِمًا أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ الْحَدِيثَ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَلِيٌّ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَسُفْيَانُ هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَعَمْرٌو هُوَ ابْنُ دِينَارٍ، وَعَطَاءٌ هُوَ ابْنُ أَبِي رَبَاحٍ.

قَوْلُهُ: (اعْتَمَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَقَدَّمَ شَرْحُ الْمَتْنِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ مُسْتَوْفًى وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ مُرْسَلٌ، وَمِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُسْنَدٌ ; كَمَا بَيَّنَهُ سُفْيَانُ وَهُوَ الْقَائِلُ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ:، عَنْ عَطَاءٍ إِلَخْ، وَهُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ وَلَيْسَ بِمُعَلَّقٍ، وَسِيَاقُ الْحُمَيْدِيِّ لَهُ فِي مُسْنَدِهِ أَوْضَحُ مِنْ سِيَاقِ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، فَإِنَّهُ أَخْرَجَهُ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ سُفْيَانُ وَحَدَّثَنَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَسَاقَ الْحَدِيثَ ثُمَّ قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: كَانَ سُفْيَانُ رُبَّمَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ عَمْرٍو، وَابْنِ جُرَيْجٍ فَأَدْرَجَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَإِذَا ذَكَرَ فِيهِ الْخَبَرَ فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَوْ سَمِعْتُ أَخْبَرَ بِهَذَا يَعْنِي عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ. مُرْسَلًا، وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْصُولًا. قُلْتُ: وَقَدْ رَوَاهُ عَلِيٌّ هُنَا بِالْعَنْعَنَةِ وَمَعَ ذَلِكَ فَصَلَهُ فَلَمْ يُدْرِجْهُ، وَزَادَ فِيهِ تَفْصِيلَ سِيَاقِ الْمَتْنِ عَنْهُمَا أَيْضًا حَيْثُ قَالَ أَمَّا عَمْرٌو فَقَالَ: رَأْسُهُ يَقْطُرُ وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: يَمْسَحُ الْمَاءَ عَنْ شِقِّهِ إِلَخْ، وَقَوْلُهُ: وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ.

إِلَخْ يُرِيدُ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ مُسْلِمٍ وَهُوَ الطَّائِفِيُّ رَوَاهُ عَنْ عَمْرٍو، وَهُوَ ابْنُ دِينَارٍ، عَنْ عَطَاءٍ مَوْصُولًا بِذِكْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِتَصْرِيحِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو بِأَنَّ حَدِيثَهُ عَنْ عَطَاءٍ لَيْسَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ فَهَذَا يُعَدُّ مِنْ أَوْهَامِ الطَّائِفِيِّ، وَهُوَ مَوْصُوفٌ بِسُوءِ الْحِفْظِ، وَقَدْ وَصَلَ حَدِيثَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنْهُ هَكَذَا، وَذَكَرَ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ حَدَّثَ بِهِ عَنْ سُفْيَانَ مُدْرَجًا كَمَا قَالَ الْحُمَيْدِيُّ - عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ، وَأَبُو خَيْثَمَةَ، وَأَنَّ عَبْدَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحِيمِ، وَعَمَّارَ بْنَ الْحَسَنِ رُوِّيَاهُ عَنْ سُفْيَانَ فَاقْتَصَرَا عَلَى طَرِيقِ عَمْرٍو، وَذَكَرَا فِيهِ ابْنَ عَبَّاسٍ فَوَهِمَا فِي ذَلِكَ أَشَدَّ مِنْ وَهْمِ عَبْدِ الْأَعْلَى. وَأَنَّ ابْنَ أَبِي عُمَرَ رَوَاهُ فِي مَوْضِعَيْنِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ مُفَصَّلًا عَلَى الصَّوَابِ. قُلْتُ: وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ مُفَصَّلًا.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ هَكَذَا ذَكَرَهُ مُخْتَصَرًا مِنْ رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ وَهُوَ الْمِصْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَهُوَ الْأَعْرَجُ، وَنَسَبَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ، عَنْ أَبِيهِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى مَا هُنَاكَ ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ هُوَ الَّذِي وَقَعَ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ. وَقَدْ أَوْرَدَهُ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ فَزَادَ فِيهِ: عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ وَلَمْ أَرَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ عِنْدَ أَحَدٍ مِمَّنْ أَخْرَجَهَا، وَإِنَّمَا تثَبَتْ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، أَوْرَدَهُ فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ وَنَسَبَهُ الْمِزِّيُّ إِلَى الصَّلَاةِ بِغَيْرِ قَيْدِ الْجُمُعَةِ وَهُوَ مِمَّا يَتَعَقَّبُ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَعِنْدَهُ فِيهِ مَعَ بَدَلَ عِنْدَ وَثَبَتَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ: عِنْدَ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْمَتْنِ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.

(تَنْبِيهٌ):

وَقَعَ هُنَا فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ: تَابَعَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ وَهُوَ خَطَأٌ. وَالصَّوَابُ مَا وَقَعَ عِنْدَ غَيْرِهِ، ذَكَرَ هَذَا عَقِبَ حَدِيثِ أَنَسٍ الْمَذْكُورِ عَقِبَهُ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: حَدِيثُ أَنَسٍ فِي النَّهْيِ عَنِ الْوِصَالِ ذَكَرَ مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدٍ وَهُوَ الطَّوِيلُ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الصِّيَامِ وَقَوْلُهُ: تَابَعَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ إِلَخْ. وَصَلَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَوَقَعَ لَنَا بِعُلُوٍّ فِي مُسْنَدِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ وَوَقَعَ هَذَا التَّعْلِيقُ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ سَابِقًا عَلَى حَدِيثِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ فَصَارَ كَأَنَّهُ طَرِيقٌ أُخْرَى مُعَلَّقَةٌ لِحَدِيثِ: لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ وَهُوَ غَلَطٌ فَاحِشٌ، وَالصَّوَابُ ثُبُوتُهُ هُنَا كَمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبَاقِينَ.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْمَعْنَى وَفِيهِ: فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا وَاصَلَ بِهِمُ الْحَدِيثَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي الصِّيَامِ أَيْضًا.

ص: 229

وَقَوْلُهُ فِي السَّنَدِ وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ يَعْنِي ابْنَ مُسَافِرٍ الْفَهْمِيَّ أَمِيرَ مِصْرَ وَطَرِيقُهُ الْمَذْكُورَةُ وَصَلَهَا الدَّارَقُطْنِيُّ فِي بَعْضِ فَوَائِدِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ.

الْحَدِيثُ السَّادِسُ: حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي الْجَدْرِ بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَسُكُونِ الدَّالِ، وَالْمُرَادُ الْحِجْرُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ، وَسُكُونِ الْجِيمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي: كِتَابِ الْحَجِّ مُسْتَوْفًى. وَالْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا: وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمَكَ حَدِيثُ عَهْدٍ بِالْجَاهِلِيَّةِ وَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أَنْ أُدْخِلَ الْجَدْرَ فِي الْبَيْتِ كَذَا وَقَعَ مَحْذُوفُ الْجَوَابِ وَتَقْدِيرُهُ: لَفَعَلْتُ.

الْحَدِيثُ السَّابِعُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا أَوْ شِعْبًا وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ عِنْدَ شَرْحِ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْمَذْكُورِ هُنَا بَعْدَهُ، وَهُوَ الْحَدِيثُ الثَّامِنُ.

الْحَدِيثُ التَّاسِعُ: حَدِيثُ أَنَسٍ فِي بَعْضِ ذَلِكَ أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا مُعَلَّقًا قَائِلًا: تَابَعَهُ أَبُو التَّيَّاحِ، عَنْ أَنَسٍ فِي الشُّعَبِ ; يَعْنِي فِي قَوْلِهِ: لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا أَوْ شِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الْأَنْصَارِ أَوْ شِعْبَهُمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ أَيْضًا بَعْدَ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْمُشَارِ إِلَيْهِ مَعَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي مَنَاقِبِ الْأَنْصَارِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.

قَالَ السُّبْكِيُّ الْكَبِيرُ: مَقْصُودُ الْبُخَارِيِّ بِالتَّرْجَمَةِ وَأَحَادِيثِهَا أَنَّ النُّطْقَ بِلَوْ لَا يُكْرَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ فِي شَيْءٍ مَخْصُوصٍ يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: مِنَ اللَّوْ فَأَشَارَ إِلَى التَّبْعِيضِ وَوُرُودُهَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَلِذَا قَالَ الطَّحَاوِيُّ بَعْدَ ذِكْرِ حَدِيثِ: وَإِيَّاكَ وَاللَّوْ دَلَّ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ أَنْ يَقُولَ: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ} وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: وَرَجُلٌ يَقُولُ لَوْ أَنَّ اللَّهَ آتَانِي مِثْلَ مَا آتَى فُلَانًا لَعَمِلْتُ مِثْلَ مَا عَمِلَ عَلَى أَنَّ لَوْ لَيْسَتْ مَكْرُوهَةً فِي كُلِّ الْأَشْيَاءِ، وَدَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنِ الْمُنَافِقِينَ:{لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} وَرَدَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ} عَلَى مَا يُبَاحُ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: وَوَجَدْنَا الْعَرَبَ تَذُمُّ اللَّوْ وَتُحَذِّرُ مِنْهُ فَتَقُولُ احْذَرِ اللَّوْ وَإِيَّاكَ وَلَوْ، يُرِيدُونَ قَوْلَهُ: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ هَذَا خَيْرٌ لَعَمِلْتُهُ وَفِي حَدِيثِ سَلْمَانَ الْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ: أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ أَصَابَكَ لَوْ فَعَلْتُ كَذَا أَيْ لَكَانَ كَذَا.

قَالَ السُّبْكِيُّ: وَقَدْ تَأَمَّلْتُ اقْتِرَانَ قَوْلِهِ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ بِقَوْلِهِ: وَإِيَّاكَ وَاللَّوْ فَوَجَدْتُ الْإِشَارَةَ إِلَى مَحَلِّ لَوِ الْمَذْمُومَةِ، وَهِيَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا فِي الْحَالِ مَا دَامَ فِعْلُ الْخَيْرِ مُمْكِنًا فَلَا يُتْرَكُ لِأَجْلِ فَقْدِ شَيْءٍ آخَرَ، فَلَا تَقُولُ: لَوْ أَنَّ كَذَا كَانَ مَوْجُودًا لَفَعَلْتُ كَذَا مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى فِعْلِهِ وَلَوْ لَمْ يُوجَدْ ذَاكَ، بَلْ يَفْعَلُ الْخَيْرَ وَيَحْرِصُ عَلَى عَدَمِ فَوَاتِهِ، وَالثَّانِي: مَنْ فَاتَهُ أَمْرٌ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا فَلَا يَشْغَلْ نَفْسَهُ بِالتَّلَهُّفِ عَلَيْهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الِاعْتِرَاضِ عَلَى الْمَقَادِيرِ، وَتَعْجِيلِ تَحَسُّرٍ لَا يُغْنِي شَيْئًا، وَيَشْتَغِلُ بِهِ عَنِ اسْتِدْرَاكِ مَا لَعَلَّهُ يُجْدِي، فَالذَّمُّ رَاجِعٌ فِيمَا يَئُولُ فِي الْحَالِ إِلَى التَّفْرِيطِ، وَفِيمَا يَئُولُ فِي الْمَاضِي إِلَى الِاعْتِرَاضِ عَلَى الْقَدْرِ وَهُوَ أَقْبَحُ مِنَ الْأَوَّلِ، فَإِنِ انْضَمَّ إِلَيْهِ الْكَذِبُ فَهُوَ أَقْبَحُ، مِثْلَ قَوْلِ الْمُنَافِقِينَ:{لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} وَقَوْلِهِمْ: {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ} وَكَذَا قَوْلُهُمْ: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} ثُمَّ قَالَ: وَكُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ لَوِ الَّتِي مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ} ، {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} وَنَحْوِهِمَا فَهُوَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِهِ، وَأَمَّا الَّتِي لِلرَّبْطِ فَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهَا، وَلَا الْمَصْدَرِيَّةُ إِلَّا إِنْ كَانَ مُتَعَلَّقُهَا مَذْمُومًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا} ؛ لِأَنَّ الَّذِي وَدُّوهُ وَقَعَ خِلَافُهُ، انْتَهَى. مُلَخَّصًا.

ص: 230

بسم الله الرحمن الرحيم

‌95 - كِتَاب أَخْبَارِ الْآحَادِ

‌1 - بَاب مَا جَاءَ فِي إِجَازَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ الصَّدُوقِ فِي الْأَذَانِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْفَرَائِضِ وَالْأَحْكَامِ

وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} وَيُسَمَّى الرَّجُلُ طَائِفَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} فَلَوْ اقْتَتَلَ رَجُلَانِ دَخَلَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} وَكَيْفَ بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُمَرَاءَهُ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ فَإِنْ سَهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ رُدَّ إِلَى السُّنَّةِ.

7246 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ قَالَ: أَتَيْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَقيقًا فَلَمَّا ظَنَّ أَنَّا قَدْ اشْتَهَيْنَا أَهْلَنَا أَوْ قَدْ اشْتَقْنَا سَأَلَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَا بَعْدَنَا فَأَخْبَرْنَاهُ قَالَ: ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَأَقِيمُوا فِيهِمْ وَعَلِّمُوهُمْ وَمُرُوهُمْ وَذَكَرَ أَشْيَاءَ أَحْفَظُهَا ولَا أَحْفَظُهَا وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ.

7247 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ مِنْ سَحُورِهِ فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ أَوْ قَالَ يُنَادِي لِيَرْجِعَ قَائِمَكُمْ وَيُنَبِّهَ نَائِمَكُمْ وَلَيْسَ الْفَجْرُ أَنْ يَقُولَ هَكَذَا وَجَمَعَ يَحْيَى كَفَّيْهِ حَتَّى يَقُولَ هَكَذَا وَمَدَّ يَحْيَى إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَتَيْنِ

7248 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ بِلَالًا يُنَادِي بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ

7249 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ خَمْسًا فَقِيلَ أَزِيدَ فِي الصَّلَاةِ قَالَ وَمَا ذَاكَ قَالُوا صَلَّيْتَ خَمْسًا فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ مَا سَلَّمَ

7250 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

ص: 231

انْصَرَفَ مِنْ اثْنَتَيْنِ فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ نَسِيتَ فَقَالَ أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ النَّاسُ نَعَمْ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ كَبَّرَ ثُمَّ سَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ثُمَّ رَفَعَ ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ ثُمَّ رَفَعَ

7251 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ بَيْنَا النَّاسُ بِقُبَاءٍ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّأْمِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ

7252 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ صَلَّى نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} فَوُجِّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ وَصَلَّى مَعَهُ رَجُلٌ الْعَصْرَ ثُمَّ خَرَجَ فَمَرَّ عَلَى قَوْمٍ مِنْ الأَنْصَارِ فَقَالَ هُوَ يَشْهَدُ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّهُ قَدْ وُجِّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ فَانْحَرَفُوا وَهُمْ رُكُوعٌ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ

7253 -

حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ كُنْتُ أَسْقِي أَبَا طَلْحَةَ الأَنْصَارِيَّ وَأَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ شَرَابًا مِنْ فَضِيخٍ وَهُوَ تَمْرٌ فَجَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ يَا أَنَسُ قُمْ إِلَى هَذِهِ الْجِرَارِ فَاكْسِرْهَا قَالَ أَنَسٌ فَقُمْتُ إِلَى مِهْرَاسٍ لَنَا فَضَرَبْتُهَا بِأَسْفَلِهِ حَتَّى انْكَسَرَتْ

7254 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ صِلَةَ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَهْلِ نَجْرَانَ لَابْعَثَنَّ إِلَيْكُمْ رَجُلًا أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ فَاسْتَشْرَفَ لَهَا أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ

7255 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ خَالِدٍ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ وَأَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ

7256 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنهم قَالَ وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ إِذَا غَابَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَشَهِدْتُهُ أَتَيْتُهُ بِمَا يَكُونُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِذَا غِبْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَشَهِدَهُ أَتَانِي بِمَا يَكُونُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

ص: 232

7257 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ زُبَيْدٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ جَيْشًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا فَأَوْقَدَ نَارًا وَقَالَ ادْخُلُوهَا فَأَرَادُوا أَنْ يَدْخُلُوهَا وَقَالَ آخَرُونَ إِنَّمَا فَرَرْنَا مِنْهَا فَذَكَرُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِلَّذِينَ أَرَادُوا أَنْ يَدْخُلُوهَا لَوْ دَخَلُوهَا لَمْ يَزَالُوا فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَقَالَ لِلْآخَرِينَ لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةٍ إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ

7259، 7258 - حدثنا زهير بن حرب حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا أبي عن صالح عن بن شهاب أن عبيد الله بن عبد الله أخبره أن أبا هريرة وزيد بن خالد أخبراه "أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم"

7260 -

و حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ قَامَ رَجُلٌ مِنْ الأَعْرَابِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ لِي بِكِتَابِ اللَّهِ فَقَامَ خَصْمُهُ فَقَالَ صَدَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ لَهُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَأْذَنْ لِي فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قُلْ فَقَالَ إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا وَالْعَسِيفُ الأَجِيرُ فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةٍ مِنْ الْغَنَمِ وَوَلِيدَةٍ ثُمَّ سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى امْرَأَتِهِ الرَّجْمَ وَأَنَّمَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ فَقَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَاقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ أَمَّا الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ فَرُدُّوهَا وَأَمَّا ابْنُكَ فَعَلَيْهِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَأَمَّا أَنْتَ يَا أُنَيْسُ لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ فَاغْدُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا فَغَدَا عَلَيْهَا أُنَيْسٌ فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا جَاءَ فِي إِجَازَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ) هَكَذَا عِنْدَ الْجَمِيعِ بِلَفْظِ: بَابُ إِلَّا فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ فَوَقَعَ فِيهَا كِتَابُ أَخْبَارِ الْآحَادِ ثُمَّ قَالَ: بَابُ مَا جَاءَ إِلَى آخِرِهَا فَاقْتَضَى أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ كِتَابِ الْأَحْكَامِ وَهُوَ وَاضِحٌ وَبِهِ يَظْهَرُ أَنَّ الْأَوْلَى فِي التَّمَنِّي أَنْ يُقَالَ: بَابُ لَا كِتَابُ أَوْ يُؤَخَّرُ عَنْ هَذَا الْبَابِ، وَقَدْ سَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ لِأَبِي ذَرٍّ، وَالْقَابِسِيِّ، وَالْجُرْجَانِيِّ، وَثَبَتَتْ هُنَا قَبْلَ الْبَابِ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ، وَالْأَصِيلِيِّ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ أَبْوَابِ الِاعْتِصَامِ فَإِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مُتَعَلَّقَاتِهِ فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ بَيَّضَ الْكِتَابَ قَدَّمَهُ عَلَيْهِ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ قَبْلَ الْبَسْمَلَةِ: كِتَابُ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَيْسَ بِعُمْدَةٍ وَالْمُرَادُ: بِالْإِجَازَةِ جَوَازُ الْعَمَلِ بِهِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ حُجَّةٌ وَبِالْوَاحِدِ هُنَا حَقِيقَةُ الْوَحْدَةِ، وَأَمَّا فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ فَالْمُرَادُ بِهِ مَا لَمْ يَتَوَاتَرْ، وَقَصْدُ التَّرْجَمَةِ الرَّدُّ بِهِ عَلَى مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْخَبَرَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ إِلَّا إِذَا رَوَاهُ أَكْثَرُ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ حَتَّى يَصِيرَ كَالشَّهَادَةِ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ الرَّدُّ عَلَى مَنْ شَرَطَ أَرْبَعَةً أَوْ أَكْثَرَ. فَقَدْ نَقَلَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّ بَعْضَهُمُ اشْتَرَطَ فِي قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ أَنْ يَرْوِيَهُ ثَلَاثَةٌ عَنْ ثَلَاثَةٍ إِلَى مُنْتَهَاهُ، وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ أَرْبَعَةٌ عَنْ أَرْبَعَةٍ، وَبَعْضُهُمْ خَمْسَةٌ عَنْ خَمْسَةٍ، وَبَعْضُهُمْ سَبْعَةٌ، عَنْ سَبْعَةٍ انْتَهَى.

وَكَأَنَّ كُلَّ قَائِلٍ مِنْهُمْ يَرَى أَنَّ الْعَدَدَ الْمَذْكُورَ يُفِيدُ التَّوَاتُرَ، أَوْ يَرَى تَقْسِيمَ الْخَبَرِ إِلَى مُتَوَاتِرٍ وَآحَادٍ، وَمُتَوَسِّطٍ بَيْنَهُمْ، وَفَاتَ الْأُسْتَاذَ ذِكْرُ مَنِ اشْتَرَطَ اثْنَيْنِ، عَنِ اثْنَيْنِ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَنَقَلَهُ الْمَازِرِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ،

ص: 233

وَنُسِبَ إِلَى الْحَاكِمِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ ادَّعَى أَنَّهُ شَرْطُ الشَّيْخَيْنِ، وَلَكِنَّهُ غَلَطٌ عَلَى الْحَاكِمِ كَمَا أَوْضَحْتُهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى عُلُومِ الْحَدِيثِ، وَقَوْلُهُ: الصَّدُوقُ قَيْدٌ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَإِلَّا فَمُقَابِلُهُ، وَهُوَ الْكَذُوبُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ اتِّفَاقًا، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُعْرَفْ حَالُهُ فَثَالِثُهَا يَجُوزُ إِنِ اعْتَضَدَ وَقَوْلُهُ: وَالْفَرَائِضِ بَعْدَ قَوْلِهِ: فِي الْأَذَانِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، وَأَفْرَدَ الثَّلَاثَةَ بِالذِّكْرِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَا، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لِيُعْلَمَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْعَمَلِيَّاتِ لَا فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ وَالْمُرَادُ بِقَبُولِ خَبَرِهِ فِي الْأَذَانِ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ مُؤْتَمَنًا فَأَذَّنَ تَضَمَّنَ دُخُولَ الْوَقْتِ فَجَازَتْ صَلَاةُ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَفِي الصَّلَاةِ الْإِعْلَامُ بِجِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَفِي الصَّوْمِ الْإِعْلَامُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ أَوْ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَقَوْلُهُ: وَالْأَحْكَامِ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَالْفَرَائِضِ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى عَامٍّ أَخَصُّ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْفَرَائِضَ فَرْدٌ مِنَ الْأَحْكَامِ.

قَوْلُهُ: وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} الْآيَةَ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ سِيَاقُ الْآيَةِ إِلَى قَوْلِهِ: يَحْذَرُونَ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي رِوَايَةٍ غَيْرِهَا الْآيَةَ، وَهَذَا مَصِيرٌ مِنْهُ إِلَى أَنَّ لَفْظَ: طَائِفَةٍ يَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَ فَمَا فَوْقَهُ وَلَا يَخْتَصُّ بِعَدَدٍ مُعَيَّنٍ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ كَالنَّخَعِيِّ، وَمُجَاهِدٍ نَقَلَهُ الثَّعْلَبِيُّ وَغَيْرُهُ، وَعَنْ عَطَاءٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَابْنِ زَيْدٍ أَرْبَعَةٌ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا مِنْ أَرْبَعَةٍ إِلَى أَرْبَعِينَ، وَعَنِ الزُّهْرِيِّ ثَلَاثَةٌ، وَعَنِ الْحَسَنِ عَشَرَةٌ، وَعَنْ مَالِكٍ أَقَلُّ الطَّائِفَةِ أَرْبَعَةٌ كَذَا أَطْلَقَ ابْنُ التِّينِ، وَمَالِكٌ إِنَّمَا قَالَهُ فِيمَنْ يَحْضُرُ رَجْمَ الزَّانِي، وَعَنْ رَبِيعَةَ خَمْسَةٌ وَقَالَ الرَّاغِبُ: لَفْظُ طَائِفَةٍ يُرَادُ بِهَا الْجَمْعُ وَالْوَاحِدُ طَائِفٌ، وَيُرَادُ بِهَا الْوَاحِدُ فَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ كَرَاوِيَةٍ وَعَلَامَةٍ، وَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْجَمْعُ، وَأُطْلِقَ عَلَى الْوَاحِدِ، وَقَالَ عَطَاءٌ: الطَّائِفَةُ اثْنَانِ فَصَاعِدًا، وَقَوَّاهُ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ بِأَنَّ لَفْظَ طَائِفَةٍ يُشْعِرُ بِالْجَمَاعَةِ، وَأَقَلُّهَا اثْنَانِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الطَّائِفَةَ فِي اللُّغَةِ الْقِطْعَةُ مِنَ الشَّيْءِ فَلَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ الْعَدَدُ، وَقَرَّرَ بَعْضُهُمْ الِاسْتِدْلَالَ بِالْآيَةِ الْأُولَى عَلَى وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ لَمَّا قَالَ:{فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ} وَكَانَ أَقَلُّ الْفِرْقَةِ ثَلَاثَةً. وَقَدْ عَلَّقَ النَّفَرَ بِطَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَأَقَلُّ مَنْ يَنْفِرُ وَاحِدٌ، وَيَبْقَى اثْنَانِ وَبِالْعَكْسِ.

قَوْلُهُ: (وَيُسَمَّى الرَّجُلُ طَائِفَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} فَلَوِ اقْتَتَلَ رَجُلَانِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: الرَّجُلَانِ. (دَخَلَا فِي مَعْنَى الْآيَةِ) وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ سَبَقَهُ إِلَى الْحُجَّةِ بِهِ الشَّافِعِيُّ، وَقَبْلَهُ مُجَاهِدٌ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ قَوْلَهُ:{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} لِكَوْنِ سِيَاقِهِ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّا لَمْ نَقُلْ إِنَّ الطَّائِفَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا وَاحِدًا.

قَوْلُهُ: وَقَوْلُهُ {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} وَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهَا يُؤْخَذُ مِنْ مَفْهُومَيِ الشَّرْطِ، وَالصِّفَةِ فَإِنَّهُمَا يَقْتَضِيَانِ قَبُولَ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَهَذَا الدَّلِيلُ يُورَدُ لِلتَّقَوِّي لَا لِلِاسْتِقْلَالِ؛ لِأَنَّ الْمُخَالِفَ قَدْ لَا يَقُولُ بِالْمَفَاهِيمِ وَاحْتَجَّ الْأَئِمَّةُ أَيْضًا بِآيَاتٍ أُخْرَى وَبِالْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَابِ، وَاحْتَجَّ مَنْ مَنَعَ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَجْمُوعَهَا يُفِيدُ الْقَطْعَ كَالتَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ، وَقَدْ شَاعَ فَاشِيًا عَمَلُ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَاقْتَضَى الِاتِّفَاقُ مِنْهُمْ عَلَى الْقَبُولِ، وَلَا يُقَالُ لَعَلَّهُمْ عَمِلُوا بِغَيْرِهَا أَوْ عَمِلُوا بِهَا لَكِنَّهَا أَخْبَارٌ مَخْصُوصَةٌ بِشَيْءٍ مَخْصُوصٍ؛ لِأَنَّا نَقُولُ الْعِلْمُ حَاصِلٌ مِنْ سِيَاقِهَا بِأَنَّهُمْ إِنَّمَا عَمِلُوا بِهَا لِظُهُورِهَا لَا لِخُصُوصِهَا.

قَوْلُهُ: وَكَيْفَ بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُمَرَاءَهُ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ فَإِنْ سَهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ رُدَّ إِلَى السُّنَّةِ سَيَأْتِي فِي أَوَاخِرِ الْكَلَامِ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ: بَابُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَبْعَثُ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالرُّسُلِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ فَزَادَ فِيهِ: بُعِثَ الرُّسُلُ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ تَعَدُّدُ الْجِهَاتِ الْمَبْعُوثِ إِلَيْهَا بِتَعَدُّدِ الْمَبْعُوثِينَ، وَحَمَلَهُ الْكِرْمَانِيُّ عَلَى ظَاهِرِهِ فَقَالَ: فَائِدَةُ بَعْثِ الْآخِرِ بَعْدَ الْأَوَّلِ لِيَرُدَّهُ إِلَى الْحَقِّ عِنْدَ سَهْوِهِ، وَلَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ خَبَرُ وَاحِدٍ وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ قَوِيٌّ لِثُبُوتِ خَبَرِ الْوَاحِدِ مِنْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَوْ لَمْ يَكْفِ قَبُولُهُ مَا كَانَ فِي إِرْسَالِهِ مَعْنًى، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَيْهِ

ص: 234

الشَّافِعِيُّ أَيْضًا كَمَا سَأَذْكُرُهُ وَأَيَّدَهُ بِحَدِيثِ: لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَبِحَدِيثِ نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنِّي حَدِيثًا فَأَدَّاهُ وَهُوَ فِي السُّنَنِ، وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْمُخَالِفِينَ بِأَنَّ إِرْسَالَهُمْ إِنَّمَا كَانَ لِقَبْضِ الزَّكَاةِ وَالْفُتْيَا وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهِيَ مُكَابَرَةٌ، فَإِنَّ الْعِلْمَ حَاصِلٌ بِإِرْسَالِ الْأُمَرَاءِ لِأَعَمَّ مِنْ قَبْضِ الزَّكَاةِ وَإِبْلَاغِ الْأَحْكَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَوْ لَمْ يَشْتَهِرْ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا تَأْمِيرُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأَمْرُهُ لَهُ وَقَوْلُهُ لَهُ: إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ إِلَخْ وَالْأَخْبَارُ طَافِحَةٌ بِأَنَّ أَهْلَ كُلِّ بَلَدٍ مِنْهُمْ كَانُوا يَتَحَاكَمُونَ إِلَى الَّذِي أُمِّرَ عَلَيْهِمْ وَيَقْبَلُونَ خَبَرَهُ وَيَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى

قَرِينَةٍ، وَفِي أَحَادِيثِ هَذَا الْبَابِ كَثِيرٌ مِنْ ذَلِكَ وَاحْتَجَّ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} مَعَ أَنَّهُ كَانَ رَسُولًا إِلَى النَّاسِ كَافَّةً وَيَجِبُ عَلَيْهِ تَبْلِيغُهُمْ، فَلَوْ كَانَ خَبَرُ الْوَاحِدِ غَيْرَ مَقْبُولٍ لَتَعَذَّرَ إِبْلَاغُ الشَّرِيعَةِ إِلَى الْكُلِّ ضَرُورَةً لِتَعَذُّرِ خِطَابِ جَمِيعِ النَّاسِ شِفَاهًا، وَكَذَا تَعَذُّرُ إِرْسَالِ عَدَدِ التَّوَاتُرِ إِلَيْهِمْ وَهُوَ مَسْلَكٌ جَيِّدٌ يَنْضَمُّ إِلَى مَا احْتَجَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ ثُمَّ الْبُخَارِيُّ، وَاحْتَجَّ مَنْ رَدَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ بِتَوَقُّفِهِ صلى الله عليه وسلم فِي قَبُولِ خَبَرِ ذِي الْيَدَيْنِ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ عَارَضَ عِلْمَهُ وَكُلُّ خَبَرٍ وَاحِدٍ إِذَا عَارَضَ الْعِلْمَ لَمْ يُقْبَلْ وَبِتَوَقُّفِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ فِي حَدِيثَيِ الْمُغِيرَةِ: فِي الْجَدَّةِ وَفِي مِيرَاثِ الْجَنِينِ حَتَّى شَهِدَ بِهِمَا مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَبِتَوَقُّفِ عُمَرَ فِي خَبَرِ أَبِي مُوسَى فِي الِاسْتِئْذَانِ حَتَّى شَهِدَ أَبُو سَعِيدٍ، وَبِتَوَقُّفِ عَائِشَةَ فِي خَبَرِ ابْنِ عُمَرَ فِي تَعْذِيبِ الْمَيِّتِ بِبُكَاءِ الْحَيِّ وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا وَقَعَ مِنْهُمْ إِمَّا عِنْدَ الِارْتِيَابِ كَمَا فِي قِصَّةِ أَبِي مُوسَى فَإِنَّهُ أَوْرَدَ الْخَبَرَ عِنْدَ إِنْكَارِ عُمَرَ عَلَيْهِ رُجُوعَهُ بَعْدَ الثَّلَاثِ وَتَوَعُّدِهُ فَأَرَادَ عُمَرُ الِاسْتِثْبَاتَ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ دَفَعَ بِذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ، وَقَدْ أَوْضَحْتُ ذَلِكَ بِدَلَائِلِهِ فِي كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ وَأَمَّا عِنْدَ مُعَارَضَةِ الدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ كَمَا فِي إِنْكَارِ عَائِشَةَ حَيْثُ اسْتَدَلَّتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وَهَذَا كُلُّهُ إِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهِ مَنْ يَقُولُ: لَا بُدَّ مِنَ اثْنَيْنِ، عَنِ اثْنَيْنِ وَإِلَّا

فَمَنْ يَشْتَرِطُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَجَمِيعُ مَا ذُكِرَ قَبْلَ عَائِشَةَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمْ قَبِلُوا الْخَبَرَ مِنَ اثْنَيْنِ فَقَطْ، وَلَا يَصِلُ ذَلِكَ إِلَى التَّوَاتُرِ وَالْأَصْلُ عَدَمُ وُجُودِ الْقَرِينَةِ إِذْ لَوْ كَانَتْ مَوْجُودَةً مَا احْتِيجَ إِلَى الثَّانِي، وَقَدْ قَبِلَ أَبُو بَكْرٍ خَبَرَ عَائِشَةَ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَاتَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَقَبِلَ عُمَرُ خَبَرَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فِي أَنَّ دِيَةَ الْأَصَابِعِ سَوَاءٌ وَقَبِلَ خَبَرَ الضَّحَّاكِ بْنَ سُفْيَانَ فِي تَوْرِيثِ الْمَرْأَةِ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا وَقَبِلَ خَبَرَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي أَمْرِ الطَّاعُونِ، وَفِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنَ الْمَجُوسِ وَقَبِلَ خَبَرَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَقَبِلَ عُثْمَانُ خَبَرَ الْفُرَيْعَةِ بِنْتِ سِنَانٍ أُخْتِ أَبِي سَعِيدٍ فِي إِقَامَةِ الْمُعْتَدَّةِ عَنِ الْوَفَاةِ فِي بَيْتِهَا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

وَمِنْ حَيْثُ النَّظَرُ أَنَّ الرَّسُولَ عليه الصلاة والسلام: بُعِثَ لِتَبْلِيغِ الْأَحْكَامِ، وَصِدْقُ خَبَرِ الْوَاحِدِ مُمْكِنٌ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ احْتِيَاطًا، وَأَنَّ إِصَابَةَ الظَّنِّ بِخَبَرِ الصَّدُوقِ غَالِبَةٌ، وَوُقُوعُ الْخَطَأِ فِيهِ نَادِرٌ فَلَا تُتْرَكُ الْمَصْلَحَةُ الْغَالِبَةُ خَشْيَةَ الْمَفْسَدَةِ النَّادِرَةِ، وَأَنَّ مَبْنَى الْأَحْكَامِ عَلَى الْعَمَلِ بِالشَّهَادَةِ، وَهِيَ لَا تُفِيدُ الْقَطْعَ بِمُجَرَّدِهَا وَقَدْ رَدَّ بَعْضُ مَنْ قَبِلَ خَبَرَ الْوَاحِدِ مَا كَانَ مِنْهُ زَائِدًا عَلَى الْقُرْآنِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُمْ قَبِلُوهُ فِي وُجُوبِ غَسْلِ الْمَرْفِقِ فِي الْوُضُوءِ وَهُوَ زَائِدٌ وَحُصُولُ عُمُومِهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ كَنِصَابِ السَّرِقَةِ وَرَدَّهُ بَعْضُهُمْ بِمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَفَسَّرُوا ذَلِكَ بِمَا يَتَكَرَّرُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُمْ عَمِلُوا بِهِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ: كَإِيجَابِ الْوُضُوءِ بِالْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ وَبِالْقَيْءِ وَالرُّعَافِ وَكُلُّ هَذَا مَبْسُوطٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ اكْتَفَيْتُ هُنَا بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ. وَجُمْلَةُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفِ هُنَا اثْنَانِ وَعِشْرُونَ حَدِيثًا.

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: حَدِيثُ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ بِمُهْمَلَةٍ وَمُثَلَّثَةٍ مُصَغَّرٌ ابْنُ حَشِيشٍ بِمُهْمَلَةٍ وَمُعْجَمَتَيْنِ وَزْنُ عَظِيمٍ، وَيُقَالُ ابْنُ أَشْيَمَ بِمُعْجَمَةٍ وَزْنُ أَحْمَرَ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثِ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ حِجَازِيٍّ سَكَنَ الْبَصْرَةَ وَمَاتَ بِهَا

ص: 235

سَنَةَ أَرْبَعَةٍ وَسَبْعِينَ بِتَقْدِيمِ السِّينِ عَلَى الصَّوَابِ.

قَوْلُهُ: عَبْدُ الْوَهَّابِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ وَأَيُّوبُ هُوَ السَّخْتِيَانِيُّ، وَالسَّنَدُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (أَتَيْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَيْ وَافِدِينَ عَلَيْهِ سَنَةَ الْوُفُودِ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وِفَادَةَ بَنِي لَيْثٍ رَهْطِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ الْمَذْكُورِ كَانَتْ قَبْلَ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَكَانَتْ تَبُوكُ فِي شَهْرِ رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ

قَوْلُهُ: (وَنَحْنُ شَبَبَةٌ) بِمُعْجَمَةٍ وَمُوَحَّدَتَيْنِ وَفَتَحَاتٍ جَمْعُ شَابٍّ وَهُوَ مَنْ كَانَ دُونَ الْكُهُولَةِ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ أَوَّلِ الْكُهُولَةِ، فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ وَفِي رِوَايَةِ وُهَيْبٍ فِي الصَّلَاةِ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِي وَالنَّفَرُ عَدَدٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَهُوَ مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَى عَشَرَةٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ فِي الصَّلَاةِ أَنَا وَصَاحِبٌ لِي وَجَمَعَ الْقُرْطُبِيُّ بِاحْتِمَالِ تَعَدُّدِ الْوِفَادَةِ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ مَخْرَجَ الْحَدِيثَيْنِ وَاحِدٌ وَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّعَدُّدِ، وَالْأَوْلَى فِي الْجَمْعِ أَنَّهُمْ حِينَ أَذِنَ لَهُمْ فِي السَّفَرِ كَانُوا جَمِيعًا، فَلَعَلَّ مَالِكًا وَرَفِيقَهُ عَادَ إِلَى تَوْدِيعِهِ فَأَعَادَ عَلَيْهِمَا بَعْضَ مَا أَوْصَاهُمْ بِهِ تَأْكِيدًا، وَأَفَادَ ذَلِكَ زِيَادَةُ بَيَانِ أَقَلِّ مَا تَنْعَقِدُ بِهِ الْجَمَاعَةُ.

قَوْلُهُ: مُتَقَارِبُونَ أَيْ فِي السِّنِّ بَلْ فِي أَعَمَّ مِنْهُ، فَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ مَسْلَمَةَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ وَكُنَّا يَوْمَئِذٍ مُتَقَارِبِينَ فِي الْعِلْمِ وَلِمُسْلِمٍ: كُنَّا مُتَقَارِبِينَ فِي الْقِرَاءَةِ وَمِنْ هَذِهِ الزِّيَادَةِ يُؤْخَذُ الْجَوَابُ عَنْ كَوْنِهِ قَدَّمَ الْأَسَنَّ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْأَقْرَأِ بَلْ فِي حَالِ الِاسْتِوَاءِ فِي الْقِرَاءَةِ وَلَمْ يَسْتَحْضِرِ الْكِرْمَانِيُّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فَقَالَ يُؤْخَذُ اسْتِوَاؤُهُمْ فِي الْقِرَاءَةِ مِنَ الْقِصَّةِ لِأَنَّهُمْ أَسْلَمُوا وَهَاجَرُوا مَعًا وَصَحِبُوا وَلَازَمُوا عِشْرِينَ لَيْلَةً فَاسْتَوَوْا فِي الْأَخْذِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ الِاسْتِوَاءَ فِي الْعِلْمِ لِلتَّفَاوُتِ فِي الْفَهْمِ إِذْ لَا تَنْصِيصَ عَلَى الِاسْتِوَاءِ.

قَوْلُهُ: رَقِيقًا بِقَافَيْنِ، وَبِفَاءٍ ثُمَّ قَافٍ، ثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَ رُوَاةِ الْبُخَارِيِّ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَعِنْدَ رُوَاةِ مُسْلِمٍ بِقَافَيْنِ فَقَطْ وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ هُنَا.

قَوْلُهُ: (اشْتَهَيْنَا أَهْلَنَا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَهْلِينَا بِكَسْرِ اللَّامِ وَزِيَادَةِ يَاءٍ، وَهُوَ جَمْعُ أَهْلٍ، وَيُجْمَعُ مُكَسَّرًا عَلَى أَهَالٍ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مُخَفَّفًا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ فِي الصَّلَاةِ اشْتَقْنَا إِلَى أَهْلِنَا بَدَلَ اشْتَهَيْنَا أَهْلَنَا وَفِي رِوَايَةِ وُهَيْبٍ: فَلَمَّا رَأَى شَوْقَنَا إِلَى أَهْلِنَا وَالْمُرَادُ بِأَهْلِ كُلٍّ مِنْهُمْ زَوْجَتُهُ أَوْ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: سَأَلَنَا بِفَتْحِ اللَّامِ أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَأَلَ الْمَذْكُورِينَ.

قَوْلُهُ: (ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ) إِنَّمَا أَذِنَ لَهُمْ فِي الرُّجُوعِ لِأَنَّ الْهِجْرَةَ كَانَتْ قَدِ انْقَطَعَتْ بِفَتْحِ مَكَّةَ فَكَانَتِ الْإِقَامَةُ بِالْمَدِينَةِ بِاخْتِيَارِ الْوَافِدِ فَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْكُنُهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْجِعُ بَعْدَ أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (وَعَلِّمُوهُمْ وَمُرُوهُمْ) بِصِيغَةِ الْأَمْرِ ضِدِّ النَّهْي، وَالْمُرَادُ بِهِ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِفِعْلٍ خِلَافَ مَا نُهِيَ عَنْهُ اتِّفَاقًا، وَعَطَفَ الْأَمْرَ عَلَى التَّعْلِيمِ لِكَوْنِهِ أَخَصَّ مِنْهُ أَوْ هُوَ اسْتِئْنَافٌ كَأَنَّ سَائِلًا قَالَ: مَاذَا نُعَلِّمُهُمْ؟ فَقَالَ: مُرُوهُمْ بِالطَّاعَاتِ وَكَذَا وَكَذَا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَبْوَابِ الْإِمَامَةِ مُرُوهُمْ فَلْيُصَلُّوا صَلَاةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا وَصَلَاةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا فَعُرِفَ بِذَلِكَ الْمَأْمُورُ الْمُبْهَمُ فِي رِوَايَةِ الْبَابِ، وَلَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ بَيَانَ الْأَوْقَاتِ فِي حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ فَكَأَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ لِشُهْرَتِهَا عِنْدَهُمْ.

قَوْلُهُ: (وَذَكَرَ أَشْيَاءَ أَحْفَظُهَا وَلَا أَحْفَظُهَا) قَائِلُ هَذَا هُوَ أَبُو قِلَابَةَ رَاوِي الْخَبَرَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: أَوْ لَا أَحْفَظُهَا وَهُوَ لِلتَّنْوِيعِ لَا لِلشَّكِّ.

قَوْلُهُ: وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي) أَيْ وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَحْفَظُهَا أَبُو قِلَابَةَ، عَنْ مَالِكٍ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم هَذَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ وُهَيْبٍ وَصَلُّوا فَقَطْ وَنُسِبَتْ إِلَى الِاخْتِصَارِ وَتَمَامُ الْكَلَامِ هُوَ الَّذِي وَقَعَ هُنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا تَامًّا فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ اسْتَدَلَّ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ عَلَى الْوُجُوبِ بِالْفِعْلِ مَعَ هَذَا الْقَوْلِ، وَهُوَ صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي قَالَ وَهَذَا إِذَا أُخِذَ مُفْرَدًا عَنْ ذِكْرِ سَبَبِهِ وَسِيَاقِهِ أَشْعَرَ بِأَنَّهُ خِطَابٌ لِلْأُمَّةِ بِأَنْ يُصَلُّوا كَمَا كَانَ

ص: 236

يُصَلِّي، فَيَقْوَى الِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى كُلِّ فِعْلٍ ثَبَتَ أَنَّهُ فَعَلَهُ فِي الصَّلَاةِ، لَكِنَّ هَذَا الْخِطَابَ إِنَّمَا وَقَعَ لِمَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ وَأَصْحَابِهِ بِأَنْ يُوقِعُوا الصَّلَاةَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي رَأَوْهُ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّيهِ، نَعَمْ يُشَارِكُهُمْ فِي الْحُكْمِ جَمِيعُ الْأُمَّةِ بِشَرْطِ أَنْ يَثْبُتَ اسْتِمْرَارُهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى فِعْلِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الْمُسْتَدَلِّ بِهِ دَائِمًا حَتَّى يَدْخُلَ تَحْتَ الْأَمْرِ وَيَكُونَ وَاجِبًا، وَبَعْضُ ذَلِكَ مَقْطُوعٌ بِاسْتِمْرَارِهِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا مَا لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى وُجُودِهِ فِي تِلْكَ الصَّلَوَاتِ الَّتِي تَعَلَّقَ الْأَمْرُ بِإِيقَاعِ الصَّلَاةِ عَلَى صِفَتِهَا، فَلَا نَحْكُمُ بِتَنَاوُلِ الْأَمْرِ لَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ أَيْ دَخَلَ وَقْتُهَا.

قَوْلُهُ: فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ هُوَ مَوْضِعُ التَّرْجَمَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ سَائِرُ شَرْحِهِ فِي أَبْوَابِ الْأَذَانِ وَفِي أَبْوَابِ الْإِمَامَةِ بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى.

الْحَدِيثُ الثَّانِي، قَوْلُهُ:(عَنْ يَحْيَى) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ وَالتَّيْمِيُّ هُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ طَرْخَانَ، وَأَبُو عُثْمَانَ هُوَ النَّهْدِيُّ وَالسَّنَدُ كُلُّهُ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ بَصْرِيُّونَ، وَقَوْلُهُ: وَلَيْسَ الْفَجْرُ أَنْ يَقُولَ هَكَذَا وَجَمَعَ يَحْيَى كَفَّيْهِ. يَحْيَى هُوَ الْقَطَّانُ رَاوِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْأَذَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ مِنْ أَبْوَابِ الْأَذَانِ مِنْ طَرِيقِ زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَلَى سُلَيْمَانَ، وَفِيهِ: وَلَيْسَ الْفَجْرُ أَنْ تَقُولَ هَكَذَا وَقَالَ: بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى فَوْقٍ وَبَيَّنْتُ هُنَاكَ أَنَّ أَصْلَ الرِّوَايَةِ بِالْإِشَارَةِ الْمَقْرُونَةِ بِالْقَوْلِ، وَأَنَّ الرُّوَاةَ عَنْ سُلَيْمَانَ تَصَرَّفُوا فِي حِكَايَةِ الْإِشَارَةِ، وَاسْتَوْفَيْتُ هُنَاكَ الْكَلَامَ عَلَى شَرْحِهِ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ فِيهِ: مِنْ سُحُورِهِ وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ سُجُودِهِ بِجِيمٍ وَدَالٍ وَهُوَ تَحْرِيفٌ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي نِدَاءِ بِلَالٍ بِلَيْلٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ أَيْضًا.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي صَلَاتِهِ صلى الله عليه وسلم بِهِمْ خَمْسًا وَالْحَكَمُ فِي السَّنَدِ هُوَ ابْنُ عُتَيْبَةَ بِمُثَنَّاةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ مُصَغَّرٌ، وَإِبْرَاهِيمُ هُوَ النَّخَعِيُّ، وَعَلْقَمَةُ هُوَ ابْنُ قَيْسٍ، وَقَوْلُهُ: فَقِيلَ لَهُ أَزِيدَ فِي الصَّلَاةِ تَقَدَّمَ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ جَمَاعَتُهُمْ، وَأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ سَلَّمَ تَسَارَرُوا فَقَالَ مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ زِيدَ فِي الصَّلَاةِ؟ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِ الْمُخَاطِبِ لَهُ بِذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ سَائِرُ مَبَاحِثِهِ هُنَاكَ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ التِّينِ: بَوَّبَ لِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَهَذَا الْخَبَرُ لَيْسَ بِظَاهِرٍ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ لِأَنَّ الْمُخْبِرِينَ لَهُ بِذَلِكَ جَمَاعَةٌ انْتَهَى. وَسَيَأْتِي جَوَابُهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ فِي سُجُودِ السَّهْوِ، وَمُحَمَّدٌ فِي السَّنَدِ هُوَ ابْنُ سِيرِينَ وَفِيهِ: فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ أَقَصُرَتِ الصَّلَاةُ وَفِيهِ: فَقَالَ أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ النَّاسُ نَعَمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَبْوَابِ سُجُودِ السَّهْوِ أَيْضًا. وَوَجْهُ إِيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ وَالَّذِي قَبْلَهُ فِي إِجَازَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا لَمْ يَقْنَعْ فِي الْإِخْبَارِ بِسَهْوِهِ بِخَبَرِ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ عَارَضَ فِعْلَ نَفْسِهِ. فَلِذَلِكَ اسْتَفْهَمَ فِي قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ الْجَمُّ الْغَفِيرُ بِصِدْقِهِ رَجَعَ إِلَيْهِمْ، وَفِي الْقِصَّةِ الَّتِي قَبْلَهَا أَخْبَرُوهُ كُلُّهُمْ وَهَذَا عَلَى طَرِيقَةِ مَنْ يَرَى رُجُوعَ الْإِمَامِ فِي السَّهْوِ إِلَى أَخْبَارِ مَنْ يُفِيدُ خَبَرُهُ الْعِلْمَ عِنْدَهُ وَهُوَ رَأْيُ الْبُخَارِيِّ، وَلِذَلِكَ أَوْرَدَ الْخَبَرَيْنِ هُنَا بِخِلَافِ مَنْ يَحْمِلُ الْأَمْرَ عَلَى أَنَّهُ تَذَكَّرَ فَلَا يَتَّجِهُ إِيرَادُهُ فِي هَذَا الْمَحَلِّ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهِ خَبَرَ الْوَاحِدِ وَإِنْ كَانَ قَدْ صَارَ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِسَبَبِ مَا حَفَّهُ مِنَ الْقَرَائِنِ، وَقَالَ غَيْرُهُ إِنَّمَا اسْتَثْبَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي خَبَرِ ذِي الْيَدَيْنِ لِأَنَّهُ انْفَرَدَ دُونَ مَنْ صَلَّى مَعَهُ بِمَا ذُكِرَ مَعَ كَثْرَتِهِمْ، فَاسْتَبْعَدَ حِفْظَهُ دُونَهُمْ وَجَوَّزَ عَلَيْهِ الْخَطَأَ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ رَدُّ خَبَرِ الْوَاحِدِ مُطْلَقًا.

الْحَدِيثُ السَّادِسُ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَبْوَابِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ وَالْحُجَّةُ مِنْهُ بِالْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ظَاهِرَةٌ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ كَانُوا يُصَلُّونَ إِلَى جِهَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ تَحَوَّلُوا عَنْهُ بِخَبَرِ الَّذِي قَالَ لَهُمْ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فَصَدَّقُوا خَبَرَهُ وَعَمِلُوا بِهِ فِي تَحَوُّلِهِمْ عَنْ جِهَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَهِيَ شَامِيَّةٌ إِلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ، وَهِيَ يَمَانِيَّةٌ عَلَى الْعَكْسِ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا، وَاعْتَرَضَ

ص: 237

بَعْضُهُمْ بِأَنَّ خَبَرَ الْمَذْكُورِ أَفَادَهُمُ الْعِلْمَ بِصِدْقِهِ لِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ قَرِينَةِ ارْتِقَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وُقُوعَ ذَلِكَ لِتَكَرُّرِ دُعَائِهِ بِهِ وَالْبَحْثُ إِنَّمَا هُوَ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ إِذَا تَجَرَّدَ عَنِ الْقَرِينَةِ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إِذَا سُلِّمَ أَنَّهُمُ اعْتَمَدُوا عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ كَفَى فِي صِحَّةِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْقَرِينَةِ، وَأَيْضًا فَلَيْسَ الْعَمَلُ بِالْخَبَرِ الْمَحْفُوفِ بِالْقَرِينَةِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ فَيَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَى مَنِ اشْتَرَطَ الْعَدَدَ وَأَطْلَقَ، وَكَذَا مَنِ اشْتَرَطَ الْقَطْعَ، وَقَالَ: إِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ مَا لَمْ يَتَوَاتَرْ.

الْحَدِيثُ السَّابِعُ: حَدِيثُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فِي تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ أَيْضًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ وَفِي أَبْوَابِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ أَيْضًا وَبَيَّنْتُ هُنَاكَ أَنَّ الرَّاجِحَ أَنَّ الَّذِي أَخْبَرَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بِالتَّحْوِيلِ لَمْ يُعْرَفِ اسْمُهُ، وَيَحْيَى شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ هُوَ ابْنُ مُوسَى الْبَلْخِيُّ، وَإِسْرَائِيلُ هُوَ ابْنُ يُونُسَ، وَأَبُو إِسْحَاقَ هُوَ السَّبِيعِيُّ وَهُوَ جَدُّ إِسْرَائِيلَ الْمَذْكُورِ.

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ: حَدِيثُ أَنَسٍ: كُنْتُ أَسْقِي أَبَا طَلْحَةَ، وَأَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَجَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ وَأَنَّ الْآتِيَ الْمَذْكُورَ لَمْ يُسَمَّ وَأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ فَوَاللَّهِ مَا سَأَلُوا عَنْهَا وَلَا رَاجَعُوهَا بَعْدَ خَبَرِ الرَّجُلِ وَهُوَ حُجَّةٌ قَوِيَّةٌ فِي قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ لِأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا بِهِ نَسْخَ الشَّيْءِ الَّذِي كَانَ مُبَاحًا حَتَّى أَقْدَمُوا مِنْ أَجْلِهِ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ.

الْحَدِيثُ التَّاسِعُ: حَدِيثُ حُذَيْفَةَ، وَأَبُو إِسْحَاقَ فِي السَّنَدِ هُوَ السَّبِيعِيُّ وَشَيْخُهُ صِلَةُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ هُوَ ابْنُ زُفَرَ يُكْنَى أَبَا الْعَلَاءِ كُوفِيٌّ عَبْسِيٌّ بِالْمُوَحَّدَةِ مِنْ رَهْطِ حُذَيْفَةَ.

قَوْلُهُ: قَالَ لِأَهْلِ نَجْرَانَ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي مَعَ شَرْحِهِ، وَقَوْلُهُ اسْتَشْرَفَ بِمُعْجَمَةٍ بَعْدَ مُهْمَلَةٍ أَيْ تَطَلَّعُوا إِلَيْهَا وَرَغِبُوا فِيهَا بِسَبَبِ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ.

الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ: حَدِيثُ أَنَسٍ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ تَقَدَّمَ أَيْضًا مَعَ الَّذِي قَبْلَهُ.

الْحَدِيثُ الْحَادِي عَشَرَ: حَدِيثُ عُمَرَ كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ تَقَدَّمَ بَيَانُ اسْمِهِ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ وَالْقَدْرُ الْمَذْكُورُ هُنَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ سَاقَهُ بِتَمَامِهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ التَّحْرِيمِ وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَقْبَلُ خَبَرَ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ، وَقَوْلُهُ: وَإِذَا غِبْتُ وَشَهِدَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي وَشَهِدَهُ أَيْ حَضَرَ مَا يَكُونُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ نَقَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لِقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ أَنَّ كُلَّ صَاحِبٍ وَتَابِعٍ سُئِلَ عَنْ نَازِلَةٍ فِي الدِّينِ فَأَخْبَرَ السَّائِلَ بِمَا عِنْدَهُ فِيهَا مِنَ الْحُكْمِ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ لَا يَعْمَلَ بِمَا أَخْبَرَهُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَسْأَلَ غَيْرَهُ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَسْأَلَ الْكَوَّافَ، بَلْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمْ يُخْبِرُهُ بِمَا عِنْدَهُ فَيَعْمَلُ بِمُقْتَضَاهُ وَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى اتِّفَاقِهِمْ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي عَشَرَ: حَدِيثُ عَلِيٍّ.

قَوْلُهُ: وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي وُجُوبِ طَاعَةِ الْأَمِيرِ فِيمَا فِيهِ طَاعَةٌ، لَا فِيمَا فِيهِ مَعْصِيَةٌ فِي أَوَائِلِ الْأَحْكَامِ. وَقَوْلُهُ فِيهِ: لَا طَاعَةَ فِي الْمَعْصِيَةِ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فِي مَعْصِيَةٍ وَخَفِيَتْ مُطَابَقَةُ هَذَا الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ عَلَى ابْنِ التِّينِ فَقَالَ: لَيْسَ فِيهِ مَا بَوَّبَ لَهُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُطِيعُوهُ فِي دُخُولِ النَّارِ. قُلْتُ: لَكِنَّهُمْ كَانُوا مُطِيعِينَ لَهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ وَبِهِ يَتِمُّ الْمُرَادُ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثَ عَشَرَ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ فِي قِصَّةِ الْعَسِيفِ أَوْرَدَهُ مِنْ رِوَايَةِ صَالِحٍ وَهُوَ ابْنُ كَيْسَانَ وَمِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ وَهُوَ ابْنُ أَبِي حَمْزَةَ كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَيَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ فِي السَّنَدِ الْأَوَّلِ هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْمُحَارِبِينَ وَبَيَّنْتُ فِيهِ الَّذِي قَالَ وَالْعَسِيفُ الْأَجِيرُ وَأَنَّهُ مَدْرَجٌ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ رَدَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إِذَا كَانَ زَائِدًا عَلَى الْقُرْآنِ، مَا مُلَخَّصُهُ: السُّنَّةُ مَعَ الْقُرْآنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ تُوَافِقَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيَكُونَ مِنْ تَوَارُدِ الْأَدِلَّةِ.

ثَانِيهَا: أَنْ

ص: 238

تَكُونَ بَيَانًا لِمَا أُرِيدَ بِالْقُرْآنِ.

ثَالِثُهَا: أَنْ تَكُونَ دَالَّةً عَلَى حُكْمٍ سَكَتَ عَنْهُ الْقُرْآنُ، وَهَذَا ثَالِثٌ يَكُونُ حُكْمًا مُبْتَدَأً مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَتَجِبُ طَاعَتُهُ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يُطَاعُ إِلَّا فِيمَا وَافَقَ الْقُرْآنَ، لَمْ تَكُنْ لَهُ طَاعَةٌ خَاصَّةٌ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} وَقَدْ تَنَاقَضَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يُقْبَلُ الْحُكْمُ الزَّائِدُ عَلَى الْقُرْآنِ إِلَّا إِنْ كَانَ مُتَوَاتِرًا أَوْ مَشْهُورًا. فَقَدْ قَالُوا بِتَحْرِيمِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا، وَتَحْرِيمِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ بِالرَّضَاعَةِ، وَخِيَارِ الشَّرْطِ وَالشُّفْعَةِ وَالرَّهْنِ فِي الْحَضَرِ، وَمِيرَاثِ الْجَدَّةِ، وَتَخْيِيرِ الْأَمَةِ إِذَا عَتَقَتْ، وَمَنْعِ الْحَائِضِ مِنَ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ جَامَعَ وَهُوَ صَائِمٌ فِي رَمَضَانَ، وَوُجُوبِ إِحْدَادِ الْمُعْتَدَّةِ عَنِ الْوَفَاةِ، وَتَجْوِيزِ الْوُضُوءِ بِنَبِيذِ التَّمْرِ، وَإِيجَابِ الْوِتْرِ وَأَنَّ أَقَلَّ الصَّدَاقِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَتَوْرِيثِ بِنْتِ الِابْنِ السُّدُسَ مَعَ الْبِنْتِ، وَاسْتِبْرَاءِ الْمَسْبِيَّةِ بِحَيْضَةٍ، وَأَنَّ أَعْيَانَ بَنِي الْأُمِّ يَتَوَارَثُونَ، وَلَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ، وَأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنَ الْمَجُوسِ، وَقَطْعِ رِجْلِ السَّارِقِ فِي الثَّانِيَةِ، وَتَرْكِ الِاقْتِصَاصِ مِنَ الْجُرْحِ قَبْلَ الِانْدِمَالِ، وَالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ، وَغَيْرِهِمَا مِمَّا يَطُولُ شَرْحُهُ، وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا آحَادٌ وَبَعْضُهَا ثَابِتٌ وَبَعْضُهَا غَيْرُ ثَابِتٍ وَلَكِنَّهُمْ قَسَّمُوهَا إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفَاصِيلُ يَطُولُ شَرْحُهَا، وَمَحَلُّ بَسْطِهَا أُصُولُ الْفِقْهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

‌2 - بَاب بَعْثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الزُّبَيْرَ طَلِيعَةً وَحْدَهُ

7261 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُنْكَدِرِ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: نَدَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، ثُمَّ نَدَبَهُمْ، فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، ثُمَّ نَدَبَهُمْ، فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ فَقَالَ: لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيٌّ وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ، قَالَ سُفْيَانُ: حَفِظْتُهُ مِنْ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ وَقَالَ لَهُ أَيُّوبُ: يَا أَبَا بَكْرٍ حَدِّثْهُمْ عَنْ جَابِرٍ، فَإِنَّ الْقَوْمَ يُعْجِبُهُمْ أَنْ تُحَدِّثَهُمْ عَنْ جَابِرٍ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ: سَمِعْتُ جَابِرًا، فَتَابَعَ بَيْنَ أَحَادِيثَ: سَمِعْتُ جَابِرًا. قُلْتُ لِسُفْيَانَ: فَإِنَّ الثَّوْرِيَّ يَقُولُ: يَوْمَ قُرَيْظَةَ فَقَالَ: كَذَا حَفِظْتُهُ مِنْهُ كَمَا أَنَّكَ جَالِسٌ يَوْمَ الْخَنْدَقِ قَالَ سُفْيَانُ: هُوَ يَوْمٌ وَاحِدٌ، وَتَبَسَّمَ سُفْيَانُ.

قَوْلُهُ: بَابُ بَعْثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الزُّبَيْرَ طَلِيعَةً وَحْدَهُ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ جَابِرٍ، وَهُوَ الْحَدِيثُ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ إِجَازَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ ; وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ.

وَقَوْلُهُ حَفِظْتُهُ مِنَ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ يَعْنِي مُحَمَّدًا وَقَالَ لَهُ أَيُّوبُ يَعْنِي السَّخْتِيَانِيَّ، يَا أَبَا بَكْرٍ هِيَ كُنْيَةُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ وَيُكْنَى أَيْضًا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَلَهُ أَخٌ آخَرُ يُقَالُ لَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُنْكَدِرِ اسْمُهُ كُنْيَتُهُ، وَقَوْلُهُ: نَدَبَ أَيْ دَعَا وَطَلَبَ ; وَقَوْلُهُ: انْتَدَبَ أَيْ أَجَابَ فَأَسْرَعَ، وَقَوْلُهُ: فَتَتَابَعَ كَذَا لَهُمْ بِمُثَنَّاتَيْنِ، وَلِلكُشْمِيهَنِيِّ فَتَابَعَ بِتَاءٍ وَاحِدَةٍ، وَقَوْلُهُ: بَيْنَ أَحَادِيثَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَرْبَعَةُ أَحَادِيثَ.

قَوْلُهُ: قُلْتُ لِسُفْيَانَ يَعْنِي ابْنَ عُيَيْنَةَ وَالْقَائِلُ هُوَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّ الثَّوْرِيَّ يَقُولُ يَوْمَ قُرَيْظَةَ) قُلْتُ: لَمْ أَرَهُ عِنْدَ أَحَدٍ مِمَّنْ أَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ بِلَفْظِ: يَوْمَ قُرَيْظَةَ إِلَّا عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ فَإِنَّهُ أَخْرَجَهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ وَكِيعٍ كَذَلِكَ فَلَعَلَّ ابْنَ الْمَدِينِيِّ حَمَلَهُ عَنْ وَكِيعٍ فَقَالَ: وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْجِهَادِ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ، وَفِي الْمَغَازِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي الْمَنَاقِبِ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ، وَمُسْلِمٌ أَيْضًا وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ كُلُّهُمْ عَنْ سُفْيَانَ

ص: 239

الثَّوْرِيِّ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ، فَأَمَّا مُسْلِمٌ فَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ بَلْ أَحَالَ بِهِ عَلَى رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَأَمَّا الْبُخَارِيُّ فَقَالَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا يَوْمَ الْأَحْزَابِ وَكَذَا الْبَاقُونَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِ بَنِي قُرَيْظَةَ فَلَعَلَّ هَذَا سَبَبُ الْوَهْمِ ثُمَّ وَجَدْتُ الْإِسْمَاعِيلِيَّ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّمَا طَلَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْخَنْدَقِ خَبَرَ بَنِي قُرَيْظَةَ ثُمَّ سَاقَ مِنْ طَرِيقِ فُلَيْحِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: نَدَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْخَنْدَقِ مَنْ يَأْتِيهِ بِخَبَرِ بَنِي قُرَيْظَةَ قَالَ فَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ يَعْنِي تُحْمَلُ رِوَايَةُ مَنْ قَالَ يَوْمَ قُرَيْظَةَ أَيِ الْيَوْمَ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ فِيهِ خَبَرَهُمْ لَا الْيَوْمَ الَّذِي غَزَاهُمْ فِيهِ، وَذَلِكَ مُرَادُ سُفْيَانَ بِقَوْلِهِ:

إِنَّهُ يَوْمٌ وَاحِدٌ.

قَوْلُهُ: قَالَ سُفْيَانُ هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ (هُوَ يَوْمٌ وَاحِدٌ) يَعْنِي يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَيَوْمَ قُرَيْظَةَ وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى إِطْلَاقِ الْيَوْمِ عَلَى الزَّمَانِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ الْأَمْرُ الْكَبِيرُ سَوَاءٌ قَلَّتْ أَيَّامُهُ أَوْ كَثُرَتْ كَمَا يُقَالُ يَوْمَ الْفَتْحِ وَيُرَادُ بِهِ الْأَيَّامُ الَّتِي أَقَامَ فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ لَمَّا فَتَحَهَا وَكَذَا وقْعَةُ الْخَنْدَقِ دَامَتْ أَيَّامًا آخِرُهَا لَمَّا انْصَرَفَتِ الْأَحْزَابُ وَرَجَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ إِلَى مَنَازِلِهِمْ جَاءَهُ جِبْرِيلُ عليه السلام بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فَأَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ فَخَرَجُوا وَقَالَ: لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ ثُمَّ حَاصَرَهُمْ أَيَّامًا حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ جَمِيعُ ذَلِكَ مُبَيَّنًا فِي كِتَابِ الْمَغَازِي.

‌3 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} فَإِذَا أَذِنَ لَهُ وَاحِدٌ جَازَ

7262 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ حَائِطًا وَأَمَرَنِي بِحِفْظِ الْبَابِ فَجَاءَ رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ فَقَالَ: ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ فَإِذَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ فَقَالَ: ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ ثُمَّ جَاءَ عُثْمَانُ فَقَالَ: ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ.

7263 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ، سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ رضي الله عنهم قَالَ: جِئْتُ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ، وَغُلَامٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَسْوَدُ عَلَى رَأْسِ الدَّرَجَةِ فَقُلْتُ: قُلْ هَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَأَذِنَ لِي.

قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِ اللَّهِ: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} كَذَا لِلْجَمِيعِ.

قَوْلُهُ: (فَإِذَا أَذِنَ لَهُ وَاحِدٌ جَازَ) وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِعَدَدٍ فَصَارَ الْوَاحِدُ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ وُجُودُ الْإِذْنِ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ حَتَّى اكْتَفَوْا فِيهِ بِخَبَرِ مَنْ لَمْ تَثْبُتْ عَدَالَتُهُ لِقِيَامِ الْقَرِينَةِ فِيهِ بِالصِّدْقِ، ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ.

أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ أَبِي مُوسَى فِي اسْتِئْذَانِهِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا كَانَ فِي الْحَائِطِ لِأَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ لِعُمَرَ ثُمَّ لِعُثْمَانَ وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا قَالَ ائْذَنْ لَهُ وَهُوَ الْحَدِيثُ الْخَامِسَ عَشَرَ.

وَالثَّانِي: حَدِيثُ عُمَرَ فِي قِصَّةِ الْمَشْرُبَةِ، وَفِيهِ فَقُلْتُ: أَيْ لِلْغُلَامِ الْأَسْوَدِ قُلْ هَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَأَذِنَ لِي وَهُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ التَّحْرِيمِ وَهُوَ السَّادِسَ عَشَرَ، وَأَرَادَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ صِيغَةَ يُؤْذَنَ لَكُمْ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ تَصِحُّ لِلْوَاحِدِ فَمَا فَوْقَهُ، وَأَنَّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ بَيَّنَ الِاكْتِفَاءِ بِالْوَاحِدِ عَلَى مُقْتَضَى مَا تَنَاوَلَهُ لَفْظُ الْآيَةِ فَيَكُونُ فِيهِ حُجَّةٌ لِقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى فِي

ص: 240

الْمَنَاقِبِ وَتَقَدَّمَ شَرْحُ مَا يَتَعَلَّقُ بِآيَةِ الِاسْتِئْذَانِ مُسْتَوْعَبًا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ قَوْلُهُ هُنَا فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى وَأَمَرَنِي بِحِفْظِ الْبَابِ مُغَايِرٌ لِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْمَاضِيَةِ وَلَمْ يَأْمُرْنِي بِحِفْظِهِ فَأَحَدُهُمَا وَهْمٌ. قُلْتُ: بَلْ هُمَا جَمِيعًا مَحْفُوظَانِ فَالنَّفْيُ كَانَ فِي أَوَّلِ مَا جَاءَ فَدَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْحَائِطَ فَجَلَسَ أَبُو مُوسَى فِي الْبَابِ، وَقَالَ لَأَكُونَنَّ الْيَوْمَ بَوَّابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَوْلُهُ: وَلَمْ يَأْمُرْنِي بِحِفْظِهِ كَانَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ ثُمَّ لَمَّا جَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَاسْتَأْذَنَ لَهُ فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ أَمَرَهُ حِينَئِذٍ بِحِفْظِ الْبَابِ، تَقْرِيرًا لَهُ عَلَى مَا فَعَلَهُ وَرِضًا بِهِ، إِمَّا تَصْرِيحًا فَيَكُونُ الْأَمْرُ لَهُ بِذَلِكَ حَقِيقَةً، وَإِمَّا لِمُجَرَّدِ التَّقْرِيرِ فَيَكُونُ الْأَمْرُ مَجَازًا، وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ لَا وَهْمٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَهُ تَوْجِيهٌ آخَرُ فِي مَنَاقِبِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ.

‌4 - بَاب مَا كَانَ يَبْعَثُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْأُمَرَاءِ وَالرُّسُلِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دِحْيَةَ الْكَلْبِيَّ بِكِتَابِهِ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى قَيْصَرَ.

7264 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَى كِسْرَى فَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ، يَدْفَعُهُ عَظِيمُ الْبَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرَى فَلَمَّا قَرَأَهُ كِسْرَى مَزَّقَهُ، فَحَسِبْتُ أَنَّ ابْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ: فَدَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ.

7265 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ: أَذِّنْ فِي قَوْمِكَ أَوْ فِي النَّاسِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ أَنَّ مَنْ أَكَلَ فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا كَانَ يَبْعَثُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالرُّسُلِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ) تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي أَوَّلِ هَذِهِ الْأَبْوَابِ مُجْمَلًا وَقَدْ سَبَقَ إِلَى ذَلِكَ أَيْضًا الشَّافِعِيُّ فَقَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَرَايَاهُ وَعَلَى كُلِّ سَرِيَّةٍ وَاحِدٌ، وَبَعَثَ رُسُلَهُ إِلَى الْمُلُوكِ إِلَى كُلِّ مَلِكٍ وَاحِدٌ، وَلَمْ تَزَلْ كُتُبُهُ تَنْفُذُ إِلَى وُلَاتِهِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ وُلَاتِهِ يَتْرُكُ إِنْفَاذَ أَمْرِهِ، وَكَذَا كَانَ الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ انْتَهَى فَأَمَّا أُمَرَاءُ السَّرَايَا فَقَدِ اسْتَوْعَبَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ فِي التَّرْجَمَةِ النَّبَوِيَّةِ وَعَقَدَ لَهُمْ بَابًا سَمَّاهُمْ فِيهِ عَلَى التَّرْتِيبِ. وَأَمَّا أُمَرَاءُ الْبِلَادِ الَّتِي فُتِحَتْ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَّرَ عَلَى مَكَّةَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ، وَعَلَى الطَّائِفِ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ، وَعَلَى الْبَحْرَيْنِ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ، وَعَلَى عُمَانَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَعَلَى نَجْرَانَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَأَمَّرَ عَلَى صَنْعَاءَ وَسَائِرِ جِبَالِ الْيَمَنِ بَاذَانَ ثُمَّ ابْنَهُ شَهْرَ، وَفَيْرُوزَ، وَالْمُهَاجِرَ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ، وَأَبَانَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَأَمَّرَ عَلَى السَّوَاحِلِ أَبَا مُوسَى، وَعَلَى الْجُنْدِ وَمَا مَعَهَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ وَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَقْضِي فِي عَمَلِهِ وَيَسِيرُ فِيهِ، وَكَانَا رُبَّمَا الْتَقَيَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّرَ أَيْضًا عَمْرَو بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ عَلَى وَادِي الْقُرَى، وَيَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى تَيْمَاءَ، وَثُمَامَةَ بْنَ أَثَالَ عَلَى الْيَمَامَةِ. فَأَمَّا أُمَرَاءُ السَّرَايَا وَالْبُعُوثِ فَكَانَتْ إِمْرَتُهُمْ تَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ تِلْكَ الْغَزْوَةِ.

وَأَمَّا أُمَرَاءُ الْقُرَى فَإِنَّهُمُ اسْتَمَرُّوا فِيهَا وَمِنْ أُمَرَائِهِ أَبُو بَكْرٍ عَلَى الْحَجِّ سَنَةَ تِسْعٍ، وَعَلِيٌّ لِقِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ وَأَفْرَادِ الْخُمُسِ بِالْيَمَنِ وَقِرَاءَةِ سُورَةِ

ص: 241

بَرَاءَةٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي حَجَّةِ أَبِي بَكْرٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ لِقَبْضِ الْجِزْيَةِ مِنَ الْبَحْرَيْنِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ لِخَرْصِ خَيْبَرَ إِلَى أَنِ اسْتُشْهِدَ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ، وَمِنْهُمْ عُمَّالُهُ لِقَبْضِ الزَّكَوَاتِ، كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي قِصَّةِ ابْنِ اللُّتْبِيَّةِ. وَأَمَّا رَسُولُهُ إِلَى الْمُلُوكِ فَسَمَّى مِنْهُمْ دِحْيَةَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُذَافَةَ وَهُمَا فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رُسُلَهُ إِلَى الْمُلُوكِ يَعْنِي الَّذِينَ كَانُوا فِي عَصْرِهِ. قُلْتُ: قَدِ اسْتَوْعَبَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ أَيْضًا وَأَفْرَدَهُمْ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي جُزْءٍ تَتَبَّعَهُمْ مِنْ أُسْدِ الْغَابَةِ لِابْنِ الْأَثِيرِ ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ.

الْأَوَّلُ:

قَوْلُهُ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دِحْيَةَ الْكَلْبِيَّ بِكِتَابِهِ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى قَيْصَرَ هُوَ طَرَفٌ مِنَ الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ الْمَذْكُورِ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ هُنَاكَ وَتَسْمِيَتُهُ عَظِيمَ بُصْرَى وَكَيْفِيَّةُ إِرْسَالِهِ الْكِتَابَ الْمَذْكُورَ إِلَى هِرَقْلَ وَهَذَا التَّعْلِيقُ ثَبَتَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَحْدَهُ هُنَا.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: يُونُسُ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ الْأَيْلِيُّ.

قَوْلُهُ: (بَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَى كِسْرَى فَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ) كَذَا هُنَا وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ فَأَمَرَهُ لِلْمَبْعُوثِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعَثَ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي، وَإِنَّ الرَّسُولَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ السَّهْمِيُّ الَّذِي تَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُ قَرِيبًا فِي السَّرِيَّةِ، وَقَوْلُهُ: فَحَسِبْتُ أَنَّ ابْنَ الْمُسَيَّبِ. الْقَائِلُ هُوَ ابْنُ شِهَابٍ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ هُنَاكَ.

قَوْلُهُ: أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ فِيهِ تَلْمِيحٌ بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ فَعَلَ بِأَهْلِ سَبَأٍ وَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الدَّعْوَةَ، فَسَلَّطَ شِيرَوَيْهِ عَلَى وَالِدِهِ كِسْرَى أَبْرَوَيْزَ الَّذِي مَزَّقَ الْكِتَابَ فَقَتَلَهُ، وَمَلَكَ بَعْدَهُ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى مَاتَ وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ.

تَنْبِيهٌ:

وَقَعَ لِلزَّرْكَشِيِّ هُنَا خَبْطٌ، فَإِنَّهُ قَالَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَى كِسْرَى كَذَا وَقَعَ فِي الْأُمَّهَاتِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ دِحْيَةَ بَعْدَ قَوْلِهِ بَعَثَ وَالصَّوَابُ إِثْبَاتُهُ وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ تَعْلِيقًا فَقَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دِحْيَةَ بِكِتَابِهِ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى قَيْصَرَ وَهُوَ الصَّوَابُ انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ تَوَهَّمَ أَنَّ الْقِصَّتَيْنِ وَاحِدَةٌ وَحَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ كَوْنُهُمَا مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ ; وَالْحَقُّ أَنَّ الْمَبْعُوثَ لِعَظِيمِ بُصْرَى هُوَ دِحْيَةُ، وَالْمَبْعُوثُ لِعَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَقَدْ سُمِّيَ فِي غَيْرِهَا وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الدَّلِيلِ عَلَى الْمُغَايَرَةِ بَيْنَهُمَا إِلَّا بُعْدَ مَا بَيْنَ بُصْرَى وَالْبَحْرَيْنِ فَإِنَّ بَيْنَهُمَا نَحْوُ شَهْرٍ، وَبُصْرَى كَانَتْ فِي مَمْلَكَةِ هِرَقْلَ مَلِكِ الرُّومِ، وَالْبَحْرَيْنِ كَانَتْ فِي مَمْلَكَةِ كِسْرَى مَلِكِ الْفُرْسِ، وَإِنَّمَا نَبَّهْتُ عَلَى ذَلِكَ مَعَ وُضُوحِهِ خَشْيَةَ أَنْ يَغْتَرَّ بِهِ مَنْ لَيْسَ لَهُ اطِّلَاعٌ عَلَى ذَلِكَ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: حَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ فِي صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ وَيَحْيَى الْمَذْكُورُ فِي السَّنَدِ هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، وَالرَّجُلُ مِنْ أَسْلَمَ هُوَ هِنْدُ بْنُ أَسْمَاءَ بْنِ حَارِثَةَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌5 - بَاب وَصَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وُفُودَ الْعَرَبِ أَنْ يُبَلِّغُوا مَنْ وَرَاءَهُمْ. قَالَهُ مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ

7266 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ. ح وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُقْعِدُنِي عَلَى سَرِيرِهِ فَقَالَ لِي: إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ الْوَفْدُ؟ قَالُوا: رَبِيعَةُ، قَالَ: مَرْحَبًا بِالْوَفْدِ والْقَوْمِ غَيْرَ خَزَايَا، وَلَا نَدَامَى، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ كُفَّارَ مُضَرَ فَمُرْنَا بِأَمْرٍ نَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ، وَنُخْبِرُ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا فَسَأَلُوا عَنْ الْأَشْرِبَةِ فَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ وَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ، أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ، قَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ

ص: 242

إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَأَظُنُّ فِيهِ صِيَامُ رَمَضَانَ، وَتُؤْتُوا مِنْ الْمَغَانِمِ الْخُمُسَ، وَنَهَاهُمْ عَنْ الدُّبَّاءِ، وَالْحَنْتَمِ، وَالْمُزَفَّتِ، وَالنَّقِيرِ، وَرُبَّمَا قَالَ: الْمُقَيَّرِ، قَالَ: احْفَظُوهُنَّ وَأَبْلِغُوهُنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ.

قَوْلُهُ: بَابُ وَصَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وُفُودَ الْعَرَبِ أَنْ يُبَلِّغُوا مَنْ وَرَاءَهُمْ الْوَصَاةُ بِالْقَصْرِ بِمَعْنَى الْوَصِيَّةِ وَالْوَاوُ مَفْتُوحَةٌ، وَيَجُوزُ كَسْرُهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْوَصَايَا وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ:

أَحَدُهُمَا:

قَوْلُهُ: (قَالَ مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ) يُشِيرُ إِلَى حَدِيثِهِ الْمَذْكُورِ قَرِيبًا أَوَّلَ هَذِهِ الْأَبْوَابِ.

الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ كَذَا ثَبَتَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ فَأَغْنَى عَنْ تَرَدُّدِ الْكِرْمَانِيِّ هَلْ هُوَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَوِ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَالنَّضْرُ هُوَ ابْنُ شُمَيْلٍ وَأَبُو جَمْرَةَ بِالْجِيمِ.

قَوْلُهُ: (كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُقْعِدُنِي عَلَى سَرِيرِهِ) قَدْ تَقَدَّمَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ فِي بَابِ تَرْجُمَانِ الْحَاكِمِ وَإِنَّهُ كَانَ يُتَرْجِمُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ لِمَا يَسْتَفْتُونَهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ أَنَّ النَّضْرَ بْنَ شُمَيْلٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ إِدْرِيسَ قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ فَذَكَرَهُ، وَفِيهِ: يُجْلِسُنِي مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ فَأُتَرْجِمُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ.

قَوْلُهُ: إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ تَقَدَّمَ شَرْحُ قِصَّتِهِمْ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ ثُمَّ فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: احْفَظُوهُنَّ وَأَبْلِغُوهُنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ فَإِنَّ الْأَمْرَ بِذَلِكَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ فَرْدٍ، فَلَوْلَا أَنَّ الْحُجَّةَ تَقُومُ بِتَبْلِيغِ الْوَاحِدِ مَا حَضَّهُمْ عَلَيْهِ.

‌6 - بَاب خَبَرِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ

7267 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ تَوْبَةَ الْعَنْبَرِيِّ قَالَ: قَالَ لِي الشَّعْبِيُّ: أَرَأَيْتَ حَدِيثَ الْحَسَنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَاعَدْتُ ابْنَ عُمَرَ قَرِيبًا مِنْ سَنَتَيْنِ أَوْ سَنَةٍ وَنِصْفٍ، فَلَمْ أَسْمَعْهُ يُحَدِّثُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَيْرَ هَذَا، قَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِمْ سَعْدٌ فَذَهَبُوا يَأْكُلُونَ مِنْ لَحْمٍ فَنَادَتْهُمْ امْرَأَةٌ مِنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّهُ لَحْمُ ضَبٍّ فَأَمْسَكُوا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كُلُوا - أَوْ اطْعَمُوا - فَإِنَّهُ حَلَالٌ أَوْ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، شَكَّ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ طَعَامِي.

قَوْلُهُ: (بَابُ خَبَرِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَمْرٍو بِهِ وَبِمَا فِي الْبَابَيْنِ قَبْلَهُ تَكْمُلُ الْأَحَادِيثُ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ حَدِيثًا.

قَوْلُهُ: عَنْ تَوْبَةَ) بِمُثَنَّاةٍ مَفْتُوحَةٍ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ هُوَ ابْنُ كَيْسَانَ يُسَمَّى أَبَا الْمُوَرِّعِ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَالْإِهْمَالِ وَالْعَنْبَرِيُّ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ بَيْنَهُمَا نُونٌ سَاكِنَةٌ نِسْبَةً إِلَى بَنِي الْعَنْبَرِ بَطْنٌ شَهِيرٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ.

قَوْلُهُ (أَرَأَيْتَ حَدِيثَ الْحَسَنِ) أَيِ الْبَصْرِيِّ، وَالرُّؤْيَا هُنَا بَصَرِيَّةٌ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، كَانَ الشَّعْبِيُّ يُنْكِرُ عَلَى مَنْ يُرْسِلُ الْأَحَادِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْحَامِلَ لِفَاعِلِ ذَلِكَ طَلَبُ الْإِكْثَارِ مِنَ التَّحْدِيثِ عَنْهُ وَإِلَّا لَكَانَ يَكْتَفِي بِمَا سَمِعَهُ مَوْصُولًا، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: مُرَادُ الشَّعْبِيِّ أَنَّ الْحَسَنَ مَعَ كَوْنِهِ تَابِعِيًّا كَانَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَابْنُ عُمَرَ مَعَ كَوْنِهِ صَحَابِيًّا يَحْتَاطُ وَيُقِلُّ مِنْ ذَلِكَ مَهْمَا أَمْكَنَ.

قُلْتُ: وَكَأَنَّ ابْنَ عُمَرَ اتَّبَعَ رَأْيَ أَبِيهِ فِي ذَلِكَ. فَإِنَّهُ كَانَ يَحُضُّ عَلَى قِلَّةِ التَّحْدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: خَشْيَةَ الِاشْتِغَالِ عَنْ تَعَلُّمِ الْقُرْآنِ

ص: 243

وَتَفَهُّمِ مَعَانِيهِ.

وَالثَّانِي: خَشْيَةَ أَنْ يُحَدِّثَ عَنْهُ بِمَا لَمْ يَقُلْهُ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَكْتُبُونَ فَإِذَا طَالَ الْعَهْدُ لَمْ يُؤْمَنِ النِّسْيَانُ.

وَقَدْ أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِسَنَدٍ آخَرَ صَحِيحٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ قَرَظَةَ بْنِ كَعْبٍ عَنْ عُمَرٍ قَالَ: أَقِلُّوا الْحَدِيثَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا شَرِيكُكُمْ وَتَقَدَّمَ شَيْءٌ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا فِي كِتَابِ الْعِلْمِ.

وَقَوْلُهُ وَقَاعدت ابْنِ عُمَرَ الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ جَلَسَ مَعَهُ الْمُدَّةَ الْمَذْكُورَةَ.

وَقَوْلُهُ قَرِيبًا مِنْ سَنَتَيْنِ أَوْ سَنَةٍ وَنِصْفٍ، وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ جَالَسْتُ ابْنَ عُمَرَ سَنَةً. فَيُجْمَعُ بِأَنَّ مُدَّةَ مُجَالَسَتِهِ كَانَتْ سَنَةً وَكَسْرًا فَأَلْغَى الْكَسْرُ تَارَةً وَجَبَرَهُ أُخْرَى، وَكَانَ الشَّعْبِيُّ جَاوَرَ بِالْمَدِينَةِ أَوْ بِمَكَّةَ وَإِلَّا فَهُوَ كُوفِيٌّ، وَابْنُ عُمَرَ لَمْ تَكُنْ لَهُ إِقَامَةٌ بِالْكُوفَةِ.

قَوْلُهُ: فَلَمْ أَسْمَعْهُ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَيْرَ هَذَا) أَشَارَ إِلَى الْحَدِيثِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَذْكُرَهُ وَكَأَنَّهُ اسْتَحْضَرَهُ بِذِهْنِهِ إِذْ ذَاكَ.

قَوْلُهُ (كَانَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِمْ سَعْدٌ فَذَهَبُوا يَأْكُلُونَ مِنْ لَحْمٍ) هَكَذَا أَوْرَدَ الْقِصَّةَ مُخْتَصَرَةً، وَأَوْرَدَهَا فِي الذَّبَائِحِ مُبَيَّنَةً، وَتَقَدَّمَ لَفْظُهُ هُنَاكَ، وَعِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُعَاذٍ، عَنْ شُعْبَةَ: فَأَتَوْا بِلَحْمِ ضَبٍّ.

قَوْلُهُ (فَنَادَتْهُمُ امْرَأَةٌ مِنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هِيَ مَيْمُونَةُ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّهُ حَلَالٌ أَوْ قَالَ لَا بَأْسَ بِهِ شَكَّ فِيهِ) هُوَ قَوْلُ شُعْبَةَ وَالَّذِي شَكَّ فِي أَيِّ اللَّفْظَيْنِ قَالَ: هُوَ تَوْبَةُ الرَّاوِي عَنِ ابْنِ عُمَرَ. بَيَّنَ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ شُعْبَةَ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْهُ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى لَحْمِ الضَّبِّ فِي كِتَابِ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ مُسْتَوْفًى فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي الضَّبِّ: لَا أُحِلُّهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ، وَأَنَّهَا لَا تُخَالِفُ قَوْلَهُ هُنَا: فَإِنَّهُ حَلَالٌ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ طَعَامِي أَيْ لَيْسَ مِنَ الْمَأْلُوفِ لَهُ، فَلِذَلِكَ تَرَكَ أَكْلَهُ لَا لِكَوْنِهِ حَرَامًا.

خَاتِمَةٌ:

اشْتَمَلَ كِتَابُ الْأَحْكَامِ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ التَّمَنِّي وَإِجَازَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى مِائَةِ حَدِيثٍ وَثَلَاثَةٍ وَسِتِّينَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْهَا وَمَا فِي حُكْمِهِ سَبْعَةٌ وَثَلَاثُونَ طَرِيقًا وَسَائِرُهَا مَوْصُولٌ، الْمُكَرَّرُ مِنْهُ فِيهِ وَفِيمَا مَضَى مِائَةُ حَدِيثٍ وَتِسْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ حَدِيثًا ; وَالْخَالِصُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ حَدِيثًا، شَارَكَهُ مُسْلِمٌ فِي تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ وَحَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ فِي الْبِطَانَةِ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيهَا وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي بَيْعَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَحَدِيثِ عُمَرَ فِي بَيْعَةِ أَبِي بَكْرٍ الثَّانِيَةِ، وَحَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ فِي قِصَّةِ وَفْدِ بُزَاخَةَ. وَفِي التَّمَنِّي سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ حَدِيثًا كُلُّهَا مُكَرَّرَةٌ مِنْهَا سِتَّةُ طُرُقٍ مُعَلَّقَةٍ وَفِي خَبَرِ الْوَاحِدِ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ حَدِيثًا كُلُّهَا مُكَرَّرَةٌ مِنْهَا طَرِيقٌ وَاحِدٌ مُعَلَّقٌ، وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ ثَمَانِيَةٌ وَخَمْسُونَ أَثَرًا، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

ص: 244

بسم الله الرحمن الرحيم

‌96 - كِتَاب الِاعْتِصَامِ بِالسُّنَّةِ

7268 -

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مِسْعَرٍ وَغَيْرِهِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ لِعُمَرَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ أَنَّ عَلَيْنَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا. فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي لَأَعْلَمُ أَيَّ يَوْمٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، نَزَلَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ. سَمِعَ سُفْيَانُ، مِسْعَرًا، وَمِسْعَرٌ، قَيْسًا، وَقَيْسٌ، طَارِقًا.

7269 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ الْغَدَ حِينَ بَايَعَ الْمُسْلِمُونَ أَبَا بَكْرٍ وَاسْتَوَى عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَشَهَّدَ قَبْلَ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ أَمَّا بَعْدُ فَاخْتَارَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي عِنْدَهُ عَلَى الَّذِي عِنْدَكُمْ وَهَذَا الْكِتَابُ الَّذِي هَدَى اللَّهُ بِهِ رَسُولَكُمْ فَخُذُوا بِهِ تَهْتَدُوا وَإِنَّمَا هَدَى اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ

7270 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ خَالِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ ضَمَّنِي إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ

7271 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَبَّاحٍ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ سَمِعْتُ عَوْفًا أَنَّ أَبَا الْمِنْهَالِ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا بَرْزَةَ قَالَ إِنَّ اللَّهَ يُغْنِيكُمْ أَوْ نَعَشَكُمْ بِالإِسْلَامِ وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَقَعَ هَاهُنَا يُغْنِيكُمْ وَإِنَّمَا هُوَ نَعَشَكُمْ يُنْظَرُ فِي أَصْلِ كِتَابِ الِاعْتِصَامِ

7272 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يُبَايِعُهُ وَأُقِرُّ لَكَ بِذَلِكَ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ فِيمَا اسْتَطَعْتُ

قَوْلُهُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم - كِتَابُ الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ)، الِاعْتِصَامُ افْتِعَالٌ مِنَ الْعِصْمَةِ، وَالْمُرَادُ امْتِثَالُ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} الْآيَةَ. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: هَذِهِ التَّرْجَمَةُ مُنْتَزَعَةٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَبْلِ: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ، وَالْجَامِعُ كَوْنُهُمَا سَبَبًا لِلْمَقْصُودِ وَهُوَ الثَّوَابُ وَالنَّجَاةُ مِنَ الْعَذَابِ، كَمَا أَنَّ الْحَبْلَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ مِنَ السَّقْيِ وَغَيْرِهِ.

وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْقُرْآنُ الْمُتَعَبَّدُ بِتِلَاوَتِهِ وَبِالسُّنَّةِ مَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَتَقْرِيرِهِ وَمَا هَمَّ بِفِعْلِهِ.

وَالسُّنَّةُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: الطَّرِيقَةُ. وَفِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ وَالْمُحَدِّثِينَ مَا تَقَدَّمَ. وَفِي اصْطِلَاحِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ: مَا يُرَادِفُ

ص: 245

الْمُسْتَحَبَّ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَا عِصْمَةَ لِأَحَدٍ إِلَّا فِي كِتَابِ اللَّهِ أَوْ فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ أَوْ فِي إِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَعْنًى فِي أَحَدِهِمَا، ثُمَّ تَكَلَّمَ عَلَى السُّنَّةِ بِاعْتِبَارِ مَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ بَعْدَ بَابٍ، ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ خَمْسَةَ أَحَادِيثَ.

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: (سُفْيَانُ، عَنْ مِسْعَرٍ وَغَيْرِهِ) أَمَّا سُفْيَانُ فَهُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَمِسْعَرٌ هُوَ ابْنُ كِدَامٍ بِكَسْرِ الْكَافِ وَتَخْفِيفِ الدَّالِ، وَالْغَيْرُ الَّذِي أُبْهِمَ مَعَهُ لَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِهِ إِلَّا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ، فَإِنَّ أَحْمَدَ أَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ وَهُوَ الْجَدَلِيُّ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْمُهْمَلَةِ كُوفِيٌّ يُكْنَى أَبَا عَمْرٍو، كَانَ عَابِدًا ثِقَةً ثَبَتًا، وَقَدْ نُسِبَ إِلَى الْإِرْجَاءِ، وَفِي الرُّوَاةِ قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ آخَرُ لَكِنَّهُ شَامِيٌّ غَيْرُ مَشْهُورٍ، رَوَى عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَحَدِيثُهُ عَنْهُ فِي كِتَابِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ لِلْبُخَارِيِّ وَطَارِقُ بْنُ شِهَابٍ هُوَ الْأَحْمَسِيُّ مَعْدُودٌ فِي الصَّحَابَةِ؛ لِأَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ كَبِيرٌ، لَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ مِنْهُ سَمَاعٌ.

قَوْلُهُ (قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ وَفِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ مَعَ شَرْحِ سَائِرِ الْحَدِيثِ، وَحَاصِلُ جَوَابِ عُمَرَ أَنَّا اتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا عَلَى وَفْقِ مَا ذَكَرْتُ.

قَوْلُهُ: (سَمِعَ سُفْيَانُ، مِسْعَرًا، وَمِسْعَرٌ قَيْسًا، وَقَيْسٌ، طَارِقًا) هُوَ كَلَامُ الْبُخَارِيِّ؛ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْعَنْعَنَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذَا السَّنَدِ مَحْمُولَةٌ عِنْدَهُ عَلَى السَّمَاعِ لِاطِّلَاعِهِ عَلَى سَمَاعِ كُلٍّ مِنْهُمْ مِنْ شَيْخِهِ، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُمُورَ الدِّينِ كَمُلَتْ عِنْدَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ وَهِيَ قَبْلَ مَوْتِهِ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِ ثَمَانِينَ يَوْمًا، فَعَلَى هَذَا لَمْ يَنْزِلْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ شَيْءٌ. وَفِيهِ نَظَرٌ، وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِكْمَالِ مَا يَتَعَلَّقُ بِأُصُولِ الْأَرْكَانِ لَا مَا يَتَفَرَّعُ عَنْهَا، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُتَمَسَّكٌ لِمُنْكِرِي الْقِيَاسِ، وَيُمْكِنُ دَفْعُ حُجَّتِهُمْ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الْقِيَاسِ فِي الْحَوَادِثِ مُتَلَقًّى مِنْ أَمْرِ الْكِتَابِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} وَقَدْ وَرَدَ أَمْرُهُ بِالْقِيَاسِ وَتَقْرِيرُهُ عَلَيْهِ، فَانْدَرَجَ فِي عُمُومِ مَا وُصِفَ بِالْكَمَالِ. وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} قَالَ: أَنْزَلَ سبحانه وتعالى كَثِيرًا مِنَ الْأُمُورِ مُجْمَلًا، فَفَسَّرَ نَبِيُّهُ مَا احْتِيجَ إِلَيْهِ فِي وَقْتِهِ وَمَا لَمْ يَقَعْ فِي وَقْتِهِ، وَكَلَ تَفْسِيرَهُ إِلَى الْعُلَمَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}

الْحَدِيثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: (أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه الْغَدَ حِينَ بَايَعَ الْمُسْلِمُونَ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه حِينَ يَتَعَلَّقُ بِسَمِعَ، وَالَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْغَدِ مَحْذُوفٌ، وَتَقْدِيرُهُ مِنْ وَفَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي بَابِ الِاسْتِخْلَافِ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْأَحْكَامِ وَسِيَاقُهُ هُنَاكَ أَتَمُّ، وَزَادَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَاخْتَارَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ الَّذِي عِنْدَهُ عَلَى الَّذِي عِنْدَكُمْ أَيِ الَّذِي عِنْدَهُ مِنَ الثَّوَابِ وَالْكَرَامَةِ عَلَى الَّذِي عِنْدَكُمْ مِنَ النَّصَبِ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ وَبَيَانُ مَنْ رَوَاهُ بِلَفْظِ التَّأْوِيلِ، وَيَأْتِي مَعْنَى التَّأْوِيلِ فِي بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} مِنْ كِتَابِ التَّوْحِيدِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: حَدِيثُ أَبِي بَرْزَةَ وَهُوَ مُخْتَصَرٌ مِنَ الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ الْمَذْكُورِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْفِتَنِ فِي بَابِ إِذَا قَالَ عِنْدَ قَوْمٍ شَيْئًا ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ بِخِلَافِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ، وَقَوْلُهُ هُنَا: إِنَّ اللَّهَ يُغْنِيكُمْ بِالْإِسْلَامِ. كَذَا وَقَعَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ ثُمَّ غَيْنٍ مُعْجَمَةٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ نُونٍ. وَنَبَّهَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ الْمُصَنِّفُ عَلَى أَنَّ الصَّوَابَ بِنُونٍ ثُمَّ عَيْنٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَتَيْنِ ثُمَّ شِينٍ مُعْجَمَةٍ. قَوْلُهُ (يُنْظَرُ فِي أَصْلِ كِتَابِ الِاعْتِصَامِ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ صَنَّفَ كِتَابَ الِاعْتِصَامِ مُفْرَدًا وَكَتَبَ مِنْهُ هُنَا مَا يَلِيقُ بِشَرْطِهِ فِي هَذَا الْكِتَابِ كَمَا صَنَعَ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ فَلَمَّا رَأَى هَذِهِ اللَّفْظَةَ مُغَايِرَةً لِمَا عِنْدَهُ أَنَّهُ الصَّوَابُ أَحَالَ عَلَى مُرَاجَعَةِ ذَلِكَ الْأَصْلِ، وَكَأَنَّهُ كَانَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ غَائِبًا عَنْهُ، فَأَمَرَ بِمُرَاجَعَتِهِ وَأَنْ يُصْلَحَ مِنْهُ وَقَدْ وَقَعَ

ص: 246

لَهُ نَحْوُ هَذَا فِي تَفْسِيرِ {أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} وَنَبَّهْتُ عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ {أَلَمْ نَشْرَحْ} وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ أَنَّ ذِكْرَ حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ هَذَا هُنَا إِنَّمَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ تَثْبِيتُ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَهُوَ غَفْلَةٌ مِنْهُ، فَإِنَّ حُكْمَ تَثْبِيتِ خَبَرِ الْوَاحِدِ انْقَضَى، وَعَقَّبَ بِالِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَمُنَاسَبَةُ حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ لِلِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ نَعَشَكُمْ بِالْكِتَابِ ظَاهِرَةٌ جِدًّا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي مُكَاتَبَتِهِ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بِالْبَيْعَةِ لَهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ مَعَ شَرْحِهِ فِي بَابِ كَيْفَ يُبَايَعُ الْإِمَامُ مِنْ أَوَاخِرِ كِتَابِ الْأَحْكَامِ وَمِنْ ثَمَّ يَظْهَرُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ هُنَا: وَأَقَرَّ لَكَ وَبَيَّنْتُ هُنَاكَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ قَتْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا اسْتِعْمَالُ سُنَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ.

‌1 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ

7273 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الْأَرْضِ فَوُضِعَتْ فِي يَدِي. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقَدْ ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنْتُمْ تَلْغَثُونَهَا - أَوْ تَرْغَثُونَهَا - أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا.

قَوْلُهُ (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ) وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ لِأَبِي هُرَيْرَةَ، أَحَدُهُمَا بِلَفْظِ التَّرْجَمَةِ، وَزَادَ: وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الْأَرْضِ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ جَوَامِعِ الْكَلِمِ فِي بَابِ الْمَفَاتِيحِ فِي الْيَدِ مِنْ كِتَابِ التَّعْبِيرِ وَفِيهِ تَفْسِيرُهَا عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَحَاصِلُهُ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَكَلَّمُ بِالْقَوْلِ الْمُوجَزِ الْقَلِيلِ اللَّفْظِ الْكَثِيرِ الْمَعَانِي، وَجَزَمَ غَيْرُ الزُّهْرِيِّ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ الْقُرْآنُ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بُعِثْتُ، وَالْقُرْآنُ هُوَ الْغَايَةُ فِي إِيجَازِ اللَّفْظِ وَاتِّسَاعِ الْمَعَانِي، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ فِي كِتَابِ التَّيَمُّمِ.

قَوْلُهُ: (فَوُضِعَتْ فِي يَدَيَّ) أَيِ الْمَفَاتِيحُ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْمُرَادِ بِهَا فِي بَابِ النَّفْخِ فِي الْمَنَامِ مِنْ كِتَابِ التَّعْبِيرِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا. وَقَوْلُهُ: فَذَهَبَ أَيْ مَاتَ. وَقَوْلُهُ وَأَنْتُمْ تَلْغَثُونَهَا أَوْ تَرْغَثُونَهَا أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا فَالْأُولَى بِلَامٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ غَيْنٍ مُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ مُثَلَّثَةٍ وَالثَّانِيَةُ مِثْلُهَا لَكِنْ بَدَلَ اللَّامِ رَاءٌ، وَهِيَ مِنَ الرَّغْثِ كِنَايَةٌ عَنْ سَعَةِ الْعَيْشِ، وَأَصْلُهُ مِنْ رَغَثَ الْجَدْيُ أُمَّهُ: إِذَا ارْتَضَعَ مِنْهَا، وَأَرْغَثَتْهُ هِيَ: أَرْضَعَتْهُ. وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ: رَغُوثٌ. وَأَمَّا بِاللَّامِ فَقِيلَ: إِنَّهَا لُغَةٌ فِيهَا، وَقِيلَ: تَصْحِيفٌ، وَقِيلَ: مَأْخُوذَةٌ مِنَ اللَّغِيثِ - بِوَزْنِ عَظِيمٍ - وَهُوَ الطَّعَامُ الْمَخْلُوطُ بِالشَّعِيرِ، ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ عَنْ ثَعْلَبٍ.

وَالْمُرَادُ: يَأْكُلُونَهَا كَيْفَمَا اتَّفَقَ وَفِيهِ بُعْدٌ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَأَمَّا اللَّغْثُ بِاللَّامِ فَلَمْ أَجِدْهُ فِيمَا تَصَفَّحْتُ مِنَ اللُّغَةِ انْتَهَى. وَوَجَدْتُ فِي حَاشِيَةٍ مِنْ كِتَابِهِ: هُمَا لُغَتَانِ صَحِيحَتَانِ فَصِيحَتَانِ مَعْنَاهُمَا الْأَكْلُ بِالنَّهَمِ، وَأَفَادَ الشَّيْخُ مُغَلْطَايْ عَنْ كِتَابِ الْمُنْتَهَى لِأَبِي الْمَعَالِي اللُّغَوِيِّ: لَغَثَ طَعَامَهُ وَلَعَثَ بِالْغَيْنِ وَالْعَيْنِ أَيِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُهْمَلَةِ إِذَا فَرَّقَهُ، قَالَ: وَالْغَيْثُ مَا يَبْقَى فِي الْكَيْلِ مِنَ

ص: 247

الْحَبِّ، فَعَلَى هَذَا فَالْمَعْنَى: وَأَنْتُمْ تَأْخُذُونَ الْمَالَ فَتُفَرِّقُونَهُ بَعْدَ أَنْ تَحُوزُوهُ. وَاسْتَعَارَ لِلْمَالِ مَا لِلطَّعَامِ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ أَهَمُّ مَا يُقْتَنَى لِأَجْلِهِ الْمَالُ، وَزَعَمَ أَنَّ فِي بَعْضِ نُسَخِ الصَّحِيحِ وَأَنْتُمْ تَلْعَقُونَهَا بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ قَافٍ. قُلْتُ: وَهُوَ تَصْحِيفٌ وَلَوْ كَانَ لَهُ بَعْضُ اتِّجَاهٍ. وَالثَّالِثَةُ جَاءَتْ مِنْ رِوَايَةِ عَقِيلٍ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ بِلَفْظِ تَنْتَثِلُونَهَا بِمُثَنَّاةٍ ثُمَّ نُونٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ، وَلِبَعْضِهِمْ بِحَذْفِ الْمُثَنَّاةِ الثَّانِيَةِ مِنَ النَّثْلِ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ وَهُوَ الِاسْتِخْرَاجُ نَثَلَ كِنَانَتَهُ اسْتَخْرَجَ مَا فِيهَا مِنَ السِّهَامِ، وَجِرَابَهُ: نَفَضَ مَا فِيهِ، وَالْبِئْرَ: أَخْرَجَ تُرَابَهَا. فَمَعْنَى تَنْتَثِلُونَهَا: تَسْتَخْرِجُونَ مَا فِيهَا وَتَتَمَتَّعُونَ بِهِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ: هَذَا الْمَحْفُوظُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: يَعْنِي مَا فُتِحَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنَ الدُّنْيَا وَهُوَ يَشْمَلُ الْغَنَائِمَ وَالْكُنُوزَ، وَعَلَى الْأَوَّلِ اقْتَصَرَ الْأَكْثَرُ وَوَقَعَ عِنْدَ بَعْضِ رُوَاةِ مُسْلِمٍ بِالْمِيمِ بَدَلَ النُّونِ الْأُولَى وَهُوَ تَحْرِيفٌ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: عَنْ سَعِيدٍ) هُوَ ابْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ، وَاسْمُ أَبِي سَعِيدٍ: كَيْسَانُ.

قَوْلُهُ: مَا مِثْلُهُ أُومِنَ أَوْ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ) أَوْ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، فَالْأُولَى بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَكَسْرِ الْمِيمِ مِنَ الْأَمْنِ، وَالثَّانِيَةُ بِالْمَدِّ وَفَتْحِ الْمِيمِ مِنَ الْإِيمَانِ، وَحَكَى ابْنُ قَرْقُولٍ أَنَّ فِي رِوَايَةِ الْقَابِسِيِّ - بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ بِغَيْرِ مَدٍّ - مِنَ الْأَمَانِ، وَصَوَّبَهَا ابْنُ التِّينِ فَلَمْ يُصِبْ.

وَقَوْلُهُ: وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي أُوتِيتُ بِحَذْفِ الْهَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذَا الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي أَوَائِلِ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَعْنَى الْحَصْرِ فِي قَوْلِهِ إِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ أَنَّ الْقُرْآنَ أَعْظَمُ الْمُعْجِزَاتِ وَأَفْيَدُهَا وَأَدْوَمُهَا؛ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الدَّعْوَةِ وَالْحُجَّةِ وَدَوَامِ الِانْتِفَاعِ بِهِ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ، فَلَمَّا كَانَ لَا شَيْءَ يُقَارِبُهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُسَاوِيَهُ كَانَ مَا عَدَاهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ كَأَنْ لَمْ يَقَعْ.

قِيلَ: يُؤْخَذُ مِنْ إِيرَادِ الْبُخَارِيِّ هَذَا الْحَدِيثِ عَقِبَ الَّذِي قَبْلَهُ: أَنَّ الرَّاجِحَ عِنْدَهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ الْقُرْآنُ. وَلَيْسَ ذَلِكَ بِلَازِمٍ، فَإِنَّ دُخُولَ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ لَا شَكَّ فِيهِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ: هَلْ يَدْخُلُ غَيْرُهُ مِنْ كَلَامِهِ مِنْ غَيْرِ الْقُرْآنِ؟ وَقَدْ ذَكَرُوا مِنْ أَمْثِلَةِ جَوَامِعِ الْكَلَامِ فِي الْقُرْآنِ قَوْلَهُ تَعَالَى {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وَقَوْلَهُ {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ جَوَامِعِ الْكَلِمِ مِنَ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ: حَدِيثُ عَائِشَةَ كُلُّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ وَحَدِيثُ كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ قَرِيبًا، وَحَدِيثُ الْمِقْدَامِ مَا مَلَأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ، الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ الْأَرْبَعَةُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَكْثُرُ بِالتَّتَبُّعِ، وإِنَّمَا يُسَلَّمُ ذَلِكَ فِيمَا لَمْ تَتَصَرَّفِ الرُّوَاةُ فِي أَلْفَاظِهِ، وَالطَّرِيقُ إِلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ أَنْ تَقِلَّ مَخَارِجُ الْحَدِيثِ وَتَتَّفِقَ أَلْفَاظُهُ، وَإِلَّا فَإِنَّ مَخَارِجَ الْحَدِيثِ إِذَا كَثُرَتْ قَلَّ أَنْ تَتَّفِقَ أَلْفَاظُهُ لِتَوَارُدِ أَكْثَرِ الرُّوَاةِ عَلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى بِحَسْبِ مَا يَظْهَرُ لِأَحَدِهِمْ أَنَّهُ وَافٍ بِهِ، وَالْحَامِلُ لِأَكْثَرِهِمْ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَكْتُبُونَ وَيَطُولُ الزَّمَانُ، فَيَتَعَلَّقُ الْمَعْنَى بِالذِّهْنِ فَيَرْتَسِمْ فِيهِ وَلَا يَسْتَحْضِرُ اللَّفْظَ،

فَيُحَدِّثَ بِالْمَعْنَى لِمَصْلَحَةِ التَّبْلِيغِ، ثُمَّ يَظْهَرُ مِنْ سِيَاقِ مَا هُوَ أَحْفَظُ مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يُوَفِّ بِالْمَعْنَى.

‌2 - بَاب الِاقْتِدَاءِ بِسُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم،

وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} قَالَ: أَئمَّةً نَقْتَدِي بِمَنْ قَبْلَنَا، وَيَقْتَدِي بِنَا مَنْ بَعْدَنَا. وَعن ابْنُ عَوْنٍ: ثَلَاثٌ أُحِبُّهُنَّ لِنَفْسِي وَلِإِخْوَانِي: هَذِهِ السُّنَّةُ أَنْ يَتَعَلَّمُوهَا وَيَسْأَلُوا عَنْهَا، وَالْقُرْآنُ أَنْ يَتَفَهَّمُوهُ وَيَسْأَلُوا النَّاسَ عَنْهُ، وَيَدَعُوا النَّاسَ إِلَّا مِنْ خَيْرٍ.

ص: 248

7275 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ وَاصِلٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى شَيْبَةَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ قَالَ: جَلَسَ إِلَيَّ عُمَرُ فِي مَجْلِسِكَ هَذَا، فَقَالَ: هَمَمْتُ أَنْ لَا أَدَعَ فِيهَا صَفْرَاءَ وَلَا بَيْضَاءَ إِلَّا قَسَمْتُهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، قُلْتُ: مَا أَنْتَ بِفَاعِلٍ. قَالَ: لِمَ؟ قُلْتُ: لَمْ يَفْعَلْهُ صَاحِبَاكَ. قَالَ: هُمَا الْمَرْآنِ يُقْتَدَى بِهِمَا.

7276 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ سَأَلْتُ الأَعْمَشَ فَقَالَ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ يَقُولُ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الأَمَانَةَ نَزَلَتْ مِنْ السَّمَاءِ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ وَنَزَلَ الْقُرْآنُ فَقَرَءُوا الْقُرْآنَ وَعَلِمُوا مِنْ السُّنَّةِ

7277 -

حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ سَمِعْتُ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيَّ يَقُولُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَاتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ

7278، 7279 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَاقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ

7280 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ حَدَّثَنَا هِلَالُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ أَبَى قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى قَالَ مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى

7281 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَادَةَ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ حَدَّثَنَا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ حَدَّثَنَا أَوْ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ جَاءَتْ مَلَائِكَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ نَائِمٌ فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ نَائِمٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ فَقَالُوا إِنَّ لِصَاحِبِكُمْ هَذَا مَثَلًا فَاضْرِبُوا لَهُ مَثَلًا فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ نَائِمٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ فَقَالُوا مَثَلُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا وَجَعَلَ فِيهَا مَأْدُبَةً وَبَعَثَ دَاعِيًا فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ دَخَلَ الدَّارَ وَأَكَلَ مِنْ الْمَأْدُبَةِ وَمَنْ لَمْ يُجِبْ الدَّاعِيَ لَمْ يَدْخُلْ الدَّارَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْ الْمَأْدُبَةِ فَقَالُوا أَوِّلُوهَا لَهُ يَفْقَهْهَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ نَائِمٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ فَقَالُوا فَالدَّارُ الْجَنَّةُ وَالدَّاعِي مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم فَمَنْ أَطَاعَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ عَصَى مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم فَرْقٌ بَيْنَ النَّاسِ تَابَعَهُ قُتَيْبَةُ عَنْ لَيْثٍ عَنْ خَالِدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ عَنْ

ص: 249

جَابِرٍ خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم

7282 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ اسْتَقِيمُوا فَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا فَإِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالًا لَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا

7283 -

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمًا فَقَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي رَأَيْتُ الْجَيْشَ بِعَيْنَيَّ وَإِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ فَالنَّجَاءَ فَأَطَاعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ قَوْمِهِ فَأَدْلَجُوا فَانْطَلَقُوا عَلَى مَهَلِهِمْ فَنَجَوْا وَكَذَّبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَأَصْبَحُوا مَكَانَهُمْ فَصَبَّحَهُمْ الْجَيْشُ فَأَهْلَكَهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ أَطَاعَنِي فَاتَّبَعَ مَا جِئْتُ بِهِ وَمَثَلُ مَنْ عَصَانِي وَكَذَّبَ بِمَا جِئْتُ بِهِ مِنْ الْحَقِّ

7284، 7285 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنْ الْعَرَبِ قَالَ عُمَرُ لِأَبِي بَكْرٍ كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ فَقَالَ وَاللَّهِ لَاقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ فَقَالَ عُمَرُ فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ قَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ وَعَبْدُ اللَّهِ عَنْ اللَّيْثِ عَنَاقًا وَهُوَ أَصَحُّ

7286 -

حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ وَكَانَ مِنْ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجْلِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا فَقَالَ عُيَيْنَةُ لِابْنِ أَخِيهِ يَا ابْنَ أَخِي هَلْ لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الأَمِيرِ فَتَسْتَأْذِنَ لِي عَلَيْهِ قَالَ سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَاسْتَأْذَنَ لِعُيَيْنَةَ فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ وَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ وَمَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ بِأَنْ يَقَعَ بِهِ فَقَالَ الْحُرُّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم {خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ وَإِنَّ هَذَا مِنْ الْجَاهِلِينَ} فَوَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلَاهَا عَلَيْهِ وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ

ص: 250

7287 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما أَنَّهَا قَالَتْ أَتَيْتُ عَائِشَةَ حِينَ خَسَفَتْ الشَّمْسُ وَالنَّاسُ قِيَامٌ وَهِيَ قَائِمَةٌ تُصَلِّي فَقُلْتُ مَا لِلنَّاسِ فَأَشَارَتْ بِيَدِهَا نَحْوَ السَّمَاءِ فَقَالَتْ سُبْحَانَ اللَّهِ فَقُلْتُ آيَةٌ قَالَتْ بِرَأْسِهَا أَنْ نَعَمْ فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ مَا مِنْ شَيْءٍ لَمْ أَرَهُ إِلاَّ وَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي هَذَا حَتَّى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَأُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ قَرِيبًا مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ أَوْ الْمُسْلِمُ لَا أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ فَيَقُولُ مُحَمَّدٌ جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ فَأَجَبْنَاهُ وَآمَنَّا فَيُقَالُ نَمْ صَالِحًا عَلِمْنَا أَنَّكَ مُوقِنٌ وَأَمَّا الْمُنَافِقُ أَوْ الْمُرْتَابُ لَا أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ فَيَقُولُ لَا أَدْرِي سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ

7288 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ

قَوْلُهُ: بَابُ الِاقْتِدَاءِ بِسُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ قَبُولُهَا وَالْعَمَلُ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ، فَأَمَّا أَقْوَالُهُ صلى الله عليه وسلم فَتَشْتَمِلُ عَلَى أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَإِخْبَارٍ، وَسَيَأْتِي حُكْمُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ، وَأَمَّا أَفْعَالُهُ فَتَأْتِي أَيْضًا فِي بَابٍ مُفْرَدٍ قَرِيبًا.

قَوْلُهُ: وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} قَالَ أَئِمَّةً نَقْتَدِي بِمَنْ قَبْلَنَا وَيَقْتَدِي بِنَا مَنْ بَعْدَنَا) كَذَا لِلْجَمِيعِ بِإِبْهَامِ الْقَائِلِ، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ مُجَاهِدٍ أَخْرَجَهُ الْفِرْيَابِيُّ، وَالطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِهِ بِهَذَا اللَّفْظِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ أَيْضًا، قَالَ يَقُولُ: اجْعَلْنَا أَئِمَّةً فِي التَّقْوَى حَتَّى نَأْتَمَّ بِمَنْ كَانَ قَبْلَنَا وَيَأْتَمَّ بِنَا مَنْ بَعْدَنَا، وَلِلطَّبَرِيِّ، وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمَعْنَى اجْعَلْنَا أَئِمَّةَ التَّقْوَى لِأَهْلِهِ يَقْتَدُونَ بِنَا لَفْظُ الطَّبَرِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ: اجْعَلْنَا أَئِمَّةَ هُدًى لِيُهْتَدَى بِنَا وَلَا تَجْعَلْنَا أَئِمَّةَ ضَلَالَةٍ لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى لِأَهْلِ السَّعَادَةِ: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} وَقَالَ لِأَهْلِ الشَّقَاوَةِ: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ}

وَرَجَّحَ الطَّبَرِيُّ أَنَّهُمْ سَأَلُوا أَنْ يَكُونُوا لِلْمُتَّقِينَ أَئِمَّةً وَلَمْ يَسْأَلُوا أَنْ يَجْعَلَ الْمُتَّقِينَ لَهُمْ أَئِمَّةً، ثُمَّ تَكَلَّمَ الطَّبَرِيُّ عَلَى إِفْرَادِ إِمَامًا مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ جَمَاعَةٌ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ الْإِمَامَ اسْمُ جِنْسٍ فَيَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَ فَمَا فَوْقَهُ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} أَيْ قَادَةً فِي الْخَيْرِ وَدُعَاةَ هُدًى يُؤْتَمُّ بِنَا فِي الْخَيْرِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ: لَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ نَؤُمَّ النَّاسَ، وَإِنَّمَا أَرَادُوا: اجْعَلْنَا أَئِمَّةً لَهُمْ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ يَقْتَدُونَ بِنَا فِيهِ، وَمِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ مَعْنَاهُ اجْعَلْنِي رِضًا فَإِذَا قُلْتُ صَدَّقُونِي وَقَبِلُوا مِنِّي.

(تَنْبِيهٌ):

اقْتَصَرَ شَيْخُنَا ابْنُ الْمُلَقِّنِ فِي شَرْحِهِ تَبَعًا لِمَنْ تَقَدَّمَهُ عَلَى عَزْوِ التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَلَمْ أَرَ لَهُ عَنْهُ سَنَدًا، وَالثَّانِي لِلضَّحَّاكِ وَقَدْ صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَنَقَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا عَنْ أَبِي صَالِحٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَوْذَبٍ.

قَوْلُهُ: وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ (ثَلَاثٌ أُحِبُّهُنَّ لِنَفْسِي إِلَخْ) وَصَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ

ص: 251

نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ وَالْجَوْزَقِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ:، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا سَلِيمُ بْنُ أَخْضَرَ سَمِعْتُ ابْنَ عَوْنٍ يَقُولُ - غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَا مَرَّتَيْنِ وَلَا ثَلَاثٍ -: ثَلَاثٌ أُحِبُّهُنَّ لِنَفْسِي. الْحَدِيثَ. وَوَصَلَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ اللَّالَكَائِيُّ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ مِنْ طَرِيقِ الْقُعْنَبِيِّ سَمِعْتُ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ يَقُولُ: قَالَ ابْنُ عَوْنٍ.

قَوْلُهُ: وَلِإِخْوَانِي) فِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ: وَلِأَصْحَابِي.

قَوْلُهُ (هَذِهِ السُّنَّةُ) أَشَارَ إِلَى طَرِيقَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِشَارَةً نَوْعِيَّةً لَا شَخْصِيَّةً، وَقَوْلُهُ أَنْ يَتَعَلَّمُوهَا وَيَسْأَلُوا عَنْهَا فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى هَذَا الْأَثَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَتْبَعُهُ وَيَعْمَلُ بِمَا فِيهِ.

قَوْلُهُ: وَالْقُرْآنُ أَنْ يَتَفَهَّمُوهُ وَيَسْأَلُوا النَّاسَ عَنْهُ) فِي رِوَايَةِ يَحْيَى فَيَتَدَبَّرُوهُ بَدَلَ فَيَتَفَهَّمُوهُ وَهُوَ الْمُرَادُ.

قَوْلُهُ (وَيَدَعُوا النَّاسَ إِلَّا مِنْ خَيْرٍ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِفَتْحِ الدَّالِ مِنْ يَدَعُوا، وَهُوَ مِنَ الْوَدْعِ بِمَعْنَى التَّرْكِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِسُكُونِ الدَّالِ مِنَ الدُّعَاءِ، وَكَذَا هُوَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ أَنَّ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى وَرَجُلٌ أَقْبَلَ عَلَى نَفْسِهِ وَلَهَا عَنِ النَّاسِ، إِلَّا مِنْ خَيْرٍ لِأَنَّ فِي تَرْكِ الشَّرِّ خَيْرًا كَثِيرًا. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: قَالَ فِي الْقُرْآنِ: يَتَفَهَّمُوهُ، وَفِي السُّنَّةِ: يَتَعَلَّمُوهَا؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْمُسْلِمَ يَتَعَلَّمُ الْقُرْآنَ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الْوَصِيَّةِ بِتَعَلُّمِهِ، فَلِهَذَا أَوْصَى بِتَفَهُّمِ مَعْنَاهُ وَإِدْرَاكِ مَنْطُوقِهِ انْتَهَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ أَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ جُمِعَ بَيْنَ دَفَّتَيِ الْمُصْحَفِ وَلَمْ تَكُنِ السُّنَّةُ يَوْمئِذٍ جُمِعَتْ، فَأَرَادَ بِتَعَلُّمِهَا جَمْعَهَا لِيَتَمَكَّنَ مِنْ تَفَهُّمِهَا، بِخِلَافِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ مَجْمُوعٌ فَلْيُبَادَرْ لِتَفَهُّمِهِ.

ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ حَدِيثًا:

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ) بِمُوَحَّدَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ هُوَ الْبَاهِلِيُّ، بَصْرِيٌّ يُكْنَى أَبَا عُثْمَانَ مِنْ طَبَقَةِ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ هُوَ ابْنُ مَهْدِيٍّ، وسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ، ووَاصِلٌ هُوَ ابْنُ حِبَّانَ وَتَقَدَّمَ تَصْرِيحُ الثَّوْرِيِّ عَنْهُ بِالتَّحْدِيثِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ وَأَبُو وَائِلٍ هُوَ شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ.

قَوْلُهُ: جَلَسْتُ إِلَى شَيْبَةَ) هُوَ ابْنُ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ الْعَبْدَرِيُّ حَاجِبُ الْكَعْبَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ نَسَبُهُ عِنْدَ شَرْحِ حَدِيثِهِ فِي بَابِ كِسْوَةِ الْكَعْبَةِ مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ وَلَيْسَ لَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَحْدَهُ.

قَوْلُهُ (أَنْ لَا أَدْعَ فِيهَا) الضَّمِيرُ لِلْكَعْبَةِ - وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ - لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَسْجِدِ فِي قَوْلِ أَبِي وَائِلٍ جَلَسْتُ إِلَى شَيْبَةَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ نَفْسِ الْكَعْبَةِ، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَيْهَا. فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ الْحَجِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى كُرْسِيٍّ فِي الْكَعْبَةِ أَيْ عِنْدَ بَابِهَا كَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْحَجَبَةِ.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَرَادَ عُمَرُ قِسْمَةَ الْمَالِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ فَلَمَّا ذَكَّرَهُ شَيْبَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ بَعْدَهُ لَمْ يَتَعَرَّضَا لَهُ لَمْ يَسَعْهُ خِلَافُهُمَا، وَرَأَى أَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِهِمَا وَاجِبٌ.

قُلْتُ: وَتَمَامُهُ أَنَّ تَقْرِيرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ حُكْمِهِ بِاسْتِمْرَارِ مَا تَرَكَ تَغْيِيرَهُ، فَيَجِبُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي ذَلِكَ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى وَاتَّبِعُوهُ وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَدَلَّ عَدَمُ تَعَرُّضِهِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا مِنْ فِعْلِهِ مَا يُعَارِضُ التَّقْرِيرَ الْمَذْكُورَ، وَلَوْ ظَهَرَ لَهُ لَفَعَلَهُ؛ لَا سِيَّمَا مَعَ احْتِيَاجِهِ لِلْمَالِ لِقِلَّتِهِ فِي مُدَّتِهِ، فَيَكُونُ عُمَرُ مَعَ وُجُودِ كَثْرَةِ الْمَالِ فِي أَيَّامِهِ أَوْلَى بِعَدَمِ التَّعَرُّضِ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ حُذَيْفَةَ فِي الْأَمَانَةِ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ) هُوَ الْجَمَلِيُّ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ ومُرَّةُ شَيْخُهُ هُوَ ابْنُ شَرَاحِيلَ، وَيُقَالُ لَهُ مُرَّةُ الطَّيِّبِ بِالتَّشْدِيدِ وَهُوَ الْهَمْدَانِيُّ بِسُكُونِ الْمِيمِ، وَلَيْسَ هُوَ وَالِدُ عَمْرٍو الرَّاوِي عَنْهُ.

قَوْلُهُ: وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ) بِفَتْحِ الْهَاءِ وَسُكُونِ الدَّالِّ لِلْأَكْثَرِ، ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِضَمِّ الْهَاءِ مَقْصُورٌ، وَمَعْنَى الْأَوَّلِ الْهَيْئَةُ وَالطَّرِيقَةُ، وَالثَّانِي ضِدُّ الضَّلَالِ.

قَوْلُهُ: وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا إِلَخْ) تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ وَذَكَرْتُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبُخَارِيَّ اخْتَصَرَهُ هُنَاكَ، وَمِمَّا أُنَبِّهُ عَلَيْهِ هُنَا قَبْلَ شَرْحِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ أَنَّ ظَاهِرَ سِيَاقِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، لَكِنَّ الْقَدْرَ الَّذِي لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ مِنْهُ قَوْلُهُ وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ فِيهِ إِخْبَارًا عَنْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ أَحَدُ

ص: 252

أَقْسَامِ الْمَرْفُوعِ، وَقَلَّ مَنْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ كَالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ لِتَخْرِيجِ الْمُصَنِّفِينَ الْمُقْتَصِرِينَ عَلَى الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي شَمَائِلِهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ أَكْثَرَهَا يَتَعَلَّقُ بِصِفَةِ خَلْقِهِ وَذَاتِهِ كَوَجْهِهِ وَشَعْرِهِ، وَكَذَا بِصِفَةِ خُلُقِهِ كَحِلْمِهِ وَصَفْحِهِ، وَهَذَا مُنْدَرِجٌ فِي ذَلِكَ مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ جَاءَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مُصَرَّحًا فِيهِ بِالرَّفْعِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ لَكِنْ لَيْسَ هُوَ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا أَيْضًا بِزِيَادَةٍ فِيهِ، وَلَيْسَ هُوَ عَلَى شَرْطِهِ أَيْضًا، وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ فِي بَابِ الْهَدْيِ الصَّالِحِ، وَالْمُحْدَثَاتُ بِفَتْحِ الدَّالِّ جَمْعُ مُحْدَثَةٍ. وَالْمُرَادُ بِهَا: مَا أُحْدِثَ، وَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ، وَيُسَمَّى فِي عُرْفِ الشَّرْعِ بِدْعَةً.

وَمَا كَانَ لَهُ أَصْلٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الشَّرْعُ فَلَيْسَ بِبِدْعَةٍ، فَالْبِدْعَةُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ مَذْمُومَةٌ، بِخِلَافِ اللُّغَةِ فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ أُحْدِثَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ يُسَمَّى بِدْعَةً سَوَاءٌ كَانَ مَحْمُودًا أَوْ مَذْمُومًا، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْمُحْدَثَةِ وَفِي الْأَمْرِ الْمُحْدَثِ الَّذِي وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ وَمَضَى بَيَانُ ذَلِكَ قَرِيبًا فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الْمُشَارِ إِلَيْهِ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَفِي حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَهُوَ حَدِيثٌ، أَوَّلُهُ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَوْعِظَةً بَلِيغَةً فَذَكَرَهُ. وَفِيهِ هَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الْمَعْنَى قَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُشَارِ إِلَيْهِ وَهُوَ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ الْبِدْعَةُ بِدْعَتَانِ: مَحْمُودَةٌ وَمَذْمُومَةٌ، فَمَا وَافَقَ السُّنَّةَ فَهُوَ مَحْمُودٌ وَمَا خَالَفَهَا فَهُوَ مَذْمُومٌ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ بِمَعْنَاهُ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْجُنَيْدِ، عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَجَاءَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي مَنَاقِبِهِ قَالَ الْمُحْدَثَاتُ ضَرْبَانِ مَا أُحْدِثُ يُخَالِفُ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً أَوْ أَثَرًا أَوْ إِجْمَاعًا فَهَذِهِ بِدْعَةُ الضَّلَالِ، وَمَا أُحْدِثُ مِنَ الْخَيْرِ لَا يُخَالِفُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَهَذِهِ مُحْدَثَةٌ غَيْرُ مَذْمُومَةٍ انْتَهَى.

وَقَسَّمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْبِدْعَةَ إِلَى الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ، وَهُوَ وَاضِحٌ، وَثَبَتَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: قَدْ أَصْبَحْتُمْ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَإِنَّكُمْ سَتُحْدِثُونَ وَيُحْدَثُ لَكُمْ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مُحْدَثَةً فَعَلَيْكُمْ بِالْهَدْيِ الْأَوَّلِ.

فَمِمَّا حَدَثَ: تَدْوِينُ الْحَدِيثِ، ثُمَّ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ، ثُمَّ تَدْوِينُ الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ الْمُوَلَّدَةِ عَنِ الرَّأْيِ الْمَحْضِ، ثُمَّ تَدْوِينُ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَعْمَالِ الْقُلُوبِ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَأَنْكَرَهُ عُمَرُ، وَأَبُو مُوسَى وَطَائِفَةٌ، وَرَخَّصَ فِيهِ الْأَكْثَرُونَ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَأَنْكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ كَالشَّعْبِيِّ. وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَأَنْكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَطَائِفَةٌ يَسِيرَةٌ، وَكَذَا اشْتَدَّ إِنْكَارُ أَحْمَدَ لِلَّذِي بَعْدَهُ.

وَمِمَّا حَدَثَ أَيْضًا: تَدْوِينُ الْقَوْلِ فِي أُصُولِ الدِّيَانَاتِ، فَتَصَدَّى لَهَا الْمُثْبِتَةُ وَالنُّفَاةُ، فَبَالَغَ الْأَوَّلُ حَتَّى شَبَّهَ، وَبَالَغَ الثَّانِي حَتَّى عَطَّلَ. وَاشْتَدَّ إِنْكَارُ السَّلَفِ لِذَلِكَ كَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَكَلَامُهُمْ فِي ذَمِّ أَهْلِ الْكَلَامِ مَشْهُورٌ. وَسَبَبُهُ أَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا فِيمَا سَكَتَ عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ، وَثَبَتَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ شَيْءٌ مِنَ الْأَهْوَاءِ - يَعْنِي بِدَعَ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَالْقَدَرِيَّةِ -. وَقَدْ تَوَسَّعَ مَنْ تَأَخَّرَ عَنِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْفَاضِلَةِ فِي غَالِبِ الْأُمُورِ الَّتِي أَنْكَرَهَا أَئِمَّةُ التَّابِعِينَ وَأَتْبَاعُهُمْ، وَلَمْ يَقْتَنِعُوا بِذَلِكَ حَتَّى مَزَجُوا مَسَائِلَ الدِّيَانَةِ بِكَلَامِ الْيُونَانِ، وَجَعَلُوا كَلَامَ الْفَلَاسِفَةِ أَصْلًا يَرُدُّونَ إِلَيْهِ مَا خَالَفَهُ مِنَ الْآثَارِ بِالتَّأْوِيلِ وَلَوْ كَانَ مُسْتَكْرَهًا، ثُمَّ لَمْ يَكْتَفُوا بِذَلِكَ حَتَّى زَعَمُوا أَنَّ الَّذِي رَتَّبُوهُ هُوَ أَشْرَفُ الْعُلُومِ وَأَوْلَاهَا بِالتَّحْصِيلِ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَسْتَعْمِلْ مَا اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ فَهُوَ عَامِّيٌّ جَاهِلٌ. فَالسَّعِيدُ مَنْ تَمَسَّكَ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَاجْتَنَبَ مَا أَحْدَثَهُ الْخَلَفُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهُ بُدٌّ فَلْيَكْتَفِ مِنْهُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَيَجْعَلَ الْأَوَّلَ الْمَقْصُودَ بِالْأَصَالَةِ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ غُضَيْفِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: بَعَثَ إِلَيَّ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ فَقَالَ: إِنَّا قَدْ جَمَعْنَا النَّاسَ عَلَى رَفْعِ الْأَيْدِي عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ،

ص: 253

وَعَلَى الْقَصَصِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ، فَقَالَ: أَمَا إِنَّهُمَا أَمْثَلُ بِدَعِكُمْ عِنْدِي، وَلَسْتُ بِمُجِيبِكُمْ إِلَى شَيْءٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا أَحْدَثَ قَوْمٌ بِدْعَةً إِلَّا رُفِعَ مِنَ السُّنَّةِ مِثْلُهَا ; فَتَمَسُّكٌ بِسَنَةٍ خَيْرٌ مِنْ إِحْدَاثِ بِدْعَةٍ، انْتَهَى.

وَإِذَا كَانَ هَذَا جَوَابُ هَذَا الصَّحَابِيِّ فِي أَمْرٍ لَهُ أَصْلٌ فِي السُّنَّةِ فَمَا ظَنُّكَ بِمَا لَا أَصْلَ لَهُ فِيهَا؟ فَكَيْفَ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَى مَا يُخَالِفُهَا؟ وَقَدْ مَضَى فِي كِتَابِ الْعِلْمِ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يُذَكِّرُ الصَّحَابَةَ كُلَّ خَمِيسٍ لِئَلَّا يَمَلُّوا وَمَضَى فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: حَدِّثِ النَّاسَ كُلَّ جُمْعَةٍ فَإِنْ أَبَيْتَ فَمَرَّتَيْنِ، وَنَحْوُهُ وَصِيَّةُ عَائِشَةَ لِعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَالْمُرَادُ بِالْقَصَصِ التَّذْكِيرُ وَالْمَوْعِظَةُ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لَكِنْ لَمْ يَكُنْ يَجْعَلْهُ رَاتِبًا كَخُطْبَةِ الْجُمُعَةِ، بَلْ بِحَسْبِ الْحَاجَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ بَعْدَ قَوْلِهِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُحْدَثَ يُسَمَّى بِدْعَةً وَقَوْلُهُ: كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ قَاعِدَةٌ شَرْعِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ بِمَنْطُوقِهَا وَمَفْهُومِهَا، أَمَّا مَنْطُوقُهَا فَكَأَنْ يُقَالَ حُكْمُ كَذَا بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ فَلَا تَكُونُ مِنَ الشَّرْعِ لِأَنَّ الشَّرْعَ كُلَّهُ هُدًى، فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ الْحَكَمَ الْمَذْكُورَ بِدْعَةٌ صَحَّتِ الْمُقَدِّمَتَانِ، وَأَنْتَجَتَا الْمَطْلُوبَ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ مَا أُحْدِثُ وَلَا دَلِيلَ لَهُ مِنَ الشَّرْعِ بِطَرِيقٍ خَاصٍّ وَلَا عَامٍّ. وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} أَرَادَ خَتْمَ مَوْعِظَتِهِ بِشَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ يُنَاسِبُ الْحَالَ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي أَوَاخِرِ الْقَوَاعِدِ: الْبِدْعَةُ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ:

فَالْوَاجِبَةُ كَالِاشْتِغَالِ بِالنَّحْوِ الَّذِي يُفْهَمُ بِهِ كَلَامُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِأَنَّ حِفْظَ الشَّرِيعَةِ وَاجِبٌ، وَلَا يَتَأَتَّى إِلَّا بِذَلِكَ فَيَكُونُ مِنْ مُقَدَّمَةِ الْوَاجِبِ، وَكَذَا شَرْحُ الْغَرِيبِ وَتَدْوِينُ أُصُولِ الْفِقْهِ وَالتَّوَصُّلُ إِلَى تَمْيِيزِ الصَّحِيحِ وَالسَّقِيمِ.

وَالْمُحَرَّمَةُ مَا رَتَّبَهُ مَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَالْمُشَبِّهَةِ.

وَالْمَنْدُوبَةُ كُلُّ إِحْسَانٍ لَمْ يُعْهَدْ عَيْنُهُ فِي الْعَهْدِ النَّبَوِيِّ كَالِاجْتِمَاعِ عَن التَّرَاوِيحِ وَبِنَاءِ الْمَدَارِسِ وَالرُّبَطِ وَالْكَلَامِ فِي التَّصَوُّفِ الْمَحْمُودِ وَعَقْدِ مَجَالِسِ الْمُنَاظَرَةِ إِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ وَجْهُ اللَّهِ.

وَالْمُبَاحَةُ كَالْمُصَافَحَةِ عَقِبِ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ، وَالتَّوَسُّعِ فِي الْمُسْتَلَذَّاتِ مِنْ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَمَلْبَسٍ وَمَسْكَنٍ.

وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُ ذَلِكَ مَكْرُوهًا أَوْ خِلَافَ الْأَوْلَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ والْخَامِسُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ فِي قِصَّةِ الْعَسِيفِ قَالَا: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَهَذَا يُوهِمُ أَنَّ الْخِطَابَ لَهُمَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ لِوَالِدِ الْعَسِيفِ وَالَّذِي اسْتَأْجَرَهُ، لَمَّا تَحَاكَمَا بِسَبَبِ زِنَا الْعَسِيفِ بِامْرَأَةِ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ، وَالْقَدْرُ الْمَذْكُورُ هُنَا طَرَفٌ مِنَ الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَاقْتَصَرَ الْبُخَارِيُّ هُنَا عَلَيْهِ لِدُخُولِهِ فِي غَرَضِهِ مِنْ أَنَّ السُّنَّةَ يُطْلَقُ عَلَيْهَا كِتَابُ اللَّهِ لِأَنَّهَا بِوَحْيِهِ وَتَقْدِيرِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ مَعَ شَرْحِ الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْمُحَارِبِينَ الْمُتَعَلِّقِ بِبَيَانِ الْحُدُودِ.

الْحَدِيثُ السَّادِسُ: قَوْلُهُ (فُلَيْحٌ) بِالْفَاءِ وَالْمُهْمَلَةِ مُصَغَّرٌ هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ الْمَدَنِيُّ، وَشَيْخُهُ هِلَالُ بْنُ عَلِيٍّ هُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ ابْنُ أَبِي مَيْمُونَةَ.

قَوْلُهُ: كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيِ امْتَنَعَ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْعُمُومَ مُسْتَمِرٌّ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: وَمَنْ يَأْبَى؟ فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ إِسْنَادَ الِامْتِنَاعِ إِلَيْهِمْ عَنِ الدُّخُولِ مَجَازٌ عَنْ الِامْتِنَاعِ عَنْ سُنَّتِهِ وَهُوَ عِصْيَانُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْأَحْكَامِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا مَرْفُوعًا مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: لَتَدْخُلُنَّ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى وَشَرَدَ عَلَى اللَّهِ شِرَادَ الْبَعِيرِ وَسَنَدُهُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَهُ شَاهِدٌ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَسَنَدُهُ جَيِّدٌ، وَالْمَوْصُوفُ بِالْإِبَاءِ وَهُوَ الِامْتِنَاعُ إِنْ كَانَ كَافِرًا فَهُوَ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَصْلًا، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا فَالْمُرَادُ مَنْعُهُ مِنْ دُخُولِهَا مَعَ أَوَّلِ دَاخِلٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ

ص: 254

اللَّهُ تَعَالَى.

الْحَدِيثُ السَّابِعُ: قَوْلُهُ (مُحَمَّدُ بْنُ عُبَادَةَ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ، وَاسْمُ جَدِّهِ الْبَخْتَرِيُّ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقٍ، ثِقَةٌ وَاسِطِيٌّ، يُكْنَى أَبَا جَعْفَرٍ، مَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثُ وَآخَرُ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ وَهُوَ مِنَ الطَّبَقَةِ الرَّابِعَةِ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَيَزِيدُ شَيْخُهُ هُوَ ابْنُ هَارُونَ.

قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ) أَمَّا سَلِيمٌ فَبِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَزْنُ عَظِيمٍ وَأَبُوهُ بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ ثَقِيلَةٍ وَالْقَائِلُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ هُوَ مُحَمَّدٌ وَفَاعِلُ أَثْنَى هُوَ يَزِيدُ.

قَوْلُهُ: قَالَ: حَدَّثَنَا أَوْ سَمِعْتُ) الْقَائِلُ ذَلِكَ سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ وَالشَّاكُّ هُوَ سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ، شَكَّ فِي أَيِّ الصِّيغَتَيْنِ قَالَهَا شَيْخُهُ سَعِيدٌ، وَيَجُوزُ فِي جَابِرٍ أَنْ يُقْرَأَ بِالنَّصْبِ وَبِالرَّفْعِ، وَالنَّصْبُ أَوْلَى.

قَوْلُهُ (جَاءَتْ مَلَائِكَةٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى أَسْمَائِهِمْ وَلَا أَسْمَاءِ بَعْضِهِمْ، وَلَكِنْ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ الْمُعَلَّقَةِ عَقِبِ هَذَا عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ الَّذِي حَضَرَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ، وَلَفْظُهُ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ جِبْرِيلَ عِنْدَ رَأْسِي وَمِيكَائِيلَ عِنْدَ رِجْلَيَّ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ مَعَ كُلٍّ مِنْهُمَا غَيْرُهُ. وَاقْتَصَرَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَلَى مَنْ بَاشَرَ الْكَلَامَ مِنْهُمُ ابْتِدَاءً وَجَوَابًا، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَوَسَّدَ فَخِذَهُ فَرَقَدَ، وَكَانَ إِذَا نَامَ نَفَخَ ; قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا قَاعِدٌ إِذْ أَنَا بِرِجَالٍ عَلَيْهِمْ ثِيَابٌ بِيضٌ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا بِهِمْ مِنَ الْجَمَالِ، فَجَلَسَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ عِنْدَ رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَطَائِفَةٌ مِنْهُمْ عِنْدَ رِجْلَيْهِ.

قَوْلُهُ: إِنَّ لِصَاحِبِكُمْ هَذَا مَثَلًا قَالَ فَاضْرِبُوا لَهُ مَثَلًا) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَسَقَطَ لَفْظُ قَالَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ.

قَوْلُهُ: فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ نَائِمٌ إِلَى قَوْلِهِ يَقْظَانُ) قَالَ الرَّامَهُرْمُزِيُّ هَذَا تَمْثِيلٌ يُرَادُ بِهِ حَيَاةُ الْقَلْبِ وَصِحَّةُ خَوَاطِرِهِ، يُقَالُ رَجُلٌ يَقِظٌ إِذَا كَانَ ذَكِيَّ الْقَلْبِ ; وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالُوا بَيْنَهُمْ: مَا رَأَيْنَا عَبْدًا قَطُّ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ هَذَا النَّبِيُّ، إِنَّ عَيْنَيْهِ تَنَامَانِ وَقَلْبُهُ يَقْظَانُ، اضْرِبُوا لَهُ مَثَلًا، وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ: فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ اضْرِبْ لَهُ مَثَلًا، فَقَالَ اسْمَعْ سَمِعَ أُذُنُكَ وَاعْقِلْ عَقَلَ قَلْبُكَ إِنَّمَا مَثَلُكَ وَنَحْوُهُ فِي حَدِيثِ رَبِيعَةَ الْجَرْشِيِّ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، زَادَ أَحْمَدُ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالُوا اضْرِبُوا لَهُ مَثَلًا وَنُؤَوِّلُ أَوْ نَضْرِبُ وَأَوِّلُوا، وَفِيهِ لِيَعْقِلْ قَلْبُكَ.

قَوْلُهُ (مَثَلَهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا وَجَعَلَ فِيهَا مَأْدُبَةً) فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَثَلُ سَيِّدٍ بَنَى قَصْرًا وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بُنْيَانًا حَصِينًا ثُمَّ جَعَلَ مَأْدُبَةً فَدَعَا النَّاسَ إِلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ، فَمَنْ أَجَابَهُ أَكَلَ مِنْ طَعَامِهِ وَشَرِبَ مِنْ شَرَابِهِ، وَمَنْ لَمْ يُجِبْهُ عَاقَبَهُ - أَوْ قَالَ - عَذَّبَهُ وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا.

وَالْمَأْدُبَةُ بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّ الدَّالِّ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ وَحُكِيَ الْفَتْحُ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: عَنْ أَبِي عَبْدِ الْمَلِكِ الضَّمُّ وَالْفَتْحُ لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ، وَقَالَ الرَّامَهُرْمُزِيُّ نَحْوَهُ فِي حَدِيثِ الْقُرْآنُ مَأْدُبَةُ اللَّهِ قَالَ: وَقَالَ لِي أَبُو مُوسَى الْحَامِضُ: مَنْ قَالَهُ بِالضَّمِّ أَرَادَ الْوَلِيمَةَ، وَمَنْ قَالَهُ بِالْفَتْحِ أَرَادَ أَدَبَ اللَّهِ الَّذِي أَدَّبَ بِهِ عِبَادَهُ. قُلْتُ: فَعَلَى هَذَا يَتَعَيَّنُ الضَّمُّ.

قَوْلُهُ: (وَبَعَثَ دَاعِيًا) فِي رِوَايَةِ سَعِيدٍ: ثُمَّ بَعَثَ رَسُولًا يَدْعُو النَّاسَ إِلَى طَعَامِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ الرَّسُولَ وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكَهُ.

قَوْلُهُ (فَقَالَ بَعْضُهُمْ أَوِّلُوهَا لَهُ يَفْقَهْهَا) قِيلَ يُؤْخَذُ مِنْهُ حُجَّةٌ لِأَهْلِ التَّعْبِيرِ أَنَّ التَّعْبِيرَ إِذَا وَقَعَ فِي الْمَنَامِ اعْتُمِدَ عَلَيْهِ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: قَوْلُهُ أَوِّلُوهَا لَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرُّؤْيَا عَلَى مَا عُبِّرَتْ فِي النَّوْمِ انْتَهَى. وَفِيهِ نَظَرٌ لِاحْتِمَالِ الِاخْتِصَاصِ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ لِكَوْنِ الرَّائِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَالْمَرْئِيِّ الْمَلَائِكَةَ، فَلَا يَطَّرِدُ ذَلِكَ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ.

قَوْلُهُ: فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ نَائِمٌ) هَكَذَا وَقَعَ ثَالِثَ مَرَّةٍ.

قَوْلُهُ: فَقَالُوا الدَّارُ الْجَنَّةُ) أَيِ الْمُمَثَّلُ بِهَا. زَادَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ فَاللَّهُ هُوَ الْمَلِكُ وَالدَّارُ الْإِسْلَامُ وَالْبَيْتُ الْجَنَّةُ وَأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ رَسُولُ اللَّهِ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ أَحْمَدَ أَمَّا السَّيِّدُ فَهُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَأَمَّا الْبُنْيَانُ فَهُوَ الْإِسْلَامُ وَالطَّعَامُ الْجَنَّةُ، وَمُحَمَّدٌ الدَّاعِي فَمَنِ

ص: 255

اتَّبَعَهُ كَانَ فِي الْجَنَّةِ. قَوْلُهُ (فَمَنْ أَطَاعَ مُحَمَّدًا فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) أَيْ لِأَنَّهُ رَسُولُ صَاحِبِ الْمَأْدُبَةِ فَمَنْ أَجَابَهُ وَدَخَلَ فِي دَعَوْتِهِ أَكَلَ مِنَ الْمَأْدُبَةِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَوَقَعَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدٍ وَلَفْظُهُ: وَأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ رَسُولُ اللَّهِ فَمَنْ أَجَابَكَ دَخَلَ الْإِسْلَامَ، وَمَنْ دَخَلَ الْإِسْلَامَ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ أَكَلَ مَا فِيهَا.

قَوْلُهُ (وَمُحَمَّدٌ فَرَّقَ بَيْنَ النَّاسِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ فِعْلًا مَاضِيًا، وَلِغَيْرِهِ بِسُكُونِ الرَّاءِ وَالتَّنْوِينِ وَكِلَاهُمَا مُتَّجَهٌ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا التَّمْثِيلِ تَشْبِيهَ الْمُفْرَدِ بِالْمُفْرَدِ، بَلْ تَشْبِيهَ الْمُرَكَّبِ بِالْمُرَكَّبِ، مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ مُطَابَقَةِ الْمُفْرَدَاتِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ انْتَهَى. وَقَدْ وَقَعَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الطَّرِيقِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُطَابَقَةِ الْمَذْكُورَةِ، زَادَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ قَالَ: سَمِعْتُ مَا قَالَ هَؤُلَاءِ، هَلْ تَدْرِي مَنْ هُمْ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ هُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَالْمَثَلُ الَّذِي ضَرَبُوا الرَّحْمَنُ بَنَى الْجَنَّةَ وَدَعَا إِلَيْهَا عِبَادَهُ الْحَدِيثَ.

(تَنْبِيهٌ)

تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْمَنَاقِبِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سَلِيمِ بْنِ حَيَّانَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ كَرَجُلٍ بَنَى دَارًا فَأَكْمَلَهَا وَأَحْسَنَهَا إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ الْحَدِيثَ، وَهُوَ حَدِيثٌ آخَرُ وَتَمْثِيلٌ آخَرُ، فَالْحَدِيثُ الَّذِي فِي الْمَنَاقِبِ يَتَعَلَّقُ بِالنُّبُوَّةِ وَكَوْنُهُ صلى الله عليه وسلم خَاتَمَ النَّبِيِّينَ، وَهَذَا يَتَعَلَّقُ بِالدُّعَاءِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَبِأَحْوَالِ مَنْ أَجَابَ أَوِ امْتَنَعَ، وَقَدْ وَهَمَ مَنْ خَلَطَهُمَا كَأَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ فَإِنَّهُ لَمّ اضَاقَ عَلَيْهِ مَخْرَجُ حَدِيثِ الْبَابِ وَلَمْ يَجِدْهُ مَرْوِيًّا عِنْدَهُ أَوْرَدَ حَدِيثَ اللَّبِنَةِ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُمَا حَدِيثٌ وَاحِدٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا بَيَّنْتُهُ، وَسَلِمَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِدْهُ فِي مَرْوِيَّاتِهِ أَوْرَدَهُ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنِ الْفَرَبْرِيِّ بِالْإِجَازَةِ عَنِ الْبُخَارِيِّ بِسَنَدِهِ، وَقَدْ رَوَى يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ بِهَذَا السَّنَدِ حَدِيثَ اللَّبِنَةِ أَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخِ فِي كِتَابِ الْأَمْثَالِ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ سِنَانٍ الْوَاسِطِيِّ عَنْهُ، وَسَاقَ بِهَذَا السَّنَدِ حَدِيثَ مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَوْقَدَ نَارًا الْحَدِيثَ، لَكِنَّهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا عَنْ جَابِرٍ وَقَدْ ذَكَرَ الرَّامَهُرْمُزِيُّ حَدِيثَ الْبَابِ فِي كِتَابِ الْأَمْثَالِ مُعَلَّقًا فَقَالَ: وَرَوَى يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ فَسَاقَ السَّنَدَ وَلَمْ يُوصَلْ سَنَدُهُ بِيَزِيدَ وَأَوْرَدَ مَعْنَاهُ مِنْ مُرْسَلِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ.

قَوْلُهُ (تَابَعَهُ قُتَيْبَةُ، عَنْ لَيْثٍ) يَعْنِي ابْنَ سَعْدٍ (عَنْ خَالِدٍ) يَعْنِي ابْنَ يَزِيدَ وَهُوَ أَبُو عَبْدِ الرَّحِيمِ الْمِصْرِيُّ أَحَدُ الثِّقَاتِ.

قَوْلُهُ: عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَكَذَا اقْتَصَرَ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْحَدِيثِ وَظَاهِرُهُ أَنَّ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ مِثْلُهُ، وَقَدْ بَيَّنْتُ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الِاخْتِلَافِ، وَقَدْ وَصَلَهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ قُتَيْبَةَ بِهَذَا السَّنَدِ وَوَصَلَهُ أَيْضًا الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، وَأَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَبَّاسِ السَّرَّاجِ، كِلَاهُمَا عَنْ قُتَيْبَةَ وَنَسَبَ السَّرَّاجُ فِي رِوَايَتِهِ اللَّيْثَ وَشَيْخَهُ كَمَا ذَكَرْتُهُ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ تَخْرِيجِهِ: هَذَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ، سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ لَمْ يُدْرِكْ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ. قُلْتُ: وَفَائِدَةُ إِيرَادِ الْبُخَارِيِّ لَهُ رَفْعُ التَّوَهُّمِ عَمَّنْ يَظُنُّ أَنَّ طَرِيقَ سَعِيدِ بْنِ مِينَاءَ مَوْقُوفَةٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِرَفْعِ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَتَى بِهَذِهِ الطَّرِيقِ لِتَصْرِيحِهَا ; ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَجَاءَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِإِسْنَادٍ أَصَحَّ مِنْ هَذَا. قَالَ: وَفِي الْبَابِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، ثُمَّ سَاقَهُ بِسَنَدِهِ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ وَصَحَّحَهُ، وَقَدْ بَيَّنْتُ مَا فِيهِ أَيْضًا بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَوَصَفَ التِّرْمِذِيُّ لَهُ بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ: يُرِيدُ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ بَيْنَ سَعِيدٍ، وَجَابِرٍ، وَقَدِ اعْتَضَدَ هَذَا الْمُنْقَطِعُ بِحَدِيثِ رَبِيعَةَ الْجَرْشِيِّ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فَإِنَّهُ بِنَحْوِ سِيَاقِهِ وَسَنَدُهُ جَيِّدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ غَيْرُ سَعِيدِ بْنِ مِينَاءَ الَّذِي فِي السَّنَدِ الْأَوَّلِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَدَنِيٌّ لَكِنَّ ابْنَ مِينَاءَ تَابِعِيٌّ بِخِلَافِ ابْنِ أَبِي هِلَالٍ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا إِمَّا بِتَعَدُّدِ الْمَرْئِيِّ وَهُوَ وَاضِحٌ، أَوْ بِأَنَّهُ مَنَامٌ وَاحِدٌ حَفِظَ فِيهِ بَعْضُ الرُّوَاةِ مَا لَمْ يَحْفَظْ غَيْرُهُ، وَتَقَدَّمَ طَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَ اقْتِصَارِهِ عَلَى جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ فِي حَدِيثٍ وَذِكْرُهُ الْمَلَائِكَةَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فِي الْجَانِبَيْنِ الدَّالُّ عَلَى الْكَثْرَةِ فِي آخَرَ، وَظَاهِرُ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ

ص: 256

أَبِي هِلَالٍ أَنَّ الرُّؤْيَا كَانَتْ فِي بَيْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِقَوْلِهِ: خَرَجَ عَلَيْنَا فَقَالَ إِنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ أَنْ خَرَجَ إِلَى الْجِنِّ فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ أَغْفَى عِنْدَ الصُّبْحِ فَجَاءُوا إِلَيْهِ حِينَئِذٍ، وَيُجْمَعُ بِأَنَّ الرُّؤْيَا كَانَتْ عَلَى مَا وَصَفَ ابْنُ مَسْعُودٍ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ خَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَصَّهَا، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَلَيْسَ بَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ إِذْ وَصَفَ الْمَلَائِكَةَ بِرِجَالٍ حِسَانٍ، يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُمْ تَشَكَّلُوا بِصُورَةِ الرِّجَالِ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَ أَوَّلِ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ لَكِنْ لَمْ يُسَمِّ الْمَلَكَيْنِ، وَسَاقَ الْمَثَلَ عَلَى غَيْرِ سِيَاقِ مَنْ تَقَدَّمَ قَالَ: إِنَّ مَثَلَ هَذَا وَمَثَلَ أُمَّتِهِ كَمَثَلِ قَوْمٍ سَفْرٍ

انْتَهَوْا إِلَى رَأْسِ مَفَازَةٍ فَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ مِنَ الزَّادِ مَا يَقْطَعُونَ بِهِ الْمَفَازَةَ وَلَا مَا يَرْجِعُونَ بِهِ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أَتَاهُمْ رَجُلٌ فَقَالَ أَرَأَيْتُمْ إِنْ وَرَدْتُ بِكُمْ رِيَاضًا مُعْشِبَةً وَحِيَاضًا رُوَاءً، أَتَتَّبِعُونِي؟ قَالُوا: نَعَمْ ; فَانْطَلَقَ بِهِمْ فَأَوْرَدَهُمْ، فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا وَسَمِنُوا، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ رِيَاضًا هِيَ أَعْشَبُ مِنْ هَذِهِ، وَحِيَاضًا أَرْوَى مِنْ هَذِهِ فَاتَّبِعُونِي، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: صَدَقَ وَاللَّهِ لَنَتَّبِعَنَّهُ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: قَدْ رَضِينَا بِهَذَا، نُقِيمُ عَلَيْهِ وَهَذَا إِنْ كَانَ مَحْفُوظًا قَوِيَ الْحَمْلُ عَلَى التَّعَدُّدِ إِمَّا لِلْمَنَامِ وَإِمَّا لِضَرْبِ الْمَثَلِ، وَلَكِنَّ عَلِيَّ بْنَ زَيْدٍ ضَعِيفٌ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِنَّ الْمَقْصُودَ الْمَأْدُبَةُ وَهُوَ مَا يُؤْكَلُ وَيُشْرَبُ فَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الصُّوفِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا مَطْلُوبَ فِي الْجَنَّةِ إِلَّا الْوِصَالَ، وَالْحَقُّ أَنْ لَا وِصَالَ لَنَا إِلَّا بِانْقِضَاءِ الشَّهَوَاتِ الْجُثْمَانِيَّةِ وَالنَّفْسَانِيَّةِ وَالْمَحْسُوسَةِ وَالْمَعْقُولَةِ، وَجِمَاعُ ذَلِكَ كُلِّهُ فِي الْجَنَّةِ انْتَهَى. وَلَيْسَ مَا ادَّعَاهُ مِنَ الرَّدِّ بِوَاضِحٍ، قَالَ وَفِيهِ مَنْ أَجَابَ الدَّعْوَةَ أُكْرِمَ وَمَنْ لَمْ يُجِبْهَا أُهِينَ، وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِهِمْ مَنْ دَعَوْنَاهُ فَلَمْ يُجِبْنَا فَلَهُ الْفَضْلُ عَلَيْنَا فَإِنْ أَجَابَنَا فَلَنَا الْفَضْلُ عَلَيْهِ. فَإِنَّهُ مَقْبُولٌ فِي النَّظَرِ، وَأَمَّا حُكْمُ الْعَبْدِ مَعَ الْمَوْلَى فَهُوَ كَمَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الْحَدِيثُ.

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ: قَوْلُهُ (سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ هُوَ النَّخَعِيُّ وَهَمَّامٌ هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ، وَرِجَالُ السَّنَدِ كُلُّهُمْ كُوفِيُّونَ.

قَوْلُهُ: يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ) بِضَمِّ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ مَهْمُوزٌ جَمْعُ قَارِئٍ، وَالْمُرَادُ بِهِمِ الْعُلَمَاءُ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الْعُبَّادُ، وَسَيَأْتِي إِيضَاحُهُ فِي الْحَدِيثِ الْحَادِي عَشَرَ.

قَوْلُهُ: اسْتَقِيمُوا) أَيِ اسْلُكُوا طَرِيقَ الِاسْتِقَامَةِ وَهِيَ كِنَايَةٌ عَنِ التَّمَسُّكِ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِعْلًا وَتَرْكًا، وَقَوْلُهُ فِيهِ سَبَقْتُمْ هُوَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ التِّينِ وَحَكَى غَيْرُهُ ضَمَّهُ، وَالْأَوَّلُ الْمُعْتَمَدُ زَادَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ فَإِنِ اسْتَقَمْتُمْ فَقَدْ سَبَقْتُمْ، أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ وَقَوْلُهُ: سَبْقًا بَعِيدًا أَيْ ظَاهِرًا وَوَصْفُهُ بِالْبُعْدِ لِأَنَّهُ غَايَةُ شَأْوِ السَّابِقِينَ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ خَاطَبَ بِذَلِكَ مَنْ أَدْرَكَ أَوَائِلَ الْإِسْلَامِ فَإِذَا تَمَسَّكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ سَبَقَ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ، لِأَنَّ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ إِنْ عَمِلَ بِعَمَلِهِ لَمْ يَصِلْ إِلَى مَا وَصَلَ إِلَيْهِ مِنْ سَبْقِهِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَإِلَّا فَهُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ حِسًّا وَحُكْمًا.

قَوْلُهُ: فَإِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالًا) أَيْ خَالَفْتُمُ الْأَمْرَ الْمَذْكُورَ، وَكَلَامُ حُذَيْفَةَ مُنْتَزَعٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} وَالَّذِي لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ هَذَا الْإِشَارَةُ إِلَى فَضْلِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ مَضَوْا عَلَى الِاسْتِقَامَةِ، فَاسْتَشْهَدُوا بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ عَاشُوا بَعْدَهُ عَلَى طَرِيقَتِهِ فَاسْتَشْهَدُوا أَوْ مَاتُوا عَلَى فُرُشِهِمْ.

الْحَدِيثُ التَّاسِعُ: حَدِيثُ أَبِي مُوسَى فِي النَّذِيرِ الْعُرْيَانِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ الِانْتِهَاءِ عَنِ الْمَعَاصِي مِنْ كِتَابِ الرِّقَاقِ وَبُرَيْدٌ بِمُوَحَّدَةٍ وَرَاءٍ مُصَغَّرٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، وَأَبُو بُرْدَةَ شَيْخُهُ هُوَ جَدُّهُ وَهُوَ ابْنُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ.

الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ أَبِي بَكْرٍ فِي قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ قَرِيبًا.

قَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: (قَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ) يَعْنِي يَحْيَى بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ

ص: 257

الْمِصْرِيَّ (وَعَبْدُ اللَّهِ) يَعْنِي كَاتِبَ اللَّيْثِ وَهُوَ أَبُو صَالِحٍ إِلَخْ، وَمُرَادُهُ أَنَّ قُتَيْبَةَ حَدَّثَهُ عَنِ اللَّيْثِ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ فِيهِ بِلَفْظِ لَوْ مَنَعُونِي كَذَا وَوَقَعَ هُنَا فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ كَذَا وَكَذَا وَحَدَّثَهُ بِهِ يَحْيَى، وَعَبْدُ اللَّهِ، عَنِ اللَّيْثِ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ بِلَفْظِ عَنَاقًا وَقَوْلُهُ: وَهُوَ أَصَحُّ أَيْ مِنْ رِوَايَةِ مَنْ رَوَى عِقَالًا كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ أَوْ أَبْهَمَهُ كَالَّذِي وَقَعَ هُنَا.

الْحَدِيثُ الْحَادِي عَشَرَ: قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْمِزِّيُّ وَاسْمُ أَبِي أُوَيْسٍ عَبْدُ اللَّهِ الْمَدَنِيُّ الْأَصْبَحِيُّ، وَابْنُ وَهْبٍ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ الْمِصْرِيُّ، وَيُونُسُ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ الْأَيْلِيُّ.

قَوْلُهُ (قَدِمَ عُيَيْنَةُ) بِتَحْتَانِيَّةٍ وَنُونٍ مُصَغَّرًا (ابْنُ حِصْنٍ) بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الصَّادِ الْمُهْمَلَتَيْنِ ثُمَّ نُونٍ (ابْنُ حُذَيْفَةَ بْنُ بَدْرٍ) يَعْنِي الْفَزَارِيَّ مَعْدُودٌ فِي الصَّحَابَةِ، وَكَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْصُوفًا بِالشَّجَاعَةِ وَالْجَهْلِ وَالْجَفَاءِ، وَلَهُ ذِكْرٌ فِي الْمَغَازِي ثُمَّ أَسْلَمَ فِي الْفَتْحِ وَشَهِدَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حُنَيْنًا فَأَعْطَاهُ مَعَ الْمُؤَلَّفَةِ، وَإِيَّاهُ عَنَى الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ بِقَوْلِهِ:

أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعَبِيـ

ـدِ بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ

وَلَهُ ذِكْرٌ مَعَ الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ سَيَأْتِي قَرِيبًا فِي بَابِ مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّعَمُّقِ وَلَهُ قِصَّةٌ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ حِينَ سَأَلَ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُعْطِيَهِ أَرْضًا يُقْطِعَهُ إِيَّاهَا فَمَنَعَهُ عُمَرُ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ الصَّغِيرِ وَسَمَّاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْأَحْمَقَ الْمُطَاعَ وَكَانَ عُيَيْنَةُ مِمَّنْ وَافَقَ طُلَيْحَةَ الْأَسَدِيَّ لَمَّا ادَّعَى النُّبُوَّةَ، فَلَمَّا غَلَبَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فِي قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ فَرَّ طُلَيْحَةُ وَأُسِرَ عُيَيْنَةُ، فَأُتِيَ بِهِ أَبَا بَكْرٍ فَاسْتَتَابَهُ فَتَابَ، وَكَانَ قُدُومُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ عَلَى عُمَرَ بَعْدَ أَنِ اسْتَقَامَ أَمْرُهُ وَشَهِدَ الْفُتُوحَ، وَفِيهِ مِنْ جَفَاءِ الْأَعْرَابِ شَيْءٌ.

قَوْلُهُ (عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْحُرِّ) بِلَفْظٍ ضِدِّ الْعَبْدِ، وَقَيْسٌ وَالِدُ الْحُرِّ لَمْ أَرَ لَهُ ذِكْرًا فِي الصَّحَابَةِ، وَكَأَنَّهُ مَاتَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَالْحُرُّ ذَكَرَهُ فِي الصَّحَابَةِ أَبُو عَلِيِّ بْنُ السَّكَنِ، وَابْنُ شَاهِينَ، وَفِي الْعُتْبِيَّةِ عَنْ مَالِكٍ قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْمَدِينَةَ، فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخٍ لَهُ أَعْمَى فَبَاتَ يُصَلِّي فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ فَقَالَ عُيَيْنَةُ كَانَ ابْنُ أَخِي عِنْدِي أَرْبَعِينَ سَنَّةً لَا يُطِيعنِي، فَمَا أَسْرَعَ مَا أَطَاعَ قُرَيْشًا، وَفِي هَذَا إِشْعَارٌ بِأَنَّ أَبَاهُ مَاتَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.

قَوْلُهُ (وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ) بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ السَّبَبَ بِقَوْلِهِ (وَكَانَ الْقُرَّاءُ) أَيِ الْعُلَمَاءُ الْعُبَّادُ (أَصْحَابَ مَجْلِسِ عُمَرَ) فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحُرَّ كَانَ مُتَّصِفًا بِذَلِكَ، وَتَقَدَّمَ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ ضَبْطُ قَوْلِهِ أَوْ شُبَّانًا وَأَنَّهُ بِالْوَجْهَيْنِ، وَقَوْلُهُ وَمُشَاوَرَته بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَبِفَتْحِ الْوَاوِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا.

قَوْلُهُ: هَلْ لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الْأَمِيرِ) هَذَا مِنْ جُمْلَةِ جَفَاءِ عُيَيْنَةَ إِذْ كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَنْعَتَهُ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّهُ لَا يَعْرِفُ مَنَازِلَ الْأَكَابِرِ.

قَوْلُهُ: فَتَسْتَأْذِنَ لِي عَلَيْهِ) أَيْ فِي خَلْوَةٍ، وَإِلَّا فَعُمَرُ كَانَ لَا يَحْتَجِبُ إِلَّا وَقْتَ خَلَوْتِهِ وَرَاحَتِهِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ لَهُ سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ، أَيْ حَتَّى تَجْتَمِعَ بِهِ وَحْدَكَ.

قَوْلُهُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَاسْتَأْذَنَ لِعُيَيْنَةَ) أَيِ الْحُرُّ، وَهُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ (فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ) فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ الْمَاضِيَةِ فِي آخِرِ تَفْسِيرِ الْأَعْرَافِ، فَقَالَ: هِيْ، بِكَسْرٍ ثُمَّ سُكُونٍ وَفِي بَعْضِهَا هِيهِ بِكَسْرِ الْهَاءَيْنِ بَيْنَهُمَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ، قَالَ النَّوَوِيُّ بَعْدَ أَنْ ضَبَطَهَا هَكَذَا: هِيْ، كَلِمَةٌ تُقَالُ فِي الِاسْتِزَادَةِ وَيُقَالُ بِالْهَمْزَةِ بَدَلَ الْهَاءِ الْأُولَى، وَسَبَقَ إِلَى ذَلِكَ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ فِي الدَّلَائِلِ كَمَا نَقَلَهُ صَاحِبُ الْمَشَارِقِ فَقَالَ فِي قَوْلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ إِيهًا قَوْلُهُ إِيهٍ بِهَمْزِ مَكْسُورٍ مَعَ التَّنْوِينِ كَلِمَةُ اسْتِزَادَةٍ مِنْ حَدِيثٍ لَا يُعْرَفُ، وَتَقُولُ: إِيهًا عَنَّا بِالنَّصْبِ أَيْ كُفَّ، قَالَ: وَقَالَ يَعْقُوبُ يَعْنِي ابْنَ السِّكِّيتِ تَقُولُ لِمَنِ اسْتَزَدْتَهُ، مِنْ عَمَلٍ أَوْ حَدِيثٍ إِيهٍ فَإِنْ وَصَلْتَ نَوَّنْتَ فَقُلْتَ إِيهٍ حَدِّثْنَا وَحَكَاهُ كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَزَادَ فَإِذَا قُلْتَ إِيهًا بِالنَّصْبِ

ص: 258

فَهُوَ أَمْرٌ بِالسُّكُوتِ، وَقَالَ اللَّيْثُ: قَدْ تَكُونُ كَلِمَةَ اسْتِزَادَةٍ وَقَدْ تَكُونُ كَلِمَةَ زَجْرٍ كَمَا يقَالَ: إِيهٍ عَنَّا أَيْ كُفَّ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: هِيهِ هُنَا بِكَسْرِ الْهَاءِ الْأُولَى، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِهَمْزَةٍ بَدَلَهَا وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ، تُقَالُ لِمَنْ تَسْتَزِيدُهُ، كَذَا قَالَ وَلَمْ يَضْبِطِ الْهَاءَ الثَّانِيَةَ، ثُمَّ قَالَ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ هِيَ بِحَذْفِ الْهَاءِ الثَّانِيَةِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، أَوْ هُوَ ضَمِيرٌ لِمَحْذُوفٍ أَيْ هِيَ دَاهِيَةٌ أَوِ الْقِصَّةُ هَذِهِ انْتَهَى.

وَاقْتَصَرَ شَيْخُنَا ابْنُ الْمُلَقِّنِ فِي شَرْحِهِ عَلَى قَوْلِهِ: هِيَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ بِمَعْنَى التَّهْدِيدِ لَهُ وَوَقَعَ فِي تَنْقِيحِ الزَّرْكَشِيِّ فَقَالَ هِئَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَآخِرُهُ هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ، تَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا اسْتَزَدْتَهُ هِيهِ وَإِيهٍ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ وَآخِرُهُ هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ لَا وَجْهَ لَهُ، وَلَعَلَّهُ مِنَ النَّاسِخِ أَوْ سَقَطَ مِنْ كَلَامِهِ شَيْءٌ، وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ السِّيَاقُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ الزَّجْرَ وَطَلَبَ الْكَفَّ لَا الِازْدِيَادَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي مَنَاقِبِ عُمَرَ. وَقَوْلُهُ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ هَذَا أَيْضًا مِنْ جَفَائِهِ حَيْثُ خَاطَبَهُ بِهَذِهِ الْمُخَاطَبَةِ وَقَوْلُهُ وَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الزَّايِ بَعْدَهَا لَامٌ أَيِ الْكَثِيرَ، وَأَصْلُ الْجَزْلِ مَا عَظُمَ مِنَ الْحَطَبِ.

قَوْلُهُ: وَلَا تَحْكُمُ) فِي رِوَايَةِ غَيْرِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَمَا بِالْمِيمِ بَدَلَ اللَّامِ.

قَوْلُهُ: حَتَّى هَمَّ بِأَنْ يَقَعَ بِهِ) أَيْ يَضْرِبُهُ، وَفِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي التَّفْسِيرِ حَتَّى هَمَّ بِهِ وَفِي رِوَايَةٍ فِيهِ حَتَّى هَمَّ أَنْ يُوقِعَ بِهِ.

قَوْلُهُ (فَقَالَ الْحُرُّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ) فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ الْمَذْكُورَةِ فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ فَقَالَ الْحُرُّ بْنُ قَيْسٍ. قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ الْحُرِّ، وَأَنَّهُ مَا حَضَرَ الْقِصَّةَ بَلْ حَمَلَهَا عَنْ صَاحِبِهَا وَهُوَ الْحُرُّ، وَعَلَى هَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ يُتَرْجَمَ لِلْحُرِّ فِي رِجَالِ الْبُخَارِيِّ وَلَمْ أَرَ مَنْ فَعَلَهُ.

قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ لِنَبِيِّهِ) فَذَكَرَ الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّ هَذَا مِنَ الْجَاهِلِينَ، أَيْ فَأَعْرِضْ عَنْهُ.

قَوْلُهُ: فَوَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا) هُوَ كَلَامُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَا أَظُنُّ، وَجَزَمَ شَيْخُنَا ابْنُ الْمُلَقِّنِ بِأَنَّهُ كَلَامُ الْحُرِّ، وَهُوَ مُحْتَمِلٌ. وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ الْمُشَارُ إِلَيْهَا، وَمَعْنَى مَا جَاوَزَهَا مَا عَمِلَ بِغَيْرِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ بَلْ عَمِلَ بِمُقْتَضَاهَا وَلِذَلِكَ قَالَ وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ أَيْ يَعْمَلُ بِمَا فِيهِ وَلَا يَتَجَاوَزُهُ، وَفِي هَذَا تَقْوِيَةٌ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَكْثَرُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ، قَالَ الطَّبَرِيُّ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ أَقْوَالَ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْقِتَالِ، وَالْأَوْلَى بِالصَّوَابِ أَنَّهَا غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ لِأَنَّ اللَّهَ أَتْبَعَ ذَلِكَ تَعْلِيمَهُ نَبِيَّهُ مُحَاجَّةَ الْمُشْرِكِينَ وَلَا دَلَالَةَ عَلَى النَّسْخِ، فَكَأَنَّهَا نَزَلَتْ لِتَعْرِيفِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِشْرَةَ مَنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِقِتَالِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَوْ أُرِيدَ بِهِ تَعْلِيمُ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمْرُهُمْ بِأَخْذِ الْعَفْوِ مِنْ أَخْلَاقِهِمْ فَيَكُونُ تَعْلِيمًا مِنَ اللَّهِ لِخَلْقِهِ صِفَةَ عِشْرَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا فِيمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، فَأَمَّا الْوَاجِبُ فَلَا بُدَّ مِنْ عَمَلِهِ فِعْلًا أَوْ تَرْكًا انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَقَالَ الرَّاغِبُ خُذِ الْعَفْوَ مَعْنَاهُ خُذْ مَا سَهُلَ تَنَاوُلُهُ، وَقِيلَ تَعَاطَ الْعَفْوَ مَعَ النَّاسِ، وَالْمَعْنَى خُذْ مَا عُفِيَ لَكَ مِنْ أَفْعَالِ النَّاسِ وَأَخْلَاقِهِمْ وَسَهُلَ مِنْ غَيْرِ كُلْفَةٍ وَلَا تَطْلُبْ مِنْهُمُ الْجَهْدَ وَمَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَنْفِرُوا، وَهُوَ كَحَدِيثِ يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

خُذِي الْعَفْوَ مِنِّي تَسْتَدِيمِي مَوَدَّتِي

وَلَا تَنْطِقِي فِي سَوْأَتِي حِينَ أَغْضَبُ

وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَأَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ سَأَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جِبْرِيلَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَشْرَفِ أَخْلَاقِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؟ قَالُوا: وَمَا ذَاكَ؟ فَذَكَرَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ مَا مُلَخَّصُهُ: أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فَأَمَرَ أُمَّتَهُ بِنَحْوِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، وَمُحَصَّلُهُمَا الْأَمْرُ بِحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ مَعَ النَّاسِ وَبَذْلُ الْجَهْدِ

ص: 259

فِي الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ وَالْمُدَارَاةُ مَعَهُمْ وَالْإِغْضَاءُ عَنْهُمْ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى الْعُرْفِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْآيَةِ مُسْتَوْفًى فِي التَّفْسِيرِ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي عَشَرَ: قَوْلُهُ (حِينَ خَسَفَتِ الشَّمْسُ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي كَسَفَتْ وَقَوْلُهُ فَأَجَبْنَاهُ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَأَجَبْنَا وَآمَنَّا أَيْ فَأَجَبْنَا مُحَمَّدًا وَآمَنَّا بِمَا جَاءَ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ هَذَا مُسْتَوْفًى فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثَ عَشَرَ: قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْحَافِظُ أَبُو إِسْمَاعِيلَ الْهَرَوِيُّ، وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ ذَمِّ الْكَلَامِ أَنَّهُ تَفَرَّدَ بِهِ عَنْ مَالِكٍ، وَتَابَعَهُ عَلَى رِوَايَتِهِ عَنْ مَالِكٍ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ كَذَا قَالَ، وَقَدْ ذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ مَعَهُمَا إِسْحَاقَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْفَرَوِيَّ، وَعَبْدَ الْعَزِيزِ الْأُوَيْسِيَّ وَهُمَا مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَأَخْرَجَهُ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ الَّتِي لَيْسَتْ فِي الْمُوَطَّأِ مِنْ طُرُقِ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي قُرَّةَ مُوسَى بْنِ طَارِقٍ، وَمِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا فَكَمُلُوا سَبْعَةً، وَلَمْ يُخَرِّجِ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَسُفْيَانُ، وَأَبُو عَوَانَةَ مِنْ رِوَايَةِ وَرْقَاءَ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَأَبِي مَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمِنْ رِوَايَةِ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، وَمِنْ رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ، وَمِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَسَأَذْكُرُ مَا فِي رِوَايَتِهِمْ مِنْ فَائِدَةٍ زَائِدَةٍ.

قَوْلُهُ: دَعُونِي) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ ذَرُونِي وَهِيَ بِمَعْنَى دَعُونِي، وَذَكَرَ مُسْلِمٌ سَبَبَ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ فَقَالَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا، فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلُّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ، ثُمَّ قَالَ: ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مُخْتَصَرًا وَزَادَ فِيهِ فَنَزَلَتْ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} وَلَهُ شَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ فِي التَّفْسِيرِ، وَفِيهِ: لَوْ قُلْتُ نَعَمْ، لَوَجَبَتْ وَلَوْ وَجَبَتْ لَمَا اسْتَطَعْتُمْ فَاتْرُكُونِي مَا تَرَكْتُكُمُ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ} الْآيَةَ وَسَيَأْتِي بَسْطُ الْقَوْلِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالسُّؤَالِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ (مَا تَرَكْتُكُمْ) أَيْ مُدَّةَ تَرْكِي إِيَّاكُمْ بِغَيْرِ أَمْرٍ بِشَيْءٍ وَلَا نَهْيٍ عَنْ شَيْءٍ، وَإِنَّمَا غَايَرَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ لِأَنَّهُمْ أَمَاتُوا الْفِعْلَ الْمَاضِي وَاسْمَ الْفَاعِلِ مِنْهُمَا وَاسْمَ مَفْعُولِهِمَا وَأَثْبَتُوا الْفِعْلَ الْمُضَارِعَ وَهُوَ يَذَرُ وَفِعْلَ الْأَمْرِ وَهُوَ ذَرْ. وَمِثْلُهُ دَعْ وَيَدْعُ، وَلَكِنْ سُمِعَ وَدَعْ كَمَا قُرِئَ بِهِ فِي الشَّاذِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} قَرَأَ بِذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي عَبَلَةَ وَطَائِفَةٌ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:

وَنَحْنُ وَدَعْنَا آلَ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ

فَرَائِسَ أَطْرَافِ الْمُثَقَّفَةِ السمْرِ

وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّفَنُّنِ فِي الْعِبَارَةِ، وَإِلَّا لَقَالَ اتْرُكُونِي، وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْأَمْرِ تَرْكُ السُّؤَالِ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يَقَعْ؛ خَشْيَةَ أَنْ يَنْزِلَ بِهِ وُجُوبُهُ أَوْ تَحْرِيمُهُ، وَعَنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ لِمَا فِيهِ غَالِبًا مِنَ التَّعَنُّتِ؛ وَخَشْيَةَ أَنْ تَقَعَ الْإِجَابَةُ بِأَمْرٍ يُسْتَثْقَلُ، فَقَدْ يُؤَدِّي لِتَرْكِ الِامْتِثَالِ فَتَقَعَ الْمُخَالَفَةُ، قَالَ ابْنُ فَرَجٍ: مَعْنَى قَوْلِهِ ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ: لَا تُكْثِرُوا مِنَ الِاسْتِفْصَالِ عَنِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَكُونُ مُفِيدَةً لِوَجْهِ مَا ظَهَرَ وَلَوْ كَانَتْ صَالِحَةً لِغَيْرِهِ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ حُجُّوا وَإِنْ كَانَ صَالِحًا لِلتَّكْرَارِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُكْتَفَى بِمَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اللَّفْظُ وَهُوَ الْمَرَّةُ فَإِنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الزِّيَادَةِ، وَلَا تُكْثِرُوا التَّنْقِيبَ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ يُفْضِي إِلَى مِثْلِ مَا وَقَعَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، إِذْ أُمِرُوا أَنْ يَذْبَحُوا الْبَقَرَةَ، فَلَوْ ذَبَحُوا أَيَّ بَقَرَةٍ كَانَتْ لَامْتَثَلُوا،

ص: 260

وَلَكِنَّهُمْ شَدَّدُوا فَشُدِّدَ عَلَيْهِمْ، وَبِهَذَا تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ قَوْلِهِ فَإِنَّمَا هلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ إِلَى آخِرِهِ بِقَوْلِهِ ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَزَّارُ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: لَوِ اعْتَرَضَ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَدْنَى بَقَرَةٍ فَذَبَحُوهَا لَكَفَتْهُمْ، وَلَكِنْ شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَفِي السَّنَدِ عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ وَحَدِيثُهُ مِنْ قَبِيلِ الْحَسَنِ. وَأَوْرَدَهُ الطَّبَرِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا، وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ مَقْطُوعًا، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنْ لَا حُكْمَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، وَأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ عَدَمُ الْوُجُوبِ.

قَوْلُهُ (فَإِنَّمَا أَهْلَكَ) بِفَتَحَاتٍ، وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ سُؤَالَهُمْ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ أَهْلَكَ، وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أُهْلِكَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ اللَّامِ، وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ بِسُؤَالِهِمْ أَيْ بِسَبَبِ سُؤَالِهِمْ، وَقَوْلُهُ وَاخْتِلَافِهِمْ بِالرَّفْعِ وَبِالْجَرِّ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ عِنْدَ أَحْمَدَ بِلَفْظِ: فَإِنَّمَا هَلَكَ وَفِيهِ بِسُؤَالِهِمْ وَيَتَعَيَّنُ الْجَرُّ فِي وَاخْتِلَافِهِمْ وَفِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ فَإِنَّمَا هَلَكَ وَفِيهِ سُؤَالُهُمْ وَيَتَعَيَّنُ الرَّفْعُ فِي وَاخْتِلَافِهِمْ وَأَمَّا قَوْلُ النَّوَوِيِّ فِي أَرْبَعِينِهِ وَاخْتِلَافُهُمْ بِرَفْعِ الْفَاءِ لَا بِكَسْرِهَا فَإِنَّهُ بِاعْتِبَارِ الرِّوَايَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا وَهِيَ الَّتِي مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ.

قَوْلُهُ: فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ) فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ فَانْتَهُوا عَنْهُ هَكَذَا رَأَيْتُ هَذَا الْأَمْرَ عَلَى تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ وَالْمُنَاسَبَةُ فِيهِ ظَاهِرَةٌ، وَوَقَعَ فِي أَوَّلِ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ الْمُشَارِ إِلَيْهَا مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ فَاقْتَصَرَ عَلَيْهَا النَّوَوِيُّ فِي الْأَرْبَعِينَ، وَعَزَا الْحَدِيثَ لِلْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ، فَتَشَاغَلَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْأَرْبَعِينَ بِمُنَاسَبَةِ تَقْدِيمِ النَّهْيِ عَلَى مَا عَدَاهُ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ، وَأَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ هُنَا أَرْجَحُ مِنْ حَيْثُ الصِّنَاعَةُ الْحَدِيثِيَّةُ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى إِخْرَاجِ طَرِيقِ أَبِي الزِّنَادِ دُونَ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ وَإِنْ كَانَ سَنَدُ الزُّهْرِيِّ مِمَّا عُدَّ فِي أَصَحِّ الْأَسَانِيدِ، فَإِنَّ سَنَدَ أَبِي الزِّنَادِ أَيْضًا مِمَّا عُدَّ فِيهَا فَاسْتَوَيَا، وَزَادَتْ رِوَايَةُ أَبِي الزِّنَادِ اتِّفَاقَ الشَّيْخَيْنِ، وَظَنَّ الْقَاضِي تَاجُ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ أَنَّ الشَّيْخَيْنِ اتَّفَقَا عَلَى هَذَا اللَّفْظِ، فَقَالَ: بَعْدَ قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ النَّدْبَ أَيِ احْتَجَّ مَنْ قَالَ إِنَّ الْأَمْرَ لِلنَّدْبِ بِقَوْلِهِ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَقَالَ الشَّارِحُ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَلَفْظُهُمَا: وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ.

وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ لَفْظُ مُسْلِمٍ وَحْدَهُ، وَلَكِنَّهُ اغْتَرَّ بِمَا سَاقَهُ النَّوَوِيُّ فِي الْأَرْبَعِينَ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا النَّهْيَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمَنَاهِي، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا يُكْرَهُ الْمُكَلَّفُ عَلَى فِعْلِهِ كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَهَذَا عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ، وَخَالَفَ قَوْمٌ فَتَمَسَّكُوا بِالْعُمُومِ فَقَالُوا: الْإِكْرَاهُ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ لَا يُبِيحُهَا، وَالصَّحِيحُ عَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ إِذَا وُجِدَتْ صُورَةُ الْإِكْرَاهِ الْمُعْتَبَرَةُ، وَاسْتَثْنَى بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ مِنْ ذَلِكَ الزِّنَا، فَقَالَ: لَا يُتَصَوَّرُ الْإِكْرَاهُ عَلَيْهِ وَكَأَنَّهُ أَرَادَ التَّمَادِي فِيهِ، وَإِلَّا فَلَا مَانِعَ أَنْ يُنْعِظَ الرَّجُلُ بِغَيْرِ سَبَبٍ فَيُكْرَهَ عَلَى الْإِيلَاجِ حِينَئِذٍ فَيُولِجَ فِي الْأَجْنَبِيَّةِ، فَإِنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُحَالٍ، وَلَوْ فَعَلَهُ مُخْتَارًا لَكَانَ زَانِيًا فَتَصَوَّرَ الْإِكْرَاهَ عَلَى الزِّنَا، وَاسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ لَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِشَيْءٍ مُحَرَّمٍ كَالْخَمْرِ، وَلَا دَفْعُ الْعَطَشِ بِهِ، وَلَا إِسَاغَةُ لُقْمَةِ مَنْ غَصَّ بِهِ ; وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ جَوَازُ الثَّالِثِ حِفْظًا لِلنَّفْسِ فَصَارَ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ لِمَنِ اضْطُرَّ، بِخِلَافِ التَّدَاوِي فَإِنَّهُ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْهُ نَصًّا، فَفِي مُسْلِمٍ، عَنْ وَائِلٍ رَفَعَهُ أنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ، وَلِأَبِي دَاوُدَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَفَعَهُ وَلَا تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ وَلَهُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ مَرْفُوعًا إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهَا. وَأَمَّا الْعَطَشُ فَإِنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ بِشُرْبِهَا وَلِأَنَّهُ فِي مَعْنَى التَّدَاوِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْأَمْرَ بِاجْتِنَابِ الْمَنْهِيِّ عَلَى عُمُومِهِ مَا لَمْ يُعَارِضْهُ إِذْنٌ فِي ارْتِكَابِ مَنْهِيٍّ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ، وَقَالَ الْفَاكِهَانِيُّ لَا يُتَصَوَّرُ امْتِثَالُ اجْتِنَابِ الْمَنْهِيِّ حَتَّى يَتْرُكَ جَمِيعَهُ، فَلَوِ اجْتَنَبَ بَعْضَهُ لَمْ يُعَدَّ مُمْتَثِلًا بِخِلَافِ الْأَمْرِ - يَعْنِي الْمُطْلَقَ - فَإِنَّ مَنْ أَتَى بِأَقَلِّ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ كَانَ مُمْتَثِلًا انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَقَدْ أَجَابَ هُنَا

ص: 261

ابْنُ فَرَجٍ بِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْأَمْرَ، فَلَا يَكُونُ مُمْتَثِلًا لِمُقْتَضَى النَّهْيِ حَتَّى لَا يَفْعَلَ وَاحِدًا مِنْ آحَادِ مَا يَتَنَاوَلُهُ النَّهْيُ بِخِلَافِ الْأَمْرِ فَإِنَّهُ عَلَى عَكْسِهِ وَمِنْ ثَمَّ نَشَأَ الْخِلَافُ: هَلِ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، وَبِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ.

قَوْلُهُ (وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ بِأَمْرٍ، (فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أَيِ افْعَلُوا قَدْرَ اسْتِطَاعَتِكُمْ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ وَفِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ الْمُشَارِ إِلَيْهَا وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالْأَمْرِ فَائْتَمِرُوا مَا اسْتَطَعْتُمْ وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ فَافْعَلُوا قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ وَقَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ الْأَحْكَامِ كَالصَّلَاةِ لِمَنْ عَجَزَ عَنْ رُكْنٍ مِنْهَا أَوْ شَرْطٍ فَيَأْتِي بِالْمَقْدُورِ، وَكَذَا الْوُضُوءُ، وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ، وَحِفْظُ بَعْضِ الْفَاتِحَةِ، وَإِخْرَاجُ بَعْضِ زَكَاةِ الْفِطْرِ لِمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْكُلِّ، وَالْإِمْسَاكُ فِي رَمَضَانَ لِمَنْ أَفْطَرَ بِالْعُذْرِ ثُمَّ قَدَرَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَطُولُ شَرْحُهَا، وَقَالَ غَيْرُهُ: فِيهِ أَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنْ بَعْضِ الْأُمُورِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْمَقْدُورُ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّ الْمَيْسُورَ لَا يَسْقُطُ بِالْمَعْسُورِ، كَمَا لَا يَسْقُطُ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ بِالْعَجْزِ عَنْ غَيْرِهِ، وَتَصِحُّ تَوْبَةُ الْأَعْمَى عَنِ النَّظَرِ الْمُحَرَّمِ، وَالْمَجْبُوبِ عَنِ الزِّنَا، لِأَنَّ الْأَعْمَى وَالْمَجْبُوبَ قَادِرَانِ عَلَى النَّدَمِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُمَا بِعَجْزِهِمَا عَنِ الْعَزْمِ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ، إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُمَا الْعَوْدُ عَادَةً فَلَا مَعْنَى لِلْعَزْمِ عَلَى عَدَمِهِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ أُمِرَ بِشَيْءٍ فَعَجَزَ عَنْ بَعْضِهِ فَفَعَلَ الْمَقْدُورَ أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ مَا عَجَزَ عَنْهُ، وَبِذَلِكَ اسْتَدَلَّ الْمُزَنِيُّ عَلَى أَنَّ مَا وَجَبَ أَدَاؤُهُ لَا يَجِبُ قَضَاؤُهُ وَمِنْ ثَمَّ كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّ الْقَضَاءَ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ، وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا

الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ اعْتِنَاءَ الشَّرْعِ بِالْمَنْهِيَّاتِ فَوْقَ اعْتِنَائِهِ بِالْمَأْمُورَاتِ، لِأَنَّهُ أَطْلَقَ الِاجْتِنَابَ فِي الْمَنْهِيَّاتِ وَلَوْ مَعَ الْمَشَقَّةِ فِي التَّرْكِ، وَقَيَّدَ فِي الْمَأْمُورَاتِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ، وَهَذَا مَنْقُولٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الِاسْتِطَاعَةَ مُعْتَبَرَةٌ فِي النَّهْيِ أَيْضًا إِذْ {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} فَجَوَابُهُ أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ تُطْلَقُ بِاعْتِبَارَيْنِ، كَذَا قِيلَ وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ التَّقْيِيدَ فِي الْأَمْرِ بِالِاسْتِطَاعَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُدَّعَى مِنَ الِاعْتِنَاءِ بِهِ ; بَلْ هُوَ مِنْ جِهَةِ الْكَفِّ إِذْ كُلُّ أَحَدٍ قَادِرٌ عَلَى الْكَفِّ لَوْلَا دَاعِيَةُ الشَّهْوَةِ مَثَلًا، فَلَا يُتَصَوَّرُ عَدَمُ الِاسْتِطَاعَةِ عَنِ الْكَفِّ بَلْ كُلُّ مُكَلَّفٍ قَادِرٌ عَلَى التَّرْكِ، بِخِلَافِ الْفِعْلِ فَإِنَّ الْعَجْزَ عَنْ تَعَاطِيهِ مَحْسُوسٌ، فَمِنْ ثَمَّ قَيَّدَ فِي الْأَمْرِ بِحَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ دُونَ النَّهْيِ، وَعَبَّرَ الطُّوفِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِأَنَّ تَرْكَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ عِبَارَةٌ عَنِ اسْتِصْحَابِ حَالِ عَدَمِهِ أَوْ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى عَدَمِهِ، وَفِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ عِبَارَةٌ عَنْ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، وَقَدْ نُوزِعَ بِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى اسْتِصْحَابِ عَدَمِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ قَدْ تَتَخَلَّفُ، وَاسْتُدِلَّ لَهُ بِجَوَازِ أَكْلِ الْمُضْطَرِّ الْمَيْتَةَ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ النَّهْيَ فِي هَذَا عَارَضَهُ الْإِذْنُ بِالتَّنَاوُلِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ.

وَقَالَ ابْنُ فَرَجٍ فِي شَرْحِ الْأَرْبَعِينَ قَوْلُهُ فَاجْتَنِبُوهُ هُوَ عَلَى إِطْلَاقِهِ حَتَّى يُوجَدَ مَا يُبِيحُهُ، كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ جَوَازُ التَّلَفُّظِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ إِذَا كَانَ الْقَلْبُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ انْتَهَى.

وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُكَلَّفَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ لَيْسَ مَنْهِيًّا فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَأَجَابَ الْمَاوَرْدِيُّ بِأَنَّ الْكَفَّ عَنِ الْمَعَاصِي تَرْكٌ وَهُوَ سَهْلٌ، وَعَمَلَ الطَّاعَةِ فِعْلٌ وَهُوَ يَشُقُّ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُبَحِ ارْتِكَابَ الْمَعْصِيَةِ وَلَوْ مَعَ الْعُذْرِ لِأَنَّهُ تَرْكٌ، وَالتَّرْكُ لَا يَعْجِزُ الْمَعْذُورُ عَنْهُ ; وَأَبَاحَ تَرْكَ الْعَمَلِ بِالْعُذْرِ لِأَنَّ الْعَمَلَ قَدْ يَعْجِزُ الْمَعْذُورُ عَنْهُ.

وَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} يَتَنَاوَلُ امْتِثَالَ الْمَأْمُورِ وَاجْتِنَابَ الْمَنْهِيِّ، وَقَدْ قَيَّدَ بِالِاسْتِطَاعَةِ وَاسْتَوَيَا، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْحِكْمَةُ فِي تَقْيِيدِ الْحَدِيثِ بِالِاسْتِطَاعَةِ فِي جَانِبِ الْأَمْرِ دُونَ النَّهْيِ أَنَّ الْعَجْزَ يَكْثُرُ تَصَوُّرُهُ فِي الْأَمْرِ بِخِلَافِ النَّهْيِ فَإِنَّ تَصَوُّرَ الْعَجْزِ فِيهِ مَحْصُورٌ فِي الِاضْطِرَارِ.

وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}

وَالصَّحِيحُ أَنْ

ص: 262

لَا نَسْخَ، بَلِ الْمُرَادُ بِحَقِّ تُقَاتِهِ امْتِثَالُ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابُ نَهْيِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ لَا مَعَ الْعَجْزِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمَكْرُوهَ يَجِبُ اجْتِنَابُهُ لِعُمُومِ الْأَمْرِ بِاجْتِنَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَشَمَلَ الْوَاجِبَ وَالْمَنْدُوبَ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ قَوْلَهُ: فَاجْتَنِبُوهُ يُعْمَلُ بِهِ فِي الْإِيجَابِ وَالنَّدْبِ بِالِاعْتِبَارَيْنِ، وَيَجِيءُ مِثْلُ هَذَا السُّؤَالِ وَجَوَابُهُ فِي الْجَانِبِ الْآخِرِ وَهُوَ الْأَمْرُ. وَقَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: النَّهْيُ يَكُونُ تَارَةً مَعَ الْمَانِعِ مِنَ النَّقِيضِ وَهُوَ الْمُحَرَّمُ، وَتَارَةً لَا مَعَهُ وَهُوَ الْمَكْرُوهُ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَتَنَاوَلُهُمَا. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمُبَاحَ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ، لِأَنَّ التَّأْكِيدَ فِي الْفِعْلِ إِنَّمَا يُنَاسِبُ الْوَاجِبَ وَالْمَنْدُوبَ، وَكَذَا عَكْسُهُ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَنْ قَالَ الْمُبَاحُ مَأْمُورٌ بِهِ لَمْ يُرِدِ الْأَمْرَ بِمَعْنَى الطَّلَبِ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ وَهُوَ الْإِذْنُ.

وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ وَلَا عَدَمَهُ، وَقِيلَ يَقْتَضِيهِ وَقِيلَ يَتَوَقَّفُ فِيمَا زَادَ عَلَى مَرَّةٍ ; وَحَدِيثُ الْبَابِ قَدْ يُتَمَسَّكُ بِهِ لِذَلِكَ لِمَا فِي سَبَبِهِ أَنَّ السَّائِلَ قَالَ فِي الْحَجِّ: أَكُلُّ عَامٍ؟ فَلَوْ كَانَ مُطْلَقُهُ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ أَوْ عَدَمَهُ لَمْ يَح سُنِ السُّؤَالُ وَلَا الْعِنَايَةُ بِالْجَوَابِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّمَا سَأَلَ اسْتِظْهَارًا وَاحْتِيَاطًا، وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ التَّكْرَارَ إِنَّمَا احْتُمِلَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْحَجَّ فِي اللُّغَةِ قَصْدٌ فِيهِ تَكْرَارٌ فَاحْتَمَلَ عِنْدَ السَّائِلِ التَّكْرَارُ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ لَا مِنْ صِيغَةِ الْأَمْرِ، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ قَالَ بِإِيجَابِ الْعُمْرَةِ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْحَجِّ إِذَا كَانَ مَعْنَاهُ تَكْرَارَ قَصْدِ الْبَيْتِ بِحُكْمِ اللُّغَةِ وَالِاشْتِقَاقِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْإِجْمَاعِ أَنَّ الْحَجَّ لَا يَجِبُ إِلَّا مَرَّةً فَيَكُونُ الْعَوْدُ إِلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى دَالًّا عَلَى وُجُوبِ الْعُمْرَةِ.

وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَجْتَهِدُ فِي الْأَحْكَامِ؛ لِقَوْلِهِ: وَلَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ. وَأَجَابَ مَنْ مَنَعَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أُوحِيَ إِلَيْهِ ذَلِكَ فِي الْحَالِ.

وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ عَلَى الْإِبَاحَةِ حَتَّى يَثْبُتَ الْمَنْعُ مِنْ قِبَلِ الشَّارِعِ.

وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى النَّهْيِ عَنْ كَثْرَةِ الْمَسَائِلِ وَالتَّعَمُّقِ فِي ذَلِكَ، قَالَ الْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ الْمَسَائِلُ عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيمِ لِمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ فَهُوَ جَائِزٌ، بَلْ مَأْمُورٌ بِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} الْآيَةَ، وَعَلَى ذَلِكَ تَتَنَزَّلُ أَسْئِلَةُ الصَّحَابَةِ عَنِ الْأَنْفَالِ وَالْكَلَالَةِ وَغَيْرِهِمَا.

ثَانِيهُمَا: مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّعَنُّتِ وَالتَّكَلُّفِ وَهُوَ الْمُرَادُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُؤَيِّدُهُ وُرُودُ الزَّجْرِ فِي الْحَدِيثِ عَنْ ذَلِكَ وَذَمُّ السَّلَفِ، فَعِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْأُغْلُوطَاتِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: هِيَ شِدَادُ الْمَسَائِلِ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ أَيْضًا: إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَحْرِمَ عَبْدَهُ بَرَكَةَ الْعِلْمِ أَلْقَى عَلَى لِسَانِهِ الْمَغَالِيطَ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُمْ أَقَلَّ النَّاسِ عِلْمًا وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: الْمِرَاءُ فِي الْعِلْمِ يُذْهِبُ بِنُورِ الْعِلْمِ مِنْ قَلْبِ الرَّجُلِ وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ كَانَ النَّهْيُ عَنِ السُّؤَالِ فِي الْعَهْدِ النَّبَوِيِّ؛ خَشْيَةَ أَنْ يَنْزِلَ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ، فَأَمَّا بَعْدُ فَقَدْ أُمِنَ ذَلِكَ لَكِنَّ أَكْثَرَ النَّقْلِ عَنِ السَّلَفِ بِكَرَاهَةِ الْكَلَامِ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي لَمْ تَقَعْ قَالَ وَإِنَّهُ لَمَكْرُوهٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ حَرَامًا إِلَّا لِلْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُمْ فَرَّعُوا وَمَهَّدُوا فَنَفَعَ اللَّهُ مَنْ بَعْدَهُمْ بِذَلِكَ، وَلَا سِيَّمَا مَعَ ذَهَابِ الْعُلَمَاءِ وَدُرُوسِ الْعِلْمِ انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْكَرَاهَةِ لِلْعَالِمِ إِذَا شَغَلَهُ ذَلِكَ عَمَّا هُوَ أَعَمُّ مِنْهُ، وَكَانَ يَنْبَغِي تَلْخِيصُ مَا يَكْثُرُ وُقُوعُهُ مُجَرَّدًا عَمَّا يَنْدُرُ، وَلَا سِيَّمَا فِي الْمُخْتَصَرَاتِ لِيَسْهُلَ تَنَاوُلُهُ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

وَفِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى الِاشْتِغَالِ بِالْأَهَمِّ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ عَاجِلًا عَمَّا لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الْحَالِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: عَلَيْكُمْ بِفِعْلِ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي، فَاجْعَلُوا اشْتِغَالَكُمْ بِهَا عِوَضًا عَنْ الِاشْتِغَالِ بِالسُّؤَالِ عَمَّا لَمْ يَقَعْ. فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَبْحَثَ عَمَّا جَاءَ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يَجْتَهِدُ فِي تَفَهُّمِ ذَلِكَ وَالْوُقُوفِ عَلَى الْمُرَادِ بِهِ. ثُمَّ يَتَشَاغَلُ بِالْعَمَلِ بِهِ فَإِنْ كَانَ مِنَ الْعِلْمِيَّاتِ يَتَشَاغَلُ بِتَصْدِيقِهِ وَاعْتِقَادِ حَقِّيَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْعَمَلِيَّاتِ بَذَلَ وُسْعَهُ فِي الْقِيَامِ بِهِ فِعْلًا وَتَرْكًا، فَإِنْ وَجَدَ وَقْتًا زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَصْرِفَهُ فِي الِاشْتِغَالِ بِتَعَرُّفِ حُكْمٍ مَا سَيَقَعُ عَلَى قَصْدِ الْعَمَلِ بِهِ أَنْ لَوْ وَقَعَ، فَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْهِمَّةُ مَصْرُوفَةً عِنْدَ سَمَاعِ

ص: 263

الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إِلَى فَرْضِ أُمُورٍ قَدْ تَقَعُ وَقَدْ لَا تَقَعُ مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْقِيَامِ بِمُقْتَضَى مَا سَمِعَ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يَدْخُلُ فِي النَّهْيِ، فَالتَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ إِنَّمَا يُحْمَدُ إِذَا كَانَ لِلْعَمَلِ لَا لِلْمِرَاءِ وَالْجِدَالِ. وَسَيَأْتِي بَسْطُ ذَلِكَ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌3 - بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ وَمن تَكَلُّفِ مَا لَا يَعْنِيهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}

7289 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ، فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ.

7291 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ سَمِعْتُ أَبَا النَّضْرِ يُحَدِّثُ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اتَّخَذَ حُجْرَةً فِي الْمَسْجِدِ مِنْ حَصِيرٍ فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا لَيَالِيَ حَتَّى اجْتَمَعَ إِلَيْهِ نَاسٌ ثُمَّ فَقَدُوا صَوْتَهُ لَيْلَةً فَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ نَامَ فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَتَنَحْنَحُ لِيَخْرُجَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ مَا زَالَ بِكُمْ الَّذِي رَأَيْتُ مِنْ صَنِيعِكُمْ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ مَا قُمْتُمْ بِهِ فَصَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ فَإِنَّ أَفْضَلَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ

7291 -

حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَشْيَاءَ كَرِهَهَا فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ غَضِبَ وَقَالَ سَلُونِي فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَبِي قَالَ أَبُوكَ حُذَافَةُ ثُمَّ قَامَ آخَرُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَبِي فَقَالَ أَبُوكَ سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ مَا بِوَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْغَضَبِ قَالَ إِنَّا نَتُوبُ إِلَى اللَّهِ عز وجل

7292 -

حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ وَرَّادٍ كَاتِبِ الْمُغِيرَةِ قَالَ كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْمُغِيرَةِ اكْتُبْ إِلَيَّ مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَتَبَ إِلَيْهِ إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ وَكَتَبَ إِلَيْهِ إِنَّهُ كَانَ يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقُوقِ الأُمَّهَاتِ وَوَأْدِ الْبَنَاتِ وَمَنْعٍ وَهَاتِ

7293 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ فَقَالَ:

ص: 264

نُهِينَا عَنْ التَّكَلُّفِ

7294 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ ح و حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ حِينَ زَاغَتْ الشَّمْسُ فَصَلَّى الظُّهْرَ فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَذَكَرَ السَّاعَةَ وَذَكَرَ أَنَّ بَيْنَ يَدَيْهَا أُمُورًا عِظَامًا ثُمَّ قَالَ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ فَلْيَسْأَلْ عَنْهُ فَوَاللَّهِ لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي هَذَا قَالَ أَنَسٌ فَأَكْثَرَ النَّاسُ الْبُكَاءَ وَأَكْثَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقُولَ سَلُونِي فَقَالَ أَنَسٌ فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ أَيْنَ مَدْخَلِي يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ النَّارُ فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ فَقَالَ مَنْ أَبِي يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَبُوكَ حُذَافَةُ قَالَ ثُمَّ أَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ سَلُونِي سَلُونِي فَبَرَكَ عُمَرُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم رَسُولًا قَالَ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالَ عُمَرُ ذَلِكَ ثُمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ آنِفًا فِي عُرْضِ هَذَا الْحَائِطِ وَأَنَا أُصَلِّي فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ

7295 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ أَنَسٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَجُلٌ يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَنْ أَبِي قَالَ أَبُوكَ فُلَانٌ وَنَزَلَتْ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} الْآيَةَ

7296 -

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ صَبَّاحٍ حَدَّثَنَا شَبَابَةُ حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَنْ يَبْرَحَ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ حَتَّى يَقُولُوا هَذَا اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَمَنْ خَلَقَ اللَّه؟

7297 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مَيْمُونٍ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَرْثٍ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَسِيبٍ فَمَرَّ بِنَفَرٍ مِنْ الْيَهُودِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ سَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا تَسْأَلُوهُ لَا يُسْمِعُكُمْ مَا تَكْرَهُونَ فَقَامُوا إِلَيْهِ فَقَالُوا يَا أَبَا الْقَاسِمِ حَدِّثْنَا عَنْ الرُّوحِ فَقَامَ سَاعَةً يَنْظُرُ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ فَتَأَخَّرْتُ عَنْهُ حَتَّى صَعِدَ الْوَحْيُ ثُمَّ قَالَ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}

قَوْلُهُ: بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ وَتَكَلُّفِ مَا لَا يَعْنِيهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} كَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِالْآيَةِ عَلَى الْمُدَّعَى مِنَ الْكَرَاهَةِ، وَهُوَ مَصِيرٌ مِنْهُ إِلَى تَرْجِيحِ بَعْضِ مَا جَاءَ فِي تَفْسِيرِهَا، وَقَدْ

ص: 265

ذَكَرْتُ الِاخْتِلَافَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَتَرْجِيح ابْنِ الْمُنِيرِ أَنَّهُ فِي كَثْرَةِ الْمَسَائِلِ عَمَّا كَانَ وَعَمَّا لَمْ يَكُنْ، وَصَنِيعُ الْبُخَارِيِّ يَقْتَضِيهِ، وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي سَاقَهَا فِي الْبَابِ تُؤَيِّدُهُ.

وَقَدِ اشْتَدَّ إِنْكَارُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ ذَلِكَ، مِنْهُمُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فَقَالَ: اعْتَقَدَ قَوْمٌ مِنَ الْغَافِلِينَ مَنْعَ السُّؤَالِ عَنِ النَّوَازِلِ إِلَى أَنْ تَقَعَ؛ تَعَلُّقًا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهَا مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ مَا تَقَعُ الْمَسْأَلَةُ فِي جَوَابِهِ، وَمَسَائِلُ النَّوَازِلِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، انْتَهَى. وَهُوَ كَمَا قَالَ لِأَنَّ ظَاهِرَهَا اخْتِصَاصُ ذَلِكَ بِزَمَانِ نُزُولِ الْوَحْيِ ; وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ، سَعْدٍ الَّذِي صَدَّرَ بِهِ الْمُصَنِّفُ الْبَابَ مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ، فَإِنَّ مِثْلَ ذَلِكَ قَدْ أُمِنَ وُقُوعُهُ. وَيَدْخُلُ فِي مَعْنَى حَدِيثِ سَعْدٍ مَا أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ - وَقَالَ: سَنَدُهُ صَالِحٌ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ، رَفَعَهُ - مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ حَلَالٌ، وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ، فَاقْبَلُوا مِنَ اللَّهِ عَافِيَتَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ يَنْسَى شَيْئًا؟ ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ، رَفَعَهُ إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَآخَرُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.

وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَأَصْلُهُ فِي الْبُخَارِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ مِنْ طَرِيقِ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنَّا نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ شَيْءٍ، وَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ الْغَافِلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، فَيَسْأَلَهُ وَنَحْنُ نَسْمَعُ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَمَضَى فِي قِصَّةِ اللِّعَانِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا. وَلِمُسْلِمٍ عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ: أَقَمْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَنَةً بِالْمَدِينَةِ مَا يَمْنَعُنِي مِنَ الْهِجرَةِ إِلَّا الْمَسْأَلَةُ، كَانَ أَحَدُنَا إِذَا هَاجَرَ لَمْ يَسْأَلِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. وَمُرَادُهُ أَنَّهُ قَدِمَ وَافِدًا فَاسْتَمَرَّ بِتِلْكَ الصُّورَةِ لِيُحَصِّلَ الْمَسَائِلَ خَشْيَةَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ صِفَةِ الْوَفْدِ إِلَى اسْتِمْرَارِ الْإِقَامَةِ، فَيَصِيرَ مُهَاجِرًا، فَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ السُّؤَالُ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِالنَّهْيِ عَنِ السُّؤَالِ غَيْرُ الْأَعْرَابِ وُفُودًا كَانُوا أَوْ غَيْرُهُمْ، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} الْآيَةَ كُنَّا قَدِ اتَّقَيْنَا أَنْ نَسْأَلَهُ صلى الله عليه وسلم فَأَتَيْنَا أَعْرَابِيًّا فَرَشَوْنَاهُ بُرْدًا، وَقُلْنَا: سَلِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم.

وَلِأَبِي يَعْلَى عَنِ الْبَرَاءِ إِنْ كَانَ لَيَأْتِي عَلَيَّ السَّنَةُ أُرِيدَ أَنْ أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الشَّيْءِ فَأَتَهَيَّبُ، وَإِنْ كُنَّا لَنَتَمَنَّى الْأَعْرَابَ - أَيْ قُدُومَهُمْ - لِيَسْأَلُوا فَيَسْمَعُوا هُمْ أَجْوِبَةَ سُؤَالَاتِ الْأَعْرَابِ فَيَسْتَفِيدُوهَا.

وَأَمَّا مَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ مِنْ أَسْئِلَةِ الصَّحَابَةِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ النَّهْيَ فِي الْآيَةِ لَا يَتَنَاوَلُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِمَّا تَقَرَّرَ حُكْمُهُ أَوْ مَا لَهُمْ بِمَعْرِفَتِهِ حَاجَةٌ رَاهِنَةٌ، كَالسُّؤَالِ عَنِ الذَّبْحِ بِالْقَصَبِ، وَالسُّؤَالِ عَنْ وُجُوبِ طَاعَةِ الْأُمَرَاءِ إِذَا أَمَرُوا بِغَيْرِ الطَّاعَةِ، وَالسُّؤَالِ عَنْ أَحْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَا قَبْلَهَا مِنَ الْمَلَاحِمِ وَالْفِتَنِ، وَالْأَسْئِلَةِ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ كَسُؤَالِهِمْ عَنِ الْكَلَالَةِ وَالْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَالْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْيَتَامَى وَالْمَحِيضِ وَالنِّسَاءِ وَالصَّيْدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

لَكِنَّ الَّذِينَ تَعَلَّقُوا بِالْآيَةِ فِي كَرَاهِيَةِ كَثْرَةِ الْمَسَائِلِ عَمَّا لَمْ يَقَعْ، أَخَذُوهُ بِطَرِيقِ الْإِلْحَاقِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ كَثْرَةَ السُّؤَالِ لَمَّا كَانَتْ سَبَبًا لِلتَّكْلِيفِ بِمَا يَشُقُّ فَحَقُّهَا أَنْ تُجْتَنَبَ، وَقَدْ عَقَدَ الْإِمَامُ الدَّارِمِيُّ فِي أَوَائِلِ مُسْنَدِهِ لِذَلِكَ بَابًا، وَأَوْرَدَ فِيهِ عَنِ الْجَمَاعَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ آثَارًا كَثِيرَةً فِي ذَلِكَ، مِنْهَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ لَا تَسْأَلُوا عَمَّا لَمْ يَكُنْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ يَلْعَنُ السَّائِلَ عَمَّا لَمْ يَكُنْ وَعَنْ عُمَرَ أُحَرِّجُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَسْأَلُوا عَمَّا لَمْ يَكُنْ؛ فَإِنَّ لَنَا فِيمَا كَانَ شُغْلًا وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنِ الشَّيْءِ يَقُولُ: كَانَ هَذَا؟ فَإِنْ قِيلَ: لَا، قَالَ: دَعُوهُ حَتَّى يَكُونَ، وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَعَنْ عَمَّارٍ نَحْوُ ذَلِكَ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ مَرْفُوعًا، وَمِنْ

ص: 266

طَرِيقِ طَاوُسٍ، عَنْ مُعَاذٍ رَفَعَهُ لَا تُعَجِّلُوا بِالْبَلِيَّةِ قَبْلَ نُزُولِهَا، فَإِنَّكُمْ إِنْ تَفْعَلُوا لَمْ يَزَلْ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ إِذَا قَالَ سُدِّدَ أَوْ وُفِّقَ، وَإِنْ عَجَّلْتُمْ تَشَتَّتَ بِكُمُ السُّبُلُ. وَهُمَا مُرْسَلَانِ يُقَوِّي بَعْضٌ بَعْضًا. وَمِنْ وَجْهٍ ثَالِثٍ عَنْ أَشْيَاخِ الزُّبَيْرِ بْنِ سَعِيدٍ مَرْفُوعًا لَا يَزَالُ فِي أُمَّتِي مَنْ إِذَا سُئِلَ سُدِّدَ وَأُرْشِدَ حَتَّى يَتَسَاءَلُوا عَمَّا لَمْ يَنْزِلْ الْحَدِيثَ نَحْوَهُ.

قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: وَالتَّحْقِيقُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْبَحْثَ عَمَّا لَا يُوجَدُ فِيهِ نَصٌّ عَلَى قِسْمَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَبْحَثَ عَنْ دُخُولِهِ فِي دَلَالَةِ النَّصِّ عَلَى اخْتِلَافِ وُجُوهِهَا، فَهَذَا مَطْلُوبٌ لَا مَكْرُوهٌ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ فَرْضًا عَلَى مَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ.

ثَانِيهُمَا: أَنْ يُدَقِّقَ النَّظَرَ فِي وُجُوهِ الْفُرُوقِ فَيُفَرِّقَ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ بِفَرْقٍ لَيْسَ لَهُ أَثَرٌ فِي الشَّرْعِ مَعَ وُجُودِ وَصْفِ الْجَمْعِ، أَوْ بِالْعَكْسِ بِأَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ مُتَفَرِّقَيْنِ بِوَصْفٍ طَرْدِيٍّ مَثَلًا فَهَذَا الَّذِي ذَمَّهُ السَّلَفُ، وَعَلَيْهِ يَنْطَبِقُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، فَرَأَوْا أَنَّ فِيهِ تَضْيِيعَ الزَّمَانِ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَمِثْلُهُ الْإِكْثَارُ مِنَ التَّفْرِيعِ عَلَى مَسْأَلَةٍ لَا أَصْلَ لَهَا فِي الْكِتَابِ وَلَا السُّنَّةِ وَلَا الْإِجْمَاعِ، وَهِيَ نَادِرَةُ الْوُقُوعِ جِدًّا، فَيَصْرِفُ فِيهَا زَمَانًا كَانَ صَرْفُهُ فِي غَيْرِهَا أَوْلَى وَلَا سِيَّمَا إِنْ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ إِغْفَالُ التَّوَسُّعِ فِي بَيَانِ مَا يَكْثُرُ وُقُوعُهُ، وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ فِي كَثْرَةِ السُّؤَالِ، الْبَحْثُ عَنْ أُمُورٍ مُغَيَّبَةٍ وَرَدَ الشَّرْعُ بِالْإِيمَانِ بِهَا مَعَ تَرْكِ كَيْفِيَّتِهَا، وَمِنْهَا مَا لَا يَكُونُ لَهُ شَاهِدٌ فِي عَالَمِ الْحِسِّ، كَالسُّؤَالِ عَنْ وَقْتِ السَّاعَةِ وَعَنِ الرُّوحِ وَعَنْ مُدَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، إِلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِالنَّقْلِ الصِّرْفِ. وَالْكَثِيرُ مِنْهُ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ شَيْءٌ فَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ. وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ مَا يُوقِعُ كَثْرَةُ الْبَحْثِ عَنْهُ فِي الشَّكِّ وَالْحِيرَةِ، وَسَيَأْتِي مِثَالُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ لَا يَزَالُ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ حَتَّى يُقَالَ: هَذَا اللَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ. وَهُوَ ثَامِنُ أَحَادِيثِ هَذَا الْبَابِ.

وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: مِثَالُ التَّنَطُّعِ فِي السُّؤَالِ حَتَّى يُفْضِيَ بِالْمَسْئُولِ إِلَى الْجَوَابِ بِالْمَنْعِ، بَعْدَ أَنْ يُفْتَى بِالْإِذْنِ: أَنْ يَسْأَلَ عَنِ السِّلَعِ الَّتِي تُوجَدُ فِي الْأَسْوَاقِ، هَلْ يُكْرَهُ شِرَاؤُهَا مِمَّنْ هِيَ فِي يَدِهِ مِنْ قَبْلِ الْبَحْثِ عَنْ مَصِيرِهَا إِلَيْهِ أَوْ لَا؟ فَيُجِيبُهُ بِالْجَوَازِ، فَإِنْ عَادَ فَقَالَ: أَخْشَى أَنْ يَكُونَ مِنْ نَهْبٍ أَوْ غَصْبٍ، وَيَكُونُ ذَلِكَ الْوَقْتُ قَدْ وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ فَيَحْتَاجُ أَنْ يُجِيبَهُ بِالْمَنْعِ، وَيُقَيِّدُ ذَلِكَ إِنْ ثَبَتَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَرُمَ، وَإِنْ تَرَدَّدَ كُرِهَ أَوْ كَانَ خِلَافَ الْأَوْلَى، وَلَوْ سَكَتَ السَّائِلُ عَنْ هَذَا التَّنَطُّعِ لَمْ يَزِدِ الْمُفْتِي عَلَى جَوَابِهِ بِالْجَوَازِ.

وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَمَنْ يَسُدُّ بَابَ الْمَسَائِلِ حَتَّى فَاتَهُ مَعْرِفَةُ كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي يَكْثُرُ وُقُوعُهَا فَإِنَّهُ يَقِلُّ فَهْمُهُ وَعِلْمُهُ، وَمَنْ تَوَسَّعَ فِي تَفْرِيعِ الْمَسَائِلِ وَتَوْلِيدِهَا وَلَا سِيَّمَا فِيمَا يَقِلُّ وُقُوعُهُ أَوْ يَنْدُرُ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ الْحَامِلُ عَلَى ذَلِكَ الْمُبَاهَاةُ وَالْمُغَالَبَةُ، فَإِنَّهُ يُذَمُّ فِعْلُهُ وَهُوَ عَيْنُ الَّذِي كَرِهَهُ السَّلَفُ. وَمَنْ أَمْعَنَ فِي الْبَحْثِ عَنْ مَعَانِي كِتَابِ اللَّهِ، مُحَافِظًا عَلَى مَا جَاءَ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ شَاهَدُوا التَّنْزِيلَ وَحَصَّلَ مِنَ الْأَحْكَامِ مَا يُسْتَفَادُ مِنْ مَنْطُوقِهِ وَمَفْهُومِهِ، وَعَنْ مَعَانِي السُّنَّةِ وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ كَذَلِكَ مُقْتَصِرًا عَلَى مَا يَصْلُحُ لِلْحُجَّةِ مِنْهَا فَإِنَّهُ الَّذِي يُحْمَدُ وَيُنْتَفَعُ بِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ عَمَلُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ مِنَ التَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ حَتَّى حَدَثَتِ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَعَارَضَتْهَا الطَّائِفَةُ الْأُولَى، فَكَثُرَ بَيْنَهُمُ الْمِرَاءُ وَالْجِدَالُ وَتَوَلَّدَتِ الْبَغْضَاءُ وَتَسَمَّوْا خُصُومًا وَهُمْ مِنْ أَهْلِ دِينٍ وَاحِدٍ، وَالْوَاسِطُ هُوَ الْمُعْتَدِلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَإِلَى ذَلِكَ يُشِيرُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الْمَاضِي فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ يَجُرُّ إِلَى عَدَمِ الِانْقِيَادِ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ حَيْثُ تَقْسِيمُ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ.

وَأَمَّا الْعَمَلُ بِمَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالتَّشَاغُلُ بِهِ فَقَدْ وَقَعَ الْكَلَامُ فِي أَيِّهِمَا أَوْلَى، وَالْإِنْصَافُ أَنْ يُقَالَ: كُلَّمَا زَادَ عَلَى مَا هُوَ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ فَرْضُ عَيْنٍ، فَالنَّاسُ فِيهِ عَلَى قِسْمَيْنِ: مَنْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ قُوَّةً عَلَى الْفَهْمِ وَالتَّحْرِيرِ فَتَشَاغُلُهُ بِذَلِكَ أَوْلَى مِنْ إِعْرَاضِهِ عَنْهُ، وَتَشَاغُلِهِ بِالْعِبَادَةِ لِمَا فِيهِ مِنَ النَّفْعِ

ص: 267

الْمُتَعَدِّي، وَمَنْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ قُصُورًا فَإِقْبَالُهُ عَلَى الْعِبَادَةِ أَوْلَى؛ لِعُسْرِ اجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ لَوْ تَرَكَ الْعِلْمَ لَأَوْشَكَ أَنْ يُضَيِّعَ بَعْضَ الْأَحْكَامِ بِإِعْرَاضِهِ، وَالثَّانِي لَوْ أَقْبَلَ عَلَى الْعِلْمِ وَتَرَكَ الْعِبَادَةَ فَاتَهُ الْأَمْرَانِ لِعَدَمِ حُصُولِ الْأَوَّلِ لَهُ، وَإِعْرَاضِهِ بِهِ عَنِ الثَّانِي. وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

ثُمَّ الْمَذْكُورُ فِي الْبَابِ تِسْعَةُ أَحَادِيثَ: بَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِكَثْرَةِ الْمَسَائِلِ، وَبَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِتَكْلِيفِ مَا لَا يَعْنِي السَّائِلَ، وَبَعْضُهَا بِسَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ.

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ وَهُوَ يَتَعَلَّقُ بِالْقِسْمِ الثَّانِي، وَكَذَا الْحَدِيثُ الثَّانِي وَالْخَامِسُ.

قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا سَعِيدٌ) هُوَ ابْنُ أَبِي أَيُّوبَ، كَذَا وَقَعَ مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَأَبِي نُعَيْمٍ وَهُوَ الْخُزَاعِيُّ الْمِصْرِيُّ يُكْنَى أَبَا يَحْيَى، وَاسْمُ أَبِي أَيُّوبَ مِقْلَاصٌ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْقَافِ وَآخِرُهُ مُهْمَلَةٌ كَانَ سَعِيدٌ ثِقَةً ثَبْتًا، وَقَالَ ابْنُ يُونُسَ: كَانَ فَقِيهًا، وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ أَنَّهُ قَالَ فِيهِ: كَانَ فَهِمًا.

قُلْتُ: وَرِوَايَتُهُ عَنْ عَقِيلٍ - وَهُوَ ابْنُ خَالِدٍ - تَدْخُلُ فِي رِوَايَةِ الْأَقْرَانِ فَإِنَّهُ مِنْ طَبَقَتِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، وَيُونُسَ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَسَاقَهُ عَلَى لَفْظِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ ثُمَّ ابْنِ عُيَيْنَةَ.

قَوْلُهُ: عَنْ أَبِيهِ) فِي رِوَايَةِ يُونُسَ أَنَّهُ سَمِعَ سَعْدًا.

قَوْلُهُ (إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا) زَادَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ أَنَّهُ جَعَلَهُ عَظِيمًا ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ جُرْمًا لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ نَفْسَهُ جُرْمٌ، قَالَ وَقَوْلُهُ فِي الْمُسْلِمِينَ أَيْ فِي حَقِّهِمْ.

قَوْلُهُ (عَنْ شَيْءٍ) فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ أَمْرٍ.

قَوْلُهُ: لَمْ يُحَرَّمْ) زَادَ مُسْلِمٌ عَلَى النَّاسِ وَلَهُ فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ لَمْ يُحَرَّمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَهُ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ رَجُلٌ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ وَنَقَّرَ عَنْهُ وَهُوَ بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ بَعْدَهَا رَاءٌ أَيْ بَالَغَ فِي الْبَحْثِ عَنْهُ وَالِاسْتِقْصَاءِ.

قَوْلُهُ (فَحُرِّمَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، وَزَادَ مُسْلِمٌ عَلَيْهِمْ وَلَهُ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ عَلَى النَّاسِ وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الشَّيْءِ مِنَ الْأَمْرِ، فَيَسْأَلُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ حَلَالٌ، فَلَا يَزَالُونَ يَسْأَلُونَهُ عَنْهُ حَتَّى يُحَرَّمُ عَلَيْهِمْ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: عَنِ الْمُهَلَّبِ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَتَمَسَّكُ بِهِ الْقَدَرِيَّةُ فِي أَنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ أَجْلِ شَيْءٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ; فَهُوَ فَاعِلُ السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ، كُلُّ ذَلِكَ بِتَقْدِيرِهِ. وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّحْذِيرِ مِمَّا ذَكَرَ، فَعِظَمُ جُرْمِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ الْكَارِهِينَ لِفِعْلِهِ.

وَقَالَ غَيْرُهُ: أَهْلُ السُّنَّةِ لَا يُنْكِرُونَ إِمْكَانَ التَّعْلِيلِ وَإِنَّمَا يُنْكِرُونَ وُجُوبَهُ، فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُقَدَّرُ الشَّيْءَ الْفُلَانِيَّ تَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُرْمَةُ إِنْ سُئِلَ عَنْهُ فَقَدْ سَبَقَ الْقَضَاءُ بِذَلِكَ لَا أَنَّ السُّؤَالَ عِلَّةٌ لِلتَّحْرِيمِ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: قِيلَ الْجُرْمُ اللَّاحِقُ بِهِ إِلْحَاقُ الْمُسْلِمِينَ الْمَضَرَّةَ لِسُؤَالِهِ وَهِيَ مَنْعُهُمُ التَّصَرُّفَ فِيمَا كَانَ حَلَالًا قَبْلَ مَسْأَلَتِهِ، وَقَالَ عِيَاضٌ: الْمُرَادُ بِالْجُرْمِ هُنَا الْحَدَثُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لَا الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْإِثْمِ الْمُعَاقَبِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ السُّؤَالَ كَانَ مُبَاحًا، وَلِهَذَا قَالَ: سَلُونِي، وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ، فَقَالَ: هَذَا الْجَوَابُ ضَعِيفٌ، بَلْ بَاطِلٌ، وَالصَّوَابُ الَّذِي قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ، وَالتَّيْمِيُّ وَغَيْرُهُمَا، أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجُرْمِ الْإِثْمُ وَالذَّنْبُ، وَحَمَلُوهُ عَلَى مَنْ سَأَلَ تَكَلُّفًا وَتَعَنُّتًا فِيمَا لَا حَاجَةَ لَهُ بِهِ إِلَيْهِ، وَسَبَبُ تَخْصِيصِهِ ثُبُوتُ الْأَمْرِ بِالسُّؤَالِ عَمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} فَمَنْ سَأَلَ عَنْ نَازِلَةٍ وَقَعَتْ لَهُ لِضَرُورَتِهِ إِلَيْهَا فَهُوَ مَعْذُورٌ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَلَا عَتْبَ، فَكُلٌّ مِنَ الْأَمْرِ بِالسُّؤَالِ وَالزَّجْرِ عَنْهُ مَخْصُوصٌ بِجِهَةٍ غَيْرِ الْأُخْرَى.

قَالَ: وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ عَمِلَ شَيْئًا أَضَرَّ بِهِ غَيْرَهُ كَانَ آثِمًا، وَسَبَكَ مِنْهُ الْكِرْمَانِيُّ سُؤَالًا وَجَوَابًا، فَقَالَ: السُّؤَالُ لَيْسَ بِجَرِيمَةٍ، وَلَئِنْ كَانَتْ فَلَيْسَ بِكَبِيرَةٍ، وَلَئِنْ كَانَتْ فَلَيْسَ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ. وَجَوَابُهُ: أَنَّ السُّؤَالَ عَنِ الشَّيْءِ بِحَيْثُ يَصِيرُ سَبَبًا لِتَحْرِيمِ شَيْءٍ مُبَاحٍ هُوَ أَعْظَمُ الْجُرْمِ، لِأَنَّهُ صَارَ سَبَبًا لِتَضْيِيقِ الْأَمْرِ عَلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، فَالْقَتْلُ مَثَلًا كَبِيرَةٌ، وَلَكِنْ مَضَرَّتُهُ رَاجِعَةٌ إِلَى الْمَقْتُولِ وَحْدَهُ، أَوْ إِلَى مَنْ هُوَ مِنْهُ بِسَبِيلٍ، بِخِلَافِ صُورَةِ الْمَسْأَلَةِ

ص: 268

فَضَرَرُهَا عَامٌّ لِلْجَمِيعِ، وَتَلَقَّى هَذَا الْأَخِيرُ مِنَ الطِّيبِيِّ اسْتِدْلَالًا وَتَمْثِيلًا، وَيَنْبَغِي أَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ أَنَّ السُّؤَالَ الْمَذْكُورَ إِنَّمَا صَارَ كَذَلِكَ بَعْدَ ثُبُوتِ النَّهْيِ عَنْهُ. فَالْإِقْدَامُ عَلَيْهِ حَرَامٌ فَيَتَرَتَّبٌ عَلَيْهِ الْإِثْمُ وَيَتَعَدَّى ضَرَرُهُ بِعِظَمِ الْإِثْمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَيُؤَيِّدُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجَمَاعَةُ مِنْ تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنِ الْحَجِّ: أَفِي كُلِّ عَامٍ؟: لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ ثُمَّ تَرَكْتُمْ لَضَلَلْتُمْ وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عِيَاضٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَوْ تَرَكْتُمُوهُ لَكَفَرْتُمْ وَبِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مِثْلُهُ، وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِدُونِ الزِّيَادَةِ، وَإِطْلَاقُ الْكُفْرِ إِمَّا عَلَى مَنْ جَحَدَ الْوُجُوبَ فَهُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَإِمَّا عَلَى مَنْ تَرَكَ مَعَ الْإِقْرَارِ فَهُوَ عَلَى سَبِيلِ الزَّجْرِ وَالتَّغْلِيظِ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ عِظَمُ الذَّنْبِ بِحَيْثُ يَجُوزُ وَصْفُ مَنْ كَانَ السَّبَبُ فِي وُقُوعِهِ بِأَنَّهُ وَقَعَ فِي أَعْظَمِ الذُّنُوبِ، كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ حَتَّى يَرِدَ الشَّرْعُ بِخِلَافِ ذَلِكَ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ) هُوَ ابْنُ مَنْصُورٍ لِقَوْلِهِ حَدَّثَنَا عَفَّانُ ; وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ إِنَّمَا يَقُولُ أَنَا وَلِأَنَّ أَبَا نُعَيْمٍ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي خَيْثَمَةَ، عَنْ عَفَّانَ، وَلَوْ كَانَ فِي مُسْنَدِ إِسْحَاقَ لَمَا عَدَلَ عَنْهُ.

قَوْلُهُ: اتَّخَذَ حُجْرَةً) بِالرَّاءِ لِلْأَكْثَرِ وَلِلْمُسْتَمْلِي بِالزَّايِ وَهُمَا بِمَعْنًى.

قَوْلُهُ (مِنْ صَنِيعِكُمْ) فِي رِوَايَةِ السَّرَخْسِيِّ صُنْعِكُمْ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ النُّونِ وَهُمَا بِمَعْنًى، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ مَنْ شَرَحَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَ بَابِ إِيجَابِ التَّكْبِيرِ، فَذَكَرَ أَبْوَابَ صِفَةِ الصَّلَاةِ وَسَاقَهُ هُنَاكَ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ وُهَيْبٍ، وَتَقَدَّمَتْ سَائِرُ فَوَائِدِهِ فِي شَرْحِ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي مَعْنَاهُ فِي بَابِ تَرْكِ قِيَامِ اللَّيْلِ مِنْ أَبْوَابِ التَّهَجُّدِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَالَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ مَا يُفْهَمُ مِنْ إِنْكَارِهِ صلى الله عليه وسلم مَا صَنَعُوا مِنْ تَكَلُّفِ مَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ فِيهِ مِنَ التَّجْمِيعِ فِي الْمَسْجِدِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ - وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَكَذَا الرَّابِعُ وَالثَّامِنُ وَالتَّاسِعُ - حَدِ ثُ أَبِي مُوسَى قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَشْيَاءَ كَرِهَهَا، فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ غَضِبَ عُرِفَ مِنْ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ مَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْمَائِدَةِ فِي بَيَانِ الْمَسَائِلِ الْمُرَادَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} وَمِنْهَا سُؤَالُ مَنْ سَأَلَ أَيْنَ نَاقَتِي وَسُؤَالُ مَنْ سَأَلَ عَنِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ، وَسُؤَالُ مَنْ سَأَلَ عَنْ وَقْتِ السَّاعَةِ وَسُؤَالُ مَنْ سَأَلَ عَنِ الْحَجِّ أَيَجِبُ كُلَّ عَامٍ وَسُؤَالُ مَنْ سَأَلَ أَنْ يُحَوِّلَ الصَّفَا ذَهَبًا، وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ مِنْ رِوَايَةِ هِشَامٍ وَغَيْرِهِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْهُ فِي الدَّعَوَاتِ وَفِي الْفِتَنِ: سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَحْفُوهُ بِالْمَسْأَلَةِ، وَمَعْنَى أَحْفُوهُ وَهُوَ بِالْمُهْمَلَةِ وَالْفَاءِ: أَكْثَرُوا عَلَيْهِ حَتَّى جَعَلُوهُ كَالْحَافِي، يُقَالُ أَحْفَاهُ فِي السُّؤَالِ إِذَا أَلَحَّ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: وَقَالَ سَلُونِي) فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْمَذْكُورِ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا بَيَّنْتُهُ لَكُمْ، وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ عِنْدَ أَبِي حَاتِمٍ فَخَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ حَتَّى صَعِدَ الْمِنْبَرَ وَبَيَّنَ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْبَابِ وَقْتَ وُقُوعِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ صَلَّى الظُّهْرَ، وَلَفْظُهُ: خَرَجَ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ فَصَلَّى الظُّهْرَ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَذَكَرَ السَّاعَةَ. ثُمَّ قَالَ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ فَلْيَسْأَلْ عَنْهُ فَذَكَرَ نَحْوَهُ.

قَوْلُهُ: فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَبِي) بَيَّنَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ اسْمَهُ، وَفِي رِوَايَةِ قَتَادَةَ سَبَبَ سُؤَالِهِ، قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ كَانَ إِذَا لَاحَى - أَيْ خَاصَمَ - دُعِيَ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، وَذَكَرْتُ اسْمَ السَّائِلِ الثَّانِي، وَأَنَّهُ سَعْدٌ. وَإِنِّي نَقَلْتُهُ مِنْ تَرْجَمَةِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ مِنْ تَمْهِيدِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ الْآتِيَةِ بَعْدَ حَدِيثَيْنِ فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: أَيْنَ مُدْخَلِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: النَّارُ. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ هَذَا الرَّجُلِ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ، كَأَنَّهُمْ أَبْهَمُوهُ عَمْدًا لِلسَّتْرِ عَلَيْهِ، ولِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي فِرَاسٍ الْأَسْلَمِيِّ نَحْوُهُ وَزَادَ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ: فِي الْجَنَّةِ أَنَا؟ قَالَ: فِي الْجَنَّةِ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ هَذَا الْآخَرِ، وَنَقَلَ ابْنُ

ص: 269

عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: لَا يَسْأَلُنِي أَحَدٌ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَخْبَرْتُهُ، وَلَوْ سَأَلَنِي عَنْ أَبِيهِ، فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ وَذَكَرَ فِيهِ عِتَابَ أُمِّهِ لَهُ وَجَوَابَهُ. وَذَكَرَ فِيهِ فَقَامَ رَجُلٌ فَسَأَلَ عَنِ الْحَجِّ فَذَكَرَهُ، وَفِيهِ: فَقَامَ سَعْدٌ مَوْلَى شَيْبَةَ فَقَالَ: مَنْ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ أَنْتَ سَعْدُ بْنُ سَالِمٍ مَوْلَى شَيْبَةَ، وَفِيهِ: فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ فَقَالَ: أَيْنَ أَنَا؟ قَالَ فِي النَّارِ.

فَذَكَرَ قِصَّةَ عُمَرَ قَالَ: فَنَزَلَتْ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} الْآيَةَ وَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ وَبِهَذِهِ الزِّيَادَةِ يَتَّضِحُ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ سَبَبُ نُزُولِ {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} فَإِنَّ الْمُسَاءَةَ فِي حَقِّ هَذَا جَاءَتْ صَرِيحَةً، بِخِلَافِهَا فِي حَقِّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ فَإِنَّهَا بِطَرِيقِ الْجَوَازِ، أَيْ لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَمْ يَكُنْ لِأَبِيهِ فَبَيَّنَ أَبَاهُ الْحَقِيقِيَّ لَافْتَضَحَتْ أُمُّهُ، كَمَا صَرَّحَتْ بِذَلِكَ أُمُّهُ حِينَ عَاتَبَتْهُ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ.

قَوْلُهُ (فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ مَا بِوَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْغَضَبِ) بَيَّنَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ الصَّحَابَةَ كُلَّهُمْ فَهِمُوا ذَلِكَ، فَفِي رِوَايَةِ هِشَامٍ فَإِذَا كُلُّ رَجُلٍ لَافًّا رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ يَبْكِي وَزَادَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ بَيْنَ يَدَيْ أَمْرٍ قَدْ حَضَرَ وَفِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ الْمَاضِيَةِ فِي تَفْسِيرِ الْمَائِدَةِ فَغَضُّوا رُءُوسَهُمْ لَهُمْ حنِينٌ زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَمَا أَتَى عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْهُ.

قَوْلُهُ: فَقَالَ: إِنَّا نَتُوبُ إِلَى اللَّهِ عز وجل زَادَ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ فَبَرَكَ عُمَرُ عَلَى رُكْبَتِهِ فَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا وَفِي رِوَايَةِ قَتَادَةَ مِنَ الزِّيَادَةِ: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ الْفِتَنِ. وَفِي مُرْسَلِ السُّدِّيِّ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ فِي نَحْوِ هَذِهِ الْقِصَّةِ فَقَامَ إِلَيْهِ عُمَرُ فَقَبَّلَ رِجْلَهُ وَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا. فَذَكَرَ مِثْلَهُ وَزَادَ وَبِالْقُرْآنِ إِمَامًا، فَاعْفُ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى رَضِيَ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ - غَيْرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّرْجَمَةِ - مُرَاقَبَةُ الصَّحَابَةِ أَحْوَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَشِدَّةُ إِشْفَاقِهِمْ إِذَا غَضِبَ؛ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ لِأَمْرٍ يَعُمُّ فَيَعُمَّهُمْ، وَإِدْلَالُ عُمَرَ عَلَيْهِ، وَجَوَازُ تَقْبِيلِ رِجْلِ الرَّجُلِ، وَجَوَازُ الْغَضَبِ فِي الْمَوْعِظَةِ، وَبُرُوكُ الطَّالِبِ بَيْنَ يَدَيْ مَنْ يَسْتَفِيدُ مِنْهُ، وَكَذَا التَّابِعُ بَيْنَ يَدَيِ الْمَتْبُوعِ إِذَا سَأَلَهُ فِي حَاجَةٍ، وَمَشْرُوعِيَّةُ التَّعَوُّذِ مِنَ الْفِتَنِ عِنْدَ وُجُودِ شَيْءٍ قَدْ يَظْهَرُ مِنْهُ قَرِينَةُ وُقُوعِهَا، وَاسْتِعْمَالُ الْمُزَاوَجَةِ فِي الدُّعَاءِ فِي قَوْلِهِ: اعْفُ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ وَإِلَّا فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعْفُوٌّ عَنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ مَعْنَى النَّهْيِ عَنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ، فَقَالَ: مَا أَدْرِي أَنَهَى عَنِ الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ السُّؤَالِ عَنِ النَّوَازِلِ، أَوْ عَنْ مَسْأَلَةِ النَّاسِ الْمَالَ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الظَّاهِرُ الْأَوَّلُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلَا مَعْنَى لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ كَثْرَتِهِ وَقِلَّتِهِ، لَا حَيْثُ يَجُوزُ وَلَا حَيْثُ لَا يَجُوزُ. قَالَ: وَقِيلَ: كَانُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الشَّيْءِ وَيُلِحُّونَ فِيهِ إِلَى أَنْ يُحَرَّمَ، قَالَ: وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ كَثْرَةُ السُّؤَالِ عَنِ النَّوَازِلِ وَالْأُغْلُوطَاتِ وَالتَّوْلِيدَاتِ كَذَا قَالَ: وَقَدْ تَقَدَّمَ الْإِلْمَامُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ.

قَوْلُهُ: (وَكَتَبَ إِلَيْهِ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ وَهُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ أَفْرَدَ كَثِيرٌ مِنَ الرُّوَاةِ أَحَدَ الْحَدِيثَيْنِ عَنِ الْآخَرِ، وَالْغَرَضُ مِنْ إِيرَادِهِ هُنَا أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي الْمُرَادِ بِكَثْرَةِ السُّؤَالِ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ هَلْ هُوَ خَاصٌّ بِالْمَالِ أَوْ بِالْأَحْكَامِ أَوْ لِأَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ. وَالْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ، لَكِنْ فِيمَا لَيْسَ لِلسَّائِلِ بِهِ احْتِيَاجٌ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ فِي الدَّعَوَاتِ، وَالثَّانِي فِي الرِّقَاقِ.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: (قَوْلُهُ: عَنْ أَنَسٍ كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ فَقَالَ: نُهِينَا عَنِ التَّكَلُّفِ) هَكَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا. وَذَكَرَ الْحُمَيْدِيُّ أَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عُمَرَ قَرَأَ {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} فَقَالَ: مَا الْأَبُّ؟ ثُمَّ قَالَ: مَا كُلِّفْنَا - أَوْ قَالَ: مَا أُمِرْنَا -

ص: 270

بِهَذَا.

قُلْتُ: هُوَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ رِوَايَةِ هِشَامٍ، عَنْ ثَابِتٍ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ بِلَفْظِ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنْ قَوْلِهِ {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} مَا الْأَبُّ؟ فَقَالَ عُمَرُ: نُهِينَا عَنِ التَّعَمُّقِ وَالتَّكَلُّفِ وَهَذَا أَوْلَى أَنْ يُكْمَلَ بِهِ الْحَدِيثُ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَوْلَى مِنْهُ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُسْلِمٍ الْكَجِّيِّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، وَلَفْظُهُ عَنْ أَنَسٍ: كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ فِي ظَهْرِهِ أَرْبَعُ رِقَاعٍ، فَقَرَأَ:{وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} فَقَالَ: هَذِهِ الْفَاكِهَةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا، فَمَا الْأَبُّ؟ ثُمَّ قَالَ: مَهْ؟ نُهِينَا عَنِ التَّكَلُّفِ وَقَدْ أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ في تَفْسِيرِهِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ بِهَذَا السَّنَدِ مِثْلَهُ سَوَاءً، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بَدَلَ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ فَمَا الْأَبُّ، ثُمَّ قَالَ: يَا ابْنَ أُمِّ عُمَرَ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ التَّكَلُّفُ، وَمَا عَلَيْكَ أَنْ لَا تَدْرِيَ مَا الْأَبُّ؟ وَسُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ سَمِعَ مِنَ الْحَمَّادَيْنِ لَكِنَّهُ اخْتَصَّ بِحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، فَإِذَا أَطْلَقَ قَوْلَهُ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ فَهُوَ ابْنُ زَيْدٍ، وَإِذَا رَوَى عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ نَسَبَهُ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ يَقُولُ:{فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا} الْآيَةَ، إِلَى قَوْلِهِ وَأَبًّا.

قَالَ: كُلُّ هَذَا قَدْ عَرَفْنَاهُ، فَمَا الْأَبُّ؟ ثُمَّ رَمَى عَصًا كَانَتْ فِي يَدِهِ ثُمَّ قَالَ: هَذَا لَعَمْرُ اللَّهِ التَّكَلُّفُ اتَّبِعُوا مَا بُيِّنَ لَكُمْ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ فِي آخِرِهِ: اتَّبِعُوا مَا بُيِّنَ لَكُمْ فِي الْكِتَابِ وَفِي لَفْظٍ: مَا بُيِّنَ لَكُمْ فَعَلَيْكُمْ بِهِ وَمَا لَا فَدَعُوهُ وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ عُمَرَ عَنْ فَاكِهَةً وَأَبًّا، فَلَمَّا رَآهُمْ عُمَرُ يَقُولُونَ، أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِالدِّرَّةِ وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} فَقِيلَ: مَا الْأَبُّ؟ فَقِيلَ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ هَذَا لَهُوَ التَّكَلُّفُ، أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي أَوْ أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي إِذَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِمَا لَا أَعْلَمُ. وَهَذَا مُنْقَطِعٌ بَيْنَ النَّخَعِيِّ، وَالصِّدِّيقِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ سُئِلَ عَنِ الْأَبِّ مَا هُوَ؟ فَقَالَ: أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي فَذَكَرَ مِثْلَهُ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ أَيْضًا لَكِنَّ أَحَدَهُمَا يُقَوِّي الْآخَرَ، وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ مِنَ الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَرَأَ عُمَرُ {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} فَقَالَ بَعْضُهُمْ كَذَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ كَذَا، فَقَالَ عُمَرُ: دَعُونَا مِنْ هَذَا، آمَنَّا بِهِ، كُلٌّ مِنْ عِنْدَ رَبِّنَا.

وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ نَحْوَهُ وَمِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ كِلَاهُمَا عَنْ أَنَسٍ كَذَلِكَ، وَقَدْ جَاءَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَّرَ الْأَبَّ عِنْدَ عُمَرَ فَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ يُدْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ فَذَكَرَ نَحْوَ الْقِصَّةِ الْمَاضِيَةِ فِي تَفْسِيرِ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} وَفِي آخِرِهَا وَقَالَ تَعَالَى {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} إِلَى قَوْلِهِ {وَأَبًّا} قَالَ: فَالسَّبْعَةُ رِزْقٌ لِبَنِي آدَمَ وَالْأَبُّ: مَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ عُمَرَ أَنْكَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ الْأَبُّ مَا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ مِمَّا تَأْكُلُهُ الدَّوَابُّ، وَلَا يَأْكُلُهُ النَّاسُ وَأَخْرَجَ عَنْ عِدَّةٍ مِنَ التَّابِعِينَ نَحْوَهُ، ثُمَّ أَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ قَالَ الْأَبُّ الثِّمَارُ الرَّطْبَةُ وَهَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِلَفْظِ {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} قَالَ: الثِّمَارُ الرَّطْبَةُ، وَكَأَنَّهُ سَقَطَ مِنْهُ: وَالْيَابِسَةُ، فَقَدْ أَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِسَنَدٍ حَسَنٍ الْأَبُّ: الْحَشِيشُ لِلْبَهَائِمِ وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ أَخْرَجَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ يَنْبُتُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَهُوَ أَبٌّ، فَعَلَى هَذَا فَهُوَ مِنَ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ، وَمِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ قَالَ: الْأَبُّ كُلُّ شَيْءٍ أَنْبَتَتِ الْأَرْضُ سِوَى الْفَاكِهَةِ، وَهَذَا أَعَمُّ مِنَ الْأَوَّلِ، وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الْأَبَّ مُطْلَقُ الْمَرْعَى، وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:

ص: 271

لَهُ دَعْوَةٌ مَيْمُونَةٌ رِيحُهَا الصَّبَا

بِهَا يُنْبِتُ اللَّهُ الْحَصِيدَةَ وَالْأَبَّا

وَقِيلَ الْأَبُّ يَابِسُ الْفَاكِهَةِ وَقِيلَ إِنَّهُ لَيْسَ بِعَرَبِيٍّ، وَيُؤَيِّدُهُ خَفَاؤُهُ عَلَى مِثْلِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ.

(تَنْبِيهٌ):

فِي إِخْرَاجِ الْبُخَارِيِّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي آخِرِ الْبَابِ مَصِيرٌ مِنْهُ إِلَى أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ أُمِرْنَا وَنُهِينَا فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ وَلَوْ لَمْ يُضِفْهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَمِنْ ثَمَّ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: نُهِينَا عَنِ التَّكَلُّفِ وَحَذَفَ الْقِصَّةَ.

الْحَدِيثُ السَّادِسُ: وَهُوَ يَتَعَلَّقُ بِالْقِسْمِ الثَّالِثِ وَكَذَا الرَّابِعُ حَدِيثُ أَنَسٍ وَهُوَ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ الرَّابِعِ، وَقَدْ مَضَى شَرْحُهُ أَوْرَدَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَسَاقَهُ هُنَا عَلَى لَفْظِ مَعْمَرٍ، وَفِي بَابِ وَقْتِ الظُّهْرِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ بِلَفْظِ شُعَيْبٍ، وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ، وَوَقَعَ هُنَا فَأَكْثَرَ الْأَنْصَارُ الْبُكَاءَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ فَأَكْثَرَ النَّاسُ وَهِيَ الصَّوَابُ، وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ وَغَيْرِهِ، وَوَقَعَ هُنَا فَذَكَرَ السَّاعَةَ وَذَكَرَ أَنَّ بَيْنَ يَدَيْهَا أُمُورًا عِظَامًا وَفِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، وَذَكَرَ أَنَّ فِيهَا أُمُورًا عِظَامًا وَزَادَ هُنَا فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: أَيْنَ مُدْخَلِي إِلَخْ، وَوَقَعَ هُنَا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا وَفِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ وَمُحَمَّدٌ نَبِيًّا وَوَقَعَ هُنَا فَسَكَتَ حِينَ قَالَ ذَلِكَ عُمَرُ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَوْلَى وَسَقَطَ هَذَا كُلُّهُ مِنْ رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، قَالَ الْمُبَرِّدُ: يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَفْلَتَ مِنْ مُعْضِلَةٍ: أَوْلَى لَكَ، أَيْ كِدْتَ تَهْلِكَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هِيَ بِمَعْنَى التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ.

الْحَدِيثُ السَّابِعُ: حَدِيثُ أَنَسٍ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ ابْنِهِ مُوسَى عَنْهُ، وَأَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ.

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ: قَوْلُهُ: (وَرْقَاءُ) بِقَافٍ مَمْدُودٌ، هُوَ ابْنُ عُمَرَ الْيَشْكُرِيُّ وَشَيْخُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ هُوَ ابْنُ مَعْمَرِ بْنِ حَزْمٍ الْأَنْصَارِيُّ أَبُو طُوَالَةَ بِضَمِّ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ، مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ.

قَوْلُهُ: (لَنْ يَبْرَحَ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي يَسْأَلُونَ وَعِنْدَ مُسْلِمٍ فِي رِوَايَةِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا يَزَالُ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ.

قَوْلُهُ (هَذَا اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) فِي رِوَايَةِ عُرْوَةَ هَذَا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ وَلِمُسْلِمٍ أَيْضًا وَهُوَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ مِنْ رِوَايَةِ عُرْوَةَ أَيْضًا يَأْتِي الشَّيْطَانُ الْعَبْدَ - أَوْ أَحَدَكُمْ - فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا وَكَذَا حَتَّى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ مَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ مَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ؟ فَيَقُولَ اللَّهُ وَلِأَحْمَدَ، وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ مِثْلُهُ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: حَتَّى يَقُولُوا: هَذَا اللَّهُ خَلَقَنَا وَلَهُ فِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ عَنْهُ: حَتَّى يَقُولُوا: اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَفِي رِوَايَةِ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ، عَنْ أَنَسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ اللَّهُ عز وجل: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَزَالُ تَقُولُ مَا كَذَا وَكَذَا؟ حَتَّى يَقُولُوا: هَذَا اللَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ. وَلِلْبَزَّارِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يَزَالُ النَّاسُ يَقُولُونَ: كَانَ اللَّهُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، فَمَنْ كان قَبْلُهُ؟ قَالَ التُّورْبَشْتِيُّ، قَوْلُهُ هَذَا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَفْعُولًا، وَالْمَعْنَى حَتَّى يُقَالَ هَذَا الْقَوْلُ وَأَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً حُذِفَ خَبَرُهُ، أَيْ هَذَا الْأَمْرُ قَدْ عُلِمَ، وَعَلَى اللَّفْظِ الْأَوَّلِ يَعْنِي رِوَايَةَ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ هَذَا اللَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ أَوْ هَذَا مُبْتَدَأٌ وَاللَّهُ عَطْفُ بَيَانٍ وَخَلَقَ الْخَلْقَ خَبَرُهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَلَكِنَّ تَقْدِيرَهُ هَذَا مُقَرَّرٌ مَعْلُومٌ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ وَهُوَ شَيْءٌ، وَكُلُّ شَيْءٍ مَخْلُوقٌ، فَمَنْ خَلَقَهُ؟ فَيَظْهَرُ تَرْتِيبُ مَا بَعْدَ الْفَاءِ عَلَى مَا قَبْلَهَا.

قَوْلُهُ: (فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ) فِي رِوَايَةِ بَدْءِ الْخَلْقِ مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ وَزَادَ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ وَلْيَنْتَهِ، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلْيَقُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ وَزَادَ فِي أُخْرَى وَرُسُلِهِ وَلِأَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ مِنَ الزِّيَادَةِ فَقُولُوا {اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} السُّورَةَ ثُمَّ لِيَتْفُلْ عَنْ يَسَارِهِ ثُمَّ لِيَسْتَعِذْ وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ فَلْيَقُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَذْهَبُ عَنْهُ، وَلِمُسْلِمٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوُ الْأَوَّلِ، وَزَادَ فَبَيْنَمَا أَنَا فِي الْمَسْجِدِ إِذْ جَاءَنِي نَاسٌ مِنَ الْأَعْرَابِ فَذَكَرَ سُؤَالَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ رَمَاهُمْ بِالْحَصَا وَقَالَ صَدَقَ خَلِيلِي وَلَهُ فِي

ص: 272

رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَمِّ كَثْرَةِ السُّؤَالِ لِأَنَّهَا تُفْضِي إِلَى الْمَحْذُورِ كَالسُّؤَالِ الْمَذْكُورِ، فَإِنَّهُ لَا يَنْشَأُ إِلَّا عَنْ جَهْلٍ مُفْرِطٍ، وَقَدْ وَرَدَ بِزِيَادَةٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ لَا يَزَالُ الشَّيْطَانُ يَأْتِي أَحَدَكُمْ فَيَقُولَ مَنْ خَلَقَ كَذَا مَنْ خَلَقَ كَذَا حَتَّى يَقُولَ مَنْ خَلَقَ اللَّهَ.

فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ وَفِي رِوَايَةِ ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الَّذِي أَرَادَ الصَّحَابِيُّ فِيمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ نَاسٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا الشَّيْءَ يَعْظُمُ أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهِ، مَا نُحِبُّ أَنَّ لَنَا الدُّنْيَا وَأَنَّا تَكَلَّمْنَا بِهِ، فَقَالَ: أَوَ قَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟ ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي أُحَدِّثُ نَفْسِي بِالْأَمْرِ لَأَنْ أَكُونَ حُمَمَةً أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَكَلَّمَ بِهِ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ أَمْرَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ.

ثُمَّ نَقَلَ الْخَطَّابِيُّ الْمُرَادَ بِصَرِيحِ الْإِيمَانِ هُوَ الَّذِي يَعْظُمُ فِي نُفُوسِهِمْ إِنْ تَكَلَّمُوا بِهِ، وَيَمْنَعُهُمْ مِنْ قَبُولِ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ، فَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَتَعَاظَمْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى أَنْكَرُوهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْوَسْوَسَةَ نَفْسَهَا صَرِيحُ الْإِيمَانِ بَلْ هِيَ مِنْ قِبَلِ الشَّيْطَانِ وَكَيْدِهِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا الشَّيْءَ أَيِ الْقَبِيحَ، نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَوْلُهُ: يَعْظُمُ أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهِ أَيْ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ أَنْ نَعْتَقِدَهُ، وَقَوْلُهُ: ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ أَيْ عِلْمُكُمْ بِقَبِيحِ تِلْكَ الْوَسَاوِسِ وَامْتِنَاعُ قَبُولِكُمْ وَوُجُودُكُمُ النَّفْرَةَ عَنْهَا دَلِيلٌ عَلَى خُلُوصِ إِيمَانِكُمْ، فَإِنَّ الْكَافِرَ يُصِرُّ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ مِنَ الْمُحَالِ وَلَا يَنْفِرُ عَنْهُ، وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ وَلْيَنْتَهِ أَيْ يَتْرُكُ التَّفَكُّرَ فِي ذَلِكَ الْخَاطِرِ وَيَسْتَعِيذُ بِاللَّهِ إِذَا لَمْ يَزُلْ عَنْهُ التَّفَكُّرُ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعِلْمَ بِاسْتِغْنَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ كُلِّ مَا يُوَسْوِسُهُ الشَّيْطَانُ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ لَا يَحْتَاجُ لِلِاحْتِجَاجِ وَالْمُنَاظَرَةِ، فَإِنْ وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ وَهِيَ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، فَمَهْمَا عُورِضَ بِحُجَّةٍ يَجِدْ مَسْلَكًا آخَرَ مِنَ الْمُغَالَطَةِ وَالِاسْتِرْسَالِ فَيُضَيِّعِ الْوَقْتَ إِنْ سَلِمَ مِنْ فِتْنَتِهِ، فَلَا تَدْبِيرَ فِي دَفْعِهِ أَقْوَى مِنَ الْإِلْجَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالِاسْتِعَاذَةِ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} الْآيَةَ، وَقَالَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ فَلْيَقُلِ: اللَّهُ الْأَحَدُ الصِّفَاتُ الثَّلَاثُ مُنَبِّهَةٌ عَلَى

أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا، أَمَّا أَحَدٌ فَمَعْنَاهُ الَّذِي لَا ثَانِيَ لَهُ وَلَا مِثْلَ، فَلَوْ فُرِضَ مَخْلُوقًا لَمْ يَكُنْ أَحَدًا عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِهَذَا فِي شَرْحِ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ التَّوْحِيدِ، وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: قَوْلُهُ صَرِيحُ الْإِيمَانِ، يَعْنِي الِانْقِطَاعُ فِي إِخْرَاجِ الْأَمْرِ إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، فَلَا بُدَّ عِنْدَ ذَلِكَ مِنْ إِيجَابِ خَالِقٍ لَا خَالِقَ لَهُ لِأَنَّ الْمُتَفَكِّرَ الْعَاقِلَ يَجِدُ لِلْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا خَالِقًا لِأَثَرِ الصَّنْعَةِ فِيهَا وَالْحَدَثِ الْجَارِي عَلَيْهَا، وَالْخَالِقُ بِخِلَافِ هَذِهِ الصِّفَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِكُلٍّ مِنْهَا خَالِقٌ لَا خَالِقَ لَهُ، فَهَذَا هُوَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ، لَا الْبَحْثُ الَّذِي هُوَ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْحِيرَةِ.

وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فَإِنْ قَالَ الْمُوَسْوِسُ: فَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَخْلُقَ الْخَالِقُ نَفْسَهُ؟ قِيلَ لَهُ: هَذَا يَنْقُضُ بَعْضُهُ بَعْضًا، لِأَنَّكَ أَثْبَتَّ خَالِقًا وَأَوْجَبْتَ وُجُودَهُ، ثُمَّ قُلْتَ: يَخْلُقُ نَفْسَهُ فَأَوْجَبْتَ عَدَمَهُ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ كَوْنِهِ مَوْجُودًا مَعْدُومًا فَاسِدٌ لِتَنَاقُضِهِ، لِأَنَّ الْفَاعِلَ يَتَقَدَّمُ وُجُودُهُ عَلَى وُجُودِ فِعْلِهِ فَيَسْتَحِيلُ كَوْنُ نَفْسِهِ فِعْلًا لَهُ. قال: وَهَذَا وَاضِحٌ فِي حَلِّ هَذِهِ الشُّبْهَةِ، وَهُوَ يُفْضِي إِلَى صَرِيحِ الْإِيمَانِ، انْتَهَى مُلَخَّصًا مُوَضَّحًا.

وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، فَعَزْوُهُ إِلَيْهِ أَوْلَى ; وَلَفْظُهُ إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، قَالَ: وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ وَأَخْرَجَ بَعْدَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْوَسْوَسَةِ، فَقَالَ: تِلْكَ مَحْضُ الْإِيمَانِ وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

وَقَالَ ابْنُ التِّينِ لَوْ جَازَ لِمُخْتَرِعِ الشَّيْءِ

ص: 273

أَنْ يَكُونَ لَهُ مُخْتَرِعٌ لَتَسَلْسَلَ، فَلَا بُدَّ مِنَ الِانْتِهَاءِ إِلَى مُوجِدٍ قَدِيمٍ، وَالْقَدِيمُ مَنْ لَا يَتَقَدَّمُهُ شَيْءٌ وَلَا يَصِحُّ عَدَمُهُ، وَهُوَ فَاعِلٌ لَا مَفْعُولٌ، وَهُوَ اللَّهُ تبارك وتعالى. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ ثَبَتَ أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ بِالدَّلِيلِ فَرْضُ عَيْنٍ أَوْ كِفَايَةٍ، وَالطَّرِيقُ إِلَيْهَا بِالسُّؤَالِ عَنْهَا مُتَعَيِّنٌ لِأَنَّهَا مُقَدِّمَتُهَا. لَكِنْ لَمَّا عُرِفَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْخَالِقَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَوْ بِالْكَسْبِ الَّذِي يُقَارِبُ الصِّدْقَ، كَانَ السُّؤَالُ عَنْ ذَلِكَ تَعَنُّتًا، فَيَكُونُ الذَّمُّ يَتَعَلَّقُ بِالسُّؤَالِ الَّذِي يَكُونُ عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ، وَإِلَّا فَالتَّوَصُّلُ إِلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ وَإِزَالَةِ الشُّبْهَةِ عَنْهُ صَرِيحُ الْإِيمَانِ؛ إِذْ لَا بُدَّ مِنَ الِانْقِطَاعِ إِلَى مَنْ يَكُونُ لَهُ خَالِقٌ دَفْعًا لِلتَّسَلْسُلِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَحْوُ هَذَا فِي صِفَةِ إِبْلِيسَ مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ ثُبُوتِ الْوُجُوبِ يَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ كِتَابِ التَّوْحِيدِ.

وَيُقَالُ: إِنَّ نَحْوَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَقَعَتْ فِي زَمَنِ الرَّشِيدِ فِي قِصَّةٍ لَهُ مَعَ صَاحِبِ الْهِنْدِ، وَأَنَّهُ كَتَبَ إِلَيْهِ: هَلْ يَقْدِرُ الْخَالِقُ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُ فَسَأَلَ أَهْلَ الْعِلْمِ، فَبَدَرَ شَابٌّ فَقَالَ: هَذَا السُّؤَالُ مُحَالٌ لِأَنَّ الْمَخْلُوقَ مُحْدَثٌ وَالْمُحْدَثُ لَا يَكُونُ مِثْلَ الْقَدِيمِ، فَاسْتَحَالَ أَنْ يُقَالَ يَقْدِرُ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُ أَوْ لَا يَقْدِرُ، كَمَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يُقَالَ فِي الْقَادِرِ الْعَالِمِ يَقْدِرُ أَنْ يَصِيرَ عَاجِزًا جَاهِلًا.

الْحَدِيثُ التَّاسِعُ: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي سُؤَالِ الْيَهُودِ عَنِ الرُّوحِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ سُبْحَانَ وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَقَامَ سَاعَةً فَنَظَرَ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ فَتَأَخَّرْتُ حَتَّى صَعِدَ الْوَحْيُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ أَجَابَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَهُوَ يَرُدُّ عَلَى مَا وَقَعَ فِي مَغَازِي مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، وَسِيَرِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ أَنَّ جَوَابَهُ تَأَخَّرَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَفِي سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ، أَنَّهُ تَأَخَّرَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌4 - بَاب الِاقْتِدَاءِ بِأَفْعَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

7298 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: اتَّخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، فَاتَّخَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي اتَّخَذْتُ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، فَنَبَذَهُ، وَقَالَ: إِنِّي لَنْ أَلْبَسَهُ أَبَدًا. فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ.

قَوْلُهُ (بَابُ الِاقْتِدَاءِ بِأَفْعَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}

وَقَدْ ذَهَبَ جَمْعٌ إِلَى وُجُوبِهِ لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ الْأَمْرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} وَبِقَوْلِهِ {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى فَاتَّبِعُوهُ فَيَجِبُ اتِّبَاعُهُ فِي فِعْلِهِ كَمَا يَجِبُ فِي قَوْلِهِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى النَّدْبِ أَوِ الْخُصُوصِيَّةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: يَحْتَمِلُ الْوُجُوبُ وَالنَّدْبُ وَالْإِبَاحَةُ فَيَحْتَاجُ إِلَى الْقَرِينَةِ. وَالْجُمْهُورُ لِلنَّدْبِ إِذَا ظَهَرَ وَجْهُ الْقُرْبَةِ، وَقِيلَ وَلَوْ لَمْ يَظْهَرْ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ بَيْنَ التَّكْرَارِ وَعَدَمِهِ.

وَقَالَ آخَرُونَ: مَا يَفْعَلُهُ صلى الله عليه وسلم إِنْ كَانَ بَيَانًا لِمُجْمَلٍ فَحُكْمُهُ حُكْمُ ذَلِكَ الْمُجْمَلِ وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا أَوْ إِبَاحَةً، فَإِنْ ظَهَرَ وَجْهُ الْقُرْبَةِ فَلِلنَّدْبِ، وَمَا لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ وَجْهُ التَّقَرُّبِ فَلِلْإِبَاحَةِ، وَأَمَّا تَقْرِيرُهُ عَلَى مَا يُفْعَلُ بِحَضْرَتِهِ فَيَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ.

وَالْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَيَتَعَلَّقُ بِهَا تَعَارُضُ قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، وَيَتَفَرَّعُ مِنْ ذَلِكَ حُكْمُ الْخَصَائِصِ وَقَدْ أُفْرِدَتْ بِالتَّصْنِيفِ، وَلِشَيْخِ شُيُوخِنَا الْحَافِظِ صَلَاحِ الدِّينِ الْعَلَائِيِّ فِيهِ مُصَنَّفٌ جَلِيلٌ. وَحَاصِلُ مَا ذَكَرَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: يُقَدَّمُ الْقَوْلُ لِأَنَّ لَهُ صِيغَةً تَتَضَمَّنُ الْمَعَانِيَ بِخِلَافِ الْفِعْلِ، ثَانِيهَا: الْفِعْلُ لِأَنَّهُ لَا يَطْرُقُهُ مِنَ الِاحْتِمَالِ مَا يَطْرُقُ الْقَوْلَ، ثَالِثُهَا: يُفْزَعُ إِلَى التَّرْجِيحِ. وَكُلُّ ذَلِكَ مَحَلُّهُ

ص: 274

مَا لَمْ تَقُمْ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْخُصُوصِيَّةِ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى الْأَوَّلِ، وَالْحُجَّةُ لَهُ أَنَّ الْقَوْلَ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْمَحْسُوسِ وَالْمَعْقُولِ بِخِلَافِ الْفِعْلِ فَيَخْتَصُّ بِالْمَحْسُوسِ، فَكَانَ الْقَوْلُ أَتَمَّ، وَبِأَنَّ الْقَوْلَ مُتَّفَقٌ عَلَى أَنَّهُ دَلِيلٌ بِخِلَافِ الْفِعْلِ، وَلِأَنَّ الْقَوْلَ يَدُلُّ بِنَفْسِهِ بِخِلَافِ الْفِعْلِ فَيَحْتَاجُ إِلَى وَاسِطَةٍ، وَبِأَنَّ تَقْدِيمَ الْفِعْلِ يُفْضِي إِلَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِالْقَوْلِ، وَالْعَمَلُ بِالْقَوْلِ يُمْكِنُ مَعَهُ الْعَمَلُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ؛ فَكَانَ الْقَوْلُ أَرْجَحَ بِهَذِهِ الِاعْتِبَارَاتِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْمِزِّيُّ.

قَوْلُهُ (عَنِ ابْنِ عُمَرَ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ بِسَنَدِهِ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: فَاتَّخَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ مِنْ ذَهَبٍ) وَفِيهِ فَنَبَذَهُ وَقَالَ: إِنِّي لَمْ أَلْبَسْهُ أَبَدًا، فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ اقْتَصَرَ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى تَأَسِّيهِمْ بِهِ فِي الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ مَا يَتَعَلَّقُ بِخَاتَمِ الذَّهَبِ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ - بَعْدَ أَنْ حَكَى الِاخْتِلَافَ فِي أَفْعَالِهِ عليه الصلاة والسلام؛ مُحْتَجًّا لِمَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ بِحَدِيثِ الْبَابِ -: لِأَنَّهُ خَلَعَ خَاتَمَهُ فَخَلَعُوا خَوَاتِمَهُمْ، وَنَزَعَ نَعْلَهُ فِي الصَّلَاةِ فَنَزَعُوا، وَلَمَّا أَمَرَهُمْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ بِالتَّحَلُّلِ وَتَأَخَّرُوا عَنِ الْمُبَادَرَةِ رَجَاءَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ فِي الْقِتَالِ وَأَنْ يُنْصَرُوا فَيُكْمِلُوا عُمْرَتَهُمْ، قَالَتْ لَهُ أُمُّ سَلَمَةَ: اخْرُجْ إِلَيْهِمْ وَاحْلِقْ وَاذْبَحْ، فَفَعَلَ، فَتَابَعُوهُ مُسْرِعِينَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ أَبْلَغُ مِنَ الْقَوْلِ، وَلَمَّا نَهَاهُمْ عَنِ الْوِصَالِ قَالُوا إِنَّكَ تُوَاصِلُ. فَقَالَ: إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى، فَلَوْلَا أَنَّ لَهُمُ الِاقْتِدَاءَ بِهِ لَقَالَ: وَمَا فِي مُوَاصَلَتِي مَ يُبِيحُ لَكُمُ الْوِصَالُ، لَكِنَّهُ عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ وَبَيَّنَ لَهُمْ وَجْهَ اخْتِصَاصِهِ بِالْمُوَاصَلَةِ انْتَهَى. وَلَيْسَ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُدَّعَى مِنَ الْوُجُوبِ، بَلْ عَلَى مُطْلَقِ التَّأَسِّي بِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

‌5 - بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ التَّعَمُّقِ وَالتَّنَازُعِ وَالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ وَالْبِدَعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ}

7299 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا تُوَاصِلُوا، قَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ، قَالَ: إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ، إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي، فَلَمْ يَنْتَهُوا عَنْ الْوِصَالِ. قَالَ: فَوَاصَلَ بِهِمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَيْنِ أَوْ لَيْلَتَيْنِ، ثُمَّ رَأَوْا الْهِلَالَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَوْ تَأَخَّرَ الْهِلَالُ لَزِدْتُكُمْ. كَالْمُنَكِّي لَهُمْ.

7300 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ خَطَبَنَا عَلِيٌّ رضي الله عنه عَلَى مِنْبَرٍ مِنْ آجُرٍّ وَعَلَيْهِ سَيْفٌ فِيهِ صَحِيفَةٌ مُعَلَّقَةٌ فَقَالَ وَاللَّهِ مَا عِنْدَنَا مِنْ كِتَابٍ يُقْرَأُ إِلاَّ كِتَابُ اللَّهِ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ فَنَشَرَهَا فَإِذَا فِيهَا أَسْنَانُ الإِبِلِ وَإِذَا فِيهَا الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مِنْ عَيْرٍ إِلَى كَذَا فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا وَإِذَا فِيهِ ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا وَإِذَا فِيهَا مَنْ وَالَى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ

ص: 275

وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا

7301 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها صَنَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا تَرَخَّصَ فِيهِ وَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنْ الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ فَوَاللَّهِ إِنِّي أَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً

7302 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ أَخْبَرَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ كَادَ الْخَيِّرَانِ أَنْ يَهْلِكَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ لَمَّا قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفْدُ بَنِي تَمِيمٍ أَشَارَ أَحَدُهُمَا بِالأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ التَّمِيمِيِّ الْحَنْظَلِيِّ أَخِي بَنِي مُجَاشِعٍ وَأَشَارَ الْآخَرُ بِغَيْرِهِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ إِنَّمَا أَرَدْتَ خِلَافِي فَقَالَ عُمَرُ مَا أَرَدْتُ خِلَافَكَ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَزَلَتْ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ - إِلَى قَوْلِهِ - عَظِيمٌ} قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَكَانَ عُمَرُ بَعْدُ وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ عَنْ أَبِيهِ يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ إِذَا حَدَّثَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِحَدِيثٍ حَدَّثَهُ كَأَخِي السِّرَارِ لَمْ يُسْمِعْهُ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ

7303 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "فِي مَرَضِهِ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ قَالَتْ عَائِشَةُ قُلْتُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ إِذَا قَامَ فِي مَقَامِكَ لَمْ يُسْمِعْ النَّاسَ مِنْ الْبُكَاءِ فَمُرْ عُمَرَ فَلْيُصَلِّ لِلنَّاسِ فَقَالَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ لِحَفْصَةَ قُوِي إِنَّ أَبَا بَكْرٍ إِذَا قَامَ فِي مَقَامِكَ لَمْ يُسْمِعْ النَّاسَ مِنْ الْبُكَاءِ فَمُرْ عُمَرَ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ فَفَعَلَتْ حَفْصَةُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّكُنَّ لَانْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ لِلنَّاسِ فَقَالَتْ حَفْصَةُ لِعَائِشَةَ مَا كُنْتُ لِأُصِيبَ مِنْكِ خَيْرًا

7304 -

حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي ذِئْبٍ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ جَاءَ عُوَيْمِرٌ الْعَجْلَانِيُّ إِلَى عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ فَقَالَ أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَيَقْتُلُهُ أَتَقْتُلُونَهُ بِهِ سَلْ لِي يَا عَاصِمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ فَكَرِهَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا فَرَجَعَ عَاصِمٌ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَرِهَ الْمَسَائِلَ فَقَالَ عُوَيْمِرٌ وَاللَّهِ لَاتِيَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَ وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْقُرْآنَ خَلْفَ عَاصِمٍ فَقَالَ لَهُ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكُمْ قُرْآنًا فَدَعَا بِهِمَا فَتَقَدَّمَا فَتَلَاعَنَا ثُمَّ قَالَ عُوَيْمِرٌ كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا فَفَارَقَهَا وَلَمْ يَأْمُرْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِفِرَاقِهَا فَجَرَتْ السُّنَّةُ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "انْظُرُوهَا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَحْمَرَ قَصِيرًا

ص: 276

مِثْلَ وَحَرَةٍ فَلَا أُرَاهُ إِلاَّ قَدْ كَذَبَ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَسْحَمَ أَعْيَنَ ذَا أَلْيَتَيْنِ فَلَا أَحْسِبُ إِلاَّ قَدْ صَدَقَ عَلَيْهَا فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى الأَمْرِ الْمَكْرُوهِ

7305 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَوْسٍ النَّصْرِيُّ وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ذَكَرَ لِي ذِكْرًا مِنْ ذَلِكَ فَدَخَلْتُ عَلَى مَالِكٍ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ انْطَلَقْتُ حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى عُمَرَ أَتَاهُ حَاجِبُهُ يَرْفَا فَقَالَ هَلْ لَكَ فِي عُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ يَسْتَأْذِنُونَ قَالَ نَعَمْ فَدَخَلُوا فَسَلَّمُوا وَجَلَسُوا فَقَالَ هَلْ لَكَ فِي عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ فَأَذِنَ لَهُمَا قَالَ الْعَبَّاسُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ الظَّالِمِ اسْتَبَّا فَقَالَ الرَّهْطُ عُثْمَانُ وَأَصْحَابُهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اقْضِ بَيْنَهُمَا وَأَرِحْ أَحَدَهُمَا مِنْ الْآخَرِ فَقَالَ اتَّئِدُوا أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَفْسَهُ قَالَ الرَّهْطُ قَدْ قَالَ ذَلِكَ فَأَقْبَلَ عُمَرُ عَلَى عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ فَقَالَ أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "ذَلِكَ قَالَا نَعَمْ قَالَ عُمَرُ فَإِنِّي مُحَدِّثُكُمْ عَنْ هَذَا الأَمْرِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ خَصَّ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْمَالِ بِشَيْءٍ لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا غَيْرَهُ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ} الْآيَةَ فَكَانَتْ هَذِهِ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ وَاللَّهِ مَا احْتَازَهَا دُونَكُمْ وَلَا اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكُمْ وَقَدْ أَعْطَاكُمُوهَا وَبَثَّهَا فِيكُمْ حَتَّى بَقِيَ مِنْهَا هَذَا الْمَالُ وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ فَعَمِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ حَيَاتَهُ أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ فَقَالُوا نَعَمْ ثُمَّ قَالَ لِعَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ أَنْشُدُكُمَا اللَّهَ هَلْ تَعْلَمَانِ ذَلِكَ قَالَا نَعَمْ ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَنَا وَلِيُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَبَضَهَا أَبُو بَكْرٍ فَعَمِلَ فِيهَا بِمَا عَمِلَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنْتُمَا حِينَئِذٍ وَأَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ تَزْعُمَانِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ فِيهَا كَذَا وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ فِيهَا صَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ أَنَا وَلِيُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ فَقَبَضْتُهَا سَنَتَيْنِ أَعْمَلُ فِيهَا بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ ثُمَّ جِئْتُمَانِي وَكَلِمَتُكُمَا عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَمْرُكُمَا جَمِيعٌ جِئْتَنِي تَسْأَلُنِي نَصِيبَكَ مِنْ ابْنِ أَخِيكِ وَأَتَانِي هَذَا يَسْأَلُنِي نَصِيبَ امْرَأَتِهِ مِنْ أَبِيهَا فَقُلْتُ إِنْ شِئْتُمَا دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا عَلَى أَنَّ عَلَيْكُمَا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَتَعْمَلَانِ فِيهَا بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبِمَا عَمِلَ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ وَبِمَا عَمِلْتُ فِيهَا مُنْذُ وَلِيتُهَا وَإِلَا فَلَا تُكَلِّمَانِي فِيهَا فَقُلْتُمَا ادْفَعْهَا إِلَيْنَا بِذَلِكَ فَدَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا بِذَلِكَ أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْهِمَا بِذَلِكَ قَالَ الرَّهْطُ نَعَمْ فَأَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ فَقَالَ أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا بِذَلِكَ قَالَا

ص: 277

نَعَمْ قَالَ أَفَتَلْتَمِسَانِ مِنِّي قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ فَوَالَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لَا أَقْضِي فِيهَا قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ فَإِنْ عَجَزْتُمَا عَنْهَا فَادْفَعَاهَا إِلَيَّ فَأَنَا أَكْفِيكُمَاهَا

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّعَمُّقِ وَالتَّنَازُعِ) زَادَ غَيْرُ أَبِي ذَرٍّ فِي الْعِلْمِ، وَهُوَ يَتَعَلَّقُ بِالتَّنَازُعِ وَالتَّعَمُّقِ مَعًا، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ وَالْغُلُوُّ فِي الدِّينِ وَالْبِدَعِ يَتَنَاوَلُهُمَا وَقَوْلُهُ: لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ} صَدْرُ الْآيَةِ يَتَعَلَّقُ بِفُرُوعِ الدِّينِ، وَهِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي التَّرْجَمَةِ بِالْعِلْمِ، وَمَا بَعْدَهُ يَتَعَلَّقُ بِأُصُولِهِ، فَأَمَّا التَّعَمُّقُ فَهُوَ بِالْمُهْمَلَةِ وَبِتَشْدِيدِ الْمِيمِ ثُمَّ قَافٍ، وَمَعْنَاهُ التَّشْدِيدُ فِي الْأَمْرِ حَتَّى يَتَجَاوَزَ الْحَدَّ فِيهِ، وَقَدْ وَقَعَ شَرْحُهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْوِصَالِ فِي الصِّيَامِ، حَيْثُ قَالَ: حَتَّى يَدَعَ الْمُتَعَمِّقُونَ تَعَمُّقَهُمْ، وَأَمَّا التَّنَازُعُ فَمِنَ الْمُنَازَعَةِ، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ: الْمُجَاذَبَةُ، وَيُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الْمُجَادَلَةِ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْمُجَادَلَةُ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِي الْحُكْمِ إِذَا لَمْ يَتَّضِحِ الدَّلِيلُ، وَالْمَذْمُومُ مِنْهُ اللَّجَاجُ بَعْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ، وَأَمَّا الْغُلُوُّ فَهُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي الشَّيْءِ وَالتَّشْدِيدُ فِيهِ بِتَجَاوُزِ الْحَدِّ، وَفِيهِ مَعْنَى التَّعَمُّقِ، يُقَالُ غَلَا فِي الشَّيْءِ يَغْلُو غُلُوًّا وَغَلَا السِّعْرُ يَغْلُو غَلَاءً إِذَا جَاوَزَ الْعَادَةَ، وَالسَّهْمُ يَغْلُو غَلْوًا بِفَتْحٍ ثُمَّ سُكُونٍ إِذَا بَلَغَ غَايَةَ مَا يُرْمَى، وَوَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ صَرِيحًا فِيمَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ حَدِيثًا فِي حَصَى الرَّمْيِ، وَفِيهِ: وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ قَبْلَكُمُ

الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ وَأَمَّا الْبِدَعُ فَهُوَ جَمْعُ بِدْعَةٍ، وَهِيَ كُلُّ شَيْءٍ لَيْسَ لَهُ مِثَالٌ تَقَدَّمَ، فَيَشْمَلُ - لُغَةً - مَا يُحْمَدُ وَيُذَمُّ، وَيَخْتَصُّ فِي عُرْفِ أَهْلِ الشَّرْعِ بِمَا يُذَمُّ، وَإِنْ وَرَدَتْ فِي الْمَحْمُودِ فَعَلَى مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ.

وَاسْتِدْلَالُهُ بِالْآيَةِ يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ لَفْظَ أَهْلِ الْكِتَابِ لِلتَّعْمِيمِ؛ لِيَتَنَاوَلَ غَيْرَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ تَنَاوُلَهَا مِنْ عَدَا الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِالْإِلْحَاقِ، وَذَكَرَ فِيهِ سَبْعَةَ أَحَادِيثَ.

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي النَّهْيِ عَنِ الْوِصَالِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ وَقَوْلُهُ هُنَا لَوْ تَأَخَّرَ الْهِلَالُ لَزِدْتُكُمْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْمَاضِي فِي كِتَابِ التَّمَنِّي، وَلَوْ مُدَّ لِي فِي الشَّهْرِ لَوَاصَلْتُ وِصَالًا يَدَعُ الْمُتَعَمِّقُونَ تَعَمُّقَهُمْ. وَإِلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَشَارَ فِي التَّرْجَمَةِ لَكِنَّهُ جَرَى عَلَى عَادَتِهِ فِي إِيرَادِ مَا لَا يُنَاسِبُ التَّرْجَمَةَ ظَاهِرًا إِذَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ مَا يُعْطِي ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَحْوُ هَذَا فِي كِتَابِ الصِّيَامِ بِزِيَادَةٍ فِيهِ.

وَقَوْلُهُ كَالْمُنْكِي بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ النُّونِ وَبَعْدَ الْكَافِ يَاءٌ سَاكِنَةٌ مِنَ النِّكَايَةِ، كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ السَّرَخْسِيِّ، وَعَنِ الْمُسْتَمْلِي بِرَاءٍ بَدَلَ الْيَاءِ مِنَ الْإِنْكَارِ، وَعَلَى هَذَا فَاللَّامُ فِي لَهُمْ بِمَعْنَى عَلَى، وَعَنِ الْكُشمِيهَنِيِّ بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ الْمَكْسُورَةِ بَعْدَهَا لَامٌ مِنَ النَّكَالِ وَهِيَ رِوَايَةُ الْبَاقِينَ، وَقَدْ مَضَى فِي كِتَابِ الصِّيَامِ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ كَالتَّنْكِيلِ لَهُمْ حِينَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي أَبِي) هُوَ يَزِيدُ بْنُ شَرِيكٍ التَّيْمِيُّ.

قَوْلُهُ (خَطَبَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَى مِنْبَرٍ مِنْ آجُرٍّ) بِالْمَدِّ وَضَمِّ الْجِيمِ هُوَ الطُّوبُ الْمَشْوِيُّ وَيُقَالُ بِمَدٍّ وَزِيَادَةِ وَاوٍ، وَهُوَ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ.

قَوْلُهُ: (فَنَشَرَهَا) أَيْ فَتَحَهَا.

قَوْلُهُ (فَإِذَا فِيهَا) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلِيٌّ دَفَعَهَا لِمَنْ قَرَأَهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَرَأَهَا بِنَفْسِهِ.

قَوْلُهُ: (الْمَدِينَةُ حَرَمٌ) تَقَدَّمَ شَرْحُ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ الْحَجِّ مُسْتَوْعَبًا.

قَوْلُهُ (ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ) تَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ أَيْضًا فِي الْجِزْيَةِ وَالْمُوَادَعَةِ، وَقَوْلُهُ فَمَنْ أَخْفَرَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَأَلِفٍ أَيْ غَدَرَ بِهِ، وَالْهَمْزَةُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ أَزَالَ عَنْهُ الْخَفْرَ وَهُوَ السِّتْرُ.

قَوْلُهُ (مَنْ وَالَى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ) تَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي الْفَرَائِضِ، وَتَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْفَرَائِضِ أَنَّ الصَّحِيفَةَ الْمَذْكُورَةَ تَشْتَمِلُ عَلَى أَشْيَاءَ غَيْرَ هَذِهِ

ص: 278

مِنَ الْقِصَاصِ وَالْعَفْوِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْغَرَضُ بِإِيرَادِ الْحَدِيثِ هُنَا لَعْنُ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا، فَإِنَّهُ وَإِنْ قَيَّدَ فِي الْخَبَرِ بِالْمَدِينَةِ فَالْحُكْمُ عَامٌّ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا إِذَا كَانَ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ الدِّينِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ ذَلِكَ فِي بَابِ حَرَمِ الْمَدِينَةِ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْحَجِّ.

وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: مُنَاسَبَةُ حَدِيثِ عَلِيٍّ لِلتَّرْجَمَةِ لَعَلَّهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ مَا عِنْدَنَا مِنْ كِتَابٍ يُقْرَأُ إِلَخْ تَبْكِيتُ مَنْ تَنَطَّعَ فِي الْكَلَامِ وَجَاءَ بِغَيْرِ مَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَذَا قَالَ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ (عَنِ الْأَعْمَشِ، حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ) هُوَ ابْنُ صُبَيْحٍ بِمُهْمَلَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ مُصَغَّرًا وَآخِرُهُ مُهْمَلَةٌ، وَهُوَ أَبُو الضُّحَى مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ أَكْثَرَ مِنَ اسْمِهِ، وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مُصَرَّحًا بِهِ فِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ فَقَالَ: عَنْ أَبِي الضُّحَى بِهِ. وَهَذَا يُغْنِي عَنْ قَوْلِ الْكِرْمَانِيِّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ابْنَ صُبَيْحٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ابْنَ أَبِي عِمْرَانَ الْبَطِينَ، فَإِنَّهُمَا يَرْوِيَانِ عَنْ مَسْرُوقٍ وَيَرْوِي عَنْهُمَا الْأَعْمَشُ، وَالسَّنَدُ الْمَذْكُورُ إِلَى مَسْرُوقٍ كُلُّهُمْ كُوفِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ عَنِ الْأَعْمَشِ بِسَنَدِهِ عَنْ عَائِشَةَ. قَوْلُهُ (تَرَخَّصَ فِيهِ وَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ) قَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ مَنْ لَمْ يُوَاجِهِ النَّاسَ مِنْ كِتَابِ الْأَدَبِ هَذَا الْحَدِيثُ بِسَنَدِهِ وَمَتْنِهِ، وَشَرَحْتُهُ هُنَاكَ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا أَنَّ الْخَيْرَ فِي الِاتِّبَاعِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي الْعَزِيمَةِ أَوِ الرُّخْصَةِ، وَأَنَّ اسْتِعْمَالَ الرُّخْصَةِ بِقَصْدِ الِاتِّبَاعِ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي وَرَدَتْ أَوْلَى مِنَ اسْتِعْمَالِ الْعَزِيمَةِ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ اسْتِعْمَالُ الْعَزِيمَةِ حِينَئِذٍ مَرْجُوحًا كَمَا فِي إِتْمَامِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ ; وَرُبَّمَا كَانَ مَذْمُومًا إِذَا كَانَ رَغْبَةً عَنِ السُّنَّةِ كَتَرْكِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ. وَأَوْمَأَ ابْنُ بَطَّالٍ إِلَى أَنَّ الَّذِي تَنَزَّهُوا عَنْهُ الْقُبْلَةُ لِلصَّائِمِ. وَقَالَ غَيْرُهُ لَعَلَّهُ الْفِطْرُ فِي السَّفَرِ، وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ أَنَّ التَّنَزُّهَ عَمَّا تَرَخَّصَ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ، لِأَنَّهُ يَرَى نَفْسَهُ أَتْقَى لِلَّهِ مِنْ رَسُولِهِ وَهَذَا إِلْحَادٌ.

قُلْتُ: لَا شَكَّ فِي إِلْحَادِ مَنِ اعْتَقَدَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الَّذِي اعْتَلَّ بِهِ مَنْ أُشِيرَ إِلَيْهِمْ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ، أَيْ فَإِذَا تَرَخَّصَ فِي شَيْءٍ لَمْ يَكُنْ مِثْلَ غَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يُغْفَرْ لَهُ ذَلِكَ، فَيَحْتَاجُ الَّذِي لَمْ يُغْفَرْ لَهُ إِلَى الْأَخْذِ بِالْعَزِيمَةِ وَالشِّدَّةِ لِيَنْجُوَ، فَأَعْلَمَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ لَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ أَخْشَى النَّاسِ لِلَّهِ وَأَتْقَاهُمْ، فَمَهْمَا فَعَلَهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ عَزِيمَةٍ وَرُخْصَةٍ فَهُوَ فِيهِ فِي غَايَةِ التَّقْوَى وَالْخَشْيَةِ، لَمْ يَحْمِلْهُ التَّفَضُّلُ بِالْمَغْفِرَةِ عَلَى تَرْكِ الْجِدِّ فِي الْعَمَلِ قِيَامًا بِالشُّكْرِ، وَمَهْمَا تَرَخَّصَ فِيهِ فَإِنَّمَا هُوَ لِلْإِعَانَةِ عَلَى الْعَزِيمَةِ لِيَعْمَلَهَا بِنَشَاطٍ.

وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ أَعْلَمُهُمْ إِلَى الْقُوَّةِ الْعِلْمِيَّةِ، وَبِقَوْلِهِ أَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً إِلَى الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ أَيْ أَنَا أَعْلَمُهُمْ بِالْفَضْلِ وَأَوْلَاهُمْ بِالْعَمَلِ بِهِ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: حَدِيثُ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ فِي قِصَّةِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ فِي تَأْمِيرِ الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ أَوِ الْقَعْقَاعِ بْنِ مَعْبَدٍ عَلَى بَنِي تَمِيمٍ، وَفِيهِ نَزَلَتْ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ السُّورَةِ:{لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} وَمِنْ هُنَا تَظْهَرُ مُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُرْسَلٌ لَمْ يَتَّصِلْ مِنْهُ سِوَى شَيْءٌ يَسِيرٌ، وَمَنْ نَظَرَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْحُجُرَاتِ اسْتَغْنَى بِمَا فِيهِ عَنْ تَعَقُّبِ كَلَامِهِ.

وَقَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ، وَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْحُجُرَاتِ بَعْدَ قَوْلِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} الْآيَةَ، فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَذَكَرَهُ.

قَوْلُهُ (فَكَانَ عُمَرُ بَعْدُ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ عَنْ أَبِيهِ - يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ - إِذَا حَدَّثَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِلَخْ) هَكَذَا فَصَلَ بَيْنَ قَوْلِهِ فَكَانَ عُمَرُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ إِذَا حَدَّثَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ وَهِيَ وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ عَنْ أَبِيهِ وَأَخَّرَهَا فِي الرِّوَايَةِ الْمَاضِيَةِ فِي الْحُجُرَاتِ، وَلَفْظُهُ فَمَا كَانَ يَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ عَنْ أَبِيهِ.

قَوْلُهُ: حَدَّثَهُ كَأَخِي السِّرَارِ) أَمَّا السِّرَارُ

ص: 279

فَبِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ أَيِ الْكَلَامُ السِّرُّ وَمِنْهُ الْمُسَارَرَةُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ كَأَخِي فَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: مَعْنَى قَوْلِهِ كَأَخِي السِّرَارِ كَصَاحِبِ السِّرَارِ قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ. وَنَقَلَ عَنْ ثَعْلَبٍ أَنَّ الْمَعْنَى كَالسِّرَارِ، وَلَفْظُ أَخِي صِلَةٌ، قَالَ: وَالْمَعْنَى كَالْمُنَاجَى سِرًّا انْتَهَى. وَقَالَ صَاحِبُ الْفَائِقِ: لَوْ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ كَأَخِي السِّرَارِ كَالْمُسَارِرِ لَكَانَ وَجْهًا وَالْكَافُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَعَلَى مَا مَضَى تَكُونُ صِفَةً لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ.

وَقَوْلُهُ لَا يَسْمَعُهُ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى قَوْلِهِ كَأَخِي السِّرَارِ أَيْ يَخْفِضُ صَوْتَهُ وَيُبَالِغُ حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى اسْتِفْهَامِهِ عَنْ بَعْضِ كَلَامِهِ. وَقَالَ فِي الْفَائِقِ: الضَّمِيرُ فِي يَسْمَعُهُ لِلْكَافِ إِنْ جُعِلَتْ صِفَةً لِلْمَصْدَرِ وَهُوَ مَنْصُوبُ الْمَحَلِّ عَلَى الْوَصْفِيَّةِ، فَإِنْ أُعْرِبَتْ حَالًا فَالضَّمِيرُ لَهَا أَيْضًا إِنْ قُدِّرَ مُضَافًا وَلَيْسَ قَوْلُهُ لَا يَسْمَعُهُ حَالًا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لِرَكَاكَةِ الْمَعْنَى حِينَئِذٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْحَدِيثُ السَّادِسُ: حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي قِصَّةِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ وَقَدْ مَضَى شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ اللِّعَانِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ هُنَا فَكَرِهَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَعَابَ بِحَذْفِ الْمَفْعُولِ.

قَالَ الرَّهْطُ: قَالَ ذَلِكَ، فَأَقْبَلَ عُمَرُ عَلَى عَلِيٍّ، وَعَبَّاسٍ، فَقَالَ: أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ، هَلْ تَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَلِكَ؟ قَالَا: نَعَمْ، قَالَ عُمَرُ: فَإِنِّي مُحَدِّثُكُمْ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ، إِنَّ اللَّهَ كَانَ خَصَّ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْمَالِ بِشَيْءٍ لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا غَيْرَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ:{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ} الْآيَةَ، فَكَانَتْ هَذِهِ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ وَاللَّهِ مَا احْتَازَهَا دُونَكُمْ وَلَا اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكُمْ، وَقَدْ أَعْطَاكُمُوهَا وَبَثَّهَا فِيكُمْ حَتَّى بَقِيَ مِنْهَا هَذَا الْمَالُ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ، ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ، فَعَمِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ حَيَاتَهُ، أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ، هَلْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، ثُمَّ قَالَ لِعَلِيٍّ، وَعَبَّاسٍ: أَنْشُدُكُمَا اللَّهَ، هَلْ تَعْلَمَانِ ذَلِكَ؟ قَالَا: نَعَمْ.

ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا وَلِيُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَبَضَهَا أَبُو بَكْرٍ، فَعَمِلَ فِيهَا بِمَا عَمِلَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنْتُمَا حِينَئِذٍ - وَأَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ، وَعَبَّاسٍ - تَزْعُمَانِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ فِيهَا كَذَا، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ فِيهَا صَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ، ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ، فَقُلْتُ: أَنَا وَلِيُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ، فَقَبَضْتُهَا سَنَتَيْنِ أَعْمَلُ فِيهَا بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ جِئْتُمَانِي وَكَلِمَتُكُمَا عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَمْرُكُمَا جَمِيعٌ. جِئْتَنِي تَسْأَلُنِي نَصِيبَكَ مِنْ ابْنِ أَخِيكِ، وَأَتَانِي هَذَا يَسْأَلُنِي نَصِيبَ امْرَأَتِهِ مِنْ أَبِيهَا، فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتُمَا دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا عَلَى أَنَّ عَلَيْكُمَا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ: تَعْمَلَانِ فِيهَا بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبِمَا عَمِلَ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ وَبِمَا عَمِلْتُ فِيهَا مُنْذُ وَلِيتُهَا، وَإِلَّا فَلَا تُكَلِّمَانِي فِيهَا. فَقُلْتُمَا: ادْفَعْهَا إِلَيْنَا بِذَلِكَ، فَدَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا بِذَلِكَ، أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ، هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْهِمَا بِذَلِكَ؟ قَالَ الرَّهْطُ: نَعَمْ، فَأَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ، وَعَبَّاسٍ فَقَالَ: أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ، هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا بِذَلِكَ؟ قَالَا. نَعَمْ، قَالَ: أَفَتَلْتَمِسَانِ مِنِّي قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ؟ فَوَالَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ لَا أَقْضِي فِيهَا قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، فَإِنْ عَجَزْتُمَا عَنْهَا فَادْفَعَاهَا إِلَيَّ فَأَنَا أَكْفِيكُمَاهَا.

الْحَدِيثُ السَّابِعُ: حَدِيثُ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ فِي قِصَّةِ الْعَبَّاسِ، وَعَلِيٍّ وَمُنَازَعَتِهِمَا عِنْدَ عُمَرَ فِي صَدَقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي فَرْضِ الْخُمُسِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ هُنَا بَيَانُ كَرَاهِيَةِ التَّنَازُعِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ عُثْمَانَ وَمَنْ مَعَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اقْضِ بَيْنَهُمَا، وَأَرِحْ أَحَدَهُمَا مِنَ الْآخَرِ فَإِنَّ الظَّنَّ بِهِمَا أَنَّهُمَا لَمْ يَتَنَازَعَا إِلَّا وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا مُسْتَنَدٌ فِي أَنَّ الْحَقَّ بِيَدِهِ دُونَ الْآخَرِ، فَأَفْضَى ذَلِكَ بِهِمَا إِلَى الْمُخَاصَمَةِ ثُمَّ الْمُحَاكَمَةِ الَّتِي لَوْلَا التَّنَازُعُ لَكَانَ اللَّائِقُ بِهِمَا خِلَافَ ذَلِكَ.

وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ اتَّئِدُوا بِتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَكْسُورَةٌ أَيِ اسْتَمْهِلُوا، وَقَوْلُهُ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ بِحَذْفِ الْبَاءِ وَهُوَ جَائِزٌ. وَقَوْلُهُ مَا احْتَازَهَا بِالْمُهْمَلَةِ ثُمَّ الزَّايِ ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِالْمُعْجَمَةِ ثُمَّ الرَّاءِ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَقَوْلُهُ وَكَانَ يُنْفِقُ ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ فَكَانَ بِالْفَاءِ وَهُوَ أَوْلَى، وَقَوْلُهُ فَأَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ ثُمَّ أَقْبَلَ وَقَوْلُهُ تَزْعُمَانِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ فِيهَا كَذَا هَكَذَا هُنَا وَقَعَ بِالْإِبْهَامِ، وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي شَرْحِ الرِّوَايَةِ الْمَاضِيَةِ فِي فَرْضِ الْخُمُسِ أَنَّ تَفْسِيرَ ذَلِكَ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَخَلَتِ الرِّوَايَةُ الْمَذْكُورَةُ عَنْ ذَلِكَ إِبْهَامًا وَتَفْسِيرًا، وَيُؤْخَذُ مِمَّا سَأَذْكُرُهُ عَنِ الْمَازِرِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ تَأْوِيلِ كَلَامِ الْعَبَّاسِ مَا يُجَابُ بِهِ عَنْ ذَلِكَ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي أَحَادِيثِ الْبَابِ مَا تَرْجَمَ لَهُ مِنْ كَرَاهِيَةِ التَّنَطُّعِ وَالتَّنَازُعِ لِإِشَارَتِهِ إِلَى ذَمِّ مَنِ اسْتَمَرَّ عَلَى الْوِصَالِ بَعْدَ النَّهْيِ، وَلِإِشَارَةِ عَلِيٍّ إِلَى ذَمِّ مَنْ غَلَا فِيهِ فَادَّعَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَصَّهُ بِأُمُورٍ مِنْ عِلْمِ الدِّيَانَةِ دُونَ غَيْرِهِ ; وَإِشَارَتُهُ صلى الله عليه وسلم إِلَى ذَمِّ مَنْ شَدَّدَ فِيمَا تَرَخَّصَ فِيهِ، وَفِي قِصَّةِ بَنِي تَمِيمٍ ذَمُّ التَّنَازُعِ الْمُؤَدِّي إِلَى التَّشَاجُرِ وَنِسْبَةُ أَحَدِهِمَا الْآخَرَ إِلَى قَصْدِ مُخَالَفَتِهِ، فَإِنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى ذَمِّ كُلِّ حَالَةٍ تَئُولُ بِصَاحِبِهَا إِلَى افْتِرَاقِ الْكَلِمَةِ أَوِ الْمُعَادَاةِ، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ إِشَارَةٌ إِلَى ذَمِّ التَّعَسُّفِ فِي الْمَعَانِي الَّتِي خَشِيَتْهَا مِنْ قِيَامِ أَبِي بَكْرٍ مَقَامَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قَالَ ابْنُ التِّينِ: مَعْنَى قَوْلِهِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ اسْتَبَّا أَيْ نَسَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآخَرَ إِلَى أَنَّهُ ظَلَمَهُ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِقَوْلِهِ اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا الظَّالِمِ قَالَ: وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُ يَظْلِمُ النَّاسَ وَإِنَّمَا أَرَادَ مَا تَأَوَّلَهُ فِي خُصُوصِ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّ عَلِيًّا سَبَّ الْعَبَّاسَ بِغَيْرِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ صِنْوُ أَبِيهِ، وَلَا أَنَّ الْعَبَّاسَ سَبَّ عَلِيًّا بِغَيْرِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَعْرِفُ فَضْلَهُ وَسَابِقَتَهُ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: هَذَا اللَّفْظُ لَا يَلِيقُ بِالْعَبَّاسِ وَحَاشَا عَلِيًّا مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ سَهْوٌ مِنَ الرُّوَاةِ، وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنْ

ص: 280

صِحَّتِهِ فَلْيُؤَوَّلْ بِأَنَّ الْعَبَّاسَ تَكَلَّمَ بِمَا لَا يُعْتَقَدُ ظَاهِرُهُ مُبَالَغَةً فِي الزَّجْرِ وَرَدْعًا لِمَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُخْطِئٌ فِيهِ، وَلِهَذَا لَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ لَا الْخَلِيفَةَ وَلَا غَيْرِهِ، مَعَ تَشَدُّدِهِمْ فِي إِنْكَارِ الْمُنْكَرِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّهُمْ فَهِمُوا بِقَرِينَةِ الْحَالِ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ بِهِ الْحَقِيقَةَ، انْتَهَى.

وَقَدْ مَضَى بَعْضُ هَذَا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ فِي فَرْضِ الْخُمُسِ، وَفِيهِ أَنَّنِي لَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ هَذِهِ الْقِصَّةِ عَلَى كَلَامٍ لِعَلِيٍّ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ اسْتَبَّا بِالتَّثْنِيَةِ أَنْ يَكُونَ وَقَعَ مِنْهُ فِي حَقِّ الْعَبَّاسِ كَلَامٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: حَاشَا عَلِيًّا أَنْ يَكُونَ ظَالِمًا وَالْعَبَّاسُ أَنْ يَكُونَ ظَالِمًا، بِنِسْبَةِ الظُّلْمِ إِلَى عَلِيٍّ وَلَيْسَ بِظَالِمٍ، وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، تَقْدِيرُهُ أَيْ هَذَا الظَّالِمُ إِنْ لَمْ يُنْصِفْ، أَوِ التَّقْدِيرُ هَذَا كَالظَّالِمِ وَقِيلَ هِيَ كَلِمَةٌ تُقَالُ فِي الْغَضَبِ لَا يُرَادُ بِهَا حَقِيقَتُهَا، وَقِيلَ لَمَّا كَانَ الظُّلْمُ يُفَسَّرُ بِأَنَّهُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ تَنَاوَلَ الذَّنْبَ الْكَبِيرَ وَالصَّغِيرَ، وَتَنَاوَلَ الْخَصْلَةَ الْمُبَاحَةَ الَّتِي لَا تَلِيقُ عُرْفًا، فَيُحْمَلُ الْإِطْلَاقُ عَلَى الْأَخِيرَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌6 - بَاب إِثْمِ مَنْ آوَى مُحْدِثًا، رَوَاهُ عَلِيٌّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

7306 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسٍ: أَحَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، مَا بَيْنَ كَذَا إِلَى كَذَا، لَا يُقْطَعُ شَجَرُهَا، مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. قَالَ عَاصِمٌ: فَأَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: أَوْ آوَى مُحْدِثًا.

قَوْلُهُ: بَابُ إِثْمِ مَنْ آوَى مُحْدِثًا) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبَعْدَ الدَّالِ مُثَلَّثَةٌ، أَيْ أَحْدَثَ الْمَعْصِيَةَ.

قَوْلُهُ (رَوَاهُ عَلِيٌّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَعَبْدُ الْوَاحِدِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ هُوَ ابْنُ زِيَادٍ، وَعَاصِمٌ هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ الْمَعْرُوفُ بِالْأَحْوَلِ، وَقَوْلُهُ قَالَ عَاصِمٌ فَأَخْبَرَنِي هُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ: مُوسَى بْنُ أَنَسٍ) ذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ الصَّوَابَ عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ لَا عَنْ مُوسَى، قَالَ: وَالْوَهْمُ فِيهِ مِنَ الْبُخَارِيِّ أَوْ شَيْخِهِ، قَالَ عِيَاضٌ: وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَلَى الصَّوَابِ. قُلْتُ: إِنْ أَرَادَ أَنَّهُ قَالَ عَنِ النَّضْرِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا قَالَ: لَمَّا أَخْرَجَهُ عَنْ حَامِدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ أَنَسٍ، فَإِنْ كَانَ عِيَاضٌ أَرَادَ أَنَّ الْإِبْهَامَ صَوَابٌ فَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ، وَالَّذِي سَمَّاهُ النَّضْرُ هُوَ مُسَدَّدٌ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ، كَذَا أَخْرَجَهُ فِي مُسْنَدِهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِهِ، وَقَدْ رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ أَبِي قَيْسٍ، عَنْ عَاصِمٍ فَبَيَّنَ أَنَّ بَعْضَهُ عِنْدَهُ عَنْ أَنَسٍ نَفْسِهِ، وَبَعْضَهُ عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِيهِ، أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي مُسْتَخْرَجِهِ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي كِتَابِ التَّرْهِيبِ جَمِيعًا مِنْ طَرِيقِهِ عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ عَاصِمٌ: وَلَمْ أَسْمَعْ مِنْ أَنَسٍ أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَقُلْتُ لِلنَّضْرِ: مَا سَمِعْتُ هَذَا، يَعْنِي الْقَدْرَ الزَّائِدَ مِنْ أَنَسٍ، قَالَ: لَكِنِّي سَمِعْتُهُ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ مَرَّةٍ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ حَدِيثَيْ عَلِيٍّ، وَأَنَسٍ فِي أَوَاخِرِ الْحَجِّ فِي أَوَّلِ فَضَائِلِ الْمَدِينَةِ فِي بَابِ حَرَمِ الْمَدِينَةِ، وَذَكَرْتُ هُنَاكَ رِوَايَةَ مَنْ رَوَى هَذِهِ الزِّيَادَةَ عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَنَسٍ بِدُونِ الْوَاسِطَةِ، وَأَنَّهُ مُدْرَجٌ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فِي غَيْرِ الْمَدِينَةِ، أَنَّهُ غَيْرُ مُتَوَعَّدٍ بِمِثْلِ مَا تَوَعَّدَ بِهِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِالْمَدِينَةِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ عُلِمَ أَنَّ مَنْ آوَى أَهْلَ الْمَعَاصِي أَنَّهُ يُشَارِكُهُمْ فِي الْإِثْمِ فَإِنَّ مَنْ رَضِيَ فِعْلَ قَوْمٍ وَعَمَلَهُمُ الْتَحَقَ بِهِمْ، وَلَكِنْ خُصَّتِ الْمَدِينَةُ بِالذِّكْرِ لِشَرَفِهَا؛ لِكَوْنِهَا مَهْبِطَ الْوَحْيِ وَمَوْطِنَ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام، وَمِنْهَا انْتَشَرَ الدِّينُ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ فَكَانَ لَهَا بِذَلِكَ مَزِيدُ فَضْلٍ عَلَى

ص: 281

غَيْرِهَا، وَقَالَ غَيْرُهُ: السِّرُّ فِي تَخْصِيصِ الْمَدِينَةِ بِالذِّكْرِ أَنَّهَا كَانَتْ إِذْ ذَاكَ مَوْطِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ صَارَتْ مَوْضِعَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ.

‌7 - بَاب مَا يُذْكَرُ مِنْ ذَمِّ الرَّأْيِ وَتَكَلُّفِ الْقِيَاسِ

{وَلا تَقْفُ} - لَا تَقُلْ - {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}

7307 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ تَلِيدٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شُرَيْحٍ وَغَيْرُهُ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: حَجَّ عَلَيْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْزِعُ الْعِلْمَ بَعْدَ أَنْ أَعْطَاكُمُوهُ انْتِزَاعًا، وَلَكِنْ يَنْتَزِعُهُ مِنْهُمْ مَعَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ بِعِلْمِهِمْ، فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ يُسْتَفْتَوْنَ فَيُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ، فَيُضِلُّونَ وَيَضِلُّونَ. فَحَدَّثْتُ بِهِ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو حَجَّ بَعْدُ، فَقَالَتْ: يَا ابْنَ أُخْتِي، انْطَلِقْ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَاسْتَثْبِتْ لِي مِنْهُ الَّذِي حَدَّثْتَنِي عَنْهُ، فَجِئْتُهُ، فَسَأَلْتُهُ، فَحَدَّثَنِي بِهِ كَنَحْوِ مَا حَدَّثَنِي، فَأَتَيْتُ عَائِشَةَ فَأَخْبَرْتُهَا، فَعَجِبَتْ، فَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَقَدْ حَفِظَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو.

قَوْلُهُ: بَابُ مَا يُذْكَرُ مِنْ ذَمِّ الرَّأْيِ) أَيِ الْفَتْوَى بِمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ النَّظَرُ، وَهُوَ يَصْدُقُ عَلَى مَا يُوَافِقُ النَّصَّ وَعَلَى مَا يُخَالِفُهُ، وَالْمَذْمُومُ مِنْهُ مَا يُوجَدُ النَّصُّ بِخِلَافِهِ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ مِنْ إِلَى أَنَّ بَعْضَ الْفَتْوَى بِالرَّأْيِ لَا تُذَمُّ، وَهُوَ إِذَا لَمْ يُوجَدِ النَّصُّ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ.

7308 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا أَبُو حَمْزَةَ سَمِعْتُ الأَعْمَشَ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا وَائِلٍ هَلْ شَهِدْتَ صِفِّينَ قَالَ نَعَمْ فَسَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ يَقُولُ ح و حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ قَالَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ لَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ لَرَدَدْتُهُ وَمَا وَضَعْنَا سُيُوفَنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا إِلَى أَمْرٍ يُفْظِعُنَا إِلاَّ أَسْهَلْنَ بِنَا إِلَى أَمْرٍ نَعْرِفُهُ غَيْرَ هَذَا الأَمْرِ قَالَ وَقَالَ أَبُو وَائِلٍ شَهِدْتُ صِفِّينَ وَبِئْسَتْ صِفِّينَ.

وَقَوْلُهُ وَتَكَلُّفُ الْقِيَاسِ أَيْ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ وَاحْتَاجَ إِلَى الْقِيَاسِ فَلَا يَتَكَلَّفْهُ بَلْ يَسْتَعْمِلْهُ عَلَى أَوْضَاعِهِ وَلَا يَتَعَسَّفْ فِي إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ الْجَامِعَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَرْكَانِ الْقِيَاسِ، بَلْ إِذَا لَمْ تَكُنِ الْعِلَّةُ الْجَامِعَةُ وَاضِحَةً فَلْيَتَمَسَّكْ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَيَدْخُلُ فِي تَكَلُّفِ الْقِيَاسِ مَا إِذَا اسْتَعْمَلَهُ عَلَى أَوْضَاعِهِ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ، وَمَا إِذَا وَجَدَ النَّصَّ فَخَالَفَهُ وَتَأَوَّلَ لِمُخَالَفَتِهِ شَيْئًا بَعِيدًا. وَيَشْتَدُّ الذَّمُّ فِيهِ لِمَنْ يَنْتَصِرُ لِمَنْ يُقَلِّدُهُ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ الْأَوَّلُ اطَّلَعَ عَلَى النَّصِّ.

قَوْلُهُ: {وَلا تَقْفُ} لَا تَقُلْ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) احْتَجَّ لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ ذَمِّ التَّكَلُّفِ بِالْآيَةِ، وَتَفْسِيرُ الْقَفْوِ بِالْقَوْلِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ، وَكَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} لَا تَقُلْ رَأَيْتُ وَلَمْ تَرَ وَسَمِعْتُ وَلَمْ تَسْمَعْ، وَالْمَعْرُوفُ أَنَّهُ الِاتِّبَاعُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ مُوسَى وَالْخَضِرِ فَانْطَلَقَ يَقْفُو أَثَرَهُ: أَيْ يَتْبَعُهُ، وَفِي حَدِيثِ الصَّيْدِ يَقْتَفِي أَثَرَهُ: أَيْ يَتْبَعُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْنَاهُ لَا تَتَّبِعْ مَا لَا تَعْلَمُ وَمَا لَا يَعْنِيكَ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الِاقْتِفَاءُ: اتِّبَاعُ

ص: 282

الْقَفَا، كَمَا أَنَّ الِارْتِدَافَ: اتِّبَاعُ الرِّدْفِ، وَيُكْنَى بِذَلِكَ عَنْ الِاغْتِيَابِ وَتَتَبُّعُ الْمَعَايِبِ، وَمَعْنَى {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} لَا تَحْكُمْ بِالْقِيَافَةِ وَالظَّنِّ، وَالْقِيَافَةُ مَقْلُوبٌ عَنْ الِاقْتِفَاءِ نَحْوُ جَذَبَ وَجَبَذَ، وَسَبَقَهُ إِلَى نَحْوِ هَذَا الْأَخِيرِ الْفَرَّاءُ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ عَنِ السَّلَفِ أَنَّ الْمُرَادَ شَهَادَةُ الزُّورِ أَوِ الْقَوْلُ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَوِ الرَّمْيُ بِالْبَاطِلِ: هَذِهِ الْمَعَانِي مُتَقَارِبَةٌ، وَذَكَرَ قَوْلَ أَبِي عُبَيْدَةَ، ثُمَّ قَالَ: أَصْلُ الْقَفْوِ الْعَيْبُ، وَمِنْهُ حَدِيثُ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، رَفَعَهُ لَا نَقْفُوا مِنَّا وَلَا نَنْتَفِي مِنْ أَبِينَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

وَلَا أَقْفُو الْحَوَاضِنَ إِنْ قَفَيْنَا

ثُمَّ نَقَلَ عَنْ بَعْضِ الْكُوفِيِّينَ أَنَّ أَصْلَهُ الْقِيَافَةُ وَهِيَ اتِّبَاعُ الْأَثَرِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَتِ الْقِرَاءَةُ بِضَمِّ الْقَافِ وَسُكُونِ الْفَاءِ، لَكِنْ زَعَمَ أَنَّهُ عَلَى الْقَلْبِ، قَالَ: وَالْأَوْلَى بِالصَّوَابِ الْأَوَّلُ انْتَهَى. وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا نُقِلَتْ فِي الشَّوَاذِّ عَنْ مُعَاذٍ الْقَارِيِّ، وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ يُقَدِّمُ الْقِيَاسَ عَلَى الْخَبَرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} قَالَ: مَعْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: اتَّبِعُوا فِي ذَلِكَ مَا قَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَأَوْرَدَ الْبَيْهَقِيُّ هُنَا حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ لَيْسَ عَامٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ، لَا أَقُولُ عَامٌ أَخْصَبُ مِنْ عَامٍ، وَلَا أَمِيرٌ خَيْرٌ مِنْ أَمِيرٍ، وَلَكِنْ ذَهَابُ الْعُلَمَاءِ، ثُمَّ يَحْدُثُ قَوْمٌ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِآرَائِهِمْ فَيُهْدَمُ الْإِسْلَامُ.

قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ تَلِيدٍ) بِمُثَنَّاةٍ ثُمَّ لَامٍ وَزْنُ عَظِيمٍ، وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ عِيسَى بْنِ تَلِيدٍ نُسِبَ إِلَى جَدِّهِ يُكْنَى أَبَا عِيسَى بْنَ عُنَيٍّ، بِمُهْمَلَةٍ، ثُمَّ نُونٍ مُصَغَّرٌ، وَهُوَ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ الثِّقَاتِ الْفُقَهَاءِ وَكَانَ يَكْتُبُ لِلْحُكَّامِ.

قَوْلُهُ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ شُرَيْحٍ) هُوَ أَبُو شُرَيْحٍ الْإِسْكَنْدَرَانِيِّ بِمُعْجَمَةٍ أَوَّلُهُ وَمُهْمَلَةٍ آخِرُهُ، وَهُوَ مِمَّنْ وَافَقَتْ كُنْيَتُهُ اسْمَ أَبِيهِ. قَوْلُهُ (وَغَيْرُهُ) هُوَ ابْنُ لَهِيعَةَ، أَبْهَمَهُ الْبُخَارِيُّ لِضَعْفِهِ، وَجَعَلَ الِاعْتِمَادَ عَلَى رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، لَكِنْ ذَكَرَ الْحَافِظُ أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ فِي الْجُزْءِ الَّذِي جَمَعَهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ فِي الْقِيَاسِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ وَهْبٍ حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ، وَابْنِ لَهِيعَةَ جَمِيعًا، لَكِنَّهُ قَدَّمَ لَفْظَ ابْنِ لَهِيعَةَ وَهُوَ مِثْلُ اللَّفْظِ الَّذِي هُنَا ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ رِوَايَةَ أَبِي شُرَيْحٍ فَقَالَ بِذَلِكَ. قُلْتُ: وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي بَابِ الْعِلْمِ مِنْ رِوَايَةِ سَحْنُونٍ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ فَسَاقَهُ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شُرَيْحٍ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بِذَلِكَ، قَالَ ابْنُ طَاهِرٍ: مَا كُنَّا نَدْرِي هَلْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ بِذَلِكَ اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى أَوِ الْمَعْنَى فَقَطْ، حَتَّى وَجَدْنَا مُسْلِمًا أَخْرَجَهُ عَنْ حَرْمَلَةَ بْنِ يَحْيَى، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شُرَيْحٍ وَحْدَهُ، فَسَاقَهُ بِلَفْظٍ مُغَايِرٍ لِلَّفْظِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، قَالَ: فَعُرِفَ أَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي حَذَفَهُ الْبُخَارِيُّ هُوَ لَفْظُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شُرَيْحٍ الَّذِي أَبْرَزَهُ هُنَا، وَالَّذِي أَوْرَدَهُ هُوَ لَفْظُ الْغَيْرِ الَّذِي أَبْهَمَهُ، انْتَهَى.

وَسَأَذْكُرُ تَفَاوُتَهُمَا وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى كَبِيرُ أَمْرٍ، وَكُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ مُسْلِمًا حَذَفَ ذِكْرَ ابْنِ لَهِيعَةَ عَمْدًا؛ لِضَعْفِهِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شُرَيْحٍ، حَتَّى وَجَدْتُ الْإِسْمَاعِيلِيَّ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ حَرْمَلَةَ بِغَيْرِ ذِكْرِ ابْنِ لَهِيعَةَ، فَعَرَفْتُ أَنَّ ابْنَ وَهْبٍ هُوَ الَّذِي كَانَ يَجْمَعُهُمَا تَارَةً وَيُفْرِدُ ابْنَ شُرَيْحٍ تَارَةً. وَعِنْدَ ابْنِ وَهْبٍ فِيهِ شَيْخَانِ آخَرَانِ بِسَنَدٍ آخَرَ، أَخْرَجَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي بَيَانِ الْعِلْمِ مِنْ طَرِيقِ سَحْنُونٍ:، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ بِاللَّفْظِ الْمَشْهُورِ. وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي بَابِ الْعِلْمِ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مَشْهُورٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، رَوَاهُ عَنْ هِشَامٍ أَكْثَرُ مِنْ سَبْعِينَ نَفْسًا.

وَأَقُولُ هُنَا: إِنَّ أَبَا الْقَاسِمِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَافِظِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَنْدَهْ ذَكَرَ فِي كِتَابِ التَّذْكِرَةِ أَنَّ الَّذِينَ رَوَوْهُ عَنِ الْحَافِظِ هِشَامٍ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ ; وَسَرَدَ أَسْمَاءَهُمْ فَزَادُوا عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ نَفْسٍ وَسَبْعِينَ نَفْسًا، مِنْهُمْ مِنَ الْكِبَارِ شُعْبَةُ، وَمَالِكٌ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَمِسْعَرٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، وَالْحَمَّادَانِ، وَمَعْمَرٌ، بَلْ أَكْبَرُ مِنْهُمْ

ص: 283

مِثْلُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، وَالْأَعْمَشُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ، وَأَيُّوبُ، وَبُكَيْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ، وَصَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ، وَأَبُو مَعْشَرٍ، وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، وَعُمَارَةُ بْنُ غَزِيَّةَ، وَهَؤُلَاءِ الْعَشَرَةُ كُلُّهُمْ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ، وَهُمْ مِنْ أَقْرَانِهِ، وَوَافَقَ هِشَامًا عَلَى رِوَايَتِهِ عَنْ عُرْوَةَ أَبُو الْأَسْوَدِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّوْفَلِيُّ الْمَعْرُوفُ بِيَتِيمِ عُرْوَةَ، وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ لَهِيعَةَ، وَأَبُو شُرَيْحٍ، وَرَوَاهُ عَنْ عُرْوَةَ أَيْضًا وَلَدَاهُ يَحْيَى، وَعُثْمَانُ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَهُوَ مِنْ أَقْرَانِهِ، وَالزُّهْرِيُّ وَوَافَقَ عُرْوَةَ عَلَى رِوَايَتِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عُمَرُ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ ثَوْبَانِ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِهِ وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ، لَكِنْ قَالَ بِمِثْلِ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، وَكَأَنَّهُ سَاقَهُ مِنْ رِوَايَةِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ هِشَامٍ، وَسَأَذْكُرُ مَا فِي رِوَايَةِ بَعْضِ مَنْ ذُكِرَ مِنْ فَائِدَةٍ زَائِدَةٍ.

قَوْلُهُ: عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ بِسَنَدِهِ إِلَى ابْنِ شُرَيْحٍ أَنَّ أَبَا الْأَسْوَدِ حَدَّثَهُ.

قَوْلُهُ: عَنْ عُرْوَةَ) زَادَ حَرْمَلَةُ فِي رِوَايَتِهِ ابْنَ الزُّبَيْرِ.

قَوْلُهُ: حَجَّ عَلَيْنَا) أَيْ مَرَّ عَلَيْنَا حَاجًّا (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ قَالَتْ لِي عَائِشَةُ: يَا ابْنَ أُخْتِي، بَلَغَنِي أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو مَارًّا بِنَا إِلَى الْحَجِّ فَالْقَهُ فَسَائِلْهُ؛ فَإِنَّهُ قَدْ حَمَلَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِلْمًا كَثِيرًا، قَالَ: فَلَقِيتُهُ فَسَأَلْتُهُ عَنْ أَشْيَاءَ يَذْكُرُهَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَكَانَ فِيمَا ذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ.

قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْزِعُ الْعِلْمَ بَعْدَ أَنْ أَعْطَاكُمُوهُ) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْمُسْتَمْلِي، والْكُشْمِيهَنِيِّ أَعْطَاهُمُوهُ بِالْهَاءِ ضَمِيرُ الْغَيْبَةِ بَدَلَ الْكَافِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَرْمَلَةَ لَا يَنْتَزِعُ الْعِلْمَ مِنَ النَّاسِ انْتِزَاعًا وَفِي رِوَايَةِ هِشَامٍ الْمَاضِيَةِ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ هِشَامٍ مِنْ قُلُوبِ الْعِبَادِ أَخْرَجَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْهُ، وَفِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ، عَنْ هِشَامٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِثْلُهُ لَكِنْ قَالَ مِنَ النَّاسِ وَهُوَ الْوَارِدُ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ هِشَامٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْزِعُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا، يَنْتَزِعُهُ مِنْهُمْ بَعْدَ أَنْ أَعْطَاهُمْ وَلَمْ يَذْكُرْ عَلَى مَنْ يَعُودُ الضَّمِيرُ، وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنْ هِشَامٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْزِعُ الْعِلْمَ مِنْ صُدُورِ النَّاسِ بَعْدَ أَنْ يُعْطِيَهُمْ إِيَّاهُ وَأَظُنُّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو إِنَّمَا حَدَّثَ بِهَذَا جَوَابًا عَنْ سُؤَالِ مَنْ سَأَلَهُ عَنِ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو أُمَامَةَ قَالَ: لَمَّا كَانَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى جَمَلٍ آدَمَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ خُذُوا مِنَ الْعِلْمِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ، وَقَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ مِنَ الْأَرْضِ الْحَدِيثَ وَفِي آخِرِهِ أَلَا إِنَّ ذَهَابَ الْعِلْمِ ذَهَابُ حَمَلَتُهُ ثَلَاثً مَرَّاتٍ.

أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ، فَبَيَّنَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو أَنَّ الَّذِي وَرَدَ فِي قَبْضِ الْعِلْمِ وَرَفْعِ الْعِلْمِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْكَيْفِيَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَ قَاسِمُ بْنُ أَصْبُغَ، وَمِنْ طَرِيقِهِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ عُمَرَ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ بِحَدِيثِ يُقْبَضُ الْعِلْمُ فَقَالَ: إِنَّ قَبْضَ الْعِلْمِ لَيْسَ شَيْئًا يُنْزَعُ مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ، ولَكِنَّهُ فِنَاءُ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالْبَزَّار مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.

قَوْلُهُ: وَلَكِنْ يَنْتَزِعُهُ مِنْهُمْ مَعَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ بِعِلْمِهِمْ) كَذَا فِيهِ، وَالتَّقْدِيرُ: يَنْتَزِعُهُ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ مَعَ عِلْمِهِمْ، فَفِيهِ بَعْضُ قَلْبٍ ; وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَرْمَلَةَ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعُلَمَاءَ فَيَرْفَعُ الْعِلْمَ مَعَهُمْ وَفِي رِوَايَةِ هِشَامٍ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ وَلَكِنَّ ذَهَابَهُمْ قَبْضُ الْعِلْمِ وَمَعَانِيهَا مُتَقَارِبَةٌ.

قَوْلُهُ (فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ) هُوَ بِفَتْحِ أَوَّلِ يَبْقَى، وَفِي رِوَايَةِ حَرْمَلَةَ وَيُبْقِي فِي النَّاسِ رُءُوسًا جُهَّالًا وَهُوَ بِضَمِّ أَوَّلِ يَبْقَى وَتَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ ضَبْطُ رُءُوسًا هَلْ هُوَ بِصِيغَةِ جَمْعِ رَأْسٍ - وَهِيَ رِوَايَةُ الْأَكْثَرِ - أَوْ رَئِيسٍ. وَفِي رِوَايَةِ هِشَامٍ: حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ هَذِهِ رِوَايَةُ أَبِي ذَرٍّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ. وَلِغَيْرِهِ لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسَ رُءُوسًا جُهَّالًا وَفِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا وَكَذَا فِي رِوَايَةِ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَهِيَ تُؤَيِّدُ الرِّوَايَةَ الثَّانِيَةَ، وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ

ص: 284

هِشَامٍ، وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فَيَصِيرُ لِلنَّاسِ رُءُوسٌ جُهَّالٌ وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ عِنْدَهُ: بَعْدَ أَنْ يُعْطِيَهُمْ إِيَّاهُ، ولَكِنْ يَذْهَبُ الْعُلَمَاءُ كُلَّمَا ذَهَبَ عَالِمٌ ذَهَبَ بِمَا مَعَهُ مِنَ الْعِلْمِ، حَتَّى يَبْقَى مَنْ لَا يَعْلَمُ.

قَوْلُهُ (يُسْتَفْتَوْنَ فَيُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ فَيَضِلُّونَ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ (وَيُضِلُّونَ) بِضَمِّهِ، وَفِي رِوَايَةِ حَرْمَلَةَ يُفْتُونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَيُضِلُّونَ وَيَضِلُّونَ وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ يَسْتَفْتُونَهُمْ فَيُفْتُونَهُمْ وَالْبَاقِي مِثْلُهُ، وَفِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا وَهِيَ رِوَايَةُ الْأَكْثَرِ، وَخَالَفَ الْجَمِيعَ قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ وَهُوَ صَدُوقٌ ضُعِّفَ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ، فَرَوَاهُ عَنْ هِشَامٍ بِلَفْظِ: لَمْ يَزَلْ أَمْرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُعْتَدِلًا، حَتَّى نَشَأَ فِيهِمْ أَبْنَاءُ سَبَايَا الْأُمَمِ فَأَفْتَوْا بِالرَّأْيِ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا. أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ وَقَالَ تَفَرَّدَ بِهِ قَيْسٌ، قَالَ: وَالْمَحْفُوظُ بِهَذَا اللَّفْظِ مَا رَوَاهُ غَيْرُهُ عَنْ هِشَامٍ فَأَرْسَلَهُ. قُلْتُ: وَالْمُرْسَلُ الْمَذْكُورُ أَخْرَجَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي النَّوَادِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَلِ مِنْ طَرِيقِهِ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ فَذَكَرَهُ، كَرِوَايَةِ قَيْسٍ سَوَاءً.

قَوْلُهُ: فَحَدَّثْتُ بِهِ عَائِشَةَ) زَادَ حَرْمَلَةُ فِي رِوَايَتِهِ، فَلَمَّا حَدَّثْتُ عَائِشَةَ بِذَلِكَ أَعْظَمَتْ ذَلِكَ وَأَنْكَرَتْهُ، وَقَالَتْ: أَحَدَّثَكَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ هَذَا.

قَوْلُهُ: ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو حَجَّ بَعْدُ، فَقَالَتْ: يَا ابْنَ أُخْتِي انْطَلِقْ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ فَاسْتَثْبِتْ لِي مِنْهُ الَّذِي حَدَّثْتَنِي عَنْهُ) فِي رِوَايَةِ حَرْمَلَةَ أَنَّهُ حَجَّ مِنَ السَّنَةِ الْمُقْبِلَةِ وَلَفْظُهُ: قَالَ عُرْوَةُ: حَتَّى إِذَا كَانَ قَابِلُ قَالَتْ لَهُ: إِنَّ ابْنَ عَمْرٍو قَدْ قَدِمَ فَالْقَهُ ثُمَّ فَاتِحْهُ حَتَّى تَسْأَلَهُ عَنِ الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ لَكَ فِي الْعِلْمِ.

قَوْلُهُ: فَجِئْتُهُ فَسَأَلْتُهُ) فِي رِوَايَةِ حَرْمَلَةَ: فَلَقِيتُهُ.

قَوْلُهُ: فَحَدَّثَنِي بِهِ) فِي رِوَايَةِ حَرْمَلَةَ فَذَكَرَهُ لِي قَوْلُهُ (كَنَحْوِ مَا حَدَّثَنِي) فِي رِوَايَةِ حَرْمَلَةَ بِنَحْوِ مَا حَدَّثَنِي بِهِ فِي مَرَّتِهِ الْأُولَى وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ الْمَوْصُولَةِ قَالَ عُرْوَةُ: ثُمَّ لَبِثْتُ سَنَةً ثُمَّ لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو فِي الطَّوَافِ فَسَأَلْتُهُ فَأَخْبَرَنِي بِهِ فَأَفَادَ أَنَّ لِقَاءَهُ إِيَّاهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ كَانَ بِمَكَّةَ وَكَأَنَّ عُرْوَةَ كَانَ حَجَّ فِي تِلْكَ السَّنَةِ مِنَ الْمَدِينَةِ وَحَجَّ عَبْدُ اللَّهِ مِنْ مِصْرَ فَبَلَغَ عَائِشَةَ، وَيَكُونُ قَوْلُهَا قَدْ قَدِمَ أَيْ مِنْ مِصْرَ طَالِبًا لِمَكَّةَ لَا أَنَّهُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، إِذْ لَوْ دَخَلَهَا لَلَقِيَهُ عُرْوَةُ بِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ عَائِشَةُ حَجَّتْ تِلْكَ السَّنَةَ وَحَجَّ مَعَهَا عُرْوَةُ فَقَدِمَ عَبْدُ اللَّهِ بَعْدُ، فَلَقِيَهُ عُرْوَةُ بِأَمْرِ عَائِشَةَ.

قَوْلُهُ (فَعَجِبَتْ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَقَدْ حَفِظَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو) فِي رِوَايَةِ حَرْمَلَةَ فَلَمَّا أَخْبَرْتُهَا بِذَلِكَ قَالَتْ مَا أَحْسَبُهُ إِلَّا صَدَقَ أَرَاهُ لَمْ يَزِدْ فِيهِ شَيْئًا وَلَمْ يَنْقُصْ. قُلْتُ: وَرِوَايَةُ الْأَصْلِ تَحْتَمِلُ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَ عِنْدَهَا عِلْمٌ مِنَ الْحَدِيثِ، وَظَنَّتْ أَنَّهُ زَادَ فِيهِ أَوْ نَقَصَ. فَلَمَّا حَدَّثَ بِهِ ثَانِيًا كَمَا حَدَّثَ بِهِ أَوَّلًا، تَذَكَّرَتْ أَنَّهُ عَلَى وَفْقِ مَا كَانَتْ سَمِعَتْ، وَلَكِنَّ رِوَايَةَ حَرْمَلَةَ الَّتِي ذَكَرَ فِيهَا أَنَّهَا أَنْكَرَتْ ذَلِكَ وَأَعْظَمَتْهُ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهَا مِنَ الْحَدِيثِ عِلْمٌ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّهَا لَمْ تَسْتَدِلَّ عَلَى أَنَّهُ حَفِظَهُ إِلَّا لكَوْنَهُ حَدَّثَ بِهِ بَعْدَ سَنَةٍ كَمَا حَدَّثَ بِهِ أَوَّلًا لَمْ يَزِدْ وَلَمْ يَنْقُصْ. قَالَ عِيَاضٌ: لَمْ تَتَّهِمْ عَائِشَةُ عَبْدَ اللَّهِ وَلَكِنْ لَعَلَّهَا نَسَبَتْ إِلَيْهِ أَنَّهُ مِمَّا قَرَأَهُ مِنَ الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ طَالَعَ كَثِيرًا مِنْهَا، وَمِنْ ثَمَّ قَالَتْ: أَحَدَّثَكَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ هَذَا انْتَهَى.

وَعَلَى هَذَا فَرِوَايَةُ مَعْمَرٍ لَهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو هِيَ الْمُعْتَمَدَةُ، وَهِيَ فِي مُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَعِنْدَ أَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِهِ وَلَكِنَّ التِّرْمِذِيَّ لَمَّا أَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ: رَوَى الزُّهْرِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا رِوَايَةُ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ وَالْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ يُونُسَ، وَشَبِيبٌ فِي حِفْظِهِ شَيْءٌ وَقَدْ شَذَّ بِذَلِكَ، وَلَمَّا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ أَرْدَفَهُ بِرِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: أَشْهَدُ

ص: 285

أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَرْفَعُ اللَّهُ الْعِلْمَ بِقَبْضِهِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعُلَمَاءَ الْحَدِيثَ ; وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي بَيَانِ الْعِلْمِ: رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَيْضًا عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ بِمَعْنَى حَدِيثِ مَالِكٍ.

قُلْتُ: وَرِوَايَةُ يَحْيَى أَخْرَجَهَا الطَّيَالِسِيُّ، عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ عَنْهُ، وَوَجَدْتُ عَنِ الزُّهْرِيِّ فِيهِ سَنَدًا آخَرَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ الْعَلَاءِ بْنِ سُلَيْمَانَ الرَّقِّيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَذَكَرَ مِثْلَ رِوَايَةِ هِشَامٍ سَوَاءً، لَكِنْ زَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ وَأَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ وَالْعَلَاءُ بْنُ سُلَيْمَانَ ضَعَّفَهُ ابْنُ عَدِيٍّ وَأَوْرَدَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ رِوَايَةِ حَرْمَلَةَ الَّتِي مَضَتْ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ بِلَفْظِ يَقْبِضُ اللَّهُ الْعُلَمَاءَ، وَيَقْبِضُ الْعِلْمَ مَعَهُمْ، فَتَنْشَأُ أَحْدَاثٌ يَنْزُو بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ نَزْوَ الْعِيرِ عَلَى الْعِيرِ، وَيَكُونُ الشَّيْخُ فِيهِمْ مُسْتَضْعَفًا وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ وَأَخْرَجَ الدَّارِمِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ.

قَوْلَهُ رَفْعُ الْعِلْمِ ذَهَابُ الْعُلَمَاءِ وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَبْضُ الْعِلْمِ قَبْضُ الْعُلَمَاءِ وَعِنْدَ أَحْمَدَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ هَلْ تَدْرُونَ مَا ذَهَابُ الْعِلْمِ؟ ذَهَابُ الْعُلَمَاءِ وَأَفَادَ حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ أَوَّلًا وَقْتَ تَحْدِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ مِنَ الْفَائِدَةِ ازَّائِدَةِ أَنَّ بَقَاءَ الْكُتُبِ بَعْدَ رَفْعِ الْعِلْمِ بِمَوْتِ الْعُلَمَاءِ لَا يُغْنِي مَنْ لَيْسَ بِعَالِمٍ شَيْئًا فَإِنَّ فِي بَقِيَّتِهِ فَسَأَلَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، كَيْفَ يُرْفَعُ الْعِلْمُ مِنَّا وَبَيْنَ أَظْهُرِنَا الْمَصَاحِفُ، وَقَدْ تَعَلَّمْنَا مَا فِيهَا وَعَلَّمْنَاهَا أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا وَخَدَمَنَا، فَرَفَعَ إِلَيْهِ رَأْسَهُ وَهُوَ مُغْضَبٌ فَقَالَ: وَهَذِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بَيْنَ أَظْهُرِهِمُ الْمَصَاحِفُ، لَمْ يَتَعَلَّقُوا مِنْهَا بِحَرْفٍ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ أَنْبِيَاؤُهُمْ وَلِهَذِهِ الزِّيَادَةِ شَوَاهِدُ مِنْ حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، وَابْنِ عَمْرٍو، وَصَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ وَغَيْرِهِمْ، وَهِيَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَالطَّبَرَانِيِّ، وَالدَّارِمِيِّ، وَالْبَزَّارِ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَفِي جَمِيعِهَا هَذَا الْمَعْنَى، وَقَدْ فَسَّرَ عُمَرُ قَبْضَ الْعِلْمِ بِمَا وَقَعَ تَفْسِيرُهُ بِهِ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ وَيُرْفَعُ الْعِلْمُ فَسَمِعَهُ عُمَرُ فَقَالَ: أَمَا إنَّهُ لَيْسَ يُنْزَعُ مِنْ صُدُورِ الْعُلَمَاءِ وَلَكِنْ بِذَهَابِ الْعُلَمَاءِ وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ عُمَرَ مَرْفُوعًا، فَيَكُونُ شَاهِدًا قَوِيًّا لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو.

وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ خُلُوِّ الزَّمَانِ عَنْ مُجْتَهِدٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ - خِلَافًا لِأَكْثَرِ الْحَنَابِلَةِ وَبَعْضٍ منْ غَيْرِهِمْ - لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي رَفْعِ الْعِلْمِ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، وَفِي تَرْئِيسِ أَهْلِ الْجَهْلِ وَمِنْ لَازِمِهِ الْحُكْمُ بِالْجَهْلِ، وَإِذَا انْتَفَى الْعِلْمُ وَمَنْ يَحْكُمُ بِهِ اسْتَلْزَمَ انْتِفَاءَ الِاجْتِهَادِ وَالْمُجْتَهِدِ، وَعُورِضَ هَذَا بِحَدِيثِ لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَفِي لَفْظٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ - أَوْ - حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَمَضَى فِي الْعِلْمِ كَالْأَوَّلِ بِغَيْرِ شَكٍّ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَلَمْ يَشُكَّ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَأُجِيبَ أَوَّلًا بِأَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي عَدَمِ الْخُلُوِّ لَا فِي نَفْيِ الْجَوَازِ، وَثَانِيًا بِأَنَّ الدَّلِيلَ لِلْأَوَّلِ أَظْهَرُ لِلتَّصْرِيحِ بِقَبْضِ الْعِلْمِ تَارَةً وَبِرَفْعِهِ أُخْرَى بِخِلَافِ الثَّانِي، وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّعَارُضِ فَيَبْقَى أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْمَانِعِ.

قَالُوا: الِاجْتِهَادُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَيَسْتَلْزِمُ انْتِفَاؤَهُ الِاتِّفَاقُ عَلَى الْبَاطِلِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ بَقَاءَ فَرْضِ الْكِفَايَةِ مَشْرُوطٌ بِبَقَاءِ الْعُلَمَاءِ، فَأَمَّا إِذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى انْقِرَاضِ الْعُلَمَاءِ فَلَا؛ لِأَنَّ بِفَقْدِهِمْ تَنْتَفِي الْقُدْرَةُ وَالتَّمَكُّنُ مِنَ الِاجْتِهَادِ، وَإِذَا انْتَفَى أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا لَمْ يَقَعِ التَّكْلِيفُ بِهِ، هَكَذَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ: وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ: تَغَيُّرُ الزَّمَانِ حَتَّى تُعْبَدَ الْأَوْثَانُ، فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْفِتَنِ مَا يُشِيرُ إِلَى أَنَّ مَحَلَّ وُجُودِ ذَلِكَ عِنْدَ فَقْدِ الْمُسْلِمِينَ بِهُبُوبِ الرِّيحِ الَّتِي تَهُبُّ بَعْدَ نُزُولِ عِيسَى عليه السلام، فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا قَبَضَتْهُ وَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ، فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ، وَهُوَ بِمَعْنَاهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ كَمَا بَيَّنْتُهُ هُنَاكَ فَلَا يَرِدُ اتِّفَاقُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَرْكِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ وَالْعَمَلِ بِالْجَهْلِ لِعَدَمِ وُجُودِهِمْ، وَهُوَ

ص: 286

الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَأَمَّا الرِّوَايَةُ بِلَفْظِ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ فَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى إِشْرَافِهَا بِوُجُودِ آخِرِ أَشْرَاطِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا بِأَدِلَّتِهِ فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، عَنْ حُذَيْفَةَ رَفَعَهُ يَدْرُسُ الْإِسْلَامُ كَمَا يَدْرُسُ وَشْيُ الثَّوْبِ.

إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَجَوَّزَ الطَّبَرِيُّ أَنْ يُضْمَرَ فِي كُلٍّ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ الْمَحَلُّ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ تِلْكَ الطَّائِفَةُ، فَالْمَوْصُوفُونَ بِشِرَارِ النَّاسِ الَّذِينَ يَبْقَوْنَ بَعْدَ أَنْ تَقْبِضَ الرِّيحُ مَنْ تَقْبِضُهُ، يَكُونُونَ مَثَلًا بِبَعْضِ الْبِلَادِ كَالْمَشْرِقِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْفِتَنِ، وَالْمَوْصُوفُونَ بِأَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ يَكُونُونَ مَثَلًا بِبَعْضِ الْبِلَادِ كَبَيْتِ الْمَقْدِسِ لِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ: إِنَّهُمْ بِالشَّامِ وَفِي لَفْظٍ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَمَا قَالَهُ وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا يَرُدُّهُ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الْأَرْضِ اللَّهُ اللَّهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَيُمْكِنُ أَنْ تَنْزِلَ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ عَلَى التَّرْتِيبِ فِي الْوَاقِعِ فَيَكُونُ أَوَّلًا: رَفْعُ الْعِلْمِ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ الِاجْتِهَادَ الْمُطْلَقَ ثُمَّ الْمُقَيَّدَ، ثَانِيًا: فَإِذَا لَمْ يَبْقَ مُجْتَهِدٌ اسْتَوَوْا فِي التَّقْلِيدِ، لَكِنْ رُبَّمَا كَانَ بَعْضُ الْمُقَلِّدِينَ أَقْرَبَ إِلَى بُلُوغِ دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ الْمُقَيَّدِ مِنْ بَعْضٍ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ فَرَّعْنَا عَلَى جَوَازِ تَجَزُّؤِ الِاجْتِهَادِ وَلَكِنْ لِغَلَبَةِ الْجَهْلِ يُقَدِّمُ أَهْلُ الْجَهْلِ أَمْثَالَهُمْ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا وَهَذَا لَا يَنْفِي تَرْئِيسَ بَعْضِ مَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِالْجَهْلِ التَّامِّ، كَمَا لَا يَمْتَنِعُ تَرْئِيسُ مَنْ يُنْسَبُ إِلَى الْجَهْلِ فِي الْجُمْلَةِ فِي زَمَنِ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ سَمِعْتُ خَلَّادَ بْنَ سَلْمَانَ الْحَضْرَمِيَّ يَقُولُ حَدَّثَنَا دَرَّاجُ أَبُو السَّمْحِ يَقُولُ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يُسَمِّنُ الرَّجُلُ رَاحِلَتَهُ حَتَّى يَسِيرَ عَلَيْهَا فِي الْأَمْصَارِ يَلْتَمِسَ مَنْ يُفْتِيهِ بِسُنَّةٍ قَدْ عَمِلَ بِهَا، فَلَا يَجِدَ إِلَّا مَنْ يُفْتِيهِ بِالظَّنِّ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْأَغْلَبُ الْأَكْثَرُ فِي الْحَالَيْنِ، وَقَدْ وُجِدَ هَذَا مُشَاهَدًا، ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يُقْبَضَ أَهْلُ تِلْكَ الصِّفَةِ وَلَا يَبْقَى إِلَّا الْمُقَلِّدُ الصِّرْفُ، وَحِينَئِذٍ يُتَصَوَّرُ خُلُوُّ الزَّمَانِ عَنْ مُجْتَهِدٍ حَتَّى فِي بَعْضِ الْأَبْوَابِ بَلْ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، وَلَكِنْ يَبْقَى مَنْ لَهُ نِسْبَةٌ إِلَى الْعِلْمِ فِي الْجُمْلَةِ، ثُمَّ يَزْدَادُ حِينَئِذٍ غَلَبَةُ الْجَهْلِ وَتَرْئِيسُ أَهْلِهِ، ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يُقْبَضَ أُولَئِكَ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَذَلِكَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَكُونَ عِنْدَ خُرُوجِ الدَّجَّالِ أَوْ

بَعْدَ مَوْتِ عِيسَى عليه السلام، وَحِينَئِذٍ يُتَصَوَّرُ خُلُوُّ الزَّمَانِ عَمَّنْ يُنْسَبُ إِلَى الْعِلْمِ أَصْلًا، ثُمَّ تَهُبُّ الرِّيحُ فَتَقْبِضُ كُلَّ مُؤْمِنٍ، وَهُنَاكَ يَتَحَقَّقُ خُلُوُّ الْأَرْضِ عَنْ مُسْلِمٍ فَضْلًا عَنْ عَالِمٍ فَضْلًا عَنْ مُجْتَهِدٍ، وَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ، فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْفِتَنِ كَثِيرٌ مِنَ الْمَبَاحِثِ وَالنُّقُولِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِقَبْضِ الْعِلْمِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

وَفِي الْحَدِيثِ الزَّجْرُ عَنْ تَرْئِيسِ الْجَاهِلِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَفْسَدَةِ. وَقَدْ يَتَمَسَّكُ بِهِ مَنْ لَا يُجِيزُ تَوْلِيَةَ الْجَاهِلِ بِالْحُكْمِ، وَلَوْ كَانَ عَاقِلًا عَفِيفًا، لَكِنْ إِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ الْعَالَمِ الْفَاسِقِ وَالْجَاهِلِ الْعَفِيفِ، فَالْجَاهِلُ الْعَفِيفُ أَوْلَى لِأَنَّ وَرَعَهُ يَمْنَعُهُ عَنِ الْحُكْمِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَيَحْمِلُهُ عَلَى الْبَحْثِ وَالسُّؤَالِ.

وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا حَضُّ أَهْلِ الْعِلْمِ وَطَلَبَتِهِ عَلَى أَخْذِ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ، وَفِيهِ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ بِالْحِفْظِ وَالْفَضْلِ، وَفِيهِ حَضُّ الْعَالِمِ طَالِبِهِ عَلَى الْأَخْذِ عَنْ غَيْرِهِ لِيَسْتَفِيدَ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، وَفِيهِ التَّثَبُّتُ فِيمَا يُحَدِّثُ بِهِ الْمُحَدِّثُ إِذَا قَامَتْ قَرِينَةُ الذُّهُولِ وَمُرَاعَاةُ الْفَاضِلِ مِنْ جِهَةِ قَوْلِ عَائِشَةَ اذْهَبْ إِلَيْهِ فَفَاتِحْهُ حَتَّى تَسْأَلَهُ عَنِ الْحَدِيثِ وَلَمْ تَقُلْ لَهُ سَلْهُ عَنْهُ ابْتِدَاءً خَشْيَةً مِنَ اسْتِيحَاشِهِ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: التَّوْفِيقُ بَيْنَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ فِي ذَمِّ الْعَمَلِ بِالرَّأْيِ وَبَيْنَ مَا فَعَلَهُ السَّلَفُ مِنَ اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ، أَنَّ نَصَّ الْآيَةِ ذَمُّ الْقَوْلِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَخَصَّ بِهِ مَنْ تَكَلَّمَ بِرَأْيٍ مجردٍ عَنِ اسْتِنَادٍ إِلَى أَصْلٍ.

وَمَعْنَى الْحَدِيثِ ذَمُّ مَنْ أَفْتَى مَعَ الْجَهْلِ، وَلِذَلِكَ وَصَفَهُمْ بِالضَّلَالِ وَالْإِضْلَالِ، وَإِلَّا فَقَدْ مَدَحَ مَنِ اسْتَنْبَطَ مِنَ الْأَصْلِ لِقَوْلِهِ {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}

ص: 287

فَالرَّأْيُ إِذَا كَانَ مُسْتَنِدًا إِلَى أَصْلٍ مِنَ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ أَوِ الْإِجْمَاعِ فَهُوَ الْمَحْمُودُ، وَإِذَا كَانَ لَا يَسْتَنِدُ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا فَهُوَ الْمَذْمُومُ، قَالَ: وَحَدِيثُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَإِنْ كَانَ يَدُلُّ عَلَى ذَمِّ الرَّأْيِ لَكِنَّهُ مَخْصُوصٌ بِمَا إِذَا كَانَ مُعَارِضًا لِلنَّصِّ، فَكَأَنَّهُ قَالَ اتَّهِمُوا الرَّأْيَ إِذَا خَالَفَ السُّنَّةَ، كَمَا وَقَعَ لَنَا حَيْثُ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالتَّحَلُّلِ فَأَحْبَبْنَا الِاسْتِمْرَارَ عَلَى الْإِحْرَامِ، وَأَرَدْنَا الْقِتَالَ لِنُكْمِلَ نُسُكَنَا وَنَقْهَرَ عَدُوَّنَا، وَخَفِيَ عَنَّا حِينَئِذٍ مَا ظَهَرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِمَّا حُمِدَتْ عُقْبَاهُ، وَعُمَرُ هُوَ الَّذِي كَتَبَ إِلَى شُرَيْحٍ انْظُرْ مَا تَبَيَّنَ لَكَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَا تَسْأَلْ عَنْهُ أَحَدًا، فَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَكَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَاتَّبِعْ فِيهِ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَكَ مِنَ السُّنَّةِ فَاجْتَهِدْ فِيهِ رَأْيَكَ هَذِهِ رِوَايَةُ سَيَّارٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ وَفِي رِوَايَةِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إِلَيْهِ نَحْوَهُ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ اقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِمَا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِمَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَإِنْ شِئْتَ فَتَقَدَّمْ وَإِنْ شِئْتَ فَتَأَخَّرْ، وَلَا أَرَى التَّأَخُّرَ إِلَّا خَيْرًا لَكَ فَهَذَا عُمَرُ أَمَرَ بِالِاجْتِهَادِ ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الرَّأْيَ

الَّذِي ذَمَّهُ مَا خَالَفَ الْكِتَابَ أَوِ السُّنَّةَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَ حَدِيثِ عُمَرَ مِنْ رِوَايَةِ الشَّيْبَانِيِّ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ فَإِنْ جَاءَهُ مَا لَيْسَ فِي ذَلِكَ فَلْيَجْتَهِدْ رَأْيَهُ فَإِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ، فَدَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ.

قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا عَبْدَانُ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ، وَعَبْدَانُ لَقَبٌ وَأَبُو حَمْزَةَ بِالْمُهْمَلَةِ ثُمَّ الزَّايِ هُوَ السُّكَّرِيُّ، وَسَاقَ الْمَتْنَ عَلَى لَفْظِ أَبِي عَوَانَةَ لِأَنَّهُ سَاقَ لَفْظَ عَبْدَانَ فِي كِتَابِ الْجِزْيَةِ وَوَقَعَتْ رِوَايَةُ أَبِي عَوَانَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي حَمْزَةَ، وَسَاقَ الْمَتْنَ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ رِوَايَةَ أَبِي حَمْزَةَ، وَفِي آخِرِهِ فَسَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ يَقُولُ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: قَالَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ يَا أَيُّهَا النَّاسُ) قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ سَبَبِ خُطْبَتِهِ بِذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَتْحِ، وَبَيَانُ الْمُرَادِ بِقَوْلِ سَهْلٍ يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ، وَقَوْلُهُ يُفْظِعُنَا بِالظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ الْمَكْسُورَةِ بَعْدَ الْفَاءِ السَّاكِنَةِ، أَيْ يُوقِعُنَا فِي أَمْرٍ فَظِيعٍ، وَهُوَ الشَّدِيدُ فِي الْقُبْحِ وَنَحْوِهِ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَسْهَلْنَ بِسُكُونِ اللَّامِ بَعْدَ الْهَاءِ وَالنُّونِ الْمَفْتُوحَتَيْنِ، وَالْمَعْنَى أَنْزَلَتْنَا فِي السَّهْلِ مِنَ الْأَرْضِ أَيْ أَفْضَيْنَ بِنَا، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ التَّحَوُّلِ مِنَ الشِّدَّةِ إِلَى الْفَرَجِ، وَقَوْلُهُ بِنَا فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِهَا وَمُرَادُ سَهْلٍ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا وَقَعُوا فِي شِدَّةٍ يَحْتَاجُونَ فِيهَا إِلَى الْقِتَالِ فِي الْمَغَازِي وَالثُّبُوتِ وَالْفُتُوحِ الْعُمَرِيَّةِ، عَمَدُوا إِلَى سُيُوفِهِمْ فَوَضَعُوهَا عَلَى عَوَاتِقِهِمْ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْجِدِّ فِي الْحَرْبِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ انْتَصَرُوا، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالنُّزُولِ فِي السَّهْلِ، ثُمَّ اسْتَثْنَى الْحَرْبَ الَّتِي وَقَعَتْ بِصِفِّينَ لِمَا وَقَعَ فِيهَا مِنْ إِبْطَاءِ النَّصْرِ وَشِدَّةِ الْمُعَارَضَةِ مِنْ حِجَجِ الْفَرِيقَيْنِ؛ إِذْ حُجَّةُ عَلِيٍّ وَمَنْ مَعَهُ مَا شُرِعَ لَهُمْ مِنْ قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ حَتَّى يَرْجِعُوا إِلَى الْحَقِّ، وَحُجَّةُ مُعَاوِيَةَ وَمَنْ مَعَهُ مَا وَقَعَ مِنْ قَتْلِ عُثْمَانَ مَظْلُومًا، وَوُجُودُ قَتَلَتِهِ بِأَعْيَانِهِمْ فِي الْعَسْكَرِ الْعِرَاقِيِّ فَعَظُمَتِ الشُّبْهَةُ حَتَّى اشْتَدَّ الْقِتَالُ وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِي الْجَانِبَيْنِ، إِلَى أَنْ وَقَعَ التَّحْكِيمُ فَكَانَ مَا كَانَ.

قَوْلُهُ: وَقَالَ أَبُو وَائِلٍ شَهِدْتُ صِفِّينَ وَبِئْسَ صِفِّينَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَلِغَيْرِهِ وَبِئْسَ صِفُّونَ وَفِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ مِثْلُهُ وَلَكِنْ قَالَ وَبِئْسَ الصِّفُّونُ بِزِيَادَةِ أَلْفٍ وَلَامٍ. وَالْمَشْهُورُ فِي صِفِّينَ كَسْرُ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ، وَبَعْضُهُمْ فَتَحَهَا وَجَزَمَ بِالْكَسْرِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالْفَاءُ مَكْسُورَةٌ مُثْقَلَةٌ اتِّفَاقًا، وَالْأَشْهَرُ فِيهَا بِالْيَاءِ قَبْلَ النُّونِ كَمَارِدِينَ وَفِلَسْطِينَ وَقِنِّسْرِينَ وَغَيْرِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْدَلَ الْيَاءَ وَاوًا فِي الْأَحْوَالِ، وَعَلَى هَاتَيْنِ اللُّغَتَيْنِ فَإِعْرَابُهَا إِعْرَابَ غِسْلِينَ وَعُرْبُونَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَعْرَبَهَا إِعْرَابَ جَمْعِ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ فَتَتَصَرَّفُ بِحَسْبِ الْعَوَامِلِ، مِثْلَ {لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ} وَمِنْهُمْ مَنْ فَتَحَ النُّونَ مَعَ الْوَاوِ لُزُومًا.

نَقَلَ كُلَّ ذَلِكَ ابْنُ مَالِكٍ وَلَمْ يَذْكُرْ فَتْحَ النُّونِ مَعَ الْيَاءِ لُزُومًا وَقَوْلُهُ اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ أَيْ لَا تَعْمَلُوا فِي أَمْرِ الدِّينِ بِالرَّأْيِ الْمُجَرَّدِ الَّذِي

ص: 288

لَا يَسْتَنِدُ إِلَى أَصْلٍ مِنَ الدِّينِ، وَهُوَ كَنَحْوِ قَوْلِ عَلِيٍّ فِيمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ مَسْحُ أَسْفَلِ الْخُفِّ أَوْلَى مِنْ أَعْلَاهُ وَالسَّبَبُ فِي قَوْلِ سَهْلٍ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّينَ، أَنَّ أَهْلَ الشَّامِ لَمَّا اسْتَشْعَرُوا أَنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ شَارَفُوا أَنْ يَغْلِبُوهُمْ، وَكَانَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنَ الْقُرَّاءِ الَّذِينَ يُبَالِغُونَ فِي التَّدَيُّنِ، وَمِنْ ثَمَّ صَارَ مِنْهُمُ الْخَوَارِجُ الَّذِينَ مَضَى ذِكْرُهُمْ، فَأَنْكَرُوا عَلَى عَلِيٍّ وَمَنْ أَطَاعَهُ الْإِجَابَةَ إِلَى التَّحْكِيمِ، فَاسْتَنَدَ عَلِيٌّ إِلَى قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَجَابَ قُرَيْشًا إِلَى الْمُصَالَحَةِ مَعَ ظُهُورِ غَلَبَتِهِ لَهُمْ، وَتَوَقَّفَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ أَوَّلًا حَتَّى ظَهَرَ لَهُمْ أَنَّ الصَّوَابَ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ، كَمَا مَضَى بَيَانُهُ مُفَصَّلًا فِي الشُّرُوطِ، وَأَوَّلَ الْكِرْمَانِيُّ كَلَامَ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ بِحَسَبِ مَا احْتَمَلَهُ اللَّفْظُ فَقَالَ: كَأَنَّهُمِ اتَّهَمُوا سَهْلًا بِالتَّقْصِيرِ فِي الْقِتَالِ حِينَئِذٍ، فَقَالَ لَهُمْ: بَلِ اتَّهِمُوا أَنْتُمْ رَأْيَكُمْ؛ فَإِنِّي لَا أُقَصِّرُ كَمَا لَمْ أَكُنْ مُقَصِّرًا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَقْتَ الْحَاجَةِ، فَكَمَا تَوَقَّفْتُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ أَجْلِ أَنِّي لَا أُخَالِفُ حُكْمَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَذَلِكَ أَتَوَقَّفُ الْيَوْمَ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ.

وَقَدْ جَاءَ عَنْ عُمَرَ نَحْوُ قَوْلِ سَهْلٍ، وَلَفْظُهُ اتَّقُوا الرَّأْيَ فِي دِينِكُمْ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَلِ هَكَذَا مُخْتَصَرًا، وَأَخْرَجَهُ هُوَ وَالطَّبَرِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ مُطَوَّلًا بِلَفْظِ: اتَّهِمُوا الرَّأْيَ عَلَى الدِّينِ ; فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي أَرُدُّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِرَأْيِي اجْتِهَادًا، فَوَاللَّهِ مَا آلُو عَنِ الْحَقِّ وَذَلِكَ يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ حَتَّى قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: تَرَانِي أَرْضَى وَتَأْبَى.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَصِيرَ إِلَى الرَّأْيِ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ فَقْدِ النَّصِّ، وَإِلَى هَذَا يُومِئُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ إِلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ الْقِيَاسُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَ الْعَامِلُ بِرَأْيِهِ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ أَنَّهُ وَقَعَ عَلَى الْمُرَادِ مِنَ الْحُكْمِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ بَذْلُ الْوُسْعِ فِي الِاجْتِهَادِ لِيُؤْجَرَ وَلَوْ أَخْطَأَ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَلِ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي بَيَانِ الْعِلْمِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ كَالْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَشُرَيْحٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ بِأَسَانِيدَ جِيَادٍ ذَمَّ الْقَوْلِ بِالرَّأْيِ الْمُجَرَّدِ، وَيَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ أَخْرَجَهُ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ وَغَيْرُهُ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ وَقَدْ صَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ فِي آخِرِ الْأَرْبَعِينَ، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ عُمَرَ قَالَ إِيَّاكُمْ وَأَصْحَابَ الرَّأْيِ فَإِنَّهُمْ أَعْدَاءُ السُّنَنِ، أَعْيَتْهُمُ الْأَحَادِيثُ أَنْ يَحْفَظُوهَا، فَقَالُوا بِالرَّأْيِ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا فَظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ أَرَادَ ذَمَّ مَنْ قَالَ بِالرَّأْيِ مَعَ وُجُودِ النَّصِ مِنَ الْحَدِيثِ لِإِغْفَالِهِ التَّنْقِيبَ عَلَيْهِ فَهَذَا يُلَامُ، وَأَوْلَى مِنْهُ بِاللَّوْمِ مَنْ عَرَفَ النَّصَّ وَعَمِلَ بِمَا عَارَضَهُ مِنَ الرَّأْيِ، وَتَكَلَّفَ لِرَدِّهِ بِالتَّأْوِيلِ، وَإِلَى ذَلِكَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ فِي التَّرْجَمَةِ وَتَكَلَّفَ الْقِيَاسَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي بَيَانِ الْعِلْمِ - بَعْدَ أَنْ سَاقَ آثَارًا كَثِيرَةً فِي ذَمِّ الرَّأْيِ - مَا مُلَخَّصُهُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الرَّأْيِ الْمَقْصُودِ إِلَيْهِ بِالذَّمِّ فِي هَذِهِ الْآثَارِ مَرْفُوعِهَا وَمَوْقُوفِهَا وَمَقْطُوعِهَا، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ الْقَوْلُ فِي الِاعْتِقَادِ بِمُخَالَفَةِ السُّنَنِ لِأَنَّهُمُ اسْتَعْمَلُوا آرَاءَهُمْ وَأَقْيِسَتَهُمْ فِي رَدِّ الْأَحَادِيثِ، حَتَّى طَعَنُوا فِي الْمَشْهُورِ مِنْهَا الَّذِي بَلَغَ التَّوَاتُرَ كَأَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ، وَأَنْكَرُوا أَنْ يَخْرُجَ أَحَدٌ مِنَ النَّارِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَهَا، وَأَنْكَرُوا الْحَوْضَ وَالْمِيزَانَ وَعَذَابَ الْقَبْرِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِهِمْ فِي الصِّفَاتِ وَالْعِلْمِ وَالنَّظَرِ.

وَقَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الرَّأْيُ الْمَذْمُومُ الَّذِي لَا يَجُوزُ النَّظَرُ فِيهِ وَلَا الِاشْتِغَالُ بِهِ، هُوَ مَا كَانَ فِي نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ ضُرُوبِ الْبِدَعِ، ثُمَّ أَسْنَدَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: لَا تَكَادُ تَرَى أَحَدًا نَظَرَ فِي الرَّأْيِ إِلَّا وَفِي قَلْبِهِ دَغَلٌ، قَالَ: وَقَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الرَّأْيُ الْمَذْمُومُ فِي الْآثَارِ الْمَذْكُورَةِ هُوَ الْقَوْلُ فِي الْأَحْكَامِ بِالِاسْتِحْسَانِ، وَالتَّشَاغُلُ بِالْأُغْلُوطَاتِ وَرَدُّ الْفُرُوعِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ دُونَ رَدِّهَا إِلَى أُصُولِ السُّنَنِ، وَأَضَافَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إِلَى ذَلِكَ مَنْ يَتَشَاغَلُ بِالْإِكْثَارِ مِنْهَا قَبْلَ وُقُوعِهَا

ص: 289

لِمَا يَلْزَمُ مِنَ الِاسْتِغْرَاقِ فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْطِيلِ السُّنَنِ، وَقَوَّى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَذَا الْقَوْلَ الثَّانِي وَاحْتَجَّ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ يَثْبُتُ عِنْدَهُ حَدِيثٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشَيْءٍ ثُمَّ يَرُدُّهُ إِلَّا بِادِّعَاءِ نَسْخٍ أَوْ مُعَارَضَةِ أَثَرِ غَيْرِهِ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ عَمَلٍ يَجِبُ عَلَى أَصْلِهِ الِانْقِيَادُ إِلَيْهِ أَوْ طَعَنَ فِي سَنَدِهِ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بِغَيْرِ ذَلِكَ لَسَقَطَتْ عَدَالَتُهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُتَّخَذَ إِمَامًا، وَقَدْ أَعَاذَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ خَتَمَ الْبَابَ بِمَا بَلَغَهُ عَنْ سَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التَّسْتُرِيِّ الزَّاهِدِ الْمَشْهُورِ قَالَ: مَا أَحْدَثَ أَحَدٌ فِي الْعِلْمِ شَيْئًا إِلَّا سُئِلَ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَإِنْ وَافَقَ السُّنَّةَ سَلِمَ، وَإِلَّا فَلَا.

‌8 - بَاب مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُسْأَلُ مِمَّا لَمْ يُنْزَلْ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، أَوْ لَمْ يُجِبْ حَتَّى يُنْزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، وَلَمْ يَقُلْ بِرَأْيٍ وَلَا قِيَاسٍ

؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الرُّوحِ، فَسَكَتَ حَتَّى نَزَلَتْ الْآيَةُ.

7309 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ الْمُنْكَدِرِ يَقُولُ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: مَرِضْتُ، فَجَاءَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي وَأَبُو بَكْرٍ، وَهُمَا مَاشِيَانِ، فَأَتَانِي وَقَدْ أُغْمِيَ عَلَيَّ، فَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ صَبَّ وَضُوءَهُ عَلَيَّ، فَأَفَقْتُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ: فَقُلْتُ: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ - كَيْفَ أَقْضِي فِي مَالِي؟ كَيْفَ أَصْنَعُ فِي مَالِي؟ قَالَ: فَمَا أَجَابَنِي بِشَيْءٍ حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ.

قَوْلُهُ: بَابُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُسْأَلُ مِمَّا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فَيَقُولُ لَا أَدْرِي، أَوْ لَمْ يُجِبْ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ) أَيْ كَانَ لَهُ إِذَا سُئِلَ عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ فِيهِ حَالَانِ: إِمَّا أَنْ يَقُولَ لَا أَدْرِي، وَإِمَّا أَنْ يَسْكُتَ حَتَّى يَأْتِيَهُ بَيَانُ ذَلِكَ بِالْوَحْيِ. وَالْمُرَادُ بِالْوَحْيِ أَعَمُّ مِنَ الْمُتَعَبَّدِ بِتِلَاوَتِهِ وَمِنْ غَيْرِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ لِقَوْلِهِ: لَا أَدْرِي دَلِيلًا فَإِنَّ كُلًّا مِنَ الْحَدِيثَيْنِ الْمُعَلَّقِ وَالْمَوْصُولِ مِنْ أَمْثِلَةِ الشِّقِّ الثَّانِي، وَأَجَابَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِأَنَّهُ اسْتَغْنَى بِعَدَمِ جَوَابِهِ بِهِ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: فِي قَوْلِهِ فِي التَّرْجَمَةِ لَا أَدْرِي حَزَازَةٌ؛ إِذْ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ.

كَذَا قَالَ، وَهُوَ تَسَاهُلٌ شَدِيدٌ مِنْهُ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى نَفْيِ الثُّبُوتِ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ أَشَارَ فِي التَّرْجَمَةِ إِلَى مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ مِنْهُ شَيْءٌ عَلَى شَرْطِهِ، وَإِنْ كَانَ يَصْلُحُ لِلْحُجَّةِ كَعَادَتِهِ فِي أَمْثَالِ ذَلِكَ، وَأَقْرَبُ مَا وَرَدَ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَاضِي فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ ص مَنْ عَلِمَ شَيْئًا فَلْيَقُلْ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ، الْحَدِيثَ لَكِنَّهُ مَوْقُوفٌ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ إِنَّمَا هُوَ مَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَجَابَ بِلَا أَعْلَمُ أَوْ لَا أَدْرِي وَقَدْ وَرَدَتْ فِيهِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ مِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَيُّ الْبِقَاعِ خَيْرٌ، قَالَ: لَا أَدْرِي، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: لَا أَدْرِي، فَقَالَ: سَلْ رَبَّكَ فَانْتَفَضَ جِبْرِيلُ انْتِفَاضَةً الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَلِلْحَاكِمِ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَفِي الْبَابِ عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ.

وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَا أَدْرِي الْحُدُودَ كَفَّارَةٌ لِأَهْلِهَا أَمْ لَا وَهُوَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَالْحَاكِمِ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي شَرْحِ حَدِيثِ عُبَادَةَ مِنْ كِتَابِ الْعِلْمِ الْكَلَامُ عَلَيْهِ وَطَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ عُبَادَةَ، وَوَقَعَ الْإِلْمَامُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ أَيْضًا، وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: فِي أَوَائِلِ مُخْتَصَرِهِ لِثُبُوتِ لَا أَدْرِي وَقَدْ أَوْرَدْتُ مِنْ ذَلِكَ مَا تَيَسَّرَ فِي الْأَمَالِي فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الْمُخْتَصَرِ.

ص: 290

قَوْلُهُ: وَلَمْ يَقُلْ بِرَأْيٍ وَلَا قِيَاسٍ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: هُمَا مُتَرَادِفَانِ، وَقِيلَ الرَّأْيُ التَّفَكُّرُ، وَالْقِيَاسُ الْإِلْحَاقُ، وَقِيلَ الرَّأْيُ أَعَمُّ لِيَدْخُلَ فِيهِ الِاسْتِحْسَانُ وَنَحْوُهُ انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْأَخِيرَ مُرَادُ الْبُخَارِيِّ وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ الَّذِي أَوْرَدَهُ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: الْعِلْمُ مَا جَاءَ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا لَمْ يَجِئْ عَنْهُمْ فَلَيْسَ بِعِلْمٍ وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَيَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ لَا يَزَالُ النَّاسُ مُشْتَمِلِينَ بِخَيْرٍ مَا أَتَاهُمُ الْعِلْمُ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَأَكَابِرِهِمْ، فَإِذَا أَتَاهُمُ الْعِلْمُ مِنْ قِبَلِ أَصَاغِرِهِمْ وَتَفَرَّقَتْ أَهْوَاؤُهُمْ هَلَكُوا وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ مَا جَاءَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَكِبَارِ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ هُوَ الْعِلْمُ الْمَوْرُوثُ، وَمَا أَحْدَثَهُ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ هُوَ الْمَذْمُومُ، وَكَانَ السَّلَفُ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالرَّأْيِ فَيَقُولُونَ لِلسُّنَّةِ عِلْمٌ وَلِمَا عَدَاهَا رَأْيٌ، وَعَنْ أَحْمَدَ يُؤْخَذُ الْعِلْمُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ عَنِ الصَّحَابَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَهُوَ فِي التَّابِعِينَ مُخَيَّرٌ، وَعَنْهُ مَا جَاءَ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ فَهُوَ مِنَ السُّنَّةِ وَمَا جَاءَ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ قَالَ إِنَّهُ سُنَّةٌ لَمْ أَدْفَعْهُ، وَعَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ لِيَكُنِ الْمُعْتَمَدُ عَلَيْهِ الْأَثَرَ وَخُذُوا مِنَ الرَّأْيِ مَا يُفَسِّرُ لَكُمُ الْخَبَرَ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الرَّأْيَ إِنْ كَانَ مُسْتَنِدًا لِلنَّقْلِ مِنَ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ فَهُوَ مَحْمُودٌ، وَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ عِلْمٍ فَهُوَ مَذْمُومٌ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو الْمَذْكُورُ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ بَعْدَ فَقْدِ الْعِلْمِ أَنَّ الْجُهَّالَ يُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ.

قَوْلُهُ (لِقَوْلِهِ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الْمُهَلَّبِ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّمَا سَكَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أَشْيَاءَ مُعْضِلَةٍ لَيْسَتْ لَهَا أُصُولٌ فِي الشَّرِيعَةِ، فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنَ اطِّلَاعِ الْوَحْيِ وَإِلَّا فَقَدْ شَرَعَ صلى الله عليه وسلم لِأُمَّتِهِ الْقِيَاسَ، وَأَعْلَمَهُمْ كَيْفِيَّةَ الِاسْتِنْبَاطِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ، حَيْثُ قَالَ - لِلَّتِي سَأَلَتْهُ: هَلْ تَحُجُّ عَنْ أُمِّهَا؟ -: فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ فَهُوَ تَشْبِيهُ مَا لَا حُكْمَ فِيهِ بِمَا فِيهِ حُكْمٌ فِي الْمَعْنَى، وَقَدْ شَبَّهَ الْحُمُرَ بِالْخَيْلِ فَأَجَابَ مَنْ سَأَلَهُ عَنِ الْحُمُرِ بِالْآيَةِ الْجَامِعَةِ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} إِلَى آخِرِهَا. كَذَا قَالَ: وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ مَا حَاصِلُهُ أَنَّ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ لِمَا ادَّعَاهُ مِنَ النَّفْيِ حُجَّةٌ فِي الْإِثْبَاتِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ {بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} لَيْسَ مَحْصُورًا فِي الْمَنْصُوصِ، بَلْ فِيهِ إِذْنٌ فِي الْقَوْلِ بِالرَّأْيِ، ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ الَّذِي قَالَ إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ إِلَى أَنْ قَالَ ; فَلَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ. وَقَالَ: لَمَّا رَأَى شَبَهًا بِزَمْعَةَ، احْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ.

ثُمَّ ذَكَرَ آثَارًا تَدُلُّ عَلَى الْإِذْنِ فِي الْقِيَاسِ، وَتَعَقَّبَهَا ابْنُ التِّينِ بِأَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يُرِدِ النَّفْيَ الْمُطْلَقَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَرَكَ الْكَلَامَ فِي أَشْيَاءَ وَأَجَابَ بِالرَّأْيِ فِي أَشْيَاءَ، وَقَدْ بَوَّبَ لِكُلِّ ذَلِكَ بِمَا وَرَدَ فِيهِ، وَأَشَارَ إِلَى قَوْلِهِ بَعْدَ بَابَيْنِ: بَابُ مَنْ شَبَّهَ أَصْلًا مَعْلُومًا بِأَصْلٍ مُبَيَّنٍ، وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ، وَحَدِيثَ فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى. وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا فَهِمَهُ الْمُهَلَّبُ، وَالدَّاوِدِيُّ، ثُمَّ نَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ الْخِلَافَ هَلْ يَجُوزُ لِلنَّبِيِّ أَنْ يَجْتَهِدَ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ. ثَالِثُهَا: فِيمَا يَجْرِي مَجْرَى الْوَحْيِ مِنْ مَنَامٍ وَشِبْهِهِ. وَنَقَلَ أَنْ لَا نَصَّ لِمَالِكٍ فِيهِ. قَالَ: وَالْأَشْبَهُ جَوَازُهُ. وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ الْمَسْأَلَةَ فِي الْأُمِّ وَذَكَرَ أَنَّ حُجَّةَ مَنْ قَالَ: إنَّهُ لَمْ يَسُنَّ شَيْئًا إِلَّا بِأَمْرٍ، وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ: إِمَّا بِوَحْيٍ يُتْلَى عَلَى النَّاسِ، وَإِمَّا بِرِسَالَةٍ عَنِ اللَّهِ أَنِ افْعَلْ كَذَا.

قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} الْآيَةَ، فَالْكِتَابُ مَا يُتْلَى وَالْحِكْمَةُ السُّنَّةُ، وَهُوَ مَا جَاءَ بِهِ عَنِ اللَّهِ بِغَيْرِ تِلَاوَةٍ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي قِصَّةِ الْعَسِيفِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ أَيْ بِوَحْيِهِ، وَمِثْلُهُ حَدِيثُ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ فِي قِصَّةِ الَّذِي سَأَلَ عَنِ الْعُمْرَةِ وَهُوَ لَابِسٌ الْجُبَّةَ، فَسَكَتَ حَتَّى جَاءَهُ الْوَحْيُ، فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ أَجَابَهُ. وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ مِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ أَنَّ عِنْدَهُ كِتَابًا فِي الْعُقُولِ نَزَلَ بِهِ الْوَحْيُ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ أَحَدِ التَّابِعِينَ مِنْ ثِقَاتِ الشَّامِيِّينَ كَانَ جِبْرِيلُ يَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالسُّنَّةِ كَمَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ

ص: 291

وَيَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} الْآيَةَ.

ثُمَّ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ مِنْ وُجُوهِ الْوَحْيِ مَا يَرَاهُ فِي الْمَنَامِ، وَمَا يُلْقِيهِ رُوحُ الْقُدُسِ فِي رَوْعِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَلَا تَعْدُو السُّنَنُ كُلُّهَا وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي وَصَفْتُ، انْتَهَى.

وَاحْتَجَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ كَانَ يَجْتَهِدُ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} وَالْأَنْبِيَاءُ أَفْضَلُ أُولِي الْأَبْصَارِ. وَلِمَا ثَبَتَ مِنْ أَجْرِ الْمُجْتَهِدِ وَمُضَاعَفَتِهِ. وَالْأَنْبِيَاءُ أَحَقُّ بِمَا فِيهِ جَزِيلُ الثَّوَابِ.

ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ بَطَّالٍ أَمْثِلَةً مِمَّا عَمِلَ فِيهِ صلى الله عليه وسلم بِالرَّأْيِ مِنْ أَمْرِ الْحَرْبِ وَتَنْفِيذِ الْجُيُوشِ وَإِعْطَاءِ الْمُؤَلَّفَةِ وَأَخْذِ الْفِدَاءِ مِنْ أُسَارَى بَدْرٍ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} قَالَ: وَلَا تَكُونُ الْمَشُورَةُ إِلَّا فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ، وَاحْتَجَّ الدَّاوُدِيُّ بِقَوْلِ عُمَرَ أَنَّ الرَّأْيَ كَانَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُصِيبًا، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَّا الظَّنُّ وَالتَّكَلُّفُ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: قَالَ الْمُجَوِّزُونَ: كَأَنَّ التَّوَقُّفَ فِيمَا لَمْ يَجِدْ لَهُ أَصْلًا يَقِيسُ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} انْتَهَى. وَهُوَ مُلَخَّصٌ مِمَّا تَقَدَّمَ.

وَاحْتَجَّ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لِعَدَمِ الْقَوْلِ بِالرَّأْيِ بِمَا أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عُمَرَ خَطَبَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الرَّأْيَ إِنَّمَا كَانَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُصِيبًا، لِأَنَّ اللَّهَ عز وجل يُرِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَّا الظَّنُّ وَالتَّكَلُّفُ وَبِهَذَا يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِهِ لِمَنْ يَقُولُ كَانَ يَجْتَهِدُ، لَكِنْ لَا يَقَعُ فِيمَا يَجْتَهِدُ فِيهِ خَطَأً أَصْلًا.

وَهَذَا فِي حَقِّهِ صلى الله عليه وسلم. فَأَمَّا مَنْ بَعْدَهُ فَإِنَّ الْوَقَائِعَ كَثُرَتْ وَالْأَقَاوِيلَ انْتَشَرَتْ، فَكَانَ السَّلَفُ يَتَحَرَّزُونَ مِنَ الْمُحْدَثَاتِ. ثُمَّ انْقَسَمُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ: الْأُولَى تَمَسَّكَتْ بِالْأَمْرِ، وَعَمِلُوا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ فَلَمْ يَخْرُجُوا فِي فَتَاوِيهِمْ عَنْ ذَلِكَ، وَإِذَا سُئِلُوا عَنْ شَيْءٍ لَا نَقْلَ عِنْدَهُمْ فِيهِ أَمْسَكُوا عَنِ الْجَوَابِ وَتَوَقَّفُوا. وَالثَّانِيَةُ: قَاسُوا مَا لَمْ يَقَعْ عَلَى مَا وَقَعَ وَتَوَسَّعُوا فِي ذَلِكَ، حَتَّى أَنْكَرَتْ عَلَيْهِمُ الْفِرْقَةُ الْأُولَى كَمَا تَقَدَّمَ وَيَجِيءُ. وَالثَّالِثَةُ: تَوَسَّطَتْ؛ فَقَدَّمَتِ الْأَثَرَ مَا دَامَ مَوْجُودًا، فَإِذَا فُقِدَ قَاسُوا.

قَوْلُهُ: وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الرُّوحِ، فَسَكَتَ حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ) هُوَ طَرَفٌ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي مَضَى قَرِيبًا فِي آخِرِ بَابِ مَا يُكْرَهُ مِنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ مَوْصُولًا إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ. لَكِنَّهُ ذَكَرَهُ فِيهِ بِلَفْظِ فَقَامَ سَاعَةً يَنْظُرُ وَأَوْرَدَهُ بِلَفْظِ فَسَكَتَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ وَأَوْرَدَهُ فِي تَفْسِيرِ سُبْحَانَ بِلَفْظِ فَأَمْسَكَ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَأَمْسَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي مَرَضِهِ، وَسُؤَالَهُ: كَيْفَ أَصْنَعُ فِي مَالِي؟ قَالَ: فَمَا أَجَابَنِي بِشَيْءٍ حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ، وَقَدْ مَضَى شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ.

‌9 - بَاب تَعْلِيمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُمَّتَهُ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ لَيْسَ بِرَأْيٍ وَلَا تَمْثِيلٍ

7310 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ذَكْوَانَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَهَبَ الرِّجَالُ بِحَدِيثِكَ، فَاجْعَلْ لَنَا مِنْ نَفْسِكَ يَوْمًا نَأْتِيكَ فِيهِ؛ تُعَلِّمُنَا مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ، فَقَالَ: اجْتَمِعْنَ فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا، فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا. فَاجْتَمَعْنَ، فَأَتَاهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَعَلَّمَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ بَيْنَ يَدَيْهَا مِنْ وَلَدِهَا ثَلَاثَةً إِلَّا كَانَ لَهَا حِجَابًا مِنْ النَّارِ، فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْهُم: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اثْنَيْنِ؟ قَالَ: فَأَعَادَتْهَا مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: وَاثْنَيْنِ وَاثْنَيْنِ وَاثْنَيْنِ.

ص: 292

قَوْلُهُ: بَابُ تَعْلِيمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُمَّتَهُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ لَيْسَ بِرَأْيٍ وَلَا تَمْثِيلٍ) قَالَ الْمُهَلَّبُ: مُرَادُهُ أَنَّ الْعَالِمَ إِذَا كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُحَدِّثَ بِالنُّصُوصِ، لَا يُحَدِّثُ بِنَظَرِهِ وَلَا قِيَاسِهِ انْتَهَى.

وَالْمُرَادُ بِالتَّمْثِيلِ الْقِيَاسُ، وَهُوَ إِثْبَاتُ مِثْلِ حُكْمٍ مَعْلُومٍ فِي آخَرَ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ، وَالرَّأْيُ أَعَمُّ.

وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ: فِي سُؤَالِ الْمَرْأَةِ: قَدْ ذَهَبَ الرِّجَالُ بِحَدِيثِكَ، وَفِيهِ فَأَتَاهُنَّ فَعَلَّمَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ وَفِيهِ ثُمَّ قَالَ مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ بَيْنَ يَدَيْهَا مِنْ وَلَدِهَا ثَلَاثَةً وَقَدْ مَضَى شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْجَنَائِزِ وَفِي الْعِلْمِ.

وَقَوْلُهُ جَاءَتِ امْرَأَةٌ لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ هِيَ أَسْمَاءُ بِنْتُ زَيْدِ بْنِ السَّكَنِ وَقَوْلُهُ هُنَا: فَأَتَاهُنَّ فَعَلَّمَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ تَقَدَّمَ هُنَاكَ بِلَفْظِ فَوَعَدَهُنَّ يَوْمًا لَقِيَهُنَّ فِيهِ فَوَعَظَهُنَّ فَأَمَرَهُنَّ فَكَانَ فِيمَا قَالَ لَهُنَّ فَذَكَرَ نَحْوَ مَا هُنَا. وَلَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِهِ بَيَانَ مَا عَلَّمَهُنَّ، لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْآخَرِ الْمَاضِي فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ وَفِيهِ فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ الْحَدِيثَ وَفِيهِ فَقَامَتِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ لِمَ وَفِيهِ أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ، وَأَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ وَقَدْ مَضَى شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ الْمَذْكُورَةَ هِيَ أَسْمَاءُ.

قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: مَوْضِعُ التَّرْجَمَةِ مِنَ الْحَدِيثِ قَوْلُهُ كُنَّ لَهَا حِجَابًا مِنَ النَّارِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ تَوْقِيفِيٌّ لَا يُعْلَمُ إِلَّا مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى لَا دَخْلَ لِلْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ فِيهِ.

‌10 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ

7311 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا تزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ.

7312 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي حُمَيْدٌ قَالَ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ يَخْطُبُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَيُعْطِي اللَّهُ وَلَنْ يَزَالَ أَمْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ مُسْتَقِيمًا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ أَوْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ

قَوْلُهُ: بَابُ لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ لَفْظُ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ ثَوْبَانَ، وَبَعْدَهُ: لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ. وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مِثْلُهُ، لَكِنْ قَالَ يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ نَحْوُهُ.

قَوْلُهُ (وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ) هُوَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثَ الْبَابِ ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ هُوَ الْبُخَارِيُّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ يَقُولُ: هُمْ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ. وَذَكَرَ فِي كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ عَقِبَ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} هُمُ الطَّائِفَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي حَدِيثِ لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ثُمَّ سَاقَهُ. وَقَالَ: وَجَاءَ نَحْوُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمُعَاوِيَةَ، وَجَابِرٍ، وَسَلَمَةَ بْنِ نُفَيْلٍ، وَقُرَّةَ بْنِ إِيَاسٍ انْتَهَى. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَحْمَدَ: إِنْ لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ الْحَدِيثِ فَلَا أَدْرِي مَنْ هُمْ، وَمِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ مِثْلُهُ. وَزَعَمَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ أَنَّهُ اسْتَفَادَ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ لِأَنَّ فِيهِ مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَهُوَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يُؤْخَذُ مِنَ الِاسْتِقَامَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ الِاسْتِقَامَةِ أَنْ يَكُونَ التَّفَقُّهَ، لِأَنَّهُ الْأَصْلُ. قَالَ: وَبِهَذَا تَرْتَبِطُ

ص: 293

الْأَخْبَارُ الْمَذْكُورَةُ فِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ، لِأَنَّ الِاتِّفَاقَ لَا بُدَّ مِنْهُ، أَيِ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَيُعْطِي اللَّهُ عز وجل.

قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى) هُوَ الْعَبْسِيُّ بِالْمُوَحَّدَةِ ثُمَّ الْمُهْمَلَةِ الْكُوفِيُّ مِنْ كِبَارِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَهُوَ مِنْ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ وَشَيْخُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِسْمَاعِيلُ هُوَ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ تَابِعِيٌّ مَشْهُورٌ، وَشَيْخُ إِسْمَاعِيلَ قَيْسٌ هُوَ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَهُوَ مُخَضْرَمٌ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَرَهُ. وَلِهَذَا الْإِسْنَادِ حُكْمُ الثُّلَاثِيَّاتِ وَإِنْ كَانَ رُبَاعِيًّا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْدَ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ بِبَابَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ أَنْزَلَ مِنْ هَذَا بِدَرَجَةٍ، وَرِجَالُ سَنَدِ الْبَابِ كُلُّهُمْ كُوفِيُّونَ لِأَنَّ الْمُغِيرَةَ وَلِيَ إِمْرَةَ الْكُوفَةِ غَيْرَ مَرَّةٍ وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِهَا وَقَدِ اتَّفَقَ الرُّوَاةُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَلَى أَنَّهُ عَنْ قَيْسٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، وَخَالَفَهُمْ أَبُو مُعَاوِيَةَ فَقَالَ عَنْ سَعِيدٍ بَدَلَ الْمُغِيرَةِ فَأَوْرَدَهُ أَبُو إِسْمَاعِيلَ الْهَرَوِيُّ فِي ذَمِّ الْكَلَامِ، وَقَالَ: الصَّوَابُ قَوْلُ الْجَمَاعَةِ عَنِ الْمُغِيرَةِ، وَحَدِيثُ سَعْدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ لَكِنْ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُثْمَانَ، عَنْ سَعْدٍ.

قَوْلُهُ (لَا تَزَالُ) بِالْمُثَنَّاةِ أَوَّلُهُ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مَرْوَانَ الْفَزَارِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ: لَنْ يَزَالَ قَوْمٌ وَهَذِهِ بِالتَّحْتَانِيَّةِ وَالْبَاقِي مِثْلُهُ لَكِنْ زَادَ ظَاهِرِينَ عَلَى النَّاسِ.

قَوْلُهُ (حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ) أَيْ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ أَيْ غَالِبُونَ، أَوِ الْمُرَادُ بِالظُّهُورِ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُسْتَتِرِينَ بَلْ مَشْهُورُونَ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ لَنْ يَبْرَحَ هَذَا الدِّينُ قَائِمًا تُقَاتِلُ عَلَيْهِ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ وَلَهُ فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: لَا تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ قَاهِرِينَ لِعَدُوِّهِمْ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ وَقَدْ ذَكَرْتُ الْجَمْعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ النَّاسِ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْفِتَنِ وَالْقِصَّةُ الَّتِي أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ الْخَلْقِ، هُمْ شَرٌّ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، لَا يَدْعُونَ اللَّهَ بِشَيْءٍ إِلَّا رَدَّهُ عَلَيْهِمْ وَمُعَارَضَةُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ أَجَلْ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ رِيحًا كَرِيحِ الْمِسْكِ، فَلَا تَتْرُكُ نَفْسًا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ إِلَّا قَبَضَتْهُ ثُمَّ يَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ عَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ.

وَقَدْ أَشَرْتُ إِلَى هَذَا قَرِيبًا في الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ قَبْضِ الْعِلْمِ وَأَنَّ هَذَا أَوْلَى مَا يُتَمَسَّكُ بِهِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَذَكَرْتُ مَا نَقَلَهُ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الطَّبَرِيِّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، أَنَّ شِرَارَ النَّاسِ الَّذِينَ تَقُومُ عَلَيْهِمُ السَّاعَةُ يَكُونُونَ بِمَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ، وَأَنَّ مَوْضِعًا آخَرَ يَكُونُ بِهِ طَائِفَةٌ يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ، ثُمَّ أَوْرَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ نَحْوَ حَدِيثِ الْبَابِ، وَزَادَ فِيهِ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَطَالَ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ وَذَكَرْتُ أَنَّ الْمُرَادَ بِأَمْرِ اللَّهِ: هُبُوبُ تِلْكَ الرِّيحِ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِقِيَامِ السَّاعَةِ: سَاعَتُهُمْ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينَ يَكُونُونَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ: الَّذِينَ يَحْصُرهُمُ الدَّجَّالُ إِذَا خَرَجَ فَيَنْزِلُ عِيسَى إِلَيْهِمْ فَيَقْتُلُ الدَّجَّالَ، وَيَظْهَرُ الدِّينُ فِي زَمَنِ عِيسَى، ثُمَّ بَعْدَ مَوْتِ عِيسَى تَهُبُّ الرِّيحُ الْمَذْكُورَةُ، فَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْجَمْعِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

7312 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي حُمَيْدٌ قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ يَخْطُبُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَيُعْطِي اللَّهُ، وَلَنْ يَزَالَ أَمْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ مُسْتَقِيمًا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ. أَوْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ.

قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ وَابْنُ وَهْبٍ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ، وَيُونُسُ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ، وَحُمَيْدٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ.

قَوْلُهُ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ يَخْطُبُ) فِي رِوَايَةِ عُمَيْرِ بْنِ هَانِئٍ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ وَقَدْ مَضَى فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ، وَيَأْتِي فِي التَّوْحِيدِ، وَفِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ وَذَكَرَ حَدِيثًا وَلَمْ أَسْمَعْهُ رَوَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى مِنْبَرِهِ حَدِيثًا غَيْرَهُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

قَوْلُهُ: مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ) تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذَا فِي كِتَابِ الْعِلْمِ وَقَوْلُهُ وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَيُعْطِي اللَّهُ تَقَدَّمَ فِي الْعِلْمِ بِلَفْظِ وَاللَّهُ الْمُعْطِي وَفِي فَرْضِ الْخُمُسِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَاللَّهُ الْمُعْطِي وَأَنَا الْقَاسِمُ وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ هُنَاكَ أَيْضًا.

قَوْلُهُ (وَلَنْ يَزَالَ أَمْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ مُسْتَقِيمًا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ أَوْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ) فِي

ص: 294

رِوَايَةِ عُمَيْرِ بْنِ هَانِئٍ لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ وَتَقَدَّمَ بَعْدَ بَابَيْنِ مِنْ بَابِ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ: لَا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَزَادَ قَالَ عُمَيْرٌ: فَقَالَ مَالِكُ بْنُ يُخَامِرَ: قَالَ مُعَاذٌ: وَهُمْ بِالشَّامِ وَفِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ وَلَا تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ صَاحِبُ الْمَشَارِقِ فِي قَوْلِهِ لَا يَزَالُ أَهْلُ الْغَرْبِ يَعْنِي الرِّوَايَةَ الَّتِي فِي بَعْضِ طُرُقِ مُسْلِمٍ وَهِيَ بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، ذَكَرَ يَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ قَالَ: الْمُرَادُ بِالْغَرْبِ الدَّلْوُ، أَيِ الْعَرَبُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَتَيْنِ لِأَنَّهُمْ أَصْحَابُهَا لَا يَسْتَقِي بِهَا أَحَدٌ غَيْرُهُمْ لَكِنْ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ وَهُمْ أَهْلُ الشَّامِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْغَرْبِ الْبَلَدُ لِأَنَّ الشَّامَ غَرْبِيُّ الْحِجَازِ كَذَا قَالَ.

ولَيْسَ بِوَاضِحٍ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ الْمَغْرِبُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَهَذَا يَرُدُّ تَأْوِيلَ الْغَرْبِ بِالْعَرَبِ، لَكِنْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ رُوَاتِهِ نَقَلَهُ بِالْمَعْنَى الَّذِي فَهِمَهُ أَنَّ الْمُرَادَ الْإِقْلِيمُ لَا صِفَةُ بَعْضِ أَهْلِهِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْغَرْبِ أَهْلُ الْقُوَّةِ وَالِاجْتِهَادِ فِي الْجِهَادِ، يُقَالُ: فِي لِسَانِهِ غَرْبٌ - بِفَتْحٍ ثُمَّ سُكُونٍ - أَيْ حِدَّةٌ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ أَنَّهُمْ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَضَافَ بَيْتَ إِلَى الْمَقْدِسِ، ولِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ النَّهْدِيِّ نَحْوُهُ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْأَوْسَطِ لِلطَّبَرَانِيِّ يُقَاتِلُونَ عَلَى أَبْوَابِ دِمَشْقَ وَمَا حَوْلَهَا، وَعَلَى أَبْوَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَمَا حَوْلَهُ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قُلْتُ: وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَخْبَارِ بِأَنَّ الْمُرَادَ قَوْمٌ يَكُونُونَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَهِيَ شَامِيَّةٌ وَيَسْقُونَ بِالدَّلْوِ، وَتَكُونُ لَهُمْ قُوَّةٌ فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ وَحِدَّةٌ وَجِدٌّ.

(تَنْبِيهٌ)

اتَّفَقَ الشُّرَّاحُ عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ عُلُوُّهُمْ عَلَيْهِمْ بِالْغَلَبَةِ. وَأَبْعَدَ مَنْ أَبْدَعَ فَرَدَّ عَلَى مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ مَنْقَبَةً لِأَهْلِ الْغَرْبِ أَنَّهُ مَذَمَّةٌ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ أَنَّهُمْ غَالِبُونَ لَهُ وَأَنَّ الْحَقَّ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ كَالْمَيِّتِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ ذَمُّ الْغَرْبِ وَأَهْلِهِ لَا مَدْحُهُمْ، قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ، ثُمَّ قَالَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الطَّائِفَةُ جَمَاعَةً مُتَعَدِّدَةً مِنْ أَنْوَاعِ الْمُؤْمِنِينَ. مَا بَيْنَ شُجَاعٍ وَبَصِيرٍ بِالْحَرْبِ وَفَقِيهٍ وَمُحَدِّثٍ وَمُفَسِّرٍ وَقَائِمٍ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَزَاهِدٍ وَعَابِدٍ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونُوا مُجْتَمَعِينَ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ، بَلْ يَجُوزُ اجْتِمَاعُهُمْ فِي قُطْرٍ وَاحِدٍ وَافْتِرَاقُهُمْ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعُوا فِي الْبَلَدِ الْوَاحِدِ وَأَنْ يَكُونُوا فِي بَعْضٍ مِنْهُ دُونَ بَعْضٍ، وَيَجُوزُ إِخْلَاءُ الْأَرْضِ كُلِّهَا مِنْ بَعْضِهِمْ أَوَّلًا فَأَوَّلًا إِلَى أَنْ لَا يَبْقَى إِلَّا فِرْقَةٌ وَاحِدَةٌ بِبَلَدٍ وَاحِدٍ فَإِذَا انْقَرَضُوا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ، انْتَهَى مُلَخَّصًا مَعَ زِيَادَةٍ فِيهِ.

وَنَظِيرُ مَا نَبَّهَ عَلَيْهِ مَا حَمَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ حَدِيثَ: إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأَمَةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِي رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ وَاحِدٌ فَقَطْ بَلْ يَكُونُ الْأَمْرُ فِيهِ كَمَا ذَكَرَ فِي الطَّائِفَةِ وَهُوَ مُتَّجَهٌ، فَإِنَّ اجْتِمَاعَ الصِّفَاتِ الْمُحْتَاجِ إِلَى تَجْدِيدِهَا لَا يَنْحَصِرُ فِي نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنَّ جَمِيعَ خِصَالِ الْخَيْرِ كُلِّهَا فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ، إِلَّا أَنْ يُدَّعَى ذَلِكَ فِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَإِنَّهُ كَانَ الْقَائِمَ بِالْأَمْرِ عَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ الْأُولَى بِاتِّصَافِهِ بِجَمِيعِ صِفَاتِ الْخَيْرِ وَتَقَدُّمِهِ فِيهَا ; وَمِنْ ثَمَّ أَطْلَقَ أَحْمَدُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَحْمِلُونَ الْحَدِيثَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ فَالشَّافِعِيُّ وَإِنْ كَانَ مُتَّصِفًا بِالصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الْقَائِمَ بِأَمْرِ الْجِهَادِ وَالْحُكْمِ بِالْعَدْلِ، فَعَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ كَانَ مُتَّصِفًا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ رَأْسِ الْمِائَةِ هُوَ الْمُرَادُ سَوَاءٌ تَعَدَّدَ أَمْ لَا.

‌11 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا}

7313 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما يَقُولُ:

ص: 295

لَمَّا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} قَالَ: أَعُوذُ بِوَجْهِكَ {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قَالَ: أَعُوذُ بِوَجْهِكَ، فَلَمَّا نَزَلَتْ:{أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قَالَ: هَاتَانِ أَهْوَنُ، أَوْ أَيْسَرُ.

قَوْلُهُ: بَابُ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا} وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ.

وَوَجْهُ مُنَاسَبَتِهِ لِمَا قَبْلَهُ: أَنَّ ظُهُورَ بَعْضِ الْأُمَّةِ عَلَى عَدُوِّهُمْ دُونَ بَعْضٍ يَقْتَضِي أَنَّ بَيْنَهُمُ اخْتِلَافًا حَتَّى انْفَرَدَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ بِالْوَصْفِ، لِأَنَّ غَلَبَةَ الطَّائِفَةِ الْمَذْكُورَةِ إِنْ كَانَتْ عَلَى الْكُفَّارِ ثَبَتَ الْمُدَّعَى، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَيْضًا فَهُوَ أَظْهَرُ فِي ثُبُوتِ الِاخْتِلَافِ، فَذَكَرَ بَعْدَهُ أَصْلَ وُقُوعِ الِاخْتِلَافِ وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُرِيدُ أَنْ لَا يَقَعَ فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَضَى بِوُقُوعِهِ، وَأَنَّ كُلَّ مَا قَدَّرَهُ لَا سَبِيلَ إِلَى رَفْعِهِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى دُعَاءَ نَبِيِّهِ فِي عَدَمِ اسْتِئْصَالِ أُمَّتِهِ بِالْعَذَابِ، وَلَمْ يُجِبْهُ فِي أَنْ لَا يُلْبِسَهُمْ شِيَعًا، أَيْ فِرَقًا مُخْتَلِفِينَ وَأَنْ لَا يُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ أَيْ بِالْحَرْبِ وَالْقَتْلِ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ لَكِنْ أَخَفُّ مِنَ الِاسْتِئْصَالِ وَفِيهِ لِلْمُؤْمِنِينَ كَفَّارَةٌ.

‌12 - بَاب مَنْ شَبَّهَ أَصْلًا مَعْلُومًا بِأَصْلٍ مُبَيَّنٍ، وقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حُكْمَهُمَا لِيُفْهِمَ السَّائِلَ

7314 -

حَدَّثَنَا أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ، حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ، وَإِنِّي أَنْكَرْتُهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا أَلْوَانُهَا؟ قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ: هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟ قَالَ: إِنَّ فِيهَا لَوُرْقًا، قَالَ: فَأَنَّى تُرَى ذَلِكَ جَاءَهَا؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عِرْقٌ نَزَعَهَا، قَالَ: وَلَعَلَّ هَذَا عِرْقٌ نَزَعَهُ. وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُ فِي الِانْتِفَاءِ مِنْهُ.

7315 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، فَمَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تَحُجَّ، أَفَأَحُجَّ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فاقْضُوا اللَّهَ الَّذِي لَهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ.

قَوْلُهُ: بَابُ مَنْ شَبَّهَ أَصْلًا مَعْلُومًا بِأَصْلٍ مُبَيَّنٍ، وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حُكْمَهُمَا لِيَفْهَمَ السَّائِلُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَالْجُرْجَانِيِّ قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ بِحَذْفِ الْوَاوِ وَبِحَذْفِ النَّبِيِّ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَحَذْفُ الْوَاوِ يُوَافِقُ تَرْجَمَةَ الْمُصَنِّفِ الْمَاضِيَةِ، قَالَ مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ لَيْسَ بِرَأْيٍ وَلَا تَمْثِيلٍ، أَيْ أَنَّ الَّذِي وَرَدَ عَنْهُ مِنَ التَّمْثِيلِ إِنَّمَا هُوَ تَشْبِيهُ أَصْلٍ بِأَصْلٍ، وَالْمُشَبَّهُ أَخْفَى عِنْدَ السَّائِلِ مِنَ الْمُشَبَّهِ بِهِ، وَفَائِدَةُ التَّشْبِيهِ التَّقْرِيبُ لِفَهْمِ السَّائِلِ، وَأَوْرَدَهُ النَّسَائِيُّ بِلَفْظِ مَنْ

ص: 296

شَبَّهَ أَصْلًا مَعْلُومًا بِأَصْلٍ مُبْهَمٍ، قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ حُكْمَهُمَا لِيَفْهَمَ السَّائِلُ وَهَذَا أَوْضَحُ فِي الْمُرَادِ. ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ الَّذِي قَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ قَرِيبًا، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ اللِّعَانِ

وَحَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي ذَكَرَتْ أَنَّ أُمَّهَا نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَمَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ قَرِيبًا أَيْضًا، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي الْحَجِّ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: التَّشْبِيهُ وَالتَّمْثِيلُ هُوَ الْقِيَاسُ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَقَدِ احْتَجَّ الْمُزَنِيُّ بِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ الْقِيَاسَ، قَالَ: وَأَوَّلُ مَنْ أَنْكَرَ الْقِيَاسَ إِبْرَاهِيمُ النِّظَامُ وَتَبِعَهُ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَمِمَّنْ يُنْسَبُ إِلَى الْفِقْهِ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ. وَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْجَمَاعَةُ هُوَ الْحُجَّةُ، فَقَدْ قَاسَ الصَّحَابَةُ فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، وَتَعَقَّبَ بَعْضُهُمُ الْأَوَّلِيَّةَ الَّتِي ادَّعَاهَا ابْنُ بَطَّالٍ بِأَنَّ إِنْكَارَ الْقِيَاسِ ثَبَتَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمِنَ التَّابِعِينَ عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ مِنْ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ مِنْ فُقَهَاءِ الْبَصْرَةِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: عَقْدُ هَذَا الْبَابِ وَمَا فِيهِ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقِيَاسِ وَأَنَّهُ لَيْسَ مَذْمُومًا. لَكِنْ لَوْ قَالَ مَنْ شَبَّهَ أَمْرًا مَعْلُومًا لَوَافَقَ اصْطِلَاحَ أَهْلِ الْقِيَاسِ، قَالَ: وَأَمَّا الْبَابُ الْمَاضِي الْمُشْعِرُ بِذَمِّ الْقِيَاسِ وَكَرَاهَتِهِ، فَطَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْقِيَاسَ عَلَى نَوْعَيْنِ: صَحِيحٌ وَهُوَ الْمُشْتَمِلُ عَلَى جَمِيعِ الشَّرَائِطِ، وَفَاسِدٌ وَهُوَ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَالْمَذْمُومُ هُوَ الْفَاسِدُ، وَأَمَّا الصَّحِيحُ فَلَا مَذَمَّةَ فِيهِ بَلْ هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ انْتَهَى.

وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ شَرْطَ مَنْ لَهُ أَنْ يَقِيسَ فَقَالَ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْأَحْكَامِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِنَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ وَعَامِّهِ وَخَاصِّهِ، وَيَسْتَدِلَّ عَلَى مَا احْتَمَلَ التَّأْوِيلَ بِالسُّنَّةِ وَبِالْإِجْمَاعِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِالْقِيَاسِ عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِالْقِيَاسِ عَلَى مَا فِي السُّنَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِالْقِيَاسِ عَلَى مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَإِجْمَاعُ النَّاسِ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مُخَالِفٌ. قَالَ: وَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ، وَلَا يَكُونُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقِيسَ حَتَّى يَكُونَ عَالِمًا بِمَا مَضَى قَبْلَهُ مِنَ السُّنَنِ وَأَقَاوِيلِ السَّلَفِ وَإِجْمَاعِ النَّاسِ وَاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ وَلِسَانِ الْعَرَبِ وَيَكُونَ صَحِيحَ الْعَقْلِ لِيُفَرِّقَ بَيْنَ الْمُشْتَبِهَاتِ وَلَا يَعْجَلَ، وَيَسْتَمِعَ مِمَّنْ خَالَفَهُ لِيَتَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى غَفْلَةٍ إِنْ كَانَتْ، وَأَنْ يَبْلُغَ غَايَةَ جَهْدِهِ وَيُنْصِفَ مِنْ نَفْسِهِ حَتَّى يَعْرِفَ مِنْ أَيْنَ قَالَ مَا قَالَ. وَالِاخْتِلَافُ عَلَى وَجْهَيْنِ: فَمَا كَانَ مَنْصُوصًا لَمْ يَحِلَّ فِيهِ الِاخْتِلَافُ عَلَيْهِ، وَمَا كَانَ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ أَوْ يُدْرَكُ قِيَاسًا فَذَهَبَ الْمُتَأَوِّلُ أَوِ الْقَائِسُ إِلَى مَعْنًى يُحْتَمَلُ وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ، لَمْ أَقُلْ أَنَّهُ يُضَيَّقُ عَلَيْهِ ضِيقَ الْمُخَالِفِ لِلنَّصِّ، وَإِذَا قَاسَ مَنْ لَهُ الْقِيَاسُ فَاخْتَلَفُوا، وَسِعَ كُلًّا أَنْ يَقُولَ بِمَبْلَغِ اجْتِهَادِهِ، وَلَمْ يَسْعَهُ اتِّبَاعُ غَيْرِهِ فِيمَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ - فِي بَيَانِ الْعِلْمِ بَعْدَ أَنْ سَاقَ هَذَا الْفَصْلَ - قَدْ أَتَى الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي هَذَا الْبَابِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ وَشِفَاءٌ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُ: الْقُرْآنُ هُوَ الْأَصْلُ، فَإِنْ كَانَتْ دَلَالَتُهُ خَفِيَّةً نُظِرَ فِي السُّنَّةِ، فَإِنْ بَيَّنَتْهُ وَإِلَّا فَالْجَلِيُّ مِنَ السُّنَّةِ، وَإِنْ كَانَتِ الدَّلَالَةُ مِنْهَا خَفِيَّةً نُظِرَ فِيمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ، فَإِنِ اخْتَلَفُوا رَجَّحَ. فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ عَمِلَ بِمَا يُشْبِهُ نَصَّ الْكِتَابِ ثُمَّ السُّنَّةِ ثُمَّ الِاتِّفَاقِ ثُمَّ الرَّاجِحِ كَمَا سُقْتُهُ عَنْهُ فِي شَرْحِ حَدِيثِ أَنَسٍ لَا يَأْتِي عَامٌ إِلَّا وَالَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْفِتَنِ وَأَنْشَدَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، لِأَبِي مُحَمَّدٍ الْيَزِيدِيِّ النَّحْوِيِّ الْمُقْرِئِ بِرِوَايَةِ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ مِنْ أَبْيَاتٍ طَوِيلَةٍ فِي إِثْبَاتِ الْقِيَاسِ:

لَا تَكُنْ كَالْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَا

رًا كَمَا قَدْ قَرَأْتَ فِي الْقُرْآنِ

إِنَّ هَذَا الْقِيَاسَ فِي كُلِّ أَمْرٍ

عِنْدَ أَهْلِ الْعُقُولِ كَالْمِيزَانِ

لَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ فِي الدِّينِ إِلَّا

لِفَقِيهٍ لِدِينِهِ صَوَّانِ

ص: 297

لَيْسَ يُغْنِي عَنْ جَاهِلٍ قَوْلُ رَاوٍ

عَنْ فُلَانٍ وَقَوْلُهُ عَنْ فُلَانِ

إِنْ أَتَاهُ مُسْتَرْشِدًا أَفْتَاهُ

بِحَدِيثَيْنِ فِيهِمَا مَعْنَيَانِ

إِنَّ مَنْ يَحْمِلُ الْحَدِيثَ وَلَا يَعْـ

ـرِفُ فِيهِ الْمُرَادَ كَالصَّيْدَلَانِي

حَكَمَ اللَّهُ فِي الْجَزَاءِ ذَوَيْ عَدْ

لٍ لِذِي الصَّيْدِ بِالَّذِي يَرَيَانِ

لَمْ يُوَقِّتْ وَلَمْ يُسَمِّ وَلَكِنْ

قَالَ فِيهِ فَلْيَحْكُمُ الْعَدْلَانِ

وَلَنَا فِي النَّبِيِّ صَلَّى عَلَيْهِ

اللَّهُ وَالصَّالِحُونَ كُلَّ أَوَانِ

أُسْوَةٌ فِي مَقَالِهِ لِمُعَاذٍ

اقْضِ بِالرَّأْيِ إِنْ أَتَى الْخَصْمَانِ

وَكِتَابُ الْفَارُوقِ يَرْحَمُهُ اللَّهُ

إِلَى الْأَشْعَرِيِّ فِي تِبْيَانِ

قِسْ إِذَا أَشْكَلَتْ عَلَيْكَ أُمُورٌ

ثُمَّ قُلْ بِالصَّوَابِ وَالْعِرْفَانِ

وَتَعَقَّبَ بَعْضُهُمُ الْأَوَّلِيَّةَ الَّتِي ادَّعَاهَا ابْنُ بَطَّالٍ بِأَنَّ إِنْكَارَ الْقِيَاسِ ثَبَتَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمِنَ التَّابِعِينَ عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ مِنْ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ مِنْ فُقَهَاءِ الْبَصْرَةِ وَذَلِكَ مَشْهُورٌ عَنْهُمْ، نَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَمِنْ قَبْلِه الدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْهُمْ وَعَنْ غَيْرِهِمْ، وَالْمَذْهَبُ الْمُعْتَدِلُ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الْقِيَاسَ مَشْرُوعٌ عِنْدَ الضَّرُورَةِ لَا أَنَّهُ أَصْلٌ بِرَأْسِهِ.

‌13 - بَاب مَا جَاءَ فِي اجْتِهَادِ الْقُضَاء بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى لِقَوْلِهِ {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}

وَمَدَحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَاحِبَ الْحِكْمَةِ حِينَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا ولَا يَتَكَلَّفُ مِنْ قِبَلِهِ وَمُشَاوَرَةِ الْخُلَفَاءِ وَسُؤَالِهِمْ أَهْلَ الْعِلْمِ

7316 -

حَدَّثَنَا شِهَابُ بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَآخَرُ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا.

7317 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ سَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَنْ إِمْلَاصِ الْمَرْأَةِ هِيَ الَّتِي يُضْرَبُ بَطْنُهَا فَتُلْقِي جَنِينًا فَقَالَ أَيُّكُمْ سَمِعَ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ شَيْئًا فَقُلْتُ أَنَا فَقَالَ مَا هُوَ قُلْتُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِيهِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ فَقَالَ لَا تَبْرَحْ حَتَّى تَجِيئَنِي بِالْمَخْرَجِ فِيمَا قُلْتَ

7318 -

فَخَرَجْتُ فَوَجَدْتُ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ فَجِئْتُ بِهِ فَشَهِدَ مَعِي أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِيهِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ تَابَعَهُ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ الْمُغِيرَةِ

ص: 298

قَوْلُهُ (بَابُ مَا جَاءَ فِي اجْتِهَادِ الْقَضَاءِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَالنَّسَفِيِّ، وَابْنِ بَطَّالٍ وَطَائِفَةٍ، الْقَضَاءُ - بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَالْمَدِّ - وَإِضَافَةُ الِاجْتِهَادِ إِلَيْهِ بِمَعْنَى الِاجْتِهَادِ فِيهِ. وَالْمَعْنَى: الِاجْتِهَادُ فِي الْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى، أَوْ فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ اجْتِهَادُ مُتَوَلِّي الْقَضَاءِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ غَيْرِهِمْ الْقُضَاةُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَهُوَ وَاضِحٌ لَكِنْ سَيَأْتِي بَعْدَ قَلِيلٍ التَّرْجَمَةُ لِاجْتِهَادِ الْحَاكِمِ فَيَلْزَمُ التَّكْرَارُ، وَالِاجْتِهَادُ: بَذْلُ الْجَهْدِ فِي الطَّلَبِ وَاصْطِلَاحًا: بَذْلُ الْوُسْعِ لِلتَّوَصُّلِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ.

قَوْلُهُ {بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وَلِقَوْلِهِ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلنَّسَفِيِّ {بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} الْآيَةَ، وَتَرْجَمَ فِي أَوَائِلِ الْأَحْكَامِ لِلْحَدِيثِ الْأَوَّلِ مِنَ الْبَابِ أَجْرُ مَنْ قَضَى بِالْحِكْمَةِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْوَصْفَ بِالصِّفَتَيْنِ لَيْسَ وَاحِدًا خِلَافًا لِمَنْ قَالَ إِحْدَاهُمَا فِي النَّصَارَى، وَالْأُخْرَى فِي الْمُسْلِمِينَ، وَالْأُولَى لِلْيَهُودِ، وَالْأَظْهَرُ الْعُمُومُ، وَاقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ عَلَى تِلَاوَةِ الْآيَتَيْنِ لِإِمْكَانِ تَنَاوُلِهِمَا الْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ الْأُولَى. فَإِنَّهَا فِي حَقِّ مَنِ اسْتَحَلَّ الْحُكْمَ بِخِلَافِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَمَّا الْآخِرَتَانِ فَهُمَا لِأَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: وَمَدْحِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَاحِبَ الْحِكْمَةِ حِينَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا، وَلَا يَتَكَلَّفُ مِنْ قِبَلِهِ) يَجُوزُ فِي مَدْحِ فَتْحُ الدَّالِ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ، وَيَجُوزُ تَسْكِينُهَا عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ وَالْحَاءُ مَجْرُورَةٌ وَهُوَ مُضَافٌ لِلْفَاعِلِ. وَاخْتُلِفَ فِي ضَبْطِ قِبَلِهِ، فَلِلْأَكْثَرِ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَ الْقَافِ الْمَكْسُورَةِ أَيْ مِنْ جِهَتِهِ، ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِتَحْتَانِيَّةٍ سَاكِنَةٍ بَدَلَ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ مِنْ كَلَامِهِ، وَعِنْدَ النَّسَفِيِّ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ.

قَوْلُهُ: وَمُشَاوَرَةِ الْخُلَفَاءِ وَسُؤَالِهِمْ أَهْلَ الْعِلْمِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ الْأَوَّلُ لِلشِّقِّ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي لِلثَّانِي.

الْأَوَّلُ: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ سَنَدًا وَمَتْنًا فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْأَحْكَامِ وَتَرْجَمَ لَهُ أَجْرَ مَنْ قَضَى بِالْحِكْمَةِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ ثَمَّةَ.

ثَانِيهُمَا: حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ قَالَ سَأَلَ عُمَرُ عَنْ إِمْلَاصِ الْمَرْأَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي أَوَاخِرِ الدِّيَاتِ، أَخْرَجَهُ عَالِيًا عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، وَمِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ عَنْ هِشَامٍ، وَقَوْلُهُ هُنَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ سَلَّامٍ كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ السَّكَنِ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي النِّكَاحِ حَدِيثًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَّامٍ مَنْسُوبًا لِأَبِيهِ عِنْدَ الْجَمِيعِ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، فَهَذِهِ قَرِينَةٌ تُؤَيِّدُ قَوْلَ ابْنِ السَّكَنِ وَاحْتِمَالُ كَوْنِهِ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُثَنَّى بَعِيدٌ، وَإِنْ كَانَ أَخْرَجَ فِي الطَّهَارَةِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَازِمٍ بِمُعْجَمَتَيْنِ حَدِيثًا وَهُوَ أَبُو مُعَاوِيَةَ، لَكِنَّ الْمُهْمَلَ إِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى مَنْ يَكُونُ لِمَنْ أَهْمَلَهُ بِهِ اخْتِصَاصٌ، وَاخْتِصَاصُ الْبُخَارِيِّ بِمُحَمَّدِ بْنِ سَلَّامٍ مَشْهُورٌ.

وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: تَابَعَهُ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ يَعْنِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ (عَنْ أَبِيهِ) وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ذَكْوَانَ وَهُوَ بِكُنْيَتِهِ أَشْهَرُ. وَسَقَطَ هَذَا لِلنَّسَفِيِّ.

قَوْلُهُ: عَنْ عُرْوَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ غَلَطٌ، فَقَدْ رُوِّينَاهُ مَوْصُولًا عَنِ الْبُخَارِيِّ نَفْسِهِ، وَهُوَ فِي الْجُزْءِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ فَوَائِدِ الْأَصْبَهَانِيِّينَ عَنِ الْمُحَامِلِيِّ، قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأُوَيْسِيُّ، حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُرْوَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ، وَلَمْ يُنَبِّهِ الْحُمَيْدِيُّ فِي الْجَمْعِ، وَلَا الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ، وَلَا أَحَدٌ مِنَ الشُّرَّاحِ عَلَى هَذَا الْمَوْضِعِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي الْحُكْمُ إِلَّا بَعْدَ طَلَبِ حُكْمِ الْحَادِثَةِ مِنَ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ، فَإِنْ عَدِمَهُ رَجَعَ إِلَى الْإِجْمَاعِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ نَظَرَ هَلْ يَصِحُّ الْحَمْلُ عَلَى بَعْضِ الْأَحْكَامِ الْمُقَرَّرَةِ لِعِلَّةٍ تَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ وَجَدَ ذَلِكَ لَزِمَهُ الْقِيَاسُ عَلَيْهَا، إِلَّا إِنْ عَارَضَتْهَا عِلَّةٌ أُخْرَى فَيَلْزَمُهُ التَّرْجِيحُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ عِلَّةً اسْتَدَلَّ بِشَوَاهِدِ الْأُصُولِ وَغَلَبَةِ الِاشْتِبَاهِ، فَإِنْ لَمْ يَتَوَجَّهْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ رَجَعَ إِلَى حُكْمِ الْعَقْلِ، قَالَ: هَذَا قَوْلُ ابْنِ الطَّيِّبِ، يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيَّ، ثُمَّ أَشَارَ إِلَى إِنْكَارِ

ص: 299

كَلَامِهِ الْأَخِيرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} وَقَدْ عَلِمَ الْجَمِيعُ بِأَنَّ النُّصُوصَ لَمْ تُحِطْ بِجَمِيعِ الْحَوَادِثِ فَعَرَفْنَا أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَبَانَ حُكْمَهَا بِغَيْرِ طَرِيقِ النَّصِّ وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ

يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} لِأَنَّ الِاسْتِنْبَاطَ هُوَ الِاسْتِخْرَاجُ وَهُوَ بِالْقِيَاسِ، لِأَنَّ النَّصَّ ظَاهِرٌ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي الرَّدِّ عَلَى مُنْكِرِي الْقِيَاسِ وَأَلْزَمَهُمُ التَّنَاقُضَ، لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِمْ إِذَا لَمْ يُوجَدِ النَّصُّ الرُّجُوعَ إِلَى الْإِجْمَاعِ. قَالَ: فَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِالْإِجْمَاعِ عَلَى تَرْكِ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، فَوَضَحَ أَنَّ الْقِيَاسَ إِنَّمَا يُنْكَرُ إِذَا اسْتُعْمِلَ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ أَوِ الْإِجْمَاعِ لَا عِنْدَ فَقْدِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

‌14 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ

7319 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَأْخُذَ أُمَّتِي بِأَخْذِ الْقُرُونِ قَبْلَهَا، شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَفَارِسَ وَالرُّومِ؟ فَقَالَ: وَمَنْ النَّاسُ إِلَّا أُولَئِكَ؟

7320 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ الصَّنْعَانِيُّ مِنْ الْيَمَنِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَالَ فَمَنْ؟

قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَتَتَّبِعُنَّ) بِمُثَنَّاتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ مَكْسُورَةٍ وَعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ مَضْمُومَةٍ وَنُونٍ ثَقِيلَةٍ، وَأَصْلُهُ تَتَّبِعُونَ (سَنَنَ) بِالْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ بَعْدَهَا نُونٌ أُخْرَى (مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ) بِفَتْحِ اللَّامِ، وَلَفْظُ التَّرْجَمَةِ مُطَابِقٌ لِلَفْظِ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: عَنِ الْمَقْبُرِيِّ) هُوَ سَعِيدٌ وَسَمَّاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ شَرِيكٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ.

قَوْلُهُ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَأْخُذَ أُمَّتِي بِأَخْذِ الْقُرُونِ قَبْلَهَا) كَذَا هُنَا بِمُوَحَّدَةٍ مَكْسُورَةٍ وَأَلِفٍ مَهْمُوزَةٍ وَخَاءٍ مُعْجَمَةٍ ثُمَّ مُعْجَمَةٍ، وَالْأَخْذُ بِفَتْحِ الْأَلِفِ وَسُكُونِ الْخَاءِ عَلَى الْأَشْهَرِ هُوَ السِّيرَةُ، يُقَالُ أَخَذَ فُلَانٌ بِأَخْذِ فُلَانٍ؛ أَيْ سَارَ بِسِيرَتِهِ، وَمَا أَخَذَ أَخْذَهُ، أَيْ مَا فَعَلَ فِعْلَهُ وَلَا قَصَدَ قَصْدَهُ، وَقِيلَ الْأَلِفُ مُثَلَّثَةٌ، وَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ إِخَذٌ بِفَتْحِ الْخَاءِ جَمْعُ إِخْذَةٍ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ مِثْلَ كِسْرَةٍ وَكِسَرٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ عَلَى مَا حَكَاهُ ابْنُ بَطَّالٍ بِمَا أَخَذَ الْقُرُونُ بِمُوَحَّدَةٍ، وَمَا الْمَوْصُولَةُ، وَأَخَذَ بِلَفْظِ الْفِعْلِ الْمَاضِي، وَهِيَ رِوَايَةُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ مَأْخَذَ بِمِيمٍ مَفْتُوحَةٍ وَهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ، وَالْقُرُونُ جَمْعُ قَرْنٍ بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ الْأُمَّةُ مِنَ النَّاسِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ الْأُمَمِ وَالْقُرُونِ.

قَوْلُهُ: شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا ذِرَاعًا.

قَوْلُهُ: (فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ النُّعْمَانِ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ فَقَالَ رَجُلٌ وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ مُسَمًّى.

قَوْلُهُ: (كَفَارِسَ وَالرُّومِ) يَعْنِي الْأُمَّتَيْنِ الْمَشْهُورَتَيْنِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَهُمُ الْفُرْسُ فِي مَلِكِهِمْ كِسْرَى، وَالرُّومُ فِي مَلِكِهِمْ قَيْصَرَ وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ الْمَذْكُورَةِ كَمَا فَعَلَتْ فَارِسُ وَالرُّومُ.

قَوْلُهُ: وَمَنِ النَّاسُ إِلَّا أُولَئِكَ) أَيْ فَارِسُ وَالرُّومُ، لِكَوْنِهِمْ كَانُوا إِذْ ذَاكَ

ص: 300

أَكْبَرَ مُلُوكِ الْأَرْضِ وَأَكْثَرَهُمْ رَعِيَّةً وَأَوْسَعَهُمْ بِلَادًا.

قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ) هُوَ الرَّمْلِيُّ وَأَبُو عُمَرَ الصَّنْعَانِيُّ بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ نُونٍ هُوَ حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، وَقَوْلُهُ مِنَ الْيَمَنِ أَيْ هُوَ رَجُلٌ مِنَ الْيَمَنِ أَيْ هُوَ مِنْ صَنْعَاءِ الْيَمَنِ لَا مِنْ صَنْعَاءِ الشَّامِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ أَصْلُهُ مِنَ الْيَمَنِ وَهُوَ مِنْ صَنْعَاءِ الشَّامِ وَنَزَلَ عَسْقَلَانَ.

قَوْلُهُ: لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ) بِفَتْحِ السِّينِ لِلْأَكْثَرِ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ قَرَأْنَاهُ بِضَمِّهَا، وَقَالَ الْمُهَلَّبُ بِالْفَتْحِ أَوْلَى لِأَنَّهُ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ فِيهِ الذِّرَاعُ وَالشِّبْرُ وَهُوَ الطَّرِيقُ. قُلْتُ: وَلَيْسَ اللَّفْظُ الْأَخِيرُ بِبَعِيدٍ مِنْ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: شِبْرًا شِبْرًا، وَذِرَاعًا ذِرَاعًا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ عَكْسَ الَّذِي قَبْلَهُ، قَالَ عِيَاضٌ: الشِّبْرُ وَالذِّرَاعُ وَالطَّرِيقُ وَدُخُولُ الْجُحْرِ تَمْثِيلٌ لِلِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِمَّا نَهَى الشَّرْعُ عَنْهُ وَذَمَّهُ.

قَوْلُهُ (جُحْرَ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، وَالضَّبُّ الْحَيَوَانُ الْمَعْرُوفُ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي ذِكْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ.

قَوْلُهُ: قُلْنَا) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِ الْقَائِلِ. قَوْلُهُ (قَالَ فَمَنْ) هُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَالتَّقْدِيرُ: فَمَنْ هُمْ غَيْرُ أُولَئِكَ، وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ رَفَعَهُ: لَا تَتْرُكْ هَذِهِ الْأُمَّةُ شَيْئًا مِنْ سُنَنِ الْأَوَّلِينَ حَتَّى تَأْتِيَهُ وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حُلْوَهَا وَمُرَّهَا قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَعْلَمَ صلى الله عليه وسلم أَنَّ أُمَّتَهُ سَتَتَّبِعُ الْمُحْدَثَاتِ مِنَ الْأُمُورِ وَالْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ كَمَا وَقَعَ لِلْأُمَمِ قَبْلَهُمْ، وَقَدْ أَنْذَرَ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ بِأَنَّ الْآخِرَ شَرٌّ، وَالسَّاعَةُ لَا تَقُومُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ النَّاسِ، وَأَنَّ الدِّينَ إِنَّمَا يَبْقَى قَائِمًا عِنْدَ خَاصَّةٍ مِنَ النَّاسِ. قُلْتُ: وَقَدْ وَقَعَ مُعْظَمُ مَا أَنْذَرَ بِهِ صلى الله عليه وسلم وَسَيَقَعُ بَقِيَّةُ ذَلِكَ.

وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مُغَايِرٌ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ لِأَنَّ الْأَوَّلَ فَسَّرَ بِفَارِسَ وَالرُّومِ، وَالثَّانِي بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، ولَكِنَّ الرُّومَ نَصَارَى وَقَدْ كَانَ فِي الْفُرْسِ يَهُودٌ، أَوْ ذَكَرَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ لِأَنَّهُ قَالَ فِي السُّؤَالِ كَفَارِسَ انْتَهَى. وَذَكَرَ عَلَيْهِ جَوَابَهُ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ وَمَنِ النَّاسُ إِلَّا أُولَئِكَ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ الْحَصْرُ فِيهِمْ، وَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّ الْمُرَادَ حَصْرُ النَّاسِ الْمَعْهُودَ مِنَ الْمَتْبُوعِينَ.

قُلْتُ: وَوَجْهُهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا بُعِثَ كَانَ مُلْكُ الْبِلَادِ مُنْحَصِرًا فِي الْفُرْسِ وَالرُّومِ وَجَمِيعُ مَنْ عَدَاهُمْ مِنَ الْأُمَمِ مِنْ تَحْتِ أَيْدِيهِمْ أَوْ كَلَا شَيْءٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ، فَصَحَّ الْحَصْرُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ اخْتَلَفَ بِحَسَبِ الْمَقَامِ، فَحَيْثُ قَالَ فَارِسُ وَالرُّومُ كَانَ هُنَاكَ قَرِينَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ وَسِيَاسَةِ الرَّعِيَّةِ، وَحَيْثُ قِيلَ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى كَانَ هُنَاكَ قَرِينَةٌ تَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ الدِّيَانَاتِ أُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ فِي الْجَوَابِ عَنِ الْأَوَّلِ وَمَنِ النَّاسُ إِلَّا أُولَئِكَ وَأَمَّا الْجَوَابُ فِي الثَّانِي بِالْإِبْهَامِ فَيُؤَيِّدُ الْحَمْلَ الْمَذْكُورَ وَأَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ قَرِينَةٌ تَتَعَلَّقُ بِمَا ذَكَرْتُ، وَاسْتَدَلَّ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي بَابِ ذَمِّ الْقَوْلِ بِالرَّأْيِ إِذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ بِمَا أَخْرَجَهُ مِنْ جَامِعِ ابْنِ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ يَقُولُ: لَمْ يَزَلْ أَمْرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُسْتَقِيمًا حَتَّى حَدَثَ فِيهِمُ الْمُوَلَّدُونَ أَبْنَاءُ سَبَايَا الْأُمَمِ فَأَحْدَثُوا فِيهِمُ الْقَوْلَ بِالرَّأْيِ وَأَضَلُّوا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ: وَكَانَ أَبِي يَقُولُ السُّنَنَ السُّنَنَ فَإِنَّ السُّنَنَ قِوَامُ الدِّينِ وَعَنِ ابْنِ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي بَكْرُ بْنُ مُضَرَ عَمَّنْ سَمِعَ ابْنَ شِهَابٍ الزُّهْرِيَّ وَهُوَ يَذْكُرُ مَا وَقَعَ النَّاسُ فِيهِ مِنَ الرَّأْيِ وَتَرْكِهِمُ السُّنَنَ، فَقَالَ إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى إِنَّمَا انْسَلَخُوا مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي كَانَ بِأَيْدِيهِمْ حِينَ اسْتَقَلُّوا الرَّأْيَ وَأَخَذُوا فِيهِ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ مِنْ طَرِيقِ مَكْحُولٍ، عَنْ أَنَسٍ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى يُتْرَكُ الْأَمْرُ

بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ؟ قَالَ إِذَا ظَهَرَ فِيكُمْ مَا ظَهَرَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِذَا ظَهَرَ الْإِدْهَانُ فِي خِيَارِكُمْ وَالْفُحْشُ فِي شِرَارِكُمْ، وَالْمُلْكُ فِي صِغَارِكُمْ، وَالْفِقْهُ فِي رُذَالِكُمْ وَفِي مُصَنَّفِ قَاسِمِ بْنِ أَصْبَغَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عُمَرَ فَسَادُ الدِّينِ إِذَا جَاءَ الْعِلْمُ مِنْ قِبَلِ الصَّغِيرِ اسْتَعْصَى عَلَيْهِ الْكَبِيرُ،

ص: 301

وَصَلَاحُ النَّاسِ إِذَا جَاءَ الْعِلْمُ مِنْ قِبَلِ الْكَبِيرِ تَابَعَهُ عَلَيْهِ الصَّغِيرُ وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِالصِّغَرِ فِي هَذَا صِغَرُ الْقَدْرِ لَا السِّنِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌15 - بَاب إِثْمِ مَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ أَوْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} الْآيَةَ

7321 -

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا - وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ: مِنْ دَمِهَا - لِأَنَّهُ سَنَّ الْقَتْلَ أَوَّلًا.

قَوْلُهُ (بَابُ إِثْمِ مَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ، أَوْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} وَرَدَ فِيمَا تَرْجَمَ بِهِ حَدِيثَانِ بِلَفْظِ: وَلَيْسَا عَلَى شَرْطِهِ، وَاكْتَفَى بِمَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُمَا وَهُمَا مَا ذَكَرَهُمَا مِنَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ، فَأَمَّا حَدِيثُ مَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ فَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا وَأَمَّا حَدِيثُ مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ قَالَ فِيهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ الْمُنْذِرِ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِيهِ مِثْلَهُ لَكِنْ قَالَ شَيْءٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِالرَّفْعِ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ جَرِيرٍ بِلَفْظِ مَنْ سَنَّ سُنَّةَ خَيْرٍ، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةَ شَرٍّ وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ

يُضِلُّونَهُمْ} قَالَ: حَمَّلَهُمْ ذُنُوبَ أَنْفُسِهِمْ وَذُنُوبَ مَنْ أَطَاعَهُمْ، وَلَا يُخَفِّفُ ذَلِكَ عَمَّنْ أَطَاعَهُمْ شَيْئًا، وَأَخْرَجَ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ فَسَّرَ الْآيَةَ الْمَذْكُورَةَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورِ، ذَكَرَهُ مُرْسَلًا بِغَيْرِ سَنَدٍ، وَأَمَّا حَدِيثُ الْبَابِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَقَدْ مَضَى شَرْحُهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْقِصَاصِ وَتَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي الْمُرَادِ بِالْمُفَارِقِ لِلْجَمَاعَةِ الْمَذْكُورِ فِيهِ.

قَالَ الْمُهَلَّبُ: هَذَا الْبَابُ وَالَّذِي قَبْلَهُ فِي مَعْنَى التَّحْذِيرِ مِنَ الضَّلَالِ، وَاجْتِنَابِ الْبِدَعِ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فِي الدِّينِ، وَالنَّهْيِ عَنْ مُخَالَفَةِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ انْتَهَى. وَوَجْهُ التَّحْذِيرِ أَنَّ الَّذِي يُحْدِثُ الْبِدْعَةَ قَدْ يَتَهَاوَنُ بِهَا لِخِفَّةِ أَمْرِهَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَلَا يَشْعُرُ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَفْسَدَةِ، وَهُوَ أَنْ يَلْحَقَهُ إِثْمُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدَهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُوَ عَمِلَ بِهَا بَلْ لِكَوْنِهِ كَانَ الْأَصْلُ فِي إِحْدَاثِهَا.

‌16 - بَاب مَا ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَحَضَّ عَلَى اتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْحَرَمَانِ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ، وَمَا كَانَ بِهما مِنْ مَشَاهِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَمُصَلَّى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمِنْبَرِ وَالْقَبْرِ.

ص: 302

7322 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ السَّلَمِيِّ أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْإِسْلَامِ، فَأَصَابَ الْأَعْرَابِيَّ وَعْكٌ بِالْمَدِينَةِ، فَجَاءَ الْأَعْرَابِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ جَاءَهُ، فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى، ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى، فَخَرَجَ الْأَعْرَابِيُّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طِيبُهَا.

7323 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ كُنْتُ أُقْرِئُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ فَلَمَّا كَانَ آخِرُ حَجَّةٍ حَجَّهَا عُمَرُ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِمِنًى لَوْ شَهِدْتَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتَاهُ رَجُلٌ قَالَ إِنَّ فُلَانًا يَقُولُ لَوْ مَاتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَبَايَعْنَا فُلَانًا فَقَالَ عُمَرُ لَاقُومَنَّ الْعَشِيَّةَ فَأُحَذِّرَ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ قُلْتُ لَا تَفْعَلْ فَإِنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ النَّاسِ يَغْلِبُونَ عَلَى مَجْلِسِكَ فَأَخَافُ أَنْ لَا يُنْزِلُوهَا عَلَى وَجْهِهَا فَيُطِيرُ بِهَا كُلُّ مُطِيرٍ فَأَمْهِلْ حَتَّى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ دَارَ الْهِجْرَةِ وَدَارَ السُّنَّةِ فَتَخْلُصَ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ فَيَحْفَظُوا مَقَالَتَكَ وَيُنْزِلُوهَا عَلَى وَجْهِهَا فَقَالَ وَاللَّهِ لَاقُومَنَّ بِهِ فِي أَوَّلِ مَقَامٍ أَقُومُهُ بِالْمَدِينَةِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ فَكَانَ فِيمَا أُنْزِلَ آيَةُ الرَّجْمِ

7324 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ كُنَّا عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ مُمَشَّقَانِ مِنْ كَتَّانٍ فَتَمَخَّطَ فَقَالَ بَخْ بَخْ أَبُو هُرَيْرَةَ يَتَمَخَّطُ فِي الْكَتَّانِ لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَإِنِّي لَاخِرُّ فِيمَا بَيْنَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ مَغْشِيًّا عَلَيَّ فَيَجِيءُ الْجَائِي فَيَضَعْ رِجْلَهُ عَلَى عُنُقِي وَيُرَى أَنِّي مَجْنُونٌ وَمَا بِي مِنْ جُنُونٍ مَا بِي إِلاَّ الْجُوعُ

7325 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ قَالَ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَشَهِدْتَ الْعِيدَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "نَعَمْ وَلَوْلَا مَنْزِلَتِي مِنْهُ مَا شَهِدْتُهُ مِنْ الصِّغَرِ فَأَتَى الْعَلَمَ الَّذِي عِنْدَ دَارِ كَثِيرِ بْنِ الصَّلْتِ فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ وَلَمْ يَذْكُرْ أَذَانًا وَلَا إِقَامَةً ثُمَّ أَمَرَ بِالصَّدَقَةِ فَجَعَلَ النِّسَاءُ يُشِرْنَ إِلَى آذَانِهِنَّ وَحُلُوقِهِنَّ فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَتَاهُنَّ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

7326 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ

ص: 303

النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْتِي قُبَاءً مَاشِيًا وَرَاكِبًا"

7327 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ادْفِنِّي مَعَ صَوَاحِبِي وَلَا تَدْفِنِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْبَيْتِ فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُزَكَّى

7328 -

وَعَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ أَرْسَلَ إِلَى عَائِشَةَ ائْذَنِي لِي أَنْ أُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيَّ فَقَالَتْ إِي وَاللَّهِ قَالَ وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَرْسَلَ إِلَيْهَا مِنْ الصَّحَابَةِ قَالَتْ لَا وَاللَّهِ لَا أُوثِرُهُمْ بِأَحَدٍ أَبَدًا

7329 -

حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ فَيَأْتِي الْعَوَالِيَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ وَزَادَ اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ وَبُعْدُ الْعَوَالِيَ أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ أَوْ ثَلَاثَةٌ

7330 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ الْجُعَيْدِ سَمِعْتُ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ كَانَ الصَّاعُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُدًّا وَثُلُثًا بِمُدِّكُمْ الْيَوْمَ وَقَدْ زِيدَ فِيهِ سَمِعَ الْقَاسِمُ بْنُ مَالِكٍ الْجُعَيْدَ

7331 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مِكْيَالِهِمْ وَبَارِكْ لَهُمْ فِي صَاعِهِمْ وَمُدِّهِمْ يَعْنِي أَهْلَ الْمَدِينَةِ

7332 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ زَنَيَا فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا قَرِيبًا مِنْ حَيْثُ تُوضَعُ الْجَنَائِزُ عِنْدَ الْمَسْجِدِ

7333 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَلَعَ لَهُ أُحُدٌ فَقَالَ هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَإِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا تَابَعَهُ سَهْلٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي أُحُدٍ

7334 -

حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلٍ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ جِدَارِ الْمَسْجِدِ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ وَبَيْنَ الْمِنْبَرِ مَمَرُّ الشَّاةِ

7335 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ،

ص: 304

وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي

7336 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَابَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الْخَيْلِ فَأُرْسِلَتْ الَّتِي ضُمِّرَتْ مِنْهَا وَأَمَدُهَا إِلَى الْحَفْيَاءِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ وَالَّتِي لَمْ تُضَمَّرْ أَمَدُهَا ثَنِيَّةُ الْوَدَاعِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ كَانَ فِيمَنْ سَابَقَ

7337 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ لَيْثٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ح و حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا عِيسَى وَابْنُ إِدْرِيسَ وَابْنُ أَبِي غَنِيَّةَ عَنْ أَبِي حَيَّانَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ عَلَى مِنْبَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

7338 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ سَمِعَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ خَطَبَنَا عَلَى مِنْبَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

3739 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ أَنَّ هِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ قَدْ كَانَ يُوضَعُ لِي وَلِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْمِرْكَنُ فَنَشْرَعُ فِيهِ جَمِيعًا

3740 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ الأَحْوَلُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ حَالَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الأَنْصَارِ وَقُرَيْشٍ فِي دَارِي الَّتِي بِالْمَدِينَةِ"

7341 -

"وَقَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ

7342 -

حَدَّثَنِي أَبُو كُرَيْبٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا بُرَيْدٌ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَلَقِيَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ فَقَالَ لِي انْطَلِقْ إِلَى الْمَنْزِلِ فَأَسْقِيَكَ فِي قَدَحٍ شَرِبَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتُصَلِّي فِي مَسْجِدٍ صَلَّى فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ فَسَقَانِي سَوِيقًا وَأَطْعَمَنِي تَمْرًا وَصَلَّيْتُ فِي مَسْجِدِهِ

3743 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ حَدَّثَنِي عِكْرِمَةُ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه حَدَّثَهُ قَالَ حَدَّثَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي وَهُوَ بِالْعَقِيقِ أَنْ صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ وَقُلْ عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ وَقَالَ هَارُونُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَلِيٌّ عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ

حديث عمر " صل في هذا الوادي المبارك " وقد تقدم شرحه في أواخر " كتاب الحج".

3744 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَقَّتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَرْنًا لِأَهْلِ نَجْدٍ وَالْجُحْفَةَ لِأَهْلِ الشَّأْمِ وَذَا الْحُلَيْفَةِ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ قَالَ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَلَغَنِي

ص: 305

أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمُ وَذُكِرَ الْعِرَاقُ فَقَالَ لَمْ يَكُنْ عِرَاقٌ يَوْمَئِذٍ

7345 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا الْفُضَيْلُ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أُرِيَ وَهُوَ فِي مُعَرَّسِهِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَقِيلَ لَهُ إِنَّكَ بِبَطْحَاءَ مُبَارَكَةٍ.

قَوْلُهُ: بَابُ مَا ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَحَضَّ) بِمُهْمَلَةٍ وَضَادٍ مُعْجَمَةٍ ثَقِيلَةٍ، أَيْ حَرَّضَ بِالْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، وَقَوْلُهُ عَلَى اتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ وَمَا حَضَّ عَلَيْهِ مِنِ اتِّفَاقٍ وَهُوَ مِنْ بَابِ تَنَازُعِ الْعَامِلَيْنِ وَهُمَا ذَكَرَ وَحَضَّ.

قَوْلُهُ (وَمَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْحَرَمَانِ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ، وَمَا كَانَ بِهِمَا مِنْ مَشَاهِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَمَا أَجْمَعَ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ بِغَيْرِ تَاءٍ، وَعِنْدَهُ وَمَا كَانَ بِهَا بِالْإِفْرَادِ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْإِجْمَاعُ هُوَ اتِّفَاقُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ - أَيِ الْمُجْتَهِدِينَ - مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ. وَاتِّفَاقُ مُجْتَهِدِي الْحَرَمَيْنِ دُونَ غَيْرِهِمْ لَيْسَ بِإِجْمَاعٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ مَالِكٌ: إِجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ حُجَّةٌ، قَالَ: وَعِبَارَةُ الْبُخَارِيِّ مُشْعِرَةٌ بِأَنَّ اتِّفَاقَ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ كِلَيْهِمَا إِجْمَاعٌ. قُلْتُ: لَعَلَّهُ أَرَادَ التَّرْجِيحَ بِهِ لَا دَعْوَى الْإِجْمَاعِ، وَإِذَا قَالَ بِحُجِّيَّةِ إِجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَحْدَهَا - مَالِكٌ وَمَنْ تَبِعَهُ فَهُمْ قَائِلُونَ بِهِ إِذَا وَافَقَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ التِّينِ، عَنْ سَحْنُونٍ اعْتِبَارَ إِجْمَاعِ أَهْلِ مَكَّةَ مَعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، قَالَ: حَتَّى لَوِ اتَّفَقُوا كُلُّهُمْ وَخَالَفَهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي شَيْءٍ لَمْ يُعَدَّ إِجْمَاعًا، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ نُدْرَةَ الْمُخَالِفِ تُؤَثِّرُ فِي ثُبُوتِ الْإِجْمَاعِ.

قَوْلُهُ: وَمُصَلَّى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمِنْبَرِ وَالْقَبْرِ) هَذِهِ الثَّلَاثَةُ مَجْرُورَةٌ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ مَشَاهِدِ. ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ حَدِيثًا.

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: حَدِيثُ جَابِرٍ.

قَوْلُهُ: إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ.

قَوْلُهُ: السَّلَمِيِّ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَاللَّامِ.

قَوْلُهُ (أَنَّ أَعْرَابِيًّا) تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي اسْمِهِ وَفِي أَيِّ شَيْءٍ اسْتَقَالَ مِنْهُ، وَضَبْطُ يَنْصَعُ فِي أَوَاخِرِ الْحَجِّ فِي فَضْلِ الْمَدِينَةِ، وَكَذَا قَوْلُهُ كَالْكِيرِ مَعَ سَائِرِ شَرْحِهِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: عَنِ الْمُهَلَّبِ فِيهِ تَفْضِيلُ الْمَدِينَةِ عَلَى غَيْرِهَا بِمَا خَصَّهَا اللَّهُ بِهِ مِنْ أَنَّهَا تَنْفِي الْخَبَثَ، وَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلَ بِحُجِّيَّةِ إِجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَتُعُقِّبَ بِقَوْلِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ الْحَدِيثَ دَالٌّ عَلَى فَضْلِ الْمَدِينَةِ، وَلَكِنْ لَيْسَ الْوَصْفُ الْمَذْكُورُ عَامًّا لَهَا فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ، بَلْ هُوَ خَاصٌّ بِزَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَخْرُجُ مِنْهَا رَغْبَةً عَنِ الْإِقَامَةِ مَعَهُ إِلَّا مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ، وَقَالَ عِيَاضٌ نَحْوَهُ، وَأَيَّدَهُ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَنْفِيَ الْمَدِينَةُ شِرَارَهَا، كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْفِضَّةِ قَالَ: وَالنَّارُ إِنَّمَا تُخْرِجُ الْخَبَثَ وَالرَّدِيءَ، وَقَدْ خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جَمَاعَةٌ مِنْ خِيَارِ الصَّحَابَةِ، وَقَطَنُوا غَيْرَهَا وَمَاتُوا خَارِجًا عَنْهَا، كَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي مُوسَى، وَعَلِيٍّ أَوْ أَبِي ذَرٍّ، وَعَمَّارٍ، وَحُذَيْفَةَ، وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ، وَمُعَاذٍ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَغَيْرِهِمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِزَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم بِالْقَيْدِ الْمَذْكُورِ، ثُمَّ يَقَعُ تَمَامُ إِخْرَاجِ الرَّدِيءِ مِنْهَا فِي زَمَنِ مُحَاصَرَةِ الدَّجَّالِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ وَاضِحًا فِي آخَرِ كِتَابِ الْفِتَنِ وَفِيهِ: فَلَا يَبْقَى مُنَافِقٌ وَلَا مُنَافِقَةٌ إِلَّا خَرَجَ إِلَيْهِ، فَذَلِكَ يَوْمُ الْخَلَاصِ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ كُنْتُ أُقْرِئُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، الْحَدِيثَ فِي خُطْبَةِ عُمَرَ الَّذِي تَقَدَّمَ بِطُولِهِ مَشْرُوحًا فِي بَابِ رَجْمِ الْحُبْلَى مِنَ الْحُدُودِ وَذَكَرَ هُنَا مِنْهُ طَرَفًا، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا مَا يَتَعَلَّقُ بِوَصْفِ الْمَدِينَةِ بِدَارِ الْهِجْرَةِ وَدَارِ السُّنَّةِ وَمَأْوَى الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَقَوْلُهُ فِيهِ فَلَمَّا كَانَ آخِرُ حَجَّةٍ حَجَّهَا عُمَرُ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: جَوَابُ لَمَّا مَحْذُوفٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَهُوَ فَلَمَّا رَجَعَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مِنْ عِنْدِ عُمَرَ لَقِيَنِي فَقَالَ وَقَوْلُهُ فِيهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ

ص: 306

الْمَذْكُورِ، وَقَوْلُهُ فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ حَذَفَ مِنْهُ قِطْعَةً كَبِيرَةً بَيْنَ قَوْلِهِ فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَبَيْنَ قَوْلِهِ قَالَ إِلَخْ.

تَقَدَّمَ بَيَانُهَا هُنَاكَ، وَفِيهَا قِصَّةٌ مَعَ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ وَخُرُوجُ عُمَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَخُطْبَتُهُ بِطُولِهَا، وَقَدْ أَدْخَلَ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَقُولُ بِحُجِّيَّةِ إِجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي مَسْأَلَةِ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَذَلِكَ حَيْثُ يَقُولُ: لِأَنَّهُمْ شَاهَدُوا التَّنْزِيلَ، وَحَضَرُوا الْوَحْيَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَهُمَا مَسْأَلَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ حُجَّةٌ أَقْوَى مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ إِجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ حُجَّةٌ، وَالرَّاجِحُ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ مِمَّنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ إِذَا اتَّفَقُوا عَلَى شَيْءٍ كَانَ الْقَوْلُ بِهِ أَقْوَى مِنَ الْقَوْلِ بِغَيْرِهِ، إِلَّا أَنْ يُخَالِفَ نَصًّا مَرْفُوعًا، كَمَا أَنَّهُ يُرَجَّحُ بِرِوَايَتِهِمْ لِشُهْرَتِهِمْ بِالتَّثَبُّتِ فِي النَّقْلِ وَتَرْكِ التَّدْلِيسِ، وَالَّذِي يَخْتَصُّ بِهَذَا الْبَابِ الْقَوْلُ بِحُجِّيَّةِ قَوْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إِذَا اتَّفَقُوا، وَأَمَّا ثُبُوتُ فَضْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِهَا، وَغَالِبُ مَا ذُكِرَ فِي الْبَابِ فَلَيْسَ بِقَوَيٍّ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: عَنْ مُحَمَّدٍ) هُوَ ابْنُ سِيرِينَ، وَوَقَعَ مَنْسُوبًا فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ.

قَوْلُهُ (ثَوْبَانِ مُمَشَّقَانِ) بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ الثَّقِيلَةِ بَعْدَهَا قَافٌ، أَيْ مَصْبُوغَانِ بِالْمِشْقِ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ، وَهُوَ الطِّينُ الْأَحْمَرُ، وَقَوْلُهُ بَخٍ بَخٍ بِمُوَحَّدَةٍ ثُمَّ مُعْجَمَةٍ مُكَرَّرٍ كَلِمَةُ تَعَجُّبٍ وَمَدْحٍ وَفِيهَا لُغَاتٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي بَابِ كَيْفَ كَانَ عَيْشُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ كِتَابِ الرِّقَاقِ وَالْغَرَضُ مِنْهُ.

قَوْلُهُ: وَإِنِّي لَأَخِرُّ مَا بَيْنَ الْمِنْبَرِ وَالْحُجْرَةِ هُوَ مَكَانُ الْقَبْرِ الشَّرِيفِ.

وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الْمُهَلَّبِ: وَجْهُ دُخُولِهِ فِي التَّرْجَمَةِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُ لَمَّا صَبَرَ عَلَى الشِّدَّةِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا مِنْ أَجْلِ مُلَازَمَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، جُوزِيَ بِمَا انْفَرَدَ بِهِ مِنْ كَثْرَةِ مَحْفُوظِهِ وَمَنْقُولِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَغَيْرِهَا، وَذَلِكَ بِبَرَكَةِ صَبْرِهِ عَلَى الْمَدِينَةِ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي شُهُودِهِ الْعِيدَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي صَلَاةِ الْعِيدِ، وَسِيَاقُهُ هُنَاكَ أَتَمُّ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا ذِكْرُ الْمُصَلَّى، حَيْثُ قَالَ: فَأَتَى الْعَلَمَ الَّذِي عِنْدَ دَارِ كَثِيرِ بْنِ الصَّلْتِ، وَالدَّارُ الْمَذْكُورَةُ بُنِيَتْ بَعْدَ الْعَهْدِ النَّبَوِيِّ وَإِنَّمَا عُرِفَ بِهَا لِشُهْرَتِهَا. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الْمُهَلَّبِ: شَاهِدُ التَّرْجَمَةِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَلَوْلَا مَكَانِي مِنَ الصِّغَرِ مَا شَهِدْتُهُ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ صَغِيرَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَكَبِيرَهُمْ، وَنِسَاءَهُمْ وَخَدَمَهُمْ ضَبَطُوا الْعِلْمَ مُعَايَنَةً مِنْهُمْ فِي مَوَاطِنِ الْعَمَلِ مِنْ شَارِعِهَا الْمُبَيِّنِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ لِغَيْرِهِمْ هَذِهِ الْمَنْزِلَةُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنَ الصِّغَرِ مَا شَهِدْتُهُ إِشَارَةٌ مِنْهُ إِلَى أَنَّ الصِّغَرَ مَظِنَّةُ عَدَمِ الْوُصُولِ إِلَى الْمَقَامِ الَّذِي شَاهَدَ فِيهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى سَمِعَ كَلَامَهُ وَسَائِرَ مَا قَصَّهُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ ابْنُ عَمِّهِ وَخَالَتُهُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ وَصَلَ بِذَلِكَ إِلَى الْمَنْزِلَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَصِلْ. وَيُؤْخَذُ مِنْهَا نَفْيُ التَّعْمِيمِ الَّذِي ادَّعَاهُ الْمُهَلَّبُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِ فَهُوَ خَاصٌّ بِمَنْ شَاهَدَ ذَلِكَ وَهُمُ الصَّحَابَةُ فَلَا يُشَارِكُهُمْ فِيهِمْ مَنْ بَعْدَهُمْ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي إِتْيَانِ قُبَاءَ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَاخِرِ الصَّلَاةِ، وَفِيهِ زِيَادَةٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الْمُهَلَّبِ: الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ مُعَايَنَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَاشِيًا وَرَاكِبًا فِي قَصْدِهِ مَسْجِدَ قُبَاءَ، وَهُوَ مَشْهَدٌ مِنْ مَشَاهِدِهِ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ ذَلِكَ بِغَيْرِ الْمَدِينَةِ.

الْحَدِيثُ السَّادِسُ: قَوْلُهُ: عَنْ هِشَامٍ) هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَوَقَعَ مَنْسُوبًا فِي رِوَايَةِ جُوَيْرِيَةَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ.

قَوْلُهُ: عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ) أَيْ أَنَّهَا قَالَتْ.

قَوْلُهُ: مَعَ صَوَاحِبِي) جَمْعُ صَاحِبَةٍ تُرِيدُ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدَةَ ابْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ هِشَامٍ بِالْبَقِيعِ.

قَوْلُهُ: وَلَا تَدْفِنِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْبَيْتِ) يُعَارِضُهُ فِي الظَّاهِرِ قَوْلُهَا فِي قِصَّةِ دَفْنِ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُزَكَّى) بِفَتْحِ الْكَافِ الثَّقِيلَةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، أَيْ أَنْ يُثْنِيَ عَلَيَّ أَحَدٌ بِمَا لَيْسَ فِيَّ، بَلْ بِمُجَرَّدِ كَوْنِي مَدْفُونَةً عِنْدَهُ دُونَ سَائِرِ نِسَائِهِ فَيُظَنُّ أَنِّي خُصِصْتُ

ص: 307

بِذَلِكَ مِنْ دُونِهِنَّ، لِمَعْنًى فِيَّ لَيْسَ فِيهِنَّ، وَهَذَا مِنْهَا فِي غَايَةِ التَّوَاضُعِ.

الْحَدِيثُ السَّابِعُ: قَوْلُهُ (وَعَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ مَوْصُولًا أَنَّ عُمَرَ أَرْسَلَ إِلَى عَائِشَةَ هَذَا صُورَتُهُ الْإِرْسَالُ، لِأَنَّ عُرْوَةَ لَمْ يُدْرِكْ زَمَنَ إِرْسَالِ عُمَرَ إِلَى عَائِشَةَ، لَكِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ حَمَلَهُ عَنْ عَائِشَةَ فَيَكُونُ مَوْصُولًا.

قَوْلُهُ: مَعَ صَاحِبَيَّ) بِالتَّثْنِيَةِ.

قَوْلُهُ (فَقَالَتْ: إِي وَاللَّهِ، قَالَ: وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَرْسَلَ إِلَيْهَا مِنَ الصَّحَابَةِ) هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ الرَّجُلُ، وَلَفْظُ الرِّسَالَةِ مَحْذُوفٌ وَتَقْدِيرُهُ يَسْأَلُهَا أَنْ يُدْفَنَ مَعَهُمْ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ قَالَتْ إِلَخْ.

قَوْلُهُ: قَالَتْ: لَا وَاللَّهِ لَا أُوثِرُهُمْ بِأَحَدٍ أَبَدًا) بِالْمُثَلَّثَةِ مِنَ الْإِيثَارِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: كَذَا وَقَعَ، وَالصَّوَابُ لَا أُوثِرُ أَحَدًا بِهِمْ أَبَدًا قَالَ شَيْخُنَا ابْنُ الْمُلَقِّنِ: وَلَمْ يَظْهَرْ لِي وَجْهُ صَوَابِهِ، انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّهُ مَقْلُوبٌ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَبِذَلِكَ صَرَّحَ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ ثُمَّ الْكِرْمَانِيُّ قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَا أُثِيرُهُمْ بِأَحَدٍ، أَيْ لَا أَنْبُشُهُمْ لِدَفْنِ أَحَدٍ، وَالْبَاءُ بِمَعْنَى اللَّامِ وَاسْتَشْكَلَهُ ابْنُ التِّينِ بِقَوْلِهَا فِي قِصَّةِ عُمَرَ لَأُوثِرَنَّهُ عَلَى نَفْسِي وَأَجَابَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الَّذِي آثَرَتْهُ بِهِ الْمَكَانَ الَّذِي دُفِنَ فِيهِ مِنْ وَرَاءِ قَبْرِ أَبِيهَا بِقُرْبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَذَلِكَ لَا يَنْفِي وُجُودَ مَكَانٍ آخَرَ فِي الْحُجْرَةِ.

قُلْتُ: وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طُرُقٍ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ أَوْصَى أَخَاهُ أَنْ يَدْفِنَهُ عِنْدَهُمْ إِنْ لَمْ يَقَعْ بِذَلِكَ فِتْنَةٌ، فَصَدَّهُ عَنْ ذَلِكَ بَنُو أُمَيَّةَ فَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ، وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامِ قَالَ: مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ صِفَةُ مُحَمَّدٍ وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عليهما السلام يُدْفَنُ مَعَهُ قَالَ أَبُو دَاوُدَ أَحَدُ رُوَاتِهِ: وَقَدْ بَقِيَ فِي الْبَيْتِ مَوْضِعُ قَبْرٍ، وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ يُدْفَنُ عِيسَى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، فَيَكُونُ قَبْرًا رَابِعًا قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الْمُهَلَّبِ: إِنَّمَا كَرِهَتْ عَائِشَةُ أَنْ تُدْفَنَ مَعَهُمْ خَشْيَةَ أَنْ يَظُنَّ أَحَدٌ أَنَّهَا أَفْضَلُ الصَّحَابَةِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبَيْهِ، فَقَدْ سَأَلَ الرَّشِيدُ، مَالِكًا عَنْ مَنْزِلَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَيَاتِهِ فَقَالَ: كَمَنْزِلَتِهِمَا مِنْهُ بَعْدَ مَمَاتِهِ، فَزَكَّاهُمَا بِالْقُرْبِ مَعَهُ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ وَالتُّرْبَةِ الَّتِي خُلِقَ مِنْهَا، فَاسْتُدِلَّ عَلَى أَنَّهُمَا أَفْضَلُ الصَّحَابَةِ بِاخْتِصَاصِهِمَا بِذَلِكَ، وَقَدِ احْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الْأَبْهَرِيُّ الْمَالِكِيُّ بِأَنَّ الْمَدِينَةَ أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَخْلُوقٌ مِنْ تُرْبَةِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ أَفْضَلُ الْبَشَرِ، فَكَانَتْ تُرْبَتُهُ أَفْضَلَ التُّرَبِ انْتَهَى.

وَكَوْنُ تُرْبَتِهِ أَفْضَلَ التُّرَبِ لَا نِزَاعَ فِيهِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ هَلْ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الْمَدِينَةُ أَفْضَلَ مِنْ مَكَّةَ؟ لِأَنَّ الْمُجَاوِرَ لِلشَّيْءِ لَوْ ثَبَتَ لَهُ جَمِيعُ مَزَايَاهُ لَكِنْ لَمَّا جَاوَرَ ذَلِكَ الْمُجَاوِرَ نَحْوُ ذَلِكَ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَا جَاوَرَ الْمَدِينَةَ أَفْضَلَ مِنْ مَكَّةَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ اتِّفَاقًا، كَذَا أَجَابَ بِهِ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ وَفِيهِ نَظَرٌ.

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ) أَيِ ابْنِ بِلَالٍ الْمَدَنِيُّ وَالسَّنَدُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ، وَلَمْ يَسْمَعْ أَيُّوبُ مِنْ أَبِيهِ بَلْ حَدَّثَ عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ وَهُوَ مُقِلٌّ، وَوَثَّقَهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ، وَزَعَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ ضَعِيفٌ فَوَهِمَ، وَإِنَّمَا الضَّعِيفُ آخَرُ وَافَقَ اسْمَهُ وَاسْمَ أَبِيهِ.

قَوْلُهُ: فَيَأْتِي الْعَوَالِيَ) تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الْمَوَاقِيتِ مَعَ شَرْحِهِ.

قَوْلُهُ: (زَادَ اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ) يَعْنِي عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسٍ، وَيُونُسُ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ الْأَيْلِيُّ، وَهَذِهِ الطَّرِيقُ وَصَلَهَا الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ كَاتِبِ اللَّيْثِ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: وَبُعْدُ الْعَوَالِي مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ.

قَوْلُهُ: (وَبُعْدُ الْعَوَالِي أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ - أَوْ ثَلَاثَةٌ) كَأَنَّهُ شَكٌّ مِنْهُ؛ فَإِنَّهُ عِنْدَهُ: عَنْ أَبِي صَالِحٍ وَهُوَ عَلَى عَادَتِهِ يُورِدُ لَهُ فِي الشَّوَاهِدِ وَالتَّتِمَّاتِ، وَلَا يَحْتَجُّ بِهِ فِي الْأُصُولِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الْمُهَلَّبِ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ بَيْنَ الْعَوَالِي وَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ لِلْمَاشِي شَيْئًا مُعَلَّمًا مِنْ مَعَالِمِ مَا بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ يَسْتَغْنِي الْمَاشِي فِيهَا يَوْمَ الْغَيْمِ عَنْ مَعْرِفَةِ الشَّمْسِ، وَذَلِكَ مَعْدُومٌ فِي سَائِرِ الْأَرْضِ، قَالَ: فَإِذَا كَانَتْ مَقَادِيرُ الزَّمَانِ مُعَيَّنَةً بِالْمَدِينَةِ بِمَكَانِ

ص: 308

بَلَدٍ لِلْعَيَانِ يَنْقُلُهُ الْعُلَمَاءُ إِلَى أَهْلِ الِآفَاقِ؛ لِيَتَمَثَّلُوهُ فِي أَقَاصِي الْبُلْدَانِ، فَكَيْفَ يُسَاوِيهِمْ أَهْلُ بَلَدٍ غَيْرِهَا؟ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ يُغْنِي إِيرَادُهُ عَنْهُ عَنْ تَكَلُّفِ الْبَحْثِ مَعَهُ فِيهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

سَمِعَ الْقَاسِمُ بْنُ مَالِكٍ الْجُعَيْدَ.

الْحَدِيثُ التَّاسِعُ: حَدِيثُ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ فِي ذِكْرِ الصَّاعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: مُدًّا وَثُلُثًا بِمُدِّكُمُ الْيَوْمَ وَقَعَ لِبَعْضِهِمْ: مُدًّ وَثُلُثً وَهُوَ عَلَى طَرِيقِ مَنْ يَكْتُبُ الْمَنْصُوبَ بِغَيْرِ أَلْفٍ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: أَوْ يَكُونُ فِي كَانَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ فَيَرْتَفِعُ عَلَى الْخَبَرِ. وَمُنَاسَبَةُ هَذَا الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ أَنَّ قَدْرَ الصَّاعِ مِمَّا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ بَعْدَ الْعَهْدِ النَّبَوِيِّ وَاسْتَمَرَّ، فَلَمَّا زَادَ بَنُو أُمَيَّةَ فِي الصَّاعِ لَمْ يَتْرُكُوا اعْتِبَارَ الصَّاعِ النَّبَوِيِّ فِيمَا وَرَدَ فِيهِ التَّقْدِيرُ بِالصَّاعِ مِنْ زَكَاةِ الْفِطْرِ وَغَيْرِهَا، بَلِ اسْتَمَرُّوا عَلَى اعْتِبَارِهِ فِي ذَلِكَ، وَإِنِ اسْتَعْمَلُوا الصَّاعَ الزَّائِدَ فِي شَيْءٍ غَيْرِ مَا وَقَعَ فِيهِ التَّقْدِيرُ بِالصَّاعِ، كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ مَالِكٌ، وَرَجَعَ إِلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ فِي الْقِصَّةِ الْمَشْهُورَةِ، وَقَوْلُهُ: وَقَدْ زِيدَ فِيهِ زَادَ رِوَايَةَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ.

قَوْلُهُ: (سَمِعَ الْقَاسِمُ بْنُ مَالِكٍ، الْجُعَيْدَ) يُشِيرُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ فِي كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ عَنْ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا الْجُعَيْدُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ زِيَادِ بْنِ أَيُّوبَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: أَنْبَأَنَا الْجُعَيْدُ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ.

الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ: حَدِيثُ أَنَسٍ فِي الدُّعَاءِ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ بِالْبَرَكَةِ فِي صَاعِهِمْ وَمُدِّهِمْ، تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْبُيُوعِ وَفِي كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: يَعْنِي أَهْلَ الْمَدِينَةِ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الْمُهَلَّبِ: دُعَاؤُهُ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي صَاعِهِمْ وَمُدِّهِمْ، خَصَّهُمْ مِنَ الْبَرَكَةِ مَا اضْطَرَّ أَهْلُ الْآفَاقِ إِلَى قَصْدِهِمْ فِي ذَلِكَ الْمِعْيَارِ الْمَدْعُوِّ لَهُ بِالْبَرَكَةِ؛ لِيَجْعَلُوهُ طَرِيقَةً مُتَّبَعَةً فِي مَعَاشِهِمْ، وَأَدَاءَ مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.

الْحَدِيثُ الْحَادِيَ عَشَرَ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ الْيَهُودِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ زَنَيَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْمُحَارِبِينَ، وَسِيَاقُهُ هُنَاكَ أَتَمُّ. وَقَوْلُهُ: حَيْثُ تُوضَعُ الْجَنَائِزُ كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِلَفْظِ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي: مَوْضِعَ الْجَنَائِزِ.

تَابَعَهُ سَهْلٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي أُحُدٍ.

الْحَدِيثُ الثَّانِيَ عَشَرَ: حَدِيثُ أَنَسٍ فِي أُحُدٍ: هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ وَفِيهِ: إنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ هَكَذَا مُخْتَصَرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ فِي الْجِهَادِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَمْرٍو، وَتَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِشَرْحِ مَا ذَكَرَ هُنَا فِي آخِرِ الْحَجِّ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثَ عَشَرَ: قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ سَهْلٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي أُحُدٍ) يُشِيرُ إِلَى مَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ أَوْرَدَهُ مُعَلَّقًا لِسُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ بِسَنَدِهِ إِلَى سَهْلٍ عَقِبَ حَدِيثِ ابْنِ حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ، وَمَضَى شَرْحُ الْمَتْنِ فِي آخِرِ غَزْوَةِ أُحُدٍ.

الْحَدِيثُ الْخَامِسَ عَشَرَ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي فَضْلِ الْمَدِينَةِ، وَقَوْلُهُ: عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ فِي رِوَايَةِ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ: عَنْ مَالِكٍ، عَنْ حَبِيبٍ أَنَّ حَفْصَ بْنَ عَاصِمٍ حَدَّثَهُ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَفِي حَدِيثِ مَالِكٍ، وَالدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ طَرِيقِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ بِنُزُولِهِ دَرَجَةً، وَعَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ شَيْخُهُ فِيهِ هُوَ الْفَلَّاسُ. وَابْنُ مَهْدِيٍّ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْحُفَّاظِ، وَلَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي الْمُوَطَّأِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الرُّوَاةِ إِلَّا مَعْنَ بْنَ عِيسَى فِيمَا قِيلَ فَقَطْ ; وَرَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ خَارِجَ الْمُوَطَّأِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِيهِ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَطْ، وَهَذِهِ رِوَايَةُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَحْدَهُ، الَّتِي اقْتَصَرَ عَلَيْهَا الْبُخَارِيُّ، صَرَّحَ الدَّارَقُطْنِيُّ بِأَنَّهُ رَوَاهَا عَنْ مَالِكٍ هَكَذَا وَحْدَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَهَذِهِ رِوَايَةُ مَعْنِ بْنِ عِيسَى، وَمُطَرِّفٍ، وَالْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ أَبِي سَعِيدٍ، بِالشَّكِّ وَهَذِهِ رِوَايَةُ الْقَعْنَبِيِّ، وَالتِّنِّيسِيِّ،

ص: 309

وَالشَّافِعِيِّ، وَالزَّعْفَرَانِيِّ، وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ، وَمَعْنِ بْنِ عِيسَى فَقِيلَ بِالشَّكِّ وَقِيلَ بِالْجَمْعِ، انْتَهَى مُلَخَّصًا مِنْ كَلَامِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَالدَّارَقُطْنِيِّ.

الْحَدِيثُ السَّادِسَ عَشَرَ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي الْمُسَابَقَةِ بَيْنَ الْخَيْلِ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ، وَالْحَفْيَاءُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْفَاءِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ، مَكَانٌ مَعْرُوفٌ بِالْمَدِينَةِ يُمَدُّ وَيُقْصَرُ، وَرُبَّمَا قُدِّمَتِ الْيَاءُ عَلَى الْفَاءِ وَبَنُو زُرَيْقٍ مِنَ الْأَنْصَارِ بِتَقْدِيمِ الزَّايِ عَلَى الرَّاءِ مُصَغَّرٌ، وَقَوْلُهُ هُنَا: فَأُرْسِلَتْ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ بِلَفْظِ الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فَأَرْسَلَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَالْفَاعِلُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَيْ بِأَمْرِهِ ; قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الْمُهَلَّبِ فِي حَدِيثِ سَهْلٍ: فِي مِقْدَارِ مَا بَيْنَ الْجِدَارِ وَالْمِنْبَرِ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ فِي مَوْضِعِ الْمِنْبَرِ لِيَدْخُلَ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَمَسَافَةُ مَا بَيْنَ الْحَفْيَاءِ وَالثَّنِيَّةِ لِمُسَابَقَةِ الْخَيْلِ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، يَكُونُ ذَلِكَ الْقَدْرُ مَيْدَانًا لِلْخَيْلِ الْمُضْمَرَةِ عِنْدَ السِّبَاقِ.

(تَنْبِيهٌ):

أَوْرَدَ أَبُو ذَرٍّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُخْتَصَرًا مِنَ الْمَتْنِ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَمَدُهَا إِلَخْ، وَسَاقَهُ غَيْرُهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَغَيْرِهَا عَقِبَهُ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرْنَا عِيسَى، وَابْنُ إِدْرِيسَ فَذَكَرَ حَدِيثَ عُمَرَ فِي الْأَشْرِبَةِ، وَقَدْ أَشْكَلَ أَمْرُهُ عَلَى بَعْضِ الشَّارِحِينَ، فَظَنَّ أَنَّهُ سَاقَ هَذَا السَّنَدَ لِلْمَتْنِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ فِي الْأَشْرِبَةِ وَهُوَ غَلَطٌ فَاحِشٌ؛ فَإِنَّ حَدِيثَ عُمَرَ مِنْ أَفْرَادِ الشَّعْبِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ وَأَمَّا رِوَايَةُ اللَّيْثِ، عَنْ نَافِعٍ فَتَتَعَلَّقُ بِالْمُسَابَقَةِ، فَهِيَ مُتَابِعَةٌ لِرِوَايَةِ جُوَيْرِيَةَ بْنِ أَسْمَاءَ، عَنْ نَافِعٍ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْجِهَادِ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ أَيْضًا وَسَبَقَ لَفْظُهُ هُنَاكَ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ قُتَيْبَةَ، وَقَدْ أَغْفَلَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ ذِكْرَ الْبُخَارِيِّ فِي تَخْرِيجِ هَذِهِ الطَّرِيقِ عَنْ قُتَيْبَةَ، وَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ، عَنِ اللَّيْثِ، وَذَكَرَ أَنَّ مُسْلِمًا، وَالنَّسَائِيَّ أَخْرَجَاهَا عَنْ قُتَيْبَةَ، وَسَبَبُ هَذَا الْغَلَطِ الْإِجْحَافُ فِي الِاخْتِصَارِ، فَلَوْ كَانَ قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَثَلًا فَذَكَرَهُ أَوْ بِهَذَا أَوْ بِهِ لَارْتَفَعَ الْإِشْكَالُ.

الْحَدِيثُ السَّابِعَ عَشَرَ: قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ) هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ رَاهْوَيْهِ، كَمَا جَزَمَ بِهِ أَبُو نُعَيْمٍ، وَالْكَلَابَاذِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَابْنُ إِدْرِيسَ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَابْنُ أَبِي غَنِيَّةَ بِمُعْجَمَةٍ وَنُونٍ بِوَزْنِ عَطِيَّةَ، وَهُوَ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي غَنِيَّةَ الْخُزَاعِيُّ، وَأَبُو حَيَّانَ هُوَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ بْنِ حِبَّانَ، وَالسَّنَدُ كُلُّهُ كُوفِيُّونَ إِلَّا إِسْحَاقَ، وَابْنَ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ عُمَرَ عَلَى مِنْبَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَذَا اقْتَصَرَ مِنَ الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ لِكَوْنِهِ؛ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَيْهِ هُنَا، وَهُوَ ذِكْرُ الْمِنْبَرِ، وَتَقَدَّمَ فِي الْأَشْرِبَةِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ أَبِي حَيَّانَ، فَزَادَ فِيهِ أَنَّهُ قَدْ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، وَهِيَ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ، الْحَدِيثَ وَمَضَى هُنَاكَ مَشْرُوحًا.

الْحَدِيثُ الثَّامِنَ عَشَرَ: قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ) هُوَ الصَّحَابِيُّ الْمَعْرُوفُ، وَتَقَدَّمَ لَهُ.

الْحَدِيثُ التَّاسِعَ عَشَرَ: قَوْلُهُ: (أَنَّهُ سَمِعَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ خَطِيبًا عَلَى مِنْبَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَكَذَا اقْتَصَرَ مِنَ الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ، وَبَيَّضَ لَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجِهِ، فَذَكَرَ مَا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فَقَطْ، وَلَمْ يُوصِلْهُ مِنْ طَرِيقِهِ وَلَا مِنْ غَيْرِهَا، وَقَوْلُهُ: خَطِيبًا هُوَ حَالٌ مِنْ عُثْمَانَ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: خَطَبَنَا بِنُونٍ، لَفْظُ الْفِعْلِ الْمَاضِي، وَبَقِيَّةُ الْحَدِيثِ أَوْهَمَ صَنِيعُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ أَنَّهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَذَانِ الَّذِي زَادَهُ عُثْمَانُ، فَإِنَّهُ أَخْرَجَهُ هُنَا، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ يَتَعَلَّقُ بِخُطْبَةِ عُثْمَانَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ حَدِيثٌ آخَرُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، فَزَادَ فِيهِ يَقُولُ: هَذَا شَهْرُ زَكَاتِكُمْ، فَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيُؤَدِّهِ الْحَدِيثَ، وَهُوَ فِي أَوَاخِرِ الرُّبْعِ الرَّابِعِ مِنْهُ، وَنَقَلَ فِيهِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ أَرَادَ شَهْرَ رَمَضَانَ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَجَاءَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّهُ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ. قُلْتُ: وَقَعَ قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ مِنْ وَجْهٍ ضَعِيفٍ، وَقَعَ لَنَا بِعُلُوٍّ فِي جُزْءِ الْفَلَكِيِّ بِلَفْظِ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ إِذَا دَخَلَ شَعْبَانُ

ص: 310

أَكَبُّوا عَلَى الْمَصَاحِفِ، وَأَخْرَجُوا الزَّكَاةَ، وَدَعَا الْوُلَاةُ أَهْلَ السُّجُونِ الْحَدِيثُ مَوْقُوفٌ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الْمُهَلَّبِ: فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، بِأَنَّ الْخَلِيفَةَ يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ، لَا يُخَافِتُهَا لِتَصِلَ الْمَوْعِظَةُ إِلَى أَسْمَاعِ النَّاسِ إِذَا أَشْرَفَ عَلَيْهِمِ، انْتَهَى.

وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمِنْبَرَ النَّبَوِيَّ بَقِيَ إِلَى ذَلِكَ الْعَهْدِ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ بِزِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ، وَقَدْ جَاءَ فِي غَيْرِهِ أَنَّهُ بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ زَمَانًا آخَرَ.

الْحَدِيثُ التَّاسِعَ عَشَرَ: حَدِيثُ عَائِشَةَ.

قَوْلُهُ: (عَبْدُ الْأَعْلَى) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى السَّامِيُّ بِالْمُهْمَلَةِ الْبَصْرِيُّ.

قَوْلُهُ: (هَذَا الْمِرْكَنُ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْكَافِ بَعْدَهَا نُونٌ، قَالَ الْخَلِيلُ: شِبْهُ تَوْرٍ مِنْ أَدَمٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ: شِبْهُ حَوْضٍ مِنْ نُحَاسٍ، وَأَبْعَدَ مَنْ فَسَّرَهُ بِالْإِجَّانَةِ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ ثُمَّ نُونٍ ; لِأَنَّهُ فَسَّرَ الْغَرِيبَ بِمِثْلِهِ، وَالْإِجَّانَةُ هِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا: الْقِصْرِيَّةُ وَهِيَ بِكَسْرِ الْقَافِ، وَقَوْلُهَا: فَنَشْرَعُ فِيهِ جَمِيعًا أَيْ: نَتَنَاوَلُ مِنْهُ بِغَيْرِ إِنَاءٍ، وَأَصْلُهُ الْوُرُودُ لِلشُّرْبِ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ حَالَةٍ يَتَنَاوَلُ فِيهَا الْمَاءَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ مَعَ شَرْحِ الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ لِبَيَانِ مِقْدَارِ مَا يَكْفِي الزَّوْجَ وَالْمَرْأَةَ إِذَا اغْتَسَلَا.

الْحَدِيثُ الْعِشْرُونَ: حَدِيثُ أَنَسٍ مِنْ رِوَايَةِ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ عَنْهُ فِي الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ، وَفِي الْقُنُوتِ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، وَقَدِ اخْتَصَرَهُ مِنْ حَدِيثَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا أَتَمُّ مِمَّا ذَكَرَهُ هُنَا، وَقَدْ مَضَى شَرْحُ الْأَوَّلِ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ وَبَيَانُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْإِخَاءِ وَالْحِلْفِ، وَمَضَى شَرْحُ الثَّانِي فِي كِتَابِ الْوِتْرِ وَفِيهِ بَيَانُ الْوَقْتِ وَالسَّبَبِ الَّذِي قَنَتَ فِيهِ، وَمَضَى فِي الْمَغَازِي فِي غَزْوَةِ بِئْرِ مَعُونَةَ بَيَانُ أَسْمَاءِ الْأَحْيَاءِ الْمَذْكُورِينَ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ.

الْحَدِيثُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: قَوْلُهُ: (بُرَيْدٌ) بِمُوَحَّدَةٍ وَرَاءٍ مُهْمَلَةٍ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ.

قَوْلُهُ: (قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَلَقِيَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ) وَقَعَ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بَيَانُ سَبَبِ قُدُومِ أَبِي بُرْدَةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَبَيَانُ زَمَانِ قُدُومِهِ، فَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: أَرْسَلَنِي أَبِي إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ لِأَتَعَلَّمَ مِنْهُ، فَسَأَلَنِي: مَنْ أَنْتَ؟ فَأَخْبَرْتُهُ، فَرَحَّبَ بِي.

قَوْلُهُ: (انْطَلِقْ إِلَى الْمَنْزِلِ) زَادَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: مَعِيَ وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ بَدَلٌ مِنَ الْإِضَافَةِ، أَيْ: تَعَالَ مَعِيَ إِلَى مَنْزِلِي، وَقَدْ مَضَى فِي مَنَاقِبِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ: أَتَيْتُ الْمَدِينَةَ، فَلَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ، فَقَالَ: أَلَا تَجِيءُ فَأُطْعِمَكَ وَتَدْخُلَ فِي بَيْتِي.

قَوْلُهُ: (فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، فَأَسْقَانِي سَوِيقًا، وَأَطْعَمَنِي تَمْرًا) قَدْ مَضَى فِي مَنَاقِبِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ بِلَفْظِ: أَلَا تَجِيءُ فَأُطْعِمَكَ سَوِيقًا وَتَمْرًا فَكَأَنَّهُ اسْتَعْمَلَ الْإِطْعَامَ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ: عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً، لِأَنَّهُ إِمَّا مِنَ الِاكْتِفَاءِ وَإِمَّا مِنَ التَّضْمِينِ، وَلَا يَحْتَاجُ لِذَلِكَ هُنَا؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَقَدْ بَيَّنَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّهُ أَسْقَاهُ السَّوِيقَ.

قَوْلُهُ: (وَصَلَّيْتُ فِي مَسْجِدِهِ) زَادَ فِي مَنَاقِبِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ ذِكْرَ الرِّبَا، وَأَنَّ مَنِ اقْتَرَضَ قَرْضًا فَتَقَاضَاهُ إِذَا حَلَّ فَأَهْدَى لَهُ الْمَدْيُونُ هَدِيَّةً كَانَتْ مِنْ جُمْلَةِ الرِّبَا، وَتَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ هُنَاكَ، وَوَقَعَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ أَيْضًا، كَمَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ لَكِنْ بِاخْتِصَارٍ عَنِ الَّذِي تَقَدَّمَ، وَوَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي أَحْمَدَ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ السَّكَنْدَرِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَقَدْ جَزَمَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ بِمَا قُلْتُهُ، فَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ حَذَفَهَا، وَثَبَتَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدٍ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا نَحْوُ ذَلِكَ.

وَقَالَ هَارُونُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ: عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: حَدِيثُ عُمَرَ: صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْحَجِّ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ هَارُونُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ:، حَدَّثَنَا عَلِيٌّ: عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ) يُرِيدُ أَنَّ هَارُونَ خَالَفَ سَعِيدَ بْنَ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ فِي آخِرِهِ: وَقُلْ: عُمْرَةً وَحَجَّةً بِوَاوِ الْعَطْفِ، فَقَالَ: عُمَرَةٌ فِي حَجَّةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هُنَاكَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ

ص: 311

شَيْخِ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ فِيهِ بِلَفْظِ: عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ وَرِوَايَةُ هَارُونَ هَذِهِ وَقَعَتْ لَنَا مَوْصُولَةً فِي مُسْنَدِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، وَفِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ لِعُمَرَ بْنِ شَبَّةَ كِلَاهُمَا عَنْ هَارُونَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْخَزَّازِ بِمُعْجَمَاتٍ، وَيَجُوزُ فِي قَوْلِهِ: عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي الْمَوَاقِيتِ تَقَدَّمَ مَشْرُوحًا، وَبَيَانُ مَنْ بَلَّغَ ابْنَ عُمَرَ مِيقَاتَ يَلَمْلَمَ. وَمُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ شَيْخُهُ فِيهِ هُوَ الْفِرْيَابِيُّ. وَشَيْخُهُ سُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: وَذُكِرَ الْعِرَاقُ، فَقَالَ: لَمْ يَكُنْ عِرَاقٌ يَوْمَئِذٍ ذُكِرَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ وَلَمْ يُسَمَّ، وَالْمُجِيبُ هُوَ ابْنُ عُمَرَ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: فَقِيلَ لَهُ: الْعِرَاقُ؟ قَالَ: لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ عِرَاقٌ وَقَوْلُهُ: لَمْ يَكُنْ عِرَاقٌ يَوْمَئِذٍ أَيْ: بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ بِلَادَ الْعِرَاقِ كُلَّهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَتْ بِأَيْدِي كِسْرَى وَعُمَّالِهِ مِنَ الْفُرْسِ وَالْعَرَبِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَكُنْ أَهْلُ الْعِرَاقِ مُسْلِمِينَ حِينَئِذٍ حَتَّى يُوَقِّتَ لَهُمْ، وَيُعَكِّرُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ ذِكْرُ أَهْلِ الشَّامِ، فَلَعَلَّ مُرَادَ ابْنِ عُمَرَ نَفْيُ الْعِرَاقَيْنِ؛ وَهُمَا الْمِصْرَانِ الْمَشْهُورَانِ؛ الْكُوفَةُ وَالْبَصْرَةُ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا إِنَّمَا صَارَ مِصْرًا جَامِعًا بَعْدَ فَتْحِ الْمُسْلِمِينَ بِلَادَ الْفُرْسِ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: حَدِيثُ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، أَيِ: ابْنِ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (أُرِيَ وَهُوَ فِي مُعَرَّسِهِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ وَبَقِيَّتُهُ تُوَافِقُ حَدِيثَ عُمَرَ الْمَذْكُورَ قَبْلَهُ بِحَدِيثٍ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: عَنِ الْمُهَلَّبِ غَرَضُ الْبُخَارِيِّ بِهَذَا الْبَابِ وَأَحَادِيثِهِ تَفْضِيلُ الْمَدِينَةِ بِمَا خَصَّهَا اللَّهُ بِهِ مِنْ مَعَالِمِ الدِّينِ، وَأَنَّهَا دَارُ الْوَحْيِ وَمَهْبِطُ الْمَلَائِكَةِ بِالْهُدَى وَالرَّحْمَةِ، وَشَرَّفَ اللَّهُ بُقْعَتَهَا بِسُكْنَى رَسُولِهِ، وَجَعَلَ فِيهَا قَبْرَهُ وَمِنْبَرَهُ وَبَيْنَهُمَا رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ تَكَلَّمَ عَلَى أَحَادِيثِ الْبَابِ بِمَا تَقَدَّمَ نَقْلُهُ عَنْهُ، وَالْبَحْثُ فِيهِ بِمَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَتِهِ، وَحَذَفْتُ مَا بَعْدَ الْحَدِيثِ الْعَاشِرِ مِنْ كَلَامِهِ لِقِلَّةِ جَدْوَاهُ، وَقَدْ ظَهَرَ عِنْوَانُهُ فِيمَا ذَكَرْتُهُ عَنْهُ فِي الْأَحَادِيثِ الْعَشَرَةِ الْأُولَى وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، وَفَضْلُ الْمَدِينَةِ ثَابِتٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِقَامَةِ دَلِيلٍ خَاصٍّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي فَضْلِهَا فِي آخِرِ الْحَجِّ مَا فِيهِ شِفَاءٌ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ هُنَا تَقَدُّمُ أَهْلِهَا فِي الْعِلْمِ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ تَقْدِيمَهُمْ فِي بَعْضِ الْأَعْصَارِ، وَهُوَ الْعَصْرُ الَّذِي كَانَ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُقِيمًا بِهَا فِيهِ، وَالْعَصْرُ الَّذِي بَعْدَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَفَرَّقَ الصَّحَابَةُ فِي الْأَمْصَارِ، فَلَا شَكَّ فِي تَقْدِيمِ الْعَصْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَهُوَ الَّذِي يُسْتَفَادُ مِنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ وَغَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ اسْتِمْرَارُ ذَلِكَ لِجَمِيعِ مَنْ سَكَنَهَا فِي كُلِّ عَصْرٍ فَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى تَعْمِيمِ الْقَوْلِ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَعْصَارَ الْمُتَأَخِّرَةَ مِنْ بَعْدِ زَمَنِ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا

بِالْمَدِينَةِ مَنْ فَاقَ وَاحِدًا مِنْ غَيْرِهَا فِي الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ فَضْلًا عَنْ جَمِيعِهِمْ، بَلْ سَكَنَهَا مِنْ أَهْلِ الْبِدْعَةِ الشَّنْعَاءِ مَنْ لَا يُشَكُّ فِي سُوءِ نِيَّتِهِ وَخُبْثِ طَوِيَّتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌17 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}

7346 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ - وَرَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ، قَالَ -: اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، فِي الْأَخِيرَةِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}

قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ

ص: 312

بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ، وَتَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ شَرْحِهِ وَتَسْمِيَتِهِ الْمَدْعُوِّ عَلَيْهِمْ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: دُخُولُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ مِنْ جِهَةِ دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمَذْكُورِينَ، لِكَوْنِهِمْ لَمْ يُذْعِنُوا لِلْإِيمَانِ لِيَعْتَصِمُوا بِهِ مِنَ اللَّعْنَةِ، وَأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} انْتَهَى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْإِشَارَةَ إِلَى الْخِلَافِيَّةِ الْمَشْهُورَةِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَهِيَ: هَلْ كَانَ لَهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْأَحْكَامِ أَوْ لَا؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ ذَلِكَ قَبْلَ ثَمَانِيَةِ أَبْوَابٍ.

قَوْلُهُ: (عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَسَالِمٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حِبَّانَ بْنِ مُوسَى، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ فِي تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ: حَدَّثَنِي سَالِمٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَرَفَعَ رَأْسَهُ) الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، أَيْ: قَالَ ذَلِكَ حَالَ رَفْعِ رَأْسِهِ مِنَ الرُّكُوعِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ جَعَلَ ذَلِكَ الْقَوْلَ كَالْفِعْلِ اللَّازِمِ، أَيْ: يَفْعَلُ الْقَوْلَ الْمَذْكُورَ، أَوْ هُنَاكَ شَيْءٌ مَحْذُوفٌ. قُلْتُ: لَمْ يَذْكُرْ تَقْدِيرَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى قَائِلًا، أَوْ لَفْظُ قَالَ الْمَذْكُورُ زَائِدًا، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ حِبَّانَ بْنِ مُوسَى بِلَفْظِ: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ مَحَلَّ الْقُنُوتِ عِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنَ الرُّكُوعِ لَا قَبْلَ الرُّكُوعِ، وَقَوْلُهُ: قَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ مُعَيِّنٌ لِكَوْنِ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الِاعْتِدَالَ، وَقَوْلُهُ: فِي الْأَخِيرَةِ أَيِ: الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ وَهِيَ الثَّانِيَةُ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ حِبَّانَ بْنِ مُوسَى، وَظَنَّ الْكِرْمَانِيُّ أَنَّ قَوْلَهُ: فِي الْآخِرَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالْحَمْدِ، وَأَنَّهُ بَقِيَّةُ الذِّكْرِ الَّذِي قَالَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الِاعْتِدَالِ، فَقَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا وَجْهُ التَّخْصِيصِ بِالْآخِرَةِ مَعَ أَنَّ لَهُ الْحَمْدَ فِي الدُّنْيَا؟ ثُمَّ أَجَابَ بِأَنَّ نَعِيمَ الْآخِرَةِ أَشْرَفُ، فَالْحَمْدُ عَلَيْهِ هُوَ الْحَمْدُ حَقِيقَةً، أَوِ الْمُرَادُ بِالْآخِرَةِ الْعَاقِبَةُ، أَيْ: مَآلُ كُلِّ الْحُمُودِ إِلَيْهِ، انْتَهَى. وَلَيْسَ لَفْظُ: فِي الْآخِرَةِ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَلْ هُوَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عُمَرَ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي جَمْعِهِ الْحَمْدَ عَلَى حُمُودٍ.

قَوْلُهُ: (فُلَانًا وَفُلَانًا) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يَعْنِي رَعْلًا، وَذَكْوَانَ وَوَهَمَ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا سَمَّى نَاسًا بِأَعْيَانِهِمْ لَا الْقَبَائِلَ كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ.

‌18 - بَاب {وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}

7347 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ ح حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، أَخْبَرَنَا عَتَّابُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ إِسْحَاقَ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ، أَنَّ حُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ عليها السلام بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُمْ: أَلَا تُصَلُّونَ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ، فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا، فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالَ لَهُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ شَيْئًا، ثُمَّ سَمِعَهُ وَهُوَ مُدْبِرٌ يَضْرِبُ فَخِذَهُ، وَهُوَ يَقُولُ:{وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا} . قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: يُقَالُ: مَا أَتَاكَ لَيْلًا فَهُوَ طَارِقٌ، وَيُقَالُ: الطَّارِقُ: النَّجْمُ، وَالثَّاقِبُ: الْمُضِيءُ، يُقَالُ: أَثْقِبْ نَارَكَ لِلْمُوقِدِ.

ص: 313

7348 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: انْطَلِقُوا إِلَى يَهُودَ، فَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى جِئْنَا بَيْتَ الْمِدْرَاسِ، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَنَادَاهُمْ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا. فَقَالُوا: بَلَّغْتَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، قَالَ: فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ذَلِكَ أُرِيدُ، أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا، فَقَالُوا: قَدْ بَلَّغْتَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ذَلِكَ أُرِيدُ، ثُمَّ قَالَهَا الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْأَرْضُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَنِّي أُرِيدُ أَنْ أُجْلِيَكُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ، فَمَنْ وَجَدَ مِنْكُمْ بِمَالِهِ شَيْئًا فَلْيَبِعْهُ، وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّمَا الْأَرْضُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ {وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ: حَدِيثُ عَلِيٍّ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَلَا تُصَلُّونَ؟ وَجَوَابُهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ وَتِلَاوَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْآيَةَ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالرُّكْنِ الْأَوَّلِ مِنَ التَّرْجَمَةِ. وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي مُخَاطَبَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْيَهُودَ فِي بَيْتِ مِدْرَاسِهِمْ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالرُّكْنِ الثَّانِي مِنْهَا كَمَا سَأَذْكُرُهُ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْجِدَالُ: هُوَ الْخِصَامُ، وَمِنْهُ قَبِيحٌ وَحَسَنٌ وَأَحْسَنُ، فَمَا كَانَ لِلْفَرَائِضِ فَهُوَ أَحْسَنُ، وَمَا كَانَ لِلْمُسْتَحَبَّاتِ فَهُوَ حَسَنٌ، وَمَا كَانَ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ قَبِيحٌ، قَالَ: أَوْ هُوَ تَابِعٌ لِلطَّرِيقِ، فَبِاعْتِبَارِهِ يَتَنَوَّعُ أَنْوَاعًا وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، انْتَهَى.

وَيَلْزَمُ عَلَى الْأَوَّلِ أَنْ يَكُونَ فِي الْمُبَاحِ قَبِيحًا، وَفَاتَهُ تَنْوِيعُ الْقَبِيحِ إِلَى أَقْبَحَ، وَهُوَ مَا كَانَ فِي الْحَرَامِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ حَدِيثِ عَلِيٍّ فِي الدَّعَوَاتِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ عَلِيًّا تَرَكَ فِعْلَ الْأَوْلَى، وَإِنْ كَانَ مَا احْتَجَّ بِهِ مُتَّجَهًا، وَمِنْ ثَمَّ تَلَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْآيَةَ، وَلَمْ يُلْزِمْهُ مَعَ ذَلِكَ بِالْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ، وَلَوْ كَانَ امْتَثَلَ وَقَامَ لَكَانَ أَوْلَى، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ الْإِشَارَةُ إِلَى مَرَاتِبِ الْجِدَالِ، فَإِذَا كَانَ فِيمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ تَعَيَّنَ نَصْرُ الْحَقِّ بِالْحَقِّ، فَإِنْ جَاوَزَ الَّذِي يُنْكِرُ عَلَيْهِ الْمَأْمُورَ نُسِبَ إِلَى التَّقْصِيرِ، وَإِنْ كَانَ فِي مُبَاحٍ اكْتَفَى فِيهِ بِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ وَالْإِشَارَةِ إِلَى تَرْكِ الْأَوْلَى، وَفِيهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ طُبِعَ عَلَى الدِّفَاعِ عَنْ نَفْسِهِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُجَاهِدَ نَفْسَهُ أَنْ يَقْبَلَ النَّصِيحَةَ وَلَوْ كَانَتْ فِي غَيْرِ وَاجِبٍ. وَأَنْ لَا يَدْفَعَ إِلَّا بِطَرِيقٍ مُعْتَدِلَةٍ مِنْ غَيْرِ إِفْرَاطٍ وَلَا تَفْرِيطٍ، وَنَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الْمُهَلَّبِ مَا مُلَخَّصُهُ: أَنَّ عَلِيًّا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ مَا دَعَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِ مِنَ الصَّلَاةِ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ، بَلْ كَانَ عَلَيْهِ الِاعْتِصَامُ بِقَوْلِهِ، فَلَا حُجَّةَ لِأَحَدٍ فِي تَرْكِ الْمَأْمُورِ. انْتَهَى. وَمِنْ أَيْنَ لَهُ أَنَّ عَلِيًّا لَمْ يَمْتَثِلْ مَا دَعَاهُ إِلَيْهِ؟ فَلَيْسَ فِي الْقِصَّةِ تَصْرِيحٌ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَجَابَ عَلِيٌّ بِمَا ذَكَرَ اعْتِذَارًا عَنْ تَرْكِهِ الْقِيَامَ بِغَلَبَةِ النَّوْمِ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنَّهُ صَلَّى عَقِبَ هَذِهِ الْمُرَاجَعَةِ؛ إِذْ لَيْسَ فِي الْخَبَرِ مَا يَنْفِيهِ.

وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ حَرَّضَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِاعْتِبَارِ الْكَسْبِ وَالْقُدْرَةِ الْكَاسِبَةِ، وَأَجَابَ عَلِيٌّ بِاعْتِبَارِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، قَالَ: وَضَرَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَخِذَهُ تَعَجُّبًا مِنْ سُرْعَةِ جَوَابِ عَلِيٍّ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَسْلِيمًا لِمَا قَالَ.

وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ مَشْرُوعِيَّةُ التَّذْكِيرِ لِلْغَافِلِ خُصُوصًا الْقَرِيبُ وَالصَّاحِبُ؛ لِأَنَّ الْغَفْلَةَ مِنْ طَبْعِ الْبَشَرِ، فَيَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يَتَفَقَّدَ نَفْسَهُ وَمَنْ يُحِبُّهُ بِتَذْكِيرِ الْخَيْرِ وَالْعَوْنِ عَلَيْهِ، وَفِيهِ أَنَّ الِاعْتِرَاضَ بِأَثَرِ الْحِكْمَةِ لَا يُنَاسِبُهُ الْجَوَابُ بِأَثَرِ الْقُدْرَةِ، وَأَنَّ لِلْعَالِمِ إِذَا تَكَلَّمَ بِمُقْتَضَى الْحِكْمَةِ فِي أَمْرٍ غَيْرِ وَاجِبٍ، أَنْ يَكْتَفِيَ مِنَ الَّذِي كَلَّمَهُ فِي احْتِجَاجِهِ بِالْقُدْرَةِ، يُؤْخَذُ الْأَوَّلُ مِنْ ضَرْبِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى فَخِذِهِ، وَالثَّانِي مِنْ عَدَمِ إِنْكَارِهِ بِالْقَوْلِ صَرِيحًا.

قَالَ: وَإِنَّمَا لَمْ يُشَافِهْهُ بِقَوْلِهِ: {وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا} ؛ لِعِلْمِهِ أَنَّ عَلِيًّا

ص: 314

لَا يَجْهَلُ أَنَّ الْجَوَابَ بِالْقُدْرَةِ لَيْسَ مِنَ الْحِكْمَةِ، بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ لَهُمَا عُذْرًا يَمْنَعُهُمَا مِنَ الصَّلَاةِ فَاسْتَحْيَا عَلِيٌّ مِنْ ذِكْرِهِ، فَأَرَادَ دَفْعَ الْخَجَلِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ أَهْلِهِ فَاحْتَجَّ بِالْقُدْرَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ رُجُوعُهُ صلى الله عليه وسلم عَنْهُمْ مُسْرِعًا، قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلِيٌّ أَرَادَ بِمَا قَالَ اسْتِدْعَاءَ جَوَابٍ يَزْدَادُ بِهِ فَائِدَةً، وَفِيهِ جَوَازُ مُحَادَثَةِ الشَّخْصِ نَفْسَهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهِ، وَجَوَازُ ضَرْبِهِ بَعْضَ أَعْضَائِهِ عِنْدَ التَّعَجُّبِ وَكَذَا الْأَسَفُ، وَيُسْتَفَادُ مِنَ الْقِصَّةِ أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْعُبُودِيَّةِ أَنْ لَا يُطْلَبَ لَهَا مَعَ مُقْتَضَى الشَّرْعِ مَعْذِرَةٌ إِلَّا الِاعْتِرَافُ بِالتَّقْصِيرِ وَالْأَخْذُ فِي الِاسْتِغْفَارِ، وَفِيهِ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِعَلِيٍّ مِنْ جِهَةِ عِظَمِ تَوَاضُعِهِ؛ لِكَوْنِهِ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مَعَ مَا يُشْعِرُ بِهِ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْرِفُ مِقْدَارَهُ أَنَّهُ يُوجِبُ غَايَةَ الْعِتَابِ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ لِذَلِكَ بَلْ حَدَّثَ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ الدِّينِيَّةِ انْتَهَى مُلَخَّصًا.

وَقَوْلُهُ فِي السَّنَدِ الثَّانِي: حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ وَقَعَ عِنْدَ النَّسَفِيِّ غَيْرَ مَنْسُوبٍ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِ مَنْسُوبًا: مُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ وَعَتَّابٌ بِالْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ وَآخِرُهُ مُوَحَّدَةٌ، وَأَبُوهُ بَشِيرٌ بِمُوَحَّدَةٍ وَمُعْجَمَةٍ وَزْنُ عَظِيمٍ، وَإِسْحَاقُ عِنْدَ النَّسَفِيِّ، وَأَبِي ذَرٍّ غَيْرُ مَنْسُوبٍ، وَنُسِبَ عِنْدَ الْبَاقِينَ ابْنَ رَاشِدٍ وَسَاقَ الْمَتْنَ عَلَى لَفْظِهِ، وَمَضَى فِي التَّهَجُّدِ عَلَى لَفْظِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، وَيَأْتِي فِي التَّوْحِيدِ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبٍ، وَابْنِ أَبِي عَتِيقٍ مَجْمُوعًا، وَسَاقَهُ عَلَى لَفْظِ ابْنِ أَبِي عَتِيقٍ.

قَوْلُهُ: (طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ) زَادَ شُعَيْبٌ لَيْلَةً

قَوْلُهُ: (أَلَا تُصَلُّونَ) فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ: أَلَا تُصَلِّيَانِ بِالتَّثْنِيَةِ، وَالْأَوَّلُ مَحْمُولٌ عَلَى ضَمِّ مَنْ يَتْبَعُهُمَا إِلَيْهِمَا، أَوْ لِلتَّعْظِيمِ، أَوْ لِأَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ، وَقَوْلُهُ: حِينَ قَالَ لَهُ ذَلِكَ فِيهِ الْتِفَاتٌ، وَمَضَى فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ بِلَفْظِ: حِينَ قُلْتُ لَهُ وَكَذَا قَوْلُهُ: سَمِعَهُ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ: سَمِعْتُهُ وَقَوْلُهُ: وَهُوَ مُدْبِرٌ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، أَيْ: مُوَلٍّ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ، كَمَا فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، وَوَقَعَ هُنَا عِنْدَ الْكُشْمِيهَنِيِّ: وَهُوَ مُنْصَرِفٌ.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ الْمُصَنِّفُ (يُقَالُ: مَا أَتَاكَ لَيْلًا فَهُوَ طَارِقٌ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَقَطَ لِلنَّسَفِيِّ، وَثَبَتَ لِلْبَاقِينَ لَكِنْ بِدُونِ: يُقَالُ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الطَّارِقِ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: (عَنْ سَعِيدٍ) هُوَ ابْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ.

قَوْلُهُ: (بَيْتَ الْمِدْرَاسِ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْإِكْرَاهِ قَرِيبًا، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: ذَلِكَ أُرِيدُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ بِصِيغَةِ الْمُضَارَعَةِ مِنَ الْإِرَادَةِ، أَيْ: أُرِيدُ أَنْ تُقِرُّوا بِأَنِّي بَلَّغْتُ؛ لِأَنَّ التَّبْلِيغَ هُوَ الَّذِي أُمِرَ بِهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ فِيمَا ذَكَرَهُ الْقَابِسِيُّ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَبِزَايٍ مُعْجَمَةٍ، وَأَطْبَقُوا عَلَى أَنَّهُ تَصْحِيفٌ، لَكِنْ وَجَّهَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ مَعْنَاهُ أُكَرِّرُ مَقَالَتِي مُبَالَغَةً فِي التَّبْلِيغِ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: بَعْدَ أَنْ قَرَّرَ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالرُّكْنِ الثَّانِي مِنَ التَّرْجَمَةِ وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ بَلَّغَ الْيَهُودَ وَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَالِاعْتِصَامِ بِهِ، فَقَالُوا: بَلَّغْتَ، وَلَمْ يُذْعِنُوا لِطَاعَتِهِ، فَبَالَغَ فِي تَبْلِيغِهِمْ وَكَرَّرَهُ، وَهَذِهِ مُجَادَلَةٌ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ مُجَاهِدٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ مِنْهُمْ وَلَهُ عَهْدٌ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: الْمُرَادُ: مِمَّنْ ظَلَمَ مِنْهُمْ مَنِ اسْتَمَرَّ عَلَى أَمْرِهِ، وَعَنْ قَتَادَةَ هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، انْتَهَى.

وَالَّذِي أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: إِنْ قَالُوا شَرًّا فَقُولُوا خَيْرًا، إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَانْتَصِرُوا مِنْهُمْ وَبِسَنَدٍ فِيهِ ضَعْفٌ قَالَ: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ مَنْ قَاتَلَ وَلَمْ يُعْطِ الْجِزْيَةَ وَأَخْرَجَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْحَرْبِ، مَنْ لَا عَهْدَ لَهُ جَادِلْهُ بِالسَّيْفِ، وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ الْمُرَادُ: مَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ نَهَى عَنْ مُجَادَلَتِهِمْ فِيمَا يُحَدِّثُونَ بِهِ مِنَ الْكِتَابِ، لَعَلَّهُ يَكُونُ حَقًّا لَا تَعْلَمُهُ أَنْتَ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُجَادِلَ إِلَّا الْمُقِيمَ مِنْهُمْ عَلَى دِينِهِ، وَبِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ قَتَادَةَ هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ بَرَاءَةٌ، أَنْ يُقَاتَلُوا حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَوْ يُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ، وَرَجَّحَ الطَّبَرِيُّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مَنِ امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ، قَالَ: وَمَنْ

ص: 315

أَدَّاهَا وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا لِنَفْسِهِ بِاسْتِمْرَارِهِ عَلَى كُفْرِهِ، لَكِنَّ الْمُرَادَ فِي هَذَا الْآيَةُ: مَنْ ظَلَمَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ فَحَارَبَهُمْ وَامْتَنَعَ مِنَ الْإِسْلَامِ أَوْ بَذَلَ الْجِزْيَةَ وَرَدَّ عَلَى مَنِ ادَّعَى النَّسْخَ؛ لِكَوْنِهِ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَحَاصِلُ مَا رَجَّحَهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِمُجَادَلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالْبَيَانِ وَالْحُجَّةِ بِطَرِيقِ الْإِنْصَافِ مِمَّنْ عَانَدَ مِنْهُمْ، فَمَفْهُومُ الْآيَةِ: جَوَازُ مُجَادَلَتِهِ بِغَيْرِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَهِيَ الْمُجَادَلَةُ بِالسَّيْفِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌19 - بَاب {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} وَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ، وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ

7349 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يُجَاءُ بِنُوحٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ يَا رَبِّ، فَتُسْأَلُ أُمَّتُهُ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا جَاءَنَا مِنْ نَذِيرٍ. فَيَقُولُ: مَنْ شُهُودُكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ، فَيُجَاءُ بِكُمْ فَتَشْهَدُونَ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} قَالَ: عَدْلًا؛ {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} . وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} وَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ) أَمَّا الْآيَةُ فَلَمْ يَقَعِ التَّصْرِيحُ بِمَا وَقَعَ التَّشْبِيهُ بِهِ، وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ الْهُدَى الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ:{يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} أَيْ: مِثْلَ الْجُعْلِ الْقَرِيبِ الَّذِي اخْتَصَصْنَاكُمْ فِيهِ بِالْهِدَايَةِ، كَمَا يَقْتَضِيهِ سِيَاقُ الْآيَةِ وَوَقَعَ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ الْمَاضِي فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَالْوَسَطُ الْعَدْلُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَحَاصِلُ مَا فِي الْآيَةِ الِامْتِنَانُ بِالْهِدَايَةِ وَالْعَدَالَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَمَا أَمَرَ إِلَى آخِرِهِ فَمُطَابَقَتُهُ لِحَدِيثِ الْبَابِ خَفِيَّةٌ، وَكَأَنَّهُ مِنْ جِهَةِ الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ وَهِيَ الْعَدَالَةُ لَمَّا كَانَتْ تَعُمُّ الْجَمِيعَ لِظَاهِرِ الْخِطَابِ، أَشَارَ إِلَى أَنَّهَا مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ، أَوْ مِنَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْجَهْلِ لَيْسُوا عُدُولًا وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْبِدَعِ، فَعُرِفَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَصْفِ الْمَذْكُورِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ وَمَنْ سِوَاهُمْ، وَلَوْ نُسِبَ إِلَى الْعِلْمِ فَهِيَ نِسْبَةٌ صُورِيَّةٌ لَا حَقِيقِيَّةٌ، وَوَرَدَ الْأَمْرُ بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مُصَحَّحًا مِنْ حَدِيثِ الْحَارِثِ بْنِ الْحَارِثِ الْأَشْعَرِيِّ فَذَكَرَ حَدِيثًا طَوِيلًا وَفِيهِ وَأَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ أَمَرَنِي اللَّهُ بِهِنَّ: السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ وَالْجِهادُ وَالْهِجْرَةُ وَالْجَمَاعَةُ؛ فَإِنَّ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ، وَفِي خُطْبَةِ عُمَرَ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي خَطَبَهَا بِالْجَابِيَةِ: عَلَيْكُمْ

بِالْجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ وَفِيهِ: وَمَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: مُرَادُ الْبَابِ الْحَضُّ عَلَى الِاعْتِصَامِ بِالْجَمَاعَةِ، لِقَوْلِهِ:{لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} وَشَرْطُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ الْعَدَالَةُ، وَقَدْ ثَبَتَتْ لَهُمْ هَذِهِ الصِّفَةُ بِقَوْلِهِ: وَسَطًا وَالْوَسَطُ: الْعَدْلُ، وَالْمُرَادُ بِالْجَمَاعَةِ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنْ كُلِّ عَصْرٍ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: مُقْتَضَى الْأَمْرِ بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْمُكَلَّفُ مُتَابَعَةَ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُجْتَهِدُونَ، وَهُمُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْآيَةُ الَّتِي تَرْجَمَ بِهَا احْتَجَّ

ص: 316

بِهَا أَهْلُ الْأُصُولِ؛ لِكَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةٌ؛ لِأَنَّهُمْ عُدِّلُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} أَيْ: عُدُولًا ; وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ عُصِمُوا مِنَ الْخَطَأِ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ قَوْلًا وَفِعْلًا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ) قَالَ الْأَعْمَشُ: هُوَ بِحَذْفِ قَالَ الثَّانِيَةِ، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَبُو أُسَامَةَ وَالْقَائِلُ هُوَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، فَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ بِصِيغَةِ التَّحْدِيثِ، وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ بِالْعَنْعَنَةِ، وَهَذَا مُقْتَضَى صَنِيعِ صَاحِبِ الْأَطْرَافِ، وَأَمَّا أَبُو نُعَيْمٍ فَجَزَمَ بِأَنَّ رِوَايَةَ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ مُعَلَّقَةٌ، فَقَالَ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَسْعُودٍ الرَّاوِي عَنْ أَبِي أُسَامَةَ وَحْدَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ بُنْدَارٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ وَحْدَهُ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ، وَذَكَرَهُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ بِلَا وَاسِطَةٍ انْتَهَى. وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ بُنْدَارٍ وَقَالَ: إِنَّهُ مُخْتَصَرٌ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ مُطَوَّلًا، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ رِوَايَةُ أَبِي أُسَامَةَ مَقْرُونَةً بِرِوَايَةِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَسَاقَهُ هُنَاكَ عَلَى لَفْظِ جَرِيرٍ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ هُنَاكَ، وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَخُصُّ قَوْمَ نُوحٍ بَلْ تَعُمُّ الْأُمَمَ.

‌20 - بَاب إِذَا اجْتَهَدَ الْعَامِلُ أَوْ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ خِلَافَ الرَّسُولِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ فَحُكْمُهُ مَرْدُودٌ

؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ

7350، 7351 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَخِيهِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ،: أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، وَأَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَاهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَخَا بَنِي عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيَّ، وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى خَيْبَرَ، فَقَدِمَ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ كَذَا؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَنَشْتَرِي الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ مِنْ الْجَمْعِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَفْعَلُوا، وَلَكِنْ مِثْلًا بِمِثْلٍ، أَوْ بِيعُوا هَذَا وَاشْتَرُوا بِثَمَنِهِ مِنْ هَذَا، وَكَذَلِكَ الْمِيزَانُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا اجْتَهَدَ الْعَامِلُ أَوِ الْحَاكِمُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: الْعَالِمُ بَدَلَ الْعَامِلِ، وَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ تَرْجَمَةُ إِذَا قَضَى الْحَاكِمُ بِجَوْرٍ أَوْ خِلَافَ أَهْلِ الْعِلْمِ فَهُوَ مَرْدُودٌ، وَهِيَ مَعْقُودَةٌ لِمُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ، وَهَذِهِ مَعْقُودَةٌ لِمُخَالَفَةِ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام.

قَوْلُهُ: (فَأَخْطَأَ خِلَافَ الرَّسُولِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ) أَيْ: لَمْ يَتَعَمَّدِ الْمُخَالَفَةَ، وَإِنَّمَا خَالَفَ خَطَأً.

قَوْلُهُ: (فَحُكْمُهُ مَرْدُودٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ) أَيْ: مَرْدُودٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ مَوْصُولًا فِي كِتَابِ الصُّلْحِ عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظٍ آخَرَ، وَأَنَّهُ بِهَذَا اللَّفْظِ مَوْصُولٌ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ هُنَاكَ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: مُرَادُهُ أَنَّ مَنْ حَكَمَ بِغَيْرِ السُّنَّةِ جَهْلًا أَوْ غَلَطًا يَجِبُ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ إِلَى حُكْمِ السُّنَّةِ، وَتَرْكُ مَا خَالَفَهَا امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِإِيجَابِ طَاعَةِ رَسُولِهِ، وَهَذَا هُوَ نَفْسُ الِاعْتِصَامِ بِالسُّنَّةِ: وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْمُرَادُ بِالْعَامِلِ: عَامِلُ الزَّكَاةِ، وَبِالْحَاكِمِ: الْقَاضِي، وَقَوْلُهُ: فَأَخْطَأَ أَيْ فِي أَخْذِ وَاجِبِ الزَّكَاةِ أَوْ فِي قَضَائِهِ. قُلْتُ: وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِ رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَالْمُرَادُ بِالْعَالِمِ: الْمُفْتِي، أَيْ: أَخْطَأَ فِي فَتْوَاهُ، قَالَ: وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَأَخْطَأَ خِلَافَ الرَّسُولِ أَيْ: يَكُونُ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ، قَالَ: وَفِي التَّرْجَمَةِ نَوْعُ تَعَجْرُفٍ.

ص: 317

قُلْتُ: لَيْسَ فِيهَا قَلَقٌ إِلَّا فِي اللَّفْظِ الَّذِي بَعْدَ قَوْلِهِ: فَأَخْطَأَ فَصَارَ ظَاهِرُ التَّرْكِيبِ يُنَافِي الْمَقْصُودَ؛ لِأَنَّ مَنْ أَخْطَأَ خِلَافَ الرَّسُولِ لَا يُذَمُّ، بِخِلَافِ مَنْ أَخْطَأَ وِفَاقَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ الْمُرَادُ وَإِنَّمَا ثَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَأَخْطَأَ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: اجْتَهَدَ، وَقَوْلُهُ: خِلَافَ الرَّسُولِ أَيْ فَقَالَ: خِلَافَ الرَّسُولِ، وَحَذْفُ قَالَ يَقَعُ فِي الْكَلَامِ كَثِيرًا، فَأَيُّ عَجْرَفَةٍ فِي هَذَا؟! وَالشَّارِحُ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُوَجِّهَ كَلَامَ الْأَصْلِ مَهْمَا أَمْكَنَ، وَيَغْتِفَرَ الْقَدْرَ الْيَسِيرَ مِنَ الْخَلَلِ تَارَةً وَيَحْمِلَهُ عَلَى النَّاسِخِ تَارَةً وَكُلُّ ذَلِكَ فِي مُقَابَلَةِ الْإِحْسَانِ الْكَثِيرِ الْبَاهِرِ وَلَا سِيَّمَا مِثْلُ هَذَا الْكِتَابِ، وَوَقَعَ فِي حَاشِيَةِ نُسْخَةِ الدِّمْيَاطِيِّ بِخَطِّهِ الصَّوَابُ فِي التَّرْجَمَةِ فَأَخْطَأَ بِخِلَافِ الرَّسُولِ انْتَهَى. وَلَيْسَ دَعْوَى حَذْفِ الْبَاءِ بِرَافِعٍ لِلْإِشْكَالِ بَلْ إِنْ سَلَكَ طَرِيقَ التَّغْيِيرِ فَلَعَلَّ اللَّامَ مُتَأَخِّرَةٌ، وَيَكُونُ فِي الْأَصْلِ خَالَفَ بَدَلَ خِلَافٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْمِزِّيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَخِيهِ) هُوَ أَبُو بَكْرٍ وَاسْمُهُ عَبْدُ الْحَمِيدِ، وَلِإِسْمَاعِيلَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ شَيْخٌ آخَرُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي آخَرِ غَزْوَةِ خَيْبَرَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ مَالِكٍ، وَنَزَلَ إِسْمَاعِيلُ فِي هَذَا السَّنَدِ دَرَجَةً، وَسليمان هُوَ ابْنُ بِلَالٍ وَعَبْدُ الْمَجِيدِ بِتَقْدِيمِ الْمِيمِ عَلَى الْجِيمِ، وَذَكَرَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ أَنَّ سُلَيْمَانَ سَقَطَ مِنْ أَصْلِ الْفَرَبْرِيِّ فِيمَا ذَكَرَ أَبُو زَيْدٍ الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ: وَالصَّوَابُ إِثْبَاتُهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَتَّصِلُ السَّنَدُ إِلَّا بِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَعْقِلٍ النَّسَفِيِّ، قَالَ: وَكَذَا لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ ابْنِ السَّكَنِ، وَلَا عِنْدَ أَبِي أَحْمَدَ الْجُرْجَانِيِّ، قُلْتُ: وَهُوَ ثَابِتٌ عِنْدَنَا فِي النُّسْخَةِ الْمُعْتَمَدَةِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ عَنْ شُيُوخِهِ الثَّلَاثَةِ عَنِ الْفَرَبْرِيِّ، وَكَذَا فِي سَائِرِ النُّسَخِ الَّتِي اتَّصَلَتْ لَنَا عَنِ الْفَرَبْرِيِّ، فَكَأَنَّهَا سَقَطَتْ مِنْ نُسْخَةِ أَبِي زَيْدٍ، فَظَنَّ سُقُوطَهَا مِنْ أَصْلِ شَيْخِهِ، وَقَدْ جَزَمَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ بِأَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَهُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَخِيهِ عَنْ سُلَيْمَانَ، وَهُوَ يَرْوِيهِ عَنْ أَبِي أَحْمَدَ الْجُرْجَانِيِّ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ. وَأَمَّا رِوَايَةُ ابْنِ السَّكَنِ فَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهَا.

قَوْلُهُ: (بَعَثَ أَخَا بَنِي عَدِيٍّ) أَيِ: ابْنِ النَّجَّارِ بَطْنٌ مِنَ الْأَوْسِ، وَاسْمُ هَذَا الْمَبْعُوثِ سَوَادٌ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ ابْنُ غَزِيَّةَ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الزَّايِ مُشَدَّدًا، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ الْبُيُوعِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْمَتْنِ فِي الْمَغَازِي، وَفِي هَذَا السِّيَاقِ هُنَا زِيَادَةُ قَوْلِهِ: وَلَكِنْ مِثْلًا بِمِثْلٍ أَوْ بِيعُوا هَذَا إِلَى آخِرِهِ، وَالْمَذْكُورُ هُنَاكَ قَوْلُهُ: وَلَكِنْ بِعْ إِلَى آخِرِهِ، وَمُطَابَقَةُ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الصَّحَابِيَّ اجْتَهَدَ فِيمَا فَعَلَ فَرَدَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَنَهَاهُ عَمَّا فَعَلَ وَعَذَرَهُ لِاجْتِهَادِهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُقْبَةَ بْنِ عَبْدِ الْغَافِرِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ لَكِنْ فِي نَظِيرِ الْحُكْمِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: أَوَّهْ، عَيْنَ الرِّبَا لَا تَفْعَلْ.

‌21 - بَاب أَجْرِ الْحَاكِمِ إِذَا اجْتَهَدَ فَأَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ

7352 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنَا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي قَيْسٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ.

قَالَ: فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فَقَالَ: هَكَذَا حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُطَّلِبِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ أَجْرِ الْحَاكِمِ إِذَا اجْتَهَدَ فَأَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ) يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ رَدِّ حُكْمِهِ أَوْ فَتْوَاهُ إِذَا اجْتَهَدَ

ص: 318

فَأَخْطَأَ أَنْ يَأْثَم بِذَلِكَ، بَلْ إِذَا بَذَلَ وُسْعَهُ أُجِرَ، فَإِنْ أَصَابَ ضُوعِفَ أَجْرُهُ، لَكِنْ لَوْ أَقْدَمَ فَحَكَمَ أَوْ أَفْتَى بِغَيْرِ عِلْمٍ لَحِقَهُ الْإِثْمُ، كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ، قَالَ ابْن الْمُنْذِر: وَإِنَّمَا يُؤْجَرُ الْحَاكِمُ إِذَا أَخْطَأَ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالِاجْتِهَادِ فَاجْتَهَدَ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا فَلَا، وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ - وَفِيهِ - وَقَاضٍ قَضَى بِغَيْرِ حَقٍّ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ قَضَى وَهُوَ لَا يَعْلَمُ فَهُوَ فِي النَّارِ وَهُوَ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ عَنْ بُرَيْدَةَ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَقَدْ جَمَعْتُ طُرُقَهُ فِي جُزْءٍ مُفْرَدٍ، وَيُؤَيِّدُ حَدِيثَ الْبَابِ مَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ سُلَيْمَانَ فِي حُكْمِ دَاوُدَ عليه السلام فِي أَصْحَابِ الْحَرْثِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا فِيمَا مَضَى قَرِيبًا، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ: إِنَّمَا يُؤْجَرُ الْمُجْتَهِدُ إِذَا كَانَ جَامِعًا لِآلَةِ الِاجْتِهَادِ، فَهُوَ الَّذِي نَعْذِرُهُ بِالْخَطَأِ، بِخِلَافِ الْمُتَكَلِّفِ فَيُخَافُ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّمَا يُؤْجَرُ الْعَالِمُ؛ لِأَنَّ اجْتِهَادَهُ فِي طَلَبِ الْحَقِّ عِبَادَةٌ، هَذَا إِذَا أَصَابَ، وَأَمَّا إِذَا أَخْطَأَ فَلَا يُؤْجَرُ عَلَى الْخَطَأ بَلْ يُوضَعُ عَنْهُ الْإِثْمُ فَقَطْ كَذَا قَالَ، وَكَأَنَّهُ يَرَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ مَجَازٌ عَنْ وَضْعِ الْإِثْمِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمِ بْنِ الْحَارِثِ) هُوَ التَّيْمِيُّ تَابِعِيٌّ مَدَنِيٌّ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ وَلِأَبِيهِ صُحْبَةٌ، وَبُسْر بِضَمِّ الْمُوَحَّدَة وَسُكُون الْمُهْمَلَةِ، وَأَبُو قَيْس مَوْلَى عَمْرو بْن الْعَاصِ لَا يُعْرَف اسْمه، كَذَا قَالَهُ الْبُخَارِيُّ وَتَبِعَهُ الْحَاكِمُ أَبُو أَحْمَد، وَجَزَمَ ابْن يُونُس فِي تَارِيخ مِصْر بِأَنَّهُ عَبْد الرَّحْمَن بْن ثَابِت وَهُوَ أُعْرَف بِالْمِصْرِيِّينَ مِنْ غَيْره، وَنَقَلَ عَنْ مُحَمَّد بْن سَحْنُون أَنَّهُ سَمَّى أَبَاهُ الْحَكَم وَخَطَّأَهُ فِي ذَلِكَ، وَحَكَى الدِّمْيَاطِيُّ أَنَّ اسْمَهُ سَعْد وَعَزَاهُ لِمُسْلِمٍ فِي الْكُنَى، وَقَدْ رَاجَعْت نُسَخًا مِنْ الْكُنَى لِمُسْلِمٍ فَلَمْ أَرَ ذَلِكَ فِيهَا، مِنْهَا نُسْخَة بِخَطِّ الدَّارَقُطْنِيِّ الْحَافِظ، وَقَرَأْت بِخَطِّ الْمُنْذِرِيِّ: وَقَعَ عِنْد السَّبْتِيّ يَعْنِي ابْن حِبَّان فِي صَحِيحه: عَنْ أَبِي قَابُوس بَدَل أَبِي قَيْس، كَذَا جَزَمَ بِهِ وَقَدْ رَاجَعْت عِدَّة نُسَخ مِنْ صَحِيح ابْن حِبَّان فَوَجَدْت فِيهَا: عَنْ أَبِي قَيْس إِحْدَاهَا صَحَّحَهَا ابْن عَسَاكِر، وَفِي السَّنَد أَرْبَعَة مِنْ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ، أَوَّلهمْ يَزِيد بْن عَبْد اللَّه وَهُوَ الْمَعْرُوف بِابْنِ الْهَادِ، وَمَا لِأَبِي قَيْس فِي الْبُخَارِيّ إِلَّا هَذَا الْحَدِيث.

قَوْلُهُ: (إِذَا حَكَمَ الْحَاكِم فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ) فِي رِوَايَة أَحْمَد: فَأَصَابَ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَكَذَا وَقَعَ فِي الْحَدِيث، بَدَأَ بِالْحُكْمِ قَبْل الِاجْتِهَاد، وَالْأَمْر بِالْعَكْسِ؛ فَإِنَّ الِاجْتِهَاد يَتَقَدَّم الْحُكْم إِذْ لَا يَجُوز الْحُكْم قَبْل الِاجْتِهَاد اتِّفَاقًا، لَكِنَّ التَّقْدِير فِي قَوْلِهِ: إِذَا حَكَمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَحْكُم فَعِنْد ذَلِكَ يَجْتَهِد، قَالَ: وَيُؤَيِّدهُ أَنَّ أَهْل الْأُصُول قَالُوا: يَجِب عَلَى الْمُجْتَهِد أَنْ يُجَدِّد النَّظَر عِنْد وُقُوع النَّازِلَة، وَلَا يَعْتَمِد عَلَى مَا تَقَدَّمَ لَهُ؛ لِإِمْكَانِ أَنْ يَظْهَر لَهُ خِلَاف غَيْره، انْتَهَى. وَيَحْتَمِل أَنْ تَكُون الْفَاء تَفْسِيرِيَّة لَا تَعْقِيبِيَّة، وَقَوْلُهُ: فَأَصَابَ أَيْ: صَادَفَ مَا فِي نَفْس الْأَمْر مِنْ حُكْم اللَّه تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ أَخْطَأَ) أَيْ: ظَنَّ أَنَّ الْحَقَّ فِي جِهَةٍ، فَصَادَفَ أَنَّ الَّذِي فِي نَفْس الْأَمْر بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَالْأَوَّل لَهُ أَجْرَانِ: أَجْر الِاجْتِهَاد وَأَجْر الْإِصَابَة. وَالْآخَر لَهُ أَجْر الِاجْتِهَاد فَقَطْ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَة إِلَى وُقُوع الْخَطَأ فِي الِاجْتِهَاد فِي حَدِيث أُمِّ سَلَمَة: إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضكُمْ أَنْ يَكُون أَلْحَن بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ وَأَخْرَجَ لِحَدِيثِ الْبَاب سَبَبًا مِنْ وَجْهٍ آخَر عَنْ عَمْرو بْن الْعَاصِ مِنْ طَرِيق وَلَده عَبْد اللَّه بْن عَمْرو عَنْهُ، قَالَ: جَاءَ رَجُلَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَخْتَصِمَانِ، فَقَالَ لِعَمْرو: اقْضِ بَيْنهمَا يَا عَمْرو، قَالَ: أَنْتَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنِّي يَا رَسُول اللَّه، قَالَ: وَإِنْ كَانَ، قَالَ فَإِذَا قَضَيْت بَيْنهمَا فَمَا لِي؟ فَذَكَرَ نَحْوه، لَكِنْ قَالَ فِي الْإِصَابَة: فَلَك عَشْرُ حَسَنَات، وَأَخْرَجَ مِنْ حَدِيث عُقْبَة بْن عَامِر نَحْوه بِغَيْرِ قِصَّة بِلَفْظِ: فَلَك عَشَرَة أُجُور، وَفِي سَنَد كُلّ مِنْهُمَا ضَعْف، وَلَمْ أَقِف عَلَى اسْم مِنْ أُبْهِم فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ: فَحَدَّثْت بِهَذَا الْحَدِيث أَبَا بَكْر بْن عَمْرو بْن حَزْم) الْقَائِل فَحَدَّثْت هُوَ يَزِيد بْن عَبْد اللَّه أَحَد رُوَاته، وَأَبُو بَكْر بْن عَمْرو نُسِبَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَة لِجَدِّهِ، وَهُوَ أَبُو بَكْر بْن مُحَمَّد بْن عَمْرو بْن حَزْم، وَثَبَتَ ذِكْره فِي رِوَايَة مُسْلِم مِنْ رِوَايَة الدَّاوُدِيّ

ص: 319

عَنْ يَزِيد، وَنَسَبَهُ فَقَالَ: يَزِيد بْن عَبْد اللَّه بْن أُسَامَة بْن الْهَادِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَة) يُرِيدُ بِمِثْلِ حَدِيث عَمْرو بْن الْعَاصِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَبْد الْعَزِيز بْن الْمُطَّلِب) أَيْ: ابْن عَبْد اللَّه بْن حَنْطَب الْمَخْزُومِيّ قَاضِي الْمَدِينَة، وَكُنْيَته أَبُو طَالِب، وَهُوَ مِنْ أَقْرَان مَالِك، وَمَاتَ قَبْله، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِع الْوَاحِد الْمُعَلَّق، وَعَبْد اللَّه بْن أَبِي بَكْر هُوَ وَالِد الرَّاوِي الْمَذْكُور فِي السَّنَد الَّذِي قَبْله أَبُو بَكْر بْن مُحَمَّد بْن عَمْرو بْن حَزْم، وَكَانَ قَاضِي الْمَدِينَة أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي سَلَمَة عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يُرِيد أَنَّ عَبْد اللَّه بْن أَبِي بَكْر خَالَفَ أَبَاهُ فِي رِوَايَته عَنْ أَبِي سَلَمَة، وَأَرْسَلَ الْحَدِيث الَّذِي وَصَلَهُ، وَقَدْ وَجَدْت لِيَزِيدَ بْن الْهَادِ فِيهِ مُتَابِعًا أَخْرَجَهُ عَبْد الرَّزَّاق وَأَبُو عَوَانَة مِنْ طَرِيقه عَنْ مَعْمَر عَنْ يَحْيَى بْن سَعِيد هُوَ الْأَنْصَارِيّ عَنْ أَبِي بَكْر بْن مُحَمَّد عَنْ أَبِي سَلَمَة عَنْ أَبِي هُرَيْرَة، فَذَكَرَ الْحَدِيث مِثْله بِغَيْرِ قِصَّة، وَفِيهِ: فَلَهُ أَجْرَانِ اثْنَانِ قَالَ أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ: تَعَلَّقَ بِهَذَا الْحَدِيث مَنْ قَالَ: إِنَّ الْحَقّ فِي جِهَة وَاحِدَة لِلتَّصْرِيحِ بِتَخْطِئَةِ وَاحِد لَا بِعَيْنِهِ، قَالَ: وَهِيَ نَازِلَة فِي الْخِلَاف عَظِيمَة، وَقَالَ الْمَازِرِيّ: تَمَسَّكَ بِهِ كُلّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْحَقّ فِي طَرَفَيْنِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ كُلّ مُجْتَهِد مُصِيب، أَمَّا الْأُولَى فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كُلٌّ مُصِيبًا لَمْ يُطْلِق عَلَى أَحَدهمَا الْخَطَأ؛ لِاسْتِحَالَةِ النَّقِيضَيْنِ فِي حَالَة وَاحِدَة؛ وَأَمَّا الْمُصَوِّبَة فَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ لَهُ أَجْرًا فَلَوْ كَانَ لَمْ يُصِبْ لَمْ يُؤْجَر، وَأَجَابُوا عَنْ إِطْلَاق الْخَطَأ فِي الْخَبَر عَلَى مَنْ ذَهَلَ عَنْ النَّصّ أَوْ اجْتَهَدَ فِيمَا لَا يَسُوغ الِاجْتِهَاد فِيهِ مِنْ الْقَطْعِيَّات فِيمَا خَالَفَ الْإِجْمَاع؛ فَإِنَّ مِثْل هَذَا إِنْ اتُّفِقَ لَهُ الْخَطَأ فِيهِ نَسَخَ حُكْمه وَفَتْوَاهُ، وَلَوْ اجْتَهَدَ بِالْإِجْمَاعِ، وَهُوَ الَّذِي يَصِحّ عَلَيْهِ إِطْلَاق الْخَطَأ، وَأَمَّا مَنْ اجْتَهَدَ فِي قَضِيَّة لَيْسَ فِيهَا نَصّ وَلَا إِجْمَاع فَلَا يُطْلَق عَلَيْهِ الْخَطَأ، وَأَطَالَ الْمَازِرِيّ فِي تَقْرِير ذَلِكَ وَالِانْتِصَار لَهُ، وَخَتَمَ كَلَامه بِأَنْ قَالَ: إِنَّ مَنْ قَالَ إِنَّ الْحَقّ فِي طَرَفَيْنِ هُوَ قَوْل أَكْثَر أَهْل التَّحْقِيق مِنْ

الْفُقَهَاء وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَهُوَ مَرْوِيّ عَنْ الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَإِنْ حكي عَنْ كُلّ مِنْهُمْ اخْتِلَاف فِيهِ. قُلْت: وَالْمَعْرُوف عَنْ الشَّافِعِيّ الْأَوَّل، قَالَ الْقُرْطُبِيّ فِي الْمُفْهِم: الْحُكْم الْمَذْكُور يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَصّ بِالْحَاكِمِ بَيْن الْخَصْمَيْنِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ حَقًّا مُعَيَّنًا فِي نَفْس الْأَمْر يَتَنَازَعهُ الْخَصْمَانِ، فَإِذَا قَضَى بِهِ لِأَحَدِهِمَا بَطَلَ حَقُّ الْآخِر قَطْعًا، وَأَحَدهمَا فِيهِ مُبْطِل لَا مَحَالَة، وَالْحَاكِم لَا يَطَّلِع عَلَى ذَلِكَ فَهَذِهِ الصُّورَة لَا يَخْتَلِف فِيهَا أَنَّ الْمُصِيب وَاحِدٌ لِكَوْنِ الْحَقّ فِي طَرَف وَاحِد، وَيَنْبَغِي أَنْ يَخْتَصّ الْخِلَاف بِأَنَّ الْمُصِيب وَاحِد، إِذْ كُلُّ مُجْتَهِد مُصِيبٌ بِالْمَسَائِلِ الَّتِي يُسْتَخْرَج الْحَقّ مِنْهَا بِطَرِيقِ الدَّلَالَة، وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: عِنْدِي فِي هَذَا الْحَدِيث فَائِدَة زَائِدَة حَامُوا عَلَيْهَا فَلَمْ يُسْقَوْا، وَهِيَ: أَنَّ الْأَجْر عَلَى الْعَمَل الْقَاصِر عَلَى الْعَامِل وَاحِد، وَالْأَجْر عَلَى الْعَمَل الْمُتَعَدِّي يُضَاعَف، فَإِنَّهُ يُؤْجَر فِي نَفْسه وَيَنْجَرُّ لَهُ كُلُّ مَا يَتَعَلَّق بِغَيْرِهِ مِنْ جِنْسه فَإِذَا قَضَى بِالْحَقِّ وَأَعْطَاهُ لِمُسْتَحِقِّهِ ثَبَتَ لَهُ أَجْر اجْتِهَاده وَجَرَى لَهُ مِثْل أَجْر مُسْتَحِقّ الْحَقّ، فَلَوْ كَانَ أَحَد الْخَصْمَيْنِ أَلْحَن بِحُجَّتِهِ مِنْ الْآخَر فَقَضَى لَهُ - وَالْحَقّ فِي نَفْس الْأَمْر لِغَيْرِهِ - كَانَ لَهُ أَجْر الِاجْتِهَاد فَقَطْ. قُلْت: وَتَمَامه أَنْ يُقَال: وَلَا يُؤَاخَذ بِإِعْطَاءِ الْحَقّ لِغَيْرِ مُسْتَحِقّه لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَمَّد ذَلِكَ بَلْ وِزْر الْمَحْكُوم لَهُ قَاصِر عَلَيْهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحَلّ ذَلِكَ أَنْ يَبْذُل وُسْعه فِي الِاجْتِهَاد وَهُوَ مِنْ أَهْله، وَإِلَّا فَقَدْ يَلْحَق بِهِ الْوِزْر إِنْ أَخَلَّ بِذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَم.

‌22 - بَاب الْحُجَّةِ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ أَحْكَامَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ ظَاهِرَةً،

وَمَا كَانَ يَغِيبُ بَعْضُهُمْ عن مَشَاهِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأُمُورِ الْإِسْلَامِ

7353 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، حَدَّثَنِي عَطَاءٌ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: اسْتَأْذَنَ أَبُو

ص: 320

مُوسَى عَلَى عُمَرَ فَكَأَنَّهُ وَجَدَهُ مَشْغُولًا فَرَجَعَ، فَقَالَ عُمَرُ: أَلَمْ أَسْمَعْ صَوْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ؟ ائْذَنُوا لَهُ، فَدُعِيَ لَهُ فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: إِنَّا كُنَّا نُؤْمَرُ بِهَذَا، قَالَ: فَأْتِنِي عَلَى هَذَا بِبَيِّنَةٍ أَوْ لَأَفْعَلَنَّ بِكَ، فَانْطَلَقَ إِلَى مَجْلِسٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالُوا: لَا يَشْهَدُ إِلَّا أَصَاغِرُنَا، فَقَامَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ فَقَالَ: قَدْ كُنَّا نُؤْمَرُ بِهَذَا. فَقَالَ عُمَرُ: خَفِيَ عَلَيَّ هَذَا مِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَلْهَانِي الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ.

7354 -

حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنَ الأَعْرَجِ يَقُولُ أَخْبَرَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ إِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاللَّهُ الْمَوْعِدُ إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مِسْكِينًا أَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مِلْءِ بَطْنِي وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَشْغَلُهُمْ الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ وَكَانَتْ الأَنْصَارُ يَشْغَلُهُمْ الْقِيَامُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ فَشَهِدْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ وَقَالَ مَنْ يَبْسُطْ رِدَاءَهُ حَتَّى أَقْضِيَ مَقَالَتِي ثُمَّ يَقْبِضْهُ فَلَنْ يَنْسَى شَيْئًا سَمِعَهُ مِنِّي فَبَسَطْتُ بُرْدَةً كَانَتْ عَلَيَّ فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ مَا نَسِيتُ شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْهُ

قَوْلُهُ: (بَابُ الْحُجَّةِ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ أَحْكَامَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ ظَاهِرَةً) أَيْ: لِلنَّاسِ لَا تَخْفَى إِلَّا عَلَى النَّادِرِ، وَقَوْلُهُ: وَمَا كَانَ يَغِيبُ بَعْضُهُمْ عَنْ مَشَاهِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأُمُورِ الْإِسْلَامِ كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ وَعَلَيْهَا شَرْحُ ابْنِ بَطَّالٍ: مَشَاهِدِهِ وَلِبَعْضِهِمْ: مَشْهَدِ بِالْإِفْرَادِ، وَوَقَعَ فِي مُسْتَخْرَجِ أَبِي نُعَيْمٍ: وَمَا كَانَ يُفِيدُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْفَاءِ وَالدَّالِ مِنَ الْإِفَادَةِ، وَلَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ.

وَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا كَانَ مَوْصُولَةٌ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ تَكُونَ نَافِيَةً، وَأَنَّهَا مِنْ بَقِيَّةِ الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ، وَظَاهِرُ السِّيَاقِ يَأْبَاهُ، وَهَذِهِ التَّرْجَمَةُ مَعْقُودَةٌ لِبَيَانِ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَكَابِرِ مِنَ الصَّحَابَةِ كَانَ يَغِيبُ عَنْ بَعْضِ مَا يَقُولُهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوْ يَفْعَلُهُ مِنَ الْأَعْمَالِ التَّكْلِيفِيَّةِ، فَيَسْتَمِرُّ عَلَى مَا كَانَ اطَّلَعَ عَلَيْهِ هُوَ إِمَّا عَلَى الْمَنْسُوخِ لِعَدَمِ اطِّلَاعِهِ عَلَى نَاسِخِهِ، وَإِمَّا عَلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ قَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَى مَنْ قَدَّمَ عَمَلَ الصَّحَابِيِّ الْكَبِيرِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ قَدْ وَلِيَ الْحُكْمَ عَلَى رِوَايَةِ غَيْرِهِ مُتَمَسِّكًا بِأَنَّ ذَلِكَ الْكَبِيرَ لَوْلَا أَنَّ عِنْدَهُ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْ تِلْكَ الرِّوَايَةِ لَمَا خَالَفَهَا، وَيَرُدُّهُ أَنَّ فِي اعْتِمَادِ ذَلِكَ تَرْكُ الْمُحَقَّقِ لِلْمَظْنُونِ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَرَادَ الرَّدَّ عَلَى الرَّافِضَةَ وَالْخَوَارِجِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ أَحْكَامَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَسُنَنَهُ مَنْقُولَةٌ عَنْهُ نَقْلَ تَوَاتُرٍ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِمَا لَمْ يُنْقَلْ مُتَوَاتِرًا، قَالَ: وَقَوْلُهُمْ مَرْدُودٌ بِمَا صَحَّ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانَ يَأْخُذُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَرَجَعَ بَعْضُهُمْ إِلَى مَا رَوَاهُ غَيْرُهُ، وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى الْقَوْلِ بِالْعَمَلِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ.

قُلْتُ: وَقَدْ عَقَدَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَلِ بَابَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَعْزُبُ عَلَى الْمُتَقَدِّمِ الصُّحْبَةَ الْوَاسِعِ الْعِلْمُ الَّذِي يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي بَكْرٍ فِي الْجَدَّةِ وَهُوَ فِي الْمُوَطَّأِ، وَحَدِيثَ عُمَرَ فِي الِاسْتِئْذَانِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَحَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الرَّجُلِ الَّذِي عَقَدَ عَلَى امْرَأَةٍ ثُمَّ طَلَّقَهَا فَأَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّهَا، فَقَالَ: لَا بَأْسَ، وَإِجَازَتُهُ بَيْعُ الْفِضَّةِ الْمُكَسَّرَةِ بِالصَّحِيحَةِ مُتَفَاضِلًا، ثُمَّ رُجُوعُهُ عَنِ الْأَمْرَيْنِ مَعًا لَمَّا سَمِعَ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ النَّهْيَ عَنْهُمَا، وَأَشْيَاءَ غَيْرَ ذَلِكَ، وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ الْبَرَاءِ: لَيْسَ كُلُّنَا كَانَ يَسْمَعُ الْحَدِيثَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، كَانَتْ لَنَا صَنْعَةٌ وَأَشْغَالٌ، وَلَكِنْ كَانَ النَّاسُ لَا يَكْذِبُونَ، فَيُحَدِّثُ الشَّاهِدُ الْغَائِبُ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ. وَكَذَا حَدِيثُ أَنَسٍ: مَا كُلُّ مَا نُحَدِّثُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَمِعْنَاهُ، وَلَكِنْ لَمْ يُكَذِّبْ بَعْضُنَا بَعْضًا ثُمَّ سَرَدَ مَا رَوَاهُ

ص: 321

صَحَابِيٌّ عَنْ صَحَابِيٍّ مِمَّا وَقَعَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَقَالَ: فِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى إِتْقَانِهِمْ فِي الرِّوَايَةِ، وَفِيهِ أَبْيَنُ الْحُجَّةِ وَأَوْضَحُ الدَّلَالَةِ عَلَى تَثْبِيتِ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَأَنَّ بَعْضَ السُّنَنِ كَانَ يَخْفَى عَنْ بَعْضِهِمْ، وَأَنَّ الشَّاهِدَ مِنْهُمْ كَانَ يُبَلِّغُ الْغَائِبَ مَا شَهِدَ، وَأَنَّ الْغَائِبَ كَانَ يَقْبَلُهُ مِمَّنْ حَدَّثَهُ وَيَعْتَمِدُهُ وَيَعْمَلُ بِهِ.

قُلْتُ: خَبَرُ الْوَاحِدِ فِي الِاصْطِلَاحِ خِلَافُ الْمُتَوَاتِرِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ رِوَايَةِ شَخْصٍ وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِمَا وَقَعَ فِيهِ الِاخْتِلَافُ وَيَدْخُلُ فِيهِ خَبَرُ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، وَلَا يَرُدُّ عَلَى مَنْ عَمِلَ بِهِ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنْ طَلَبِ عُمَرَ مِنْ أَبِي مُوسَى الْبَيِّنَةَ عَلَى حَدِيثِ الِاسْتِئْذَانِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مَعَ شَهَادَةِ أَبِي سَعِيدٍ لَهُ وَغَيْرِهِ عَنْ كَوْنِهِ خَبَرَ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا طَلَبَ عُمَرُ مِنْ أَبِي مُوسَى الْبَيِّنَةَ لِلِاحْتِيَاطِ كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ وَاضِحًا فِي كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ، وَإِلَّا فَقَدْ قَبِلَ عُمَرُ حَدِيثَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنَ الْمَجُوسِ، وَحَدِيثَهُ فِي الطَّاعُونِ، وَحَدِيثَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْأَصَابِعِ فِي الدِّيَةِ، وَحَدِيثَ الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ فِي تَوْرِيثِ الْمَرْأَةِ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا، وَحَدِيثَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَتَقَدَّمَ فِي الْعِلْمِ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَتَنَاوَبُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هُوَ وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَيَنْزِلُ هَذَا يَوْمًا وَهَذَا يَوْمًا، وَيُخْبِرُ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخِرَ بِمَا غَابَ عَنْهُ، وَكَانَ غَرَضُهُ بِذَلِكَ تَحْصِيلُ مَا يَقُومُ بِحَالِهِ وَحَالِ عِيَالِهِ لِيُغْنَى عَنِ الِاحْتِيَاجِ لِغَيْرِهِ، لِيَتَقَوَّى عَلَى مَا هُوَ بِصَدَدِهِ مِنَ الْجِهَادِ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ عَلَى مَنْ أَمْكَنَتْهُ الْمُشَافَهَةُ أَنْ يَعْتَمِدَهَا، وَلَا يَكْتَفِيَ بِالْوَاسِطَةِ لِثُبُوتِ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الصَّحَابَةِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِغَيْرِ نَكِيرٍ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ ثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ، فَإِنَّ فِيهِ بَيَانُ السَّبَبِ فِي خَفَاءِ بَعْضِ

السُّنَنِ عَلَى بَعْضِ كِبَارِ الصَّحَابَةِ، وَقَوْلُهُ: وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ عُمَرَ فِي الَّذِي قَبْلَهُ: أَلْهَانِي الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُمْ كَانُوا أَصْحَابَ تِجَارَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي أَوَائِلِ الْبُيُوعِ، وَتَوْجِيهُ قَوْلِ عُمَرَ: أَلْهَانِي وَاخْتُلِفَ عَلَى الزُّهْرِيِّ فِي الْوَاسِطَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيهِ كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي الْعِلْمِ، وَتَقَدَّمَ عَنْهُ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ مِثْلَهُ، لَكِنْ عِنْدَ مَالِكٍ زِيَادَةٌ لَيْسَتْ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ هَذِهِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَلَوْلَا آيَتَانِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ مِمَّا لَيْسَ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ قَوْلُهُ: وَاللَّهُ الْمَوْعِدُ وَكَذَلِكَ مَا فِي آخِرِهِ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ، وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ فَهُوَ أَتَمُّ الْجَمِيعِ سِيَاقًا، وَثَبَتَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ فِي الْبُيُوعِ بِزِيَادَةٍ سَأُبَيِّنُهَا لَكِنْ لَمْ يَقَعْ عِنْدَهُ ذِكْرُ الْآيَتَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي الْعِلْمِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، وَفِي الْمُزَارَعَةِ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ الْأَعْرَجِ، وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْبُيُوعِ مِنْ رِوَايَةِ شُعَيْبٍ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، وَأَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

قَوْلُهُ: (إِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ) فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ: إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ ابْنُ شِهَابٍ يَذْكُرُ قِيلَ هَذَا حَدِيثُهُ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَلَا يُعْجِبُكَ أَبُو هُرَيْرَةَ جَاءَ فَجَلَسَ إِلَى جَانِبِ حُجْرَتِي يُحَدِّثُ، يُسْمِعُنِي ذَلِكَ، وَلَوْ أَدْرَكْتُهُ لَرَدَدْتُ عَلَيْهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَسْرُدُ الْحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. ثُمَّ يَقُولُ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: قَالَ: يَقُولُونَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَدْ أَكْثَرَ هَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ. وَحَدِيثُ عَائِشَةَ تَقَدَّمَ فِي التَّرْجَمَةِ النَّبَوِيَّةِ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ مُعَلَّقًا، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ هُنَاكَ، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا فِي الْجَنَائِزِ مِنْ طَرِيقِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: حَدَّثَ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي فَضْلِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَكْثَرَ عَلَيْنَا أَبُو هُرَيْرَةَ فَصَدَّقَتْ عَائِشَةُ أَبَا هُرَيْرَةَ أَيْ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَقَوْلُهُ: عَلَى يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: يُكْثِرُ وَلَوْ تَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: الْحَدِيثَ لَقَالَ عَنْ.

قَوْلُهُ: (وَاللَّهُ الْمَوْعِدُ) تَقَدَّمَ

ص: 322

شَرْحُهَا فِي كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ زَادَ شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ فِي رِوَايَتِهِ: وَيَقُولُونَ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ لَا يُحَدِّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ؟، فِي رِوَايَةِ يُونُسَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِثْلَ أَحَادِيثِهِ وَزَادَ: سَأُخْبِرُكُمْ عَنْ ذَلِكَ وَتَقَدَّمَ فِي الْمُزَارَعَةِ نَحْوُ هَذَا وَنَبَّهْتُ عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ.

قَوْلُهُ: (إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مِسْكِينًا) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: رَجُلًا.

قَوْلُهُ: (أَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: أَخْدُمُ.

قَوْلُهُ: (عَلَى مِلْءِ بَطْنِي) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَبِهَمْزَةٍ آخِرَهُ، أَيْ بِسَبَبِ شِبَعِي، أَيْ: إِنَّ السَّبَبَ الْأَصْلِيَّ الَّذِي اقْتَضَى لَهُ كَثْرَةَ الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُلَازَمَتُهُ لَهُ لِيَجِدَ مَا يَأْكُلُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ يَتَّجِرُ فِيهِ، وَلَا أَرْضٌ يَزْرَعُهَا وَلَا يَعْمَلُ فِيهَا، فَكَانَ لَا يَنْقَطِعُ عَنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يَفُوتَهُ الْقُوتُ، فَيَحْصُلُ فِي هَذِهِ الْمُلَازَمَةِ مِنْ سَمَاعِ الْأَقْوَالِ وَرِوَايَةِ الْأَفْعَالِ مَا لَا يَحْصُلُ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يُلَازِمُهُ مُلَازَمَتَهُ، وَأَعَانَهُ عَلَى اسْتِمْرَارِ حِفْظِهِ لِذَلِكَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ مِنَ الدَّعْوَةِ النَّبَوِيَّةِ لَهُ بِذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ) فِي رواية يُونُسَ: وَإِنَّ إِخْوَانِي مِنَ الْمُهَاجِرِينَ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَتِ الْأَنْصَارُ يَشْغَلُهُمُ الْقِيَامُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ) فِي رِوَايَةِ يُونُسَ: وَإِنَّ إِخْوَانِي مِنَ الْأَنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمْ عَمَلُ أَرْضِهِمْ وَفِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ: عَمَلُ أَمْوَالِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ قَرِيبًا، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ: فَيَشْهَدُ إِذَا غَابُوا، وَيَحْفَظُ إِذَا نَسُوا، وَفِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ: وَكُنْتُ امْرَأً مِسْكِينًا مِنْ مَسَاكِينِ الصُّفَّةِ أَعِي حَيْثُ يَنْسَوْنَ.

قَوْلُهُ: (فَشَهِدْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ) فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ: وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثٍ يُحَدِّثُهُ.

قَوْلُهُ: (مَنْ يَبْسُطُ رِدَاءَهُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: مَنْ بَسَطَ بِلَفْظِ الْفِعْلِ الْمَاضِي.

قَوْلُهُ: (فَلَمْ يَنْسَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فَلَنْ يَنْسَى، وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ: فَلَنْ يَنْسَ بِالنُّونِ وَبِالْجَزْمِ، وَذَكَرَ أَنَّ الْقَزَّازَ نَقَلَ عَنْ بَعْضِ الْبَصْرِيِّينَ: أَنَّ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَجْزِمُ بِلَنْ قَالَ: وَمَا وَجَدْتُ لَهُ شَاهِدًا، وَأَقَرَّهُ ابْنُ التِّينِ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُهُ لِذَلِكَ شَاهِدًا وَهُوَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

لَنْ يَخِبِ الْيَوْمَ مِنْ رَجَائِكَ مَنْ

حَرَّكَ مِنْ دُونِ بَابِكَ الْحَلَقَةَ

وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَصْلِ لَمْ الْجَازِمَةُ فَتَغَيَّرَتْ بِلَنْ، لَكِنْ إِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَلَعَلَّ الشَّاعِرُ قَصَدَ لَنْ لِكَوْنِهَا أَبْلَغُ هُنَا فِي الْمَدْحِ مِنْ لَمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَتَقَدَّمَ فِي بَابِ الْأَمْنِ مِنْ كِتَابِ التَّعْبِيرِ تَوْجِيهُ ابْنِ مَالِكٍ لِنَظِيرِ هَذَا فِي قَوْلِ: لَنْ تُرَعَ وَحِكَايَتُهُ عَنِ الْكِسَائِيِّ أَنَّ الْجَزْمَ بِلَنْ لُغَةٌ لِبَعْضِ الْعَرَبِ.

قَوْلُهُ: (فَبَسَطْتُ بُرْدَةً) فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ نَمِرَةً، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي أَوَّلِ الْبُيُوعِ، وَذَكَرَ فِي الْعِلْمِ بَيَانَ الِاخْتِلَافِ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: مَا نَسِيتُ شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْهُ.

‌23 - بَاب مَنْ رَأَى تَرْكَ النَّكِيرِ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حُجَّةً، لَا مِنْ غَيْرِ الرَّسُولِ

7355 -

حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: رَأَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّ ابْنَ الصياد الدَّجَّالُ، قُلْتُ: تَحْلِفُ بِاللَّهِ؟ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ رَأَى تَرْكَ النَّكِيرِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حُجَّةً) النَّكِيرُ بِفَتْحِ النُّونِ وَزْنُ عَظِيمُ: الْمُبَالَغَةُ فِي الْإِنْكَارِ. وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ تَقْرِيرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِمَا يُفْعَلُ بِحَضْرَتِهِ أَوْ يُقَالُ وَيَطَّلِعُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ إِنْكَارٍ دَالٍّ عَلَى الْجَوَازِ؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ

ص: 323

تَنْفِي عَنْهُ مَا يَحْتَمِلُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِنْكَارِ فَلَا يُقِرُّ عَلَى بَاطِلٍ، فَمِنْ ثَمَّ قَالَ: لَا مِنْ غَيْرِ الرَّسُولِ؛ فَإِنَّ سُكُوتَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ، وَوَقَعَ فِي تَنْقِيحِ الزَّرْكَشِيِّ فِي التَّرْجَمَةِ بَدَلَ قَوْلِهِ: لَا مِنْ غَيْرِ الرَّسُولِ لِأَمْرٍ يَحْضُرُهُ الرَّسُولُ وَلَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ، وَأَشَارَ ابْنُ التِّينِ إِلَى أَنَّ التَّرْجَمَةَ تَتَعَلَّقُ بِالْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ، وَأَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يُنْسَبُ لِسَاكِتٍ قَوْلٌ؛ لِأَنَّهُ فِي مُهْلَةِ النَّظَرِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنْ قَالَ الْمُجْتَهِدُ قَوْلًا وَانْتَشَرَ لَمْ يُخَالِفْهُ غَيْرُهُ بَعْدَ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ فَهُوَ حُجَّةٌ، وَقِيلَ: لَا يَكُونُ حُجَّةً حَتَّى يَتَعَدَّدَ الْقِيلُ بِهِ، وَمَحَلُّ هَذَا الْخِلَافِ أَنْ لَا يُخَالِفَ ذَلِكَ الْقَوْلُ نَصَّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةً، فَإِنْ خَالَفَهُ فَالْجُمْهُورُ عَلَى تَقْدِيمِ النَّصِّ، وَاحْتَجَّ مَنْ مَنَعَ مُطْلَقًا أَنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُنْكِرُ عَلَى غَيْرِهِ إِذَا كَانَ الْقَوْلُ عِنْدَهُ ضَعِيفًا، وَكَانَ عِنْدَهُ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ مِنْ نَصِّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَسْكُتُ فَلَا يَكُونُ سُكُوتُهُ دَلِيلًا عَلَى الْجَوَازِ؛ لِتَجْوِيزِ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَتَّضِحْ لَهُ الْحُكْمُ، فَسَكَتَ لِتَجْوِيزِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقَوْلُ صَوَابًا

وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ وَجْهُهُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ حُمَيْدٍ) هُوَ خُرَاسَانِيٌّ فِيمَا ذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَنْدَهْ فِي رِجَالِ الْبُخَارِيِّ، وَذَكَرَ ابْنُ رَشِيدٍ فِي فَوَائِدِ رِحْلَتِهِ، وَالْمِزِّيُّ فِي التَّهْذِيبِ أَنَّ فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْقَدِيمَةِ مِنَ الْبُخَارِيِّ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ حُمَيْدٍ صَاحِبٌ لَنَا حَدَّثَنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ فِي الْأَحْيَاءِ، وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ حَمَّادُ بْنُ حُمَيْدٍ نَزِيلُ عَسْقَلَانَ رَوَى عَنْ بِشْرِ بْنِ بَكْرٍ، وَأَبِي ضَمْرَةَ وَغَيْرِهِمَا وَسَمِعَ مِنْهُ أَبُو حَاتِمٍ، وَقَالَ: شَيْخِي فَزَعَمَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ فِي رِجَالِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي رَوَى عَنْهُ الْبُخَارِيُّ هُنَا وَهُوَ بَعِيدٌ، وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ حَدِيثَ الْبَابِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاذٍ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي نَزَلَ فِيهَا الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُسْلِمٍ، أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ عَنْ شَيْخٍ وَأَخْرَجَهَا الْبُخَارِيُّ بِوَاسِطَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ الشَّيْخِ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَحَادِيثَ لَيْسَ فِي الصَّحِيحِ غَيْرُهَا بِطَرِيقِ التَّصْرِيحِ، وَفِيهِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ نَحْوُ الْأَرْبَعِينَ مِمَّا يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ ذَلِكَ، وَقَدْ أَفْرَدْتُهَا فِي جُزْءٍ جَمَعْتُ مَا وَقَعَ لِلْبُخَارِيِّ مِنْ ذَلِكَ، فَكَانَ أَضْعَافَ أَضْعَافِ مَا وَقَعَ لِمُسْلِمٍ، وَذَلِكَ أَنَّ مُسْلِمًا فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ بَاقٍ عَلَى الرِّوَايَةِ عَنِ الطَّبَقَةِ الْأُولَى أَوِ الثَّانِيَةِ مِنْ شُيُوخِهِ، وَأَمَّا الْبُخَارِيُّ فَإِنَّهُ نَزَلَ فِيهَا عَنْ طَبَقَتِهِ الْعَالِيَةِ بِدَرَجَتَيْنِ، مِثَالُ ذَلِكَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْبُخَارِيَّ إِذَا رَوَى حَدِيثَ شُعْبَةَ عَالِيًا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ رَاوٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ

أَدْخَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شُعْبَةَ فِيهِ ثَلَاثَةً، وَأَمَّا مُسْلِمٌ فَلَا يَرْوِي حَدِيثَ شُعْبَةَ بِأَقَلَّ مِنْ وَاسِطَتَيْنِ. وَالْحَدِيثُ الثَّانِي مِنَ الْأَرْبَعَةِ مَضَى فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ، أَخْرَجَهُ عَنْ أَحْمَدَ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ النَّضْرِ النَّيْسَابُورِيَّيْنِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاذٍ أَيْضًا عَنْ أَبِيهِ عَنْ شُعْبَةَ بِسَنَدٍ آخَرَ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاذٍ نَفْسِهِ.

وَالْحَدِيثُ الثَّالِثُ أَخْرَجَهُ فِي آخِرَ الْمَغَازِي عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ التِّرْمِذِيِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، عَنْ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ كَهْمَسِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ فِي عَدَدِ الْغَزَوَاتِ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ بِهَذَا السَّنَدِ بِلَا وَاسِطَةٍ. وَالْحَدِيثُ الرَّابِعُ وَقَعَ فِي كِتَابِ كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ، وَهُوَ الْحَافِظُ الْمَعْرُوفُ بِصَاعِقَةَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ رَشِيدٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي غَسَّانَ مُحَمَّدِ بْنِ مُطَرِّفٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدِ بْنِ مَرْجَانَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي فَضْلِ الْعِتْقِ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ رَشِيدٍ نَفْسِهِ وَهَذَا مِمَّا نَزَلَ فِيهِ الْبُخَارِيُّ عَنْ طَبَقَتِهِ دَرَجَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَرْوِي حَدِيثَ ابْنِ غَسَّانَ بِوَاسِطَةٍ وَاحِدَةٍ كَسَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، وَهُنَا بَيْنَهُمَا ثَلَاثُ وَسَائِطَ، وَقَدْ أَشَرْتُ لِكُلِّ حَدِيثٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ فِي مَوْضِعِهِ، وَجَمَعْتُهَا هُنَا تَتْمِيمًا لِلْفَائِدَةِ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ أَيِ ابْنُ مُعَاذِ بْنُ نَصْرِ بْنِ حَسَّانَ الْعَنْبَرِيُّ، وَسَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَيِ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَرِوَايَتُهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ مِنَ الْأَقْرَانِ؛ لِأَنَّهُ

ص: 324

مِنْ طَبَقَتِهِ.

قَوْلُهُ: (رَأَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَحْلِفُ) أَيْ: شَاهَدْتُهُ حِينَ حَلَفَ. قَوْلُهُ (أَنَّ ابْنَ الصَّيَّادِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ، وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ بَطَّالٍ مِثْلُهُ لَكِنْ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَلَامٍ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَلِلْبَاقِينَ: ابْنُ الصَّائِدِ بِوَزْنِ الظَّالِمِ.

(تَحْلِفُ بِاللَّهِ؟ قَالَ؟ إِنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ، إِلَخْ) كَأَنَّ جَابِرًا لَمَّا سَمِعَ عُمَرَ يَحْلِفُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ، فَهِمَ مِنْهُ الْمُطَابَقَةَ، وَلَكِنْ بَقِيَ أَنَّ شَرْطَ الْعَمَلِ بِالتَّقْرِيرِ أَنْ لَا يُعَارِضَهُ التَّصْرِيحُ بِخِلَافِهِ، فَمَنْ قَالَ أَوْ فَعَلَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا فَأَقَرَّهُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى الْجَوَازِ، فَإِنْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم افْعَلْ خِلَافَ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى نَسْخِ ذَلِكَ التَّقْرِيرِ، إِلَّا إِنْ ثَبَتَ دَلِيلُ الْخُصُوصِيَّةِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ بَعْدَ أَنْ قَرَّرَ دَلِيلَ جَابِرٍ: فَإِنْ قِيلَ: تَقَدَّمَ يَعْنِي كَمَا فِي الْجَنَائِزِ، أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قِصَّةِ ابْنِ الصَّيَّادِ: دَعْنِي أَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَقَالَ: إِنْ يَكُنْ هُوَ فَلَنْ تُسَلَّطْ عَلَيْهِ فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ تَرَدَّدَ فِي أَمْرِهِ، يَعْنِي فَلَا يَدُلُّ سُكُوتُهُ عَنْ إِنْكَارِهِ عِنْدَ حَلِفِ عُمَرَ عَلَى أَنَّهُ هُوَ، قَالَ: وَعَنْ ذَلِكَ جَوَابَانِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّرْدِيدَ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُعْلِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ هُوَ الدَّجَّالُ، فَلَمَّا أَعْلَمَهُ لَمْ يُنْكِرْ عَلَى عُمَرَ حَلِفَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَرَبَ قَدْ تُخْرِجُ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الشَّكِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْخَبَرِ شَكٌّ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ تَلَطُّفِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِعُمَرَ فِي صَرْفِهِ عَنْ قَتْلِهِ، انْتَهَى مُلَخَّصًا.

ثُمَّ ذَكَرَ مَا وَرَدَ عَنْ غَيْرِ جَابِرٍ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ابْنَ صَيَّادٍ هُوَ الدَّجَّالُ، كَالْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَقِيتُ ابْنَ صَيَّادٍ يَوْمًا وَمَعَهُ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَإِذَا عَيْنُهُ قَدْ طَفِئَتْ وَهِيَ خَارِجَةٌ مِثْلَ عَيْنِ الْجَمَلِ، فَلَمَّا رَأَيْتُهَا قُلْتُ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا ابْنَ صَيَّادٍ مَتَى طَفِئَتْ عَيْنَكَ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي وَالرَّحْمَنِ. قُلْتُ: كَذَبْتَ لَا تَدْرِي وَهِيَ فِي رَأْسِكِ؟ قَالَ: فَمَسَحَهَا وَنَخَرَ ثَلَاثًا، فَزَعَمَ الْيَهُودِيُّ أَنِّي ضَرَبْتُ بِيَدَيَّ صَدْرَهُ، وَقُلْتُ لَهُ: اخْسَأْ، فَلَنْ تَعْدُو قَدَرَكَ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِحَفْصَةَ، فَقَالَتْ حَفْصَةُ: اجْتَنِبْ هَذَا الرَّجُلَ؛ فَإِنَّمَا يُتَحَدَّثُ أَنَّ الدَّجَّالَ يَخْرُجُ عِنْدَ غَضْبَةٍ يَغْضَبُهَا انْتَهَى.

وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ بِمَعْنَاهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَلَفْظُهُ: لَقِيتُهُ مَرَّتَيْنِ، فَذَكَرَ الْأُولَى ثُمَّ قَالَ: لَقِيتُهُ لُقْيَةً أُخْرَى وَقَدْ نَفَرَتْ عَيْنُهُ، فَقُلْتُ: مَتَى فَعَلَتْ عَيْنُكَ مَا أَرَى؟ قَالَ: مَا أَدْرِي، قُلْتُ: لَا تَدْرِي وَهِيَ فِي رَأْسِكَ؟ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ جَعَلَهَا فِي عَصَاكَ هَذِهِ، وَنَخَرَ كَأَشَدَّ نَخِيرِ حِمَارٍ سَمِعْتُ، فَزَعَمَ أَصْحَابِي أَنِّي ضَرَبْتُهُ بِعَصًا كَانَتْ مَعِي حَتَّى تَكَسَّرَتْ، وَأَنَا وَاللَّهِ مَا شَعَرْتُ، قَالَ: وَجَاءَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ حَفْصَةَ فَحَدَّثَهَا، فَقَالَتْ: مَا تُرِيدُ إِلَيْهِ؟ أَلَمْ تَسْمَعْ أَنَّهُ قَدْ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا يَبْعَثُهُ عَلَى النَّاسِ غَضَبَ يَغْضَبُهُ؟ ثُمَّ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فَإِنْ قِيلَ هَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى التَّرَدُّدِ فِي أَمْرِهِ، فَالْجَوَابُ أَنَّهُ إِنْ وَقَعَ الشَّكُّ فِي أَنَّهُ الدَّجَّالُ الَّذِي يَقْتُلُهُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، فَلَمْ يَقَعِ الشَّكُّ فِي أَنَّهُ أَحَدُ الدَّجَّالِينَ الْكَذَّابِينَ الَّذِينَ أَنْذَرَ بِهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ: إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ دَجَّالِينَ كَذَّابِينَ يَعْنِي الْحَدِيثَ الَّذِي مَضَى مَعَ شَرْحِهِ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ انْتَهَى. وَمُحَصَّلُهُ عَدَمُ تَسْلِيمِ الْجَزْمِ بِأَنَّهُ الدَّجَّالُ، فَيَعُودُ السُّؤَالُ الْأَوَّلُ عَنْ جَوَابِ حَلِفِ عُمَرَ ثُمَّ جَابِرٍ عَلَى أَنَّهُ الدَّجَّالُ الْمَعْهُودُ، لَكِنْ فِي قِصَّةِ حَفْصَةَ وَابْنِ عُمَرَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمَا أَرَادَا الدَّجَّالَ الْأَكْبَرَ، وَاللَّامُ فِي الْقِصَّةِ الْوَارِدَةِ عَنْهُمَا لِلْعَهْدِ لَا لِلْجِنْسِ.

وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا أَشُكَّ أَنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ هُوَ ابْنُ صَيَّادٍ، وَوَقَعَ لِابْنِ صَيَّادٍ مَعَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قِصَّةٌ أُخْرَى تَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الدَّجَّالِ، فَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: صَحِبَنِي ابْنُ صَيَّادٍ إِلَى مَكَّةَ، فَقَالَ لِي: مَاذَا لَقِيتُ مِنَ النَّاسِ؟ يَزْعُمُونَ أَنِّي الدَّجَّالُ، أَلَسْتَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّهُ لَا يُولَدُ لَهُ؟ قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: فَإِنَّهُ قَدْ وُلِدَ لِي، قَالَ: أَوَلَسْتَ سَمِعْتَهُ يَقُولُ: لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ وَلَا مَكَّةَ؟ قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: فَقَدْ وُلِدْتُ بِالْمَدِينَةِ وَهَا أَنَا أُرِيدُ مَكَّةَ. وَمِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: أَخَذَتْنِي مِنِ ابْنِ صَيَّادٍ

ص: 325

دَمَامَةٌ، فَقَالَ: هَذَا عَذَرْتُ النَّاسَ مَا لِي وَأَنْتُمْ يَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ، أَلَمْ يَقُلْ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّهُ يَعْنِي الدَّجَّالَ يَهُودِيٌّ؟ وَقَدْ أَسْلَمْتَ فَذَكَرَ نَحْوَهُ وَمِنْ طَرِيقِ الْجَرِيرِيِّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: خَرَجْنَا حُجَّاجًا، وَمَعَنَا ابْنُ صَيَّادٍ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا وَتَفَرَّقَ النَّاسُ، وَبَقِيتُ أَنَا وَهُوَ، فَاسْتَوْحَشْتُ مِنْهُ وَحْشَةً شَدِيدَةً مِمَّا يُقَالُ فِيهِ.

فَقُلْتُ: الْحَرُّ شَدِيدٌ فَلَوْ وَضَعْتَ ثِيَابَكَ تَحْتَ تِلْكَ الشَّجَرَةِ، فَفَعَلَ، فَرُفِعَتْ لَنَا غَنَمٌ فَانْطَلَقَ فَجَاءَ بِعُسٍّ، فَقَالَ: اشْرَبْ يَا أَبَا سَعِيدٍ، فَقُلْتُ: إِنَّ الْحَرَّ شَدِيدٌ وَمَا بِي إِلَّا أَنْ أَكْرَهَ أَنِّي أَشْرَبُ مِنْ يَدِهِ، فَقَالَ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آخُذَ حَبْلًا فَأُعَلِّقَهُ بِشَجَرَةٍ ثُمَّ أَخْتَنِقَ بِهِ مِمَّا يَقُولُ لِيَ النَّاسُ، يَا أَبَا سَعِيدٍ مَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا خَفِيَ عَلَيْكُمْ مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ. ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ وَزَادَ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: حَتَّى كِدْتُ أَعْذُرَهُ وَفِي آخِرِ كُلٍّ مِنَ الطُّرُقِ الثَّلَاثَةِ أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي لَأَعْرِفُهُ وَأَعْرِفُ مَوْلِدِهِ وَأَيْنَ هُوَ الْآنَ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَقُلْتُ لَهُ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ، لَفْظُ الْجَرِيرِيِّ وَأَجَابَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ قِصَّةِ ابْنِ صَيَّادٍ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَمْكُثُ أَبَوَا الدَّجَّالِ ثَلَاثِينَ عَامًا لَا يُولَدُ لَهُمَا ثُمَّ يُولَدُ لَهُمَا غُلَامٌ أَعْوَرُ أَضَرُّ شَيْءٍ وَأَقَلُّهُ نَفْعًا، وَنَعَتَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ، قَالَ: فَسَمِعْنَا بِمَوْلُودٍ وُلِدَ فِي الْيَهُودِ، فَذَهَبْتُ أَنَا وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَامِ فَدَخَلْنَا عَلَى أَبَوَيْهِ، فَإِذَا النَّعْتُ فَقُلْنَا: هَلْ لَكُمَا مِنْ وَلَدٍ؟ قَالَا: مَكَثْنَا ثَلَاثِينَ عَامًا لَا يُولَدُ لَنَا، ثُمَّ وُلِدَ لَنَا غُلَامٌ أَضَرُّ شَيْءٍ وَأَقَلُّهُ نَفْعًا الْحَدِيثَ.

قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ. قُلْتُ: وَيُوهِي حَدِيثُهُ أَنَّ أَبَا بَكْرَةَ إِنَّمَا أَسْلَمَ لَمَّا نَزَلَ مِنَ الطَّائِفِ حِينَ حُوصِرَتْ سَنَةَ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا تَوَجَّهَ إِلَى النَّخْلِ الَّتِي فِيهَا ابْنُ صَيَّادٍ كَانَ ابْنُ صَيَّادٍ يَوْمَئِذٍ كَالْمُحْتَلِمِ، فَمَتَى يُدْرِكُ أَبُو بَكْرَةَ زَمَانَ مَوْلِدِهِ بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ لَمْ يَسْكُنِ الْمَدِينَةَ إِلَّا قَبْلَ الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ بِسَنَتَيْنِ، فَكَيْفَ يَتَأَتَّى أَنْ يَكُونَ فِي الزَّمَنِ النَّبَوِيِّ كَالْمُحْتَلِمِ، فَالَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَلَعَلَّ الْوَهْمَ وَقَعَ فِيمَا يَقْتَضِي تَرَاخِي مَوْلِدِ ابْنِ صَيَّادٍ أَوَّلًا، وَهْمٌ فِيهِ بَلْ يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: بَلَغَنَا أَنَّهُ وُلِدَ لِلْيَهُودِ مَوْلُودٌ عَلَى تَأَخُّرِ الْبَلَاغِ، وَإِنْ كَانَ مَوْلِدُهُ كَانَ سَابِقًا عَلَى ذَلِكَ بِمُدَّةٍ، بِحَيْثُ يَأْتَلِفُ مَعَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الصَّحِيحِ، ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: لَيْسَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَكْثَرُ مِنْ سُكُوتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى حَلِفِ عُمَرَ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَانَ مُتَوَقِّفًا فِي أَمْرِهِ، ثُمَّ جَاءَهُ الثَّبْتُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ غَيْرُهُ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ قِصَّةُ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، وَبِهِ تَمَسَّكَ مَنْ جَزَمَ بِأَنَّ الدَّجَّالَ غَيْرُ ابْنِ صَيَّادٍ وَطَرِيقُهُ أَصَحُّ، وَتَكُونُ الصِّفَةُ الَّتِي فِي ابْنِ صَيَّادٍ وَافَقَتْ مَا فِي الدَّجَّالِ.

قُلْتُ: قِصَّةُ تَمِيمٍ أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ، فَذَكَرَ أَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ رَكِبَ فِي سَفِينَةٍ مَعَ ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِهِ، فَلَعِبَ بِهِمُ الْمَوْجُ شَهْرًا ثُمَّ نَزَلُوا إِلَى جَزِيرَةٍ فَلَقِيَتُهُمْ دَابَّةٌ كَثِيرَةُ الشَّعْرِ فَقَالَتْ لَهُمْ: أَنَا الْجَسَّاسَةُ، وَدَلَّتْهُمْ عَلَى رَجُلٍ فِي الدَّيْرِ، قَالَ: فَانْطَلَقْنَا سِرَاعًا فَدَخَلْنَا الدَّيْرَ، فَإِذَا فِيهِ أَعْظَمُ إِنْسَانٍ رَأَيْنَاهُ قَطُّ خَلْقًا، وَأَشَدُّهُ وَثَاقًا، مَجْمُوعَةٌ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ بِالْحَدِيدِ، فَقُلْنَا: وَيْلَكَ مَا أَنْتَ؟ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: أَنَّهُ سَأَلَهُمْ عَنْ نَبِيِّ الْأُمِّيِّينَ: هَلْ بُعِثَ، وَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ يُطِيعُوهُ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُمْ، وَأَنَّهُ سَأَلَهُمْ عَنْ بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ، وَعَنْ عَيْنِ زُغَرٍ وَعَنْ نَخْلِ بَيْسَانَ، وَفِيهِ: أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي مُخْبِرُكُمْ عَنِّي أَنَا الْمَسِيحُ، وَإِنِّي أُوشِكُ أَنْ يُؤْذَنَ لِي فِي الْخُرُوجِ، فَأَخْرُجَ فَأَسِيرَ فِي الْأَرْضِ، فَلَا أَدَعُ قَرْيَةً إِلَّا هَبَطْتُهَا فِي أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، غَيْرَ مَكَّةَ وَطَيْبَةَ، وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ أَنَّهُ شَيْخٌ، وَسَنَدُهَا صَحِيحٌ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فِيهِ أَنَّ الدَّجَّالَ الْأَكْبَرَ الَّذِي يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ غَيْرُ ابْنِ صَيَّادٍ، وَكَانَ ابْنُ صَيَّادٍ أَحَدَ الدَّجَّالِينَ الْكَذَّابِينَ الَّذِينَ أَخْبَرَ صلى الله عليه وسلم بِخُرُوجِهِمْ، وَقَدْ خَرَجَ أَكْثَرُهُمْ، وَكَأَنَّ الَّذِينَ يَجْزِمُونَ بِابْنِ صَيَّادٍ هُوَ الدَّجَّالُ لَمْ يَسْمَعُوا بِقِصَّةِ تَمِيمٍ، وَإِلَّا فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بَعِيدٌ جِدًّا، إِذْ كَيْفَ يَلْتَئِمُ أَنْ يَكُونَ مَنْ كَانَ فِي أَثْنَاءِ الْحَيَاةِ النَّبَوِيَّةِ شِبْهَ الْمُحْتَلِمِ، وَيَجْتَمِعُ

ص: 326

بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَيَسْأَلُهُ، أَنْ يَكُونَ فِي آخِرِهَا شَيْخًا كَبِيرًا مَسْجُونًا فِي جَزِيرَةٍ مِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ مُوثَقًا بِالْحَدِيدِ، يَسْتَفْهِمُ عَنْ خَبَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، هَلْ خَرَجَ أَوْ لَا؟ فَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى عَدَمِ الِاطِّلَاعِ، أَمَّا عُمَرُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَ قِصَّةَ تَمِيمٍ، ثُمَّ لَمَّا سَمِعَهَا لَمْ يَعُدْ إِلَى الْحَلِفِ الْمَذْكُورِ. وَأَمَّا جَابِرٌ فَشَهِدَ حَلِفَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَصْحَبَ مَا كَانَ اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْ عُمَرَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لَكِنْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَمِيعٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ جَابِرٍ، فَذَكَرَ قِصَّةَ الْجَسَّاسَةِ وَالدَّجَّالِ بِنَحْوِ قِصَّةِ تَمِيمٍ، قَالَ: قَالَ - أَيِ الْوَلِيدُ - فَقَالَ لِيَ ابْنُ أَبِي سَلَمَةَ: إِنَّ فِي هَذَا شَيْئًا مَا حَفِظْتُهُ، قَالَ شَهِدَ جَابِرٌ أَنَّهُ ابْنُ صَيَّادٍ، قُلْتُ: فَإِنَّهُ قَدْ مَاتَ، قَالَ: وَإِنْ مَاتَ. قُلْتُ: فَإِنَّهُ أَسْلَمَ، قَالَ: وَإِنْ أَسْلَمَ. قُلْتُ: فَإِنَّهُ دَخَلَ الْمَدِينَةَ، قَالَ: وَإِنْ دَخَلَ الْمَدِينَةَ. انْتَهَى.

وَابْنُ أَبِي مَسْلَمَةَ اسْمُهُ عُمَرُ، فِيهِ مَقَالٌ، وَلَكِنَّ حَدِيثَهُ حَسَنٌ، وَيُتَعَقَّبُ بِهِ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ جَابِرًا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى قِصَّةِ تَمِيمٍ، وَقَدْ تَكَلَّمَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ عَلَى مَسْأَلَةِ التَّقْرِيرِ فِي أَوَائِلِ شَرْحِ الْإِلْمَامِ، فَقَالَ مَا مُلَخَّصُهُ: إِذَا أَخْبَرَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَمْرٍ لَيْسَ فِيهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، فَهَلْ يَكُونُ سُكُوتُهُ صلى الله عليه وسلم دَلِيلًا عَلَى مُطَابَقَةِ مَا فِي الْوَاقِعِ كَمَا وَقَعَ لِعُمَرَ فِي حَلِفِهِ عَلَى ابْنِ صَيَّادٍ هُوَ الدَّجَّالُ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ؟ فَهَلْ يَدُلُّ عَدَمُ إِنْكَارِهِ عَلَى أَنَّ ابْنَ صَيَّادٍ هُوَ الدَّجَّالُ كَمَا فَهِمَهُ جَابِرٌ، حَتَّى صَارَ يَحْلِفُ عَلَيْهِ وَيَسْتَنِدُ إِلَى حَلِفِ عُمَرَ أَوْ لَا يَدُلُّ؟ فِيهِ نَظَرٌ.

قَالَ: وَالْأَقْرَبُ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَدُلُّ؛ لِأَنَّ مَأْخَذَ الْمَسْأَلَةِ وَمَنَاطَهَا هُوَ الْعِصْمَةُ مِنَ التَّقْرِيرِ عَلَى بَاطِلٍ، وَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَحَقُّقِ الْبُطْلَانِ، وَلَا يَكْفِي فِيهِ عَدَمُ تَحَقُّقِ الصِّحَّةِ، إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ مُدَّعٍ أَنَّهُ يَكْفِي فِي وُجُوبِ الْبَيَانِ عَدَمُ تَحَقُّقِ الصِّحَّةِ فَيَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْهُ، نَعَمْ التَّقْرِيرُ يُسَوِّغُ الْحَلِفَ عَلَى ذَلِكَ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ لِعَدَمِ تَوَقُّفِ ذَلِكَ عَلَى الْعِلْمِ انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَلَا يَلْزَمْ مِنْ عَدَمِ تَحَقُّقِ الْبُطْلَانِ أَنْ يَكُونَ السُّكُوتُ مُسْتَوْفِي الطَّرَفَيْنِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ مِنْ قِسْمٍ خِلَافَ الْأَوْلَى، قَالَ الْخَطَّابِيُّ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي أَمْرِ ابْنِ صَيَّادٍ بَعْدَ كِبَرِهِ، فَرُوِيَ أَنَّهُ تَابَ مِنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ وَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ، وَأَنَّهُمْ لَمَّا أَرَادُوا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ كَشَفُوا وَجْهَهُ حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ، وَقِيلَ لَهُمُ: اشْهَدُوا، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: قِصَّةُ ابْنِ صَيَّادٍ مُشْكِلَةٌ، وَأَمْرُهُ مُشْتَبِهٌ، لَكِنْ لَا شَكَّ أَنَّهُ دَجَّالٌ مِنَ الدَّجَاجِلَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ فِي أَمْرِهِ بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ بِصِفَاتِ الدَّجَّالِ.

وَكَانَ فِي ابْنِ صَيَّادٍ قَرَائِنُ مُحْتَمِلَةٌ، فَلِذَلِكَ كَانَ صلى الله عليه وسلم لَا يَقْطَعُ فِي أَمْرِهِ بِشَيْءٍ بَلْ قَالَ لِعُمَرَ: لَا خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ الْحَدِيثَ، وَأَمَّا احْتِجَاجَاتُهُ هُوَ بِأَنَّهُ مُسْلِمٌ إِلَى سَائِرِ مَا ذَكَرَ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ صِفَاتِهِ وَقْتَ خُرُوجِهِ آخِرَ الزَّمَانِ، قَالَ: وَمِنْ جُمْلَةِ مَا فِي قِصَّتِهِ قَوْلُهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ وَقَوْلُهُ: أَنَّهُ يَأْتِيهِ صَادِقٌ وَكَاذِبٌ، وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ تَنَامُ عَيْنُهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ، وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ يَرَى عَرْشًا عَلَى الْمَاءِ، وَأَنَّهُ لَا يَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ الدَّجَّالَ، وَأَنَّهُ يَعْرِفُهُ وَيَعْرِفُ مَوْلِدَهُ وَمَوْضِعَهُ وَأَيْنَ هُوَ الْآنَ، قَالَ: وَأَمَّا إِسْلَامُهُ وَحَجُّهُ وَجِهَادُهُ، فَلَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ غَيْرُ الدَّجَّالِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُخْتَمَ لَهُ بِالشَّرِّ، فَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ فِي تَارِيخِ أَصْبَهَانَ مَا يُؤَيِّدُ كَوْنَ ابْنِ صَيَّادِ هُوَ الدَّجَّالُ، فَسَاقَ مِنْ طَرِيقِ شُبَيْلٍ بِمُعْجَمَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ مُصَغَّرًا آخِرُهُ لَامٌ، ابْنُ عَرْزَةَ بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ زَايٍ بِوَزْنِ ضَرْبَةَ، عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا افْتَتَحْنَا أَصْبَهَانَ كَانَ بَيْنَ عَسْكَرِنَا وَبَيْنَ الْيَهُودِيَّةِ فَرْسَخٌ، فَكُنَّا نَأْتِيهَا فَنَمْتَارَ مِنْهَا، فَأَتَيْتُهَا يَوْمًا فَإِذَا الْيَهُودُ يَزْفِنُونَ وَيَضْرِبُونَ، فَسَأَلْتُ صَدِيقًا لِي مِنْهُمْ، فَقَالَ: مَلِكُنَا الَّذِي نَسْتَفْتِحُ بِهِ عَلَى الْعَرَبِ يَدْخُلُ، فَبِتُّ عِنْدَهُ عَلَى سَطْحٍ فَصَلَّيْتُ الْغَدَاةَ، فَلَمَّا طَلَعَتِ الشَّمْسُ إِذَا لِرَهْجٍ مِنْ قِبَلِ الْعَسْكَرِ فَنَظَرْتُ، فَإِذَا رَجُلٌ عَلَيْهِ

قُبَّةٌ مِنْ رَيْحَانٍ وَالْيَهُودُ يَزْفِنُونَ وَيَضْرِبُونَ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ ابْنُ صَيَّادٍ، فَدَخَلَ الْمَدِينَةَ فَلَمْ يَعُدْ حَتَّى

ص: 327

السَّاعَةَ.

قُلْتُ: وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَّانَ مَا عَرَفْتُهُ وَالْبَاقُونَ ثِقَاتٌ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: فَقَدْنَا ابْنَ صَيَّادٍ يَوْمَ الْحَرَّةِ وَبِسَنَدٍ حَسَنٍ مَضَى التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ، فَقِيلَ: إِنَّهُ مَاتَ. قُلْتُ: وَهَذَا يُضَعِّفُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ، وَأَنَّهُمْ صَلَّوْا عَلَيْهِ وَكَشَفُوا عَنْ وَجْهِهِ، وَلَا يَلْتَئِمُ خَبَرُ جَابِرٍ هَذَا مَعَ خَبَرِ حَسَّانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ؛ لِأَنَّ فَتْحَ أَصْبَهَانَ كَانَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ، كَمَا أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي تَارِيخِهَا، وَبَيْنَ قَتْلِ عُمَرَ وَوَقْعَةِ الْحَرَّةِ نَحْوُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَيُمْكِنُ الْحَمْلُ عَلَى أَنَّ الْقِصَّةَ إِنَّمَا شَاهَدَهَا وَالِدُ حَسَّانَ بَعْدَ فَتْحِ أَصْبَهَانَ بِهَذِهِ الْمُدَّةِ، وَيَكُونُ جَوَابُ لَمَّا فِي قَوْلِهِ: لَمَّا افْتَتَحْنَا أَصْبَهَانَ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: صِرْتُ أَتَعَاهَدُهَا وَأَتَرَدَّدُ إِلَيْهَا فَجَرَتْ قِصَّةُ ابْنِ صَيَّادٍ، فَلَا يَتَّحِدُ زَمَانُ فَتْحِهَا وَزَمَانُ دُخُولِهَا ابْنِ صَيَّادٍ.

وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ مَرْفُوعًا: إِنَّ الدَّجَّالَ يَخْرُجُ مِنْ أَصْبَهَانَ، وَمِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ حِينَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ: لَكِنَّ عِنْدَهُ مِنْ يَهُودِيَّةِ أَصْبَهَانَ، قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي تَارِيخِ أَصْبَهَانَ: كَانَتِ الْيَهُودِيَّةُ مِنْ جُمْلَةِ قُرَى أَصْبَهَانَ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ الْيَهُودِيَّةَ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ تَخْتَصُّ بِسُكْنَى الْيَهُودِ، قَالَ: وَلَمْ تَزَلْ عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَنْ مَصَّرَهَا أَيُّوبَ بْنَ زِيَادٍ أَمِيرِ مِصْرَ فِي زَمَنِ الْمَهْدِيِّ بْنِ الْمَنْصُورِ، فَسَكَنَهَا الْمُسْلِمُونَ وَبَقِيَتْ لِلْيَهُودِ مِنْهَا قِطْعَةٌ مُنْفَرِدَةٌ، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا قَالَ: يَتْبَعُ الدَّجَّالَ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ يَهُودِ أَصْبَهَانَ فَلَعَلَّهَا كَانَتْ يَهُودِيَّةَ أَصْبَهَانَ، يُرِيدُ الْبَلَدَ الْمَذْكُورَ لَا أَنَّ الْمُرَادَ جَمِيعُ أَهْلِ أَصْبَهَانَ يَهُودَ، وَأَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي يَتْبَعُ الدَّجَّالَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَذَكَرَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ أَحَادِيثَ تَتَعَلَّقُ بِالدَّجَّالِ وَخُرُوجِهِ إِذَا ضُمَّتْ إِلَى مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْفِتَنِ انْتَظَمَتْ مِنْهَا لَهُ تَرْجَمَةٌ تَامَّةٌ، مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، وَشُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ، وَعَمْرِو بْنِ الْأَسْوَدِ، وَكَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ، قَالُوا جَمِيعًا: الدَّجَّالُ لَيْسَ هُوَ إِنْسَانٌ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ مُوثَقٌ بِسَبْعِينَ حَلْقَةٍ فِي بَعْضِ جَزَائِرِ الْيَمَنِ، لَا يَعْلَمُ مَنْ أَوْثَقَهُ سُلَيْمَانُ النَّبِيُّ أَوْ غَيْرُهُ، فَإِذَا آنَ ظُهُورُهُ فَكَّ اللَّهُ عَنْهُ كُلَّ عَامٍ حَلْقَةً.

فَإِذَا بَرَزَ أَتَتْهُ أَتَانُ عَرْضُ مَا بَيْنَ أُذُنَيْهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا فَيَضَعُ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْبَرًا مِنْ نُحَاسٍ وَيَقْعُدُ عَلَيْهِ وَيَتْبَعُهُ قَبَائِلُ الْجِنِّ يُخْرِجُونَ لَهُ خَزَائِنَ الْأَرْضِ.

قُلْتُ: وَهَذَا لَا يُمْكِنُ مَعَهُ كَوْنُ ابْنِ صَيَّادٍ هُوَ الدَّجَّالِ، وَلَعَلَّ هَؤُلَاءِ مَعَ كَوْنِهِمْ ثِقَاتٍ تَلَقَّوْا ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّ الدَّجَّالَ تَلِدُهُ أُمُّهُ بِقُوصٍ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، قَالَ: وَبَيْنَ مَوْلِدِهِ وَمَخْرَجِهِ ثَلَاثُونَ سَنَةً، قَالَ: وَلَمْ يَنْزِلْ خَبَرُهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ، انْتَهَى. وَأَخْلِقْ بِهَذَا الْخَبَرِ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا؛ فَإِنَّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ قَبْلَ نَبِيِّنَا أَنْذَرَ قَوْمَهُ الدَّجَّالَ. وَكَوْنُهُ يُولَدُ قَبْلَ مَخْرَجِهِ بِالْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ مُخَالِفٌ لِكَوْنِهِ ابْنَ صَيَّادٍ، وَلِكَوْنِهِ مُوَثَّقًا فِي جَزِيرَةٍ مِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ.

وَذَكَرَ ابْنُ وَصِيفٍ الْمُؤَرِّخُ أَنَّ الدَّجَّالَ مِنْ وَلَدِ شَقِّ الْكَاهِنِ الْمَشْهُورِ، قَالَ: وَقَالَ: بَلْ هُوَ شَقَّ نَفْسَهُ أَنْظَرَهُ اللَّهُ وَكَانَتْ أُمُّهُ جِنِّيَّةً عَشِقَتْ أَبَاهُ فَأَوْلَدَهَا، وَكَانَ الشَّيْطَانُ يَعْمَلُ لَهُ الْعَجَائِبَ، فَأَخَذَهُ سُلَيْمَانُ فَحَبَسَهُ فِي جَزِيرَةٍ مِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ، وَهَذَا أَيْضًا فِي غَايَةِ الْوَهْيِ، وَأَقْرَبُ مَا يُجْمَعُ بِهِ بَيْنَ مَا تَضَمَنَّهُ حَدِيثُ تَمِيمٍ وَكَوْنِ ابْنِ صَيَّادٍ هُوَ الدَّجَّالُ، أَنَّ الدَّجَّالَ بِعَيْنِهِ هُوَ الَّذِي شَاهَدَهُ تَمِيمٌ مُوَثَّقًا، وَأَنَّ ابْنَ صَيَّادٍ شَيْطَانٌ تَبَدَّى فِي صُورَةِ الدَّجَّالِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ إِلَى أَنْ تَوَجَّهَ إِلَى أَصْبَهَانَ، فَاسْتَتَرَ مَعَ قَرِينِهِ إِلَى أَنْ تَجِيءَ الْمُدَّةُ الَّتِي قَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى خُرُوجَهُ فِيهَا، وَلِشِدَّةِ الْتِبَاسِ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ سَلَكَ الْبُخَارِيُّ مَسْلَكَ التَّرْجِيحِ، فَاقْتَصَرَ عَلَى حَدِيثِ جَابِرٍ، عَنْ عُمَرَ فِي ابْنِ صَيَّادٍ، وَلَمْ يُخْرِجْ حَدِيثَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فِي قِصَّةِ تَمِيمٍ، وَقَدْ تَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ غَرِيبٌ فَرُدَّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَقَدْ رَوَاهُ مَعَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَائِشَةُ، وَجَابِرٌ، أَمَّا أَبُو هُرَيْرَةَ فَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، عَنِ

ص: 328

الْمُحْرِزِ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أَبِيهِ بِطُولِهِ.

وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مُخْتَصَرًا وَابْنُ مَاجَهْ عَقِبَ رِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ عَنْ فَاطِمَةَ، قَالَ الشَّعْبِيُّ: فَلَقِيتُ الْمُحْرِزَ فَذَكَرَهُ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: اسْتَوَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي تَمِيمٌ - فَرَأَى تَمِيمًا فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ - فَقَالَ: يَا تَمِيمُ حَدِّثِ النَّاسَ بِمَا حَدَّثْتَنِي فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَإِذَا أَحَدُ مَنْخَرَيْهِ مَمْدُودٌ، وَإِحْدَى عَيْنَيْهِ مَطْمُوسَةٌ، الْحَدِيثَ وَفِيهِ: لَأَطَأَنَّ الْأَرْضَ بِقَدَمَيَّ هَاتَيْنِ إِلَّا مَكَّةَ وَطَابَا، وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَهُوَ فِي الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: ثُمَّ لَقِيتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ: أَشْهَدُ عَلَى عَائِشَةَ، حَدَّثَتْنِي بِمَا حَدَّثَتْكَ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ. وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمِنْبَرِ أَنَّهُ: بَيْنَمَا أُنَاسٌ يَسِيرُونَ فِي الْبَحْرِ فَنَفِدَ طَعَامُهُمْ، فَرُفِعَتْ لَهُمْ جَزِيرَةٌ فَخَرَجُوا يُرِيدُونَ الْخَبَرَ، فَلَقِيَتْهُمُ الْجَسَّاسَةُ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: سُؤَالُهُمْ عَنْ نَخْلِ بَيْسَانَ، وَفِيهِ أَنَّ جَابِرًا شَهِدَ أَنَّهُ ابْنُ صَيَّادٍ، فَقُلْتُ: إِنَّهُ قَدْ مَاتَ، قَالَ: وَإِنْ مَاتَ، قُلْتُ: فَإِنَّهُ أَسْلَمَ، قَالَ: وَإِنْ أَسْلَمَ، قُلْتُ: فَإِنَّهُ دَخَلَ الْمَدِينَةَ، قَالَ: وَإِنْ دَخَلَ الْمَدِينَةَ، وَفِي كَلَامِ جَابِرٍ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَمْرَهُ مُلَبَّسٌ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا ظَهَرَ مِنْ أَمْرِهِ إِذْ ذَاكَ لَا يُنَافِي مَا تَوَقَّعَ مِنْهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ.

وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ لَأَنْ أَحْلِفَ عَشْرَ مِرَاتٍ أَنَّ ابْنَ صَيَّادٍ هُوَ الدَّجَّالُ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ وَاحِدَةً أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوُهُ، لَكِنْ قَالَ: سَبْعًا بَدَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ الْحَلِفِ بِمَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ، وَمِنْ صُوَرِهِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ أَنَّ مَنْ وَجَدَ بِخَطِّ أَبِيهِ الَّذِي يَعْرِفُهُ أَنَّ لَهُ عِنْدَ شَخْصٍ مَالًا وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ صِدْقُهُ أَنَّ لَهُ إِذَا طَالَبَهُ، وَتَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الْبَتِّ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ قَبْضَ ذَلِكَ مِنْهُ.

‌24 - بَاب الْأَحْكَامِ الَّتِي تُعْرَفُ بِالدَّلَائِلِ، وَكَيْفَ مَعْنَى الدِّلَالَةِ وَتَفْسِيرُهَا،

وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَمْرَ الْخَيْلِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ سُئِلَ عَنْ الْحُمُرِ فَدَلَّهُمْ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} وَسُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الضَّبِّ فَقَالَ: لَا آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ، وَأُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الضَّبُّ، فَاسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ

7356 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْخَيْلُ لِثَلَاثَةٍ؛ لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ، فَأَمَّا الَّذِي لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَطَالَ فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ، فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا ذَلِكَ الْمَرْجِ وَالرَّوْضَةِ كَانَ لَهُ حَسَنَاتٍ، وَلَوْ أَنَّهَا قَطَعَتْ طِيَلَهَا فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ كَانَتْ آثَارُهَا وَأَرْوَاثُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ، وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ تُسْقَى بِهِ كَانَ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ لَهُ، وَهِيَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ أَجْرٌ، وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا، وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَلَا ظُهُورِهَا، فَهِيَ لَهُ سِتْرٌ، وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِيَاءً، فَهِيَ عَلَى ذَلِكَ وِزْرٌ. وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْحُمُرِ قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ فِيهَا إِلَّا هَذِهِ الْآيَةَ الْفَاذَّةَ الْجَامِعَةَ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ

ص: 329

ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}.

7357 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ صَفِيَّةَ عَنْ أُمِّهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ح و حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ عُقْبَةَ حَدَّثَنَا الْفُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ النُّمَيْرِيُّ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنُ شَيْبَةَ حَدَّثَتْنِي أُمِّي عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْحَيْضِ كَيْفَ تَغْتَسِلُ مِنْهُ قَالَ تَأْخُذِينَ فِرْصَةً مُمَسَّكَةً فَتَوَضَّئِينَ بِهَا قَالَتْ كَيْفَ أَتَوَضَّأُ بِهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تَوَضَّئِي قَالَتْ كَيْفَ أَتَوَضَّأُ بِهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تَوَضَّئِينَ بِهَا قَالَتْ عَائِشَةُ فَعَرَفْتُ الَّذِي يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَذَبْتُهَا إِلَيَّ فَعَلَّمْتُهَا

7358 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أُمَّ حُفَيْدٍ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ حَزْنٍ أَهْدَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَمْنًا وَأَقِطًا وَأَضُبًّا فَدَعَا بِهِنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأُكِلْنَ عَلَى مَائِدَتِهِ فَتَرَكَهُنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَالْمُتَقَذِّرِ لَهُنَّ وَلَوْ كُنَّ حَرَامًا مَا أُكِلْنَ عَلَى مَائِدَتِهِ وَلَا أَمَرَ بِأَكْلِهِنَّ

7359 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا فَلْيَعْتَزِلْنَا أَوْ لِيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ وَإِنَّهُ أُتِيَ بِبَدْرٍ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ يَعْنِي طَبَقًا فِيهِ خَضِرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا فَسَأَلَ عَنْهَا فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنْ الْبُقُولِ فَقَالَ قَرِّبُوهَا فَقَرَّبُوهَا إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ كَانَ مَعَهُ فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا قَالَ كُلْ فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي وَقَالَ ابْنُ عُفَيْرٍ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ بِقِدْرٍ فِيهِ خَضِرَاتٌ وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّيْثُ وَأَبُو صَفْوَانَ عَنْ يُونُسَ قِصَّةَ الْقِدْرِ فَلَا أَدْرِي هُوَ مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ أَوْ فِي الْحَدِيثِ

7360 -

حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي وَعَمِّي قَالَا حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ أَبِيهِ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَنَّ أَبَاهُ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَلَّمَتْهُ فِي شَيْءٍ فَأَمَرَهَا بِأَمْرٍ فَقَالَتْ أَرَأَيْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ لَمْ أَجِدْكَ قَالَ إِنْ لَمْ تَجِدِينِي فَأْتِي أَبَا بَكْرٍ زَادَ لَنَا الْحُمَيْدِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ كَأَنَّهَا تَعْنِي الْمَوْتَ

قَوْلُهُ: (بَابُ الْأَحْكَامِ الَّتِي تُعْرَفُ بِالدَّلَائِلِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: بِالدَّلِيلِ بِالْإِفْرَادِ، وَالدَّلِيلُ مَا يُرْشِدُ إِلَى الْمَطْلُوبِ وَيَلْزَمُ مِنَ الْعِلْمِ بِهِ الْعِلْمُ بِوُجُودِ الْمَدْلُولِ، وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ مَنْ أَرْشَدَ قَاصِدَ مَكَانٍ مَا إِلَى الطَّرِيقِ

ص: 330

الْمُوَصِّلِ إِلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (وَكَيْفَ مَعْنَى الدَّلَالَةِ وَتَفْسِيرُهَا) يَجُوزُ فِي الدَّلَالَةِ فَتْحُ الدَّالِ وَكَسْرِهَا وَحُكِيَ الضَّمُّ وَالْفَتْحُ أَعْلَى، وَالْمُرَادُ بِهَا فِي عُرْفِ الشَّرْعِ الْإِرْشَادُ إِلَى أَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ الْخَاصِّ الَّذِي لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ خَاصٌّ دَاخِلٌ تَحْتَ حُكْمِ دَلِيلٍ آخَرَ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ فَهَذَا مَعْنَى الدَّلَالَةِ، وَأَمَّا تَفْسِيرُهَا فَالْمُرَادُ بِهِ تَبْيِينُهَا وَهُوَ تَعْلِيمُ الْمَأْمُورِ كَيْفِيَّةَ مَا أُمِرَ بِهِ، وَإِلَى ذَلِكَ الْإِشَارَةُ فِي ثَانِي أَحَادِيثِ الْبَابِ، وَيُسْتَفَادُ مِنَ التَّرْجَمَةِ بَيَانُ الرَّأْيِ الْمَحْمُودِ، وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ مِمَّا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ بِطَرِيقِ التَّنْصِيصِ وَبِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ، فَيَنْدَرِجُ فِي ذَلِكَ الِاسْتِنْبَاطُ، وَيَخْرُجُ الْجُمُودُ عَلَى الظَّاهِرِ الْمَحْضِ.

قَوْلُهُ: (وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَمْرِ الْخَيْلِ إِلَخْ) يُشِيرُ إِلَى أَوَّلِ أَحَادِيثِ الْبَابِ، وَمُرَادُهُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} إِلَى آخَرِ السُّورَةِ عَامٌّ فِي الْعَامِلِ وَفِي عَمَلِهِ، وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا بَيَّنَ حُكْمَ اقْتِنَاءِ الْخَيْلِ وَأَحْوَالِ مُقْتَنِيهَا وَسُئِلَ عَنِ الْحُمُرِ، أَشَارَ إِلَى أَنَّ حُكْمَهَا وَحُكْمَ الْخَيْلِ وَحُكْمَ غَيْرِهَا مُنْدَرِجٌ فِي الْعُمُومِ الَّذِي يُسْتَفَادُ مِنَ الْآيَةِ.

قَوْلُهُ: (وَسُئِلَ عَنِ الضَّبِّ إِلَخْ) يُشِيرُ إِلى ثَالِثِ أَحَادِيثِ الْبَابِ، وَمُرَادُهُ بَيَانُ حُكْمِ تَقْرِيرِهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّهُ يُفِيدُ الْجَوَازَ إِلَى أَنْ تُوجَدَ قَرِينَةٌ تَصْرِفُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ خَمْسَةَ أَحَادِيثَ.

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْخَيْلُ لِثَلَاثَةٍ وَقَدْ مَضَى شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ.

قَوْلُهُ: (وَسُئِلَ) أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَاسْمُ السَّائِلِ عَنْ ذَلِكَ يُمْكِنُ أَنْ يُفَسَّرَ بِصَعْصَعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَمِّ الْأَحْنَفِ التَّمِيمِيِّ، وَحَدِيثُهُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ فِي التَّفْسِيرِ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَلَفْظُهُ: قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ - إِلَى آخَرِ السُّورَةِ - قَالَ: مَا أُبَالِي أَنْ لَا أَسْمَعَ غَيْرَهَا، حَسْبِي حَسْبِي، وَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الْمُهَلَّبِ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ حُجَّةٌ فِي إِثْبَاتِ الْقِيَاسِ، وَفِيهِ نَظَرٌ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ عِنْدَ شَرْحِهِ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ وَأَشَرْتُ إِلَيْهِ فِي بَابِ تَعْلِيمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُمَّتَهُ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ غَيْرُ مَنْسُوبٍ، وَصَنِيعُ ابْنِ السَّكَنِ يَقْتَضِي أَنَّهُ ابْنُ مُوسَى الْبَلْخِيُّ، وَتَقَدَّمَتْ إِلَيْهِ الْإِشَارَةُ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ وَجَزَمَ الْكَلَابَاذِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ كَالْبَيْهَقِيِّ بِأَنَّهُ ابْنُ جَعْفَرٍ الْبِيكَنْدِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ مَنْصُورِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، وَهُوَ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ الْحُمَيْدِيِّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَالِدُ مَنْصُورٍ الْمَذْكُورِ هُوَ ابْنُ طَلْحَةَ بْنِ الْحَارِثِ، عَنِ ابْنِ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ الْعَبْدَرِيِّ الْحَجَبِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ، وَوَقَعَ هُنَا مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْن شَيْبَةَ وَشَيْبَةُ إِنَّمَا هُوَ جَدُّ مَنْصُورٍ لِأُمِّهِ؛ لِأَنَّ اسْمَ أُمِّهِ صَفِيَّةُ بِنْتُ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْحَجَبِيِّ، وَعَلَى هَذَا فَيُكْتَبُ ابْنُ شَيْبَةَ بِالْأَلِفِ وَيُعْرَبُ إِعْرَابَ مَنْصُورٍ لَا إِعْرَابَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَقَدْ تَفَطَّنَ لِذَلِكَ الْكِرْمَانِيُّ هُنَا وَلِصَفِيَّةَ وَلِأَبِيهَا صُحْبَةٌ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَذَا ذَكَرَ مِنَ الْمَتْنِ أَوَّلَهُ ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى السَّنَدِ الثَّانِي، وَمُحَمَّدُ بْنُ عُقْبَةَ شَيْخُهُ هُوَ الشَّيْبَانِيُّ يُكْنَى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فِيمَا جَزَمَ بِهِ الْكَلَابَاذِيُّ، وَحَكَى الْمِزِّيُّ أَنَّهُ يُكْنَى أَبَا جَعْفَرٍ وَهُوَ كُوفِيٌّ، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَيْسَ بِالْمَشْهُورِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ رَوَى عَنْهُ مَعَ الْبُخَارِيِّ، يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ وَآخَرُونَ وَوَثَّقَهُ مُطَيَّنٌ وَابْنُ عَدِيٍّ وَغَيْرُهُمَا، قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: مَاتَ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ.

قُلْتُ: فَهُوَ مِنْ قُدَمَاءِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، مَا لَهُ عِنْدَهُ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ فِيمَا ذَكَرَ الْكَلَابَاذِيُّ، لَكِنَّهُ مُتَعَقَّبٌ بِأَنَّ لَهُ مَوْضِعًا آخَرَ، تَقَدَّمَ فِي الْجُمُعَةِ وَآخَرُ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ، وَلَهُ فِي الْأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ عِنْدَهُ مُتَابِعٌ، فَمَا أَخْرَجَ لَهُ شَيْئًا اسْتِقْلَالًا، وَلَكِنَّهُ سَاقَ الْمَتْنَ هُنَا عَلَى لَفْظِهِ، وَأَمَّا لَفْظُ ابْنِ عُيَيْنَةَ فِيهِ فَتَقَدَّمَ فِي الطَّهَارَةِ، وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ أَنَّ اسْمَ الْمَرْأَةِ السَّائِلَةِ أَسْمَاءُ بِنْتُ شَكَلٍ - بِمُعْجَمَةٍ وَكَافٍ مَفْتُوحَتَيْنِ ثُمَّ لَامٍ - وَقِيلَ اسْمُ أَبِيهَا غَيْرُ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ مَعَ سَائِرِ شَرْحِهِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَمْ تَفْهَمِ السَّائِلَةُ غَرَضَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ تَعْرِفُ أَنَّ تَتَبُّعَ الدَّمِ بِالْفِرْصَةِ يُسَمَّى تَوَضُّؤًا إِذَا اقْتَرَنَ بِذِكْرِ الدَّمِ وَالْأَذَى،

ص: 331

وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِكَوْنِهِ مِمَّا يُسْتَحَيا مِنْ ذِكْرِهِ ; فَفَهِمَتْ عَائِشَةُ غَرَضَهُ فَبَيَّنَتْ لِلْمَرْأَةِ مَا خَفِيَ عَلَيْهَا مِنْ ذَلِكَ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمُجْمَلَ يُوقَفُ عَلَى بَيَانِهِ مِنَ الْقَرَائِنِ وَتَخْتَلِفُ الْأَفْهَامُ فِي إِدْرَاكِهِ، وَقَدْ عَرَّفَ أَئِمَّةُ الْأُصُولِ الْمُجْمَلَ بِمَا لَمْ تَتَّضِحْ دَلَالَتُهُ وَيَقَعُ فِي اللَّفْظِ الْمُفْرَدِ كَالْقُرْءِ لِاحْتِمَالِهِ الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ، وَفِي الْمُرَكَّبِ مِثْلَ: أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ؛ لِاحْتِمَالِهِ الزَّوْجِ وَالْوَلِيِّ، وَمِنَ الْمُفْرَدِ الْأَسْماءُ الشَّرْعِيَّةُ مِثْلَ:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} فَقِيلَ هُوَ مُجْمَلٌ لِصَلَاحِيَّتِهِ لِكُلِّ صَوْمٍ وَلَكِنَّهُ بُيِّنَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى شَهْرُ رَمَضَانَ، وَنَحْوُهُ حَدِيثُ الْبَابِ فِي قَوْلِهِ: تَوَضَّئِي فَإِنَّهُ وَقَعَ بَيَانُهُ لِلسَّائِلَةِ بِمَا فَهِمَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ

اللَّهُ عَنْهَا وَأُقِرَّتْ عَلَى ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ.

قَوْلُهُ: (أُمَّ حُفَيْدٍ) بِمُهْمَلَةٍ وَفَاءٍ مُصَغَّرٌ اسْمُهَا: هُزَيْلَةُ بِزَايٍ مُصَغَّرٌ بِنْتُ الْحَارِثَةِ الْهِلَالِيَّةِ، أُخْتُ مَيْمُونَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَهِيَ خَالَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَخَالَةُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَاسْمُ أُمِّ كُلٍّ مِنْهُمَا لُبَابَةُ بِضَمِّ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ أُخْرَى.

قَوْلُهُ: (وَأَضُبًّا) بِضَمِّ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ جَمْعُ ضَبٍّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِالْإِفْرَادِ.

قَوْلُهُ: (كَالْمُتَقَذِّرِ لَهُنَّ) بِقَافِ وَمُعْجَمَةٍ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: لَهُ وَكَذَا فِي قَوْلِهِ: مَا أُكِلْنَ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ هَذَا الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ.

وَقَالَ ابْنُ عُفَيْرٍ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ: بِقِدْرٍ فِيهِ خَضِرَاتٌ.

وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّيْثُ وَأَبُو صَفْوَانَ عَنْ يُونُسَ قِصَّةَ الْقِدْرِ، فَلَا أَدْرِي هُوَ مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ أَوْ فِي الْحَدِيثِ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: حَدِيثُ جَابِرٍ فِي أَكْلِ الثَّوْمِ وَالْبَصَلِ.

قَوْلُهُ: (وَلْيَقْعُدْ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: أَوْ لِيَقْعُدْ بِزِيَادَةِ الْأَلِفِ فِي أَوَّلِهِ.

قَوْلُهُ: (أُتِيَ بِبَدْرٍ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: يَعْنِي طَبَقًا) هُوَ مَوْصُولٌ بِسَنَدِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ: (فَقَرَّبُوهَا إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ كَانَ مَعَهُ) هُوَ مَنْقُولٌ بِالْمَعْنَى؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ صلى الله عليه وسلم قَرِّبُوهَا لِأَبِي أَيُّوبَ فَكَأَنَّ الرَّاوِيَ لَمْ يَحْفَظْهُ فَكَنَّى عَنْهُ بِذَلِكَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَيَّنَهُ ففيه الْتِفَاتٌ؛ لِأَنَّ نَسَقَ الْعِبَارَةِ أَنْ يَقُولَ: إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِي، وَيُؤَيِّدُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي قَوْلُهُ بَعْدَهُ: كَانَ مَعَهُ.

قَوْلُهُ: (فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا) فَاعِلُ كَرِهَ هُوَ أَبُو أَيُّوبَ وَفِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَلَمَّا رَآهُ امْتَنَعَ مِنْ أَكْلِهَا وَأَمَرَ بِتَقْرِيبِهَا إِلَيْهِ، كَرِهَ أَكْلَهَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ فَلَمَّا رَآهُ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهَا كَرِهَ أَكْلَهَا وَكَانَ أَبُو أَيُّوبَ اسْتَدَلَّ بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ مُتَابَعَتِهِ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ فَلَمَّا امْتَنَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَكْلِ تِلْكَ الْبُقُولِ تَأَسَّى بِهِ فَبَيَّنَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَجْهَ تَخْصِيصِهِ فَقَالَ: إِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي رِوَايَةٍ لَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الصَّلَاةِ قَبْلَ كِتَابِ الْجُمُعَةِ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ أُوذِيَ صَاحِبِي وَعِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ: إِنِّي أَسْتَحْيِي مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ وَلَيْسَ بِمُحَرَّمٍ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: قَوْلُهُ: قَرِّبُوهَا نَصٌّ عَلَى جَوَازِ الْأَكْلِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: فَإِنِّي أُنَاجِي إِلَخْ. قُلْتُ: وَتَكْمِلَتُهُ مَا ذَكَرْتُهُ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَفْضِيلِ الْمَلَكِ عَلَى الْبَشَرِ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِمَنْ كَانَ صلى الله عليه وسلم يُنَاجِيهِ مَنْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْوَحْيِ وَهُوَ فِي الْأَغْلَبِ الْأَكْثَرِ جِبْرِيلُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ جِبْرِيلَ عَلَى مِثْلِ أَبِي أَيُّوبَ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِمَّنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ أَبِي أَيُّوبَ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ نَبِيًّا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَفْضِيلِ بَعْضِ الْأَفْرَادِ عَلَى بَعْضٍ تَفْضِيلُ جَمِيعِ الْجِنْسِ عَلَى جَمِيعِ الْجِنْسِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عُفَيْرٍ) هُوَ سَعِيدُ بْنُ كَثِيرِ بْنِ عُفَيْرٍ بِمُهْمَلَةٍ وَفَاءٍ مُصَغَّرٌ نُسِبَ لِجَدِّهِ وَهُوَ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ صَرَّحَ بِتَحْدِيثِهِ لَهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ وَسَاقَهُ عَلَى لَفْظِهِ، وَسَاقَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ الَّذِي سَاقَهُ هُنَا قِطْعَةً مِنْهُ، وَزَادَ هُنَاكَ عَنِ اللَّيْثِ، وَأَبِي صَفْوَانَ طَرَفًا مِنْهُ مُعَلَّقًا وَذَكَرْتُ هُنَاكَ مَنْ وَصَلَهُمَا.

زَادَ الْحُمَيْدِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ: كَأَنَّهَا تَعْنِي الْمَوْتَ.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: (قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا أَبِي وَعَمِّي) اسْمُ عَمِّهِ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ الدِّمْيَاطِيُّ: مَاتَ يَعْقُوبُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَمِائَتَيْنِ وَكَانَ أَصْغَرَ مِنْ أَخِيهِ سَعْدٍ، انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ، وَاتَّفَقَا عَلَى أَخِيهِ، انْتَهَى. وَظَنَّ بَعْضُ مَنْ نَقَلَ كَلَامَهُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: أَخِيهِ لِيَعْقُوبَ، وَمُقْتَضَاهُ أَنْ

ص: 332

يَكُونَ اتَّفَقَا عَلَى التَّخْرِيجِ لِسَعْدٍ، ثُمَّ اعْتَرَضَ بِأَنَّ الْوَاقِعَ خِلَافُهُ وَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ، وَالِاعْتِرَاضُ سَاقِطٌ، وَالضَّمِيرُ إِنَّمَا هُوَ لِسَعْدٍ وَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ يَعْقُوبُ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ لِأَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَهُوَ سَعِيدٌ لَا لِيَعْقُوبَ الْمُحَدَّثِ عَنْهُ أَوَّلًا.

قَوْلُهُ: (قَالَا حَدَّثَنَا أَبِي) أَيْ: قَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ امْرَأَةً) تَقَدَّمَ في مَنَاقِبِ الصِّدِّيقِ شَرْحُ الْحَدِيثِ، وَأَنَّهَا لَمْ تُسَمَّ.

قَوْلُهُ: (زَادَ لَنَا الْحُمَيْدِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ إِلَخْ) يُرِيدُ بِالسَّنَدِ الَّذِي قَبْلَهُ وَالْمَتْنِ كُلِّهِ، وَالْمَزِيدُ هُوَ قَوْلُهُ: كَأَنَّهَا تَعْنِي الْمَوْتَ، وَقَدْ مَضَى فِي مَنَاقِبِ الصِّدِّيقِ بِلَفْظِ: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَا: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ وَسَاقَهُ بِتَمَامِهِ وَفِيهِ الزِّيَادَةُ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّهُ إِذَا قَالَ: زَادَنَا، وَزَادَ لَنَا، وَكَذَا: زَادَنِي، وَزَادَ لِي، وَيَلْتَحِقُ بِهِ، قَالَ لَنَا، وَقَالَ لِي، وَمَا أَشْبَهَهَا، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: حَدَّثَنَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَنَّهُ حَمَلَ ذَلِكَ عَنْهُ سَمَاعًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَجِيزُهَا فِي الْإِجَازَةِ وَمَحَلُّ الرَّدِّ مَا يُشْعِرُ بِهِ كَلَامُ الْقَائِلِ مِنَ التَّعْمِيمِ، وَقَدْ وُجِدَ لَهُ فِي مَوْضِعِ زَادَنَا: حَدَّثَنَا، وَذَلِكَ لَا يَدْفَعُ احْتِمَالَ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَجِيزُ فِي الْإِجَازَةِ أَنْ يَقُولَ: قَالَ لَنَا، وَلَا يَسْتَجِيزُ: حَدَّثَنَا، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: اسْتَدَلَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِظَاهِرِ قَوْلِهَا: فَإِنْ لَمْ أَجِدْكَ أَنَّهَا أَرَادَتِ الْمَوْتَ، فَأَمَرَهَا بِإِتْيَانِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: وَكَأَنَّهُ اقْتَرَنَ بِسُؤَالِهَا حَالَةَ أَفْهَمَتْ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ تَنْطِقْ بِهَا، قُلْتُ: وَإِلَى ذَلِكَ وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ فِي الطَّرِيقِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا الَّتِي فِيهَا: كَأَنَّهَا تَعْنِي الْمَوْتَ لَكِنَّ قَوْلَهَا: فَإِنْ لَمْ أَجِدْكَ أَعَمُّ فِي النَّفْيِ مِنْ حَالِ الْحَيَاةِ وَحَالِ الْمَوْتِ ; وَدَلَالَتُهُ لَهَا عَلَى أَبِي بَكْرٍ مُطَابِقٌ لِذَلِكَ الْعُمُومِ، وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ هُوَ الْخَلِيفَةُ بَعْدَ

النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَحِيحٌ، لَكِنْ بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ لَا التَّصْرِيحِ، وَلَا يُعَارِضُ جَزْمَ عُمَرَ بِأَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْتَخْلِفْ؛ لِأَنَّ مُرَادَهُ نَفْيُ النَّصِّ عَلَى ذَلِكَ صَرِيحًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: مُنَاسَبَةُ هَذَا الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ أَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَمُنَاسَبَةُ الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمَلَكَ يَتَأَذَّى بِالرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ.

قُلْتُ: فِي هَذَا الثَّانِي نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ: فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ، فَهَذَا حُكْمٌ يُعْرَفُ بِالنَّصِّ وَالتَّرْجَمَة، حُكْمٌ يُعْرَفُ بِالِاسْتِدْلَالِ، فَالَّذِي قَالَهُ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ مُسْتَقِيمٌ بِخِلَافِ هَذَا، وَالَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ مِنَ اسْتِدْلَالِ أَبِي أَيُّوبَ عَلَى كَرَاهِيَةِ أَكْلِ الثُّومِ بِامْتِنَاعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ جِهَةِ عُمُومِ التَّأَسِّي أَقْرَبُ مِمَّا قَالَهُ.

‌25 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَا تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ

7361 -

وَقَالَ أَبُو الْيَمَانِ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، سَمِعَ مُعَاوِيَةَ يُحَدِّثُ رَهْطًا مِنْ قُرَيْشٍ بِالْمَدِينَةِ، وَذَكَرَ كَعْبَ الْأَحْبَارِ فَقَالَ: إِنْ كَانَ مِنْ أَصْدَقِ هَؤُلَاءِ الْمُحَدِّثِينَ الَّذِينَ يُحَدِّثُونَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِنْ كُنَّا مَعَ ذَلِكَ لَنَبْلُو عَلَيْهِ الْكَذِبَ.

7362 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الإِسْلَامِ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} الْآيَةَ

7363 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ

ص: 333

ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ وَكِتَابُكُمْ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْدَثُ تَقْرَءُونَهُ مَحْضًا لَمْ يُشَبْ وَقَدْ حَدَّثَكُمْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بَدَّلُوا كِتَابَ اللَّهِ وَغَيَّرُوهُ وَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِمْ الْكِتَابَ وَقَالُوا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أَلَا يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنْ الْعِلْمِ عَنْ مَسْأَلَتِهِمْ لَا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُمْ رَجُلًا يَسْأَلُكُمْ عَنْ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَا تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ لَفْظُ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ: أَنَّ عُمَرَ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِ، فَغَضِبَ وَقَالَ: لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ، أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي وَرِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ إِلَّا أَنَّ فِي مُجَالِدٍ ضَعْفًا، وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ: أَنَّ عُمَرَ نَسَخَ صَحِيفَةً مِنَ التَّوْرَاةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ وَفِي سَنَدِهِ جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَاسْتَعْمَلَهُ فِي التَّرْجَمَةِ لِوُرُودِ مَا يَشْهَدُ بِصِحَّتِهِ مِنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ حُرَيْثِ بْنِ ظَهِيرٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَا تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ؛ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوكُمْ وَقَدْ أَضَلُّوا أَنْفُسَهُمْ، فَتُكَذِّبُوا بِحَقٍّ، أَوْ تُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ، وَأَخْرَجَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ: لَا تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ؛ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوكُمْ وَقَدْ ضَلُّوا، أَنْ تُكَذِّبُوا بِحَقٍّ، أَوْ تُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ وَسَنَدُهُ حَسَنٌ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الْمُهَلَّبِ: هَذَا النَّهْيُ إِنَّمَا هُوَ فِي سُؤَالِهِمْ عَمَّا لَا نَصَّ فِيهِ؛ لِأَنَّ شَرْعَنَا مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ نَصٌّ فَفِي النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ غِنًى عَنْ

سُؤَالِهِمْ، وَلَا يَدْخُلُ فِي النَّهْيِ سُؤَالُهُمْ عَنِ الْأَخْبَارِ الْمُصَدِّقَةِ لِشَرْعِنَا وَالْأَخْبَارِ عَنِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى:{فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} فَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ، وَالنَّهْيُ إِنَّمَا هُوَ عَنْ سُؤَالِ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ مِنْهُمْ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ يَخْتَصُّ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَالنَّهْيُ عَمَّا سِوَى ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو الْيَمَانِ) كَذَا عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَلَمْ أَرَهُ بِصِيغَةِ حَدَّثَنَا، وَأَبُو الْيَمَانِ مِنْ شُيُوخِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَخَذَهُ عَنْهُ مُذَاكَرَةً، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَرَكَ التَّصْرِيحَ بِقَوْلِهِ حَدَّثَنَا؛ لِكَوْنِهِ أَثَرًا مَوْقُوفًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا فَاتَهُ سَمَاعُهُ، ثُمَّ وَجَدْتُ الْإِسْمَاعِيلِيَّ أَخْرَجَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ الطَّيَالِسِيِّ، عَنِ الْبُخَارِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فَذَكَرَهُ، فَظَهَرَ أَنَّهُ مَسْمُوعٌ لَهُ، وَتَرَجَّحَ الِاحْتِمَالُ الثَّانِي، ثُمَّ وَجَدْتُهُ فِي التَّارِيخِ الصَّغِيرِ لِلْبُخَارِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ.

قَوْلُهُ: (حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) أَيِ: ابْنِ عَوْفٍ، وَقَوْلُهُ: سَمِعَ مُعَاوِيَةَ أَيْ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ، وَحَذْفُ أَنَّهُ يَقَعُ كَثِيرًا.

قَوْلُهُ: (رَهْطًا مِنْ قُرَيْشٍ) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِهِمْ، وَقَوْلُهُ: بِالْمَدِينَةِ يَعْنِي لَمَّا حَجَّ فِي خِلَافَتِهِ.

قَوْلُهُ: (إِنْ كَانَ مِنْ أَصْدَقِ) إِنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَمِنْ أَصْدَقِ بِزِيَادَةِ اللَّامِ الْمُؤَكِّدَةِ.

قَوْلُهُ: (يُحَدِّثُونَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) أَيِ الْقَدِيمُ، فَيَشْمَلُ التَّوْرَاةَ وَالصُّحُفَ، وَفِي رِوَايَةِ الذُّهْلِيِّ فِي الزُّهْرِيَّاتِ عَنْ أَبِي الْيَمَانِ بِهَذَا السَّنَدِ يَتَحَدَّثُونَ بِزِيَادَةِ مُثَنَّاةٍ.

قَوْلُهُ: (لَنَبْلُو) بِنُونٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ أَيْ نَخْتَبِرُ، وَقَوْلُهُ: عَلَيْهِ الْكَذِبَ أَيْ: يَقَعُ بَعْضُ مَا يُخْبِرُنَا عَنْهُ بِخِلَافِ مَا يُخْبِرُنَا بِهِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَهَذَا نَحْوُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي حَقِّ كَعْبٍ الْمَذْكُورِ بَدَلَ مَنْ قَبْلَهُ فَوَقَعَ فِي الْكَذِبِ، قَالَ: وَالْمُرَادُ بِالْمُحَدِّثِينَ: أَنْدَادُ كَعْبٍ مِمَّنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأَسْلَمَ فَكَانَ يُحَدِّثُ عَنْهُمْ، وَكَذَا مَنْ نَظَرَ فِي كُتُبِهِمْ فَحَدَّثَ عَمَّا فِيهَا، قَالَ: وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا مِثْلَ كَعْبٍ إِلَّا أَنَّ كَعْبًا كَانَ أَشَدَّ مِنْهُمْ بَصِيرَةً وَأَعْرَفَ بِمَا يَتَوَقَّاهُ، وَقَالَ

ص: 334

ابْنُ حِبَّانَ فِي كِتَابِ الثِّقَاتِ: أَرَادَ مُعَاوِيَةُ أَنَّهُ يُخْطِئُ أَحْيَانَا فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُ كَانَ كَذَّابًا، وَقَالَ غَيْرُهُ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: لَنَبْلُو عَلَيْهِ لِلْكِتَابِ لَا لِكَعْبٍ، وَإِنَّمَا يَقَعُ فِي كِتَابِهِمُ الْكَذِبَ؛ لِكَوْنِهِمْ بَدَّلُوهُ وَحَرَّفُوهُ، وَقَالَ عِيَاضٌ: يَصِحُّ عَوْدُهُ عَلَى الْكِتَابِ، وَيَصِحُّ عَوْدُهُ عَلَى كَعْبٍ وَعَلَى حَدِيثِهِ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدِ الْكَذِبَ وَيَتَعَمَّدْهُ إِذْ لَا يُشْتَرَطُ فِي مُسَمَّى الْكَذِبِ التَّعَمُّدُ، بَلْ هُوَ الْإِخْبَارُ عَنِ الشَّيْءِ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ فِيهِ تَجْرِيحٌ لِكَعْبٍ بِالْكَذِبِ، وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: الْمَعْنَى أَنَّ بَعْضَ الَّذِي يُخْبِرُ بِهِ كَعْبٌ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَكُونُ كَذِبًا لَا أَنَّهُ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ وَإِلَّا فَقَدْ كَانَ كَعْبٌ مِنْ أَخْيَارِ الْأَحْبَارِ، وَهُوَ كَعْبُ بْنُ مَاتِعٍ - بِكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ - ابْنِ

عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ مِنْ آلِ ذِي رَعِينٍ، وَقِيلَ: ذِي الْكَلَاعِ الْحِمْيَرِيِّ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ فِي اسْمِ جَدِّهِ وَنَسَبِهِ، يُكْنَى أَبَا إِسْحَاقَ، كَانَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا، وَكَانَ يَهُودِيًّا عَالِمًا بِكُتُبِهِمْ حَتَّى كَانَ يُقَالُ لَهُ كَعْبٌ الْحَبْرُ، وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ، وَكَانَ إِسْلَامُهُ فِي عَهْدِ عُمَرَ، وَقِيلَ: فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ أَسْلَمَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَأَخَّرَتْ هِجْرَتُهُ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ، وَالثَّانِي قَالَهُ أَبُو مُسْهِرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَسْنَدَهُ ابْنُ مَنْدَهْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، وَسَكَنَ الْمَدِينَةَ وَغَزَا الرُّومَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ، ثُمَّ تَحَوَّلَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ إِلَى الشَّامِ فَسَكَنَهَا إِلَى أَنْ مَاتَ بِحِمْصٍ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ، قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: ذَكَرُوهُ لِأَبِي الدَّرْدَاءِ فَقَالَ: إِنَّ عِنْدَ ابْنِ الْحِمْيَرِيَّةِ لَعِلْمًا كَثِيرًا، وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَةُ أَلَا إِنَّ كَعْبَ الْأَحْبَارِ أَحَدُ الْعُلَمَاءِ، إِنْ كَانَ عِنْدَهُ لَعِلْمٌ كَالْبِحَارِ وَإِنْ كُنَّا فِيهِ لَمُفَرِّطِينَ، وَفِي تَارِيخِ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ قَالَ: مَا أَصَبْتُ فِي سُلْطَانِي شَيْئًا إِلَّا قَدْ أَخْبَرَنِي بِهِ كَعْبٌ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ. ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ.

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ:

قَوْلُهُ: (كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَؤُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ) تَقَدَّمَ بِهَذَا السَّنَدِ وَالْمَتْنِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودُ، لَكِنَّ الْحُكْمَ عَامٌّ فَيَتَنَاوَلُ النَّصَارَى.

قَوْلُهُ: (لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ) هَذَا لَا يُعَارِضُ حَدِيثَ التَّرْجَمَةِ؛ فَإِنَّهُ نَهْيٌ عَنِ السُّؤَالِ، وَهَذَا نَهْيٌ عَنِ التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ، فَيُحْمَلُ الثَّانِي عَلَى مَا إِذَا بَدَأَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ بِالْخَبَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُ النَّهْيِ عَنِ التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ) هُوَ ابْنُ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمَذْكُورُ قَرِيبًا.

قَوْلُهُ: (كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ؟) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: عَنْ كُتُبِهِمْ.

قَوْلُهُ: (وَكِتَابُكُمُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِهِ أَحْدَثُ) كَذَا وَقَعَ مُخْتَصَرًا هُنَا، وَتَقَدَّمَ بِلَفْظِ: أَحْدَثُ الْكُتُبِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ: وَعِنْدَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ أَحْدَثُ الْكُتُبِ عَهْدًا بِاللَّهِ وَتَقَدَّمَ تَوْجِيهُ أَحْدَثُ، وَيَأْتِي، وَقَوْلُهُ: لَا يَنْهَاكُمْ اسْتِفْهَامٌ مَحْذُوفُ الْأَدَاةِ بِدَلِيلِ مَا تَقَدَّمَ فِي الشَّهَادَاتِ: أَوَلَا يَنْهَاكُمْ، وَقَوْلُهُ: عَنْ مَسْأَلَتِهِمْ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: عَنْ مُسَاءَلَتِهِمْ بِضَمِّ أَوَّلِهِ بِوَزْنِ الْمُفَاعَلَةِ.

‌26 - بَاب كَرَاهِيَةِ الْخِلَافِ

7364 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سَلَّامِ بْنِ أَبِي مُطِيعٍ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اقْرَءُوا الْقُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ قُلُوبُكُمْ، فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا عَنْهُ.

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: سَمِعَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، سَلَّامًا.

ص: 335

7365 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ، عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اقْرَءُوا الْقُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ، فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا عَنْهُ.

7366 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا حُضِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَفِي الْبَيْتِ رِجَالٌ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - قَالَ: هَلُمَّ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ، قَالَ عُمَرُ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم غَلَبَهُ الْوَجَعُ، وَعِنْدَكُمْ الْقُرْآنُ فَحَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ وَاخْتَصَمُوا؛ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مَا قَالَ عُمَرُ، فَلَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغَطَ وَالِاخْتِلَافَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قُومُوا عَنِّي. قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ مِنْ اخْتِلَافِهِمْ وَلَغَطِهِمْ.

قَوْلُهُ: (بَابُ كَرَاهِيَةِ الِاخْتِلَافِ) وَلِبَعْضِهِمُ: الْخِلَافِ أَيْ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، أَوْ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَسَقَطَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ لِابْنِ بَطَّالٍ فَصَارَ حَدِيثُهَا مِنْ جُمْلَةِ بَابِ النَّهْيِ لِلتَّحْرِيمِ، وَوَجَّهَهُ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْقِيَامِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِي الْقُرْآنِ لِلنَّدْبِ لَا لِتَحْرِيمِ الْقِرَاءَةِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ، وَالْأَوْلَى مَا وَقَعَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَبِهِ جَزَمَ الْكِرْمَانِيُّ، فَقَالَ فِي آخِرِ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ: هَذَا آخِرُ مَا أُرِيدَ إِيرَادَهُ فِي الْجَامِعِ مِنْ مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ) هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ كَمَا جَزَمَ بِهِ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: سَمِعَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَعْنِي ابْنُ مَهْدِيٍّ الْمَذْكُورُ فِي السَّنَدِ سَلَّامًا - يَعْنِي بِتَشْدِيدِ اللَّامِ - وَهُوَ ابْنُ أَبِي مُطِيعٍ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَّامُ بْنُ أَبِي مُطِيعٍ، وَوَقَعَ هَذَا الْكَلَامُ لِلْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ.

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ هَارُونَ الْأَعْوَرِ حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ عَنْ جُنْدَبٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ إِلَخْ) وَصَلَهُ الدَّارِمِيُّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ لَكِنْ قَالَ: عَنْ هَمَّامٍ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ عَنْ أَبِي النُّعْمَانِ، عَنْ هَارُونَ الْأَعْوَرِ، وَتَقَدَّمَ فِي آخِرِ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ عَلَى أَبِي عِمْرَانَ فِي سَنَدِ هَذَا الْحَدِيثِ مَعَ شَرْحِ الْحَدِيثِ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: مَاتَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ سَنَةَ سِتٍّ وَمِائَتَيْنِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ رِوَايَةَ الْبُخَارِيِّ عَنْهُ تَعْلِيقٌ، انْتَهَى. وَهَذَا لَا يَتَوَقَّفُ فِيهِ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى تَرْجَمَةِ الْبُخَارِيِّ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَرْحَلْ مِنْ بُخَارَى إِلَّا بَعْدَ مَوْتِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ بِمُدَّةٍ.

قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ، اخْتَصَمُوا) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَهُوَ تَفْسِيرٌ لِاخْتَلَفُوا، وَلِغَيْرِهِ: وَاخْتَصَمُوا بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةِ، وَكَذَا تَقَدَّمَ فِي آخِرِ الْمَغَازِي.

قَوْلُهُ: (قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ هُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ وَفِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي فِي بَابِ الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ.

‌27 - بَاب نَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى التَّحْرِيمِ، إِلَّا مَا تُعْرَفُ إِبَاحَتُهُ

وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ نَحْوَ قَوْلِهِ حِينَ أَحَلُّوا: أَصِيبُوا مِنْ النِّسَاءِ، وَقَالَ جَابِرٌ: وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ أَحَلَّهُنَّ

ص: 336

لَهُمْ.

وَقَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ: نُهِينَا عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائز وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا

7367 -

حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ عَطَاءٌ: وَقَالَ جَابِرٌ ح.

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ البُرْسَانِيُّ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فِي أُنَاسٍ مَعَهُ قَالَ: أَهْلَلْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَجِّ خَالِصًا لَيْسَ مَعَهُ عُمْرَةٌ - قَالَ عَطَاءٌ: قَالَ جَابِرٌ: - فَقَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صُبْحَ رَابِعَةٍ مَضَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، فَلَمَّا قَدِمْنَا أَمَرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَحِلَّ، وَقَالَ: أَحِلُّوا وَأَصِيبُوا مِنْ النِّسَاءِ. قَالَ عَطَاءٌ: قَالَ جَابِرٌ: وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ أَحَلَّهُنَّ لَهُمْ، فَبَلَغَهُ أَنَّا نَقُولُ: لَمَّا لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَرَفَةَ إِلَّا خَمْسٌ، أَمَرَنَا أَنْ نَحِلَّ إِلَى نِسَائِنَا، فَنَأْتِي عَرَفَةَ تَقْطُرُ مَذَاكِيرُنَا الْمَذْيَ - قَالَ: وَيَقُولُ جَابِرٌ بِيَدِهِ هَكَذَا وَحَرَّكَهَا - فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَصْدَقُكُمْ وَأَبَرُّكُمْ، وَلَوْلَا هَدْيِي لَحَلَلْتُ كَمَا تَحِلُّونَ، فَحِلُّوا، فَلَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ، فَحَلَلْنَا وَسَمِعْنَا وَأَطَعْنَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ نَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى التَّحْرِيمِ) أَيِ: النَّهْيُ الصَّادِرُ مِنْهُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (إِلَّا مَا تُعْرَفُ إِبَاحَتُهُ) أَيْ بِدَلَالَةِ السِّيَاقِ، أَوْ قَرِينَةِ الْحَالِ، أَوْ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ) أَيْ: يَحْرُمُ مُخَالَفَتُهُ؛ لِوُجُوبِ امْتِثَالِهِ، مَا لَمْ يَقُمِ الدَّلِيلَ عَلَى إِرَادَةِ النَّدْبِ أَوْ غَيْرِهِ.

قَوْلُهُ: (نَحْوَ قَوْلِهِ حِينَ أَحَلُّوا) أَيْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، لَمَّا أَمَرَهُمْ فَفَسَخُوا الْحَجَّ إِلَى الْعُمْرَةِ، وَتَحَلَّلُوا مِنَ الْعُمْرَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَمْرِ: صِيغَةُ افْعَلْ، وَالنَّهْيِ: لَا تَفْعَلْ، وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْلِ الصَّحَابِيِّ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِكَذَا أَوْ نَهَانَا عَنْهُ، فَالرَّاجِحُ عِنْدَ أَكْثَرِ السَّلَفِ أَنْ لَا فَرْقَ، وَقَدْ أَنْهَى بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ صِيغَةَ الْأَمْرِ إِلَى سَبْعَةَ عَشَرَ وَجْهًا، وَالنَّهْيِ إِلَى ثَمَانِيَةِ أَوْجُهٍ، وَنَقَلَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ، عَنْ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ: أَنَّ الْأَمْرَ عِنْدَهُمَا عَلَى الْإِيجَابِ وَالنَّهْيَ عَلَى التَّحْرِيمِ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ: الْأَمْرُ عَلَى النَّدْبِ وَالنَّهْيُ عَلَى الْكَرَاهَةِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ الْوُجُوبِ فِي الْأَمْرِ وَدَلِيلُ التَّحْرِيمِ فِي النَّهْيِ، وَتَوَقَّفَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَسَبَبُ تَوَقُّفِهِمْ وُرُودُ صِيغَةِ الْأَمْرِ لِلْإِيجَابِ وَالنَّدْبِ وَالْإِبَاحَةِ وَالْإِرْشَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ مَنْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ اسْتَحَقَّ الْحَمْدَ، وَأَنَّ مَنْ تَرَكَهُ اسْتَحَقَّ الذَّمَّ، وَكَذَا بِالْعَكْسِ فِي النَّهْيِ، وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} يَشْمَلُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ، وَدَلَّ الْوَعِيدُ فِيهِ عَلَى تَحْرِيمِهِ فِعْلًا وَتَرْكًا.

قَوْلُهُ: (أَصِيبُوا مِنَ النِّسَاءِ) هُوَ إِذْنٌ لَهُمْ فِي جِمَاعِ نِسَائِهِمْ؛ إِشَارَةً إِلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْإِحْلَالِ، إِذْ الْجِمَاعُ يُفْسِدُ النُّسُكَ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ مُحَرَّمَاتِ الْإِحْرَامِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ: فَأَمَرَنَا فَجَعَلْنَاهَا عُمْرَةً، وَأَنْ نُحِلَّ إِلَى نِسَائِنَا، ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْبَابِ

ص: 337

أَحَادِيثَ.

الَأْوَّلُ: قَوْلُهُ: (وَقَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ: نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا) تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ جَابِرٍ فَرْقٌ مِنْ جِهَةِ اخْتِلَافِ السَّبَبَيْنِ، فَالْقِصَّةُ الَّتِي فِي رِوَايَةِ جَابِرٍ كَانَتْ إِبَاحَةً بَعْدَ حَظْرٍ، فَلَا تَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ؛ لِلْقَرِينَةِ الْمَذْكُورَةِ، لَكِنْ أَرَادَ جَابِرٌ التَّأْكِيدَ فِي ذَلِكَ، وَالْقِصَّةُ الَّتِي فِي حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ نَهْيٌ بَعْدَ إِبَاحَةٍ فَكَانَ ظَاهِرًا فِي التَّحْرِيمِ، فَأَرَادَتْ أَنْ تُبَيِّنَ لَهُمْ أَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ لَهُمْ بِالتَّحْرِيمِ، وَالصَّحَابِيُّ أَعْرَفُ بِالْمُرَادِ مِنْ غَيْرِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ ذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ عَطَاءٌ: وَقَالَ جَابِرٌ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ:، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ) أَمَّا قَوْلُهُ: وَقَالَ جَابِرٌ فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى شَيْءٍ مَحْذُوفٍ يَظْهَرُ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي بَابِ مَنْ أَهَلَّ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَإِهْلَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ، وَفِي بَابِ بَعْثُ عَلِيٍّ إِلَى الْيَمَنِ، مِنْ أَوَاخِرِ كِتَابِ الْمَغَازِي بِهَذَيْنِ السَّنَدَيْنِ مُعَلَّقًا وَمَوْصُولًا، وَلَفْظُهُ: أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا أَنْ يُقِيمَ عَلَى إِحْرَامِهِ) فَذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ جَابِرٌ: أَهْلَلْنَا بِالْحَجِّ خَالِصًا، وَأَمَّا التَّعْلِيقُ فَوَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنَ الطَّرِيقِ الْمَذْكُورَةِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَكْرٍ، وَخَرَّجَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَأَفَادَتْ رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ بَكْرٍ التَّصْرِيحَ بِسَمَاعِ عَطَاءٍ مِنْ جَابِرٍ، وَقَوْلُهُ: فِي أُنَاسٍ مَعَهُ فِيهِ الْتِفَاتٌ وَنَسَقُ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ: مَعِي، وَوَقَعَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، وَقَوْلُهُ: أَهْلَلْنَا بِالْحَجِّ خَالِصًا لَيْسَ مَعَهُ عُمْرَةٌ. هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا كَانُوا ابْتَدَءُوا بِهِ ثُمَّ وَقَعَ الْإِذْنُ بِإِدْخَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ وَبِفَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ، فَصَارُوا عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ، مِثْلَ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ: (مِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ جَمَعَ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ مَشْرُوحًا فِي كِتَابِ الْحَجِّ وَقَوْلُهُ: وَقَالَ عَطَاءٌ، عَنْ جَابِرٍ: هُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ.

قَوْلُهُ: (صُبْحَ رَابِعَةٍ) تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ فِي الْبَابِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ عَطَاءٌ: قَالَ جَابِرٌ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ، وَقَوْلُهُ: وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: هُوَ مَوْصُولٌ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ.

قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَيْهِمْ) أَيْ فِي جِمَاعِ نِسَائِهِمْ، أَيْ لِأَنَّ الْأَمْرَ الْمَذْكُورَ إِنَّمَا كَانَ لِلْإِبَاحَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ جَابِرٌ: وَلَكِنْ أَحَلَّهُنَّ لَهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ: قَالُوا: أَيُّ الْحِلِّ؟ قَالَ: الْحِلُّ كُلُّهُ.

قَوْلُهُ: (فَبَلَغَهُ أَنَّا نَقُولُ: لَمَّا لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَرَفَةَ إِلَّا خَمْسُ لَيَالٍ) أَيْ: أَوَّلُهَا لَيْلَةُ الْأَحَدِ وَآخِرُهَا لَيْلَةُ الْخَمِيسِ ; لِأَنَّ تَوَجُّهِهِمْ مِنْ مَكَّةَ كَانَ عَشِيَّةَ الْأَرْبِعَاءِ، فَبَاتُوا لَيْلَةَ الْخَمِيسِ بِمِنًى، وَدَخَلُوا عَرَفَةَ يَوْمَ الْخَمِيسِ.

قَوْلُهُ: (فَنَأْتِي عَرَفَةَ تَقْطُرُ مَذَاكِيرُنَا الْمَذْيَ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي: الْمَنِيَّ وَكَذَا عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ بِلَفْظِ: (فَيَرُوحُ أَحَدُنَا إِلَى مِنًى وَذَكَرُهُ يَقْطُرُ مَنِيًّا وَإِنَّمَا ذَكَرَ مِنًى ; لِأَنَّهُمْ يَتَوَجَّهُونَ إِلَيْهَا قَبْلَ تَوَجُّهِهِمْ إِلَى عَرَفَةَ.

قَوْلُهُ: (وَيَقُولُ جَابِرٌ بِيَدِهِ هَكَذَا وَحَرَّكَهَا) أَيْ: أَمَالَهَا، وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ بِلَفْظِ: فَقَالَ جَابِرٌ بِكَفِّهِ، أَيْ أَشَارَ بِكَفِّهِ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: هَذِهِ الْإِشَارَةُ لِكَيْفِيَّةِ التَّقَطُّرِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إِلَى مَحَلِّ التَّقَطُّرِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ قَالَ: يَقُولُ جَابِرٌ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يَدِهِ يُحَرِّكُهَا، وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا.

قَوْلُهُ: (فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ) زَادَ فِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ: خَطِيبًا فَقَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ أَقْوَامًا يَقُولُونَ كَذَا وَكَذَا.

قَوْلُهُ: (قَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَصْدَقُكُمْ) فِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ: وَاللَّهِ لَأَنَا أَبَرُّ وَأَتْقَى لِلَّهِ مِنْهُمْ.

قَوْلُهُ: (وَلَوْلَا هَدْيِي لَحَلَلْتُ كَمَا تَحِلُّونَ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: لَأَحْلَلْتُ، وَكَذَا مَضَى فِي بَابِ (عُمْرَةِ التَّنْعِيمِ مِنْ طَرِيقِ حَبِيبِ الْمُعَلِّمِ عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ وَهُمَا لُغَتَانِ: حَلَّ وَأَحَلَّ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ هُنَاكَ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ كَلَامَ جَابِرٍ بِتَمَامِهِ وَلَا الْخُطْبَةَ.

قَوْلُهُ: (فَحِلُّوا) كَذَا فِيهِ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ مِنْ حَلَّ. وَقَوْلُهُ: فَحَلَلْنَا وَسَمِعْنَا وَأَطَعْنَا فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: فَأَحْلَلْنَا.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: (عَبْدُ الْوَارِثِ) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ وَحُسَيْنٌ هُوَ ابْنُ ذَكْوَانَ الْمُعَلِّمُ،

ص: 338

وَوَقَعَ مَنْسُوبًا فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَابْنُ بُرَيْدَةَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ هُوَ ابْنُ مُغَفَّلٍ بِالْمُعْجَمَةِ وَالْفَاءِ الثَّقِيلَةِ، وَوَقَعَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وَبَيَّنَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ سَبَبُ الِاقْتِصَارِ عَلَى قَوْلِهِ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ دُونَ ذِكْرِ أَبِيهِ، فَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ فَقَالَ فِيهِ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ كَالَّذِي هُنَا، وَقَالَ: كَتَبْتُهُ فَنَسِيتُهُ، لَا أَدْرِي ابْنُ مُغَفَّلٍ أَوِ ابْنُ مَعْقِلٍ، أَيْ: بِالْمُعْجَمَةِ وَالْفَاءِ، أَوِ الْمُهْمَلَةِ وَالْقَافِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ فِي بَابُ كَمْ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ وَمَوْضِعُ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ قَوْلُهُ فِي آخِرِهِ. لِمَنْ شَاءَ؛ فَإِنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ حَقِيقَةٌ فِي الْوُجُوبِ، فَلِذَلِكَ أَرْدَفَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، فَكَانَ ذَلِكَ صَارِفًا لِلْحَمْلِ عَلَى الْوُجُوبِ.

قَوْلُهُ: (خَشْيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً) أَيْ طَرِيقَةً لَازِمَةً لَا يَجُوزُ تَرْكُهَا، أَوْ سُنَّةً رَاتِبَةً يُكْرَهُ تَرْكُهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مَا يُقَابِلُ الْوُجُوبَ؛ لِمَا تَقَدَّمَ.

‌28 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} ، {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}

وَأَنَّ الْمُشَاوَرَةَ قَبْلَ الْعَزْمِ وَالتَّبَيُّنِ؛ لِقَوْلِهِ تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} فَإِذَا عَزَمَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ لِبَشَرٍ التَّقَدُّمُ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَشَاوَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ يَوْمَ أُحُدٍ فِي الْمُقَامِ وَالْخُرُوجِ، فَرَأَوْا لَهُ الْخُرُوجَ، فَلَمَّا لَبِسَ لَأْمَتَهُ وَعَزَمَ قَالُوا: أَقِمْ، فَلَمْ يَمِلْ إِلَيْهِمْ بَعْدَ الْعَزْمِ، وَقَالَ: لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ يَلْبَسُ لَأْمَتَهُ فَيَضَعُهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ، وَشَاوَرَ عَلِيًّا، وَأُسَامَةَ فِيمَا رَمَى بِهِ أَهْلُ الْإِفْكِ عَائِشَةَ، فَسَمِعَ مِنْهُمَا، حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ فَجَلَدَ الرَّامِينَ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى تَنَازُعِهِمْ وَلَكِنْ حَكَمَ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ. وَكَانَتْ الْأَئِمَّةُ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَشِيرُونَ الْأُمَنَاءَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْأُمُورِ الْمُبَاحَةِ؛ لِيَأْخُذُوا بِأَسْهَلِهَا، فَإِذَا وَضَحَ الْكِتَابُ أَوْ السُّنَّةُ لَمْ يَتَعَدَّوْهُ إِلَى غَيْرِهِ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَرَأَى أَبُو بَكْرٍ قِتَالَ مَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ، فَقَالَ عُمَرُ: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ؟ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ.

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ تَابَعَهُ بَعْدُ عُمَرُ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ أَبُو بَكْرٍ إِلَى مَشُورَةٍ إِذْ كَانَ عِنْدَهُ حُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَأَرَادُوا تَبْدِيلَ الدِّينِ وَأَحْكَامِهِ. وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ. وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَشُورَةِ عُمَرَ كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ عز وجل.

7369 -

حَدَّثَنَا الْأُوَيْسِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي عُرْوَةُ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعَلْقَمَةُ بْنُ وَقَّاصٍ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا، قَالَتْ: وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رضي الله عنهم حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ يَسْأَلُهُمَا، وَهُوَ يَسْتَشِيرُهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ، فَأَمَّا أُسَامَةُ فَأَشَارَ بِالَّذِي يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ أَهْلِهِ، وَأَمَّا عَلِيٌّ فَقَالَ: لَمْ يُضَيِّقْ اللَّهُ عَلَيْكَ وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ،

ص: 339

وَسَلْ الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ. فَقَالَ: هَلْ رَأَيْتِ مِنْ شَيْءٍ يَرِيبُكِ؟ قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ أَمْرًا أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ، تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ، فَقَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِي، وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا. وَذَكَرَ بَرَاءَةَ عَائِشَةَ.

وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ: عَنْ هِشَامٍ.

7370 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي زَكَرِيَّاءَ الْغَسَّانِيُّ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ النَّاسَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ مَا تُشِيرُونَ عَلَيَّ فِي قَوْمٍ يَسُبُّونَ أَهْلِي مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُوءٍ قَطُّ وَعَنْ عُرْوَةَ قَالَ لَمَّا أُخْبِرَتْ عَائِشَةُ بِالأَمْرِ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أَنْطَلِقَ إِلَى أَهْلِي فَأَذِنَ لَهَا وَأَرْسَلَ مَعَهَا الْغُلَامَ وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} ، {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} هَكَذَا وَقَعَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى اللَّتَيْنِ بَعْدَهَا عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ مُؤَخَّرَةٌ عَنْهُمَا، وَأَخَّرَهَا النَّسَفِيُّ أَيْضًا، لَكِنْ سَقَطَتْ عِنْدَهُ تَرْجَمَةُ النَّهْيِ عَلَى التَّحْرِيمِ وَمَا مَعَهَا، فَأَمَّا الْآيَةُ الْأُولَى فَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: مَا تَشَاوَرَ قَوْمٌ قَطُّ بَيْنَهُمْ إِلَّا هَدَاهُمُ اللَّهُ، لِأَفْضَلِ مَا يَحْضُرُهُمْ وَفِي لَفْظِ إِلَّا عَزَمَ اللَّهُ لَهُمْ بِالرُّشْدِ أَوْ بِالَّذِي يَنْفَعُ وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ فَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا قَالَ: قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ مَا بِهِ إِلَيْهِمْ حَاجَةٌ، وَلَكِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَنَّ بِهِ مَنْ بَعْدَهُ، فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ مَشُورَةً لِأَصْحَابِهِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ إِلَّا أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ التِّرْمِذِيُّ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ: وَيُرْوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَذَكَرَهُ، وَتَقَدَّمَ فِي الشُّرُوطِ مِنْ حَدِيثِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: أَشِيرُوا عَلَيَّ فِي هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ وَفِيهِ: جَوَابُ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ وَعَمَلُهُ صلى الله عليه وسلم بِمَا أَشَارَا بِهِ، وَهُوَ فِي الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ.

قَوْلُهُ: (وَإِنَّ الْمُشَاوَرَةَ قَبْلَ الْعَزْمِ وَالتَّبَيُّنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} وَجْهُ الدَّلَالَةِ مَا وَرَدَ عَنْ قِرَاءَةِ عِكْرِمَةَ، وَجَعْفَرٍ الصَّادِقِ بِضَمِّ التَّاءِ مِنْ عَزَمْتَ، أَيْ: إِذَا أَرْشَدْتُكَ إِلَيْهِ فَلَا تَعْدِلْ عَنْهُ، فَكَأَنَّ الْمُشَاوَرَةَ إِنَّمَا تُشْرَعُ عِنْدَ عَدَمِ الْعَزْمِ وَهُوَ وَاضِحٌ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مُتَعَلَّقِ الْمُشَاوَرَةِ، فَقِيلَ: فِي كُلِّ شَيْءٍ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ، وَقِيلَ: فِي الْأَمْرِ الدُّنْيَوِيِّ فَقَطْ، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: إِنَّمَا كَانَ يُشَاوِرُهُ فِي أَمْرِ الْحَرْبِ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ حُكْمٌ ; لِأَنَّ مَعْرِفَةَ الْحُكْمِ إِنَّمَا تُلْتَمَسُ مِنْهُ، قَالَ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ كَانَ يُشَاوِرُهُ فِي الْأَحْكَامِ فَقَدْ غَفَلَ غَفْلَةً عَظِيمَةً، وَأَمَّا فِي غَيْرِ الْأَحْكَامِ فَرُبَّمَا رَأَى غَيْرُهُ أَوْ سَمِعَ مَا لَمْ يَسْمَعْهُ أَوْ يَرَهُ كَمَا كَانَ يَسْتَصْحِبُ الدَّلِيلَ فِي الطَّرِيقِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: اللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ عَامًّا لَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْخُصُوصُ؛ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُشَاوِرُهُمْ فِي فَرَائِضِ الْأَحْكَامِ.

قُلْتُ: وَفِي هَذَا الْإِطْلَاقِ نَظَرٌ، فَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} الْآيَةَ، قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَا تَرَى، دِينَارٌ؟ قُلْتُ: لَا يُطِيقُونَهُ قَالَ: فَنِصْفُ دِينَارٍ؟ قُلْتُ: لَا يُطِيقُونَهُ. قَالَ: فَكَمْ؟ قُلْتُ: شَعِيرَةٌ. قَالَ: إِنَّكَ لَزَهِيدٌ. فَنَزَلَتْ أَأَشْفَقْتُمْ. الْآيَةَ قَالَ: فَبِي خَفَّفَ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمُشَاوَرَةُ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ.

وَنَقَلَ السُّهَيْلِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُشَاوَرَةَ مُخْتَصَّةٌ بِأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَلَعَلَّهُ مِنْ تَفْسِيرِ الْكَلْبِيِّ، ثُمَّ وَجَدْتُ لَهُ مُسْتَنَدًا فِي فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ لِأَسَدِ بْنِ مُوسَى وَالْمَعْرِفَةِ لِيَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ بِسَنَدٍ لَا بَأْسَ بِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ

ص: 340

بْنِ غَنْمٍ - بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ النُّونِ - وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِي صُحْبَتِهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ: لَوْ أَنَّكُمَا تَتَّفِقَانِ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ مَا عَصَيْتُكُمَا فِي مَشُورَةٍ أَبَدًا وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ فِي نَوْمِهِمْ فِي الْوَادِي: إِنْ تُطِيعُوا أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ تَرْشُدُوا لَكِنْ لَا حُجَّةَ فِيهِ لِلتَّخْصِيصِ، وَوَقَعَ فِي الْأَدَبِ مِنْ رِوَايَةِ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} قَالَ: فِي بَعْضِ الْأَمْرِ، قِيلَ: وَهَذَا تَفْسِيرٌ لَا تِلَاوَةٌ، وَنَقَلَهُ بَعْضُهُمْ قِرَاءَةً عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَدَّ كَثِيرٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ الْمُشَاوَرَةَ فِي الْخَصَائِصِ وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِهَا فَنَقَلَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ الِاسْتِحْبَابَ عَنِ النَّصِّ، وَبِهِ جَزَمَ أَبُو نَصْرٍ الْقُشَيْرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَهُوَ الْمُرَجَّحُ.

قَوْلُهُ: (فَإِذَا عَزَمَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ لِبَشَرٍ التَّقَدُّمُ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ) يُرِيدُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الْمَشُورَةِ إِذَا عَزَمَ عَلَى فِعْلِ أَمْرٍ مِمَّا وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْمَشُورَةُ، وَشَرَعَ فِيهِ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُشِيرَ عَلَيْهِ بِخِلَافِهِ؛ لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنِ التَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي آيَةِ الْحُجُرَاتِ، وَظَهَرَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ آيَةِ الْمَشُورَةِ وَبَيْنَهَا تَخْصِيصُ عُمُومِهَا بِالْمَشُورَةِ، فَيَجُوزُ التَّقَدُّمُ لَكِنْ بِإِذْنٍ مِنْهُ حَيْثُ يَسْتَشِيرُ، وَفِي غَيْرِ صُورَةِ الْمَشُورَةِ لَا يَجُوزُ لَهُمُ التَّقَدُّمُ، فَأَبَاحَ لَهُمُ الْقَوْلَ جَوَابَ الِاسْتِشَارَةِ، وَزَجَرَهُمْ عَنِ الِابْتِدَاءِ بِالْمَشُورَةِ وَغَيْرَهَا، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الِاعْتِرَاضُ عَلَى مَا يَرَاهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَيُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَمْرَهُ صلى الله عليه وسلم إِذَا ثَبَتَ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يُخَالِفَهُ وَلَا يَتَحَيَّلَ فِي مُخَالَفَتِهِ، بَلْ يَجْعَلُهُ الْأَصْلَ الَّذِي يَرُدُّ إِلَيْهِ مَا خَالَفَهُ لَا بِالْعَكْسِ كَمَا يَفْعَلُ بَعْضُ الْمُقَلِّدِينَ، وَيَغْفُلُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} الْآيَةَ. وَالْمَشُورَةُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ، وَبِسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْوَاوِ لُغَتَانِ، وَالْأُولَى أَرْجَحُ.

قَوْلُهُ: (وَشَاوَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ يَوْمَ أُحُدٍ فِي الْمُقَامِ وَالْخُرُوجِ إِلَخْ) هَذَا مِثَالٌ لِمَا تَرْجَمَ بِهِ أَنَّهُ شَاوَرَ فَإِذَا عَزَمَ لَمْ يَرْجِعْ، وَالْقَدْرُ الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا مُخْتَصَرٌ مِنْ قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ لَمْ تَقَعْ مَوْصُولَةً فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنَ الْجَامِعِ الصَّحِيحِ، وَقَدْ وَصَلَهَا الطَّبَرَانِيُّ وَصَحَّحَهَا الْحَاكِمُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تَنَفَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَيْفَهُ ذَا الْفَقَارِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُوَ الَّذِي رَأَى فِيهِ الرُّؤْيَا يَوْمَ أُحُدٍ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا جَاءَهُ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ أُحُدٍ كَانَ رَأْيُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقِيمَ بِالْمَدِينَةِ فَيُقَاتِلَهُمْ فِيهَا، فَقَالَ لَهُ نَاسٌ - لَمْ يَكُونُوا شَهِدُوا بَدْرًا -: اخْرُجْ بِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ نُقَاتِلَهُمْ بِأُحُدٍ، وَنَرْجُو أَنْ نُصِيبَ مِنَ الْفَضِيلَةِ مَا أَصَابَ أَهْلُ بَدْرٍ، فَمَا زَالُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى لَبِسَ لَأْمَتَهُ، فَلَمَّا لَبِسَهَا نَدِمُوا، وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقِمْ؛ فَالرَّأْيُ رَأْيُكَ، فَقَالَ: مَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ يَضَعَ أَدَاتَهُ بَعْدَ أَنْ لَبِسَهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوِّهُ، وَكَانَ ذَكَرَ لَهُمْ قَبْلُ أَنْ يَلْبَسَ الْأَدَاةَ: أَنِّي رَأَيْتُ أَنِّي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ فَأَوَّلْتُهَا الْمَدِينَةَ، وَهَذَا سَنَدٌ حَسَنٌ، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالدَّارِمِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ نَحْوَهُ، وَتَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ

فِي كِتَابِ التَّعْبِيرِ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ وَلَفْظُ أَحْمَدَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: رَأَيْتُ كَأَنِّي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ، وَرَأَيْتُ بَقَرًا تُنْحَرُ، فَأَوَّلْتُ الدِّرْعَ الْحَصِينَةَ الْمَدِينَةَ الْحَدِيثَ، وَقَدْ سَاقَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ هَذِهِ الْقِصَّةَ فِي الْمَغَازِي مُطَوَّلَةً، وَفِيهَا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ رَأْسَ الْخَزْرَجِ كَانَ رَأْيُهُ الْإِقَامَةَ، فَلَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَضِبَ وَقَالَ: أَطَاعَهُمْ وَعَصَانِي، فَرَجَعَ بِمَنْ أَطَاعَهُ وَكَانُوا ثُلُثَ النَّاسِ.

قَوْلُهُ: (فَلَمَّا لَبِسَ لَأْمَتَهُ) بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ هِيَ الدِّرْعُ، وَقِيلَ: الْأَدَاةُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ الدَّالِ، وَهِيَ الْآلَةُ مِنْ دِرْعٍ وَبَيْضَةٍ وَغَيْرِهِمَا مِنَ السِّلَاحِ، وَالْجَمْعُ: لَأْمٌ بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ، مِثْلُ تَمْرَةٍ وَتَمْرٌ، وَقَدْ تُسَهَّلُ وَتُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى لُؤَمٍ، بِضَمٍّ ثُمَّ فَتْحٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَاسْتَلْأَمَ لِلْقِتَالِ إِذَا لَبِسَ سِلَاحَهُ كَامِلًا.

قَوْلُهُ: (وَشَاوَرَ عَلِيًّا، وَأُسَامَةَ فِيمَا رَمَى بِهِ أَهْلُ الْإِفْكِ عَائِشَةَ فَسَمِعَ مِنْهُمَا حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ فَجَلَدَ الرَّامِينَ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الْقَابِسِيِّ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: مِنْهُمَا: لِعَلِيٍّ، وَأُسَامَةَ

ص: 341

وَأَمَّا جَلْدُهُ الرَّامِينَ، فَلَمْ يَأْتِ فِيهِ بِإِسْنَادٍ.

قُلْتُ: أَمَّا أَصْلُ مُشَاوَرَتِهِمَا فَذَكَرَهُ مَوْصُولًا فِي الْبَابِ بِاخْتِصَارٍ، وَتَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ مُطَوَّلًا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النُّورِ مَشْرُوحًا، وَقَوْلُهُ: فَسَمِعَ مِنْهُمَا أَيْ فَسَمِعَ كَلَامَهُمَا وَلَمْ يَعْمَلْ بِجَمِيعِهِ حَتَّى نَزَلَ الْوَحْيُ، أَمَّا عَلِيٌّ فَأَوْمَأَ إِلَى الْفِرَاقِ بِقَوْلِهِ: وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ عُذْرِهِ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا أُسَامَةُ فَنَفَى أَنْ يَعْلَمَ عَلَيْهَا إِلَّا الْخَيْرَ، فَلَمْ يَعْمَلْ بِمَا أَوْمَأَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ مِنَ الْمُفَارَقَةِ، وَعَمِلَ بِقَوْلِهِ: وَسَلِ الْجَارِيَةَ فَسَأَلَهَا، وَعَمِلَ بِقَوْلِ أُسَامَةَ فِي عَدَمِ الْمُفَارَقَةِ، وَلَكِنَّهُ أَذِنَ لَهَا فِي التَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ أَبِيهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَجَلَدَ الرَّامِينَ فَلَمْ يَقَعْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ حَدِيثِ الْإِفْكِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلَا أَحَدِهِمَا، وَهُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِ السُّنَنِ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ بَرَاءَتِي قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ فَدَعَا بِهِمْ وَحَدَّهُمْ وَفِي لَفْظٍ: فَأَمَرَ بِرَجُلَيْنِ وَامْرَأَةٍ فَضُرِبُوا حَدَّهُمْ وَسُمُّوا فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: مِسْطَحُ بْنُ أَثَاثَةَ، وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، قُلْتُ: وَوَقَعَ التَّصْرِيحُ بِتَحْدِيثِهِ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ فِي شَرْحِ حَدِيثِ الْإِفْكِ فِي التَّفْسِيرِ.

قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى تَنَازُعِهِمْ وَلَكِنْ حَكَمَ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الْقَابِسِيِّ: كَأَنَّهُ أَرَادَ تَنَازُعَهُمَا فَسَقَطَتِ الْأَلِفُ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ أُسَامَةُ، وَعَلِيٌّ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْقِيَاسُ أَنْ يُقَالَ: تَنَازُعُهُمَا، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ، أَوْ أَرَادَ بِالْجَمْعِ هُمَا وَمَنْ مَعَهُمَا أَوْ مَنْ وَافَقَهُمَا عَلَى ذَلِكَ، انْتَهَى.

وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ: وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَبَرِيرَةَ، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ إِلَى ضَمِّ بَرِيرَةَ إِلَى عَلِيٍّ، وَأُسَامَةَ، لَكِنِ اسْتَشْكَلَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ ظَاهِرَ سِيَاقِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ حَاضِرَةً؛ لِتَصْرِيحِهِ بِأَنَّهُ أَرْسَلَ إِلَيْهَا، وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّنَازُعِ اخْتِلَافُ قَوْلِ الْمَذْكُورِينَ عِنْدَ مُسَاءَلَتِهِمْ وَاسْتِشَارَتِهِمْ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُجْتَمِعِينَ أَوْ مُتَفَرِّقِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ: فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى تَنَازُعِهِمْ كُلًّا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي قِصَّتَيْ أُحُدٍ وَالْإِفْكِ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَتِ الْأَئِمَّةُ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَشِيرُونَ الْأُمَنَاءَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْأُمُورِ الْمُبَاحَةِ؛ لِيَأْخُذُوا بِأَسْهَلِهَا) أَيْ: إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا نَصٌّ بِحُكْمٍ مُعَيَّنٍ وَكَانَتْ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ، فَمُرَادُهُ مَا احْتَمَلَ الْفِعْلَ وَالتَّرْكَ احْتِمَالًا وَاحِدًا، وَأَمَّا مَا عُرِفَ وَجْهُ الْحُكْمِ فِيهِ فَلَا، وَأَمَّا تَقْيِيدُهُ بِالْأُمَنَاءِ فَهِيَ صِفَةٌ مُوَضِّحَةٌ ; لِأَنَّ غَيْرَ الْمُؤْتَمَنِ لَا يُسْتَشَارُ وَلَا يُلْتَفَتُ لِقَوْلِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: بِأَسْهَلِهَا فَلِعُمُومِ الْأَمْرِ بِالْأَخْذِ بِالتَّيْسِيرِ وَالتَّسْهِيلِ وَالنَّهْيِ عَنِ التَّشْدِيدِ الَّذِي يُدْخِلُ الْمَشَقَّةَ عَلَى الْمُسْلِمِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّمَا يُؤْمَرُ الْحَاكِمُ بِالْمَشُورَةِ؛ لِكَوْنِ الْمُشِيرِ يُنَبِّهُهُ عَلَى مَا يَغْفُلُ عَنْهُ، وَيَدُلُّهُ عَلَى مَا لَا يَسْتَحْضِرُهُ مِنَ الدَّلِيلِ، لَا لِيُقَلِّدَ الْمُشِيرَ فِيمَا يَقُولُهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ هَذَا لِأَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ وَرَدَ مِنَ اسْتِشَارَةِ الْأَئِمَّةِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا مُشَاوَرَةُ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه فِي قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهَا الْمُصَنِّفُ، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ أَمْرٌ نَظَرَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ وَجَدَ فِيهِ مَا يَقْضِي بِهِ قَضَى بَيْنَهُمْ، وَإِنْ عَلِمَهُ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ خَرَجَ فَسَأَلَ الْمُسْلِمِينَ عَنِ السُّنَّةِ، فَإِنْ أَعْيَاهُ ذَلِكَ دَعَا رُءُوسَ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَاءَهُمْ وَاسْتَشَارَهُمْ، وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ

كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا أَنَّ الْقُرَّاءَ كَانُوا أَصْحَابَ مَجْلِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ، وَمُشَاوَرَةُ عُمَرَ الصَّحَابَةَ فِي حَدِّ الْخَمْرِ تَقَدَّمَتْ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ، وَمُشَاوَرَةُ عُمَرَ الصَّحَابَةَ فِي إِمْلَاصِ الْمَرْأَةِ تَقَدَّمَتْ فِي الدِّيَاتِ، وَمُشَاوَرَةُ عُمَرَ فِي قِتَالِ الْفُرْسِ تَقَدَّمَتْ فِي الْجِهَادِ، وَمُشَاوَرَةُ عُمَرَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ ثُمَّ قُرَيْشًا لَمَّا أَرَادُوا دُخُولَ الشَّامِ وَبَلَغَهُ أَنَّ الطَّاعُونَ وَقَعَ بِهَا، وَقَدْ مَضَى مُطَوَّلًا مَعَ شَرْحِهِ فِي كِتَابِ الطِّبِّ وَرُوِّينَا فِي الْقَطْعِيَّاتِ

ص: 342

مِنْ رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَسَأَلَهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَقَالَ: سَلْ عَنْهَا عَلِيًّا، قَالَ: وَلَقَدْ شَهِدْتُ عُمَرَ أَشْكَلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَقَالَ: هَاهُنَا عَلِيٌّ؟ وَفِي كِتَابِ النَّوَادِرِ لِلْحُمَيْدِيِّ، وَالطَّبَقَاتِ لِمُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: كَانَ عُمَرُ يَتَعَوَّذُ بِاللَّهِ مِنْ مُعْضِلَةٍ لَيْسَ لَهَا أَبُو الْحَسَنِ - يَعْنِي عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - وَمُشَاوَرَةُ عُثْمَانَ الصَّحَابَةَ أَوَّلَ مَا اسْتُخْلِفَ فِيمَا يَفْعَلُ بِعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ لَمَّا قَتَلَ الْهُرْمُزَانَ وَغَيْرَهُ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ لَهُمْ فِي قَتْلِ أَبِيهِ مَدْخَلًا، وَهِيَ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ وَغَيْرِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، وَمُشَاوَرَتُهُ الصَّحَابَةَ فِي جَمْعِ النَّاسِ عَلَى مُصْحَفٍ وَاحِدٍ، أَخْرَجَهَا ابْنُ أَبِي دَاوُدَ فِي كِتَابِ الْمَصَاحِفِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَلِيٍّ مِنْهَا قَوْلُهُ: مَا فَعَلَ عُثْمَانُ الَّذِي فَعَلَ فِي الْمَصَاحِفِ إِلَّا عَنْ مَلَإٍ مِنَّا وَسَنَدُهُ حَسَنٌ.

قَوْلُهُ: (وَرَأَى أَبُو بَكْرٍ قِتَالَ مَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ إِلَخْ) يُشِيرُ إِلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي بَابِ الِاقْتِدَاءِ بِالسَّلَفِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ) تَقَدَّمَ مَوْصُولًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي كِتَابِ الْمُحَارِبِينَ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَشُورَةِ عُمَرَ كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ وَعَمِّهِ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ، وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي بَابِ الِاقْتِدَاءِ بِالسَّلَفِ أَيْضًا بِلَفْظِ: وَمُشَاوَرَتُهُ وَوَقَعَ بِلَفْظِ: وَمَشُورَتُهُ مَوْصُولًا فِي التَّفْسِيرِ، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ هُنَا: وَكَانَ وَقَّافًا بِقَافٍ ثَقِيلَةٍ أَيْ كَثِيرُ الْوُقُوفِ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ لَمْ تَقَعْ فِي الطَّرِيقِ الْمَوْصُولَةِ فِي بَابِ الِاقْتِدَاءِ، وَإِنَّمَا وَقَعَتْ فِي التَّفْسِيرِ، ثُمَّ ذَكَرَ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ الْإِفْكِ مِنْ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِطُولِهِ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي، وَاقْتَصَرَ مِنْهُ عَلَى مَوْضِعِ حَاجَتِهِ وَهِيَ مُشَاوَرَةُ عَلِيٍّ، وَأُسَامَةَ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: فَذَكَرَ بَرَاءَةَ عَائِشَةَ وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي اخْتَصَرَهُ، وَذَكَرَ طَرَفًا مِنْهُ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، وَقَدْ أَوْرَدَ طَرِيقَ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ الَّتِي عَلَّقَهَا هُنَا مُطَوَّلَةً فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ وَقَدْ ذَكَرْتُ هُنَاكَ مَنْ وَصَلَهَا عَنْ أَبِي أُسَامَةَ وَشَيْخُهُ هُنَا فِي الطَّرِيقِ الْمَوْصُولَةِ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ النَّشَائِيُّ بِنُونٍ وَمُعْجَمَةٍ خَفِيفَةٍ وَيَحْيَى بْنُ أَبِي زَكَرِيَّا هُوَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى الشَّامِيُّ نَزِيلُ وَاسِطٍ، وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى النَّيْسَابُورِيِّ شَيْخِ الشَّيْخَيْنِ، وَالْغَسَّانِيُّ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُهْمَلَةِ نِسْبَتُهُ مَشْهُورَةٌ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، وَهُوَ تَصْحِيفٌ شَنِيعٌ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ النَّاسَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ تَقَدَّمَ

فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ، أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَقِبَ سَمَاعِهِ كَلَامَ بَرِيرَةَ، وَفِيهِ: قَامَ فِيَّ خَطِيبًا - أَيْ مِنْ أَجْلِي - فَتَشَهَّدَ وَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ.

وَعَنْ عُرْوَةَ قَالَ: لَمَّا أُخْبِرَتْ عَائِشَةُ بِالْأَمْرِ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أَنْطَلِقَ إِلَى أَهْلِي؟ فَأَذِنَ لَهَا وَأَرْسَلَ مَعَهَا الْغُلَامَ، وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ: سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا، {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}

قَوْلُهُ: (مَا تُشِيرُونَ عَلَيَّ) هَكَذَا هُنَا بِلَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ، وَتَقَدَّمَ فِي طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ: أَشِيرُوا عَلَيَّ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ اسْتَشَارَهُمْ فِيمَا يَفْعَلُ بِمَنْ قَذَفَ عَائِشَةَ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ بِأَنَّهُمْ وَاقِفُونَ عِنْدَ أَمْرِهِ مُوَافِقُونَ لَهُ فِيمَا يَقُولُ وَيَفْعَلُ، وَوَقَعَ النِّزَاعُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ السَّعْدَيْنِ، فَلَمَّا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ بِبَرَاءَتِهَا أَقَامَ حَدَّ الْقَذْفِ عَلَى مَنْ وَقَعَ مِنْهُ. وَقَوْلُهُ: يَسُبُّونَ أَهْلِي كَذَا هُنَا بِالْمُهْمَلَةِ ثُمَّ الْمُوَحَّدَةِ الثَّقِيلَةِ مِنَ السَّبِّ، وَتَقَدَّمَ فِي التَّفْسِيرِ بِلَفْظِ: أَبْنُوا بِمُوَحَّدَةٍ ثُمَّ نُونٍ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ هُنَاكَ، وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَ ذَلِكَ بِالسَّبِّ.

قَوْلُهُ: (مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُوءٍ قَطُّ) يَعْنِي أَهْلَهُ وَجَمَعَ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ الْأَهْلِ، وَالْقِصَّةُ إِنَّمَا كَانَتْ لِعَائِشَةَ وَحْدَهَا، لَكِنْ لَمَّا كَانَ يَلْزَمُ مِنْ سَبِّهَا سَبُّ أَبَوَيْهَا وَمَنْ هُوَ بِسَبِيلٍ مِنْهَا - وَكُلُّهُمْ كَانُوا بِسَبَبِ عَائِشَةَ مَعْدُودِينَ فِي أَهْلِهِ صَحَّ الْجَمْعُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْهِجْرَةِ الطَّوِيلِ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ: إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَعْنِي عَائِشَةَ وَأُمَّهَا وَأَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ.

قَوْلُهُ: (وَعَنْ عُرْوَةَ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ، وَقَوْلُهُ: أُخْبِرَتْ بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ تَسْمِيَةُ مَنْ أَخْبَرَهَا بِذَلِكَ.

ص: 343

قَوْلُهُ: (أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أَنْطَلِقَ إِلَى أَهْلِي؟) فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ: أَرْسِلْنِي إِلَى بَيْتِ أَبِي.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ إِلَخْ) وَقَعَ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِهِ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُسْنَدِ الشَّامِيِّينَ وَأَبُو بَكْرٍ الْآجُرِّيُّ فِي طُرُقِ حَدِيثِ الْإِفْكِ، مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، وَتَقَدَّمَ فِي شَرْحِهِ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ قَالَ ذَلِكَ أَيْضًا لَكِنْ لَيْسَ هُوَ أَنْصَارِيًّا، وَفِي رِوَايَتِنَا فِي فَوَائِدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَعْرُوفِ بِابْنِ أَخِي مِيمِي مِنْ مُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ رَجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَمِعَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ قَالَا: سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ، زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَأَبُو أَيُّوبَ، وَزَيْدٌ أَيْضًا لَيْسَ أَنْصَارِيًّا، وَفِي تَفْسِيرِ سُنَيْدِ مِنْ مُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ لَمَّا سَمِعَ مَا قِيلَ فِي أَمْرِ عَائِشَةَ قَالَ: سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ، وَفِي الْإِكْلِيلِ لِلْحَاكِمِ مِنْ طَرِيقِ الْوَاقِدِيِّ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ قَالَ ذَلِكَ، وَحُكِيَ عَنِ الْمُبْهَمَاتِ لِابْنِ بَشْكُوَالَ - وَلَمْ أَرَهُ أَنَا فِيهَا - أَنَّ قَتَادَةَ بْنَ النُّعْمَانِ قَالَ ذَلِكَ فَإِنْ ثَبَتَ فَقَدِ اجْتَمَعَ مِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ سِتَّةٌ: أَرْبَعَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ وَمُهَاجِرِيَّانِ.

(تَنْبِيهٌ):

وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ الثَّلَاثَةِ الْأَخِيرَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ وَالْخَطْبُ فِيهَا سَهْلٌ.

(خَاتِمَةٌ):

اشْتَمَلَ كِتَابُ الِاعْتِصَامِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ وَمَا فِي حُكْمِهَا عَلَى مِائَةٍ وَسَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْهَا وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْمُتَابَعَةِ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ حَدِيثًا وَسَائِرُهَا مَوْصُولٌ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى مِائَةُ حَدِيثٍ وَعَشَرَةُ أَحَادِيثَ وَالْبَاقِي خَالِصٌ، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى، وَحَدِيثِ عُمَرَ: نُهِينَا عَنِ التَّكَلُّفِ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي مَأْخَذِ الْقُرُونِ، وَحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الرِّفْقِ، وَحَدِيثِهَا: لَا أُزَكَّى بِهِ، وَحَدِيثِ عُثْمَانَ فِي الْخُطْبَةِ، وَحَدِيثِ أَبِي سَلَمَةَ الْمُرْسَلِ فِي الِاجْتِهَادِ، وَحَدِيثِ الْمُشَاوَرَةُ فِي الْخُرُوجِ إِلَى أُحُدٍ، وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ سِتَّةَ عَشَرَ أَثَرًا. وَاللَّهُ سبحانه وتعالى الْهَادِي إِلَى الصَّوَابِ.

بسم الله الرحمن الرحيم

‌97 - كِتَاب التَّوْحِيدِ

قَوْلُهُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم - كِتَابُ التَّوْحِيدِ) كَذَا لِلنَّسَفِيِّ، وَحَمَّادِ بْنِ شَاكِرٍ، وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ الْأَكْثَرُ عَنِ الْفَرَبْرِيِّ، وَزَادَ الْمُسْتَمْلِي: الرَّدَّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَسَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَوَقَعَ لِابْنِ بَطَّالٍ، وَابْنِ التِّينِ: كِتَابُ رَدِّ الْجَهْمِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ: التَّوْحِيدَ وَضَبَطُوا التَّوْحِيدَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَظَاهِرُهُ مُعْتَرَضٌ؛ لِأَنَّ الْجَهْمِيَّةَ وَغَيْرَهُمْ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ لَمْ يَرُدُّوا التَّوْحِيدَ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِهِ، وَحُجَجُ الْبَابِ ظَاهِرَةٌ فِي ذَلِكَ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَغَيْرِهِمْ: الْقَدَرِيَّةُ، وَأَمَّا الْخَوَارِجُ فَتَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ، وَكَذَا الرَّافِضَةُ تَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ وَهَؤُلَاءِ الْفِرَقُ الْأَرْبَعُ هُمْ رُءُوسُ الْبِدْعَةِ، وَقَدْ سَمَّى الْمُعْتَزِلَةُ أَنْفُسَهُمْ أَهْلَ الْعَدْلِ وَالتَّوْحِيدِ وَعَنَوْا بِالتَّوْحِيدِ مَا اعْتَقَدُوهُ مِنْ نَفْيِ الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ إِثْبَاتَهَا يَسْتَلْزِمُ التَّشْبِيهَ وَمَنْ شَبَّهَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ أَشْرَكَ، وَهُمْ فِي النَّفْيِ مُوَافِقُونَ لِلْجَهْمِيَّةِ، وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَفَسَّرُوا التَّوْحِيدَ بِنَفْيِ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْجُنَيْدُ فِيمَا حَكَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ: التَّوْحِيدُ إِفْرَادُ الْقَدِيمِ مِنَ الْمُحْدَثِ وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ التَّمِيمِيُّ

فِي كِتَابِ الْحُجَّةِ: التَّوْحِيدُ مَصْدَرُ وَحَّدَ يُوَحِّدُ، وَمَعْنَى وَحَّدْتُ اللَّهَ: اعْتَقَدْتُهُ مُنْفَرِدًا بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ لَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا شَبِيهَ،

ص: 344

وَقِيلَ مَعْنَى وَحَّدْتُهُ: عَلِمْتُهُ وَاحِدًا، وَقِيلَ: سَلَبْتُ عَنْهُ الْكَيْفِيَّةَ وَالْكَمِّيَّةَ فَهُوَ وَاحِدٌ فِي ذَاتِهِ لَا انْقِسَامَ لَهُ، وَفِي صِفَاتِهِ لَا شَبِيهَ لَهُ، فِي إِلَهِيَّتِهِ وَمُلْكِهِ وَتَدْبِيرِهِ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، وَلَا خَالِقَ غَيْرُهُ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: تَضَمَّنَتْ تَرْجَمَةُ الْبَابِ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِجِسْمٍ؛ لِأَنَّ الْجِسْمَ مُرَكَّبٌ مِنْ أَشْيَاءَ مُؤَلَّفَةٍ، وَذَلِكَ يَرُدُّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّهُ جِسْمٌ، كَذَا وَجَدْتُ فِيهِ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ الْمُشَبِّهَةَ، وَأَمَّا الْجَهْمِيَّةُ فَلَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي الْمَقَالَاتِ أَنَّهُمْ يَنْفُونَ الصِّفَاتِ حَتَّى نُسِبُوا إِلَى التَّعْطِيلِ، وَثَبَتَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: بَالَغَ جَهْمٌ فِي نَفْيِ التَّشْبِيهِ حَتَّى قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْجَهْمِيَّةُ فِرْقَةٌ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ يَنْتَسِبُونَ إِلَى جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ مُقَدَّمِ الطَّائِفَةِ الْقَائِلَةِ: أَنْ لَا قُدْرَةَ لِلْعَبْدِ أَصْلًا، وَهُمُ الْجَبْرِيَّةُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ، وَمَاتَ مَقْتُولًا فِي زَمَنِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ انْتَهَى.

وَلَيْسَ الَّذِي أَنْكَرُوهُ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ مَذْهَبُ الْجَبْرِ خَاصَّةً، وَإِنَّمَا الَّذِي أَطْبَقَ السَّلَفَ عَلَى ذَمِّهِمْ بِسَبَبِهِ إِنْكَارُ الصِّفَاتِ. حَتَّى قَالُوا: إِنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ وَأَنَّهُ مَخْلُوقٌ، وَقَدْ ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورِ عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ التَّمِيمِيُّ الْبَغْدَادِيُّ فِي كِتَابِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفِرَقِ أَنَّ رُءُوسَ الْمُبْتَدِعَةِ أَرْبَعَةٌ إِلَى أَنْ قَالَ: وَالْجَهْمِيَّةُ أَتْبَاعُ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ الَّذِي قَالَ: بِالْإِجْبَارِ وَالِاضْطِرَارِ إِلَى الْأَعْمَالِ، وَقَالَ: لَا فِعْلَ لِأَحَدٍ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا يُنْسَبُ الْفِعْلُ إِلَى الْعَبْدِ مَجَازًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا أَوْ مُسْتَطِيعًا لِشَيْءٍ، وَزَعَمَ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ حَادِثٌ، وَامْتَنَعَ مِنْ وَصْفِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ شَيْءٌ أَوْ حَيٌّ أَوْ عَالِمٌ أَوْ مُرِيدٌ، حَتَّى قَالَ: لَا أَصِفُهُ بِوَصْفٍ يَجُوزُ إِطْلَاقُهُ عَلَى غَيْرِهِ، قَالَ: وَأَصِفُهُ بِأَنَّهُ خَالِقٌ وَمُحْيٍ وَمُمِيتٌ وَمُوَحَّدٌ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ الثَّقِيلَةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَوْصَافَ خَاصَّةٌ بِهِ، وَزَعَمَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ حَادِثٌ، وَلَمْ يُسَمِّ اللَّهَ مُتَكَلِّمًا بِهِ، قَالَ: وَكَانَ جَهْمٌ يَحْمِلُ السِّلَاحَ وَيُقَاتِلُ، وَخَرَجَ مَعَ الْحَارِثِ بْنِ سُرَيْجٍ، وَهُوَ بِمُهْمَلَةٍ وَجِيمٍ مُصَغَّرٌ، لَمَّا قَامَ عَلَى نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ عَامِلِ بَنِي أُمَيَّةَ بِخُرَاسَانَ، فَآلَ أَمْرُهُ إِلَى أَنْ قَتَلَهُ سَلْمُ بْنُ أَحَوْزَ وَهُوَ بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ، وَأَبُوهُ بِمُهْمَلَةٍ وَآخِرُهُ زَايٌ وَزْنُ أَعْوَرَ، وَكَانَ صَاحِبَ شُرْطَةِ نَصْرٍ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ: بَلَغَنِي أَنَّ جَهْمًا كَانَ يَأْخُذُ عَنِ الْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ، وَكَانَ خَالِدٌ الْقَسْرِيُّ وَهُوَ أَمِيرُ الْعِرَاقِ خَطَبَ فَقَالَ: إِنِّي

مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا. قُلْتُ: وَكَانَ ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَكَأَنَّ الْكِرْمَانِيَّ انْتَقَلَ ذِهْنُهُ مِنَ الْجَعْدِ إِلَى الْجَهْمِ؛ فَإِنَّ قَتْلَ جَهْمٍ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ، وَنَقَلَ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ:

وَلَا أَقُول بِقَوْلِ الْجَهْمِ أَنَّ لَهُ قَوْلًا

يُضَارِعُ قَوْلَ الشِّرْكِ أَحْيَانًا

وَعَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ إِنَّا لَنَحْكِي كَلَامَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَنَسْتَعْظِمُ أَنْ نَحْكِيَ قَوْلَ جَهْمٍ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَوْذَبٍ قَالَ: تَرَكَ جَهْمٌ الصَّلَاةَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَلَى وَجْهِ الشَّكِّ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ مِنْ طَرِيقِ خَلَفِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْبَلْخِيِّ قَالَ: كَانَ جَهْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَكَانَ فَصِيحًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نَفَاذٌ فِي الْعِلْمِ، فَلَقِيَهُ قَوْمٌ مِنَ الزَّنَادِقَةِ، فَقَالُوا لَهُ: صِفْ لَنَا رَبَّكَ الَّذِي تَعْبُدُهُ، فَدَخَلَ الْبَيْتَ لَا يَخْرُجُ مُدَّةً، ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: هُوَ هَذَا الْهَوَاءُ مَعَ كُلِّ شَيْءٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي التَّوْحِيدِ، وَمِنْ طَرِيقِهِ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا قُدَامَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ الْبَلْخِيَّ يَقُولُ: كَانَ جَهْمٌ عَلَى مَعْبَرِ تِرْمِذَ، وَكَانَ كُوفِيَّ الْأَصْلِ فَصِيحًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عِلْمٌ وَلَا مُجَالَسَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَقِيلَ لَهُ: صِفْ لَنَا رَبَّكَ، فَدَخَلَ الْبَيْتَ لَا يَخْرُجُ كَذَا، ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ أَيَّامٍ فَقَالَ: هُوَ هَذَا الْهَوَاءُ مَعَ كُلِّ شَيْءٍ وَفِي كُلِّ شَيْءٍ وَلَا يَخْلُو مِنْهُ شَيْءٌ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: كَلَامُ جَهْمٍ صِفَةٌ بِلَا مَعْنًى، وَبِنَاءٌ بِلَا أَسَاسٍ، وَلَمْ يُعَدَّ قَطُّ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَقَالَ: تَعْتَدُّ امْرَأَتُهُ، وَأَوْرَدَ

ص: 345

آثَارًا كَثِيرَةً عَنِ السَّلَفِ فِي تَكْفِيرِ جَهْمٍ.

وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ فِي تَارِيخِهِ فِي حَوَادِثِ سَنَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ سُرَيْجٍ خَرَجَ عَلَى نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ عَامِلِ خُرَاسَانَ لِبَنِي أُمَيَّةَ وَحَارَبَهُ، وَالْحَارِثُ حِينَئِذٍ يَدْعُو إِلَى الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَكَانَ جَهْمٌ حِينَئِذٍ كَاتِبَهُ ثُمَّ تَرَاسَلَا فِي الصُّلْحِ وَتَرَاضَيَا بِحُكْمِ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ، وَالْجَهْمِ، فَاتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ يَكُونُ شُورَى حَتَّى يَتَرَاضَى أَهْلُ خُرَاسَانَ عَلَى أَمِيرٍ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ، فَلَمْ يَقْبَلْ نَصْرٌ ذَلِكَ وَاسْتَمَرَّ عَلَى مُحَارَبَةِ الْحَارِثِ إِلَى أَنْ قَتَلَ الْحَارِثَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ فِي خِلَافَةِ مَرْوَانَ الْحِمَارِ، فَيُقَالُ: إِنَّ الْجَهْمَ قُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَيُقَالُ: بَلْ أُسِرَ، فَأَمَرَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ، سَلْمَ بْنَ أَحَوْزَ بِقَتْلِهِ فَادَّعَى جَهْمٌ الْأَمَانَ، فَقَالَ لَهُ سَلْمٌ: لَوْ كُنْتَ فِي بَطْنِي لَشَقَقْتُهُ حَتَّى أَقْتُلَكَ فَقَتَلَهُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ قَالَ: قَالَ سَلْمٌ حِينَ أَخَذَهُ: يَا جَهْمُ إِنِّي لَسْتُ أَقْتُلُكَ؛ لِأَنَّكَ قَاتَلْتَنِي، أَنْتَ عِنْدِي أَحْقَرُ مِنْ ذَلِكَ؛ وَلَكِنِّي سَمِعْتُكَ تَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ أَعْطَيْتُ اللَّهَ عَهْدًا أَنْ لَا أَمْلِكَكَ إِلَّا قَتَلْتُكَ فَقَتَلَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ خَلَّادٍ الطُّفَاوِيِّ بَلَغَ سَلْمَ بْنَ أَحَوْزَ وَكَانَ عَلَى شُرْطَةِ خُرَاسَانَ أَنَّ جَهْمَ بْنَ صَفْوَانَ يُنْكِرُ أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا فَقَتَلَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ بُكَيْرِ بْنِ مَعْرُوفٍ قَالَ رَأَيْتُ سَلْمَ بْنَ أَحَوْزَ حِينَ ضَرَبَ عُنُقَ جَهْمٍ فَاسْوَدَّ وَجْهُ جَهْمٍ، وَأَسْنَدَ أَبُو الْقَاسِمِ اللَّالَكَائِيُّ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ لَهُ أَنَّ قَتْلَ جَهْمٍ كَانَ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ

وَالْمُعْتَمَدُ مَا ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ أَنَّهُ كَانَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ، وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ رَحْمَةَ صَاحِبِ أَبِي إِسْحَاقَ الْفَزَارِيِّ أَنَّ قِصَّةَ جَهْمٍ كَانَتْ سَنَةَ ثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، وَهَذَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى جَبْرِ الْكَسْرِ، أَوْ عَلَى أَنَّ قَتْلَ جَهْمٍ تَرَاخَى عَنْ قَتْلِ الْحَارِثِ بْنِ سُرَيْجٍ، وَأَمَّا قَوْلُ الْكِرْمَانِيِّ: إِنَّ قَتْلَ جَهْمٍ كَانَ فِي خِلَافَةِ هِشَامٍ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَوَهْمٌ؛ لِأَنَّ خُرُوجَ الْحَارِثِ بْنِ سُرَيْجٍ الَّذِي كَانَ جَهْمٌ كَاتِبَهُ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَعَلَّ مُسْتَنَدُ الْكِرْمَانِيِّ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: قَرَأْتُ فِي دَوَاوِينِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ إِلَى نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ عَامِلِ خُرَاسَانَ: أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ نَجَمَ قِبَلَكَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: جَهْمٌ مِنَ الدَّهْرِيَّةِ، فَإِنْ ظَفِرْتَ بِهِ فَاقْتُلْهُ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ قَتْلُهُ وَقَعَ فِي زَمَنِ هِشَامٍ، وَإِنْ كَانَ ظُهُورُ مَقَالَتِهِ وَقَعَ قَبْلَ ذَلِكَ حَتَّى كَاتَبَ فِيهِ هِشَامٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ: فِرَقُ الْمُقِرِّينَ بِمِلَّةِ الْإِسْلَامِ خَمْسٌ: أَهْلُ السُّنَّةِ، ثُمَّ الْمُعْتَزِلَةُ؛ وَمِنْهُمُ الْقَدَرِيَّةُ، ثُمَّ الْمُرْجِئَةُ؛ وَمِنْهُمُ الْجَهْمِيَّةُ وَالْكَرَّامِيَّةُ ثُمَّ الرَّافِضَةُ؛ وَمِنْهُمُ الشِّيعَةُ، ثُمَّ الْخَوَارِجُ؛ وَمِنْهُمُ الْأَزَارِقَةُ وَالْإِبَاضِيَّةُ، ثُمَّ افْتَرَقُوا فِرَقًا كَثِيرَةً، فَأَكْثَرُ افْتِرَاقِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْفُرُوعِ، وَأَمَّا فِي الِاعْتِقَادِ فَفِي نُبَذٍ يَسِيرَةٍ، وَأَمَّا الْبَاقُونَ فَفِي مَقَالَاتِهِمْ مَا يُخَالِفُ أَهْلَ السُّنَّةِ الْخِلَافَ الْبَعِيدَ وَالْقَرِيبَ، فَأَقْرَبُ فِرَقٍ الْمُرْجِئَةُ مَنْ قَالَ: الْإِيمَانُ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ فَقَطْ، وَلَيْسَتِ الْعِبَادَةُ مِنَ الْإِيمَانِ. وَأَبْعَدُهُمُ الْجَهْمِيَّةُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْإِيمَانَ عَقْدٌ بِالْقَلْبِ فَقَطْ، وَإِنْ أَظْهَرَ الْكُفْرَ وَالتَّثْلِيثَ بِلِسَانِهِ، وَعَبَدَ الْوَثَنَ مِنْ غَيْرِ تَقِيَّةٍ، وَالْكَرَّامِيَّةُ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ فَقَطْ وَإِنِ اعْتَقَدَ الْكُفْرَ بِقَلْبِهِ، وَسَاقَ الْكَلَامَ عَلَى بَقِيَّةِ الْفِرَقِ ثُمَّ قَالَ: فَأَمَّا الْمُرْجِئَةُ فَعُمْدَتُهُمُ الْكَلَامُ فِي الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْعِبَادَةَ مِنَ الْإِيمَانِ، وَإِنَّهُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وَلَا يُكَفِّرُ مُؤْمِنًا بِذَنْبٍ، وَلَا يَقُولُ إِنَّهُ يَخْلُدُ فِي النَّارِ فَلَيْسَ مُرْجِئًا، وَلَوْ وَافَقَهُمْ فِي بَقِيَّةِ مَقَالَاتِهِمْ.

وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَعُمْدَتُهُمُ الْكَلَامُ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْقَدَرِ، فَمَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ، وَأَثْبَتَ الْقَدَرَ، وَرُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْقِيَامَةِ، وَأَثْبَتَ صِفَاتِهِ الْوَارِدَةَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَنَّ صَاحِبَ الْكَبَائِرِ لَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنِ الْإِيمَانِ فَلَيْسَ بِمُعْتَزِلِيٍّ، وَإِنْ وَافَقَهُمْ فِي سَائِرِ مَقَالَاتِهِمْ.

وَسَاقَ بَقِيَّةَ ذَلِكَ إِلَى أَنْ قَالَ: وَأَمَّا الْكَلَامُ فِيمَا يُوصَفُ اللَّهُ بِهِ فَمُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْفِرَقِ الْخَمْسَةِ، مِنْ مُثْبِتٍ لَهَا وَنَافٍ، فَرَأْسُ النُّفَاةِ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْجَهْمِيَّةُ؛ فَقَدْ بَالَغُوا فِي ذَلِكَ حَتَّى كَادُوا يُعَطِّلُونَ، وَرَأْسُ الْمُثْبِتَةِ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنَ الرَّافِضَةِ وَالْكَرَّامِيَّةِ؛ فَإِنَّهُمْ

ص: 346

بَالَغُوا فِي ذَلِكَ حَتَّى شَبَّهُوا اللَّهَ تَعَالَى بِخَلْقِهِ، تَعَالَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ أَقْوَالِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَنَظِيرُ هَذَا التَّبَايُنِ قَوْلُ الْجَهْمِيَّةِ: إِنَّ الْعَبْدَ لَا قُدْرَةَ لَهُ أَصْلًا، وَقَوْلُ الْقَدَرِيَّةِ: إِنَّهُ يَخْلُقُ فِعْلَ نَفْسِهِ. قُلْتُ: وَقَدْ أَفْرَدَ الْبُخَارِيُّ خَلْقَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ فِي تَصْنِيفٍ، وَذَكَرَ مِنْهُ هُنَا أَشْيَاءَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْجَهْمِيَّةِ.

‌1 - بَاب مَا جَاءَ فِي دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُمَّتَهُ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تبارك وتعالى

7371 -

حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ.

7372 -

و حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا مَعْبَدٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ لَمَّا بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى نَحْوِ أَهْلِ الْيَمَنِ قَالَ لَهُ إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ تَعَالَى فَإِذَا عَرَفُوا ذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ فَإِذَا صَلَّوْا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ غَنِيِّهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فَقِيرِهِمْ فَإِذَا أَقَرُّوا بِذَلِكَ فَخُذْ مِنْهُمْ وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ

7373 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي حَصِينٍ وَالأَشْعَثِ بْنِ سُلَيْمٍ سَمِعَا الأَسْوَدَ بْنَ هِلَالٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ قَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا أَتَدْرِي مَا حَقُّهُمْ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ

7374 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَجُلًا سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يُرَدِّدُهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا

7375 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنَا عَمْرٌو عَنْ ابْنِ أَبِي هِلَالٍ أَنَّ أَبَا الرِّجَالِ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَهُ عَنْ أُمِّهِ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَكَانَتْ فِي حَجْرِ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ وَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ فِي صَلَاتِهِمْ فَيَخْتِمُ بِقُلْ هُوَ

ص: 347

اللَّهُ أَحَدٌ فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ سَلُوهُ لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ فَسَأَلُوهُ فَقَالَ لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ"

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا جَاءَ فِي دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُمَّتَهُ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى) الْمُرَادُ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى الشَّهَادَةُ بِأَنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَهَذَا الَّذِي يُسَمِّيهِ بَعْضُ غُلَاةِ الصُّوفِيَّةِ تَوْحِيدَ الْعَامَّةِ، وَقَدِ ادَّعَى طَائِفَتَانِ فِي تَفْسِيرِ التَّوْحِيدِ أَمْرَيْنِ اخْتَرَعُوهُمَا، أَحَدُهُمَا: تَفْسِيرُ الْمُعْتَزِلَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، ثَانِيهُمَا: غُلَاةُ الصُّوفِيَّةِ؛ فَإِنَّ أَكَابِرَهُمْ لَمَّا تَكَلَّمُوا فِي مَسْأَلَةِ الْمَحْوِ وَالْفَنَاءِ، وَكَانَ مُرَادُهُمْ بِذَلِكَ الْمُبَالَغَةَ فِي الرِّضَا وَالتَّسْلِيمِ وَتَفْوِيضِ الْأَمْرِ، بَالَغَ بَعْضُهُمْ حَتَّى ضَاهَى الْمُرْجِئَةَ فِي نَفْيِ نِسْبَةِ الْفِعْلِ إِلَى الْعَبْدِ، وَجَرَّ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ إِلَى مَعْذِرَةِ الْعُصَاةِ، ثُمَّ غَلَا بَعْضُهُمْ فَعَذَرَ الْكُفَّارَ، ثُمَّ غَلَا بَعْضُهُمْ فَزَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّوْحِيدِ اعْتِقَادُ وِحْدَةِ الْوُجُودِ، وَعَظُمَ الْخَطْبُ حَتَّى سَاءَ ظَنُّ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِمُتَقَدِّمِيهِمْ وَحَاشَاهُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ قَدَّمْتُ كَلَامَ شَيْخِ الطَّائِفَةِ الْجُنَيْدِ، وَهُوَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَالْإِيجَازِ، وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ مَنْ قَالَ بِالْوَحْدَةِ الْمُطْلَقَةِ، فَقَالَ: وَهَلْ مِنْ غَيْرٍ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ كَلَامٌ طَوِيلٌ يَنْبُو عَنْهُ سَمْعُ كُلِّ مَنْ كَانَ عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

وَذَكَرَ فِي الْبَابِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ:

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: حَدِيثُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ فِي بَعْثِهِ إِلَى الْيَمَنِ، أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ الْأُولَى أَعْلَى مِنَ الثَّانِيَةِ، وَقَدْ أَوْرَدَ الطَّرِيقَ الْعَالِيَةَ فِي (كِتَابِ الزَّكَاةِ) وَسَاقَهَا هُنَاكَ عَلَى لَفْظِ أَبِي عَاصِمٍ رَاوِيهَا، وَذَكَرَهُ هُنَاكَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِنُزُولٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْأَسْوَدِ شَيْخُهُ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْأَسْوَدِ يُنْسَبُ إِلَى جَدِّهِ وَاسْمُهُ حُمَيْدُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَالْفَضْلُ بْنُ الْعَلَاءِ يُكْنَى أَبَا الْعَلَاءِ، وَيُقَالُ: أَبُو الْعَبَّاسِ، وَهُوَ كُوفِيٌّ نَزَلَ الْبَصْرَةَ وَثَّقَهُ عَلِيُّ ابْنُ الْمَدِينِيِّ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: شَيْخٌ يُكْتَبُ حَدِيثُهُ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: كَثِيرُ الْوَهْمِ. قُلْتُ: وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَدْ قَرَنَهُ بِغَيْرِهِ، وَلَكِنَّهُ سَاقَ الْمَتْنَ هُنَا عَلَى لَفْظِهِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ) كَذَا لِلْجَمِيعِ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَهُوَ تَصْحِيفٌ، وَكَأَنَّ الْمِيمَ انْفَتَحَتْ فَصَارَتْ تُشْبِهُ السِّينَ.

قَوْلُهُ: (لَمَّا بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى نَحْوِ أَهْلِ الْيَمَنِ) أَيْ إِلَى جِهَةِ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُقَيِّدُ الرِّوَايَةَ الْمُطْلَقَةَ بِلَفْظِ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ فَبَيَّنَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ أَنَّ لَفْظَ الْيَمَنِ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، أَوْ مِنْ إِطْلَاقِ الْعَامِّ وَإِرَادَةِ الْخَاصِّ، أَوْ لِكَوْنِ اسْمِ الْجِنْسِ يُطْلَقُ عَلَى بَعْضِهِ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى كُلِّهِ، وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ مِنْ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ هَذِهِ الرِّوَايَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ بَعْثِ أَبِي مُوسَى وَمُعَاذٍ إِلَى الْيَمَنِ فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى، وَبَعَثَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مِخْلَافٍ قَالَ: وَالْيَمَنُ مِخْلَافَانِ وَتَقَدَّمَ ضَبْطُ الْمِخْلَافِ وَشَرْحُهُ هُنَاكَ، ثُمَّ قَوْلُهُ: إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ إِطْلَاقِ الْكُلَّ وَإِرَادَةِ الْبَعْضَ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا بَعَثَهُ إِلَى بَعْضِهِمْ لَا إِلَى جَمِيعِهِمْ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ عَلَى عُمُومِهِ فِي الدَّعْوَى إِلَى الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ، وَإِنْ كَانَتْ إِمْرَةُ مُعَاذٍ إِنَّمَا كَانَتْ عَلَى جِهَةٍ مِنَ الْيَمَنِ مَخْصُوصَةٍ.

قَوْلُهُ: (إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) هُمُ الْيَهُودُ، وَكَانَ ابْتِدَاءُ دُخُولِ الْيَهُودِيَّةِ الْيَمَنَ فِي زَمَنِ أَسْعَدَ ذِي كَرِبَ، وَهُوَ تُبَّعٌ الْأَصْغَرُ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ مُطَوَّلًا فِي السِّيرَةِ، فَقَامَ الْإِسْلَامُ وَبَعْضُ أَهْلِ الْيَمَنِ عَلَى الْيَهُودِيَّةِ، وَدَخَلَ دِينُ النَّصْرَانِيَّةِ إِلَى الْيَمَنِ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَّا غَلَبَتِ الْحَبَشَةُ

ص: 348

عَلَى الْيَمَنِ، وَكَانَ مِنْهُمْ إِبْرَهَةُ صَاحِبُ الْفِيلَ الَّذِي غَزَا مَكَّةَ وَأَرَادَ هَدْمَ الْكَعْبَةِ حَتَّى أَجْلَاهُمْ عَنْهَا سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ، كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ مَبْسُوطًا أَيْضًا، وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْيَمَنِ أَحَدٌ مِنَ النَّصَارَى أَصْلًا إِلَّا بِنَجْرَانَ وَهِيَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْيَمَنِ، وَبَقِيَ بِبَعْضِ بِلَادِهَا قَلِيلٌ مِنَ الْيَهُودِ.

قَوْلُهُ: (فَلْيَكُنْ أَوَّلُ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ فَإِذَا عَرَفُوا ذَلِكَ) مَضَى فِي وَسَطِ الزَّكَاةِ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بِلَفْظِ: فَلْيَكُنْ أَوَّلُ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةَ اللَّهِ فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنِ الشَّيْخِ الَّذِي أَخْرَجَهُ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ قَالَ: أَوَّلُ وَاجِبٍ الْمَعْرِفَةُ كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى الْإِتْيَانُ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَأْمُورَاتِ عَلَى قَصْدِ الِامْتِثَالِ، وَلَا الِانْكِفَافُ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْمَنْهِيَّاتِ عَلَى قَصْدِ الِانْزِجَارِ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْآمِرِ وَالنَّاهِي، وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ لَا تَتَأَتَّى إِلَّا بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَهُوَ مُقَدِّمَةُ الْوَاجِبِ فَيَجِبُ فَيَكُونُ أَوَّلُ وَاجِبٍ النَّظَرُ، وَذَهَبَ إِلَى هَذَا طَائِفَةٌ كَابْنِ فَوْرَكٍ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ النَّظَرَ ذُو أَجْزَاءٍ يَتَرَتَّبُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، فَيَكُونُ أَوَّلُ وَاجِبٍ جُزْءًا مِنَ النَّظَرِ وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ، وَعَنِ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيِّ أَوَّلُ وَاجِبٍ الْقَصْدُ إِلَى النَّظَرِ، وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِأَنَّ مَنْ قَالَ أَوَّلُ وَاجِبٍ الْمَعْرِفَةُ أَرَادَ طَلَبًا وَتَكْلِيفًا، وَمَنْ قَالَ النَّظَرُ أَوِ الْقَصْدُ أَرَادَ امْتِثَالًا؛ لِأَنَّهُ يُسَلَّمُ أَنَّهُ وَسِيلَةٌ إِلَى تَحْصِيلِ الْمَعْرِفَةِ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى سَبْقِ وُجُوبِ الْمَعْرِفَةِ، وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ هَذَا مِنْ أَصْلِهِ، وَتَمَسَّكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} وَحَدِيثِ: كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَإِنَّ

ظَاهِرَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ حَاصِلَةٌ بِأَصْلِ الْفِطْرَةِ، وَأَنَّ الْخُرُوجَ عَنْ ذَلِكَ يَطْرَأُ عَلَى الشَّخْصِ؛ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَقَدْ وَافَقَ أَبُو جَعْفَرٍ السِّمْنَانِيُّ وَهُوَ مِنْ رُءُوسِ الْأَشَاعِرَةِ عَلَى هَذَا، وَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بَقِيَتْ فِي مَقَالَةِ الْأَشْعَرِيِّ مِنْ مَسَائِلِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَتَفَرَّعَ عَلَيْهَا أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مَعْرِفَةُ اللَّهِ بِالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَا يَكْفِي التَّقْلِيدُ فِي ذَلِكَ، انْتَهَى. وَقَرَأْتُ فِي جُزْءٍ مِنْ كَلَامِ شَيْخِ شَيْخِنَا الْحَافِظِ صَلَاحِ الدِّينِ الْعَلَائِيِّ مَا مُلَخَّصُهُ: أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِمَّا تَنَاقَضَتْ فِيهَا الْمَذَاهِبُ وَتَبَايَنَتْ بَيْنَ مُفْرِطٍ وَمُفَرِّطٍ وَمُتَوَسِّطٍ، فَالطَّرَفُ الْأَوَّلُ: قَوْلُ مَنْ قَالَ: يَكْفِي التَّقْلِيدُ الْمَحْضُ فِي إِثْبَاتِ وُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَفْيِ الشَّرِيكِ عَنْهُ، وَمِمَّنْ نُسِبَ إِلَيْهِ إِطْلَاقُ ذَلِكَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَالظَّاهِرِيَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ بَالَغَ فَحَرَّمَ النَّظَرَ فِي الْأَدِلَّةِ، وَاسْتَنَدَ إِلَى مَا ثَبَتَ عَنِ الْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ مِنْ ذَمِّ الْكَلَامِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.

وَالطَّرَفُ الثَّانِي: قَوْلُ مَنْ وَقَفَ صِحَّةَ إِيمَانِ كُلِّ أَحَدٍ عَلَى مَعْرِفَةِ الْأَدِلَّةِ مِنْ عِلْمِ الْكَلَامِ، وَنُسِبَ ذَلِكَ لِأَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيِّ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: أَسْرَفَتْ طَائِفَةٌ فَكَفَّرُوا عَوَامَّ الْمُسْلِمِينَ، وَزَعَمُوا أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِفِ الْعَقَائِدَ الشَّرْعِيَّةَ بِالْأَدِلَّةِ الَّتِي حَرَّرُوهَا فَهُوَ كَافِرٌ، فَضَيَّقُوا رَحْمَةَ اللَّهِ الْوَاسِعَةَ، وَجَعَلُوا الْجَنَّةَ مُخْتَصَّةً بِشِرْذِمَةٍ يَسِيرَةٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَذَكَرَ نَحْوَهُ أَبُو الْمُظَفَّرِ بْنُ السَّمْعَانِيِّ وَأَطَالَ فِي الرَّدِّ عَلَى قَائِلِهِ، وَنَقَلَ عَنْ أَكْثَرِ أَئِمَّةِ الْفَتْوَى أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ تُكَلِّفَ الْعَوَامَّ اعْتِقَادَ الْأُصُولِ بِدَلَائِلِهَا؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَشَقَّةِ أَشَدَّ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي تَعَلُّمِ الْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ.

وَأَمَّا الْمَذْهَبُ الْمُتَوَسِّطُ فَذَكَرَهُ، وَسَأَذْكُرُهُ مُلَخَّصًا بَعْدَ هَذَا، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ: فِي شَرْحِ حَدِيثِ: أَبْغَضُ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ الَّذِي تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَثْنَاءِ كِتَابِ الْأَحْكَامِ وَهُوَ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْعِلْمِ مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، هَذَا الشَّخْصُ الَّذِي يَبْغَضُهُ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يَقْصِدُ بِخُصُومَتِهِ مُدَافَعَةَ الْحَقِّ، وَرَدَّهُ بِالْأَوْجُهِ الْفَاسِدَةِ وَالشُّبَهِ الْمُوهِمَةِ، وَأَشَدُّ ذَلِكَ الْخُصُومَةُ فِي أُصُولِ الدِّينِ، كَمَا يَقَعُ لِأَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُعْرِضِينَ عَنِ الطُّرُقِ الَّتِي أَرْشَدَ إِلَيْهَا كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَسَلَفُ أُمَّتِهِ، إِلَى طُرُقٍ مُبْتَدَعَةٍ وَاصْطِلَاحَاتٍ مُخْتَرَعَةٍ وَقَوَانِينَ

ص: 349

جَدَلِيَّةٍ وَأُمُورٍ صِنَاعِيَّةٍ، مَدَارُ أَكْثَرِهَا عَلَى آرَاءٍ سُوفِسْطَائِيَّةٍ، أَوْ مُنَاقَضَاتٍ لَفْظِيَّةٍ يَنْشَأُ بِسَبَبِهَا عَلَى الْآخِذِ فِيهَا شُبَهٌ رُبَّمَا يَعْجِزُ عَنْهَا، وَشُكُوكٌ يَذْهَبُ الْإِيمَانُ مَعَهَا، وَأَحْسَنُهُمُ انْفِصَالًا عَنْهَا أَجَدْلُهُمْ لَا أَعْلَمُهُمْ، فَكَمْ مِنْ عَالِمٍ بِفَسَادِ الشُّبْهَةِ لَا يَقْوَى عَلَى حَلِّهَا، وَكَمْ مِنْ مُنْفَصِلٍ عَنْهَا لَا يُدْرِكُ حَقِيقَةَ عِلْمِهَا، ثُمَّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَدِ ارْتَكَبُوا أَنْوَاعًا مِنَ الْمُحَالِ لَا يَرْتَضِيهَا الْبُلْهُ وَلَا الْأَطْفَالُ، لَمَّا بَحَثُوا عَنْ تَحَيُّزِ الْجَوَاهِرِ وَالْأَلْوَانِ وَالْأَحْوَالِ، فَأَخَذُوا فِيمَا أَمْسَكَ عَنْهُ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِنْ كَيْفِيَّاتِ تَعَلُّقَاتِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَعْدِيدِهَا وَاتِّحَادِهَا فِي نَفْسِهَا، وَهَلْ هِيَ الذَّاتُ أَوْ غَيْرُهَا؟ وَفِي الْكَلَامِ: هَلْ هُوَ مُتَّحِدٌ أَوْ مُنْقَسِمٌ؟

وَعَلَى الثَّانِي: هَلْ يَنْقَسِمُ بِالنَّوْعِ أَوِ الْوَصْفِ؟ وَكَيْفَ تَعَلَّقَ فِي الْأَزَلِ بِالْمَأْمُورِ مَعَ كَوْنِهِ حَادِثًا؟ ثُمَّ إِذَا انْعَدَمَ الْمَأْمُورُ هَلْ يَبْقَى التَّعَلُّقُ؟ وَهَلِ الْأَمْرُ لِزَيْدٍ بِالصَّلَاةِ مَثَلًا هُوَ نَفْسُ الْأَمْرِ لِعَمْرٍو بِالزَّكَاةِ؟ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ابْتَدَعُوهُ مِمَّا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ الشَّارِعُ، وَسَكَتَ عَنْهُ الصَّحَابَةُ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ، بَلْ نَهَوْا عَنِ الْخَوْضِ فِيهَا؛ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ بَحْثٌ عَنْ كَيْفِيَّةِ مَا لَا تُعْلَمُ كَيْفِيَّتُهُ بِالْعَقْلِ؛ لِكَوْنِ الْعُقُولِ لَهَا حَدٌّ تَقِفُ عِنْدَهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْبَحْثِ عَنْ كَيْفِيَّةِ الذَّاتِ وَكَيْفِيَّةِ الصِّفَاتِ، وَمَنْ تَوَقَّفَ فِي هَذَا، فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا كَانَ حُجِبَ عَنْ كَيْفِيَّةِ نَفْسِهِ مَعَ وُجُودِهَا، وَعَنْ كَيْفِيَّةِ إِدْرَاكِ مَا يُدْرِكُ بِهِ فَهُوَ عَنْ إِدْرَاكِ غَيْرِهِ أَعْجَزُ، وَغَايَةُ عِلْمِ الْعَالِمِ أَنْ يَقْطَعَ بِوُجُودِ فَاعِلٍ لِهَذِهِ الْمَصْنُوعَاتِ، مُنَزَّهٍ عَنِ الشَّبِيهِ، مُقَدَّسٍ عَنِ النَّظِيرِ، مُتَّصِفٍ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، ثُمَّ مَتَى ثَبَتَ النَّقْلُ عَنْهُ بِشَيْءٍ مِنْ أَوْصَافِهِ وَأَسْمَائِهِ قَبِلْنَاهُ وَاعْتَقَدْنَاهُ وَسَكَتْنَا عَمَّا عَدَاهُ، كَمَا هُوَ طَرِيقُ السَّلَفِ، وَمَا عَدَاهُ لَا يَأْمَنُ صَاحِبُهُ مِنَ الزَّلَلِ، وَيَكْفِي فِي الرَّدْعِ عَنِ الْخَوْضِ فِي طُرُقِ الْمُتَكَلِّمِينَ مَا ثَبَتَ عَنِ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ كَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَقَدْ قَطَعَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَخُوضُوا فِي الْجَوْهَرِ وَالْعَرَضِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنْ مَبَاحِثِ الْمُتَكَلِّمِينَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ طَرِيقِهِمْ فَكَفَاهُ ضَلَالًا.

قَالَ: وَأَفْضَى الْكَلَامُ بِكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِهِ إِلَى الشَّكِّ، وَبِبَعْضِهِمْ إِلَى الْإِلْحَادِ وَبِبَعْضِهِمْ إِلَى التَّهَاوُنِ بِوَظَائِفِ الْعِبَادَاتِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ إِعْرَاضُهُمْ عَنْ نُصُوصِ الشَّارِعِ، وَتَطَلُّبُهُمْ حَقَائِقَ الْأُمُورِ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ فِي قُوَّةِ الْعَقْلِ مَا يُدْرِكُ مَا فِي نُصُوصِ الشَّارِعِ مِنَ الْحِكَمِ الَّتِي اسْتَأْثَرَ بِهَا، وَقَدْ رَجَعَ كَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّتِهِمْ عَنْ طَرِيقِهِمْ، حَتَّى جَاءَ عَنْ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: رَكِبْتُ الْبَحْرَ الْأَعْظَمَ، وَغُصْتُ فِي كُلِّ شَيْءٍ نَهَى عَنْهُ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي طَلَبِ الْحَقِّ فِرَارًا مِنَ التَّقْلِيدِ، وَالْآنَ فَقَدْ رَجَعْتُ وَاعْتَقَدْتُ مَذْهَبَ السَّلَفِ هَذَا كَلَامُهُ أَوْ مَعْنَاهُ، وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ: يَا أَصْحَابَنَا لَا تَشْتَغِلُوا بِالْكَلَامِ، فَلَوْ عَرَفْتُ أَنَّهُ يَبْلُغُ بِي مَا بَلَغْتُ مَا تَشَاغَلْتُ بِهِ، إِلَى أَنْ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْكَلَامِ إِلَّا مَسْأَلَتَانِ هُمَا مِنْ مَبَادِئِهِ لَكَانَ حَقِيقًا بِالذَّمِّ: إِحْدَاهُمَا: قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّ أَوَّلَ وَاجِبٍ الشَّكُّ؛ إِذْ هُوَ اللَّازِمُ عَنْ وُجُوبِ النَّظَرِ أَوِ الْقَصْدِ إِلَى النَّظَرِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْإِمَامُ بِقَوْلِهِ: رَكِبْتُ الْبَحْرَ.

ثَانِيَتُهُمَا: قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ: إِنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِفِ اللَّهَ بِالطُّرُقِ الَّتِي رَتَّبُوهَا وَالْأَبْحَاثِ الَّتِي حَرَّرُوهَا لَمْ يَصِحَّ إِيمَانُهُ، حَتَّى لَقَدْ أَوْرَدَ عَلَى بَعْضِهِمْ أَنَّ هَذَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَكْفِيرُ أَبِيكَ وَأَسْلَافَكَ وَجِيرَانَكَ، فَقَالَ: لَا تُشَنِّعُ عَلَيَّ بِكَثْرَةِ أَهْلِ النَّارِ، قَالَ: وَقَدْ رَدَّ بَعْضُ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِهِمَا عَلَى مَنْ قَالَ بِهِمَا بِطَرِيقٍ مِنَ الرَّدِّ النَّظَرِيِّ وَهُوَ خَطَأٌ مِنْهُ؛ فَإِنَّ الْقَائِلَ بِالْمَسْأَلَتَيْنِ كَافِرٌ شَرْعًا؛ لِجَعْلِهِ الشَّكَّ فِي اللَّهِ وَاجِبًا، وَمُعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ كُفَّارًا حَتَّى يَدْخُلَ فِي عُمُومِ كَلَامِهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَهَذَا مَعْلُومُ الْفَسَادِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَإِلَّا فَلَا يُوجَدُ فِي الشَّرْعِيَّاتِ ضَرُورِيٌّ، وَخَتَمَ الْقُرْطُبِيُّ كَلَامَهُ بِالِاعْتِذَارِ عَنْ إِطَالَةِ النَّفَسِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؛ لِمَا شَاعَ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ حَتَّى اغْتَرَّ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ الْأَغْمَارِ فَوَجَبَ بَذْلُ النَّصِيحَةِ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ انْتَهَى.

وَقَالَ الْآمِدِيُّ فِي أَبْكَارِ الْأَفْكَارِ: ذَهَبَ أَبُو هَاشِمٍ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ إِلَى أَنَّ مَنْ لَا يَعْرِفُ اللَّهَ بِالدَّلِيلِ فَهُوَ كَافِرٌ؛ لِأَنَّ ضِدَّ الْمَعْرِفَةِ النَّكِرَةُ

ص: 350

وَالنَّكِرَةُ كُفْرٌ.

قَالَ: وَأَصْحَابُنَا مُجْمِعُونَ عَلَى خِلَافِهِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا كَانَ الِاعْتِقَادُ مُوَافِقًا لَكِنْ عَنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ صَاحِبَهُ مُؤْمِنٌ عَاصٍ بِتَرْكِ النَّظَرِ الْوَاجِبِ، وَمِنْهُمْ مَنِ اكْتَفَى بِمُجَرَّدِ الِاعْتِقَادِ الْمُوَافِقِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ دَلِيلٍ وَسَمَّاهُ عِلْمًا، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ حُصُولِ الْمَعْرِفَةِ بِهَذَا الطَّرِيقِ وُجُوبُ النَّظَرِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: مَنْ مَنَعَ التَّقْلِيدَ وَأَوْجَبَ الِاسْتِدْلَالَ لَمْ يُرِدِ التَّعَمُّقَ فِي طَرِيقِ الْمُتَكَلِّمِينَ، بَلِ اكْتَفَى بِمَا لَا يَخْلُو عَنْهُ مَنْ نَشَأَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْمَصْنُوعِ عَلَى الصَّانِعِ، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ يَحْصُلُ فِي الذِّهْنِ مُقَدِّمَاتٌ ضَرُورِيَّةٌ تَتَأَلَّفُ تَأَلُّفًا صَحِيحًا وَتُنْتِجُ الْعِلْمَ؛ لَكِنَّهُ لَوْ سُئِلَ كَيْفَ حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ مَا اهْتَدَى لِلتَّعْبِيرِ بِهِ، وَقِيلَ: الْأَصْلُ فِي هَذَا كُلِّهِ الْمَنْعُ مِنَ التَّقْلِيدِ فِي أُصُولِ الدِّينِ، وَقَدِ انْفَصَلَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّقْلِيدِ أَخْذُ قَوْلِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ، وَمَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ حُجَّةٌ بِثُبُوتِ النُّبُوَّةِ حَتَّى حَصَلَ لَهُ الْقَطْعُ بِهَا، فَمَهْمَا سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ مَقْطُوعًا عِنْدَهُ بِصِدْقِهِ، فَإِذَا اعْتَقَدَهُ لَمْ يَكُنْ مُقَلِّدًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ بِقَوْلِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ، وَهَذَا مُسْتَنَدُ السَّلَفِ قَاطِبَةً فِي الْأَخْذِ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَأَحَادِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْبَابِ، فَآمَنُوا بِالْمُحْكَمِ مِنْ ذَلِكَ وَفَوَّضُوا أَمْرَ الْمُتَشَابِهِ مِنْهُ إِلَى رَبِّهِمْ.

وَإِنَّمَا قَالَ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَذْهَبَ الْخَلَفِ أَحْكَمُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ لَمْ يُثْبِتِ النُّبُوَّةَ، فَيَحْتَاجُ مَنْ يُرِيدُ رُجُوعَهُ إِلَى الْحَقِّ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةَ إِلَى أَنْ يُذْعِنَ فَيُسَلِّمَ أَوْ يُعَانِدَ فَيَهْلِكَ، بِخِلَافِ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِي أَصْلِ إِيمَانِهِ إِلَى ذَلِكَ، وَلَيْسَ سَبَبُ الْأَوَّلِ إِلَّا جَعْلُ الْأَصْلِ عَدَمَ الْإِيمَانِ، فَلَزِمَ إِيجَابُ النَّظَرِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْمَعْرِفَةِ، وَإِلَّا فَطَرِيقُ السَّلَفِ أَسْهَلُ مِنْ هَذَا، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى مَا ذَكَرَ مِنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى مَنْ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ، فَاخْتَلَطَ الْأَمْرُ عَلَى مَنِ اشْتَرَطَ ذَلِكَ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

وَاحْتَجَّ بَعْضُ مَنْ أَوْجَبَ الِاسْتِدْلَالَ بِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى ذَمِّ التَّقْلِيدِ، وَذَكَرُوا الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَمِّ التَّقْلِيدِ، وَبِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ قَبْلَ الِاسْتِدْلَالِ لَا يَدْرِي أَيُّ الْأَمْرَيْنِ هُوَ الْهَدْيُ، وَبِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالدَّلِيلِ فَهُوَ دَعْوَى لَا يُعْمَلُ بِهَا، وَبِأَنَّ الْعِلْمَ اعْتِقَادُ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ ضَرُورَةٍ أَوِ اسْتِدْلَالٍ وَكُلَّ مَا لَمْ يَكُنْ عِلْمًا فَهُوَ جَهْلٌ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا فَهُوَ ضَالٌّ.

وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمَذْمُومَ مِنَ التَّقْلِيدِ أَخْذُ قَوْلِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْهُ حُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ اتِّبَاعَهُ فِي كُلِّ مَا يَقُولُ، وَلَيْسَ الْعَمَلُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ أَوْ نَهَى عَنْهُ دَاخِلًا تَحْتَ التَّقْلِيدِ الْمَذْمُومِ اتِّفَاقًا، وَأَمَّا مَنْ دُونِهِ مِمَّنِ اتَّبَعَهُ فِي قَوْلٍ قَالَهُ وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقُلْهُ لَمْ يَقُلْ هُوَ بِهِ فَهُوَ الْمُقَلِّدُ الْمَذْمُومُ، بِخِلَافِ مَا لَوِ اعْتَقَدَ ذَلِكَ فِي خَبَرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مَمْدُوحًا، وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِأَنَّ أَحَدًا لَا يَدْرِي قَبْلَ الِاسْتِدْلَالِ أَيَّ الْأَمْرَيْنِ هُوَ الْهُدَى، فَلَيْسَ بِمُسَلَّمٍ، بَلْ مِنَ النَّاسِ مَنْ تَطْمَئِنُّ نَفْسُهُ وَيَنْشَرِحُ صَدْرُهُ لِلْإِسْلَامِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَوَقَّفُ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ، فَالَّذِي ذَكَرُوهُ هُمْ أَهْلُ الشِّقِّ الثَّانِي، فَيَجِبُ عَلَيْهِ النَّظَرُ؛ لِيَقِيَ نَفْسَهُ النَّارَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنِ اسْتَرْشَدَهُ أَنْ يُرْشِدَهُ وَيُبَرْهِنَ لَهُ الْحَقَّ، وَعَلَى هَذَا مَضَى السَّلَفُ الصَّالِحُ مِنْ عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَعْدَهُ.

وَأَمَّا مَنِ اسْتَقَرَّتْ نَفْسُهُ إِلَى تَصْدِيقِ الرَّسُولِ وَلَمْ تُنَازِعْهُ نَفْسُهُ إِلَى طَلَبِ دَلِيلٍ تَوْفِيقًا مِنَ اللَّهِ وَتَيْسِيرًا، فَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِي حَقِّهِمْ:{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} الْآيَةَ. وَقَالَ: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} الْآيَةَ وَلَيْسَ هَؤُلَاءِ مُقَلِّدِينَ لِآبَائِهِمْ وَلَا لِرُؤَسَائِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ كَفَرَ آبَاؤُهُمْ أَوْ رُؤَسَاؤُهُمْ لَمْ يُتَابِعُوهُمْ، بَلْ يَجِدُونَ النُّفْرَةَ عَنْ كُلِّ مَنْ سَمِعُوا عَنْهُ مَا يُخَالِفُ الشَّرِيعَةَ، وَأَمَّا الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فَإِنَّمَا وَرَدَتْ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا مَنْ نُهُوا عَنِ اتِّبَاعِهِ، وَتَرَكُوا اتِّبَاعَ مَنْ أُمِرُوا بِاتِّبَاعِهِ. وَإِنَّمَا كَلَّفَهُمُ اللَّهُ الْإِتْيَانَ بِبُرْهَانٍ عَلَى دَعْوَاهُمْ بِخِلَافِ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمْ يَرِدْ قَطُّ أَنَّهُ أَسْقَطَ اتِّبَاعَهُمْ حَتَّى يَأْتُوا

ص: 351

بِالْبُرْهَانِ. وَكُلُّ مَنْ خَالَفَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَلَا بُرْهَانَ لَهُ أَصْلًا، وَإِنَّمَا كُلِّفَ الْإِتْيَانُ بِالْبُرْهَانِ تَبْكِيتًا وَتَعْجِيزًا.

وَأَمَّا مَنِ اتَّبَعَ الرَّسُولَ فِيمَا جَاءَ بِهِ فَقَدِ اتَّبَعَ الْحَقَّ الَّذِي أُمِرَ بِهِ وَقَامَتِ الْبَرَاهِينُ عَلَى صِحَّتِهِ، سَوَاءٌ عَلِمَ هُوَ بِتَوْجِيهِ ذَلِكَ الْبُرْهَانِ أَمْ لَا.

وَقَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ: إِنَّ اللَّهَ ذَكَرَ الِاسْتِدْلَالَ وَأَمَرَ بِهِ، مُسَلَّمٌ، لَكِنْ هُوَ فِعْلٌ حَسَنٌ مَنْدُوبٌ لِكُلِّ مَنْ أَطَاقَهُ، وَوَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مَنْ لَمْ تَسْكُنْ نَفْسُهُ إِلَى التَّصْدِيقِ، كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

وَقَالَ غَيْرُهُ: قَوْلُ مَنْ قَالَ: طَرِيقَةُ السَّلَفِ أَسْلَمُ، وَطَرِيقَةُ الْخَلَفِ أَحْكَمُ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ طَرِيقَةَ السَّلَفِ مُجَرَّدُ الْإِيمَانِ بِأَلْفَاظِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ مِنْ غَيْرِ فِقْهٍ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ طَرِيقَةَ الْخَلَفِ هِيَ اسْتِخْرَاجُ مَعَانِي النُّصُوصِ الْمَصْرُوفَةِ عَنْ حَقَائِقِهَا بِأَنْوَاعِ الْمَجَازَاتِ، فَجَمَعَ هَذَا الْقَائِلُ بَيْنَ الْجَهْلِ بِطَرِيقَةِ السَّلَفِ وَالدَّعْوَى فِي طَرِيقَةِ الْخَلَفِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ظَنَّ، بَلِ السَّلَفُ فِي غَايَةِ الْمَعْرِفَةِ بِمَا يَلِيقُ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَفِي غَايَةِ التَّعْظِيمِ لَهُ وَالْخُضُوعِ لِأَمْرِهِ وَالتَّسْلِيمِ لِمُرَادِهِ، وَلَيْسَ مَنْ سَلَكَ طَرِيقَ الْخَلَفِ وَاثِقًا بِأَنَّ الَّذِي يَتَأَوَّلُهُ هُوَ الْمُرَادُ، وَلَا يُمْكِنُهُ الْقَطْعُ بِصِحَّةِ تَأْوِيلِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ فِي الْعِلْمِ فَزَادُوا فِي التَّعْرِيفِ عَنْ ضَرُورَةٍ أَوِ اسْتِدْلَالٍ وَتَعْرِيفُ الْعِلْمِ انْتَهَى عِنْدَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ: فَإِنْ أَبَوْا إِلَّا الزِّيَادَةَ فَلْيَزْدَادُوا عَنْ تَيْسِيرِ اللَّهِ لَهُ ذَلِكَ، وَخَلْقِهِ ذَلِكَ الْمُعْتَقِدِ فِي قَلْبِهِ، وَإِلَّا فَالَّذِي زَادُوهُ هُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

وَقَالَ أَبُو الْمُظَفَّرِ بْنُ السَّمْعَانِيِّ: تَعَقَّبَ بَعْضُ أَهْلِ الْكَلَامِ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ السَّلَفَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَمْ يَعْتَنُوا بِإِيرَادِ دَلَائِلِ الْعَقْلِ فِي التَّوْحِيدِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَشْتَغِلُوا بِالتَّعْرِيفَاتِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ، وَقَدْ قَبِلَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ وَاسْتَحْسَنُوهُ فَدَوَّنُوهُ فِي كُتُبِهِمْ، فَكَذَلِكَ عِلْمُ الْكَلَامِ، وَيَمْتَازُ عِلْمُ الْكَلَامِ بِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الرَّدَّ عَلَى الْمُلْحِدِينَ وَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ، وَبِهِ تَزُولُ الشُّبْهَةُ عَنْ أَهْلِ الزَّيْغِ وَيَثْبُتُ الْيَقِينُ لِأَهْلِ الْحَقِّ، وَقَدْ عَلِمَ الْكُلُّ أَنَّ الْكِتَابَ لَمْ تُعْلَمْ حَقِيقَتُهُ، وَالنَّبِيُّ لَمْ يَثْبُتْ صِدْقُهُ إِلَّا بِأَدِلَّةِ الْعَقْلِ، وَأَجَابَ: أَمَّا أَوَّلًا فَإِنَّ الشَّارِعَ وَالسَّلَفَ الصَّالِحَ نَهَوْا عَنِ الِابْتِدَاعِ وَأَمَرُوا بِالِاتِّبَاعِ، وَصَحَّ عَنِ السَّلَفِ أَنَّهُمْ نَهَوْا عَنْ عِلْمِ الْكَلَامِ وَعَدُّوهُ ذَرِيعَةً لِلشَّكِّ وَالِارْتِيَابِ.

وَأَمَّا الْفُرُوعُ فَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمُ النَّهْيُ عَنْهَا إِلَّا مَنْ تَرَكَ النَّصَّ الصَّحِيحَ وَقَدَّمَ عَلَيْهِ الْقِيَاسَ، وَأَمَّا مَنِ اتَّبَعَ النَّصَّ وَقَاسَ عَلَيْهِ فَلَا يُحْفَظُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ إِنْكَارُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَوَادِثَ فِي الْمُعَامَلَاتِ لَا تَنْقَضِي، وَبِالنَّاسِ حَاجَةٌ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ، فَمِنْ ثَمَّ تَوَارَدُوا عَلَى اسْتِحْبَابِ الِاشْتِغَالِ بِذَلِكَ، بِخِلَافِ عِلْمِ الْكَلَامِ. وَأَمَّا ثَانِيًا: فَإِنَّ الدِّينَ كَمُلَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فَإِذَا كَانَ أَكْمَلَهُ وَأَتَمَّهُ، وَتَلَقَّاهُ الصَّحَابَةُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَاعْتَقَدَهُ مَنْ تَلَقَّى عَنْهُمْ وَاطْمَأَنَّتْ بِهِ نُفُوسُهُمْ فَأَيُّ حَاجَةٍ بِهِمْ إِلَى تَحْكِيمِ الْعُقُولِ وَالرُّجُوعِ إِلَى قَضَايَاهَا وَجَعْلِهَا أَصْلًا، وَالنُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ تُعْرَضُ عَلَيْهَا فَتَارَةً يُعْمَلُ بِمَضْمُونِهَا، وَتَارَةً تُحَرَّفُ عَنْ مَوَاضِعِهَا لِتُوَافِقُ الْعُقُولَ. وَإِذَا كَانَ الدِّينُ قَدْ كَمُلَ فَلَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ فِيهِ إِلَّا نُقْصَانًا فِي الْمَعْنَى، مِثْلَ زِيَادَةِ أُصْبُعٍ فِي الْيَدِ فَإِنَّهَا تُنْقِصُ قِيمَةَ الْعَبْدِ الَّذِي يَقَعُ بِهِ ذَلِكَ، وَقَدْ تَوَسَّطَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ فَقَالَ: لَا يَكْفِي التَّقْلِيدُ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ يَنْشَرِحُ بِهِ الصَّدْرُ، وَتَحْصُلُ بِهِ الطُّمَأْنِينَةُ الْعِلْمِيَّةُ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ الصِّنَاعَةِ الْكَلَامِيَّةِ بَلْ يَكْفِي فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ فَهْمُهُ، انْتَهَى.

وَالَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ تَقْلِيدِ النُّصُوصِ كَافٍ فِي هَذَا الْقَدْرِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَطْلُوبُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ التَّصْدِيقُ الْجَزْمِيُّ الَّذِي لَا رَيْبَ مَعَهُ بِوُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْإِيمَانِ بِرُسُلِهِ، وَبِمَا جَاءُوا بِهِ كَيْفَمَا حَصَلَ، وَبِأَيِّ طَرِيقٍ إِلَيْهِ يُوَصِّلُ، وَلَوْ كَانَ عَنْ تَقْلِيدٍ مَحْضٍ إِذَا سَلِمَ مِنَ التَّزَلْزُلِ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا الَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْفَتْوَى وَمَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ، وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْقَوْلِ فِي أَصْلِ الْفِطْرَةِ، وَبِمَا تَوَاتَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمَا حَكَمُوا بِإِسْلَامِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ جُفَاةِ الْعَرَبِ مِمَّنْ كَانَ يَعْبُدُ الْأَوْثَانَ، فَقَبِلُوا مِنْهُمُ الْإِقْرَارَ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَالْتِزَامَ أَحْكَامِ

ص: 352

الْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ إِلْزَامٍ بِتَعَلُّمِ الْأَدِلَّةِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إِنَّمَا أَسْلَمَ لِوُجُودِ دَلِيلٍ مَا، فَأَسْلَمَ بِسَبَبِ وُضُوحِهِ لَهُ، فَالْكَثِيرُ مِنْهُمْ قَدْ أَسْلَمُوا طَوْعًا مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ اسْتِدْلَالٍ، بَلْ بِمُجَرَّدِ مَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَخْبَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِأَنَّ نَبِيًّا سَيُبْعَثُ وَيَنْتَصِرُ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ، فَلَمَّا ظَهَرَتْ لَهُمُ الْعَلَامَاتُ فِي مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بَادَرُوا إِلَى الْإِسْلَامِ، وَصَدَّقُوهُ فِي كل شَيْءٍ قَالَهُ وَدَعَاهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهِمَا، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ كَانَ يُؤْذَنُ لَهُ فِي الرُّجُوعِ إِلَى مَعَاشِهِ مِنْ رِعَايَةِ الْغَنَمِ وَغَيْرِهَا، وَكَانَتْ أَنْوَارُ النُّبُوَّةِ وَبَرَكَاتُهَا تَشْمَلُهُمْ فَلَا يَزَالُونَ يَزْدَادُونَ إِيمَانًا وَيَقِينًا.

وَقَالَ أَبُو الْمُظَفَّرِ بْنُ السَّمْعَانِيِّ أَيْضًا مَا مُلَخَّصِهِ: إِنَّ الْعَقْلَ لَا يُوجِبُ شَيْئًا وَلَا يُحَرِّمُ شَيْئًا، وَلَا حَظَّ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَوْ لَمْ يَرِدِ الشَّرْعُ بِحُكْمٍ مَا وَجَبَ عَلَى أَحَدٍ شَيْءٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} وَقَوْلِهِ: {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ دَعْوَةَ رُسُلِ اللَّهِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا كَانَتْ لِبَيَانِ الْفُرُوعِ، لَزِمَهُ أَنْ يَجْعَلَ الْعَقْلَ هُوَ الدَّاعِي إِلَى اللَّهِ دُونَ الرَّسُولِ، وَيَلْزَمُهُ أَنَّ وُجُودَ الرَّسُولِ وَعَدَمَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ سَوَاءٌ، وَكَفَى بِهَذَا ضَلَالًا.

وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنَّ الْعَقْلَ يُرْشِدُ إِلَى التَّوْحِيدِ وَإِنَّمَا نُنْكِرُ أَنَّهُ يَسْتَقِلُّ بِإِيجَابِ ذَلِكَ حَتَّى لَا يَصِحَّ إِسْلَامٌ إِلَّا بِطَرِيقِهِ، مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ السَّمْعِيَّاتِ؛ لِكَوْنِ ذَلِكَ خِلَافَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي تَوَاتَرَتْ وَلَوْ بِالطَّرِيقِ الْمَعْنَوِيِّ، وَلَوْ كَانَ كما يَقُولُ أُولَئِكَ لَبَطَلَتِ السَّمْعِيَّاتُ الَّتِي لَا مَجَالَ لِلْعَقْلِ فِيهَا أَوْ أَكْثَرِهَا، بَلْ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِمَا ثَبَتَ مِنَ السَّمْعِيَّاتِ، فَإِنْ عَقَلْنَاهُ فَبِتَوْفِيقِ اللَّهِ وَإِلَّا اكْتَفَيْنَا بِاعْتِقَادِ حَقِيقَتِهِ عَلَى وَفْقِ مُرَادِ اللَّهِ سبحانه وتعالى، انْتَهَى.

وَيُؤَيِّدُ كَلَامَهُ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَنْشُدُكَ اللَّهَ، آللَّهُ أَرْسَلَكَ أَنْ نَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنْ نَدَعَ اللَّاتَ وَالْعُزَّى؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَسْلَمَ وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي قِصَّةِ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَبْسَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: مَا أَنْتَ؟ قَالَ: نَبِيُّ اللَّهِ. قُلْتُ: آللَّهُ أَرْسَلَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: بِأَيِّ شَيْءٍ؟ قَالَ: أُوَحِّدُ اللَّهَ لَا أُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا الْحَدِيثَ، وَفِي حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فِي قِصَّةِ قَتْلِهِ الَّذِي قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَحَدِيثِ الْمِقْدَادِ فِي مَعْنَاهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَا فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ، وَفِي كُتُبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى هِرَقْلَ، وَكِسْرَى وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمُلُوكِ يَدْعُوهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ التَّوَاتُرَ الْمَعْنَوِيَّ الدَّالَّ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَزِدْ فِي دُعَائِهِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَيُصَدِّقُوهُ فِيمَا جَاءَ بِهِ عَنْهُ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ قُبِلَ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَ إِذْعَانُهُ عَنْ تَقَدُّمِ نَظَرٍ أَمْ لَا، وَمَنْ تَوَقَّفَ مِنْهُمْ نَبَّهَهُ حِينَئِذٍ عَلَى النَّظَرِ، أَوْ أَقَامَ عَلَيْهِ الْحُجَّةَ إِلَى أَنْ يُذْعِنَ أَوْ يَسْتَمِرَّ عَلَى عِنَادِهِ.

وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الِاعْتِقَادِ: سَلَكَ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا فِي إِثْبَاتِ الصَّانِعِ وَحُدُوثِ الْعَالَمِ طَرِيقَ الِاسْتِدْلَالِ بِمُعْجِزَاتِ الرِّسَالَةِ؛ فَإِنَّهَا أَصْلٌ فِي وُجُوبِ قَبُولِ مَا دَعَا إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَقَعَ إِيمَانُ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلرُّسُلِ، ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ النَّجَاشِيِّ وَقَوْلَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لَهُ: بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا نَعْرِفُ صِدْقَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ، وَتَلَا عَلَيْنَا تَنْزِيلًا مِنَ اللَّهِ لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ فَصَدَّقْنَاهُ وَعَرَفْنَا أَنَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْحَقُّ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ مِنْ صَحِيحِهِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَحَالُهُ مَعْرُوفَةٌ وَحَدِيثُهُ فِي دَرَجَةِ الْحَسَنِ.

قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فَاسْتَدَلُّوا بِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ، فَآمَنُوا بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ إِثْبَاتِ الصَّانِعِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَحُدُوثِ الْعَالَمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ، وَاكْتِفَاءُ غَالِبِ مَنْ أَسْلَمَ بِمِثْلِ ذَلِكَ مَشْهُورٌ فِي الْأَخْبَارِ، فَوَجَبَ تَصْدِيقُهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ ثَبَتَ عَنْهُ بِطَرِيقِ السَّمْعِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ تَقْلِيدًا بَلْ هُوَ اتِّبَاعٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدِ اسْتَدَلَّ مَنِ اشْتَرَطَ النَّظَرَ بِالْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ

ص: 353

الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَلَا حُجَّةَ فِيهَا؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطِ النَّظَرَ لَمْ يُنْكِرْ أَصْلَ النَّظَرِ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ تَوَقُّفَ الْإِيمَانِ عَلَى وُجُودِ النَّظَرِ بِالطُّرُقِ الْكَلَامِيَّةِ، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنَ التَّرْغِيبِ فِي النَّظَرِ جَعْلُهُ شَرْطًا، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ التَّقْلِيدَ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ إِذْ لَوْ أَفَادَهُ لَكَانَ الْعِلْمُ حَاصِلًا لِمَنْ قَلَّدَ فِي قِدَمِ الْعَالَمِ وَلِمَنْ قَلَّدَ فِي حُدُوثِهِ، وَهُوَ مُحَالٌ لِإِفْضَائِهِ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَتَأَتَّى فِي تَقْلِيدِ غَيْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَأَمَّا تَقْلِيدُهُ صلى الله عليه وسلم فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ رَبِّهِ فَلَا يَتَنَاقَضُ أَصْلًا، وَاعْتَذَرَ بَعْضُهُمْ عَنِ اكْتِفَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةِ بِإِسْلَامِ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْأَعْرَابِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِضَرُورَةِ الْمَبَادِئِ.

وَأَمَّا بَعْدَ تَقَرُّرِ الْإِسْلَامِ وَشُهْرَتِهِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالْأَدِلَّةِ وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ هَذَا الِاعْتِذَارِ، وَالْعَجَبُ أَنَّ مَنِ اشْتَرَطَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ يُنْكِرُونَ التَّقْلِيدَ، وَهُمْ أَوَّلُ دَاعٍ إِلَيْهِ حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي الْأَذْهَانِ أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ قَاعِدَةً مِنَ الْقَوَاعِدِ الَّتِي أَصَّلُوهَا فَهُوَ مُبْتَدِعٌ وَلَوْ لَمْ يَفْهَمْهَا وَلَمْ يَعْرِفْ مَأْخَذَهَا، وَهَذَا هُوَ مَحْضُ التَّقْلِيدِ فَآلَ أَمْرُهُمْ إِلَى تَكْفِيرِ مَنْ قَلَّدَ الرَّسُولَ عليه الصلاة والسلام فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْقَوْلِ بِإِيمَانِ مَنْ قَلَّدَهُمْ، وَكَفَى بِهَذَا ضَلَالًا، وَمَا مِثْلُهُمْ إِلَّا كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِنَّهُمْ كَمَثَلِ قَوْمٍ كَانُوا سَفْرًا فَوَقَعُوا فِي فَلَاةٍ لَيْسَ فِيهَا مَا يَقُومُ بِهِ الْبَدَنُ مِنَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ، وَرَأَوْا فِيهَا طُرُقًا شَتَّى فَانْقَسَمُوا قِسْمَيْنِ، فَقِسْمٌ وَجَدُوا مَنْ قَالَ لَهُمْ: أَنَا عَارِفٌ بِهَذِهِ الطُّرُقِ وَطَرِيقُ النَّجَاةِ مِنْهَا وَاحِدَةٌ، فَاتَّبِعُونِي فِيهَا تَنْجُوا فَتَبِعُوهُ فَنَجَوْا، وَتَخَلَّفَتْ عَنْهُ طَائِفَةٌ فَأَقَامُوا إِلَى أَنْ وَقَفُوا عَلَى أَمَارَةٍ ظَهَرَ لَهُمْ أَنَّ فِي الْعَمَلِ بِهَا النَّجَاةَ فَعَمِلُوا بِهَا فَنَجَوْا، وَقِسْمٌ هَجَمُوا بِغَيْرِ مُرْشِدٍ وَلَا أَمَارَةٍ فَهَلَكُوا، فَلَيْسَتْ نَجَاةُ مَنِ اتَّبَعَ الْمُرْشِدَ بِدُونِ نَجَاةِ مَنْ أَخَذَ بِالْأَمَارَةِ إِنْ لَمْ تَكُنْ أَوْلَى مِنْهَا.

وَنَقَلْتُ مِنْ جُزْءِ الْحَافِظِ صَلَاحِ الدِّينِ الْعَلَائِيِّ: يُمْكِنُ أَنْ يُفَصَّلُ فَيُقَالُ: مَنْ لَا أَهْلِيَّةَ لَهُ لِفَهْمِ شَيْءٍ مِنَ الْأَدِلَّةِ أَصْلًا وَحَصَلَ لَهُ الْيَقِينُ التَّامُّ بِالْمَطْلُوبِ إِمَّا بِنَشْأَتِهِ عَلَى ذَلِكَ أَوْ لِنُورٍ يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ، فَإِنَّهُ يُكْتَفَى مِنْهُ بِذَلِكَ، وَمَنْ فِيهِ أَهْلِيَّةٌ لِفَهْمِ الْأَدِلَّةِ لَمْ يُكْتَفَ مِنْهُ إِلَّا بِالْإِيمَانِ عَنْ دَلِيلٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَدَلِيلُ كُلِّ أَحَدٍ بِحَسْبِهِ وَتَكْفِي الْأَدِلَّةُ الْمُجْمَلَةُ الَّتِي تَحْصُلُ بِأَدْنَى نَظَرٍ، وَمَنْ حَصَلَتْ عِنْدَهُ شُبْهَةٌ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّعَلُّمُ إِلَى أَنْ تَزُولَ عَنْهُ.

قَالَ: فَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ كَلَامِ الطَّائِفَةِ الْمُتَوَسِّطَةِ، وَأَمَّا مَنْ غَلَا فَقَالَ: لَا يَكْفِي إِيمَانُ الْمُقَلِّدِ فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ؛ لِمَا يَلْزَمُ مِنْهُ مِنَ الْقَوْلِ بِعَدَمِ إِيمَانِ أَكْثَرِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَا مَنْ غَلَا أَيْضًا فَقَالَ: لَا يَجُوزُ النَّظَرُ فِي الْأَدِلَّةِ لِمَا يَلْزَمُ مِنْهُ مِنْ أَنَّ أَكَابِرَ السَّلَفِ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ، انْتَهَى مُلَخَّصًا.

وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ بِأَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ بِحَقِيقَةِ كُنْهِهِ مُمْكِنَةً لِلْبَشَرِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُقَيَّدًا بِمَا عَرَّفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ وُجُودِهِ وَصِفَاتِهِ اللَّائِقَةِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ مَثَلًا، وَتَنْزِيهِهِ عَنْ كُلِّ نَقِيصَةٍ كَالْحُدُوثِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، فَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومٌ لِلْبَشَرِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} فَإِذَا حُمِلَ قَوْلُهُ: فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ وَاضِحًا مَعَ أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْجَزْمِ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَطَقَ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ وَرُوَاةَ هَذَا الْحَدِيثِ اخْتَلَفُوا: هَلْ وَرَدَ الْحَدِيثُ بِهَذَا اللَّفْظِ أَوْ بِغَيْرِهِ؟ فَلَمْ يَقُلْ صلى الله عليه وسلم إِلَّا بِلَفْظٍ مِنْهَا، وَمَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ هَذَا اللَّفْظُ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ لَا يَتِمُّ الِاسْتِدْلَالُ، وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الزَّكَاةِ أَنَّ الْأَكْثَرَ رَوَوْهُ بِلَفْظِ: فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَاهُ بِلَفْظِ: فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ، فَإِذَا عَرَفُوا ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَاهُ بِلَفْظِ: فَادْعُهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ، وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِبَادَةِ: التَّوْحِيدُ، وَالْمُرَادُ بِالتَّوْحِيدِ: الْإِقْرَارُ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَقَوْلُهُ: فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ أَيْ: عَرَفُوا تَوْحِيدَ اللَّهِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَعْرِفَةِ: الْإِقْرَارُ وَالطَّوَاعِيَةُ، فَبِذَلِكَ يُجْمَعُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ

الْمُخْتَلِفَةِ فِي الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْفَوَائِدِ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ: الِاقْتِصَارُ فِي الْحُكْمِ

ص: 354

بِإِسْلَامِ الْكَافِرِ إِذَا أَقَرَّ بِالشَّهَادَتَيْنِ؛ فَإِنَّ مِنْ لَازِمِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ التَّصْدِيقَ بِكُلِّ مَا ثَبَتَ عَنْهُمَا وَالْتِزَامَ ذَلِكَ، فَيَحْصُلُ ذَلِكَ لِمَنْ صَدَّقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ. وَأَمَّا مَا وَقَعَ مِنْ بَعْضِ الْمُبْتَدِعَةِ مِنْ إِنْكَارِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْحُكْمِ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مَعَ تَأْوِيلٍ فَظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ عِنَادًا قَدَحَ فِي صِحَّةِ الْإِسْلَامِ، فَيُعَامَلُ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ كَإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَفِيهِ قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَوُجُوبُ الْعَمَلِ بِهِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ مِثْلَ خَبَرِ مُعَاذٍ حَفَّتْهُ قَرِينَةُ أَنَّهُ فِي زَمَنِ نُزُولِ الْوَحْيِ فَلَا يَسْتَوِي مَعَ سَائِرِ أَخْبَارِ الْآحَادِ، وَقَدْ مَضَى فِي بَابِ إِجَازَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ مَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَتِهِ، وَفِيهِ أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا صَدَّقَ بِشَيْءٍ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ كَالصَّلَاةِ مَثَلًا يَصِيرُ بِذَلِكَ مُسْلِمًا، وَبَالَغَ مَنْ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ يُكَفَّرُ بِهِ الْمُسْلِمُ إِذَا جَحَدَهُ يَصِيرُ الْكَافِرُ بِهِ مُسْلِمًا إِذَا اعْتَقَدَهُ.

وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْجُمْهُورُ، وَهَذَا فِي الِاعْتِقَادِ، أَمَّا الْفِعْلُ لَوْ صَلَّى فَلَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ وَهُوَ أَوْلَى بِالْمَنْعِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا عُمُومَ لَهُ، فَيَدْخُلُهُ احْتِمَالُ الْعَبَثِ وَالِاسْتِهْزَاءِ. وَفِيهِ وُجُوبُ أَخْذِ الزَّكَاةِ مِمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ، وَقَهْرُ الْمُمْتَنِعِ عَلَى بَذْلِهَا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ جَاحِدًا، فَإِنْ كَانَ مَعَ امْتِنَاعِهِ ذَا شَوْكَةٍ قُوتِلَ، وَإِلَّا فَإِنْ أَمْكَنَ تَعْزِيرُهُ عَلَى الِامْتِنَاعِ عُزِّرَ بِمَا يَلِيقُ بِهِ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ تَعْزِيرِهِ بِالْمَالِ حَدِيثُ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا وَلَفْظُهُ: وَمَنْ مَنَعَهَا - يَعْنِي الزَّكَاةَ - فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرِ مَالِهِ، عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمُ، وَأَمَّا ابْنُ حِبَّانَ فَقَالَ فِي تَرْجَمَةِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ: لَوْلَا هَذَا الْحَدِيثُ لَأَدْخَلْتُهُ فِي كِتَابِ الثِّقَاتِ وَأَجَابَ مَنْ صَحَّحَهُ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ: بِأَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ مَنْسُوخٌ، وَأَنَّ الْأَمْرَ كَانَ أَوَّلًا كَذَلِكَ ثُمَّ نُسِخَ، وَضَعَّفَ النَّوَوِيُّ هَذَا الْجَوَابَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْعُقُوبَةَ بِالْمَالِ لَا تُعْرَفُ أَوَّلًا حَتَّى يَتِمَّ دَعْوَى النَّسْخِ، وَلِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِشَرْطِهِ كَمَعْرِفَةِ التَّارِيخِ وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ، وَاعْتَمَدَ النَّوَوِيُّ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ تَضْعِيفِ بَهْزٍ وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ لِأَنَّهُ مُوَثَّقٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ حَتَّى قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ: بَهْزُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ صَحِيحٌ إِذَا كَانَ دُونَ بَهْزٍ ثِقَةً، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: تَكَلَّمَ فِيهِ شُعْبَةُ وَهُوَ ثِقَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ حَسَّنَ لَهُ التِّرْمِذِيُّ عِدَّةَ

أَحَادِيثَ، وَاحْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَالْبُخَارِيُّ خَارِجَ الصَّحِيحِ وَعَلَّقَ لَهُ فِي الصَّحِيحِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْآجُرِّيُّ عَنْ أَبِي دَاوُدَ: وَهُوَ عِنْدِي حُجَّةٌ لَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، فَإِنِ اعْتَمَدَ مَنْ قَلَّدَ الشَّافِعِيَّ عَلَى هَذَا كَفَاهُ، وَيُؤَيِّدُهُ إِطْبَاقُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لَهُ مُعَارِضًا رَاجِحًا، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ بِمُقْتَضَاهُ يُعَدُّ فِي نُدْرَةِ الْمُخَالِفِ وَقَدْ دَلَّ خَبَرُ الْبَابِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الَّذِي يَقْبِضُ الزَّكَاةَ الْإِمَامُ أَوْ مَنْ أَقَامَهُ لِذَلِكَ.

وَقَدْ أَطْبَقَ الْفُقَهَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ لِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ مُبَاشَرَةَ الْإِخْرَاجِ، وَشَذَّ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الدَّفْعِ إِلَى الْإِمَامِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ، وَفِي الْقَدِيمِ لِلشَّافِعِيِّ نَحْوُهُ عَلَى تَفْصِيلٍ عَنْهُمَا فِيهِ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ مُعَاذٍ أَيْضًا:

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي حَصِينٍ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَاسْمُهُ عُثْمَانُ بْنُ عَاصِمٍ الْأَسَدِيُّ، وَالْأَشْعَثُ بْنُ سُلَيْمٍ، هُوَ أَشْعَثُ بْنُ أَبِي الشَّعْثَاءِ الْمُحَارِبِيُّ، وَأَبُوهُ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ أَكْثَرَ مِنَ اسْمِهِ.

قَوْلُهُ: (أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ وَدُخُولُهُ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ قَوْلِهِ: لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا؛ فَإِنَّهُ الْمُرَادُ بِالتَّوْحِيدِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: يُرِيدُ بِقَوْلِهِ: حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ حَقًّا عُلِمَ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، لَا بِإِيجَابِ الْعَقْلِ، فَهُوَ كَالْوَاجِبِ فِي تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ أَوْ هُوَ عَلَى جِهَةِ الْمُقَابَلَةِ وَالْمُشَاكَلَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ}

زَادَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَخْبَرَنِي أَخِي قَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ:

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، وَتَقَدَّمَ الْمَتْنُ فِي فَضْلِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فِي كِتَابِ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مَالِكٍ مَشْرُوحًا، وَأَوْرَدَهُ هُنَا لِمَا صَرَّحَ بِهِ مِنْ وَصْفِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْأَحَدِيَّةِ كَمَا فِي الَّذِي بَعْدَهُ، وَقَوْلُهُ هُنَا: زَادَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ تَقَدَّمَ هُنَاكَ بِزِيَادَةِ رَاوٍ فِي أَوَّلِهِ،

ص: 355

فَقَالَ: وَزَادَ أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ وَكَذَا وَقَعَ هُنَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَفِي بَعْضِهَا: وَقَالَ أَبُو مَعْمَرٍ، وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ الِاخْتِلَافُ فِي الْمُرَادِ بِأَبِي مَعْمَرٍ هَذَا وَتَسْمِيَةُ مَنْ وَصَلَهُ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: حَدِيثُ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِسُورَةِ الْإِخْلَاصِ أَيْضًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ مُعَلَّقًا فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَبِهِ جَزَمَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ وَأَبُو مَسْعُودٍ فِي الْأَطْرَافِ، وَوَقَعَ فِي الْأَطْرَافِ لِلْمِزِّيِّ أَنَّ فِي بَعْضِ النُّسَخِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ. قُلْتُ: وَبِذَلِكَ جَزَمَ الْبَيْهَقِيُّ تَبَعًا لِخَلَفٍ فِي الْأَطْرَافِ، قَالَ خَلَفٌ: وَمُحَمَّدُ هَذَا أَحْسَبُهُ مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى الذُّهْلِيَّ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ بَعْدَ أَنْ سَاقَ الْحَدِيثَ مِنْ رِوَايَةِ حَرْمَلَةَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ: ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ بِلَا خَبَرٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ، فَكَأَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ بِلَفْظِ: قَالَ مُحَمَّدٌ، وَعَلَى رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ، فَمُحَمَّدٌ هُوَ الْبُخَارِيُّ الْمُصَنِّفُ، وَالْقَائِلُ قَالَ مُحَمَّدٌ هُوَ مُحَمَّدُ الْفَرَبْرِيُّ، وَذَكَرَ الْكِرْمَانِيُّ هَذَا احْتِمَالًا. قُلْتُ: وَيَحْتَاجُ حِينَئِذٍ إِلَى إِبْدَاءِ النُّكْتَةِ فِي إِفْصَاحِ الْفَرَبْرِيِّ بِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَاضِيَةِ وَالْآتِيَةِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَمْرٌو) هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ الْمِصْرِيُّ وَابْنُ أَبِي هِلَالٍ هُوَ سَعِيدٌ وَسَمَّاهُ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ.

قَوْلُهُ: (بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ) تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْجَمْعِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي تَسْمِيَتِهِ، وَهَلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الَّذِي كَانَ يَؤُمُّ قَوْمَهُ فِي مَسْجِدِ قُبَاءَ مُغَايَرَةٌ أَوْ هُمَا وَاحِدٌ وَبَيَانُ مَا يَتَرَجَّحُ مِنْ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (فَيَخْتِمُ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ بِغَيْرِهَا ثُمَّ يَقْرَأهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَخْتِمُ بِهَا آخِرَ قِرَاءَتِهِ فَيَخْتَصُّ بِالرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ الْجَمْعِ بَيْنَ سُورَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ، انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ بِمَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَتِهِ.

قَوْلُهُ: (لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ) قَالَ ابْنُ التِّينِ: إِنَّمَا قَالَ: إِنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ؛ لِأَنَّ فِيهَا أَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ، وَأَسْمَاؤُهُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ صِفَاتِهِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الصَّحَابِيُّ الْمَذْكُورُ قَالَ ذَلِكَ مُسْتَنِدًا لِشَيْءٍ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِمَّا بِطَرِيقِ النُّصُوصِيَّةِ وَإِمَّا بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْيَهُودَ أَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: صِفْ لَنَا رَبَّكَ الَّذِي تَعْبُدُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} إِلَى آخِرِهَا، فَقَالَ: هَذِهِ صِفَةُ رَبِّي عز وجل، وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: انْسُبْ لَنَا رَبَّكَ، فَنَزَلَتْ سُورَةُ الْإِخْلَاصِ الْحَدِيثَ، وَهُوَ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَفِيهِ: أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُولَدُ إِلَّا يَمُوتُ، وَلَيْسَ شَيْءٌ يَمُوتُ إِلَّا يُورَثُ، وَاللَّهُ لَا يَمُوتُ وَلَا يُورَثُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَبَهٌ وَلَا عِدْلٌ، وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ.

قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: مَعْنَى قَوْلِهِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَيْسَ كَهُوَ شَيْءٌ؛ قَالَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ قَالَ: وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} يُرِيدُ بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وَالْكَافُ فِي قَوْلِهِ: كَمِثْلِهِ لِلتَّأْكِيدِ، فَنَفَى اللَّهُ عَنْهُ الْمِثْلِيَّةَ بِآكَدِ مَا يَكُونُ مِنَ النَّفْيِ، وَأَنْشَدَ لِوَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ فِي زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ مِنْ أَبْيَاتٍ: وَدِينُكَ دِينٌ لَيْسَ دِينٌ كَمِثْلِهِ ثُمَّ أَسْنَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى} يَقُولُ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَفِي قَوْلِهِ:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} هَلْ تَعْلَمُ لَهُ شَبَهًا أَوْ مِثْلًا؟ وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ حُجَّةٌ لِمَنْ أَثْبَتَ أَنَّ لِلَّهِ صِفَةً، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَشَذَّ ابْنُ حَزْمٍ فَقَالَ: هَذِهِ لَفْظَةٌ اصْطَلَحَ عَلَيْهَا أَهْلُ الْكَلَامِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ، وَلَمْ تَثْبُتْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَإِنِ اعْتَرَضُوا بِحَدِيثِ الْبَابِ فَهُوَ مِنْ أَفْرَادِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ وَفِيهِ ضَعْفٌ، قَالَ: وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ، فَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ صِفَةُ الرَّحْمَنِ كَمَا جَاءَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الصِّفَةِ الَّتِي يُطْلِقُونَهَا؛ فَإِنَّهَا فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لَا تُطْلَقُ إِلَّا عَلَى

ص: 356

جَوْهَرٍ أَوْ عَرَضٍ كَذَا قَالَ، وَسَعِيدٌ مُتَّفَقٌ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِهِ فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ فِي تَضْعِيفِهِ، وَكَلَامُهُ الْأَخِيرُ مَرْدُودٌ بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى إِثْبَاتِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} وَقَالَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مِنْهَا عِدَّةَ أَسْمَاءٍ فِي آخِرِ سُورَةِ الْحَشْرِ: {لَهُ الأَسْمَاءُ

الْحُسْنَى} وَالْأَسْمَاءُ الْمَذْكُورَةُ فِيهَا بِلُغَةِ الْعَرَبِ صِفَاتٌ، فَفِي إِثْبَاتِ أَسْمَائِهِ إِثْبَاتُ صِفَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ حَيٌّ مَثَلًا فَقَدْ وُصِفَ بِصِفَةٍ زَائِدَةٍ عَلَى الذَّاتِ وَهِيَ صِفَةُ الْحَيَاةِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَوَجَبَ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا يُنْبِئُ عَنْ وُجُودِ الذَّاتِ فَقَطْ، وَقَدْ قَالَهُ سبحانه وتعالى:{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} فَنَزَّهَ نَفْسَهُ عَمَّا يَصِفُونَهُ بِهِ مِنْ صِفَةِ النَّقْصِ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّ وَصْفَهُ بِصِفَةِ الْكَمَالِ مَشْرُوعٌ، وَقَدْ قَسَّمَ الْبَيْهَقِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ جَمِيعَ الْأَسْمَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ وَفِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ عَلَى قِسْمَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا صِفَاتُ ذَاتِهِ: وَهِيَ مَا اسْتَحَقَّهُ فِيمَا لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ، وَالثَّانِي صِفَاتُ فِعْلِهِ: وَهِيَ مَا اسْتَحَقَّهُ فِيمَا لَا يَزَالُ دُونَ الْأَزَلِ، قَالَ: وَلَا يَجُوزُ وَصْفُهُ إِلَّا بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ الثَّابِتَةُ أَوْ أُجْمِعَ عَلَيْهِ، ثُمَّ مِنْهُ مَا اقْتَرَنَتْ بِهِ دَلَالَةُ الْعَقْلِ كَالْحَيَاةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ، وَكَالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ وَالْعَفْوِ وَالْعُقُوبَةِ مِنْ صِفَاتِ فِعْلِهِ، وَمِنْهُ مَا ثَبَتَ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَالْوَجْهِ وَالْيَدِ وَالْعَيْنِ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ، وَكَالِاسْتِوَاءِ وَالنُّزُولِ وَالْمَجِيءِ مِنْ صِفَاتِ فِعْلِهِ، فَيَجُوزُ إِثْبَاتُ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَهُ؛ لِثُبُوتِ الْخَبَرِ بِهَا عَلَى وَجْهٍ يَنْفِي عَنْهُ التَّشْبِيهَ، فَصِفَةُ ذَاتِهِ لَمْ تَزَلْ مَوْجُودَةً بِذَاتِهِ وَلَا تَزَالُ، وَصِفَةُ فِعْلِهِ ثَابِتَةٌ عَنْهُ وَلَا يَحْتَاجُ فِي الْفِعْلِ إِلَى مُبَاشَرَةٍ، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ

لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ: اشْتَمَلَتْ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} عَلَى اسْمَيْنِ يَتَضَمَّنَانِ جَمِيعَ أَوْصَافِ الْكَمَالِ: وَهُمَا الْأَحَدُ وَالصَّمَدُ؛ فَإِنَّهُمَا يَدُلَّانِ عَلَى أَحَدِيَّةِ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ الْمَوْصُوفَةِ بِجَمِيعِ أَوْصَافِ الْكَمَالِ؛ فَإِنَّ الْوَاحِدَ وَالْأَحَدَ، وَإِنْ رَجَعَا إِلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ، فَقَدِ افْتَرَقَا اسْتِعْمَالًا وَعُرْفًا، فَالْوَحْدَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى نَفْيِ التَّعَدُّدِ وَالْكَثْرَةِ، وَالْوَاحِدُ أَصْلُ الْعَدَدِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِنَفْيِ مَا عَدَاهُ، وَالْأَحَدُ يَثْبُتُ مَدْلُولُهُ وَيَتَعَرَّضُ لِنَفْيِ مَا سِوَاهُ، وَلِهَذَا يَسْتَعْمِلُونَهُ فِي النَّفْيِ وَيَسْتَعْمِلُونَ الْوَاحِدَ فِي الْإِثْبَاتِ، يُقَالُ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا، وَرَأَيْتُ وَاحِدًا، فَالْأَحَدُ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى مُشْعِرٌ بِوُجُودِهِ الْخَاصِّ بِهِ الَّذِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَأَمَّا الصَّمَدُ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ جَمِيعَ أَوْصَافِ الْكَمَالِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ الَّذِي انْتَهَى سُؤْدُدُهُ، بِحَيْثُ يُصْمَدُ إِلَيْهِ فِي الْحَوَائِجِ كُلِّهَا، وَهُوَ لَا يَتِمُّ حَقِيقَةً إِلَّا لِلَّهِ.

قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: قَوْلُهُ: لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّ فِيهَا ذِكْرَ صِفَةِ الرَّحْمَنِ، كَمَا لَوْ ذُكِرَ وَصْفٌ فَعَبَّرَ عَنِ الذِّكْرِ بِأَنَّهُ الْوَصْفُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَفْسُ الْوَصْفِ، وَيَحْتَمِلُ غَيْرُ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِهَذِهِ السُّورَةِ، لَكِنْ لَعَلَّ تَخْصِيصَهَا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا صِفَاتُ اللَّهِ سبحانه وتعالى، فَاخْتَصَّتْ بِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهَا.

قَوْلُهُ: (أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ) قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ مَحَبَّةِ اللَّهِ لَهُ مَحَبَّتَهُ لِهَذِهِ السُّورَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُهُ؛ لِأَنَّ مَحَبَّتَهُ لِذِكْرِ صِفَاتِ الرَّبِّ دَالَّةٌ عَلَى صِحَّةِ اعْتِقَادِهِ، قَالَ الْمَازِرِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ: مَحَبَّةُ اللَّهِ لِعِبَادِهِ إِرَادَتُهُ ثَوَابَهُمْ وَتَنْعِيمَهُمْ، وَقِيلَ: هِيَ نَفْسُ الْإِثَابَةِ وَالتَّنْعِيمِ، وَمَحَبَّتُهُمْ لَهُ لَا يَبْعُدُ فِيهَا الْمَيْلُ مِنْهُمْ إِلَيْهِ وَهُوَ مُقَدَّسٌ عَنِ الْمَيْلِ، وَقِيلَ: مَحَبَّتُهُمْ لَهُ اسْتِقَامَتُهُمْ عَلَى طَاعَتِهِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الِاسْتِقَامَةَ ثَمَرَةُ الْمَحَبَّةِ، وَحَقِيقَةُ الْمَحَبَّةِ لَهُ مَيْلُهُمْ إِلَيْهِ؛ لِاسْتِحْقَاقِهِ سُبْحَانَهُ الْمَحَبَّةَ مِنْ جَمِيعِ وُجُوهِهَا. انْتَهَى.

وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِطْلَاقِ فِي مَوْضِعِ التَّقْيِيدِ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: مَعْنَى مَحَبَّةِ الْمَخْلُوقِينَ لِلَّهِ إِرَادَتُهُمْ أَنْ يَنْفَعَهُمْ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ: مَحَبَّةُ اللَّهِ لِعَبْدِهِ تَقْرِيبُهُ لَهُ وَإِكْرَامُهُ، وَلَيْسَتْ بِمَيْلٍ وَلَا غَرَضٍ كَمَا هِيَ مِنَ الْعَبْدِ، وَلَيْسَتْ مَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ نَفْسَ الْإِرَادَةِ بَلْ هِيَ شَيْءٌ زَائِدٌ عَلَيْهَا؛ فَإِنَّ الْمَرْءَ يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ يُحِبُّ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى اكْتِسَابِهِ وَلَا عَلَى تَحْصِيلِهِ، وَالْإِرَادَةُ هِيَ الَّتِي تُخَصِّصُ الْفِعْلَ بِبَعْضِ وُجُوهِهِ الْجَائِزَةِ، وَيُحِسُّ مِنْ

ص: 357

نَفْسِهِ أَنَّهُ يُحِبُّ الْمَوْصُوفِينَ بِالصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ وَالْأَفْعَالِ الْحَسَنَةِ كَالْعُلَمَاءِ وَالْفُضَلَاءِ وَالْكُرَمَاءِ وَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ لَهُ بِهِمْ إِرَادَةٌ مُخَصَّصَةٌ، وَإِذَا صَحَّ الْفَرْقُ فَاللَّهُ سبحانه وتعالى مَحْبُوبٌ لِمُحِبِّيهِ عَلَى حَقِيقَةِ الْمَحَبَّةِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ مَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ مُحِبِّيهِ الْمُخْلِصِينَ.

وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: الْمَحَبَّةُ وَالْبُغْضُ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ، فَمَعْنَى مَحَبَّتِهِ إِكْرَامُ مَنْ أَحَبَّهُ وَمَعْنَى بُغْضِهِ إِهَانَتُهُ، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنَ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ فَهُوَ مِنْ قَوْلِهِ، وَقَوْلُهُ مِنْ كَلَامِهِ، وَكَلَامُهُ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ فَيَرْجِعُ إِلَى الْإِرَادَةِ، فَمَحَبَّتُهُ الْخِصَالَ الْمَحْمُودَةَ وَفَاعِلَهَا يَرْجِعُ إِلَى إِرَادَتِهِ إِكْرَامَهُ، وَبُغْضُهُ الْخِصَالَ الْمَذْمُومَةَ وَفَاعِلَهَا يَرْجِعُ إِلَى إِرَادَتِهِ إِهَانَتَهُ.

‌2 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تبارك وتعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}

7376 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ وَأَبِي ظَبْيَانَ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ لَا يَرْحَمُ النَّاسَ.

7377 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَهُ رَسُولُ إِحْدَى بَنَاتِهِ تدْعُوهُ إِلَى ابْنِهَا فِي الْمَوْتِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ارْجِعْ إِلَيْهَا فَأَخْبِرْهَا أَنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ، وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى، فَمُرْهَا فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ، فَأَعَادَتْ الرَّسُولَ أَنَّهَا قَدْ أَقْسَمَتْ لَيَأْتِيَنَّهَا، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَقَامَ مَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، فَدُفِعَ الصَّبِيُّ إِلَيْهِ، وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ كَأَنَّهَا فِي شَنٍّ، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذَا؟ قَالَ: هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تبارك وتعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ جَرِيرٍ: لَا يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ لَا يَرْحَمُ النَّاسَ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْأَدَبِ.

وَحَدِيثَ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فِي قِصَّةِ وَلَدِ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَضِيَ عَنْهَا، وَفِيهِ: فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، وَفِيهِ: هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: غَرَضُهُ فِي هَذَا الْبَابِ إِثْبَاتُ الرَّحْمَةَ، وَهِيَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، فَالرَّحْمَنُ وَصْفٌ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ نَفْسَهُ، وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِمَعْنَى الرَّحْمَةِ، كَمَا تَضَمَّنَ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ عَالِمُ مَعْنَى الْعِلْمِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، قَالَ: وَالْمُرَادُ بِرَحْمَتِهِ إِرَادَتُهُ نَفْعَ مَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ يَنْفَعُهُ، قَالَ: وَأَسْمَاؤُهُ كُلُّهَا تَرْجِعُ إِلَى ذَاتٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ دَلَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ يَخْتَصُّ الِاسْمُ بِالدَّلَالَةِ عَلَيْهَا، وَأَمَّا الرَّحْمَةُ الَّتِي جَعَلَهَا فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ فَهِيَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ، وَصَفَهَا بِأَنَّهُ خَلَقَهَا فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَهِيَ رِقَّةٌ عَلَى الْمَرْحُومِ، وَهُوَ سبحانه وتعالى مُنَزَّهٌ عَنِ الْوَصْفِ بِذَلِكَ فَتُتَأَوَّلُ بِمَا يَلِيقُ بِهِ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: الرَّحْمَنُ وَالرَّحِيمُ مُشْتَقَّانِ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَقِيلَ: هُمَا اسْمَانِ مِنْ غَيْرِ اشْتِقَاقٍ، وَقِيلَ: يَرْجِعَانِ إِلَى مَعْنَى الْإِرَادَةِ، فَرَحْمَتُهُ إِرَادَتُهُ تَنْعِيمَ مَنْ يَرْحَمُهُ، وَقِيلَ: رَاجِعَانِ إِلَى تَرْكِهِ عِقَابَ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ، وَقَالَ الْحَلِيمِيُّ: مَعْنَى الرَّحْمَنِ أَنَّهُ مُزِيحُ الْعِلَلِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِعِبَادَتِهِ بَيَّنَ حُدُودَهَا وَشُرُوطَهَا فَبَشَّرَ وَأَنْذَرَ وَكَلَّفَ مَا تَحْمِلُهُ بِنْيَتُهُمْ، فَصَارَتِ الْعِلَلُ عَنْهُمْ مُزَاحَةً وَالْحِجَجُ مِنْهُمْ مُنْقَطِعَةً، قَالَ: وَمَعْنَى الرَّحِيمِ

ص: 358

أَنَّهُ الْمُثِيبُ عَلَى الْعَمَلِ، فَلَا يُضَيِّعُ لِعَامِلٍ أَحْسَنَ عَمَلًا، بَلْ يُثِيبُ الْعَامِلَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ أَضْعَافَ عَمَلِهِ.

وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الرَّحْمَنَ مَأْخُوذٌ مِنَ الرَّحْمَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ، وَمَعْنَاهُ ذُو الرَّحْمَةِ لَا نَظِيرَ لَهُ فِيهَا، وَلِذَلِكَ لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ، وَاحْتَجَّ لَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَفِيهِ: خَلَقْتُ الرَّحِمَ وَشَقَقْتُ لَهَا اسْمًا مِنَ اسْمِي. قُلْتُ: وَكَذَا حَدِيثُ الرَّحْمَةِ الَّذِي اشْتَهَرَ بِالْمُسَلْسَلِ بِالْأَوَّلِيَّةِ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بِلَفْظِ: الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ الْحَدِيثَ، ثُمَّ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فَالرَّحْمَنُ ذُو الرَّحْمَةِ الشَّامِلَةِ لِلْخَلْقِ، وَالرَّحِيمُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٌ وَهُوَ خَاصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ، قَالَ تَعَالَى:{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} وَأُورِدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: الرَّحْمَنُ وَالرَّحِيمُ اسْمَانِ رَقِيقَانِ أَحَدُهُمَا أَرَقُّ مِنَ الْآخَرِ، وَعَنْ مُقَاتِلٍ أَنَّهُ نَقَلَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ مِثْلُهُ، وَزَادَ: فَالرَّحْمَنُ بِمَعْنَى الْمُتَرَحِّمِ، وَالرَّحِيمُ بِمَعْنَى الْمُتَعَطِّفِ، ثُمَّ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَا مَعْنَى لِدُخُولِ الرِّقَّةِ فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا اللُّطْفُ، وَمَعْنَاهُ الْغُمُوضُ لَا الصِّغَرُ الَّذِي هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ.

قُلْتُ: وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا يَثْبُتُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ، عَنِ ابْنِ صَالِحٍ عَنْهُ، وَالْكَلْبِيُّ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ وَكَذَلِكَ مُقَاتِلٌ، وَنَقَلَ الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْمُفَضَّلِ الْبَجَلِيِّ أَنَّهُ نَسَبَ رَاوِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَى التَّصْحِيفِ، وَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ الرَّفِيقُ بِالْفَاءِ، وَقَوَّاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِالْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَيْهِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ وَأَوْرَدَ لَهُ شَاهِدًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَحْيَى ثُمَّ قَالَ: وَالرَّحْمَنُ خَاصٌّ فِي التَّسْمِيَةِ عَامٌّ فِي الْفِعْلِ، وَالرَّحِيمُ عَامٌّ فِي التَّسْمِيَةِ خَاصٌّ فِي الْفِعْلِ، وَاسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى كَالرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مَوْضِعِهِ، وَعَلَى أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَقَرَّ بِالْوَحْدَانِيَّةِ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ، وَقَدْ خَصَّ الْحَلِيمِيُّ مِنْ ذَلِكَ مَا يَقَعُ بِهِ الِاشْتِرَاكُ، كَمَا لَوْ قَالَ الطَّبَائِعِيُّ: لَا إِلَهَ إِلَّا الْمُحْيِي الْمُمِيتُ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا حَتَّى يُصَرِّحَ بِاسْمٍ لَا تَأْوِيلَ فِيهِ، وَلَوْ قَالَ مَنْ يُنْسَبُ إِلَى التَّجْسِيمِ مِنَ الْيَهُودِ: لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي فِي السَّمَاءِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا كَذَلِكَ، إِلَّا إِنْ كَانَ عَامِّيًّا لَا يَفْقَهُ مَعْنَى التَّجْسِيمِ، فَيُكْتَفَى مِنْهُ بِذَلِكَ، كَمَا فِي قِصَّةِ الْجَارِيَةِ الَّتِي سَأَلَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَنْتِ مُؤْمِنَةٌ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَيْنَ اللَّهُ؟ قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ، فَقَالَ: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ

أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَإِنَّ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا الرَّحْمَنُ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ إِلَّا إِنْ عُرِفَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عِنَادًا، وَسَمَّى غَيْرَ اللَّهِ رَحْمَانًا، كَمَا وَقَعَ لِأَصْحَابِ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ.

قَالَ الْحَلِيمِيُّ: وَلَوْ قَالَ الْيَهُودِيُّ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا حَتَّى يُقِرَّ بِأَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَلَوْ قَالَ الْوَثَنِيُّ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهَ، وَكَانَ يَزْعُمُ أَنَّ الصَّنَمَ يُقَرِّبُهُ إِلَى اللَّهِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا حَتَّى يَتَبَرَّأَ مِنْ عِبَادَةِ الصَّنَمِ.

تَنْبِيهَانِ:

أَحَدُهُمَا: الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ تَصَرُّفِ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ أَنَّهُ يَسُوقُ الْأَحَادِيثَ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الصِّفَاتِ الْمُقَدَّسَةِ، فَيُدْخِلُ كُلَّ حَدِيثٍ مِنْهَا فِي بَابٍ، وَيُؤَيِّدُهُ بِآيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ؛ لِلْإِشَارَةِ إِلَى خُرُوجِهَا عَنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ عَلَى طَرِيقِ التَّنَزُّلِ فِي تَرْكِ الِاحْتِجَاجِ بِهَا فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ، وَأَنَّ مَنْ أَنْكَرَهَا خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ جَمِيعًا، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ سَلَّامِ بْنِ أَبِي مُطِيعٍ، وَهُوَ شَيْخُ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ ذَكَرَ الْمُبْتَدِعَةَ فَقَالَ: وَيْلَهُمْ مَاذَا يُنْكِرُونَ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، وَاللَّهِ مَا فِي الْحَدِيثِ شَيْءٌ إِلَّا وَفِي الْقُرْآنِ مِثْلُهُ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} ، {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} ، {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} ، {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} ، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَنَحْوُ ذَلِكَ فَلَمْ يَزَلْ - أَيْ سَلَّامُ بْنُ مُطِيعٍ - يَذْكُرُ الْآيَاتِ مِنَ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَكَأَنَّهُ لَمَّحَ

ص: 359

فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِلَى مَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ سَمِعُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو: يَا اللَّهُ يَا رَحْمَنُ، فَقَالُوا: كَانَ مُحَمَّدٌ يَأْمُرُنَا بِدُعَاءِ إِلَهٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ يَدْعُو إِلَهَيْنِ، فَنَزَلَتْ، وَأَخْرَجَ عَنْ عَائِشَةَ بِسَنَدٍ آخَرَ نَحْوَهُ.

الثَّانِي: قَوْلُهُ فِي السَّنَدِ الْأَوَّلِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، كَذَا لِلْأَكْثَرِ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ تَبَعًا لِأَبِي عَلِيٍّ الْجَيَّانِيِّ: هُوَ إِمَّا ابْنُ سَلَّامٍ، وَإِمَّا ابْنُ الْمُثَنَّى. انْتَهَى. وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ ابْنُ سَلَّامٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ عَنْ شُيُوخِهِ، فَتَعَيَّنَ الْجَزْمُ بِهِ، كَمَا صَنَعَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: ح عَنْ مُحَمَّدٍ وَهُوَ ابْنُ سَلَّامٍ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ عَبَّرَ بِقَوْلِهِ: أَنْبَأَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ وَلَوْ كَانَ ابْنُ الْمُثَنَّى لَقَالَ: حَدَّثَنَا لِمَا عُرِفَ مِنْ عَادَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌3 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}

7378 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنْ اللَّهِ؛ يَدَّعُونَ لَهُ الْوَلَدَ، ثُمَّ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَالْأَصِيلِيِّ، وَالْحَفْصَوِيِّ عَلَى وَفْقِ الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَكَذَا هُوَ عِنْدَ النَّسَفِيِّ، وَعَلَيْهِ جَرَى الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْقَابِسِيِّ: إِنِّي أَنَا الرَّزَّاقُ إِلَخْ، وَعَلَيْهِ جَرَى ابْنُ بَطَّالٍ وَتَبِعَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ، وَالْكِرْمَانِيُّ، وَجَزَمَ بِهِ الصَّغَانِيُّ، وَزَعَمَ أَنَّ الَّذِي وَقَعَ عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِ مِنْ تَغْيِيرِهِمْ؛ لِظَنِّهِمْ أَنَّهُ خِلَافَ الْقِرَاءَةِ، قَالَ: وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ قِرَاءَةٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. قُلْتُ: وَذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقْرَأَهُ كَذَلِكَ، كَمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ النَّخَعِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَهُ قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: الْمَعْنَى فِي وَصْفِهِ بِالْقُوَّةِ أَنَّهُ الْقَادِرُ الْبَلِيغُ الِاقْتِدَارَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي حَمْزَةَ) بِالْمُهْمَلَةِ وَالزَّايِ هُوَ السُّكَّرِيُّ، وَفِي السَّنَدِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ كُلُّهُمْ كُوفِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ) الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ هُنَا: وَيَرْزُقُهُمْ وَقَوْلُهُ: يَدْعُونَ بِسُكُونِ الدَّالِ وَجَاءَ تَشْدِيدُهَا، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: تَضَمَّنَ هَذَا الْبَابُ صِفَتَيْنِ لِلَّهِ تَعَالَى: صِفَةُ ذَاتٍ، وَصِفَةُ فِعْلٍ، فَالرِّزْقُ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِهِ تَعَالَى فَهُوَ مِنْ صِفَاتِ فِعْلِهِ؛ لِأَنَّ رَازِقًا يَقْتَضِي مَرْزُوقًا، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى كَانَ وَلَا مَرْزُوقٌ، وَكُلُّ مَا لَمْ يَكُنْ ثُمَّ كَانَ فَهُوَ مُحْدَثٌ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ الرَّزَّاقُ، وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِذَلِكَ قَبْلَ خَلْقِ الْخَلْقِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ سَيَرْزُقُ إِذَا خَلَقَ الْمَرْزُوقِينَ.

وَالْقُوَّةُ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ وَهِيَ بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ، وَلَمْ يَزَلْ سبحانه وتعالى ذَا قُوَّةٍ وَقُدْرَةٍ، وَلَمْ تَزَلْ قُدْرَتُهُ مَوْجُودَةً قَائِمَةً بِهِ مُوجِبَةً لَهُ حُكْمَ الْقَادِرِينَ.

وَالْمَتِينُ بِمَعْنَى الْقَوِيِّ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الثَّابِتُ الصَّحِيحُ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: الْقَوِيُّ التَّامُّ الْقُدْرَةِ لَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ عَجْزٌ فِي حَالَةٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَيَرْجِعُ مَعْنَاهُ إِلَى الْقُدْرَةِ، وَالْقَادِرُ هُوَ الَّذِي لَهُ الْقُدْرَةُ الشَّامِلَةُ وَالْقُدْرَةُ صِفَةٌ لَهُ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ، وَالْمُقْتَدِرُ هُوَ التَّامُّ الْقُدْرَةِ الَّذِي لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَفِي الْحَدِيثِ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّهُ قَادِرٌ بِنَفْسِهِ لَا بِقُدْرَةٍ؛ لِأَنَّ الْقُوَّةَ بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ذُو الْقُوَّةِ، وَزَعَمَ الْمُعْتَزِلِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: ذُو الْقُوَّةِ: الشَّدِيدُ الْقُوَّةِ وَالْمَعْنَى فِي وَصْفِهِ بِالْقُوَّةِ وَالْمَتَانَةِ أَنَّهُ الْقَادِرُ الْبَلِيغُ الِاقْتِدَارَ، فَجَرَى عَلَى طَرِيقتهِمْ فِي أَنَّ الْقُدْرَةَ نَفْسِيَّةٌ، خِلَافًا لِقَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ: إِنَّهَا صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِهِ مُتَعَلِّقَةٌ بِكُلِّ مَقْدُورٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ: كَوْنُ الْقُدْرَةِ قَدِيمَةً

ص: 360

وَإِفَاضَةِ الرِّزْقِ حَادِثَةً لَا يَتَنَافَيَانِ؛ لِأَنَّ الْحَادِثَ هُوَ التَّعَلُّقُ، وَكَوْنُهُ رَزَقَ الْمَخْلُوقَ بَعْدَ وُجُودِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّغَيُّرَ فِيهِ؛ لِأَنَّ التَّغَيُّرَ فِي التَّعَلُّقِ؛ فَإِنَّ قُدْرَتَهُ لَمْ تَكُنْ مُتَعَلِّقَةً بِإِعْطَاءِ الرِّزْقِ بَلْ بِكَوْنِهِ سَيَقَعُ، ثُمَّ لَمَّا وَقَعَ تَعَلَّقَتْ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَتَغَيَّرَ الصِّفَةُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَمِنْ ثَمَّ نَشَأَ الِاخْتِلَافُ: هَلِ الْقُدْرَةُ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ أَوْ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ؟ فَمَنْ نَظَرَ فِي الْقُدْرَةِ إِلَى الِاقْتِدَارِ عَلَى إِيجَادِ الرِّزْقِ قَالَ: هِيَ صِفَةُ ذَاتٍ قَدِيمَةٌ، وَمَنْ نَظَرَ إِلَى تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ قَالَ: هِيَ صِفَةُ فِعْلٍ حَادِثَةٌ، وَلَا اسْتِحَالَةَ فِي ذَلِكَ فِي الصِّفَاتِ الْفِعْلِيَّةِ وَالْإِضَافِيَّةِ بِخِلَافِ الذَّاتِيَّةِ.

وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: أَصْبَرُ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ مِنَ الصَّبْرِ، وَمِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى سبحانه وتعالى: الصَّبُورُ وَمَعْنَاهُ الَّذِي لَا يُعَاجِلُ الْعُصَاةَ بِالْعُقُوبَةِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْحَلِيمِ، وَالْحَلِيمُ أَبْلَغُ فِي السَّلَامَةِ مِنَ الْعُقُوبَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَذَى أَذَى رُسُلِهِ وَصَالِحِي عِبَادِهِ؛ لِاسْتِحَالَةِ تَعَلُّقِ أَذَى الْمَخْلُوقِينَ بِهِ؛ لِكَوْنِهِ صِفَةَ نَقْصٍ، وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ، وَلَا يُؤَخِّرُ النِّقْمَةَ قَهْرًا بَلْ تَفَضُّلًا، وَتَكْذِيبُ الرُّسُلِ فِي نَفْيِ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ عَنِ اللَّهِ أَذًى لَهُمْ، فَأُضِيفَ الْأَذَى لِلَّهِ تَعَالَى لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ وَالِاسْتِعْظَامِ لِمَقَالَتِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} ؛ فَإِنَّ مَعْنَاهُ يُؤْذُونَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَأَوْلِيَاءَ رَسُولِهِ، فَأُقِيمَ الْمُضَافُ مَقَامَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَجْهُ مُطَابَقَةِ الْآيَةِ لِلْحَدِيثِ اشْتِمَالُهُ عَلَى صِفَتَيِ الرِّزْقِ وَالْقُوَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْقُدْرَةِ، أَمَّا الرِّزْقُ فَوَاضِحٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَيَرْزُقُهُمْ، وَأَمَّا الْقُوَّةُ فَمِنْ قَوْلِهِ: أَصْبَرُ؛ فَإِنَّ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ مَعَ إِسَاءَتِهِمْ، بِخِلَافِ طَبْعِ الْبَشَرِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَى الْمُسِيءِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ تَكَلُّفِهِ ذَلِكَ شَرْعًا، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ خَوْفَ الْفَوْتِ يَحْمِلُهُ عَلَى الْمُسَارَعَةِ إِلَى الْمُكَافَأَةِ بِالْعُقُوبَةِ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ حَالًا وَمَآلًا، لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ وَلَا يَفُوتُهُ.

‌4 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}

و {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} ، {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ} ، {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ}

قَالَ يَحْيَى: الظَّاهِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَالْبَاطِنُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا.

7379 -

حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ: لَا يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي الْمَطَرُ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا اللَّهُ.

7380 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ وَهُوَ يَقُولُ {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ الْغَيْبَ فَقَدْ كَذَبَ وَهُوَ يَقُولُ {لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} .

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} ، {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} ، {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} ، {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ} ، {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} أَمَّا الْآيَةُ الْأُولَى فَسَيَأْتِي شَيْءٌ مِنَ الْكَلَامِ عَلَيْهَا فِي آخِرِ

ص: 361

شَرْحِهِ، وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ فَمَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ لُقْمَانَ عِنْدَ شَرْحِ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ هُنَا، وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّالِثَةُ فَمِنَ الْحُجَجِ الْبَيِّنَةِ فِي إِثْبَاتِ الْعِلْمِ لِلَّهِ، وَحَرَّفَهُ الْمُعْتَزِلِيُّ نُصْرَةً لِمَذْهَبِهِ، فَقَالَ: أَنْزَلَهُ مُلْتَبِسًا بِعِلْمِهِ الْخَاصِّ، وَهُوَ تَأْلِيفُهُ عَلَى نَظْمٍ وَأُسْلُوبٍ يَعْجِزُ عَنْهُ كُلُّ بَلِيغٍ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ نَظْمَ الْعِبَارَاتِ لَيْسَ هُوَ نَفْسُ الْعِلْمِ الْقَدِيمِ بَلْ دَالٌّ عَلَيْهِ، وَلَا ضَرُورَةَ تُحْوِجُ إِلَى الْحَمْلِ عَلَى غَيْرِ الْحَقِيقَةِ الَّتِي هِيَ الْإِخْبَارُ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ، وَقَالَ الْمُعْتَزِلِيُّ أَيْضًا: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَهُوَ عَالِمٌ، فَأَوَّلَ عِلْمَهُ بِعَالِمٍ فِرَارًا مِنْ إِثْبَاتِ الْعِلْمِ لَهُ مَعَ تَصْرِيحِ الْآيَةِ بِهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ} وَتَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ مُوسَى وَالْخَضِرِ: مَا عِلْمِي وَعِلْمُكَ فِي عِلْمِ اللَّهِ وَوَقَعَ في حَدِيث الِاسْتِخَارَةِ الْمَاضِي فِي الدَّعَوَاتِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ.

وَأَمَّا الْآيَةُ الرَّابِعَةُ فَهِيَ كَالْأُولَى فِي إِثْبَاتِ الْعِلْمِ وَأَصْرَحُ، وَقَالَ الْمُعْتَزِلِيُّ: قَوْلُهُ: بِعِلْمِهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ لَا مَعْلُومَةَ بِعِلْمِهِ، فَتَعَسَّفَ فِيمَا أَوَّلَ، وَعَدَلَ عَنِ الظَّاهِرِ بِغَيْرِ مُوجِبٍ.

وَأَمَّا الْآيَةُ الْخَامِسَةُ فَقَالَ الطَّبَرِيُّ: مَعْنَاهَا: لَا يَعْلَمُ مَتَى وَقْتُ قِيَامِهَا غَيْرُهُ، فَعَلَى هَذَا فَالتَّقْدِيرُ إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ وَقْت السَّاعَةِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي هَذِهِ الْآيَاتِ إِثْبَاتُ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّهُ عَالِمٌ بِلَا عِلْمٍ، ثُمَّ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ عِلْمَهُ قَدِيمٌ وَجَبَ تَعَلُّقُهُ بِكُلِّ مَعْلُومٍ عَلَى حَقِيقَتِهِ بِدَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ فِي الْقُدْرَةِ وَالْقُوَّةِ وَالْحَيَاةِ وَغَيْرِهَا، وَقَالَ غَيْرُهُ: ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ مُرِيدٌ بِدَلِيلِ تَخْصِيصِ الْمُمْكِنَاتِ بِوُجُودِ مَا وُجِدَ مِنْهَا بَدَلًا مِنْ عَدَمِهِ، وَعَدَمُ الْمَعْدُومِ مِنْهَا بَدَلًا مِنْ وُجُودِهِ، ثُمَّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ لَهَا بِصِفَةٍ يَصِحُّ مِنْهُ بِهَا التَّخْصِيصُ وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ أَوَّلًا، وَالثَّانِي: لَوْ كَانَ فَاعِلًا لَهَا لَا بِالصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ، لَزِمَ صُدُورَ الْمُمْكِنَاتِ عَنْهُ صُدُورًا وَاحِدًا بِغَيْرِ تَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ وَلَا تَطْوِيرٍ، وَلَكَانَ يَلْزَمُ قِدَمَهَا ضَرُورَةُ اسْتِحَالَةِ تَخَلُّفِ الْمُقْتَضِي عَلَى مُقْتَضَاهُ الذَّاتِيِّ، فَيَلْزَمُ كَوْنُ الْمُمْكِنِ وَاجِبًا، وَالْحَادِثُ قَدِيمًا وَهُوَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ فَاعِلٌ بِصِفَةٍ يَصِحُّ مِنْهُ بِهَا التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ فَهَذَا بُرْهَانُ الْمَعْقُولِ، وَأَمَّا بُرْهَانُ الْمَنْقُولِ فَآيٌ مِنَ الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} ثُمَّ الْفَاعِلُ لِلْمَصْنُوعَاتِ بِخَلْقِهِ بِالِاخْتِيَارِ يَكُونُ مُتَّصِفًا بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ؛ لِأَنَّ الْإِرَادَةَ وَهِيَ الِاخْتِيَارُ مَشْرُوطَةٌ بِالْعِلْمِ بِالْمُرَادِ، وَوُجُودُ الْمَشْرُوطِ بِدُونِ شَرْطِهِ مُحَالٌ؛ وَلِأَنَّ الْمُخْتَارَ لِلشَّيْءِ إِنْ كَانَ غَيْرُهُ قَادِرًا عَلَيْهِ تَعَذَّرَ

عَلَيْهِ صُدُورُ مُخْتَارِهِ وَمُرَادِهِ، وَلَمَّا شُوهِدَتِ الْمَصْنُوعَاتُ صَدَرَتْ عَنْ فَاعِلِهَا الْمُخْتَارِ مِنْ غَيْرِ تَعَذُّرِ عِلْمٍ قَطَعْنَا أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِيجَادِهَا، وَسَيَأْتِي مَزِيدُ الْكَلَامِ فِي الْإِرَادَةِ فِي بَابِ الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ بَعْدَ نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ بَابًا، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةَ فِي الْبَابِ وَغَيْرَهَا مِمَّا هُوَ فِي مَعْنَاهَا: كَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ يَقُولُ: مَعْنَى الْعَلِيمِ يَعْلَمُ الْمَعْلُومَاتِ، وَمَعْنَى الْخَبِيرِ يَعْلَمُ مَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ، وَمَعْنَى الشَّهِيدِ يَعْلَمُ الْغَائِبَ كَمَا يَعْلَمُ الْحَاضِرَ، وَمَعْنَى الْمُحْصِي لَا تَشْغَلُهُ الْكَثْرَةُ عَنِ الْعِلْمِ، وَسَاقَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} قَالَ: يَعْلَمُ مَا أَسَرَّ الْعَبْدُ فِي نَفْسِهِ، وَمَا أَخْفَى عَنْهُ مِمَّا سَيَفْعَلُهُ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يَعْلَمُ السِّرَّ الَّذِي فِي نَفْسِكَ، وَيَعْلَمُ مَا سَتَعْمَلُ غَدًا.

قَوْلُهُ: (قَالَ يَحْيَى: الظَّاهِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَالْبَاطِنُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) يَحْيَى هَذَا هُوَ ابْنُ زِيَادٍ الْفَرَّاءُ النَّحْوِيُّ الْمَشْهُورُ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ مَعَانِي الْقُرْآنِ لَهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: مَعْنَى الظَّاهِرِ الْبَاطِنِ: الْعَالِمُ بِظَوَاهِرِ الْأَشْيَاءِ وَبَوَاطِنِهَا، وَقِيلَ: الظَّاهِرُ بِالْأَدِلَّةِ الْبَاطِنُ بِذَاتِهِ، وَقِيلَ: الظَّاهِرُ بِالْعَقْلِ الْبَاطِنُ بِالْحِسِّ، وَقِيلَ: مَعْنَى الظَّاهِرِ الْعَالِي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ مَنْ غَلَبَ عَلَى شَيْءٍ ظَهَرَ عَلَيْهِ وَعَلَاهُ، وَالْبَاطِنُ الَّذِي بَطَنَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، أَيْ عَلِمَ بَاطِنَهُ.

وَشَمَلَ قَوْلُهُ أَيْ كُلِّ شَيْءٍ علم مَا كَانَ وَمَا سَيَكُونُ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ؛ لِأَنَّ خَالِقَ الْمَخْلُوقَاتِ كُلَّهَا بِالِاخْتِيَارِ مُتَّصِفٌ بِالْعِلْمِ بِهِمْ وَالِاقْتِدَارِ عَلَيْهِمْ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الِاخْتِيَارَ مَشْرُوطٌ بِالْعِلْمِ، وَلَا يُوجَدُ

ص: 362

الْمَشْرُوطُ دُونَ شَرْطِهِ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الْمُخْتَارَ لِلشَّيْءِ لَوْ كَانَ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَيْهِ لَتَعَذَّرَ مُرَادُهُ وَقَدْ وُجِدَتْ بِغَيْرِ تَعَذُّرٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِيجَادِهَا، وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ لَمْ يُتَخَصَّصُ عِلْمُهُ فِي تَعَلُّقِهِ بِمَعْلُومٍ دُونَ مَعْلُومٍ؛ لِوُجُوبِ قِدَمِهِ الْمُنَافِي لِقَبُولِ التَّخْصِيصِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ يَعْلَمُ الْكُلِّيَّاتِ؛ لِأَنَّهَا مَعْلُومَاتٌ، وَالْجُزْئِيَّاتِ؛ لِأَنَّهَا مَعْلُومَاتٌ أَيْضًا؛ وَلِأَنَّهُ مُرِيدٌ لِإِيجَادِ الْجُزْئِيَّاتِ، وَالْإِرَادَةُ لِلشَّيْءِ الْمُعَيَّنِ إِثْبَاتًا وَنَفْيًا مَشْرُوطَةٌ بِالْعِلْمِ بِذَلِكَ الْمُرَادِ الْجُزْئِيِّ، فَيَعْلَمُ الْمَرْئِيَّاتِ لِلرَّائِينَ وَرُؤْيَتَهُمْ لَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْخَاصِّ، وَكَذَا الْمَسْمُوعَاتِ وَسَائِرَ الْمُدْرَكَاتِ لِمَا عُلِمَ ضَرُورَةً مِنْ وُجُوبِ الْكَمَالِ لَهُ وَأَضْدَادُ هَذِهِ الصِّفَاتِ نَقْصٌ، وَالنَّقْصُ مُمْتَنِعٌ عَلَيْهِ سبحانه وتعالى، وَهَذَا الْقَدْرُ كَافٍ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَضَلَّ مَنْ زَعَمَ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ أَنَّهُ سبحانه وتعالى يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ عَلَى الْوَجْهِ الْكُلِّيِّ لَا الْجُزْئِيِّ، وَاحْتَجُّوا بِأُمُورٍ فَاسِدَةٍ مِنْهَا أَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى مُحَالٍ وَهُوَ تَغَيُّرُ الْعِلْمِ؛ فَإِنَّ الْجُزْئِيَّاتِ زَمَانِيَّةٌ تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الزَّمَانِ وَالْأَحْوَالِ، وَالْعِلْمُ تَابِعٌ لِلْمَعْلُومَاتِ فِي الثَّبَاتِ وَالتَّغَيُّرِ، فَيَلْزَمُ تَغَيُّرُ عِلْمِهِ، وَالْعِلْمُ قَائِمٌ بِذَاتِهِ فَتَكُونُ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ

وَهُوَ مُحَالٌ.

وَالْجَوَابُ أَنَّ التَّغَيُّرَ إِنَّمَا وَقَعَ فِي الْأَحْوَالِ الْإِضَافِيَّةِ، وَهَذَا مِثْلُ رَجُلٍ قَامَ عَنْ يَمِينِ الْأُسْطُوَانَةِ ثُمَّ عَنْ يَسَارِهَا ثُمَّ أَمَامَهَا ثُمَّ خَلْفَهَا، فَالرَّجُلُ هُوَ الَّذِي يَتَغَيَّرُ وَالْأُسْطُوَانَةُ بِحَالِهَا، فَاللَّهُ سبحانه وتعالى عَالِمٌ بِمَا كُنَّا عَلَيْهِ أَمْسِ، وَبِمَا نَحْنُ عَلَيْهِ الْآنَ، وَبِمَا نَكُونُ عَلَيْهِ غَدًا، وَلَيْسَ هَذَا خَبَرًا عَنْ تَغَيُّرِ عِلْمِهِ بَلِ التَّغَيُّرُ جَارٍ عَلَى أَحْوَالِنَا وَهُوَ عَالِمٌ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ، وَأَمَّا السَّمْعِيَّةُ فَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ طَافِحٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى:{أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} وَقَالَ: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ} وَقَالَ تَعَالَى: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي مَفَاتِيحِ الْغَيْبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ

ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ عَائِشَةَ مُخْتَصَرًا، وَقَوْلُهُ فِيهِ: وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ الْغَيْبَ فَقَدْ كَذَبَ وَهُوَ يَقُولُ: لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ، كَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ وَهُوَ الْفِرْيَابِيُّ، وَعَنْ سُفْيَانَ وَهُوَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ وَهُوَ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النَّجْمِ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بِلَفْظِ: وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ:{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} وَذِكْرُ هَذِهِ الْآيَةِ أَنْسَبُ فِي هَذَا الْبَابِ؛ لِمُوَافَقَتِهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي قَبْلَهُ، لَكِنَّهُ جَرَى عَلَى عَادَتِهِ الَّتِي أَكْثَرَ مِنْهَا مِنَ اخْتِيَارِ الْإِشَارَةِ عَلَى صَرِيحِ الْعِبَارَةِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالرُّؤْيَةِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النَّجْمِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِعِلْمِ الْغَيْبِ فِي سُورَةِ لُقْمَانَ، وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ بِهَذَا السَّنَدِ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا كَتَمَ شَيْئًا وَأَحَلْتُ بِشَرْحِهِ عَلَى كِتَابِ التَّوْحِيدِ وَسَأَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَابِ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ قَالَ: قَوْلُهُ فِي هَذَا الطَّرِيقِ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا يَعْلَمُ الْغَيْبَ مَا أَظُنُّهُ مَحْفُوظًا، وَمَا أَحَدٌ يَدَّعِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْلَمُ مِنَ الْغَيْبِ إِلَّا مَا عُلِّمَ. انْتَهَى.

وَلَيْسَ فِي الطَّرِيقِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا التَّصْرِيحُ بِذِكْرِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّمَا وَقَعَ فِيهِ بِلَفْظِ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ، وَأَظُنُّهُ بُنِيَ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِ عَائِشَةَ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؛ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ فِي الَّذِي قَبْلَهُ حَيْثُ قَالَتْ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ ثُمَّ قَالَتْ: وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ، وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: ثَلَاثٌ مَنْ قَالَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ، فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ: مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ الْحَدِيثُ

ص: 363

أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَظَاهِرُ هَذَا السِّيَاقِ أَنَّ الضَّمِيرَ لِلزَّاعِمِ، وَلَكِنْ وَرَدَ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فِيمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ بِلَفْظِ: أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ مَنْ قَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ، وَإِنَّ مُحَمَّدًا كَتَمَ شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ، وَإِنَّ مُحَمَّدًا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ دَاوُدَ وَسِيَاقُهُ أَتَمُّ، وَلَكِنْ قَالَ فِيهِ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُخْبِرُ بِمَا يَكُونُ فِي غَدٍ هَكَذَا بِالضَّمِيرِ، كَمَا فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ مَعْطُوفًا عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَتَمَ شَيْئًا وَمَا ادَّعَاهُ مِنَ النَّفْيِ مُتَعَقَّبٌ؛ فَإِنَّ بَعْضَ مَنْ لَمْ يَرْسَخْ فِي الْإِيمَانِ كَانَ يَظُنُّ ذَلِكَ حَتَّى كَانَ يَرَى أَنَّ صِحَّةَ النُّبُوَّةِ تَسْتَلْزِمُ اطِّلَاعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى

جَمِيعِ الْمُغَيَّبَاتِ، كَمَا وَقَعَ فِي الْمَغَازِي لِابْنِ إِسْحَاقَ: أَنَّ نَاقَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ضَلَّتْ، فَقَالَ زَيْدُ بْنُ اللَّصِيتِ - بِصَادٍ مُهْمَلَةٍ وَآخِرُهُ مُثَنَّاةٌ وَزْنُ عَظِيمٍ -: يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَيُخْبِرُكُمْ عَنْ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَهُوَ لَا يَدْرِي أَيْنَ نَاقَتُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ رَجُلًا يَقُولُ كَذَا وَكَذَا، وَإِنِّي وَاللَّهِ لَا أَعْلَمُ إِلَّا مَا عَلَّمَنِي اللَّهُ، وَقَدْ دَلَّنِي اللَّهُ عَلَيْهَا، وَهِيَ فِي شِعْبِ كَذَا قَدْ حَبَسَتْهَا شَجَرَةٌ، فَذَهَبُوا فَجَاءُوهُ بِهَا، فَأَعْلَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مِنَ الْغَيْبِ إِلَّا مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} الْآيَةَ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْغَيْبِ فِيهَا فَقِيلَ: هُوَ عَلَى عُمُومِهِ، وَقِيلَ: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْوَحْيِ خَاصَّةً، وَقِيلَ: مَا يَتَعَلَّقُ بِعِلْمِ السَّاعَةِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ لُقْمَانَ أَنَّ عِلْمَ السَّاعَةِ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، إِلَّا إِنْ ذَهَبَ قَائِلُ ذَلِكَ إِلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْغَيْبِ هُنَاكَ.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِبْطَالُ الْكَرَامَاتِ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ يُضَافُ إِلَيْهِمْ وَإِنْ كَانُوا أَوْلِيَاءَ مُرْتَضِينَ فَلَيْسُوا بِرُسُلٍ، وَقَدْ خَصَّ اللَّهُ الرُّسُلَ مِنْ بَيْنَ الْمُرْتَضِينَ بِالِاطِّلَاعِ عَلَى الْغَيْبِ، وَتُعُقِّبَ بِمَا تَقَدَّمَ، وَقَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ: قَوْلُهُ: عَلَى غَيْبِهِ، لَفْظٌ مُفْرَدٌ وَلَيْسَ فِيهِ صِيغَةُ عُمُومٍ، فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبٍ وَاحِدٍ مِنْ غُيُوبِهِ أَحَدًا إِلَّا الرُّسُلَ، فَيُحْمَلُ عَلَى وَقْتِ وُقُوعِ الْقِيَامَةِ، وَيُقَوِّيهِ ذِكْرُهَا عَقِبَ قَوْلِهِ:{أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ} وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الرُّسُلَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ أَيْضًا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا، أَيْ: لَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ الْمَخْصُوصِ أَحَدًا لَكِنْ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ؛ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ لَهُ حِفْظَهُ، وَقَالَ الْقَاضِي الْبَيْضَاوِيُّ: يُخَصَّصُ الرَّسُولُ بِالْمَلَكِ فِي اطِّلَاعِهِ عَلَى الْغَيْبِ، وَالْأَوْلِيَاءُ يَقَعُ لَهُمْ ذَلِكَ بِالْإِلْهَامِ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ دَعْوَى الزَّمَخْشَرِيِّ عَامَّةٌ وَدَلِيلُهُ خَاصٌّ، فَالدَّعْوَى امْتِنَاعُ الْكَرَامَاتِ كُلِّهَا، وَالدَّلِيلُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ فِيهِ إِلَّا نَفْيُ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْغَيْبِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْكَرَامَاتِ، انْتَهَى.

وَتَمَامُهُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِالِاطِّلَاعِ عَلَى الْغَيْبِ عِلْمُ مَا سَيَقَعُ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ عَلَى تَفْصِيلِهِ فَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا مَا يُكْشَفُ لَهُمْ مِنَ الْأُمُورِ الْمُغَيَّبَةِ عَنْهُمْ وَمَا لَا يُخْرَقُ لَهُمْ مِنَ الْعَادَةِ، كَالْمَشْيِ عَلَى الْمَاءِ وَقَطْعِ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ فِي مُدَّةٍ لَطِيفَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْأَقْرَبُ تَخْصِيصُ الِاطِّلَاعِ بِالظُّهُورِ وَالْخَفَاءِ، فَإِطْلَاعُ اللَّهِ الْأَنْبِيَاءَ عَلَى الْمُغَيَّبِ أَمْكَنُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَرْفُ الِاسْتِعْلَاءِ فِي عَلَى غَيْبِهِ فَضَمَّنَ يُظْهِرُ مَعْنَى يُطْلِعُ، فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ إِظْهَارًا تَامًّا وَكَشْفًا جَلِيًّا إِلَّا لِرَسُولٍ يُوحَى إِلَيْهِ مَعَ مَلَكٍ وَحَفَظَةٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ:{فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} وَتَعْلِيلُهُ بِقَوْلِهِ: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ} وَأَمَّا الْكَرَامَاتُ فَهِيَ مِنْ قَبِيلِ التَّلْوِيحِ وَاللَّمَحَاتِ، وَلَيْسُوا فِي ذَلِكَ كَالْأَنْبِيَاءِ.

وَقَدْ جَزَمَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ بِأَنَّ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ لَا تُضَاهِي مَا هُوَ مُعْجِزَةٌ لِلْأَنْبِيَاءِ، وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكَ: الْأَنْبِيَاءُ مَأْمُورُونَ بِإِظْهَارِهَا، وَالْوَلِيُّ يَجِبُ عَلَيْهِ إِخْفَاؤُهَا، وَالنَّبِيُّ يَدَّعِي ذَلِكَ بِمَا يَقْطَعُ بِهِ بِخِلَافِ الْوَلِيِّ؛ فَإِنَّهُ لَا يَأْمَنُ الِاسْتِدْرَاجَ. وَفِي الْآيَةِ رَدٌّ عَلَى الْمُنَجِّمِينَ وَعَلَى كُلِّ مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ يَطَّلِعُ عَلَى مَا سَيَكُونُ مِنْ حَيَاةٍ أَوْ مَوْتٍ أَوْ غَيْرِ

ص: 364

ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لِلْقُرْآنِ، وَهُمْ أَبْعَدُ شَيْءٍ مِنَ الِارْتِضَاءِ مَعَ سَلْبِ صِفَةِ الرُّسُلِيَّةِ عَنْهُمْ.

وَقَوْلُهُ فِي أَوَّلِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ - إِلَى أَنْ قَالَ: - لَا يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ إِلَّا اللَّهُ فَوَقَعَ فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ لَا يَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ إِلَّا اللَّهُ وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ عَلَى أَقْوَالٍ: فَقِيلَ: مَا يَنْقُصُ مِنَ الْخِلْقَةِ وَمَا يَزْدَادُ فِيهَا، وَقِيلَ: مَا يَنْقُصُ مِنَ التِّسْعَةِ الْأَشْهُرِ فِي الْحَمْلِ وَمَا يَزْدَادُ فِي النِّفَاسِ إِلَى السِّتِّينَ، وَقِيلَ: مَا يَنْقُصُ بِظُهُورِ الْحَيْضِ فِي الْحَبَلِ بِنَقْصِ الْوَلَدِ، وَمَا يَزْدَادُ عَلَى التِّسْعَةِ الْأَشْهُرِ بِقَدْرِ مَا حَاضَتْ، وَقِيلَ: مَا يَنْقُصُ فِي الْحَمْلِ بِانْقِطَاعِ الْحَيْضِ وَمَا يَزْدَادُ بِدَمِ النِّفَاسِ مِنْ بَعْدِ الْوَضْعِ، وَقِيلَ: مَا يَنْقُصُ مِنَ الْأَوْلَادِ قَبْلُ، وَمَا يَزْدَادُ مِنَ الْأَوْلَادِ بَعْدُ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ -: اسْتَعَارَ لِلْغَيْبِ مَفَاتِيحَ اقْتِدَاءً بِمَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} وَلِيُقَرِّبَ الْأَمْرَ عَلَى السَّامِعِ؛ لِأَنَّ أُمُورَ الْغَيْبِ لَا يُحْصِيهَا إِلَّا عَالِمُهَا، وَأَقْرَبُ الْأَشْيَاءِ إِلَى الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا غَابَ الْأَبْوَابُ، وَالْمَفَاتِيحُ أَيْسَرُ الْأَشْيَاءِ لِفَتْحِ الْبَابِ، فَإِذَا كَانَ أَيْسَرُ الْأَشْيَاءِ لَا يُعْرَفُ مَوْضِعُهَا فَمَا فَوْقَهَا أَحْرَى أَنْ لَا يُعْرَفَ. قَالَ: وَالْمُرَادُ بِنَفْيِ الْعِلْمِ عَنِ الْغَيْبِ الْحَقِيقِيِّ؛ فَإِنَّ لِبَعْضِ الْغُيُوبِ أَسْبَابًا قَدْ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَيْهَا، لَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ حَقِيقِيًّا قَالَ: فَلَمَّا كَانَ جَمِيعُ مَا فِي الْوُجُودِ مَحْصُورًا فِي عِلْمِهِ شَبَّهَهُ الْمُصْطَفَى بِالْمَخَازِنِ، وَاسْتَعَارَ لِبَابِهَا الْمِفْتَاحَ، وَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ}

قَالَ: وَالْحِكْمَةُ فِي جَعْلِهَا خَمْسًا الْإِشَارَةُ إِلَى حَصْرِ الْعَوَالِمِ فِيهَا، فَفِي قَوْلِهِ:{وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ} إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَزِيدُ فِي النَّفْسِ وَيَنْقُصُ، وَخَصَّ الرَّحِمَ بِالذِّكْرِ؛ لِكَوْنِ الْأَكْثَرِ يَعْرِفُونَهَا بِالْعَادَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَنَفَى أَنْ يَعْرِفَ أَحَدٌ حَقِيقَتَهَا، فَغَيْرَهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.

وَفِي قَوْلِهِ: وَلَا يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي الْمَطَرُ إِشَارَةٌ إِلَى أُمُورِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، وَخَصَّ الْمَطَرَ مَعَ أَنَّ لَهُ أَسْبَابًا قَدْ تَدُلُّ بِجَرْيِ الْعَادَةِ عَلَى وُقُوعِهِ لَكِنَّهُ مِنْ غَيْرِ تَحْقِيقٍ.

وَفِي قَوْلِهِ: وَلَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِشَارَةٌ إِلَى أُمُورِ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ، مَعَ أَنَّ عَادَةَ أَكْثَرِ النَّاسِ أَنْ يَمُوتَ بِبَلَدِهِ، وَلَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ حَقِيقَةً بَلْ لَوْ مَاتَ فِي بَلَدِهِ لَا يُعْلَمُ فِي أَيِّ بُقْعَةٍ يُدْفَنُ مِنْهَا، وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ مَقْبَرَةٌ ل أَسْلَافِهِ بَلْ قَبْرٌ أَعَدَّهُ هُوَ لَهُ.

وَفِي قَوْلِهِ: وَلَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلَّا اللَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنْوَاعِ الزَّمَانِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْحَوَادِثِ، وَعَبَّرَ بِلَفْظِ غَدٍ؛ لِتَكُونَ حَقِيقَتُهُ أَقْرَبَ الْأَزْمِنَةِ، وَإِذَا كَانَ مَعَ قُرْبِهِ لَا يَعْلَمُ حَقِيقَةَ مَا يَقَعُ فِيهِ مَعَ إِمْكَانِ الْأَمَارَةِ وَالْعَلَامَةِ فَمَا بَعُدَ عَنْهُ أَوْلَى.

وَفِي قَوْلِهِ: وَلَا يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا اللَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى عُلُومِ الْآخِرَةِ؛ فَإِنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوَّلُهَا، وَإِذَا نَفَى عِلْمَ الْأَقْرَبِ انْتَفَى عِلْمُ مَا بَعْدِهِ، فَجَمَعَتِ الْآيَةُ أَنْوَاعَ الْغُيُوبِ وَأَزَالَتْ جَمِيعَ الدَّعَاوِي الْفَاسِدَةِ، وَقَدْ بَيَّنَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} أَنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِتَوْفِيقٍ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

‌5 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {السَّلامُ الْمُؤْمِنُ}

7381 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ، حَدَّثَنَا شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: كُنَّا نُصَلِّي خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَنَقُولُ: السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ، وَلَكِنْ قُولُوا: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {السَّلامُ الْمُؤْمِنُ} كَذَا لِلْجَمِيعِ، وَزَادَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْمُهَيْمِنُ، وَقَالَ: غَرَضُهُ بِهَذَا الْبَابِ إِثْبَاتُ

ص: 365

أَسْمَاءٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْضَ مَا وَرَدَ فِي مَعَانِيهَا، وَفِيمَا ذَكَرَهُ نَظَرٌ.

سَلَّمْنَا، لَكِنْ وَظِيفَةُ الشَّارِحِ بَيَانُ وَجْهِ تَخْصِيصِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الثَّلَاثَةِ بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهَا، وَإِفْرَادُهَا بِتَرْجَمَةٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهَذَا الْقَدْرِ جَمِيعَ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْحَشْرِ؛ فَإِنَّهَا خُتِمَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} وَقَدْ قَالَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} فَكَأَنَّهُ بَعْدَ إِثْبَاتِ حَقِيقَةِ الْقُدْرَةِ وَالْقُوَّةِ وَالْعِلْمِ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الصِّفَاتِ السَّمْعِيَّةَ لَيْسَتْ مَحْصُورَةً فِي عَدَدٍ مُعَيَّنٍ بِدَلِيلِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ أَوْ أَرَادَ الْإِشَارَةَ إِلَى ذِكْرِ الْأَسْمَاءِ الَّتِي تَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى بِهَا، وَأُطْلِقَتْ مَعَ ذَلِكَ عَلَى الْمَخْلُوقِينَ، فَالسَّلَامُ ثَبَتَ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ أُطْلِقَ عَلَى التَّحِيَّةِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُؤْمِنُ يُطْلَقُ عَلَى مَنِ اتَّصَفَ بِالْإِيمَانِ، وَقَدْ وَقَعَا مَعًا مِنْ غَيْر تَخَلُّلٍ بَيْنَهُمَا فِي الْآيَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا فَنَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَهُمَا فِي تَرْجَمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: مَعْنَى السَّلَامِ فِي حَقِّهِ سبحانه وتعالى الَّذِي سَلِمَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ عُقُوبَتِهِ، وَكَذَا فِي تَفْسِيرِ الْمُؤْمِنِ: الَّذِي أَمِنَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ عُقُوبَتِهِ، وَقِيلَ: السَّلَامُ: مَنْ سَلِمَ مِنْ كُلِّ نَقْصٍ، وَبَرِئَ مِنْ كُلِّ آفَةٍ وَعَيْبٍ، فَهِيَ صِفَةٌ سَلْبِيَّةٌ، وَقِيلَ: الْمُسَلِّمُ عَلَى عِبَادِهِ؛ لِقَوْلِهِ: {سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} فَهِيَ صِفَةٌ كَلَامِيَّةٌ، وَقِيلَ: الَّذِي سَلِمَ الْخَلْقُ مِنْ ظُلْمِهِ، وَقِيلَ: مِنْهُ السَّلَامَةُ لِعِبَادِهِ، فَهِيَ صِفَةٌ فِعْلِيَّةٌ، وَقِيلَ: الْمُؤْمِنُ الَّذِي صَدَّقَ نَفْسَهُ، وَصَدَّقَ أَوْلِيَاءَهُ،

وَتَصْدِيقُهُ عِلْمُهُ بِأَنَّهُ صَادِقٌ، وَأَنَّهُمْ صَادِقُونَ، وَقِيلَ: الْمُوَحِّدُ لِنَفْسِهِ، وَقِيلَ: خَالِقُ الْأَمْنِ، وَقِيلَ: وَاهِبُ الْأَمْنِ، وَقِيلَ: خَالِقُ الطُّمَأْنِينَةِ فِي الْقُلُوبِ.

وَأَمَّا الْمُهَيْمِنُ فَإِنْ ثَبَتَ فِي الرِّوَايَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ فِي التَّفْسِيرِ، وَمِمَّا يُسْتَفَادُ أَنَّ ابْنَ قُتَيْبَةَ وَمَنْ تَبِعَهُ كَالْخَطَّابِيِّ زَعَمُوا أَنَّهُ مُفَيْعِلٌ مِنَ الْأَمْنِ قُلِبَتِ الْهَمْزُ هَاءً، وَقَدْ تَعَقَّبَ ذَلِكَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَنَقَلَ إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ لَا تُصَغَّرُ، وَنَقَلَ الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْحَلِيمِيِّ أَنَّ الْمُهَيْمِنَ مَعْنَاهُ الَّذِي لَا يُنْقِصُ الطَّائِعَ مِنْ ثَوَابِهِ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَ، وَلَا يَزِيدُ الْعَاصِي عِقَابًا عَلَى مَا يَسْتَحِقُّهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْكَذِبُ، وَقَدْ سَمَّى الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ جَزَاءً، وَلَهُ أَنْ يَتَفَضَّلَ بِزِيَادَةِ الثَّوَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْعِقَابِ.

قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا شَرْحُ قَوْلِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ فِي الْمُهَيْمِنِ أَنَّهُ الْأَمِينُ، ثُمَّ سَاقَ مِنْ طَرِيقِ التَّيْمِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مُهَيْمِنًا عَلَيْهِ قَالَ: مُؤْتَمَنًا، وَمِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْمُهَيْمِنُ: الْأَمِينُ، وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْمُهَيْمِنُ: الشَّاهِدُ، وَقِيلَ: الْمُهَيْمِنُ: الرَّقِيبُ عَلَى الشَّيْءِ وَالْحَافِظُ لَهُ، وَقِيلَ: الْهَيْمَنَةُ: الْقِيَامُ عَلَى الشَّيْءِ، قَالَ الشَّاعِرُ:

أَلَا إِنَّ خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ نَبِيِّهِ

مُهَيْمِنُهُ التَّالِيهِ فِي الْعُرْفِ وَالنُّكْرِ

يُرِيدُ الْقَائِمَ عَلَى النَّاسِ بَعْدَهُ بِالرِّعَايَةِ لَهُمْ، انْتَهَى.

وَيَصِحُّ أَنْ يُرِيدَ الْأَمِينَ عَلَيْهِمْ، فَيُوَافِقُ مَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي التَّشَهُّدِ وَسَنَدُهُ كُلُّهُ كُوفِيُّونَ وَأَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ الْيَرْبُوعِيُّ نُسِبَ لِجَدِّهِ، وَزُهَيْرٌ هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ الْجُعْفِيُّ، وَمُغِيرَةُ هُوَ ابْنُ مِقْسَمٍ الضَّبِّيُّ، وَشَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ هُوَ أَبُو وَائِلٍ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ وَبِاسْمِهِ مَعًا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى الْحَلْوَانِيِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ فَقَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ الضَّبِّيُّ وَسَاقَ الْمَتْنَ مِثْلَهُ سَوَاءً، وَضَاقَ عَلَى الْإِسْمَاعِيلِيِّ مَخْرَجُهُ فَاكْتَفَى بِرِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ مُغِيرَةَ وَسَاقَهُ نَحْوَهُ مِنْ رِوَايَةِ زُهَيْرٍ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ مُغِيرَةَ بِسَنَدِهِ، وَقَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ: فَنَقُولُ: السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ هَكَذَا اخْتَصَرَهُ مُغِيرَةُ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ: مِنْ عِبَادِهِ وَفِي لَفْظٍ مَضَى فِي الِاسْتِئْذَانِ قَبْلَ عِبَادِهِ: السَّلَامُ عَلَى جِبْرِيلَ إِلَخْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ مُفَصَّلًا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ فِي أَوَاخِرِ صِفَةِ الصَّلَاةِ مِنْ قَبْلِ كِتَابِ الْجُمُعَةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.

ص: 366

‌6 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مَلِكِ النَّاسِ}

فِيهِ ابْنُ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

7382 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدٍ - هُوَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ -، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ؟

وَقَالَ شُعَيْبٌ وَالزُّبَيْدِيُّ وَابْنُ مُسَافِرٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مَلِكِ النَّاسِ} قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: الْمَلِكُ وَالْمَالِكُ: هُوَ الْخَاصُّ الْمُلْكَ، وَمَعْنَاهُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى الْقَادِرُ عَلَى الْإِيجَادِ، وَهِيَ صِفَةٌ يَسْتَحِقُّهَا لِذَاتِهِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْمَلِكُ: الْمُتَّصِفُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِالنَّاطِقِينَ، وَلِهَذَا قَالَ:{مَلِكِ النَّاسِ} وَلَمْ يَقُلْ مَلِكِ الْأَشْيَاءِ، قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: مَلِك يَوْمِ الدِّينِ، فَتَقْدِيرُهُ الْمُلْكُ فِي يَوْمِ الدِّينِ؛ لِقَوْلِهِ:{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} انْتَهَى.

وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ خَصَّ النَّاسَ بِالذِّكْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَلِكِ النَّاسِ} ؛ لِأَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ جَمَادٌ وَنَامٍ، وَالنَّامِي صَامِتٌ وَنَاطِقٌ، وَالنَّاطِقُ مُتَكَلِّمٌ وَغَيْرُ مُتَكَلِّمٍ، فَأَشْرَفُ الْجَمِيعِ الْمُتَكَلِّمُ، وَهُمْ ثَلَاثَةٌ: الْإِنْسُ وَالْجِنُّ وَالْمَلَائِكَةُ، وَكُلُّ مَنْ عَدَاهُمْ جَائِزٌ دُخُولُهُ تَحْتَ قَبْضَتِهِمْ وَتَصَرُّفِهِمْ، وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالنَّاسِ فِي الْآيَةِ الْمُتَكَلِّمُ، فَمَنْ مَلَكُوهُ فِي مُلْكِ مَنْ مَلَكَهُمْ، فَكَانَ فِي حُكْمِ مَا لَوْ قَالَ: مَلِكِ كُلِّ شَيْءٍ مَعَ التَّنْوِيهِ بِذِكْرِ الْأَشْرَفِ؛ وَهُوَ الْمُتَكَلِّمُ.

قَوْلُهُ: (فِيهِ ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَيْ: يَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، وَمُرَادُهُ حَدِيثُهُ الْآتِي بَعْدَ اثْنَيْ عَشَرَ بَابًا فِي تَرْجَمَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ؟ أَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ وَهُوَ ابْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِسَنَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ شُعَيْبٌ، وَالزُّبَيْدِيُّ، وَابْنُ مُسَافِرٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ مِثْلَهُ، كَذَا وَقَعَ لِأَبِي ذَرٍّ وَسَقَطَ لِغَيْرِهِ لَفْظُ مِثْلَهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ أَرْسَلَهُ بَلْ مُرَادُهُ أَنَّهُ اخْتُلِفَ عَلَى ابْنِ شِهَابٍ وَهُوَ الزُّهْرِيُّ فِي شَيْخِهِ فَقَالَ يُونُسُ: هُوَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَقَالَ الْبَاقُونَ: أَبُو سَلَمَةَ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَرْوِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَأَمَّا رِوَايَةُ شُعَيْبٍ وَهُوَ ابْنُ أَبِي حَمْزَةَ الْحِمْصِيُّ فَسَتَأْتِي فِي الْبَابِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ الْمُعَلَّقِ آنِفًا، فَإِنَّهُ قَالَ هُنَاكَ: وَقَالَ أَبُو الْيَمَانِ: أَنَا شُعَيْبٌ فَذَكَرَ طَرَفًا مِنَ الْمَتْنِ، وَقَدْ وَصَلَهُ الدَّارِمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ وَهُوَ أَبُو الْيَمَانِ فَذَكَرَهُ، وَفِيهِ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ يَقُولُ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ مِنْ صَحِيحِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ، عَنْ أَبِي الْيَمَانِ وَأَمَّا رِوَايَةُ الزُّبَيْدِيِّ بِضَمِّ الزَّايِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ الْحِمْصِيُّ فَوَصَلَهَا ابْنُ خُزَيْمَةَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ

عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَالِمٍ عَنْهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَمَّا طَرِيقُ ابْنِ مُسَافِرٍ وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ مُسَافِرٍ الْفَهْمِيُّ أَمِيرُ مِصْرَ نُسِبَ لِجَدِّهِ فَتَقَدَّمَتْ مَوْصُولَةً فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الزُّمَرِ، مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْهُ كَذَلِكَ، وَأَمَّا رِوَايَةُ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى وَهُوَ الْكَلْبِيُّ فَوَصَلَهَا الذُّهْلِيُّ فِي الزُّهْرِيَّاتِ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: وَافَقَ الْجَمَاعَةَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ الرُّصَافِيُّ فِي أَبِي سَلَمَةَ.

قُلْتُ: وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الصَّدَفِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ كَذَلِكَ، وَنَقَلَ ابْنُ خُزَيْمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ أَنَّ الطَّرِيقَيْنِ مَحْفُوظَانِ، انْتَهَى. وَصَنِيعُ الْبُخَارِيِّ يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْقَوَاعِدُ تَرْجِيحُ رِوَايَةِ شُعَيْبٍ؛

ص: 367

لِكَثْرَةِ مَنْ تَابَعَهُ، لَكِنَّ يُونُسَ كَانَ مِنْ خَوَاصِّ الزُّهْرِيِّ الْمُلَازِمِينَ لَهُ.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَلِكِ النَّاسِ} دَاخِلٌ فِي مَعْنَى التَّحِيَّاتِ لِلَّهِ، أَيِ: الْمُلْكُ لِلَّهِ، وَكَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَقُولُوا: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، امْتِثَالًا لِأَمْرِ رَبِّهِ:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ} وَوَصْفُهُ بِأَنَّهُ {مَلِكِ النَّاسِ} يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ، فَيَكُونُ صِفَةَ ذَاتٍ، وَأَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْقَهْرِ وَالصَّرْفِ عَمَّا يُرِيدُونَ فَيَكُونُ صِفَةَ فِعْلٍ. قَالَ: وَفِي الْحَدِيثِ إِثْبَاتُ الْيَمِينِ صِفَةً لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ، وَلَيْسَتْ جَارِحَةً خِلَافًا لِلْمُجَسِّمَةِ، انْتَهَى. مُلَخَّصًا.

وَالْكَلَامُ عَلَى الْيَمِينِ يَأْتِي فِي الْبَابِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَى التَّوْفِيقِ بَيْنَ الْحَدِيثِ وَالتَّرْجَمَةِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا قَالَهُ شَيْخُهُ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ الْخُزَاعِيُّ، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ: وَجَدْتُ فِي كِتَابِ أَبِي عُمَرَ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ قَالَ: يُقَالُ لِلْجَهْمِيَّةِ: أَخْبِرُونَا عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ فَنَاءِ خَلْقِهِ: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} ؟ فَلَا يُجِيبُهُ أَحَدٌ، فَيَرُدُّ عَلَى نَفْسِهِ:{لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} وَذَلِكَ بَعْدَ انْقِطَاعِ أَلْفَاظِ خَلْقِهِ بِمَوْتِهِمْ، أَفَهَذَا مَخْلُوقٌ؟ انْتَهَى. وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ كَلَامًا فَيُسْمِعُهُ مَنْ شَاءَ بِأَنَّ الْوَقْتَ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ:{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} لَا يَبْقَى حِينَئِذٍ مَخْلُوقٌ حَيًّا، فَيُجِيبُ نَفْسَهُ فَيَقُولُ:{لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} فَثَبَتَ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِذَلِكَ، وَكَلَامُهُ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ فَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَعَنْ أَحْمَدَ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ قَالَ: صَحَّ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ بَعْدَ فَنَاءِ خَلْقِهِ: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} فَلَا يُجِيبُهُ أَحَدٌ فَيَقُولُ لِنَفْسِهِ: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} قَالَ: وَوَجَدْتُ فِي كِتَابٍ عِنْدَ أَبِي عَنْ هِشَامِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الرَّازِيِّ قَالَ: إِذَا مَاتَ الْخَلْقُ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا اللَّهُ وَقَالَ: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} فَلَا يُجِيبُهُ أَحَدٌ، فَيَرُدُّ عَلَى نَفْسِهِ فَيَقُولُ: لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ قَالَ: فَلَا يَشُكُّ أَحَدٌ أَنَّ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ، وَلَيْسَ بِوَحْيٍ إِلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَبْقَ نَفْسٌ فِيهَا رُوحٌ إِلَّا وَقَدْ ذَاقَتِ الْمَوْتَ، وَاللَّهُ هُوَ الْقَائِلُ وَهُوَ الْمُجِيبُ لِنَفْسِهِ.

قُلْتُ: وَفِي حَدِيثِ الصُّورِ الطَّوِيلِ الَّذِي تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الرِّقَاقِ فِي صِفَةِ الْحَشْرِ: فَإِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا اللَّهُ - كَانَ آخِرًا كَمَا كَانَ أَوَّلًا - طَوَى السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ، ثُمَّ دَحَاهَا، ثُمَّ تَلَقَّفَهُمَا ثُمَّ قَالَ: أَنَا الْجَبَّارُ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ لِنَفْسِهِ: لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ قَالَ الطَّبَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} يَعْنِي يَقُولُ اللَّهُ: لِمَنِ الْمُلْكُ؟ فَتَرَكَ ذِكْرَ ذَلِكَ اسْتِغْنَاءً لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، قَالَ: وَقَوْلُهُ: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} ذَكَرَ أَنَّ الرَّبَّ جل جلاله هُوَ الْقَائِلُ ذَلِكَ مُجِيبًا لِنَفْسِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ الرِّوَايَةَ بِذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

‌7 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} ، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ}

وَمَنْ حَلَفَ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ. وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: تَقُولُ جَهَنَّمُ: قَطْ قَطْ، وَعِزَّتِكَ.

وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يَبْقَى رَجُلٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وهو آخِرُ أَهْلِ النَّارِ دُخُولًا الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِي عَنْ النَّارِ، لَا وَعِزَّتِكَ لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا.

قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ اللَّهُ عز وجل: لَكَ ذَلِكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ.

وَقَالَ أَيُّوبُ: وَعِزَّتِكَ لَا غِنَى لي عَنْ بَرَكَتِكَ.

7383 -

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، الَّذِي لَا يَمُوتُ

ص: 368

وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَمُوتُونَ.

7384 -

حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الأَسْوَدِ حَدَّثَنَا حَرَمِيٌّ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَزَالُ يُلْقَى فِي النَّارِ ح و قَالَ لِي خَلِيفَةُ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ وَعَنْ مُعْتَمِرٍ سَمِعْتُ أَبِي عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَزَالُ يُلْقَى فِيهَا وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ حَتَّى يَضَعَ فِيهَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَدَمَهُ فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ ثُمَّ تَقُولُ قَدْ قَدْ بِعِزَّتِكَ وَكَرَمِكَ وَلَا تَزَالُ الْجَنَّةُ تَفْضُلُ حَتَّى يُنْشِئَ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا فَيُسْكِنَهُمْ فَضْلَ الْجَنَّةِ

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} ، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ} أَمَّا الْآيَةُ الْأُولَى فَوَقَعَتْ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ وَتَكَرَّرَتْ فِي بَعْضِهَا، وَأَوَّلُ مَوْضِعٍ وَقَعَ فِيهِ {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَمَّا مُطْلَقُ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ فَأَوَّلُ مَا وَقَعَ فِي الْبَقَرَةِ فِي دُعَاءِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام لِأَهْلِ مَكَّةَ:{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ} الْآيَةَ، وَآخِرُهَا:{إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وَتَكَرَّرَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَ: {عَزِيزٌ حَكِيمٌ} بِغَيْرِ لَامٍ فِيهِمَا فِي عِدَّةٍ مِنَ السُّوَرِ.

وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ فَفِي إِضَافَةِ الْعِزَّةِ إِلَى الرُّبُوبِيَّةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا هُنَا الْقَهْرُ وَالْغَلَبَةُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْإِضَافَةُ لِلِاخْتِصَاصِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: ذُو الْعِزَّةِ، وَأَنَّهَا مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْعِزَّةِ هُنَا الْعِزَّةُ الْكَائِنَةُ بَيْنَ الْخَلْقِ وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ فَيَكُونُ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ، فَالرَّبُّ عَلَى هَذَا بِمَعْنَى الْخَالِقِ وَالتَّعْرِيفُ فِي الْعِزَّةِ لِلْجِنْسِ، فَإِذَا كَانَتِ الْعِزَّةُ كُلُّهَا لِلَّهِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ مُعْتَزًّا إِلَّا بِهِ، وَلَا عِزَّةَ لِأَحَدٍ إِلَّا وَهُوَ مَالِكُهَا، وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّالِثَةُ فَيُعْرَفُ حُكْمُهَا مِنَ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ بِمَعْنَى الْغَلَبَةِ؛ لِأَنَّهَا جَاءَتْ جَوَابًا لِمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ الْأَعَزُّ وَأَنَّ ضِدَّهُ الْأَذَلُّ، فَيُرَدُّ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ:{كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}

قَوْلُهُ: (وَمَنْ حَلَفَ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي: وَسُلْطَانِهِ بَدَلَ وَصِفَاتِهِ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ بَابُ الْحَلِفِ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَكَلَامِهِ، وَتَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ هُنَاكَ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْعَزِيزُ: يَتَضَمَّنُ الْعِزَّةَ، وَالْعِزَّةُ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ صِفَةَ ذَاتٍ بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ وَالْعَظَمَةِ، وَأَنْ تَكُونَ صِفَةَ فِعْلٍ بِمَعْنَى الْقَهْرِ لِمَخْلُوقَاتِهِ وَالْغَلَبَةِ لَهُمْ، وَلِذَلِكَ صَحَّتْ إِضَافَةُ اسْمِهِ إِلَيْهَا، قَالَ: وَيَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَالِفِ بِعِزَّةِ اللَّهِ الَّتِي هِيَ صِفَةُ ذَاتِهِ وَالْحَالِفِ بِعِزَّةِ اللَّهِ الَّتِي صِفَةُ فِعْلِهِ، بِأَنَّهُ يَحْنَثُ فِي الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ، بَلْ هُوَ مَنْهِيٌّ عَنِ الْحَلِفِ بِهَا، كَمَا نُهِيَ عَنِ الْحَلِفِ بِحَقِّ السَّمَاءِ وَحَقِّ زَيْدٍ.

قُلْتُ: وَإِذَا أَطْلَقَ الْحَالِفُ انْصَرَفَ إِلَى صِفَةِ الذَّاتِ وَانْعَقَدَتِ الْيَمِينُ إِلَّا إِنْ قَصَدَ خِلَافَ ذَلِكَ بِدَلِيلِ أَحَادِيثِ الْبَابِ: وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْعَزِيزُ: الَّذِي يَقْهَرُ وَلَا يُقْهَرُ؛ فَإِنَّ الْعِزَّةَ الَّتِي لِلَّهِ هِيَ الدَّائِمَةُ الْبَاقِيَةُ وَهِيَ الْعِزَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ الْمَمْدُوحَةُ، وَقَدْ تُسْتَعَارُ الْعِزَّةُ لِلْحَمِيَّةِ وَالْأَنَفَةِ، فَيُوصَفُ بِهَا الْكَافِرُ وَالْفَاسِقُ وَهِيَ صِفَةٌ مَذْمُومَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ} وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} فَمَعْنَاهُ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يُعَزَّ فَلْيَكْتَسِبِ الْعِزَّةَ مِنَ اللَّهِ؛ فَإِنَّهَا لَهُ، وَلَا تُنَالُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ، وَمِنْ ثَمَّ أَثْبَتَهَا لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} وَقَدْ تَرِدُ الْعِزَّةُ بِمَعْنَى الصُّعُوبَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} وَبِمَعْنَى الْغَلَبَةِ وَمِنْهُ: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} وَبِمَعْنَى الْقِلَّةِ كَقَوْلِهِمْ: شَاةٌ عَزُوزٌ، إِذَا قَلَّ لَبَنُهَا، وَبِمَعْنَى الِامْتِنَاعِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: أَرْضٌ عَزَازٌ،

ص: 369

بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مُخَفَّفًا - أَيْ: صُلْبَةٌ.

وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: الْعِزَّةُ تَكُونُ بِمَعْنَى الْقُوَّةِ فَتَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الْقُدْرَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوًا مِمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ بَطَّالٍ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مُرَادَ الْبُخَارِيِّ بِالتَّرْجَمَةِ إِثْبَاتُ الْعِزَّةِ لِلَّهِ رَدًّا عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّهُ الْعَزِيزُ بِلَا عِزَّةٍ، كَمَا قَالُوا: الْعَلِيمُ بِلَا عِلْمٍ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْبَابِ خَمْسَةَ أَحَادِيثَ.

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: (قَوْلُهُ: وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: تَقُولُ جَهَنَّمُ: قَطْ قَطْ، وَعِزَّتِكَ) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ ق مَعَ شَرْحِهِ، وَيَأْتِي مَزِيدُ كَلَامٍ فِيهِ فِي بَابِ قَوْلِهِ:{إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} وَقَدْ ذَكَرَهُ مَوْصُولًا هُنَا فِي آخِرِ الْبَابِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَقَلَ عَنْ جَهَنَّمَ أَنَّهَا تَحْلِفُ بِعِزَّةِ اللَّهِ، وَأَقَرَّهَا عَلَى ذَلِكَ، فَيَحْصُلُ الْمُرَادُ سَوَاءٌ كَانَتْ هِيَ النَّاطِقَةُ حَقِيقَةً أَمِ النَّاطِقُ غَيْرُهَا كَالْمُوَكَّلِينَ بِهَا.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: (قَوْلُهُ: وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ إِلَخْ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ تَقَدَّمَ مَعَ شَرْحِهِ فِي آخِرِ كِتَابِ الرِّقَاقِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ قَوْلُهُ: لَا وَعِزَّتِكَ وَتَوْجِيهُهُ كَمَا فِي الَّذِي قَبْلَهُ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: (قَوْلُهُ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ إِلَخْ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ مَذْكُورٍ فِي آخِرِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ وَافَقَ أَبَا هُرَيْرَةَ عَلَى رِوَايَةِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ إِلَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي قَوْلِهِ: عَشْرَةُ أَمْثَالِهِ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: (قَوْلُهُ: وَقَالَ أَيُّوبُ عليه السلام: وَعِزَّتِكَ لَا غِنَى بِي عَنْ بَرَكَتِكَ) كَذَا فِي رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ وَلِلْمُسْتَمْلِي لَا غَنَاءً وَهُوَ بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ مَمْدُودًا، وَكَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ السَّرَخْسِيِّ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ وَهُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ لِأَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ، وَأَوَّلُهُ: بَيْنَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ مَعَ شَرْحِهِ، وَتَقَدَّمَ تَوْجِيهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحَاكِمِ: لَمَّا عَافَى اللَّهُ أَيُّوبَ، أَمْطَرَ عَلَيْهِ جَرَادًا مِنْ ذَهَبٍ الْحَدِيثَ.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَوْلُهُ: (أَبُو مَعْمَرٍ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو الْمِنْقَرِيُّ، بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ النُّونِ وَفَتْحِ الْقَافِ، وَعَبْدُ الْوَارِثِ هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ، وَحُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ هُوَ ابْنُ ذَكْوَانَ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَالْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ بَيْنَهُمَا وَيَجُوزُ ضَمُّ مِيمِهِ.

قَوْلُهُ: (كَانَ يَقُولُ: أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْعَائِدُ لِلْمَوْصُولِ مَحْذُوفٌ؛ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ نَفْسُ الْمَرْجُوعِ إِلَيْهِ فَيَحْصُلُ الِارْتِبَاطُ. وَمِثْلُهُ: أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهْ؛ لِأَنَّ نَسَقَ الْكَلَامِ سَمَّتْهُ أُمُّهُ.

قَوْلُهُ: (الَّذِي لَا يَمُوتُ) بِلَفْظِ الْغَائِبِ لِلْأَكْثَرِ، وَفِي بَعْضِهَا بِلَفْظِ الْخِطَابِ.

قَوْلُهُ: (وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَمُوتُونَ) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَمُوتُ وَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مَفْهُومُ لَقَبٍ وَلَا اعْتِبَارَ لَهُ، وَعَلَى تَقْدِيرِهِ فَيُعَارِضُهُ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، وَهُوَ عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} مَعَ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ دُخُولِهِمْ فِي مُسَمَّى الْجِنِّ؛ لِجَامِعِ مَا بَيْنَهُمْ مِنَ الِاسْتِتَارِ عَنْ عُيُونِ الْإِنْسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي الدَّعَوَاتِ وَفِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ فِي الْبَابِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ مِنْهُ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَنَسٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ عَنْ قَتَادَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَفْظُ شُعْبَةَ فِي تَفْسِيرِ ق، وَسَاقَهُ هُنَا عَلَى لَفْظِ: خَلِيفَةَ وَهُوَ ابْنُ خَيَّاطٍ الْبَصْرِيُّ، وَلَقَبُهُ شَبَابٌ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ وَآخِرُهُ مُوَحَّدَةٌ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ عَنْهُ: لَا يَزَالُ يُلْقَى فِي النَّارِ، وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدٍ وَهُوَ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، وَسُلَيْمَانُ هُوَ التَّيْمِيُّ وَالِدُ مُعْتَمِرٍ كِلَاهُمَا عَنْ قَتَادَةَ: لَا يَزَالُ يُلْقَى فِيهَا وَالضَّمِيرُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ لِغَيْرِ مَذْكُورٍ قَبْلَهُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ الْعَبَّاسِ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَشْعَثِ، عَنِ الْمُعْتَمِرِ بِهَذَيْنِ السَّنَدَيْنِ، وَفِي أَوَّلِهِ لَا تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيهَا.

قَوْلُهُ: (حَتَّى يَضَعَ فِيهَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَدَمَهُ) فِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَشْعَثِ: حَتَّى يَضَعَ اللَّهُ فِيهَا قَدَمَهُ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: حَتَّى يَضَعَ فِيهَا رَبُّ الْعِزَّةِ وَلَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ بَيَانُ مَنْ يَضَعُ، وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ ق مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَيَضَعُ

ص: 370

الرَّبُّ قَدَمَهُ عَلَيْهَا وَذُكِرَ فِيهِ شَرْحُهُ، وَذُكِرَ مَنْ رَوَاهُ بِلَفْظِ الرِّجْلِ وَشَرْحُهُ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (وَتَقُولُ: قَدْ قَدْ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الدَّالِ وَبِكَسْرِهَا أَيْضًا بِغَيْرِ إِشْبَاعٍ، وَذَكَرَ ابْنُ التِّينِ أَنَّهَا رِوَايَةُ أَبِي ذَرٍّ، وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ ق ذِكْرُ مَنْ رَوَاهُ بِلَفْظِ: قِدْنِي وَمَنْ رَوَاهُ بِلَفْظِ: قَطْ قَطْ، وَبَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِيهَا أَيْضًا وَشَرْحُ مَعَانِيهَا مَعَ بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ.

قَوْلُهُ: (بِعِزَّتِكَ وَكَرَمِكَ) كَذَا ثَبَتَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِدُونِ قَوْلِهِ: وَكَرَمِكَ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ مَشْرُوعِيَّةُ الْحَلِفِ بِكَرَمِ اللَّهِ، كَمَا شُرِعَ الْحَلِفَ بِعِزَّةِ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (وَلَا تَزَالُ الْجَنَّةُ تَفْضُلُ) كَذَا لَهُمْ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي بِمُوَحَّدَةٍ مَكْسُورَةٍ وَفَاءٍ مَفْتُوحَةٍ وَضَادٍ مُعْجَمَةٍ سَاكِنَةٍ، وَكَأَنَّ الْبَاءَ لِلْمُصَاحَبَةِ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: رَوَى الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ ثَلَاثِ طُرُقٍ؛ الْأُولَى: عَنْ شَيْخِهِ يَعْنِي ابْنَ أَبِي الْأَسْوَدَ، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ بِالتَّحْدِيثِ، وَالثَّانِيَةُ: بِالْقَوْلِ يَعْنِي قَوْلَهُ: وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَ فِيهِ بِالْقَوْلِ الْمُصَاحِبِ لِحَرْفِ الْجَرِّ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَوْلِ الْمُجَرَّدِ، قَالَ. وَالثَّالِثُ: بِالتَّعْلِيقِ يعني قَوْلُهُ: وَعَنْ مُعْتَمِرٍ؛ لِأَنَّ هَذَا الثَّالِثَ لَيْسَ تَعْلِيقًا بَلْ هُوَ مَوْصُولٌ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ فَالتَّقْدِيرُ، وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ، عَنْ مُعْتَمِرٍ، وَبِهَذَا جَزَمَ أَصْحَابُ الْأَطْرَافِ، قَالَ الْمِزِّيُّ: حَدِيثُ لَا تَزَالُ يُلْقَى الْحَدِيثَ ح فِي التَّوْحِيدِ، قَالَ لِي خَلِيفَةُ، عَنْ مُعْتَمِرٍ عَنْ أَبِيهِ، وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ بَعْدَ تَخْرِيجِهِ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ خَلِيفَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ وَعَنِ الْمُعْتَمِرِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: وَحَدِيثُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ غَيْرُ مَرْفُوعٍ. قُلْتُ: وَكَذَا لَمْ يُصَرِّحِ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِرَفْعِهِ؛ لِمَا أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَشْعَثِ، عَنِ الْمُعْتَمِرِ.

‌8 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ}

7385 -

حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو مِنْ اللَّيْلِ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، قَوْلُكَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وما أَخَّرْتُ، وَأَسْرَرْتُ وَأَعْلَنْتُ، أَنْتَ إِلَهِي لَا إِلَهَ لِي غَيْرُكَ.

حَدَّثَنَا ثَابِتُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بِهَذَا وَقَالَ: أَنْتَ الْحَقُّ، وَقَوْلُكَ الْحَقُّ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} كَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى مَا وَرَدَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: بِالْحَقِّ، أَيْ بِكَلِمَةِ الْحَقِّ وَهُوَ قَوْلُهُ: كُنْ وَوَقَعَ فِي أَوَّلِ حَدِيثِ الْبَابِ: قَوْلُكَ الْحَقُّ، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَوْلِ الْكَلِمَةُ، وَهِيَ كُنْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ أَنَّ الْبَاءَ هُنَا بِمَعْنَى اللَّامِ أَيْ: لِأَجْلِ الْحَقِّ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْمُرَادُ بِالْحَقِّ هُنَا ضِدُّ الْهَزْلِ، وَالْمُرَادُ بِالْحَقِّ فِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى الْمَوْجُودُ الثَّابِتُ الَّذِي لَا يَزُولُ وَلَا يَتَغَيَّرُ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْحَقُّ فِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى الْمُوجِدُ بِحَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ، قَالَ: وَيُقَالُ

ص: 371

لِكُلِّ مَوْجُودٍ مِنْ فِعْلِهِ بِمُقْتَضَى الْحِكْمَةِ: حَقٌّ، وَيُطْلَقُ عَلَى الِاعْتِقَادِ فِي الشَّيْءِ الْمُطَابِقِ لِمَا دَلَّ ذَلِكَ الشَّيْءُ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَعَلَى الْفِعْلِ الْوَاقِعِ بِحَسَبِ مَا يَجِبُ قَدْرًا وَزَمَانًا وَكَذَا الْقَوْلُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْوَاجِبِ وَاللَّازِمِ وَالثَّابِتِ وَالْجَائِزِ، وَنَقَلَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنِ الْحَلِيمِيِّ قَالَ: الْحَقُّ مَا لَا يَسِيغُ إِنْكَارُهُ، وَيَلْزَمُ إِثْبَاتُهُ، وَالِاعْتِرَافُ بِهِ، وَوُجُودُ الْبَارِي أَوْلَى مَا يَجِبُ الِاعْتِرَافُ بِهِ، وَلَا يَسِيغُ جُحُودُهُ؛ إِذْ لَا مُثْبِتَ تَظَاهَرَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ الْبَاهِرَةُ مَا تَظَاهَرَتْ عَلَى وُجُودِهِ سبحانه وتعالى، وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الدُّعَاءِ عِنْدَ قِيَامِ اللَّيْلِ، وَفِيهِ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ وَبَيَانُ اخْتِلَافِ أَلْفَاظِهِ فِي كِتَابِ التَّهَجُّدِ قُبَيْلَ كِتَابِ الْجَنَائِزِ وَذُكِرَ فِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ أَيْضًا، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: قَوْلُهُ: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَعْنِي خَالِقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَقَوْلُهُ: بِالْحَقِّ، أَيْ: أَنْشَأَهُمَا بِحَقٍّ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا، أَيْ: عَبَثًا، وَقَوْلُهُ فِي السَّنَدِ: سُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَابْنُ جُرَيْجٍ هُوَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ

عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَكِّيُّ، وَقَوْلُهُ: عَنْ سُلَيْمَانَ هُوَ ابْنُ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَحْوَلُ الْمَكِّيُّ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ وَسَيَأْتِي، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: حَدَّثَنَا ثَابِتُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بِهَذَا يَعْنِي بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ وَالْمَتْنِ، وَقَوْلُهُ: وَقَالَ: أَنْتَ الْحَقُّ، وَقَوْلُكَ الْحَقُّ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ رِوَايَةَ قَبِيصَةَ سَقَطَ مِنْهَا قَوْلُهُ: أَنْتَ الْحَقُّ؛ فَإِنَّ أَوَّلَهَا: قَوْلُكَ الْحَقُّ، وَثَبَتَ قَوْلُهُ فِي أَوَّلِهِ: أَنْتَ الْحَقُّ فِي رِوَايَةِ ثَابِتِ بْنِ مُحَمَّدٍ، كَمَا سَيَأْتِي سِيَاقُهُ بِتَمَامِهِ فِي بَابِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} وَكَذَا فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا، وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ آدَمَ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌9 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}

قَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ تَمِيمٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا}

7386 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَكُنَّا إِذَا عَلَوْنَا كَبَّرْنَا، فَقَالَ: أرْبعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا قَرِيبًا. ثُمَّ أَتَى عَلَيَّ وَأَنَا أَقُولُ فِي نَفْسِي: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، فَقَالَ لِي: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ، قُلْ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ؛ فَإِنَّهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ، أَوْ قَالَ: أَلَا أَدُلُّكَ. بِهِ.

7387، 7388 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو عَنْ يَزِيدَ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي قَالَ قُلْ اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ فَاغْفِرْ لِي مِنْ عِنْدِكَ مَغْفِرَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ

7389 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ

ص: 372

أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها حَدَّثَتْهُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام نَادَانِي قَالَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ

قَوْلُهُ: (بَابُ: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} . قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: غَرَضُ الْبُخَارِيِّ فِي هَذَا الْبَابِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ مَعْنَى: سَمِيعٌ بَصِيرٌ عَلِيمٌ، قَالَ: وَيَلْزَمُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ أَنْ يُسَوِّيَهُ بِالْأَعْمَى الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّ السَّمَاءَ خَضْرَاءَ وَلَا يَرَاهَا، وَالْأَصَمُّ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّ فِي النَّاسِ أَصْوَاتًا وَلَا يَسْمَعُهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ سَمِعَ وَأَبْصَرَ أَدْخَلُ فِي صِفَةِ الْكَمَالِ مِمَّنِ انْفَرَدَ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخِرِ، فَصَحَّ أَنَّ كَوْنَهُ سَمِيعًا بَصِيرًا يُفِيدُ قَدْرًا زَائِدًا عَلَى كَوْنِهِ عَلِيمًا، وَكَوْنَهُ سَمِيعًا بَصِيرًا يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ يَسْمَعُ بِسَمْعٍ وَيُبْصِرُ بِبَصَرٍ، كَمَا تَضَمَّنَ كَوْنُهُ عَلِيمًا أَنَّهُ يَعْلَمُ بِعِلْمٍ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ إِثْبَاتِ كَوْنِهِ سَمِيعًا بَصِيرًا، وَبَيْنَ كَوْنِهِ ذَا سَمْعٍ وَبَصَرٍ، قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ قَاطِبَةً، انْتَهَى.

وَاحْتَجَّ الْمُعْتَزِلِيُّ بِأَنَّ السَّمْعَ يَنْشَأُ عَنْ وُصُولِ الْهَوَاءِ الْمَسْمُوعِ إِلَى الْعَصَبِ الْمَفْرُوشِ فِي أَصْلِ الصِّمَاخِ، وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْجَوَارِحِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهَا عَادَةٌ أَجْرَاهَا اللَّهُ تَعَالَى فِيمَنْ يَكُونُ حَيًّا، فَيَخْلُقُهُ اللَّهُ عِنْدَ وُصُولِ الْهَوَاءِ إِلَى الْمَحَلِّ الْمَذْكُورِ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى يَسْمَعُ الْمَسْمُوعَاتِ بِدُونِ الْوَسَائِطِ، وَكَذَا يَرَى الْمَرْئِيَّاتِ بِدُونِ الْمُقَابَلَةِ وَخُرُوجِ الشُّعَاعِ، فَذَاتُ الْبَارِي مَعَ كَوْنِهِ حَيًّا مَوْجُودًا لَا تُشْبِهُ الذَّوَاتِ، فَكَذَلِكَ صِفَاتُ ذَاتِهِ لَا تُشْبِهُ الصِّفَاتِ. وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِهَذَا فِي بَابِ: وَكَانَ {عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ: السَّمِيعُ مَنْ لَهُ سَمْعٌ يُدْرِكُ بِهِ الْمَسْمُوعَاتِ، وَالْبَصِيرُ: مَنْ لَهُ بَصَرٌ يُدْرِكُ بِهِ الْمَرْئِيَّاتِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا فِي حَقِّ الْبَارِي صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ، وَقَدْ أَفَادَتِ الْآيَةُ، وَأَحَادِيثُ الْبَابِ الرَّدَّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ، بِمَعْنَى عَلِيمٍ، ثُمَّ سَاقَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي يُونُسَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَؤُهَا، يَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} وَيَضَعُ إِصْبَعَيْهِ.

قَالَ أَبُو يُونُسَ: وَضَعَ أَبُو هُرَيْرَةَ إِبْهَامَهُ عَلَى أُذُنِهِ وَالَّتِي تَلِيهَا عَلَى عَيْنِهِ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَأَرَادَ هَذِهِ الْإِشَارَةَ تَحْقِيقَ إِثْبَاتِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ لِلَّهِ بِبَيَانِ مَحَلِّهِمَا مِنَ الْإِنْسَانِ، يُرِيدُ أَنَّ لَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا لَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْعِلْمُ، فَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَأَشَارَ إِلَى الْقَلْبِ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الْعِلْمِ، وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ الْجَارِحَةُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ مُشَابَهَةِ الْمَخْلُوقِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ شَاهِدًا مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: إِنَّ رَبَّنَا سَمِيعٌ بَصِيرٌ، وَأَشَارَ إِلَى عَيْنَيْهِ. وَسَنَدُهُ حَسَنٌ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ:{وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} حَدِيثُ: إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى عَيْنِهِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُ ذَاكَ هُنَاكَ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي جُرَيٍّ الْهُجَيْمِيِّ رَفَعَهُ: أَنَّ رَجُلًا مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ لَبِسَ بُرْدَتَيْنِ يَتَبَخْتَرُ فِيهِمَا فَنَظَرَ اللَّهُ إِلَيْهِ فَمَقَتَهُ، الْحَدِيثَ. وَقَدْ مَضَى فِي اللِّبَاسِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ: لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ، وَفِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ:{وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} وَوَرَدَ فِي السَّمْعِ قَوْلُ الْمُصَلِّي: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَلْ مَقْطُوعٌ بِمَشْرُوعِيَّتِهِ فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ:

أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: (قَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ تَمِيمٍ) هُوَ ابْنُ سَلَمَةَ الْكُوفِيُّ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ، وَثَّقَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَوَصَلَ حَدِيثَهُ الْمَذْكُورَ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُورِ هُنَا، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مَعْنٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِلَفْظِ: تَبَارَكَ، وَسِيَاقُهُ أَتَمُّ، وَلَيْسَ لِتَمِيمٍ الْمَذْكُورِ عَنْ عُرْوَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ سِوَى هَذَا الْحَدِيثُ

ص: 373

وَآخَرُ عِنْدَ مُسْلِمٍ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: قَوْلُ الْبُخَارِيِّ: قَالَ الْأَعْمَشُ: مُرْسَلٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْقَهُ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ: وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ، انْتَهَى. وَتَسْمِيَةُ هَذَا مُرْسَلًا مُخَالِفٌ لِلِاصْطِلَاحِ، وَالتَّعْلِيلُ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ فَإِنَّ فِي الصَّحِيحِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ مُعَلَّقَةٍ لَمْ تُذْكَرْ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَا.

قَوْلُهُ: (وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مَعْنٍ كُلَّ شَيْءٍ بَدَلَ الْأَصْوَاتَ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: مَعْنَى قَوْلِهَا: وَسِعَ أَدْرَكَ؛ لِأَنَّ الَّذِي وُصِفَ بِالِاتِّسَاعِ يَصِحُّ وَصْفُهُ بِالضِّيقِ، وَذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ، فَيَجِبُ صَرْفُ قَوْلِهَا عَنْ ظَاهِرِهِ، وَالْحَدِيثُ مَا يَقْتَضِي التَّصْرِيحَ بِأَنَّ لَهُ سَمْعًا، وَكَذَا جَاءَ ذِكْرُ الْبَصَرِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا: حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ.

قَوْلُهُ: (فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} هَكَذَا أَخْرَجَهُ، وَتَمَامُهُ عِنْدَ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ: مِمَّنْ ذَكَرْتُ بَعْدَ قَوْلِهِ: الْأَصْوَاتَ، لَقَدْ جَاءَتِ الْمُجَادِلَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تُكَلِّمُهُ فِي جَانِبِ الْبَيْتِ مَا أَسْمَعُ مَا تَقُولُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ، وَمُرَادُهَا بِهَذَا النَّفْيِ مَجْمُوعُ الْقَوْلِ؛ لِأَنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنُ مَعْنٍ: إِنِّي لَأَسْمَعُ كَلَامَ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ، وَيَخْفَى عَلَيَّ بَعْضُهُ وَهِيَ تَشْتَكِي زَوْجَهَا وَهِيَ تَقُولُ: أَكَلَ شَبَابِي، وَنَثَرْتُ لَهُ بَطْنِي حَتَّى إِذَا كَبِرَتْ سِنِّي وَانْقَطَعَ وَلَدِي ظَاهَرَ مِنِّي. الْحَدِيثَ. فَمَا بَرِحَتْ حَتَّى نَزَلَ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} وَهَذَا أَصَحُّ مَا وَرَدَ فِي قِصَّةِ الْمُجَادِلَةِ وَتَسْمِيَتِهَا، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَّامٍ عَنْ خُوَيْلَةَ بِنْتِ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، قَالَتْ: ظَاهَرَ مِنِّي زَوْجِي أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ، الْحَدِيثَ. وَهَذَا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ اسْمَهَا كَانَ رُبَّمَا صُغِّرَ وَإِنْ كَانَ مَحْظُوظًا فَتَكُونُ نُسِبَتْ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لِجَدِّهَا، وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الرِّوَايَاتُ بِالْأَوَّلِ فَفِي مُرْسَلِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ كَانَتْ خَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ تَحْتَ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ فَقَالَ لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي.

وَعِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ أَوْسَ بْنَ الصَّامِتِ تَظَاهَرَ مِنَ امْرَأَتِهِ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ، وَعِنْدَهُ أَيْضًا مِنْ مُرْسَلِ أَبِي الْعَالِيَةَ: كَانَتْ خَوْلَةُ بِنْتُ دُلَيْحٍ تَحْتَ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ سَيِّئِ الْخُلُقِ فَنَازَعَتْهُ فِي شَيْءٍ، فَقَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. وَدُلَيْحٌ بِمُهْمَلَتَيْنِ مُصَغَّرٌ لَعَلَّهُ مِنْ أَجْدَادِهَا، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ جَمِيلَةَ كَانَتْ تَحْتَ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ، وَوَصَلَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ، وَالرِّوَايَةُ الْمُرْسَلَةُ أَقْوَى، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ، وَهُوَ الَّذِي ظَاهَرَ مِنَ امْرَأَتِهِ، وَرِوَايَةُ إِسْمَاعِيلَ عَنِ الْحِجَازِيِّينَ ضَعِيفَةٌ وَهَذَا مِنْهَا، فَإِنْ كَانَ حَفِظَهُ فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: عَنْ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ، أَيْ: عَنْ قِصَّةِ أَوْسٍ لَا أَنَّ عُرْوَةَ حَمَلَهُ عَنْ أَوْسٍ فَيَكُونُ مُرْسَلًا كَالرِّوَايَةِ الْمَحْفُوظَةِ، وَإِنْ كَانَ الرَّاوِي حَفِظَهَا أَنَّهَا جَمِيلَةُ، فَلَعَلَّهُ كَانَ لَقَبَهَا وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ النَّقَّاشُ فِي تَفْسِيرِهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ إِلَى الشَّعْبِيِّ قَالَ: الْمَرْأَةُ الَّتِي جَادَلَتْ فِي زَوْجِهَا هِيَ خَوْلَةُ بِنْتُ الصَّامِتِ، وَأُمُّهَا مُعَاذَةُ أَمَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ الَّتِي نَزَلَ فِيهَا: وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ. وَقَوْلُهُ: بِنْتُ الصَّامِتِ خَطَأٌ، فَإِنَّ الصَّامِتَ وَالِدُ زَوْجِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فَلَعَلَّهُ سَقَطَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَتَسْمِيَةُ أُمِّهَا غَرِيبٌ، وَقَدْ مَضَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالظِّهَارِ فِي النِّكَاحِ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي عُثْمَانَ) هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلٍّ النَّهْدِيُّ وَالسَّنَدُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ، وَقَدْ مَضَى شَرْحُ الْمَتْنِ فِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ، وَقَوْلُهُ: أَرْبِعُوا بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، أَيِ: ارْفُقُوا بِضَمِّ الْفَاءِ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَتِهِ بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، وَأَنَّهُ فِي كُتُبِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَبَعْضِ كُتُبِ الْحَدِيثِ بِفَتْحِهَا، وَقَوْلُهُ: فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُون أَصَمَّ إِلَخْ.

قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَوْ جَاءَتِ الرِّوَايَةُ: لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا أَعْمَى لَكَانَ أَظْهَرَ فِي الْمُنَاسَبَةِ لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْغَائِبُ كَالْأَعْمَى فِي عَدَمِ الرُّؤْيَةِ نَفَى لَازِمَهُ لِيَكُونَ أَبْلَغَ وَأَشْمَلَ، وَزَادَ قَرِيبًا؛ لِأَنَّ الْبَعِيدَ وَإِنْ كَانَ

ص: 374

مِمَّنْ يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ لَكِنَّهُ لِبُعْدِهِ قَدْ لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ قُرْبَ الْمَسَافَةِ؛ لِأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْحُلُولِ كَمَا لَا يَخْفَى وَمُنَاسَبَةُ الْغَائِبِ ظَاهِرَةٌ مِنْ أَجْلِ النَّهْيِ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ نَفْيُ الْآفَةِ الْمَانِعَةِ مِنَ السَّمْعِ وَالْآفَةِ الْمَانِعَةِ مِنَ النَّظَرِ، وَإِثْبَاتُ كَوْنِهِ سَمِيعًا بَصِيرًا قَرِيبًا، يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا تَصِحَّ أَضْدَادُ هَذِهِ الصِّفَاتِ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: أَوْ قَالَ: أَلَا أَدُلُّكَ، شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، هَلْ قَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ قُلْ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، فَإِنَّهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ أَوْ قَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ أَلَا أَدُلُّكَ، وَقَوْلُهُ بَعْدَ قَوْلِهِ أَلَا أَدُلُّكَ بِهِ، أَيْ: بِبَقِيَّةِ الْخَبَرِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي الدَّعَوَاتِ فِي بَابِ الدُّعَاءِ: إِذَا عَلَا عَقَبَةً فَسَاقَ الْحَدِيثَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِعَيْنِهِ، وَقَالَ: بَعْدَ قَوْلِهِ: أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ هِيَ كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - يَعْنِي الصِّدِّيقَ - قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي دُعَاءً، الْحَدِيثَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ صِفَةِ الصَّلَاةِ، وَفِي الدَّعَوَاتِ مَعَ شَرْحِهِ، وَبَيَانُ مَنْ جَعَلَهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَجَعَلَهُ مِنْ مُسْنَدِ أَبِي بَكْرٍ، وَأَشَارَ ابْنُ بَطَّالٍ إِلَى أَنَّ مُنَاسَبَتَهُ لِلتَّرْجَمَةِ أَنَّ دُعَاءَ أَبِي بَكْرٍ لَمَّا عَلَّمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لِدُعَائِهِ وَمُجَازِيهِ عَلَيْهِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ لَيْسَ مُطَابِقًا لِلتَّرْجَمَةِ إِذْ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ صِفَتَيِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ، لَكِنَّهُ ذَكَرَ لَازِمَهُمَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ فَائِدَةَ الدُّعَاءِ إِجَابَةُ الدَّاعِي لِمَطْلُوبِهِ فَلَوْلَا أَنَّ سَمْعَهُ سُبْحَانَهُ يَتَعَلَّقُ بِالسِّرِّ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْجَهْرِ لَمَا حَصَلَتْ فَائِدَةُ الدُّعَاءِ أَوْ كَانَ يُقَيِّدُهُ بِمَنْ يَجْهَرُ بِدُعَائِهِ، انْتَهَى. مِنْ كَلَامِ ابْنِ الْمُنِيرِ مُلَخَّصًا، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَمَّا كَانَ بَعْضُ الذُّنُوبِ مِمَّا يُسْمَعُ وَبَعْضُهَا مِمَّا يُبْصَرُ لَمْ تَقَعْ مَغْفِرَتُهُ إِلَّا بَعْدَ الْإِسْمَاعِ وَالْإِبْصَارِ.

تَنْبِيهٌ: الْمَشْهُورُ فِي الرِّوَايَاتِ ظُلْمًا كَثِيرًا بِالْمُثَلَّثَةِ وَوَقَعَ هُنَا لِلْقَابِسِيِّ بِالْمُوَحَّدَةِ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ حَدِيثُ عَائِشَةَ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام أَتَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ) هَكَذَا ذَكَرَ هَذَا الْقَدْرَ مِنْهُ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ، وَسَاقَهُ بِتَمَامِهِ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ هُنَاكَ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ، وَقَوْلُهُ: مَا رَدُّوا عَلَيْكَ، أَيْ: أَجَابُوكَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ رَدَّهُمْ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ بِعَدَمِ قَبُولِهِمْ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْمَقْصُودُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَحَادِيثِ إِثْبَاتُ صِفَتَيِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ، وَهُمَا صِفَتَانِ قَدِيمَتَانِ مِنَ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ، وَعِنْدَ حُدُوثِ الْمَسْمُوعِ وَالْمُبْصَرِ يَقَعُ التَّعَلُّقُ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَالُوا: إِنَّهُ سَمِيعٌ يَسْمَعُ كُلَّ مَسْمُوعٍ، وَبَصِيرٌ يُبْصِرُ كُلَّ مُبْصَرٍ، فَادَّعَوْا أَنَّهُمَا صِفَتَانِ حَادِثَتَانِ، وَظَوَاهِرُ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ تَرُدُّ عَلَيْهِمْ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

‌10 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ}

7390 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا مَعْنُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الْمَوَالِي، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُنْكَدِرِ يُحَدِّثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَسَنِ، يَقُولُ: أَخْبَرَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السَّلَمِيُّ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا كَمَا يُعَلِّمُهُمْ السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ، يَقُولُ: إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ. اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ هَذَا الْأَمْرَ - ثُمَّ تُسَمِّيهِ بِعَيْنِهِ - خَيْرًا لِي فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ - قَالَ: أَوْ فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي - فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لِي

ص: 375

فِيهِ. اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي - أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ - فَاصْرِفْنِي عَنْهُ وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ} . قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْقُدْرَةُ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي أنا الرَّزَّاقُ، أَنَّ الْقُوَّةَ وَالْقُدْرَةَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَتَقَدَّمَ نَقْلُ الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ وَالْبَحْثُ فِيهَا.

قَوْلُهُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُنْكَدِرِ يُحَدِّثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَسَنِ)، أَيِ: ابْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ كَبِيرَ بَنِي هَاشِمٍ فِي وَقْتِهِ، قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: كَانَ مِنَ الْعُبَّادِ وَلَهُ عَارِضَةٌ وَهَيْئَةٌ، وَقَالَ مُصْعَبٌ الزُّبَيْدِيُّ: مَا كَانَ عُلَمَاءُ الْمَدِينَةِ يُكْرِمُونَ أَحَدًا مَا يُكْرِمُونَهُ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَهُوَ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ، رَوَى عَنْ عَمِّ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَلَهُ رِوَايَةٌ عَنْ أُمِّهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ وَعَنْ غَيْرِهَا، وَمَاتَ فِي حَبْسِ الْمَنْصُورِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ وَلَهُ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً، وَلَيْسَ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَدْ أَفْصَحَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الْمَوَالِي بِالْوَاقِعِ فِي حَالِ تَحَمُّلِهِ، وَلَمْ يَتَصَرَّفْ فِيهِ بِأَنْ يَقُولَ: حَدَّثَنِي وَلَا أَخْبَرَنِي، لَكِنْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، وَعَلَيْهِ فِي ذَلِكَ اعْتِرَاضٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ لَمْ يَقْصِدْهُ بِالتَّحْدِيثِ، وَقَدْ سَلَكَ فِي ذَلِكَ النَّسَائِيُّ، وَالْبَرْقَانِيُّ مَسْلَكَ التَّحَرِّي، فَكَانَ النَّسَائِيُّ فِيمَا سَمِعَهُ فِي الْحَالَةِ الَّتِي لَمْ يَقْصِدْهُ الْمُحَدِّثُ فِيهَا بِالتَّحْدِيثِ، لَا يَقُولُ: حَدَّثَنَا، وَلَا أَخْبَرَنَا، وَلَا سَمِعْتُ، بَلْ يَقُولُ: فُلَانٌ قَرَأَهُ عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ، وَكَانَ الْبَرْقَانِيُّ يَقُولُ: سَمِعْتُ فُلَانًا يَقُولُ، وَجَوَّزَ الْأَكْثَرُ إِطْلَاقَ التَّحْدِيثِ وَالْإِخْبَارِ لِكَوْنِ الْمَقْصُودِ بِالتَّحْدِيثِ مِنْ جِنْسِ مَنْ سَمِعَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا فَيَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ لَكِنْ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، فَيَقُولُ: حَدَّثَنَا،

أَيْ: حَدَّثَ قَوْمًا أَنَا فِيهِمْ، فَسَمِعْتُ ذَلِكَ مِنْهُ حِينَ حَدَّثَ، وَلَوْ لَمْ يَقْصِدْنِي بِالتَّحْدِيثِ، وَعَلَى هَذَا فَيَمْتَنِعُ بِالْإِفْرَادِ بِأَنْ يَقُولَ مَثَلًا: حَدَّثَنِي، بَلْ وَيَمْتَنِعُ فِي الِاصْطِلَاحِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِمَنْ سَمِعَ وَحْدَهُ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ التَّعْبِيرُ بِالسَّمَاعِ أَصْرَحَ الصِّيَغِ لِكَوْنِهِ أَدَلَّ عَلَى الْوَاقِعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ الْبَابِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَفِي الدَّعَوَاتِ مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الْمَوَالِي ذَكَرَهُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْعَنْعَنَةِ، قَالَ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ وَلَمْ يَقُلْ: سَمِعْتُ وَلَا حَدَّثَنَا، وَكَذَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ وَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهَا صِيغَةٌ مُحْتَمِلَةٌ فَأَفَادَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ تَعَيُّنَ أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ، وَهُوَ التَّصْرِيحُ بِسَمَاعِهِ، وَلِهَذَا نَزَلَ فِيهِ الْبُخَارِيُّ دَرَجَةً؛ لِأَنَّهُ عِنْدَهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ بِوَاسِطَةِ وَاحِدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَهُنَا وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ اثْنَانِ، لَكِنْ سَهَّلَ عَلَيْهِ النُّزُولَ تَحْصِيلُ فَائِدَةِ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْوَاقِعِ، وَفِيهَا تَصْرِيحُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِالسَّمَاعِ فِي مَوْضِعِ الْعَنْعَنَةِ، فَأَمَّا مَنْ يُخْشَى مِنَ الِانْقِطَاعِ الَّذِي تَحْتَمِلُهُ الْعَنْعَنَةُ، وَقَدْ وَقَعَ لِي مِنْ رِوَايَةِ خَالِدِ بْنِ مَخْلَدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنِ الْمُنْكَدِرِ يُحَدِّثُ، عَنْ جَابِرٍ، أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَخَالِدٌ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ سَمِعَ مِنْهُ هَذَا الْحَدِيثَ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِمَا صَرَّحَتْ بِهِ الرِّوَايَةُ النَّازِلَةُ مِنْ تَسْمِيَةِ الْمَقْصُودِ بِالتَّحْدِيثِ، وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ، وَقَوْلُهُ فِي الْخَبَرِ:

وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكِ الْبَاءُ لِلِاسْتِعَانَةِ أَوْ لِلْقَسَمِ أَوْ لِلِاسْتِعْطَافِ، وَمَعْنَاهُ أَطْلُبُ مِنْكَ أَنْ تَجْعَلَ لِي قُدْرَةً عَلَى الْمَطْلُوبِ، وَقَوْلُهُ: فَاقْدُرْهُ بِضَمِّ الدَّالِّ، وَيَجُوزُ كَسْرُهَا، أَيْ: نَجِّزْهُ لِي، وَرَضِّنِي بِتَشْدِيدِ الْمُعْجَمَةِ، أَيِ: اجْعَلْنِي بِذَلِكَ رَاضِيًا فَلَا أَنْدَمُ عَلَى طَلَبِهِ وَلَا عَلَى وُقُوعِهِ؛ لِأَنِّي لَا أَعْلَمُ عَاقِبَتَهُ وَإِنْ كُنْتُ حَالَ طَلَبِهِ رَاضِيًا بِهِ، وَقَوْلُهُ: وَيُسَمِّيهِ بِعَيْنِهِ فِي رِوَايَةِ خَالِدِ بْنِ مَخْلَدٍ، فَيُسَمِّيهِ مَا كَانَ مِنْ شَيْءٍ، يَعْنِي أَيَّ شَيْءٍ كَانَ، وَقَوْلُهُ: ثُمَّ لِيَقُلْ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الدُّعَاءَ الْمَذْكُورَ يَكُونُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ التَّرْتِيبُ فِيهِ

ص: 376

بِالنِّسْبَةِ لِأَذْكَارِ الصَّلَاةِ وَدُعَائِهَا، فَيَقُولُهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ وَقَبْلَ السَّلَامِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ سَائِرُ فَوَائِدِهِ فِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ.

‌11 - بَاب مُقَلِّبِ الْقُلُوبِ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ}

7391 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَكْثَرُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَحْلِفُ: لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مُقَلِّبِ الْقُلُوبِ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى، {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ}. قَالَ الرَّاغِبُ: تَقْلِيبُ الشَّيْءِ تَغْيِيرُهُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَالتَّقْلِيبُ التَّصَرُّفُ وَتَقْلِيبُ اللَّهِ الْقُلُوبَ وَالْبَصَائِرَ صَرْفُهَا مِنْ رَأْيٍ إِلَى رَأْيٍ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ مَا مَعْنَاهُ: كَانَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ مُقَلِّبَ أَنَّهُ يَجْعَلُ الْقَلْبَ قَلْبًا، لَكِنَّ مَظَانَّ اسْتِعْمَالِهِ تَنْشَأُ عَنْهُ وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ إِعْرَاضَ الْقَلْبِ كَالْإِرَادَةِ وَغَيْرِهَا بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ مِنَ الصِّفَاتِ الْفِعْلِيَّةِ وَمَرْجِعُهَا إِلَى الْقُدْرَةِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ) هُوَ الْوَاسِطِيُّ نَزِيلُ بَغْدَادَ يُكْنَى أَبَا عُثْمَانَ، وَيُلَقَّبُ سَعْدَوَيْهِ وَكَانَ أَحَدَ الْحُفَّاظِ وَابْنُ الْمُبَارَكِ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ الْإِمَامُ الْمَشْهُورُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْبَابِ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ، وَكَذَا الْآيَةُ وَيُسْتَفَادُ مِنْهُمَا أَنَّ أَعْرَاضَ الْقُلُوبِ مِنْ إِرَادَةٍ وَغَيْرِهَا تَقَعُ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ أَجَازَ تَسْمِيَةَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا ثَبَتَ فِي الْخَبَرِ، وَلَوْ لَمْ يَتَوَاتَرْ، وَجَوَازُ اشْتِقَاقِ الِاسْمِ لَهُ تَعَالَى مِنَ الْفِعْلِ الثَّابِتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ ذِكْرِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى مِنْ كِتَابِ الدَّعَوَاتِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ:{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ} نُصَرِّفُهَا بِمَا شِئْنَا كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ، وَقَالَ الْمُعْتَزِلِيُّ: مَعْنَاهُ نَطْبَعُ عَلَيْهَا فَلَا يُؤْمِنُونَ، وَالطَّبْعُ عِنْدَهُمُ التَّرْكُ، فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا: نَتْرُكُهُمْ وَمَا اخْتَارُوا لِأَنْفُسِهِمْ، وَلَيْسَ هَذَا مَعْنَى التَّقْلِيبِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَمَدَّحَ بِالِانْفِرَادِ بِذَلِكَ، وَلَا مُشَارَكَةَ لَهُ فِيهِ، فَلَا يَصِحُّ تَفْسِيرُ الطَّبْعِ بِالتَّرْكِ فَالطَّبْعُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ خَلْقُ الْكُفْرِ فِي قَلْبِ الْكَافِرِ وَاسْتِمْرَارُهُ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ يَمُوتَ، فَمَعْنَى الْحَدِيثِ: أَنَّ اللَّهَ يَتَصَرَّفُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ بِمَا شَاءَ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا، وَلَا تَفُوتُهُ إِرَادَةٌ.

وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: فِي نِسْبَةِ تَقَلُّبِ الْقُلُوبِ إِلَى اللَّهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ يَتَوَلَّى قُلُوبَ عِبَادِهِ، وَلَا يَكِلُهَا إِلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَفِي دُعَائِهِ صلى الله عليه وسلم: يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ، إِشَارَةٌ إِلَى شُمُولِ ذَلِكَ لِلْعِبَادِ حَتَّى الْأَنْبِيَاءِ، وَرَفْعُ تَوَهُّمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُمْ يُسْتَثْنَوْنَ مِنْ ذَلِكَ، وَخَصَّ نَفْسَهُ بِالذِّكْرِ إِعْلَامًا بِأَنَّ نَفْسَهُ الزَّكِيَّةَ إِذَا كَانَتْ مُفْتَقِرَةً إِلَى أَنْ تَلْجَأَ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَافْتِقَارُ غَيْرِهَا مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ أَحَقُّ بِذَلِكَ.

‌12 - بَاب إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ اسْمٍ إِلَّا وَاحِدة

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذُو الْجَلَالِ الْعَظَمَةِ الْبَرُّ اللَّطِيفُ

7392 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ. أَحْصَيْنَاهُ: حَفِظْنَاهُ.

قوله (بَابُ إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ اسْمٍ إِلَّا وَاحِدة) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ، وَبَيَانُ مَنْ رَوَاهُ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ، وَوَقَعَ هُنَا فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا بِالتَّذْكِيرِ، وَمِائَةَ فِي الْحَدِيثِ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: تِسْعَةً وَتِسْعِينَ، فَعَدَلَ فِي التَّرْجَمَةِ مِنَ الْبَدَلِ إِلَى الْمُبْدَلِ، وَهُوَ فَصِيحٌ،

ص: 377

وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ زِيَادَةُ تَوْضِيحٍ؛ وَلِأَنَّ ذِكْرَ الْعَقْدِ أَعْلَى مِنْ ذِكْرِ الْكُسُورِ، وَأَوَّلُ الْعُقُودِ الْعَشَرَاتُ، وَثَانِيهَا الْمِائَةُ، فَلَمَّا قَارَبَتِ الْعِدَّةَ أُعْطِيَتْ حُكْمَهَا، وَجَبَرَ الْكَسْرَ بِقَوْلِهِ: مِائَةَ ثُمَّ أَرَيدَ التَّحَقُّقَ فِي الْعَدَدِ فَاسْتَثْنَى، وَلَوْ لَمْ يَسْتَثْنِ لَكَانَ اسْتِعْمَالًا غَرِيبًا سَائِغًا.

قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذُو الْجَلَالِ: الْعَظَمَةِ). فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: الْعَظِيمِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَفِيهِ تَفْسِيرُ الْجَلَالِ بِالْعَظَمَةِ، وَعَلَى الثَّانِي هُوَ تَفْسِيرُ ذُو الْجَلَالِ.

قَوْلُهُ: (الْبَرِّ: اللَّطِيفِ) هُوَ تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ وَبَيَانُ مَنْ وَصَلَهُ عَنْهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الطُّورِ.

قَوْلُهُ: اسْمًا) قِيلَ: مَعْنَاهُ تَسْمِيَةً، وَحِينَئِذٍ لَا مَفْهُومَ لِهَذَا الْعَدَدِ بَلْ لَهُ أَسْمَاءٌ كَثِيرَةٌ غَيْرُ هَذِهِ.

قَوْلُهُ: (أَحْصَيْنَاهُ: حَفِظْنَاهُ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ، وَعَلَى مَعْنَى الْإِحْصَاءِ، وَبَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِيهِ فِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ. قَالَ الْأَصِيلِيُّ: الْإِحْصَاءُ لِلْأَسْمَاءِ الْعَمَلُ بِهَا لَا عَدَّهَا وَحِفْظَهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَقَعُ لِلْكَافِرِ الْمُنَافِقِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْخَوَارِجِ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْإِحْصَاءُ يَقَعُ بِالْقَوْلِ وَيَقَعُ بِالْعَمَلِ، فَالَّذِي بِالْعَمَلِ أَنَّ لِلَّهِ أَسْمَاءً يَخْتَصُّ بِهَا كَالْأَحَدِ وَالْمُتَعَالِ وَالْقَدِيرِ، وَنَحْوِهَا، فَيَجِبُ الْإِقْرَارُ بِهَا وَالْخُضُوعُ عِنْدَهَا، وَلَهُ أَسْمَاءٌ يُسْتَحَبُّ الِاقْتِدَاءُ بِهَا فِي مَعَانِيهَا: كَالرَّحِيمِ وَالْكَرِيمِ وَالْعَفُوِّ وَنَحْوِهَا، فَيُسْتَحَبُّ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَحَلَّى بِمَعَانِيهَا لِيُؤَدِّيَ حَقَّ الْعَمَلِ بِهَا، فَبِهَذَا يَحْصُلُ الْإِحْصَاءُ الْعَمَلِيُّ، وَأَمَّا الْإِحْصَاءُ الْقَوْلِيُّ فَيَحْصُلُ بِجَمْعِهَا وَحِفْظِهَا وَالسُّؤَالِ بِهَا وَلَوْ شَارَكَ الْمُؤْمِنَ غَيْرُهُ فِي الْعَدِّ وَالْحِفْظِ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَمْتَازُ عَنْهُ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ بِهَا.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي: كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ: ذَكَرَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ أَنَّ الْجَهْمِيَّةَ قَالُوا: إِنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ مَخْلُوقَةٌ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ غَيْرُ الْمُسَمَّى، وَادَّعَوْا أَنَّ اللَّهَ كَانَ وَلَا وُجُودَ لِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ، ثُمَّ خَلَقَهَا ثُمَّ تَسَمَّى بِهَا، قَالَ: فَقُلْنَا لَهُمْ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} وَقَالَ: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ الْمَعْبُودُ، وَدَلَّ كَلَامُهُ عَلَى اسْمِهِ بِمَا دَلَّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ اسْمَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ، فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يُسَبِّحَ مَخْلُوقًا، وَنُقِلَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ عَنِ الْجَهْمِيَّةِ أَنَّ جَهْمًا قَالَ: لَوْ قُلْتُ: إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا لَعَبَدْتَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِلَهًا، قَالَ: فَقُلْنَا لَهُمْ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ عِبَادَهُ أَنْ يَدْعُوَهُ بِأَسْمَائِهِ، فَقَالَ:{وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} وَالْأَسْمَاءُ جَمْعُ أَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ وَلَا فَرْقَ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْوَاحِدِ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ وَبَيْنَ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ.

‌13 - بَاب السُّؤَالِ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَالِاسْتِعَاذَةِ بِهَا

7393 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ فِرَاشَهُ فَلْيَنْفُضْهُ بِصَنِفَةِ ثَوْبِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَلْيَقُلْ: بِاسْمِكَ رَبِّي وَضَعْتُ جَنْبِي، وَبِكَ أَرْفَعُهُ، إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَاغْفِرْ لَهَا، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ. تَابَعَهُ يَحْيَى وَبِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَزَادَ زُهَيْرٌ وَأَبُو ضَمْرَةَ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّا، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَرَوَاهُ ابْنُ عَجْلَانَ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. تابعه محمد بن عبد الرحمن والدراوردي، وأسامة بن حفص.

7394 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ رِبْعِيٍّ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ قَالَ اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ أَحْيَا وَأَمُوتُ وَإِذَا أَصْبَحَ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا

ص: 378

وَإِلَيْهِ النُّشُورُ.

7395 -

حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ عَنْ خَرَشَةَ بْنِ الحُرِّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنْ اللَّيْلِ قَالَ بِاسْمِكَ نَمُوتُ وَنَحْيَا فَإِذَا اسْتَيْقَظَ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا

7396 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ كُرَيْبٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ فَقَالَ بِاسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ لَمْ يَضُرُّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا.

7397 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا فُضَيْلٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قُلْتُ أُرْسِلُ كِلَابِي الْمُعَلَّمَةَ قَالَ إِذَا أَرْسَلْتَ كِلَابَكَ الْمُعَلَّمَةَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَأَمْسَكْنَ فَكُلْ وَإِذَا رَمَيْتَ بِالْمِعْرَاضِ فَخَزَقَ فَكُلْ

7398 -

حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ قَالَ سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَا هُنَا أَقْوَامًا حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِشِرْكٍ يَأْتُونَا بِلُحْمَانٍ لَا نَدْرِي يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا أَمْ لَا قَالَ اذْكُرُوا أَنْتُمْ اسْمَ اللَّهِ وَكُلُوا تَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالدَّرَاوَرْدِيُّ وَأُسَامَةُ بْنُ حَفْصٍ

7399 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ ضَحَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكَبْشَيْنِ يُسَمِّي وَيُكَبِّرُ

7400 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ جُنْدَبٍ أَنَّهُ شَهِدَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ صَلَّى ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ

7401 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ السُّؤَالِ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ وَالِاسْتِعَاذَةِ بِهَا). قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: مَقْصُودُهُ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ تَصْحِيحُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الِاسْمَ هُوَ الْمُسَمَّى؛ فَلِذَلِكَ صَحَّتِ الِاسْتِعَاذَةُ بِالِاسْمِ كَمَا تَصِحُّ بِالذَّاتِ، وَأَمَّا شُبْهَةُ الْقَدَرِيَّةِ الَّتِي أَوْرَدُوهَا عَلَى تَعَدُّدِ الْأَسْمَاءِ،

ص: 379

فَالْجَوَابُ عَنْهَا أَنَّ الِاسْمَ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْمُسَمَّى كَمَا قَرَّرْنَاهُ، وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ التَّسْمِيَةُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِحَدِيثِ الْأَسْمَاءِ. وَذَكَرَ فِي الْبَابِ تِسْعَةَ أَحَادِيثَ كُلَّهَا فِي التَّبَرُّكِ بِاسْمِ اللَّهِ وَالسُّؤَالِ بِهِ وَالِاسْتِعَاذَةِ.

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْقَوْلِ عِنْدَ النَّوْمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي الدَّعَوَاتِ، وَفِيهِ: بِاسْمِكَ رَبِّي وَضَعْتُ جَنْبِي، وَبِكَ أَرْفَعُهُ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَضَافَ الْوَضْعَ إِلَى الِاسْمِ، وَالرَّفْعَ إِلَى الذَّاتِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْمِ الذَّاتُ، وَبِالذَّاتِ يُسْتَعَانُ فِي الرَّفْعِ وَالْوَضْعِ لَا بِاللَّفْظِ.

قَوْلُهُ: عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ)، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُ مِنْ طُرُقٍ إِلَى عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ الْأُوَيْسِيُّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَسْنَدَهُ عَنْ مَالِكٍ إِلَّا الْأُوَيْسِيَّ. وَرَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلًا.

قَوْلُهُ: (فَلْيَنْفُضْهُ بِصَنِفَةِ ثَوْبِهِ) الصَّنِفَةُ: بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ النُّونِ بَعْدَهَا فَاءٌ طُرَّتُهُ، وَقِيلَ: طَرَفُهُ، وَقِيلَ: جَانِبُهُ، وَقِيلَ: حَاشِيَتُهُ الَّتِي فِيهَا هُدْبُهُ، وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ طَرَفُهُ الَّذِي يَلِي طُرَّتَهُ. قُلْتُ: وَتَقَدَّمَ فِي الدَّعَوَاتِ بِلَفْظِ: دَاخِلَةَ إِزَارِهِ وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ مَعْنَاهَا، فَالْأَوْلَى هُنَا أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ طَرَفُهُ الَّذِي مِنَ الدَّاخِلِ جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ.

قَوْلُهُ: (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) هَكَذَا زَادَهَا مَالِكٌ فِي الرِّوَايَتَيْنِ الْمَوْصُولَةِ وَالْمُرْسَلَةِ، وَتَابَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بِسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ، وَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الدَّارَقُطْنِيُّ فِي رِوَايَتِهِ الْمَذْكُورَةِ عَنِ الْأُوَيْسِيِّ عَنْهُمَا، وَحَذَفَ الْبُخَارِيُّ، عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ الْعُمَرِيَّ لِضَعْفِهِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى مَالِكٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي جَوَازِ حَذْفِ الضَّعِيفِ، وَالِاقْتِصَارِ عَلَى الثِّقَةِ إِذَا اشْتَرَكَا فِي الرِّوَايَةِ فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ، وَصَنِيعُ الْبُخَارِيِّ يَقْتَضِي الْجَوَازَ لَكِنْ لَمْ يَطَّرِدْ لَهُ فِي ذَلِكَ عَمَلٌ فَإِنَّهُ حَذَفَهُ تَارَةً كَمَا هُنَا، وَأَثْبَتَهُ أُخْرَى لَكِنْ كَنَّى عَنْهُ ابْنَ فُلَانٍ كَمَا مَضَى التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ هُنَاكَ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّهُ حَيْثُ حَذَفَهُ كَانَ اللَّفْظُ الَّذِي سَاقَهُ لِلَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْآخَرِ.

قَوْلُهُ (فَاغْفِرْ لَهَا) تَقَدَّمَ فِي الدَّعَوَاتِ بِلَفْظِ: فَارْحَمْهَا، وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، أَخْرَجَهُ الْمُخْلِصُ فِي أَوَاخِرِ الْأَوَّلِ مِنْ فَوَائِدِهِ.

قَوْلُهُ (عَقِبَهُ تَابَعَهُ يَحْيَى) يُرِيدُ ابْنَ سَعِيدٍ الْقَطَّانَ وَعُبَيْدُ للَّهِ هُوَ ابْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ، وَسَعِيدٌ هُوَ الْمَقْبُرِيُّ، وَزُهَيْرٌ هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ، وَأَبُو ضَمْرَةَ هُوَ أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، وَالْمُرَادُ بِإِيرَادِ هَذِهِ التَّعَالِيقِ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ عَلَى سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ هَلْ رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَا وَاسِطَةٍ أَوْ بِوَاسِطَةِ أَبِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَنْ وَصَلَهَا كُلَّهَا فِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ: حَدِيثُ حُذَيْفَةَ، وَأَبِي ذَرٍّ فِي الْقَوْلِ عِنْدَ النَّوْمِ أَيْضًا، وَفِيهِ: اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ أَحْيَا وَأَمُوتُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُمَا فِي الدَّعَوَاتِ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْقَوْلِ عِنْدَ الْجِمَاعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، وَقَوْلُهُ: فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ الْمُرَادُ إِنْ كَانَ قُدِّرَ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ أَزَلِيٌّ لَكِنْ عَبَّرَ بِصِيغَةِ الْمُضَارَعَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلتَّعَلُّقِ.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: حَدِيثُ عَدِيٍّ فِي الصَّيْدِ، قَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الذَّبَائِحِ.

الْحَدِيثُ السَّادِسُ: حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي الْأَمْرِ بِالتَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْأَكْلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الذَّبَائِحِ أَيْضًا، وَقَوْلُهُ فِيهِ: تَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، هُوَ الطُّفَاوِيُّ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ هُوَ الدَّرَاوَرْدِيُّ، وَأُسَامَةُ بْنُ حَفْص هُوَ الْمَدَنِيُّ، وَتَقَدَّمَ فِي الذَّبَائِحِ بَيَانُ مَنْ وَصَلَهَا، وَطَرِيقُ الدَّرَاوَرْدِيِّ وَصَلَهَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ الْعَدَنِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْهُ، وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي هَذَا السَّنَدِ بِأَشْبَعَ مِنْ هَذَا هُنَاكَ.

(تَنْبِيهَانِ):

أَحَدُهُمَا: وَقَعَ قَوْلُهُ: تَابَعَهُ إِلَخْ. هُنَا عَقِبَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُبْدَأُ بِذِكْرِهِ فِي هَذَا الْبَابِ عِنْدَ كَرِيمَةَ وَالْأَصِيلِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَالصَّوَابُ مَا وَقَعَ عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِ أَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ عَقِبَ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَهُوَ سَادِسُ أَحَادِيثَ الْبَابِ. ثَانِيهُمَا: وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ هُنَا أَقْوَامًا حَدِيثًا عَهْدُهُمْ بِالشِّرْكِ يَأْتُونَا كَذَا فِيهِ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ لُغَةُ مَنْ يَحْذِفُ النُّونَ مَعَ الرَّفْعِ، وَجَوَّزَ الْكِرْمَانِيُّ أَنْ يَكُونَ بِتَشْدِيدِ النُّونِ مُرَاعَاةً لِلُّغَةِ الْمَشْهُورَةِ؛

ص: 380

لَكِنَّ التَّشْدِيدَ فِي مِثْلِ هَذَا قَلِيلٌ.

الْحَدِيثُ السَّابِعُ: حَدِيثُ أَنَسٍ فِي الْأُضْحِيَّةِ بِكَبْشَيْنِ، وَفِيهِ: فَسَمَّى وَكَبَّرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْأَضَاحِيِّ.

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ: حَدِيثُ جُنْدُبٍ فِي مَنْعِ الذَّبْحِ فِي الْعِيدِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَفِيهِ قَوْلُهُ: فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الضَّحَايَا أَيْضًا.

الْحَدِيثُ التَّاسِعُ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ. تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ، قَالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ: دَلَّتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ. يَعْنِي الْوَارِدَةَ فِي الِاسْتِعَاذَةِ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ، وَالسُّؤَالُ بِهَا مِثْلُ أَحَادِيثِ الْبَابِ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ: بِاسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ، وَكِلَاهُمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَفِي الْبَابِ عَنْ عُبَادَةَ، وَمَيْمُونَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِمْ عِنْدَ النَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِ بِأَسَانِيدَ جِيَادٍ، عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ إِذْ لَوْ كَانَ مَخْلُوقًا لَمْ يَسْتَعِذْ بِهَا إِذْ لَا يُسْتَعَاذُ بِمَخْلُوقٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وَإِذَا اسْتَعَذْتَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ، قَالَتِ الْجَهْمِيَّةُ لِمَنْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، قُلْتُمْ بِقَوْلِ النَّصَارَى حَيْثُ جَعَلُوا مَعَهُ غَيْرَهُ، فَأَجَابُوا بِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّهُ وَاحِدٌ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، فَلَا نَصِفَ إِلَّا وَاحِدًا بِصِفَاتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} وَصَفَهُ بِالْوَحْدَةِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ لِسَانٌ وَعَيْنَانِ وَأُذُنَانِ وَسَمْعٌ وَبَصَرٌ، وَلَمْ يَخْرُجْ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ عَنْ كَوْنِهِ وَاحِدًا، وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى.

‌14 - بَاب مَا يُذْكَرُ فِي الذَّاتِ وَالنُّعُوتِ وَأَسَامِي اللَّهِ عز وجل

وَقَالَ خُبَيْبٌ:

وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ، فَذَكَرَ الذَّاتَ بِاسْمِهِ تَعَالَى

7402 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ أَسِيدِ بْنِ جَارِيَةَ الثَّقَفِيُّ حَلِيفٌ لِبَنِي زُهْرَةَ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشَرَةً، مِنْهُمْ خُبَيْبٌ الْأَنْصَارِيُّ فَأَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عِيَاضٍ، أَنَّ ابْنَةَ الْحَارِثِ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُمْ حِينَ اجْتَمَعُوا اسْتَعَارَ مِنْهَا مُوسَى يَسْتَحِدُّ بِهَا، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ الْحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ قَالَ خُبَيْبٌ الْأَنْصَارِيُّ:

وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا

عَلَى أَيِّ شِقٍّ كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِي

وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ وَإِنْ يَشَا

يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ

فَقَتَلَهُ ابْنُ الْحَارِثِ، فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ خَبَرَهُمْ يَوْمَ أُصِيبُوا.

قَوْلُهُ: بَابُ مَا يُذْكَرُ فِي الذَّاتِ وَالنُّعُوتِ، وَأَسَامِي اللَّهِ عز وجل، أَيْ: مَا يُذْكَرُ فِي ذَاتِ اللَّهِ وَنُعُوتِهِ مِنْ تَجْوِيزِ إِطْلَاقِ ذَلِكَ كَأَسْمَائِهِ، أَوْ مَنْعِهِ لِعَدَمِ وُرُودِ النَّصِّ بِهِ، فَأَمَّا الذَّاتُ فَقَالَ الرَّاغِبُ: هِيَ تَأْنِيثُ ذُو، وَهِيَ كَلِمَةٌ يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى الْوَصْفِ بِأَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ وَالْأَنْوَاعِ وَتُضَافُ إِلَى الظَّاهِرِ دُونَ الْمُضْمَرِ، وَتُثَنَّى وَتُجْمَعُ وَلَا يُسْتَعْمَلُ شَيْءٌ مِنْهَا إِلَّا مُضَافًا، وَقَدِ اسْتَعَارُوا لَفْظَ الذَّاتِ لِعَيْنِ الشَّيْءِ وَاسْتَعْمَلُوهَا مُفْرَدَةً وَمُضَافَةً وَأَدْخَلُوا عَلَيْهَا الْأَلِفَ وَاللَّامَ وَأَجْرَوْهَا مَجْرَى النَّفْسِ وَالْخَاصَّةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، انْتَهَى. وَقَالَ عِيَاضٌ: ذَاتُ الشَّيْءِ نَفْسُهُ وَحَقِيقَتُهُ، وَقَدِ اسْتَعْمَلَ أَهْلُ الْكَلَامِ الذَّاتَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَغَلَّطَهُمْ أَكْثَرُ النُّحَاةِ وَجَوَّزَهُ بَعْضُهُمْ؛ لِأَنَّهَا تَرِدُ بِمَعْنَى النَّفْسِ

ص: 381

وَحَقِيقَةِ الشَّيْءِ، وَجَاءَ فِي الشِّعْرِ لَكِنَّهُ شَاذٌّ، وَاسْتِعْمَالُ الْبُخَارِيِّ لَهَا دَالٌّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا نَفْسُ الشَّيْءِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَفَرَّقَ بَيْنَ النُّعُوتِ وَالذَّاتِ، وَقَالَ ابْنُ بُرْهَانَ: إِطْلَاقُ الْمُتَكَلِّمِينَ الذَّاتَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ جَهْلِهِمْ؛ لِأَنَّ ذَاتَ تَأْنِيثُ ذُو، وَهُوَ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ - لَا يَصِحُّ لَهُ إِلْحَاقُ تَاءِ التَّأْنِيثِ؛ وَلِهَذَا امْتَنَعَ أَنْ يُقَالَ عَلَّامَةٌ، وَإِنْ كَانَ أَعْلَمَ الْعَالَمِينَ.

قَالَ: وَقَوْلُهُمُ الصِّفَاتُ الذَّاتِيَّةِ جَهْلٌ مِنْهُمْ أَيْضًا؛ لِأَنَّ النَّسَبَ إِلَى ذَاتَ: ذَوِي، وَقَالَ التَّاجُ الْكِنْدِيُّ فِي الرَّدِّ عَلَى الْخَطِيبِ بْنِ نَبَاتَةَ فِي قَوْلِهِ كُنْهُ ذَاتَهُ ذَاتٌ، بِمَعْنَى صَاحِبَةُ تَأْنِيثِ ذُو وَلَيْسَ لَهَا فِي اللُّغَةِ مَدْلُولٌ غَيْرُ ذَلِكَ، وَإِطْلَاقُ الْمُتَكَلِّمِينَ وَغَيْرُهُمُ الذَّاتَ بِمَعْنَى النَّفْسِ خَطَأٌ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ اسْتِعْمَالُهَا بِمَعْنَى صَاحِبَةٍ، أَمَّا إِذَا قُطِعَتْ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى وَاسْتُعْمِلَتْ بِمَعْنَى الِاسْمِيَّةِ فَلَا مَحْذُورَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أَيْ: بِنَفْسِ الصُّدُورِ، وَقَدْ حَكَى الْمُطَرِّزِيُّ كُلُّ ذَاتٍ شَيْءٌ، وَلَيْسَ كُلُّ شَيْءٍ ذَاتًا، وَأَنْشَدَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ فَارِسٍ:

فَنِعْمَ ابْنُ عَمِّ الْقَوْمِ فِي ذَاتِ مَالِهِ

إِذَا كَانَ بَعْضُ الْقَوْمِ فِي مَالِهِ وَفْرُ

وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ ذَاتُ هُنَا مُقْحَمَةٌ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: ذَاتَ لَيْلَةٍ، وَقَدْ ذَكَرْتُ مَا فِيهِ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ فِي بَابِ الْعِظَةِ بِاللَّيْلِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي تَهْذِيبِهِ: وَأَمَّا قَوْلُهُمْ - أَيِ: الْفُقَهَاءُ - فِي بَابِ الْأَيْمَانِ فَإِنْ حَلَفَ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، وَقَوْلُ الْمُهَذَّبِ اللَّوْنُ كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ أَعْرَاضٌ تَحِلُّ الذَّاتَ فَمُرَادُهَا بِالذَّاتِ الْحَقِيقَةُ وَهُوَ اصْطِلَاحُ الْمُتَكَلِّمِينَ وَقَدْ أَنْكَرَهُ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ، وَقَالَ: لَا يُعْرَفُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ ذَاتٌ بِمَعْنَى حَقِيقَةٍ، قَالَ: وَهَذَا الْإِنْكَارُ مُنْكَرٌ، فَقَدْ قَالَ الْوَاحِدِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} قَالَ ثَعْلَبٌ: أَيِ الْحَالَةُ الَّتِي بَيْنَكُمْ، فَالتَّأْنِيثُ عِنْدَهُ لِلحَالَةٍ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى ذَاتَ: حَقِيقَةَ، وَالْمُرَادُ بِالْبَيْنِ الْوَصْلُ، فَالتَّقْدِيرُ: فَأَصْلِحُوا حَقِيقَةَ وَصْلِكُمْ، قَالَ: فَذَاتُ عِنْدَهُ بِمَعْنَى النَّفْسِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: ذَاتُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْمُنَازَعَةِ فَأُمِرُوا بِالْمُوَافَقَةِ، وَتَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ النَّفَقَاتِ شَيْءٌ آخَرُ فِي مَعْنَى ذَاتِ يَدِهِ، وَأَمَّا النُّعُوتُ فَإِنَّهَا جَمْعُ نَعْتٍ وَهُوَ الْوَصْفُ، يُقَالُ: نَعَتَ فُلَانٌ نَعْتًا مِثْلُ وَصَفَهُ وَصْفًا، وَزْنُهُ وَمَعْنَاهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي إِطْلَاقِ الصِّفَةِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ التَّوْحِيدِ، وَأَمَّا الْأَسَامِي فَهِيَ جَمْعُ اسْمٍ وَتُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى أَسْمَاءٍ.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبَ: أَحَدُهَا يَرْجِعُ إِلَى ذَاتِهِ وَهُوَ اللَّهُ، وَالثَّانِي يَرْجِعُ إِلَى صِفَةٍ قَائِمَةٍ بِهِ كَالْحَيِّ، وَالثَّالِثُ يَرْجِعُ إِلَى فِعْلِهِ كَالْخَالِقِ، وَطَرِيقُ إِثْبَاتِهَا السَّمْعُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ صِفَاتِ الذَّاتِ وَصِفَاتِ الْفِعْلِ أَنَّ صِفَاتَ الذَّاتِ قَائِمَةٌ بِهِ، وَصِفَاتَ الْفِعْلِ ثَابِتَةٌ لَهُ بِالْقُدْرَةِ وَوُجُودُ الْمَفْعُولِ بِإِرَادَتِهِ جَلَّ وَعَلَا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ خُبَيْبٌ) بِالْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ مُصَغَّرٌ هُوَ ابْنُ عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيُّ.

قَوْلُهُ: (وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ) يُشِيرُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ الْمُسَاقِ فِي الْبَابِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي الْمَغَازِي، وَتَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ فِي بَابِ هَلْ يُسْتَأْسَرُ الرَّجُلُ.

قَوْلُهُ: (فَذَكَرَ الذَّاتَ بِاسْمِهِ تَعَالَى)، أَيْ: ذَكَرَ الذَّاتَ مُتَلَبِّسًا بِاسْمِ اللَّهِ، أَوْ ذَكَرَ حَقِيقَةَ اللَّهِ بِلَفْظِ الذَّاتِ، قَالَهُ الْكِرْمَانِيُّ. قُلْتُ: وَظَاهِرُ لَفْظِهِ أَنَّ مُرَادَهُ أَضَافَ لَفْظَ الذَّاتِ إِلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَسَمِعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُنْكِرْهُ فَكَانَ جَائِزًا. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: قِيلَ لَيْسَ فِيهِ، يَعْنِي قَوْلَهُ: ذَاتُ الْإِلَهِ دَلَالَةٌ عَلَى التَّرْجَمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِالذَّاتِ الْحَقِيقَةِ الَّتِي هِيَ مُرَادُ الْبُخَارِيِّ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ وَذَلِكَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ أَوْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ غَرَضَهُ جَوَازُ إِطْلَاقِ الذَّاتِ فِي الْجُمْلَةِ، انْتَهَى. وَالِاعْتِرَاضُ أَقْوَى مِنَ الْجَوَابِ، وَأَصْلُ الِاعْتِرَاضِ لِلشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ السُّبْكِيِّ فِيمَا أَخْبَرَنِي بِهِ عَنْهُ شَيْخُنَا أَبُو الْفَضْلِ الْحَافِظُ، وَقَدْ تَرْجَمَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مَا جَاءَ فِي الذَّاتِ، وَأَوْرَدَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ فِي ذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ

ص: 382

السَّلَامُ: إِلَّا ثَلَاثَ كَذِبَاتٍ اثْنَتَيْنِ فِي ذَاتِ اللَّهِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي تَرْجَمَةِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورُ فِي الْبَابِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: تَفَكَّرُوا فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَلَا تَفَكَّرُوا فِي ذَاتِ اللَّهِ. مَوْقُوفٌ وَسَنَدُهُ جَيِّدٌ، وَحَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ: لَا تَفْقَهُ كُلَّ الْفِقْهِ حَتَّى تَمْقُتَ النَّاسَ فِي ذَاتِ اللَّهِ. وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ إِلَّا أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ، وَلَفْظُ ذَاتِ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ بِمَعْنَى مِنْ أَجْلِ أَوْ بِمَعْنَى حَقِّ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ حَسَّانَ:

وَإِنَّ أَخَا الْأَحْقَافِ إِذْ قَامَ فِيهِمْ

يُجَاهِدُ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ وَيَعْدِلُ

وَهِيَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةٌ عَنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ جَوَازُ إِطْلَاقِ لَفْظِ ذَاتِ لَا بِالْمَعْنَى الَّذِي أَحْدَثَهُ الْمُتَكَلِّمُونَ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مَرْدُودٌ إِذَا عُرِفَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّفْسُ لِثُبُوتِ لَفْظِ النَّفْسِ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ عَقَّبَ الْمُصَنِّفُ بِتَرْجَمَةِ النَّفْسِ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ الْوَجْهِ أَنَّهُ وَرَدَ بِمَعْنَى الرِّضَا. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي الْعَقِيدَةِ: تَقُولُ فِي الصِّفَاتِ الْمُشْكِلَةِ: إِنَّهَا حَقٌّ وَصِدْقٌ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ اللَّهُ، وَمَنْ تَأَوَّلَهَا نَظَرْنَا فَإِنْ كَانَ تَأْوِيلُهُ قَرِيبًا عَلَى مُقْتَضَى لِسَانِ الْعَرَبِ لَمْ نُنْكِرْ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا تَوَقَّفْنَا عَنْهُ وَرَجَعْنَا إِلَى التَّصْدِيقِ مَعَ التَّنْزِيهِ.

وَمَا كَانَ مِنْهَا مَعْنَاهُ ظَاهِرًا مَفْهُومًا مِنْ تَخَاطُبِ الْعَرَبِ حَمَلْنَاهُ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ: {عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ فِي اسْتِعْمَالِهِمُ الشَّائِعِ حَقُّ اللَّهِ، فَلَا يَتَوَقَّفُ فِي حَمْلِهِ عَلَيْهِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: إِنَّ قَلْبَ ابْنِ آدَمَ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ إِرَادَةُ قَلْبِ ابْنِ آدَمَ مُصَرَّفَةٌ بِقُدْرَةِ اللَّهِ وَمَا يُوقِعُهُ فِيهِ، وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى:{فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} مَعْنَاهُ: خَرَّبَ اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ، وَقَوْلُهُ:{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} مَعْنَاهُ: لِأَجْلِ اللَّهِ، وَقِسْ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ تَفْصِيلٌ بَالِغٌ قَلَّ مَنْ تَيَقَّظَ لَهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: اتَّفَقَ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ اللَّهِ مُخَالِفَةٌ لِسَائِرِ الْحَقَائِقِ، وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْكَلَامِ إِلَى أَنَّهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا ذَاتٌ مُسَاوِيَةٌ لِسَائِرِ الذَّوَاتِ، وَإِنَّمَا تَمْتَازُ عَنْهَا بِالصِّفَاتِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِهَا كَوُجُوبِ الْوُجُودِ، وَالْقُدْرَةِ التَّامَّةِ، وَالْعِلْمِ التَّامِّ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْأَشْيَاءَ الْمُتَسَاوِيَةَ فِي تَمَامِ الْحَقِيقَةِ يَجِبُ أَنْ يَصِحَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَا يَصِحُّ عَلَى الْآخَرِ، فَيَلْزَمُ مِنْ دَعْوَى التَّسَاوِي الْمُحَالِ، وَبِأَنَّ أَصْلَ مَا ذَكَرُوهُ قِيَاسُ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ وَهُوَ أَصْلُ كُلِّ خَبْطٍ، وَالصَّوَابُ الْإِمْسَاكُ عَنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ وَالتَّفْوِيضُ إِلَى اللَّهِ فِي جَمِيعِهَا وَالِاكْتِفَاءُ بِالْإِيمَانِ بِكُلِّ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ إِثْبَاتَهُ لَهُ أَوْ تَنْزِيهَهُ عَنْهُ عَلَى طَرِيقِ الْإِجْمَالِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي تَرْجِيحِ التَّفْوِيضِ عَلَى التَّأْوِيلِ إِلَّا أَنَّ صَاحِبَ التَّأْوِيلِ لَيْسَ جَازِمًا

بِتَأْوِيلِهِ بِخِلَافِ صَاحِبِ التَّفْوِيضِ.

‌15 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ}

7403 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ، وَمَا أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنْ اللَّهِ.

ص: 383

7404 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ وَهُوَ يَكْتُبُ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ وَضْعٌ عِنْدَهُ عَلَى الْعَرْشِ إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي

وقال ابن التين معنى العندية في هذا الحديث العلم بأنه موضوع على العرش، وأما كتبه فليس للاستعانة لئلا ينساه فإنه منزه عن ذلك لا يخفى عنه شيء وإنما كتبه من أجل الملائكة الموكلين بالمكلفين.

7405 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَا ذَكَرْتُهُ فِي مَلَا خَيْرٍ مِنْهُمْ وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً

[الحديث: 7405 - طرفاه في: 7505، 7537]

قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} . قَالَ الرَّاغِبُ: نَفْسُهُ: ذَاتُهُ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُضَافٌ وَمُضَافٌ إِلَيْهِ فَلَا شَيْءَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى سِوَى وَاحِدٍ سبحانه وتعالى عَنِ الِاثْنَيْنِيَّةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَقِيلَ: إِنَّ إِضَافَةَ النَّفْسِ هُنَا إِضَافَةُ مِلْكٍ، وَالْمُرَادُ بِالنَّفْسِ نُفُوسُ عِبَادِهِ، انْتَهَى مُلَخَّصًا، وَلَا يَخْفَى بُعْدُ الْأَخِيرِ وَتَكَلُّفُهُ. وَتَرْجَمَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ النَّفْسَ وَذَكَرَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ: أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ. وَالْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ: إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَهُمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ.

قُل تُ: وَفِيهِ أَيْضًا الْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ: سُبْحَانَ اللَّهِ رِضَا نَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَالنَّفْسُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى أَوْجُهٍ مِنْهَا الْحَقِيقَةُ كَمَا يَقُولُونَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَيْسَ لِلْأَمْرِ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ، وَمِنْهَا الذَّاتُ، قَالَ: وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} إِنَّ مَعْنَاهُ تَعْلَمُ مَا أَكُنُّهُ وَمَا أُسِرُّهُ وَلَا أَعْلَمُ مَا تُسِرُّهُ عَنِّي، وَقِيلَ: ذِكْرُ النَّفْسِ هُنَا لِلْمُقَابَلَةِ وَالْمُشَاكَلَةِ وَتُعُقِّبَ بِالْآيَةِ الَّتِي فِي أَوَّلِ الْبَابِ فَلَيْسَ فِيهَا مُقَابَلَةٌ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ، الزَّجَّاجُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} أَيْ: إِيَّاهُ وَحَكَى صَاحِبُ الْمَطَالِعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: لَا أَعْلَمُ ذَاتَكَ.

ثَانِيهَا: لَا أَعْلَمُ مَا فِي غَيْبِكَ.

ثَالِثُهَا: لَا أَعْلَمُ مَا عِنْدَكَ، وَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِ غَيْرِهِ لَا أَعْلَمُ مَعْلُومَكَ أَوْ إِرَادَتَكَ أَوْ سِرَّكَ أَوْ مَا يَكُونُ مِنْكَ، ثُمَّ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ.

أَحَدُهَا: حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرَ مِنَ اللَّهِ - وَفِيهِ - وَمَا أَحَدٌ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللَّهِ كَذَا وَقَعَ هُنَا مُخْتَصَرًا، وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي وَائِلٍ وَهُوَ شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ الْمَذْكُورُ هُنَا أَتَمُّ مِنْهُ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مَدَارُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَلَى أَبِي وَائِلٍ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ النَّخَعِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، نَحْوَهُ، وَزَادَ فِيهِ: وَلَا أَحَدٌ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْزَلَ الْكُتُبَ وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ الْآتِي فِي بَابِ: لَا شَخْصَ أَغْيَرَ مِنَ اللَّهِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ: إِثْبَاتُ النَّفْسِ لِلَّهِ، وَلِلنَّفْسِ مَعَانٍ، وَالْمُرَادُ بِنْفَسُ اللَّهُ ذَاتَهُ، وَلَيْسَ بِأَمْرٍ مَزِيدٍ عَلَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هُوَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ فَسَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْكُسُوفِ، وَقِيلَ: غَيْرَةُ اللَّهِ كَرَاهَةُ إِتْيَانِ الْفَوَاحِشِ، أَيْ: عَدَمُ رِضَاهُ بِهَا لَا التَّقْدِيرُ، وَقِيلَ: الْغَضَبُ

ص: 384

لَازِمُ الْغَيْرَةِ، وَلَازِمُ الْغَضَبِ إِرَادَةُ إِيصَالِ الْعُقُوبَةِ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَيْسَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ هَذَا ذِكْرُ النَّفْسِ، وَلَعَلَّهُ أَقَامَ اسْتِعْمَالَ أَحَدَ مَقَامَ النَّفْسِ لِتَلَازُمِهِمَا فِي صِحَّةِ اسْتِعْمَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ، ثُمَّ قَالَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ كَانَ قَبْلَ هَذَا الْبَابِ، فَنَقَلَهُ النَّاسِخُ إِلَى هَذَا الْبَابِ، انْتَهَى.

وَكُلُّ هَذَا غَفْلَةٌ عَنْ مُرَادِ الْبُخَارِيِّ، فَإِنَّ ذِكْرَ النَّفْسِ ثَابِتٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي أَوْرَدَهُ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقَعْ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ لَكِنَّهُ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ كَعَادَتِهِ، فَقَدْ أَوْرَدَهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ بِلَفْظِ: لَا شَيْءَ، وَفِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ بِلَفْظِ: وَلَا أَحَدَ، ثُمَّ اتَّفَقَا عَلَى: أَحَبَّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ، وَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ الْمُطَابِقُ لِلتَّرْجَمَةِ، وَقَدْ كَثُرَ مِنْهُ أَنْ يُتَرْجِمَ بِبَعْضِ مَا وَرَدَ فِي طُرُقِ الْحَدِيثِ الَّذِي يُورِدُهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْقَدْرُ مَوْجُودًا فِي تِلْكَ التَّرْجَمَةِ. وَقَدْ سَبَقَ الْكِرْمَانِيَّ إِلَى نَحْوِ ذَلِكَ ابْنُ الْمُنِيرِ، فَقَالَ: تَرْجَمَ عَلَى ذِكْرِ النَّفْسِ فِي حَقِّ الْبَارِي، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ لِلنَّفْسِ ذِكْرٌ، فَوَجْهُ مُطَابَقَتِهِ أَنَّهُ صَدَّرَ الْكَلَامَ بِأَحَدٍ، وَأَحَدٌ الْوَاقِعُ فِي النَّفْيِ عِبَارَةٌ عَنِ النَّفْسِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ بِخِلَافِ أَحَدٌ الْوَاقِعُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} انْتَهَى. وَخَفِيَ عَلَيْهِ مَا خَفِيَ عَلَى الْكِرْمَانِيِّ مَعَ أَنَّهُ تَفَطَّنَ لِمِثْلِ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: قَوْلُ الْقَائِلِ مَا فِي الدَّارِ أَحَدٌ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إِلَّا نَفْيُ الْأَنَاسِيِّ، وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُهُمْ: مَا فِي الدَّارِ أَحَدٌ إِلَّا زَيْدًا اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْجِنْسِ وَمُقْتَضَى الْحَدِيثِ إِطْلَاقُهُ عَلَى اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا صِحَّةُ الْإِطْلَاقِ مَا انْتَظَمَ الْكَلَامُ كَمَا يَنْتَظِمُ: مَا أَحَدٌ أَعْلَمُ مِنْ زَيْدٍ فَإِنَّ زَيْدًا مِنَ الْأَحَدِينَ بِخِلَافِ مَا أَحَدٌ أَحْسَنُ مِنْ ثَوْبِي فَإِنَّهُ لَيْسَ مُنْتَظِمًا؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ لَيْسَ مِنَ الْأَحَدِينَ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: كَتَبَ فِي كِتَابِهِ وَهُوَ يَكْتُبُ عَلَى نَفْسِهِ)، كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَسَقَطَتِ الْوَاوُ لِغَيْرِهِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، وَعَلَى الثَّانِي فَيَكْتُبُ عَلَى نَفْسِهِ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: كَتَبَ، وَالْمَكْتُوبُ هُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ رَحْمَتِي إِلَخْ، وَقَوْلُهُ: وَهُوَ، أَيِ: الْمَكْتُوبُ وَضْعٌ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، أَيْ: مَوْضُوعٌ، وَوَقَعَ كَذَلِكَ فِي الْجَمْعِ لِلْحُمَيْدِيِّ بِلَفْظِ مَوْضُوعٌ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فِيمَا أَخْرَجَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الْمَذْكُورِ فِي السَّنَدِ، وَهُوَ بِالْمُهْمَلَةِ وَالزَّايِ وَاسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَيْمُونٍ السُّكَّرِيُّ، وَحَكَى عِيَاضٌ عَنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ: وَضَعَ بِالْفَتْحِ عَلَى أَنَّهُ فِعْلُ مَاضٍ مَبْنِيٌّ لِلْفَاعِلِ، وَرَأَيْتُهُ فِي نُسْخَةٍ مُعْتَمَدَةٍ بِكَسْرِ الضَّادِ مَعَ التَّنْوِينِ، وَقَدْ مَضَى شَرْحُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي أَوَائِلِ بَدْءِ الْخَلْقِ، وَيَأْتِي شَيْءٌ مِنَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي بَابِ:{وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} وَفِي بَابِ: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} أَوَاخِرَ الْكِتَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهَ تَعَالَى، وَأَمَّا قَوْلُهُ: عِنْدَهُ، فَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: عِنْدَ فِي اللُّغَةِ لِلْمَكَانِ، وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْحُلُولِ فِي الْمَوَاضِعِ؛ لِأَنَّ الْحُلُولَ عَرَضٌ يَفْنَى وَهُوَ حَادِثٌ وَالْحَادِثُ لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ، فَعَلَى هَذَا قِيلَ: مَعْنَاهُ أنَّهُ سَبَقَ عِلْمُهُ بِإِثَابَةِ مَنْ يَعْمَلُ بِطَاعَتِهِ، وَعُقُوبَةِ مَنْ يَعْمَلُ بِمَعْصِيَتِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَلَا مَكَانَ هُنَاكَ قَطْعًا، وَقَالَ الرَّاغِبُ عِنْدَ لَفْظٌ مَوْضُوعٌ لِلْقُرْبِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْمَكَانِ وَهُوَ الْأَصْلُ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الِاعْتِقَادِ، تَقُولُ: عِنْدِي فِي كَذَا كَذَا، أَيْ: أَعْتَقِدُهُ،

وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْمَرْتَبَةِ، وَمِنْهُ:{أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} وَأَمَّا قَوْلُهُ: {إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} فَمَعْنَاهُ مِنْ حُكْمِكَ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ مَعْنَى الْعِنْدِيَّةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ عَلَى الْعَرْشِ، وَأَمَّا كَتْبُهُ فَلَيْسَ لِلِاسْتِعَانَةِ لِئَلَّا يَنْسَاهُ فَإِنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ لَا يَخْفَى عَنْهُ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا كَتَبَهُ مِنْ أَجْلِ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِالْمُكَلَّفِينَ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي)، أَيْ: قَادِرٌ عَلَى أَنْ أَعْمَلَ بِهِ مَا ظَنَّ أَنِّي عَامِلٌ بِهِ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَفِي السِّيَاقِ إِشَارَةٌ إِلَى تَرْجِيحِ جَانِبِ الرَّجَاءِ عَلَى الْخَوْفِ. وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ جِهَةِ التَّسْوِيَةِ فَإِنَّ الْعَاقِلَ إِذَا سَمِعَ ذَلِكَ لَا يَعْدِلُ إِلَى ظَنِّ إِيقَاعِ الْوَعِيدِ وَهُوَ جَانِبُ الْخَوْفِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَارُهُ لِنَفْسِهِ بَلْ يَعْدِلُ إِلَى ظَنِّ وُقُوعِ الْوَعْدِ. وَهُوَ جَانِبُ الرَّجَاءِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ مُقَيَّدٌ بِالْمُحْتَضِرِ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ حَدِيثُ: لَا يَمُوتَنَّ

ص: 385

أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ، وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ. وَأَمَّا قَبْلُ ذَلِكَ فَفِي الْأَوَّلِ أَقْوَالٌ ثَالِثُهَا الِاعْتِدَالُ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: الْمُرَادُ بِالظَّنِّ هُنَا الْعِلْمُ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: {وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ} وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ:. قِيلَ: مَعْنَى ظَنِّ عَبْدِي بِي ظَنُّ الْإِجَابَةِ عِنْدَ الدُّعَاءِ وَظَنُّ الْقَبُولِ عِنْدَ التَّوْبَةِ، وَظَنُّ الْمَغْفِرَةِ عِنْدَ الِاسْتِغْفَارِ، وَظَنُّ الْمُجَازَاةِ عِنْدَ فِعْلِ الْعِبَادَةِ بِشُرُوطِهَا تَمَسُّكًا بِصَادِقِ وَعْدِهِ، وَقَالَ: وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ.

قَالَ: وَلِذَلِكَ يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْقِيَامِ بِمَا عَلَيْهِ مُوقِنًا بِأَنَّ اللَّهَ يَقْبَلُهُ وَيَغْفِرُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ وَعَدَ بِذَلِكَ وَهُوَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، فَإِنِ اعْتَقَدَ أَوْ ظَنَّ أَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُهَا، وَأَنَّهَا لَا تَنْفَعُهُ فَهَذَا هُوَ الْيَأْسُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَمَنْ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ وُكِلَ إِلَى مَا ظَنَّ كَمَا فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ: فَلْيَظُنَّ بِي عَبْدِي مَا شَاءَ، قَالَ: وَأَمَّا ظَنُّ الْمَغْفِرَةِ مَعَ الْإِصْرَارِ، فَذَلِكَ مَحْضُ الْجَهْلِ وَالْغِرَّةُ وَهُوَ يَجُرُّ إِلَى مَذْهَبِ الْمُرْجِئَةِ.

قَوْلُهُ: وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، أَيْ: بِعِلْمِي، وَهُوَ كَقَوْلِهِ:{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} وَالْمَعِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ أَخَصُّ مِنَ الْمَعِيَّةِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ} - إِلَى قَوْلِهِ -: {إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} وَقَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ، مَعْنَاهُ فَأَنَا مَعَهُ حَسَبَ مَا قَصَدَ مِنْ ذِكْرِهِ لِي قَالَ: ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ فَقَطْ أَوْ بِالْقَلْبِ فَقَطْ أَوْ بِهِمَا أَوْ بِامْتِثَالِ الْأَمْرِ وَاجْتِنَابِ النَّهْيِ، قَالَ: وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْإِخْبَارُ أَنَّ الذِّكْرَ عَلَى نَوْعَيْنِ أَحَدُهُمَا مَقْطُوعٌ لِصَاحِبِهِ بِمَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الْخَبَرُ، وَالثَّانِي عَلَى خَطَرٍ، قَالَ: وَالْأَوَّلُ يُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} وَالثَّانِي مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ: مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللَّهِ إِلَّا بُعْدًا لَكِنْ إِنْ كَانَ فِي حَالِ الْمَعْصِيَةِ يَذْكُرُ اللَّهَ بِخَوْفٍ وَوَجَلٍ مِمَّا هُوَ فِيهِ فَإِنَّهُ يُرْجَى لَهُ.

قَوْلُهُ: (فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي)، أَيْ: إِنْ ذَكَرَنِي بِالتَّنْزِيهِ وَالتَّقْدِيسِ سِرًّا ذَكَرْتُهُ بِالثَّوَابِ وَالرَّحْمَةِ سِرًّا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} وَمَعْنَاهُ: اذْكُرُونِي بِالتَّعْظِيمِ أَذْكُرْكُمْ بِالْإِنْعَامِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} أَيْ: أَكْبَرُ الْعِبَادَاتِ، فَمَنْ ذَكَرَهُ وَهُوَ خَائِفٌ آمَنَهُ أَوْ مُسْتَوْحِشٌ آنَسَهُ، قَالَ تَعَالَى:{أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} .

قَوْلُهُ (وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَاللَّامِ مَهْمُوزٌ، أَيْ: جَمَاعَةٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: يُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الذِّكْرَ الْخَفِيَّ أَفْضَلُ مِنَ الذِّكْرِ الْجَهْرِيِّ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ بِثَوَابٍ لَا أُطْلِعُ عَلَيْهِ أَحَدًا، وَإِنْ ذَكَرَنِي جَهْرًا ذَكَرْتُهُ بِثَوَابٍ أُطْلِعُ عَلَيْهِ الْمَلَأَ الْأَعْلَى.

وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَفْضَلُ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَعَلَى ذَلِكَ شَوَاهِدُ مِنَ الْقُرْآنِ، مِثْلُ:{إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} وَالْخَالِدُ أَفْضَلُ مِنَ الْفَانِي، فَالْمَلَائِكَةُ أَفْضَلُ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْمَعْرُوفَ عَنْ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ صَالِحِي بَنِي آدَمَ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ الْأَجْنَاسِ، وَالَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ الْفَلَاسِفَةُ ثُمَّ الْمُعْتَزِلَةُ، وَقَلِيلٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ أَهْلِ التَّصَوُّفِ وَبَعْضِ أَهْلِ الظَّاهِرِ، فَمِنْهُمْ مَنْ فَاضَلَ بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ، فَقَالُوا: حَقِيقَةُ الْمَلَكِ أَفْضَلُ مِنْ حَقِيقَةِ الْإِنْسَانِ؛ لِأَنَّهَا نُورَانِيَّةٌ وَخَيِّرَةٌ وَلَطِيفَةٌ مَعَ سَعَةِ الْعِلْمِ وَالْقُوَّةِ وَصَفَاءِ الْجَوْهَرِ، وَهَذَا لَا يَسْتَلْزِمُ تَفْضِيلَ كُلِّ فَرْدٍ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ فِي بَعْضِ الْأَنَاسِيِّ مَا فِي ذَلِكَ وَزِيَادَةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّ الْخِلَافَ بِصَالِحِي الْبَشَرِ وَالْمَلَائِكَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّهُ بِالْأَنْبِيَاءِ، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ فَضَّلَ الْمَلَائِكَةَ عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَضَلَّهُمْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ أَيْضًا إِلَّا عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَمِنْ أَدِلَّةِ تَفْضِيلِ النَّبِيِّ عَلَى الْمَلَكِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ عَلَى سَبِيلِ التَّكْرِيمِ لَهُ، حَتَّى قَالَ إِبْلِيسُ:{أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى الْعِنَايَةِ بِهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ لِلْمَلَائِكَةِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى

الْعَالَمِينَ} وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} فَدَخَلَ فِي

ص: 386

عُمُومِهِ الْمَلَائِكَةُ، وَالْمُسَخَّرُ لَهُ أَفْضَلُ مِنَ الْمُسَخَّرِ؛ وَلِأَنَّ طَاعَةَ الْمَلَائِكَةِ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ وَطَاعَةَ الْبَشَرِ غَالِبًا مَعَ الْمُجَاهَدَةِ لِلنَّفْسِ لِمَا طُبِعَتْ عَلَيْهِ مِنَ الشَّهْوَةِ وَالْحِرْصِ وَالْهَوَى وَالْغَضَبِ، فَكَانَتْ عِبَادَتُهُمْ أَشَقَّ، وَأَيْضًا فَطَاعَةُ الْمَلَائِكَةِ بِالْأَمْرِ الْوَارِدِ عَلَيْهِمْ، وَطَاعَةُ الْبَشَرِ بِالنَّصِّ تَارَةً وَبِالِاجْتِهَادِ تَارَةً وَالِاسْتِنْبَاطِ تَارَةً فَكَانَتْ أَشَقَّ؛ وَلِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ سَلِمَتْ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيَاطِينِ، وَإِلْقَاءِ الشُّبَهِ وَالْإِغْوَاءِ الْجَائِزَةِ عَلَى الْبَشَرِ، وَلِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُشَاهِدُ حَقَائِقَ الْمَلَكُوتِ، وَالْبَشَرُ لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ إِلَّا بِالْإِعْلَامِ فَلَا يَسْلَمُ مِنْهُمْ مِنْ إِدْخَالِ الشُّبْهَةِ مِنْ جِهَةِ تَدْبِيرِ الْكَوَاكِبِ وَحَرَكَةِ الْأَفْلَاكِ إِلَّا الثَّابِتُ عَلَى دِينِهِ وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ وَمُجَاهَدَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَأَمَّا أَدِلَّةُ الْآخَرِينَ فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ حَدِيثَ الْبَابِ أَقْوَى مَا اسْتُدِلَّ بِهِ لِذَلِكَ لِلتَّصْرِيحِ بِقَوْلِهِ فِيهِ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ وَالْمُرَادُ بِهِمُ الْمَلَائِكَةُ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْغُلَاةِ فِي ذَلِكَ، وَكَمْ مِنْ ذَاكِرٍ لِلَّهِ فِي مَلَإٍ فِيهِمْ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَأَجَابَ بَعْضُ أَهْلِ السُّنَّةِ بِأَنَّ الْخَبَرَ الْمَذْكُورَ لَيْسَ نَصًّا وَلَا صَرِيحًا فِي الْمُرَادِ بَلْ يَطْرُقُهُ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْمَلَأِ الَّذِينَ هُمْ خَيْرٌ مِنَ الْمَلَأِ الذَّاكِرِ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ، فَإِنَّهُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ فَلَمْ يَنْحَصِرْ ذَلِكَ فِي الْمَلَائِكَةِ، وَأَجَابَ آخَرُ وَهُوَ

أَقْوَى مِنَ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْخَيْرِيَّةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ بِالذَّاكِرِ وَالْمَلَأِ مَعًا، فَالْجَانِبُ الَّذِي فِيهِ رَبُّ الْعِزَّةِ خَيْرٌ مِنَ الْجَانِبِ الَّذِي لَيْسَ هُوَ فِيهِ بِلَا ارْتِيَابٍ، فَالْخَيْرِيَّةُ حَصَلَتْ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَجْمُوعِ عَلَى الْمَجْمُوعِ، وَهَذَا الْجَوَابُ ظَهَرَ لِي وَظَنَنْتُ أَنَّهُ مُبْتَكَرٌ.

ثُمَّ رَأَيْتُهُ فِي كَلَامِ الْقَاضِي كَمَالِ الدِّينِ بْنِ الزَّمَلْكَانِيِّ فِي الْجُزْءِ الَّذِي جَمَعَهُ فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَابَلَ ذِكْرَ الْعَبْدِ فِي نَفْسِهِ بِذِكْرِهِ لَهُ فِي نَفْسِهِ، وَقَابَلَ ذِكْرَ الْعَبْدِ فِي الْمَلَأِ بِذِكْرِهِ لَهُ فِي الْمَلَأِ، فَإِنَّمَا صَارَ الذِّكْرُ فِي الْمَلَأِ الثَّانِي خَيْرًا مِنَ الذِّكْرِ فِي الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الذَّاكِرُ فِيهِمْ، وَالْمَلَأُ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ وَاللَّهُ فِيهِمْ أَفْضَلُ مِنَ الْمَلَأِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ وَلَيْسَ اللَّهُ فِيهِمْ، وَمِنْ أَدِلَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ تَقْدِيمُ الْمَلَائِكَةِ فِي الذِّكْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ} - {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} - {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ} ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ مُجَرَّدَ التَّقْدِيمِ فِي الذِّكْرِ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّفْضِيلَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْحَصِرْ فِيهِ، بَلْ لَهُ أَسْبَابٌ أُخْرَى كَالتَّقْدِيمِ بِالزَّمَانِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ:{وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ} فَقَدَّمَ نُوحًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ لِتَقَدُّمِ زَمَانِ نُوحٍ مَعَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَفْضَلُ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:{لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} وَبَالَغَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَادَّعَى أَنَّ دَلَالَتَهَا لِهَذَا الْمَطْلُوبِ قَطْعِيَّةٌ بِالنِّسْبَةِ لِعِلْمِ الْمَعَانِي، فَقَالَ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} أَيْ: وَلَا مَنْ هُوَ أَعْلَى قَدْرًا مِنَ الْمَسِيحِ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ الْكَرُوبِيُّونَ الَّذِينَ حَوْلَ الْعَرْشِ، كَجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، قَالَ: وَلَا يَقْتَضِي عِلْمُ الْمَعَانِي غَيْرَ هَذَا مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا سِيقَ لِلرَّدِّ عَلَى النَّصَارَى لِغُلُوِّهِمْ فِي الْمَسِيحِ، فَقِيلَ لَهُمْ: لَنْ يَتَرَفَّعَ الْمَسِيحُ عَنِ الْعُبُودِيَّةِ، وَلَا مَنْ هُوَ أَرْفَعُ دَرَجَةً مِنْهُ، انْتَهَى مُلَخَّصًا، وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّرَقِّيَ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّفْضِيلَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الْمَقَامِ، وَذَلِكَ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْمَسِيحِ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الْمَسِيحَ الَّذِي تُشَاهِدُونَهُ لَمْ يَتَكَبَّرْ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ غَابَ عَنْكُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَا يَتَكَبَّرُ، وَالنُّفُوسُ لِمَا غَابَ عَنْهَا أَهَيْبُ مِمَّنْ تُشَاهِدُهُ؛ وَلِأَنَّ الصِّفَاتِ الَّتِي عَبَدُوا الْمَسِيحَ لِأَجْلِهَا مِنَ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَالِاطِّلَاعِ عَلَى الْمُغَيَّبَاتِ وَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ مَوْجُودَةٌ فِي الْمَلَائِكَةِ، فَإِنْ كَانَتْ تُوجِبُ عِبَادَتَهُ فَهِيَ مُوجِبَةٌ لِعِبَادَتِهِمْ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يَسْتَنْكِفُونَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا التَّرَقِّي ثُبُوتُ الْأَفْضَلِيَّةِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا، وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: احْتَجَّ بِهَذَا الْعَطْفِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَفْضَلُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَالَ: هِيَ مُسَاقَةٌ لِلرَّدِّ عَلَى النَّصَارَى فِي رَفْعِ الْمَسِيحِ عَنْ مَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ أَعْلَى دَرَجَةً مِنْهُ حَتَّى يَكُونَ عَدَمُ اسْتِنْكَافِهِمْ كَالدَّلِيلِ عَلَى عَدَمِ اسْتِنْكَافِهِ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الْآيَةَ سِيقَتْ لِلرَّدِّ عَلَى عَبَدَةِ الْمَسِيحِ وَالْمَلَائِكَةِ، فَأُرِيدَ بِالْعَطْفِ الْمُبَالَغَةُ

ص: 387

بِاعْتِبَارِ الْكَثْرَةِ دُونَ التَّفْضِيلِ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: أَصْبَحَ الْأَمِيرُ لَا يُخَالِفُهُ رَئِيسٌ وَلَا مَرْءُوسٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِ إِرَادَةِ التَّفْضِيلِ، فَغَايَتُهُ تَفْضِيلُ الْمُقَرَّبِينَ مِمَّنْ حَوْلَ الْعَرْشِ، بَلْ مَنْ هُوَ

أَعْلَى رُتْبَةً مِنْهُمْ عَلَى الْمَسِيحِ، وَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ فَضْلَ أَحَدِ الْجِنْسَيْنِ عَلَى الْآخَرِ مُطْلَقًا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لَا تَتِمُّ لَهُمُ الدَّلَالَةُ إِلَّا إِنْ سُلِّمَ أَنَّ الْآيَةَ سِيقَتْ لِلرَّدِّ عَلَى النَّصَارَى فَقَطْ فَيَصِحُّ: لَنْ يَتَرَفَّعَ الْمَسِيحُ عَنِ الْعُبُودِيَّةِ وَلَا مَنْ هُوَ أَرْفَعُ مِنْهُ، وَالَّذِي يَدَّعِي ذَلِكَ يَحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتِ أَنَّ النَّصَارَى تَعْتَقِدُ تَفْضِيلَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْمَسِيحِ، وَهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ بَلْ يَعْتَقِدُونَ فِيهِ الْإِلَهِيَّةَ، فَلَا يَتِمُّ اسْتِدْلَالُ مَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ، قَالَ: وَسِيَاقُهُ الْآيَةَ مِنْ أُسْلُوبِ التَّتْمِيمِ وَالْمُبَالَغَةِ لَا لِلتَّرَقِّي، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدَّمَ قَوْلَهُ:{إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} - إِلَى قَوْلِهِ - {وَكِيلا} فَقَرَّرَ الْوَحْدَانِيَّةَ وَالْمَالِكِيَّةَ وَالْقُدْرَةَ التَّامَّةَ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِعَدَمِ الِاسْتِنْكَافِ، فَالتَّقْدِيرُ لَا يَسْتَحِقُّ مَنِ اتَّصَفَ بِذَلِكَ أَنْ يَسْتَكْبِرَ عَلَيْهِ الَّذِي تَتَّخِذُونَهُ أَيُّهَا النَّصَارَى إِلَهًا لِاعْتِقَادِكُمْ فِيهِ الْكَمَالَ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ اتَّخَذَهَا غَيْرُكُمْ آلِهَةً لِاعْتِقَادِهِمْ فِيهِمُ الْكَمَالَ.

قُلْتُ: وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْبَغَوِيُّ مُلَخَّصًا، وَلَفْظُهُ: لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ رَفْعًا لِمَقَامِهِمْ عَلَى مَقَامِ عِيسَى، بَلْ رَدًّا عَلَى الَّذِينَ يَدَّعُونَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ آلِهَةٌ فَرَدَّ عَلَيْهِمْ كَمَا رَدَّ عَلَى النَّصَارَى الَّذِينَ يَدَّعُونَ التَّثْلِيثَ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:{قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} فَنَفَى أَنْ يَكُونَ مَلَكًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ أَفْضَلُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ إِنَّمَا نَفَى ذَلِكَ لِكَوْنِهِمْ طَلَبُوا مِنْهُ الْخَزَائِنَ وَعِلْمَ الْغَيْبِ، وَأَنْ يَكُونَ بِصِفَةِ الْمَلَكِ مِنْ تَرْكِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ، وَهُوَ مِنْ نَمَطِ إِنْكَارِهِمْ أَنْ يُرْسِلَ اللَّهُ بَشَرًا مِثْلَهُمْ فَنَفَى عَنْهُ أَنَّهُ مَلَكٌ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ التَّفْضِيلَ، وَمِنْهَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا وَصَفَ جِبْرِيلَ وَمُحَمَّدًا، قَالَ فِي جِبْرِيلَ:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} وَقَالَ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} وَبَيْنَ الْوَصْفَيْنِ بَوْنٌ بَعِيدٌ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا سِيقَ لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الَّذِي يَأْتِيهِ - شَيْطَانٌ، فَكَانَ وَصْفُ جِبْرِيلَ بِذَلِكَ تَعْظِيمًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَدْ وَصَفَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بِمِثْلِ مَا وَصَفَ بِهِ جِبْرِيلَ هُنَا وَأَعْظَمَ مِنْهُ، وَقَدْ أَفْرَطَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي سُوءِ الْأَدَبِ هُنَا، وَقَالَ كَلَامًا يَسْتَلْزِمُ تَنْقِيصَ الْمَقَامِ الْمُحَمَّدِيِّ، وَبَالَغَ الْأَئِمَّةُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ مِنْ زَلَّاتِهِ الشَّنِيعَةِ.

قَوْلُهُ: (وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ: بِشِبْرٍ بِزِيَادَةِ مُوَحَّدَةٍ فِي أَوَّلِهِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ التَّوْحِيدِ فِي بَابِ ذِكْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَرِوَايَتِهِ عَنْ رَبِّهِ.

‌16 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ}

7406 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَعُوذُ بِوَجْهِكَ، فَقَالَ:{أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَعُوذُ بِوَجْهِكَ. قَالَ: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: هَذَا أَيْسَرُ.

قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} ، ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا} الْآيَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: هَذَا أَيْسَرُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ السَّكَنِ: هَذِهِ، وَسَقَطَ لَفْظُ الْإِشَارَةِ مِنْ رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ قَوْلُهُ فِيهِ: أَعُوذُ بِوَجْهِكَ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ لِلَّهِ وَجْهًا وَهُوَ مِنْ صِفَةِ ذَاتِهِ، وَلَيْسَ بِجَارِحَةٍ وَلَا كَالْوُجُوهِ الَّتِي

ص: 388

نُشَاهِدُهَا مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، كَمَا نَقُولُ: إِنَّهُ عَالِمٌ، وَلَا نَقُولُ: إِنَّهُ كَالْعُلَمَاءِ الَّذِينَ نُشَاهِدُهُمْ، وَقَالَ غَيْرُهُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّرْجَمَةِ الذَّاتُ الْمُقَدَّسَةُ، وَلَوْ كَانَتْ صِفَةً مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ لَشَمَلَهَا الْهَلَاكُ كَمَا شَمَلَ غَيْرَهَا مِنَ الصِّفَاتِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: أَصْلُ الْوَجْهِ: الْجَارِحَةُ الْمَعْرُوفَةُ، وَلَمَّا كَانَ الْوَجْهُ أَوَّلَ مَا يُسْتَقْبَلُ وَهُوَ أَشْرَفُ مَا فِي ظَاهِرِ الْبَدَنِ، اسْتُعْمِلَ فِي مُسْتَقْبَلِ كُلِّ شَيْءٍ وَفِي مَبْدَئِهِ، وَفِي إِشْرَاقِهِ، فَقِيلَ: وَجْهُ النَّهَارِ، وَقِيلَ: وَجْهُ كَذَا، أَيْ: ظَاهِرُهُ، وَرُبَّمَا أُطْلِقَ الْوَجْهُ عَلَى الذَّاتِ كَقَوْلِهِمْ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} وَقَوْلُهُ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} وَقِيلَ: إِنَّ لَفْظَ الْوَجْهِ صِلَةٌ، وَالْمَعْنَى كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا هُوَ، وَكَذَا:{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْوَجْهِ الْقَصْدُ، أَيْ: يَبْقَى مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ.

قُلْتُ: وَهَذَا الْأَخِيرُ نُقِلَ عَنْ سُفْيَانَ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا وَرَدَ فِيهِ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْقَصَصِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْوَجْهِ فِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ الذَّاتُ أَوِ الْوُجُودُ أَوْ لَفْظُهُ زَائِدٌ، أَوِ الْوَجْهُ الَّذِي لَا كَالْوُجُوهِ، لِاسْتِحَالَةِ حَمْلِهِ عَلَى الْعُضْوِ الْمَعْرُوفِ، فَتَعَيَّنَ التَّأْوِيلُ أَوِ التَّفْوِيضُ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: تَكَرَّرَ ذِكْرُ الْوَجْهِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، وَهُوَ فِي بَعْضِهَا صِفَةُ ذَاتٍ كَقَوْلِهِ: إِلَّا رِدَاءَ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ، وَهُوَ مَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى، وَفِي بَعْضِهَا بِمَعْنَى مِنْ أَجْلِ كَقَوْلِهِ:{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} وَفِي بَعْضِهَا بِمَعْنَى الرِّضَا كَقَوْلِهِ: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} ، {إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْجَارِحَةَ جَزْمًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌17 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} تُغَذَّى، وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ:{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا}

7407 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: ذُكِرَ الدَّجَّالُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ، إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى عَيْنِهِ - وَإِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى، كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ.

7408 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنَا قَتَادَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَنْذَرَ قَوْمَهُ الْأَعْوَرَ الْكَذَّابَ، إِنَّهُ أَعْوَرُ وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} تُغَذَّى) كَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْأَصِيلِيِّ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ ثَقِيلَةٌ مِنَ التَّغْذِيَةِ، وَوَقَعَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَلَيْسَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ عَلَى حَذَفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فَإِنَّهُ تَفْسِيرُ تُصْنَعَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ طَهَ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: هَذَا التَّفْسِيرُ لِقَتَادَةَ، وَيُقَالُ: صَنَعْتُ الْفَرَسَ إِذَا أَحْسَنْتَ الْقِيَامَ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} ، أَيْ: بِعِلْمِنَا، وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيِ ابْنِ عُمَرَ، ثُمَّ أَنَسٍ فِي ذِكْرِ الدَّجَّالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَا مَشْرُوحَيْنِ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ، وَفِيهِمَا أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، وَقَوْلُهُ هُنَا وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى عَيْنِهِ كَذَا لِلْأَكْثَرِ عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ جُوَيْرِيَةَ، وَذَكَرَهُ أَبُو مَسْعُودٍ فِي الْأَطْرَافِ عَنْ مُسَدَّدٍ بَدَلَ مُوسَى، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ عُثْمَانُ الدَّارِمِيُّ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ، عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ، مِثْلَهُ. وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءٍ عَنْ عَمِّهِ جُوَيْرِيَةَ بِدُونِ الزِّيَادَةِ الَّتِي فِي آخِرِهِ، أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى، وَالْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ فِي مُسْنَدَيْهِمَا عَنْهُ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ عَنْهُمَا، قَالَ الرَّاغِبُ: الْعَيْنُ: الْجَارِحَةُ، وَيُقَالُ لِلْحَافِظِ لِلشَّيْءِ الْمُرَاعِي لَهُ: عَيْنٌ، وَمِنْهُ فُلَانٌ

ص: 389

بِعَيْنِي أَيْ أَحْفَظُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} أَيْ: نَحْنُ نَرَاكَ وَنَحْفَظُكَ، وَمِثْلُهُ:{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} وَقَوْلُهُ: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} أَيْ: بِحِفْظِي، قَالَ: وَتُسْتَعَارُ الْعَيْنُ لِمَعَانٍ أُخْرَى كَثِيرَةٍ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: احْتَجَّتِ الْمُجَسِّمَةُ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ: وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى عَيْنِهِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ عَيْنَهُ كَسَائِرِ الْأَعْيُنِ، وَتُعُقِّبَ بِاسْتِحَالَةِ الْجِسْمِيَّةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْجِسْمَ حَادِثٌ وَهُوَ قَدِيمٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ النَّقْصِ عَنْهُ، انْتَهَى.

وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْعَيْنُ صِفَةُ ذَاتٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْوَجْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِالْعَيْنِ الرُّؤْيَةُ، فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ:{وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} أَيْ: لِتَكُونَ بِمَرْأًى مِنِّي، وَكَذَا قَوْلُهُ:{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} أَيْ: بِمَرْأًى مِنَّا وَالنُّونُ لِلتَّعْظِيمِ، وَمَالَ إِلَى تَرْجِيحِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ مَذْهَبُ السَّلَفِ، وَيَتَأَيَّدُ بِمَا وَقَعَ فِي الْحَدِيثِ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ فَإِنَّ فِيهِ إِيمَاءً إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ يَقُولُ مَعْنَاهَا الْقُدْرَةُ، صَرَّحَ بِذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا صِفَةَ ذَاتٍ.

وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِثْبَاتِ الْعَيْنِ لِلَّهِ مِنْ حَدِيثِ الدَّجَّالِ، مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْعَوَرَ عُرْفًا عَدَمُ الْعَيْنِ وَضِدُّ الْعَوَرِ ثُبُوتُ الْعَيْنِ، فَلَمَّا نُزِعَتْ هَذِهِ النَّقِيصَةُ لَزِمَ ثُبُوتُ الْكَمَالِ بِضِدِّهَا وَهُوَ وُجُودُ الْعَيْنِ، وَهُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ وَالتَّقْرِيبِ لِلْفَهْمِ لَا عَلَى مَعْنَى إِثْبَاتِ الْجَارِحَةِ، قَالَ: وَلِأَهْلِ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ كَالْعَيْنِ وَالْوَجْهِ وَالْيَدِ ثَلَاثَةٌ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنَّهَا صِفَاتُ ذَاتٍ أَثْبَتَهَا السَّمْعُ وَلَا يَهْتَدِي إِلَيْهَا الْعَقْلُ، وَالثَّانِي أَنَّ الْعَيْنَ كِنَايَةٌ عَنْ صِفَةِ الْبَصَرِ، وَالْيَدَ كِنَايَةٌ عَنْ صِفَةِ الْقُدْرَةِ، وَالْوَجْهَ كِنَايَةٌ عَنْ صِفَةِ الْوُجُودِ، وَالثَّالِثُ إِمْرَارُهَا عَلَى مَا جَاءَتْ مُفَوَّضًا مَعْنَاهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ السَّهْرَوَرْدِيُّ فِي كِتَابِ الْعَقِيدَةِ لَهُ، أَخْبَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَثَبَتَ عَنْ رَسُولِهِ الِاسْتِوَاءُ وَالنُّزُولُ وَالنَّفْسُ وَالْيَدُ وَالْعَيْنُ، فَلَا يُتَصَرَّفُ فِيهَا بِتَشْبِيهٍ وَلَا تَعْطِيلٍ، إِذْ لَوْلَا إِخْبَارُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَا تَجَاسَرَ عَقْلٌ أَنْ يَحُومَ حَوْلَ ذَلِكَ الْحِمَى، قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْمُعْتَمَدُ، وَبِهِ يَقُولُ السَّلَفُ الصَّالِحُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: لَمْ يُنْقَلْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ التَّصْرِيحُ بِوُجُوبِ تَأْوِيلِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا الْمَنْعُ مِنْ ذِكْرِهِ، وَمِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ بِتَبْلِيغِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَيُنْزِلَ عَلَيْهِ:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ثُمَّ يَتْرُكَ هَذَا الْبَابَ فَلَا يُمَيِّزَ مَا يَجُوزُ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ

مِمَّا لَا يَجُوزُ مَعَ حَضِّهِ عَلَى التَّبْلِيغِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، حَتَّى نَقَلُوا أَقْوَالَهُ وَأَفْعَالَهُ وَأَحْوَالَهُ وَصِفَاتِهُ، وَمَا فُعِلَ بِحَضْرَتِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى الْإِيمَانِ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَرَادَهُ اللَّهُ مِنْهَا، وَوَجَبَ تَنْزِيهُهُ عَنْ مُشَابَهَةِ الْمَخْلُوقَاتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فَمَنْ أَوْجَبَ خِلَافَ ذَلِكَ بَعْدَهُمْ فَقَدْ خَالَفَ سَبِيلَهُمْ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَقَدْ سُئِلْتُ: هَلْ يَجُوزُ لِقَارِئِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنْ يَصْنَعَ كَمَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَجَبْتُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ أنَّهُ إِنْ حَضَرَ عِنْدَهُ مَنْ يُوَافِقُهُ عَلَى مُعْتَقَدِهِ، وَكَانَ يَعْتَقِدُ تَنْزِيهَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ صِفَاتِ الْحُدُوثِ وَأَرَادَ التَّأَسِّي مَحْضًا جَازَ، وَالْأَوْلَى بِهِ التَّرْكُ خَشْيَةَ أَنْ يُدْخِلَ عَلَى مَنْ يَرَاهُ شُبْهَةَ التَّشْبِيهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَلَمْ أَرَ فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنَ الشُّرَّاحِ فِي حَمْلِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَعْنًى خَطَرَ لِي فِيهِ إِثْبَاتُ التَّنْزِيهِ، وَحَسْمُ مَادَّةِ التَّشْبِيهِ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى عَيْنِهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَيْنِ الدَّجَّالِ فَإِنَّهَا كَانَتْ صَحِيحَةً مِثْلَ هَذِهِ، ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهَا الْعَوَرُ لِزِيَادَةِ كَذِبِهِ فِي دَعْوَى الْإِلَهِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ صَحِيحَ الْعَيْنِ مِثْلَ هَذِهِ فَطَرَأَ عَلَيْهَا النَّقْصُ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ دَفْعَ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ.

‌18 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ}

7409 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا مُوسَى - هُوَ ابْنُ عُقْبَةَ -، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ

ص: 390

يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنْ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ أَنَّهُمْ أَصَابُوا سَبَايَا، فَأَرَادُوا أَنْ يَسْتَمْتِعُوا بِهِنَّ وَلَا يَحْمِلْنَ، فَسَأَلُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْعَزْلِ، فَقَالَ: مَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ كَتَبَ مَنْ هُوَ خَالِقٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ عَنْ قَزَعَةَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ، فَقَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَيْسَتْ نَفْسٌ مَخْلُوقَةٌ إِلَّا اللَّهُ خَالِقُهَا.

قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَالتِّلَاوَةُ:{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ} إِلَخْ، وَثَبَتَ كَذَلِكَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ رِوَايَةِ كَرِيمَةَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قِيلَ: إِنَّ الْأَلْفَاظَ الثَّلَاثَةَ مُتَرَادِفَةٌ، وَهُوَ وَهْمٌ، فَإِنَّ الْخَالِقَ مِنَ الْخَلْقِ، وَأَصْلُهُ التَّقْدِيرُ الْمُسْتَقِيمُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْإِبْدَاعِ وَهُوَ إِيجَادُ الشَّيْءِ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وَعَلَى التَّكْوِينِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} وَ: الْبَارِئُ مِنَ الْبُرْءِ، وَأَصْلُهُ خُلُوصُ الشَّيْءِ عَنْ غَيْرِهِ، إِمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّقَصِّي مِنْهُ، وَعَلَيْهِ قَوْلُهُمْ: بَرأ فُلَانٌ مِنْ مَرَضِهِ، وَالْمَدْيُونَ مِنْ دَيْنِهِ، وَمِنْهُ اسْتَبْرَأْتِ الْجَارِيَةُ، وَإِمَّا عَلَى سَبِيلِ الْإِنْشَاءِ، وَمِنْهُ بَرَأَ اللَّهُ النَّسَمَةَ، وَقِيلَ: الْبَارِئُ الْخَالِقُ الْبَرِئُ مِنَ التَّفَاوُتِ وَالتَّنَافُرِ الْمُخِلَّيْنِ بِالنِّظَامِ، وَالْمُصَوِّرُ مُبْدِعُ صُوَرَ الْمُخْتَرَعَاتِ وَمُرَتِّبُهَا بِحَسَبِ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ، فَاللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ مُوجِدُهُ مِنْ أَصْلٍ وَمِنْ غَيْرِ أَصْلٍ، وَبَارِئُهُ بِحَسَبِ مَا اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ وَلَا اخْتِلَالٍ، وَمُصَوِّرُهُ فِي صُورَةٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا خَوَاصُّهُ وَيَتِمُّ بِهَا كَمَالُهُ، وَالثَّلَاثَةُ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ إِلَّا إِذَا أُرِيدَ بِالْخَالِقِ الْمُقَدِّرُ فَيَكُونُ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ؛ لِأَنَّ مَرْجِعَ التَّقْدِيرِ إِلَى الْإِرَادَةِ، وَعَلَى هَذَا فَالتَّقْدِيرُ يَقَعُ أَوَّلًا، ثُمَّ الْإِحْدَاثُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُقَدَّرِ يَقَعُ ثَانِيًا، ثُمَّ التَّصْوِيرُ بِالتَّسْوِيَةِ يَقَعُ ثَالِثًا انْتَهَى.

وَقَالَ الْحَلِيمِيُّ: الْخَالِقُ مَعْنَاهُ الَّذِي جَعَلَ الْمُبْدَعَاتِ أَصْنَافًا، وَجَعَلَ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنْهَا قَدْرًا، وَالْبَارِئُ مَعْنَاهُ الْمُوجِدُ لِمَا كَانَ فِي مَعْلُومِهِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ:{مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ قَالَبُ الْأَعْيَانِ؛ لِأَنَّهُ أَبْدَعَ الْمَاءَ وَالتُّرَابَ وَالنَّارَ وَالْهَوَاءَ لَا مِنْ شَيْءٍ، ثُمَّ خَلَقَ مِنْهَا الْأَجْسَامَ الْمُخْتَلِفَةَ، وَالْمُصَوِّرُ مَعْنَاهُ الْمُهَيِّئُ لِلْأَشْيَاءِ عَلَى مَا أَرَادَهُ مِنْ تَشَابُهٍ وَتَخَالُفٍ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: لَيْسَ الْخَلْقُ بِمَعْنَى الْإِبْدَاعِ إِلَّا لِلَّهِ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} وَأَمَّا الَّذِي يُوجَدُ بِالِاسْتِحَالَةِ فَقَدْ وَقَعَ لِغَيْرِهِ بِتَقْدِيرِهِ سبحانه وتعالى، مِثْلُ قَوْلِهِ لِعِيسَى:{وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي} وَالْخَلْقُ فِي حَقِّ غَيْرِ اللَّهِ يَقَعُ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ وَبِمَعْنَى الْكَذِبِ، وَالْبَارِئُ أَخَصُّ بِوَصْفِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْبَرِيَّةُ الْخَلْقُ، قِيلَ: أَصْلُهُ الْهَمْزُ فَهُوَ مِنْ بَرَّأَ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ الْبَرِّيُّ مِنْ بَرَيْتُ الْعُودَ، وَقِيلَ: الْبَرِيَّةُ مِنَ الْبَرَى بِالْقَصْرِ وَهُوَ التُّرَابُ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مُوجِدُ الْخَلْقَ مِنَ الْبَرَى وَهُوَ التُّرَابُ، وَالْمُصَوِّرُ مَعْنَاهُ الْمُهَيِّئُ، قَالَ تَعَالَى:{يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} وَالصُّورَةُ فِي الْأَصْلِ مَا يَتَمَيَّزُ بِهِ الشَّيْءُ عَنْ غَيْرِهِ، وَمِنْهُ مَحْسُوسٌ كَصُورَةِ الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ، وَمِنْهُ مَعْقُولٌ كَالَّذِي اخْتَصَّ بِهِ الْإِنْسَانُ مِنَ الْعَقْلِ وَالرُّؤْيَةِ، وَإِلَى كُلٍّ مِنْهُمَا الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} ، {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} ، {هُوَ الَّذِي

يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ}

قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ هُوَ ابْنُ مَنْصُورٍ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُظَنُّ أَنَّهُ ابْنُ رَاهْوَيْهِ لِكَوْنِهِ أَيْضًا رَوَى عَنْ عَفَّانَ، أَنَّ ابْنَ رَاهْوَيْهِ لَا يَقُولُ إِلَّا أَخْبَرَنَا، وَهُنَا ثَبَتَ فِي النُّسَخِ: حَدَّثَنَا فَتَأَيَّدَ أَنَّهُ ابْنُ مَنْصُورٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَذْكُورِ هُنَا فِي الْعَزْلِ فِي (كِتَابِ النِّكَاحِ) مُسْتَوْفًى.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ، عَنْ قَزْعَةَ) هُوَ ابْنُ يَحْيَى، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَقْرَانِ؛ لِأَنَّ مُجَاهِدًا وهُوَ

ص: 391

ابْنُ جَبْرٍ الْمُفَسِّرَ الْمَشْهُورَ الْمَكِّيَّ فِي طَبَقَةِ قَزْعَةَ.

قَوْلُهُ: سَأَلْتُ أَبَا سَعِيدٍ، فَقَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، كَذَا وَقَعَ هُنَا بِحَذْفِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ، وَوَقَعَ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ: سَمِعْتُ بَدَلَ سَأَلْتُ، وَقَدْ وَصَلَهُ مُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الثَّلَاثَةُ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِ: (ذُكِرَ الْعَزْلُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: وَلِمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ؟ وَلَمْ يَقُلْ: فَلَا يَفْعَلْ ذَلِكَ، ثُمَّ ذَكَرَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ وَهُوَ الْقَدْرُ الْمَذْكُورُ مِنْهُ هُنَا، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْخَالِقُ فِي هَذَا الْبَابِ يُرَادُ بِهِ الْمُبْدِعُ الْمُنْشِئُ لِأَعْيَانِ الْمَخْلُوقِينَ، وَهُوَ مَعْنًى لَا يُشَارِكُ اللَّهَ فِيهِ أَحَدٌ، قَالَ: وَلَمْ يَزَلِ اللَّهُ مُسَمِّيًا نَفْسَهُ خَالِقًا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ سَيَخْلُقُ لِاسْتِحَالَةٍ قِدَمِ الْخَلْقِ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: مَعْنَى قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: إِلَّا وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ، أَيْ: مَقْدَّرَةُ الْخَلْقِ، أَوْ مَعْلُومَةُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ، لَا بُدَّ مِنْ إِبْرَازِهَا إِلَى الْوُجُودِ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

‌19 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}

7410 -

حَدَّثَنِي مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: يَجْمَعُ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ، فَيَقُولُونَ: لَوْ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا، فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: يَا آدَمُ، أَمَا تَرَى النَّاسَ؟ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّك حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا. فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكَ - وَيَذْكُرُ لَهُمْ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَهَا - وَلَكِنْ ائْتُوا نُوحًا فَإِنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ - وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ - وَلَكِنْ ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ. فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ - وَيَذْكُرُ لَهُمْ خَطَايَاهُ الَّتِي أَصَابَهَا - وَلَكِنْ ائْتُوا مُوسَى عَبْدًا آتَاهُ اللَّهُ التَّوْرَاةَ وَكَلَّمَهُ تَكْلِيمًا. فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ - وَيَذْكُرُ لَهُمْ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ - وَلَكِنْ ائْتُوا عِيسَى عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ وَكَلِمَتَهُ وَرُوحَهُ.

فَيَأْتُونَ عِيسَى، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَلَكِنْ ائْتُوا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم عَبْدًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فَيَأْتُونِني، فَأَنْطَلِقُ فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ لَهُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يُقَالُ لِي: ارْفَعْ مُحَمَّدُ، قُلْ يُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ عَلَّمَنِيهَا، ثُمَّ أَشْفَعُ، فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَرْجِعُ فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ، وَقُلْ: يُسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ عَلَّمَنِيهَا، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَرْجِعُ فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ، قُلْ يُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ عَلَّمَنِيهَا، ثُمَّ أَشْفَعْ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ ثُمَّ أَرْجِعُ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، مَا بَقِيَ فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ، فقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَكَانَ فِي قَلْبِهِ

ص: 392

مِنْ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ شَعِيرَةً، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ بُرَّةً، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مَا يَزِنُ مِنْ الْخَيْرِ ذَرَّةً.

7411 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "يَدُ اللَّهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَقَالَ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ وَقَالَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَبِيَدِهِ الأُخْرَى الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ

7412 -

حَدَّثَنَا مُقَدَّمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنِي عَمِّي الْقَاسِمُ بْنُ يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ إِنَّ اللَّهَ يَقْبِضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الأَرْضَ وَتَكُونُ السَّمَوَاتُ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ رَوَاهُ سَعِيدٌ عَنْ مَالِكٍ

7413 -

وَقَالَ عُمَرُ بْنُ حَمْزَةَ سَمِعْتُ سَالِمًا سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا وَقَالَ أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَقْبِضُ اللَّهُ الأَرْضَ

7414 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ سَمِعَ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ وَسُلَيْمَانُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ يَهُودِيًّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ وَالأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ وَالْجِبَالَ عَلَى إِصْبَعٍ وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ وَالْخَلَائِقَ عَلَى إِصْبَعٍ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ ثُمَّ قَرَأَ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَزَادَ فِيهِ فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَعَجُّبًا وَتَصْدِيقًا لَهُ

7415 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلْقَمَةَ، يَقُولُ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ وَالْأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ وَالشَّجَرَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ وَالْخَلَائِقَ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الْمَلِكُ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ. ثُمَّ قَرَأَ:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} .

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِثْبَاتُ يَدَيْنِ لِلَّهِ، وَهُمَا صِفَتَانِ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ، وَلَيْسَتَا بِجَارِحَتَيْنِ خِلَافًا لِلْمُشَبِّهَةِ مِنَ الْمُثْبِتَةِ، وَلِلْجَهْمِيَّةِ مِنَ الْمُعَطِّلَةِ، وَيَكْفِي فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُمَا بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ، أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ لَهُ قُدْرَةَ وَاحِدَةً فِي قَوْلِ الْمُثْبِتَةِ وَلَا قُدْرَةَ له فِي قَوْلِ النُّفَاةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ قَادِرٌ لِذَاتِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْيَدَيْنِ لَيْسَتَا بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ أَنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لِإِبْلِيسَ:{مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}

ص: 393

إِشَارَةً إِلَى الْمَعْنَى الَّذِي أَوْجَبَ السُّجُودَ فَلَوْ كَانَتِ الْيَدُ بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ آدَمَ وَإِبْلِيسَ فَرْقٌ لِتَشَارُكِهِمَا فِيمَا خُلِقَ كل مِنْهُمَا بِهِ، وَهِيَ قُدْرَتُهُ؛ وَلَقَالَ إِبْلِيسُ: وَأَيُّ فَضِيلَةٍ لَهُ عَلَيَّ وَأَنَا خَلَقْتَنِي بِقُدْرَتِكَ كَمَا خَلَقْتَهُ بِقُدْرَتِكَ، فَلَمَّا قَالَ:{خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} دَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِ آدَمَ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ بِيَدَيْهِ، قَالَ: وَلَا جَائِزَ أَنْ يُرَادَ بِالْيَدَيْنِ النِّعْمَتَانِ، لِاسْتِحَالَةِ خَلْقِ الْمَخْلُوقِ بِمَخْلُوقٍ؛ لِأَنَّ النِّعَمَ مَخْلُوقَةٌ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِمَا صِفَتَيْ ذَاتٍ أَنْ يَكُونَا جَارِحَتَيْنِ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ قَوْلُهُ: وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى الْمِيزَانَ، يَدْفَعُ تَأْوِيلَ الْيَدِ هُنَا بِالْقُدْرَةِ، وَكَذَا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ، فَأَخَذَهُ بِيَمِينِهِ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ.

الْحَدِيثَ، وَقَالَ ابْنُ فَوْرَكٍ: قِيلَ الْيَدُ بِمَعْنَى الذَّاتِ، وَهَذَا يَسْتَقِيمُ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} بِخِلَافِ قَوْلِهِ: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فَإِنَّهُ سِيقَ لِلرَّدِّ عَلَى إِبْلِيسَ؛ فَلَوْ حُمِلَ عَلَى الذَّاتِ لَمَا اتَّجَهَ الرَّدُّ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هَذَا يُسَاقُ مَسَاقَ التَّمْثِيلِ لِلتَّقْرِيبِ؛ لِأَنَّهُ عُهِدَ أَنَّ مَنِ اعْتَنَى بِشَيْءٍ وَاهْتَمَّ بِهِ بَاشَرَهُ بِيَدَيْهِ، فَيُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْعِنَايَةَ بِخَلْقِ آدَمَ كَانَتْ أَتَمَّ مِنَ الْعِنَايَةِ بِخَلْقِ غَيْرِهِ، وَالْيَدُ فِي اللُّغَةِ تُطْلَقُ لِمَعَانٍ كَثِيرَةٍ اجْتَمَعَ لَنَا مِنْهَا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ مَعْنًى مَا بَيْنَ حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ: الْأَوَّلُ الْجَارِحَةُ، الثَّانِي الْقُوَّةُ، نَحْوُ:{دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ} الثَّالِثُ: الْمُلْكُ: {إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} الرَّابِعُ: الْعَهْدُ: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} وَمِنْهُ قَوْلُهُ: هَذِي يَدَيَّ لَكَ بِالْوَفَاءِ، الْخَامِسُ: الِاسْتِسْلَامُ وَالِانْقِيَادُ، قَالَ الشَّاعِرُ:

أَطَاعَ يَدًا بِالْقَوْلِ فَهُوَ ذَلُولٌ،

السَّادِسُ: النِّعْمَةُ، قَالَ:

وَكَمْ لِظَلَامِ اللَّيْلِ عِنْدِي مِنْ يَدٍ

السَّابِعُ: الْمُلْكُ: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} الثَّامِنُ: الذُّلُّ: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} التَّاسِعُ: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} الْعَاشِرُ: السُّلْطَانُ، الْحَادِي عَشَرَ: الطَّاعَةُ، الثَّانِي عَشَرَ: الْجَمَاعَةُ، الثَّالِثَ عَشَرَ: الطَّرِيقُ، يُقَالُ: أَخَذَتْهُمْ يَدُ السَّاحِلِ، وَالرَّابِعَ عَشَرَ: التَّفَرُّقُ تَفَرَّقُوا أَيَادِي سَبَأ، الْخَامِسَ عَشَرَ: الْحِفْظُ، السَّادِسَ عَشَرَ: يَدُ الْقَوْسِ أَعْلَاهَا، السَّابِعَ عَشَرَ: يَدُ السَّيْفِ مِقْبَضُهُ، الثَّامِنَ عَشَرَ: يَدُ الرَّحَى عُودُ الْقَابِضِ، التَّاسِعَ عَشَرَ: جَنَاحُ الطَّائِرِ، الْعِشْرُونَ: الْمُدَّةُ، يُقَالُ لَا أَلْقَاهُ يَدُ الدَّهْرِ، الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: الِابْتِدَاءُ، يُقَالُ: لَقِيتُهُ أَوَّلَ ذَاتِ يَدِي، وَأَعْطَاهُ عَنْ ظَهْرِ يَدٍ، الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: يَدُ الثَّوْبِ مَا فَضَلَ مِنْهُ، الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: يَدُ الشَّيْءِ أَمَامُهُ، الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: الطَّاقَةُ، الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: النَّقْدُ، نَحْوُ: بِعْتُهُ يَدًا بِيَدٍ. ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْبَابِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ لِلثَّالِثِ مِنْهَا أَرْبَعَةُ طُرُقٍ، وَلِلرَّابِعِ طَرِيقَانِ.

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: حَدِيثُ أَنَسٍ فِي الشَّفَاعَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الرِّقَاقِ وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُ أَهْلِ الْمَوْقِفِ لِآدَمَ: خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ، وَحَكَى بَعْضُهُمْ ضَمَّ الْفَاءِ وَهِشَامٌ شَيْخُهُ هُوَ الدَّسْتَوَائِيُّ، وَقَوْلُهُ عَنْ أَنَسٍ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ فِي الرِّقَاقِ إِلَى مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ بِلَفْظِ: حَدَّثَنَا أَنَسٌ.

قَوْلُهُ: (يُجْمَعُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ) هَكَذَا لِلْجَمِيعِ وَأَظُنُّ أَوَّلَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ لَامٌ، وَالْإِشَارَةُ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ لِمَا يُذْكَرُ بَعْدُ، وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ مُعَاذِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ: يَجْمَعُ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَهْتَمُّونَ لِذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ: يَهْتَمُّونَ - أَوْ - يُلْهَمُونَ لِذَلِكَ بِالشَّكِّ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} مِنْ رِوَايَةِ هَمَّامٍ، عَنْ قَتَادَةَ: حَتَّى يُهِمُّوا بِذَلِكَ، وَقَوْلُهُ هُنَا: اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الطَّرِيقِ، وَوَقَعَ لِأَبِي ذَرٍّ عَنْ غَيْرِ الْكُشْمِيهَنِيِّ شَفِّعْ بِكَسْرِ الْفَاءِ الثَّقِيلَةِ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ هُوَ مِنَ التَّشْفِيعِ، وَمَعْنَاهُ قَبُولُ الشَّفَاعَةِ، ولَيْسَ هُوَ الْمُرَادُ هُنَا، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ التَّثْقِيلُ لِلتَّكْثِيرِ أَوْ لِلْمُبَالَغَةِ. وَقَوْلُهُ: لَسْتُ هُنَاكَ كَذَا لِلْأَكْثَرِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَلِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ السَّرَخْسِيِّ: هُنَاكُمْ، وَقَوْلُهُ: فَيُؤْذَنُ لِي، فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: وَيُؤْذَنُ لِي بِالْوَاوِ، وَقَوْلُهُ: قُلْ

ص: 394

يُسْمَعْ، كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالتَّحْتَانِيَّةِ وَلِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ السَّرَخْسِيِّ، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ بِالْفَوْقَانِيَّةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَقَوْلُهُ: سَلْ تُعْطَهُ لِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْمُسْتَمْلِي: تُعْطَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِلَا هَاءٍ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ.

قَوْلُهُ: (يَدُ اللَّهِ) تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ هُودٍ فِي أَوَّلِ هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الزِّيَادَةِ: أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ، وَوَقَعَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ لَكِنْ سَاقَهَا فِيهِ مُسْلِمٌ، وَأَفْرَدَهَا الْبُخَارِيُّ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ:{يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} وَوَقَعَ فِيهَا بَدَلَ يَدُ اللَّهِ يَمِينُ اللَّهِ، وَيُتَعَقَّبُ بِهَا عَلَى مَنْ فَسَّرَ الْيَدَ هُنَا بِالنِّعْمَةِ، وَأَبْعَدُ مِنْهُ مَنْ فَسَّرَهَا بِالْخَزَائِنِ، وَقَالَ: أَطْلَقَ الْيَدَ عَلَى الْخَزَائِنِ لِتَصَرُّفِهَا فِيهَا.

قَوْلُهُ: (مَلْأَى) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَهَمْزَةٍ مَعَ الْقَصْرِ تَأْنِيثُ مَلْآنَ وَوَقَعَ بِلَفْظِ: مَلْآنَ. فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، وَقِيلَ هِيَ غَلَطٌ، وَوَجَّهَهَا بَعْضُهُمْ بِإِرَادَةِ الْيَمِينِ، فَإِنَّهَا تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ، وَكَذَلِكَ الْكَفُّ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: مَلْأَى أَوْ مَلْآنَ لَازِمُهُ وَهُوَ أَنَّهُ فِي غَايَةِ الْغِنَى وَعِنْدَهُ مِنَ الرِّزْقِ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ فِي عِلْمِ الْخَلَائِقِ.

قَوْلُهُ: (لَا يَغِيضُهَا) بِالْمُعْجَمَتَيْنِ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، أَيْ: لَا يُنْقِصُها، يُقَالُ: غَاضَ الْمَاءُ يَغِيضُ إِذَا نَقَصَ.

قَوْلُهُ: (سَحَّاءُ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَتَيْنِ مُثَقَّلٌ مَمْدُودٌ، أَيْ: دَائِمَةُ الصَّبِّ، يُقَالُ: سَحَّ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مُثَقَّلٌ، يَسِحُّ بِكَسْرِ السِّينِ فِي الْمُضَارِعِ، وَيَجُوزُ ضَمُّهَا، وَضُبِطَ فِي مُسْلِمٍ: سَحًّا بِلَفْظِ الْمَصْدَرِ.

قَوْلُهُ: (اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِ، أَيْ: فِيهِمَا، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: سَحَّ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ بِالْإِضَافَةِ وَفَتْحِ الْحَاءِ وَيَجُوزُ ضَمُّهَا.

قَوْلُهُ: (أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ) تَنْبِيهٌ عَلَى وُضُوحِ ذَلِكَ لِمَنْ لَهُ بَصِيرَةٌ.

قَوْلُهُ: (مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) سَقَطَ لَفْظُ الْجَلَالَةِ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ وَهُوَ رِوَايَةُ هَمَّامٍ.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ)، أَيْ: يَنْقُصْ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ: لَمْ يَنْقُصْ مَا فِي يَمِينِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَلْأَى وَلَا يَغِيضُهَا: وَسَحَّاءُ وَأَرَأَيْتَ أَخْبَارًا مُتَرَادِفَةً لِيَدِ اللَّهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الثَّلَاثَةُ أَوْصَافًا لِمَلْأَى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: أَرَأَيْتُمْ اسْتِئْنَافًا فِيهِ مَعْنَى التَّرَقِّي، كَأَنَّهُ لَمَّا قِيلَ: مَلْأَى أَوْهَمَ جَوَازَ النُّقْصَانِ فَأُزِيلَ بِقَوْلِهِ: لَا يَغِيضُهَا شَيْءٌ، وَقَدْ يَمْتَلِئُ الشَّيْءُ وَلَا يَغِيضُ، فَقِيلَ: سَحَّاءُ إِشَارَةٌ إِلَى الْغَيْضِ وَقَرَنَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ مِنْ ذِكْرِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ ظَاهِرٌ غَيْرُ خَافٍ عَلَى ذِي بَصَرٍ وَبَصِيرَةٍ بَعْدَ أَنِ اشْتَمَلَ مِنْ ذِكْرِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ بِقَوْلِهِ: أَرَأَيْتُمْ عَلَى تَطَاوُلِ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهُ خِطَابٌ عَامٌّ وَالْهَمْزَةُ فِيهِ لِلتَّقْرِيرِ، قَالَ: وَهَذَا الْكَلَامُ إِذَا أَخَذْتَهُ بِجُمْلَتِهِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى مُفْرَدَاتِهِ أَبَانَ زِيَادَةَ الْغِنَى وَكَمَالَ السَّعَةِ وَالنِّهَايَةَ فِي الْجُودِ وَالْبَسْطَ فِي الْعَطَاءِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ: عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) سَقَطَ لَفْظُ: قَالَ مِنْ رِوَايَةِ هَمَّامٍ، وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِ الْعَرْشِ هُنَا أَنَّ السَّامِعَ يَتَطَلَّعُ مِنْ قَوْلِهِ: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَرْشَهُ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كان عَلَى الْمَاءِ كَمَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ الْمَاضِي فِي بَدْءِ الْخَلْقِ بِلَفْظِ: كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ.

قَوْلُهُ: (وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى الْمِيزَانَ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ)، أَيْ: يَخْفِضُ الْمِيزَانَ وَيَرْفَعُهَا، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمِيزَانُ مَثَلٌ، وَالْمُرَادُ الْقِسْمَةُ بَيْنَ الْخَلْقِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: مَعْنَى الْمِيزَانِ أَنَّهُ قَدَّرَ الْأَشْيَاءَ وَوَقَّتَهَا وَحَدَّدَهَا فَلَا يَمْلِكُ أَحَدٌ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مِنْهُ وَبِهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ: وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى الْفَيْضُ أَوِ الْقَبْضُ الْأُولَى بِفَاءٍ وَتَحْتَانِيَّةٍ، وَالثَّانِيَةُ بِقَافٍ وَمُوَحَّدَةٍ، كَذَا لِلْبُخَارِيِّ بِالشَّكِّ، وَلِمُسْلِمٍ بِالْقَافِ وَالْمُوَحَّدَةِ بِلَا شَكٍّ، وَعَنْ بَعْضِ رُوَاتِهِ فِيمَا حَكَاهُ عِيَاضٌ بِالْفَاءِ وَالتَّحْتَانِيَّةِ وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ، قَالَ عِيَاضٌ: الْمُرَادُ بِالْقَبْضِ قَبْضُ الْأَرْوَاحِ بِالْمَوْتِ، وَبِالْفَيْضِ الْإِحْسَانُ بِالْعَطَاءِ، وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْمَوْتِ، يُقَالُ: فَاضَتْ نَفْسُهُ إِذَا مَاتَ، وَيُقَالُ: بِالضَّادِ وَبِالظَّاءِ، اهـ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُفَسَّرَ بِمَعْنَى الْمِيزَانِ لِيُوَافِقَ رِوَايَةَ الْأَعْرَجِ الَّتِي فِي هَذَا الْبَابِ فَإِنَّ الَّذِي يُوزَنُ بِالْمِيزَانِ يَخِفُّ وَيَرْجَحُ، فَكَذَلِكَ مَا يُقْبَضُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ

ص: 395

يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْقَبْضِ الْمَنْعُ؛ لِأَنَّ الْإِعْطَاءَ قَدْ ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ قَبْلَ ذَلِكَ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، فَيَكُونُ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَسَيَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي أَوَاخِرِ الْبَابِ: الْمِيزَانُ بِيَدِ الرَّحْمَنِ يَرْفَعُ أَقْوَامًا وَيَضَعُ آخَرِينَ.

وَفِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَابْنِ حِبَّانَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقِسْطِ الْمِيزَانُ، وَهُوَ مِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّ الضَّمِيرَ الْمُسْتَتِرَ فِي قَوْلِهِ: يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ لِلْمِيزَانِ كَمَا بَدَأْتُ الْكَلَامَ بِهِ، قَالَ الْمَازِرِيُّ: ذَكَرَ الْقَبْضَ وَالْبَسْطَ وَإِنْ كَانَتِ الْقُدْرَةُ وَاحِدَةٌ لِتَفْهِيمِ الْعِبَادِ أَنَّهُ يَفْعَلُ بِهَا الْمُخْتَلِفَاتِ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: بِيَدِهِ الْأُخْرَى إِلَى أَنَّ عَادَةَ الْمُخَاطَبِينَ تَعَاطِي الْأَشْيَاءِ بِالْيَدَيْنِ مَعًا، فَعَبَّرَ عَنْ قُدْرَتِهِ عَلَى التَّصَرُّفِ بِذِكْرِ الْيَدَيْنِ لِتَفْهِيمِ الْمَعْنَى الْمُرَادِ بِمَا اعْتَادُوهُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ لَفْظَ الْبَسْطِ لَمْ يَقَعْ فِي الْحَدِيثِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ فَهِمَهُ مِنْ مُقَابِلِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: (مُقَدَّمُ بْنُ مُحَمَّدٍ) تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَذِكْرُ عَمِّهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النُّورِ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ اللَّهَ يَقْبِضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْأَرْضَ) فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَاضِي فِي بَابِ قَوْلِهِ مَلِكِ النَّاسِ: يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَاوَاتِ بِيَمِينِهِ، وَفِي رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ حَمْزَةَ الَّتِي يَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَى مَنْ وَصَلَهَا: يَطْوِي اللَّهُ السَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى، وَيَطْوِي الْأَرْضَ ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِشِمَالِهِ. وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ بَدَلَ قَوْلِهِ: بِشِمَالِهِ: بِيَدِهِ الْأُخْرَى. وَزَادَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ نَافِعٍ، وَأَبِي حَازِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: فَيَجْعَلُهُمَا فِي كَفِّهِ ثُمَّ يَرْمِي بِهِمَا كَمَا يَرْمِي الْغُلَامُ بِالْكُرَّةِ.

قَوْلُهُ: (وَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ) زَادَ فِي رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ حَمْزَةَ: أَيْنَ الْجَبَّارُونَ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ.

قَوْلُهُ: (رَوَاهُ سَعِيدٌ، عَنْ مَالِكٍ)، يَعْنِي: عَنْ نَافِعٍ، وَصَلَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ، وَأَبُو الْقَاسِمِ اللَّالَكَائِيُّ فِي السُّنَّةِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرٍ الشَّافِعِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ الْآجُرِّيِّ، عَنْ سَعِيدٍ - وَهُوَ ابْنُ دَاوُدَ بْنِ أَبِي زَنْبَرٍ، بِفَتْحِ الزَّايِ وَسُكُونِ النُّونِ، بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ مَفْتُوحَةٌ ثُمَّ رَاءٌ، وَهُوَ مَدَنِيٌّ سَكَنَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِالرَّيِّ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو عُثْمَانَ وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْمَوْضِعُ، وَقَدْ حَدَّثَ عَنْهُ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ جَمَاعَةٌ، وَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ: إِنَّ نَافِعًا حَدَّثَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ، وَقَدْ رَوَى عَنْ مَالِكٍ مِمَّنِ اسْمُهُ سَعِيدٌ أَيْضًا سَعِيدُ بْنُ كَثِيرِ بْنِ عُفَيْرٍ، وَهُوَ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَلَكِنْ لَمْ نَجِدْ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رِوَايَتِهِ، وَصَرَّحَ الْمِزِّيُّ وَجَمَاعَةٌ بِأَنَّ الَّذِي عَلَّقَ لَهُ الْبُخَارِيُّ هُنَا هُوَ الزُّبَيْرِيُّ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُمَرُ بْنُ حَمْزَةَ)، يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الِاسْتِسْقَاءِ، وَشَيْخُهُ سَالِمٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَمُّ عُمَرَ الْمَذْكُورُ، وَحَدِيثُهُ هَذَا وَصَلَهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُمَا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ عَنْهُ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: تَفَرَّدَ بِذِكْرِ الشِّمَالِ فِيهِ عُمَرُ بْنُ حَمْزَةَ، وَقَدْ رَوَاهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا نَافِعُ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مِقْسَمٍ بِدُونِهَا، وَرَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَذَلِكَ، وَثَبَتَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَفَعَهُ -: الْمُقْسِطُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَنَابِرٍ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ آدَمُ: اخْتَرْتُ يَمِينَ رَبِّي، وَكِلْتَا يَدَيْ رَبِّي يَمِينٌ. وَسَاقَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي يَحْيَى الْقَتَّاتِ بِقَافٍ وَمُثَنَّاةٍ ثَقِيلَةٍ، وَبَعْدَ الْأَلِفِ مُثَنَّاةٌ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} قَالَ: وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَأَخَذَهُ بِيَمِينِهِ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ: كَذَا جَاءَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ بِإِطْلَاقِ لَفْظِ الشِّمَالِ عَلَى يَدِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْمُقَابَلَةِ الْمُتَعَارَفَةِ، وَفِي حَقِّنَا، وَفِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ وَقَعَ التَّحَرُّزُ عَنْ إِطْلَاقِهَا عَلَى اللَّهِ حَتَّى قَالَ: وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ نَقْصٌ فِي صِفَتِهِ سبحانه وتعالى؛ لِأَنَّ الشِّمَالَ فِي حَقِّنَا أَضْعَفُ مِنَ الْيَمِينِ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ النَّظَرِ إِلَى أَنَّ الْيَدِ صِفَةٌ لَيْسَتْ جَارِحَةً، وَكُلُّ مَوْضِعٍ جَاءَ ذِكْرُهَا فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ

ص: 396

فَالْمُرَادُ تَعَلُّقُهَا بِالْكَائِنِ الْمَذْكُورِ مَعَهَا كَالطَّيِّ وَالْأَخْذِ وَالْقَبْضِ وَالْبَسْطِ وَالْقَبُولِ وَالشُّحِّ وَالْإِنْفَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ تَعَلُّقَ الصِّفَةِ بِمُقْتَضَاهَا مِنْ غَيْرِ مُمَاسَّةٍ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَشْبِيهٌ بِحَالٍ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى تَأْوِيلِ ذَلِكَ بِمَا يَلِيقُ بِهِ، انْتَهَى. وَسَيَأْتِي كَلَامُ الْخَطَّابِيِّ فِي ذَلِكَ فِي بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ}

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو الْيَمَانِ:، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ

إِلَخْ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَلِكِ النَّاسِ}

ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: (سُفْيَانَ) هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَمَنْصُورٌ هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، وَسُلَيْمَانُ هُوَ الْأَعْمَشُ، وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخَعِيُّ، وَعَبِيدَةُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ هُوَ ابْنُ عَمْرٍو، وَقَدْ تَابَعَ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ، عَنْ مَنْصُورٍ عَلَى قَوْلِهِ عَبِيدَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مَنْصُورٍ كَمَا مَضَى فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الزُّمَرِ، وَفُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ الْمَذْكُورَ بَعْدَهُ، وَجَرِيرَ بْنَ عَبْدِ الْحَمِيدِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَخَالَفَهُ عَنِ الْأَعْمَشِ فِي قَوْلِهِ: عَبِيدَةَ حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ الْمَذْكُورُ فِي الْبَابِ، وَجَرِيرٌ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، وَعِيسَى بْنُ يُونُسَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، فَقَالُوا: كُلُّهُمْ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ بَدَلَ عَبِيدَةَ، وَتَصَرُّفُ الشَّيْخَيْنِ يَقْتَضِي أَنَّهُ عِنْدَ الْأَعْمَشِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَأَمَّا ابْنُ خُزَيْمَةَ، فَقَالَ: هُوَ فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، وَفِي رِوَايَةِ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبِيدَةَ وَهُمَا صَحِيحَانِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ يَحْيَى) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، رَاوِيهِ عَنِ الثَّوْرِيِّ.

قَوْلُهُ: (وَزَادَ فِيهِ فُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ) هُوَ مَوْصُولٌ، وَوَهَمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُعَلَّقٌ، وَقَدْ وَصَلَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ، عَنْ فُضَيْلٍ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ يَهُودِيًّا جَاءَ) فِي رِوَايَةِ عَلْقَمَةَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَفِي رِوَايَةِ فُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: جَاءَ حَبْرٌ بِمُهْمَلَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ، زَادَ شَيْبَانُ فِي رِوَايَتِهِ: مِنَ الْأَحْبَارِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ) فِي رِوَايَةِ عَلْقَمَةَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي رِوَايَةِ فُضَيْلٍ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ) فِي رِوَايَةِ شَيْبَانَ يَجْعَلُ بَدَلَ يُمْسِكُ، وَزَادَ فُضَيْلٌ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: أَبَلَغَكَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ أَنَّ اللَّهَ يَحْمِلُ الْخَلَائِقَ.

قَوْلُهُ: (وَالشَّجَرُ عَلَى إِصْبَعٍ) زَادَ فِي رِوَايَةِ عَلْقَمَةَ: وَالثَّرَى، وَفِي رِوَايَةِ شَيْبَانَ: الْمَاءُ وَالثَّرَى، وَفِي رِوَايَةِ فُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ: الْجِبَالُ وَالشَّجَرُ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءُ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ.

قَوْلُهُ: (وَالْخَلَائِقُ)، أَيْ: مَنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ فُضَيْلٍ، وَشَيْبَانَ: وَسَائِرُ الْخَلْقِ. وَزَادَ ابْنُ خُزَيْمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَلَّادٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، قَالَ مُحَمَّدٌ: عَدَّهَا عَلَيْنَا يَحْيَى بِإِصْبَعِهِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَقَالَ: وَجَعَلَ يَحْيَى يُشِيرُ بِإِصْبَعِهِ يَضَعُ إِصْبَعًا عَلَى إِصْبَعٍ حَتَّى أَتَى عَلَى آخِرِهَا، وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْمَرْوَزِيِّ، عَنْ أَحْمَدَ، وَقَالَ: رَأَيْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُشِيرُ بِإِصْبَعٍ إِصْبَعٍ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ: مَرَّ يَهُودِيٌّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا يَهُودِيُّ حَدِّثْنَا، فَقَالَ: كَيْفَ تَقُولُ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ إِذَا وَضَعَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ عَلَى ذِهِ وَالْأَرْضِينَ عَلَى ذِهِ وَالْمَاءَ عَلَى ذِهِ وَالْجِبَالَ عَلَى ذِهِ وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى ذِهِ، وَأَشَارَ أَبُو جَعْفَرٍ، يَعْنِي أَحَدَ رُوَاتِهِ بِخِنْصَرٍ أَوَّلًا ثُمَّ تَابَعَ حَتَّى بَلَغَ الْإِبْهَامَ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ وَوَقَعَ فِي مُرْسَلِ مَسْرُوقٍ عِنْدَ الْهَرَوِيِّ مَرْفُوعًا نَحْوُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ) كَرَّرَهَا عَلْقَمَةُ فِي رِوَايَتِهِ، وَزَادَ فُضَيْلٌ فِي رِوَايَتِهِ: قَبْلَهَا ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ.

قَوْلُهُ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي رِوَايَةِ عَلْقَمَةَ: فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ضَحِكَ، وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ، وَلَفْظُهُ: وَلَقَدْ رَأَيْتُ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ) جَمْعُ نَاجِذٍ بِنُونٍ وَجِيمٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ ذَالٍ مُعْجَمَةٍ، وَهُوَ مَا يَظْهَرُ عِنْدَ الضَّحِكِ مِنَ الْأَسْنَانِ، وَقِيلَ: هِيَ الْأَنْيَابُ، وَقِيلَ: الْأَضْرَاسُ، وَقِيلَ: الدَّوَاخِلُ مِنَ الْأَضْرَاسِ الَّتِي فِي أَقْصَى الْحَلْقِ، زَادَ شَيْبَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: تَصْدِيقًا لِقَوْلِ الْحَبْرِ، وَفِي رِوَايَةِ فُضَيْلٍ الْمَذْكُورَةِ هُنَا: تَعَجُّبًا وَتَصْدِيقًا لَهُ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ: تَعَجُّبًا مِمَّا قَالَ

ص: 397

الْحَبْرُ تَصْدِيقًا لَهُ، وَفِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ عِنْدَهُ: وَتَصْدِيقًا لَهُ، بِزِيَادَةِ وَاوٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ، عَنْ مَنْصُورٍ: حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِهِ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَا يُحْمَلُ ذِكْرُ الْإِصْبَعِ عَلَى الْجَارِحَةِ بَلْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ لَا تُكَيَّفُ وَلَا تُحَدَّدُ، وَهَذَا يُنْسَبُ لِلْأَشْعَرِيِّ، وَعَنِ ابْنِ فَوْرَكٍ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِصْبَعُ خَلْقًا يَخْلُقُهُ اللَّهُ، فَيُحَمِّلُهُ اللَّهُ مَا يَحْمِلُ الْإِصْبَعُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْقُدْرَةُ وَالسُّلْطَانُ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: مَا فُلَانٌ إِلَّا بَيْنَ إِصْبَعِي إِذَا أَرَادَ الْإِخْبَارَ عَنْ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، وَأَيَّدَ ابْنُ التِّينِ الْأَوَّلَ بِأَنَّهُ قَالَ: عَلَى إِصْبَعٍ، وَلَمْ يَقُلْ: عَلَى إِصْبَعَيْهِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَحَاصِلُ الْخَبَرِ أَنَّهُ ذَكَرَ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَخْبَرَ عَنْ قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى جَمِيعِهَا، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَصْدِيقًا لَهُ وَتَعَجُّبًا مِنْ كَوْنِهِ يَسْتَعْظِمُ ذَلِكَ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي جَنْبِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ بِعَظِيمٍ، وَلِذَلِكَ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الْآيَةَ، أَيْ: لَيْسَ قَدْرُهُ فِي الْقُدْرَةِ عَلَى مَا يَخْلُقُ عَلَى الْحَدِّ

الَّذِي يَنْتَهِي إِلَيْهِ الْوَهْمُ، وَيُحِيطُ بِهِ الْحَصْرُ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى يَقْدِرُ عَلَى إِمْسَاكِ مَخْلُوقَاتِهِ عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ كَمَا هِيَ الْيَوْمِ، قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا} وَقَالَ: {رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَمْ يَقَعْ ذِكْرُ الْإِصْبَعِ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي حَدِيثٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْيَدَ لَيْسَتْ بِجَارِحَةٍ حَتَّى يُتَوَهَّمَ مِنْ ثُبُوتِهَا ثُبُوتُ الْأَصَابِعِ، بَلْ هُوَ تَوْقِيفٌ أَطْلَقَهُ الشَّارِعُ فَلَا يُكَيَّفُ وَلَا يُشَبَّهُ، وَلَعَلَّ ذِكْرُ الْأَصَابِعِ مِنْ تَخْلِيطِ الْيَهُودِيِّ، فَإِنَّ الْيَهُودَ مُشَبِّهَةٌ، وَفِيمَا يَدَّعُونَهُ مِنَ التَّوْرَاةِ أَلْفَاظٌ تَدْخُلُ فِي بَابِ التَّشْبِيهِ، وَلَا تَدْخُلُ فِي مَذَاهِبِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا ضَحِكُهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَوْلِ الْحَبْرِ، فَيَحْتَمِلُ الرِّضَا وَالْإِنْكَارَ، وَأَمَّا قَوْلُ الرَّاوِي: تَصْدِيقًا لَهُ فَظَنٌّ مِنْهُ وَحُسْبَانٌ، وَقَدْ جَاءَ الْحَدِيثُ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ لَيْسَ فِيهَا هَذِهِ الزِّيَادَةُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهَا فَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِحُمْرَةِ الْوَجْهِ عَلَى الْخَجَلِ، وَبِصُفْرَتِهِ عَلَى الْوَجَلِ، وَيَكُونُ الْأَمْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَقَدْ تَكُونُ الْحُمْرَةُ لِأَمْرٍ حَدَثَ فِي الْبَدَنِ كَثَوَرَانِ الدَّمِ، وَالصُّفْرَةِ لِثَوَرَانٍ خُلِطَ مِنْ مِرَارٍ وَغَيْرِهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَحْفُوظًا، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} أَيْ: قُدْرَتُهُ عَلَى طَيِّهَا، وَسُهُولَةُ الْأَمْرِ عَلَيْهِ فِي جَمْعِهَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ جَمَعَ شَيْئًا فِي كَفِّهِ وَاسْتَقَلَّ بِحَمْلِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْمَعَ كَفَّهُ عَلَيْهِ بَلْ يُقِلُّهُ بِبَعْضِ أَصَابِعِهِ، وَقَدْ جَرَى فِي أَمْثَالِهِمْ فُلَانٌ يُقِلُّ - كَذَا -

بِإِصْبَعِهِ وَيَعْمَلُهُ بِخِنْصَرِهِ، انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَقَدْ تَعَقَّبَ بَعْضُهُمْ إِنْكَارَ وُرُودِ الْأَصَابِعِ لِوُرُودِهِ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ كَالْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ: إِنَّ قَلْبَ ابْنِ آدَمَ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ وَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا نَفَى الْقَطْعَ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، هَذَا كُلُّهُ قَوْلُ الْيَهُودِيِّ، وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ التَّجْسِيمَ، وَأَنَّ اللَّهَ شَخْصٌ ذُو جَوَارِحَ كَمَا يَعْتَقِدُهُ غُلَاةُ الْمُشَبِّهَةِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَضَحِكُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا هُوَ لِلتَّعَجُّبِ مِنْ جَهْلِ الْيَهُودِيِّ، وَلِهَذَا قَرَأَ عِنْدَ ذَلِكَ:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أَيْ: مَا عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، وَلَا عَظَّمُوهُ حَقَّ تَعْظِيمِهِ، فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ الصَّحِيحَةُ الْمُحَقَّقَةُ، وَأَمَّا مَنْ زَادَ: وَتَصْدِيقًا لَهُ فَلَيْسَتْ بِشَيْءٍ؛ فَإِنَّهَا مِنْ قَوْلِ الرَّاوِي وَهِيَ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَا يُصَدِّقُ الْمُحَالَ، وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ فِي حَقِّ اللَّهِ مُحَالٌ؛ إِذْ لَوْ كَانَ ذَا يَدٍ وَأَصَابِعَ وَجَوَارِحَ كَانَ كَوَاحِدٍ مِنَّا، فَكَانَ يَجِبُ لَهُ مِنَ الِافْتِقَارِ وَالْحُدُوثِ وَالنَّقْصِ وَالْعَجْزِ مَا يَجِبُ لَنَا، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَاسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا إِذْ لَوْ جَازَتِ الْإِلَهِيَّةُ لِمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ لَصَحَّتْ لِلدَّجَّالِ وَهُوَ مُحَالٌ، فَالْمُفْضِي إِلَيْهِ كَذِبٌ، فَقَوْلُ الْيَهُودِيِّ كَذِبٌ وَمُحَالٌ، وَلِذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} وَإِنَّمَا تَعَجَّبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ جَهْلِهِ، فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّ ذَلِكَ التَّعَجُّبَ تَصْدِيقٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ:

قَدْ صَحَّ حَدِيثُ: إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ إِذَا جَاءَنَا مِثْلُ هَذَا فِي الْكَلَامِ الصَّادِقِ تَأَوَّلْنَاهُ أَوْ تَوَقَّفْنَا فِيهِ إِلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ وَجْهُهُ مَعَ الْقَطْعِ بِاسْتِحَالَةِ ظَاهِرِهِ

ص: 398

لِضَرُورَةِ صِدْقِ مَنْ دَلَّتِ الْمُعْجِزَةُ عَلَى صِدْقِهِ، وَأَمَّا إِذَا جَاءَ عَلَى لِسَانِ مَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْكَذِبُ بَلْ عَلَى لِسَانِ مَنْ أَخْبَرَ الصَّادِقُ عَنْ نَوْعِهِ بِالْكَذِبِ وَالتَّحْرِيفِ كَذَّبْنَاهُ وَقَبَّحْنَاهُ، ثُمَّ لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَرَّحَ بِتَصْدِيقِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَصْدِيقًا لَهُ فِي الْمَعْنَى بَلْ فِي اللَّفْظِ الَّذِي نَقَلَهُ مِنْ كِتَابِهِ عَنْ نَبِيِّهِ، وَنَقْطَعُ بِأَنَّ ظَاهِرَهُ غَيْرُ مُرَادٍ، انْتَهَى مُلَخَّصًا.

وَهَذَا الَّذِي نَحَا إِلَيْهِ أَخِيرًا أَوْلَى مِمَّا ابْتَدَأَ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الطَّعْنِ عَلَى ثِقَاتِ الرُّوَاةِ وَرَدِّ الْأَخْبَارِ الثَّابِتَةِ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى خِلَافِ مَا فَهِمَهُ الرَّاوِي بِالظَّنِّ لَلَزِمَ مِنْهُ تَقْرِيرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْبَاطِلِ وَسُكُوتُهُ عَنِ الْإِنْكَارِ، وَحَاشَا لِلَّهِ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدِ اشْتَدَّ إِنْكَارُ ابْنِ خُزَيْمَةَ عَلَى مَنِ ادَّعَى أَنَّ الضَّحِكَ الْمَذْكُورَ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، فَقَالَ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ مِنْ صَحِيحِهِ بِطَرِيقِهِ، قَدْ أَجَلَّ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَنْ يُوصَفَ رَبُّهُ بِحَضْرَتِهِ بِمَا لَيْسَ هُوَ مِنْ صِفَاتِهِ، فَيَجْعَلُ بَدَلَ الْإِنْكَارِ وَالْغَضَبِ عَلَى الْوَاصِفِ ضَحِكًا، بَلْ لَا يُوصِفُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْوَصْفِ مَنْ يُؤْمِنُ بِنُبُوَّتِهِ، وَقَدْ وَقَعَ الْحَدِيثُ الْمَاضِي فِي الرِّقَاقِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَفَعَهُ: تَكُونُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً يَتَكَفَّؤُهَا الْجَبَّارُ بِيَدِهِ كَمَا يَتَكَفَّؤُ أَحَدُكُمْ خُبْزَتَهُ. الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: أَنَّ يَهُودِيًّا دَخَلَ فَأَخْبَرَ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَنَظَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَصْحَابِهِ ثُمَّ ضَحِكَ.

‌20 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَا شَخْصَ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ

وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ: لَا شَخْصَ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ

7416 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ التَّبُوذَكِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ، عَنْ وَرَّادٍ كَاتِبِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: تَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، وَاللَّهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي، وَمِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ اللَّهِ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنْ اللَّهِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ الْمُبَشِّرِينَ وَالْمُنْذِرِينَ، وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمِدْحَةُ مِنْ اللَّهِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَعَدَ اللَّهُ الْجَنَّةَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا شَخْصَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ) كَذَا لَهُمْ وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ بَطَّالٍ بِلَفْظِ: أَحَدَ بَدَلَ شَخْصَ، وَكَأَنَّهُ مِنْ تَغْيِيرِهِ.

قَوْلُهُ: (عَبْدِ الْمَلِكِ) هُوَ ابْنُ عُمَيْرٍ وَالْمُغِيرَةُ هُوَ ابْنُ شُعْبَةَ، كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي أَوَاخِرِ الْحُدُودِ وَالْمُحَارِبِينَ، فَإِنَّهُ سَاقَ مِنَ الْحَدِيثِ هُنَاكَ بِهَذَا السَّنَدِ إِلَى قَوْلِهِ: وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ هُنَاكَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى غَيْرَةِ اللَّهِ فِي شَرْحِ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَنَّ الْكَلَامَ عَلَيْهِ تَقَدَّمَ فِي شَرْحِ حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي كِتَابِ الْكُسُوفِ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الْمُنَزِّهُونَ لِلَّهِ إِمَّا سَاكِتٌ عَنِ التَّأْوِيلِ وَإِمَّا مُؤَوِّلٌ، وَالثَّانِي يَقُولُ الْمُرَادُ بِالْغَيْرَةِ الْمَنْعُ مِنَ الشَّيْءِ وَالْحِمَايَةُ، وَهُمَا مِنْ لَوَازِمِ الْغَيْرَةِ فَأُطْلِقَتْ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ كَالْمُلَازَمَةِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَوْجُهِ الشَّائِعَةِ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ.

قَوْلُهُ: (وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ الْمُنْذِرِينَ وَالْمُبَشِّرِينَ) يَعْنِي الرُّسُلَ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: بَعَثَ الْمُرْسَلِينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَهِيَ أَوْضَحُ، وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: وَلِذَلِكَ أَنْزَلَ الْكُتُبَ وَالرُّسُلَ، أَيْ: وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هُوَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ

ص: 399

عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} فَالْعُذْرُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ التَّوْبَةُ وَالْإِنَابَةُ كَذَا قَالَ، وَقَالَ عِيَاضٌ: الْمَعْنَى بَعَثَ الْمُرْسَلِينَ لِلْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ لِخَلْقِهِ قَبْلَ أَخْذِهِمْ بِالْعُقُوبَةِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْمَعَانِي، قَالَ: إِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ، عَقِبَ قَوْلِهِ: لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ، مُنَبِّهًا لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ عَلَى أَنَّ الصَّوَابَ خِلَافَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَرَادِعًا لَهُ عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى قَتْلِ مَنْ يَجِدُهُ مَعَ امْرَأَتِهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِذَا كَانَ اللَّهُ مَعَ كَوْنِهِ أَشَدَّ غَيْرَةً مِنْكَ يُحِبُّ الْإِعْذَارَ، وَلَا يُؤَاخِذُ إِلَّا بَعْدَ الْحُجَّةِ، فَكَيْفَ تُقْدِمُ أَنْتَ عَلَى الْقَتْلِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ؟

قَوْلُهُ: (وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ) يَجُوزُ فِي أَحَبُّ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحُدُودِ.

قَوْلُهُ: (الْمِدْحَةُ مِنَ اللَّهِ) بِكَسْرِ الْمِيمِ مَعَ هَاءِ التَّأْنِيثِ وَبِفَتْحِهَا مَعَ حَذْفِ الْهَاءِ، وَالْمَدْحُ الثَّنَاءُ بِذِكْرِ أَوْصَافِ الْكَمَالِ وَالْأَفْضَالِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ.

قَوْلُهُ: (وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَعَدَ اللَّهُ الْجَنَّةَ) كَذَا فِيهِ بِحَذْفِ أَحَدِ الْمَفْعُولَيْنِ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ أَطَاعَهُ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: وَعَدَ الْجَنَّةَ بِإِضْمَارِ الْفَاعِلِ وَهُوَ اللَّهُ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَرَادَ بِهِ الْمَدْحَ مِنْ عِبَادِهِ بِطَاعَتِهِ وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِ بِنِعَمِهِ لِيُجَازِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ذَكَرَ الْمَدْحَ مَقْرُونًا بِالْغَيْرَةِ وَالْعُذْرَ تَنْبِيهًا لِسَعْدٍ عَلَى أَنْ لَا يَعْمَلَ بِمُقْتَضَى غَيْرَتِهِ، وَلَا يُعَجِّلُ بَلْ يَتَأَنَّى وَيَتَرَفَّقُ وَيَتَثَبَّتُ، حَتَّى يَحْصُلَ عَلَى وَجْهِ الصَّوَابِ فَيَنَالَ كَمَالَ الثَّنَاءِ وَالْمَدْحِ وَالثَّوَابِ لِإِيثَارِهِ الْحَقَّ وَقَمْعِ نَفْسِهِ وَغَلَبَتِهَا عِنْدَ هَيَجَانِهَا، وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِ: الشَّدِيدُ مَنْ يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَقَالَ عِيَاضٌ: مَعْنَى قَوْلِهِ: وَعَدَ الْجَنَّةَ أَنَّهُ لَمَّا وَعَدَ بِهَا وَرَغَّبَ فِيهَا كَثُرَ السُّؤَالُ لَهُ وَالطَّلَبُ إِلَيْهِ وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ، قَالَ: وَلَا يُحْتَجُّ بِهَذَا عَلَى جَوَازِ اسْتِجْلَابِ الْإِنْسَانِ الثَّنَاءَ عَلَى نَفْسِهِ فَإِنَّهُ مَذْمُومٌ وَمَنْهِيٌّ عَنْهُ بِخِلَافِ حُبِّهِ لَهُ فِي قَلْبِهِ إِذَا لَمْ يَجِدْ مِنْ ذَلِكَ بُدًّا فَإِنَّهُ لَا يُذَمُّ بِذَلِكَ، فَاللَّهُ سبحانه وتعالى مُسْتَحِقٌّ لِلْمَدْحِ بِكَمَالِهِ؛ وَالنَّقْصُ لِلْعَبْدِ لَازِمٌ وَلَوِ اسْتَحَقَّ الْمَدْحَ مِنْ جِهَةٍ مَا لَكِنَّ الْمَدْحَ يُفْسِدُ قَلْبَهُ وَيُعَظِّمُهُ فِي نَفْسِهِ حَتَّى يَحْتَقِرَ غَيْرَهُ، وَلِهَذَا جَاءَ: احْثُوا فِي وُجُوهِ الْمَدَّاحِينَ التُّرَابَ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو) هُوَ الرَّقِّيُّ الْأَسَدِيُّ (عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ) هُوَ ابْنُ عُمَيْرٍ.

قَوْلُهُ: (وَلَا شَخْصَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ)، يَعْنِي أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رَوَى الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا، فَقَالَ: لَا شَخْصَ بَدَلَ قَوْلِهِ لَا أَحَدَ، وَقَدْ وَصَلَهُ الدَّارِمِيُّ، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ عَدِيٍّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرً، عَنْ وَرَّادٍ مَوْلَى الْمُغِيرَةِ، قَالَ: بَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ يَقُولُ: فَذَكَرَهُ بِطُولِهِ، وَسَاقَهُ أَبُو عَوَانَةَ يَعْقُوبُ الْإِسْفَرَايِنِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى الْعَطَّارِ، عَنْ زَكَرِيَّا بِتَمَامِهِ، وَقَالَ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ: لَا شَخْصَ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيِّ، وَأَبِي كَامِلٍ فُضَيْلِ بْنِ حُسَيْنٍ الْجَحْدَرِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ الْوَضَّاحِ الْبَصْرِيِّ بِالسَّنَدِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، لَكِنْ قَالَ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ لَا شَخْصَ بَدَلَ لَا أَحَدَ، ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ زَائِدَةَ بْنِ قُدَامَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ كَذَلِكَ، فَكَأَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ لَمْ تَقَعْ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فِي حَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَلِذَلِكَ عَلَّقَهَا عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو.

قُلْتُ: وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنِ الْقَوَارِيرِيِّ، وَأَبِي كَامِلٍ كَذَلِكَ، وَمِنْ طَرِيقِ زَائِدَةَ أَيْضًا قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ شَخْصٌ؛ لِأَنَّ التَّوْقِيفَ لَمْ يَرِدْ بِهِ، وَقَدْ مَنَعَتْ مِنْهُ الْمُجَسِّمَةُ مَعَ قَوْلِهِمْ بِأَنَّهُ جِسْمٌ لَا كَالْأَجْسَامِ كَذَا قَالَ، وَالْمَنْقُولُ عَنْهُمْ خِلَافُ مَا قَالَ، وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: لَيْسَ فِي قَوْلِهِ لَا شَخْصَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ إِثْبَاتُ أَنَّ اللَّهَ شَخْصٌ بَلْ هُوَ كَمَا جَاءَ: مَا خَلَقَ اللَّهُ أَعْظَمَ مِنْ آيَةِ الْكُرْسِيِّ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِثْبَاتٌ أَنَّ آيَةَ

ص: 400

الْكُرْسِيِّ مَخْلُوقَةٌ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهَا أَعْظَمُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَهُوَ كَمَا يَقُولُ مَنْ يَصِفُ امْرَأَةً كَامِلَةً الْفَضْلِ حَسَنَةُ الْخَلْقِ مَا فِي النَّاسِ رَجُلٌ يُشْبِهُهَا، يُرِيدُ تَفْضِيلَهَا عَلَى الرِّجَالِ لَا أَنَّهَا رَجُلٌ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُ هَذَا الْحَدِيثِ فَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ بِلَفْظِ: لَا أَحَدَ، فَظَهَرَ أَنَّ لَفْظَ شَخْصَ جَاءَ مَوْضِعَ أَحَدَ، فَكَأَنَّهُ مِنْ تَصَرُّفِ الرَّاوِي، ثُمَّ قَالَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمُسْتَثْنَى مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ} وَلَيْسَ الظَّنُّ مِنْ نَوْعِ الْعِلْمِ.

قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَقَدْ قَرَّرَهُ ابْنُ فَوْرَكٍ، وَمِنْهُ أَخَذَهُ ابْنُ بَطَّالٍ، فَقَالَ بَعْدَمَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّمْثِيلِ بِقَوْلِهِ:{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ} فَالتَّقْدِيرُ أَنَّ الْأَشْخَاصَ الْمَوْصُوفَةَ بِالْغَيْرَةِ لَا تَبْلُغُ غَيْرتُهَا وَإِنْ تَنَاهَتْ غَيْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَخْصًا بِوَجْهٍ، وَأَمَّا الْخَطَّابِيُّ فَبَنَى عَلَى أَنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ يَقْتَضِي إِثْبَاتَ هَذَا الْوَصْفِ لِلَّهِ تَعَالَى فَبَالَغَ فِي الْإِنْكَارِ وَتَخْطِئَةِ الرَّاوِي، فَقَالَ: إِطْلَاقُ الشَّخْصِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ جَائِزٍ؛ لِأَنَّ الشَّخْصَ لَا يَكُونُ إِلَّا جِسْمًا مُؤَلَّفًا فَخَلِيقٌ أَنْ لَا تَكُونَ هَذِهِ اللَّفْظَةُ صَحِيحَةً، وَأَنْ تَكُونَ تَصْحِيفًا مِنَ الرَّاوِي وَدَلِيلٌ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا عَوَانَةَ رَوَى هَذَا الْخَبَرَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ فَلَمْ يَذْكُرْهَا، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ بِلَفْظِ: شَيْءَ، وَالشَّيْءُ وَالشَّخْصُ فِي الْوَزْنِ سَوَاءٌ، فَمَنْ لَمْ يُمْعِنْ فِي الِاسْتِمَاعِ لَمْ يَأْمَنِ الْوَهْمَ، وَلَيْسَ كُلٌّ مِنَ الرُّوَاةِ يُرَاعِي لَفْظَ الْحَدِيثِ حَتَّى لَا يَتَعَدَّاهُ، بَلْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يُحَدِّثُ بِالْمَعْنَى، وَلَيْسَ كُلُّهُمْ فَهِمًا بَلْ فِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ جَفَاءٌ وَتَعَجْرُفٌ، فَلَعَلَّ لَفْظَ شَخْصَ جَرَى عَلَى هَذَا السَّبِيلِ إِنْ لَمْ يَكُنْ غَلَطًا مِنْ قَبِيلِ التَّصْحِيفِ يَعْنِي السَّمْعِيَّ، قَالَ: ثُمَّ إِنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو انْفَرَدَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ فَلَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ وَاعْتَوَرَهُ الْفَسَادُ مِنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ: وَقَدْ تَلَقَّى هَذَا عَنِ الْخَطَّابِيِّ، أَبُو بَكْرِ بْنُ فَوْرَكٍ، فَقَالَ لَفْظُ الشَّخْصِ غَيْرُ ثَابِتٍ مِنْ طَرِيقِ السَّنَدِ، فَإِنْ صَحَّ فَبَيَانُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ؛ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا أَحَدَ، فَاسْتَعْمَلَ الرَّاوِي لَفْظَ

شَخْصَ مَوْضِعَ أَحَدَ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ بَطَّالٍ، وَمِنْهُ أَخَذَ ابْنُ بَطَّالٍ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ فَوْرَكٍ: وَإِنَّمَا مَنَعَنَا مِنْ إِطْلَاقِ لَفْظِ الشَّخْصِ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّفْظَ لَمْ يَثْبُتْ مِنْ طَرِيقِ السَّمْعِ، وَالثَّانِي: الْإِجْمَاعُ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ، وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَاهُ الْجِسْمُ الْمُؤَلَّفُ الْمُرَكَّبُ، ثُمَّ قَالَ: وَمَعْنَى الْغَيْرَةِ الزَّجْرُ وَالتَّحْرِيمُ، فَالْمَعْنَى أَنَّ سَعْدًا الزَّجُورُ عَنِ الْمَحَارِمِ وَأَنَا أَشَدُّ زَجْرًا مِنْهُ، وَاللَّهُ أَزْجَرُ مِنَ الْجَمِيعِ، انْتَهَى.

وَطَعْنُ الْخَطَّابِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ فِي السَّنَدِ مَبْنِيٌّ عَلَى تَفَرُّدِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، كَمَا تَقَدَّمَ وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ لَمْ يُرَاجِعْ صَحِيحَ مُسْلِمٍ وَلَا غَيْرَهُ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا هَذَا اللَّفْظُ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَرَدُّ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ وَالطَّعْنُ فِي أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ الضَّابِطِينَ مَعَ إِمْكَانِ تَوْجِيهِ مَا رَوَوْا مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي أَقْدَمَ عَلَيْهَا كَثِيرٌ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ يَقْتَضِي قُصُورَ فَهْمِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَا حَاجَةَ لِتَخْطِئَةِ الرُّوَاةِ الثِّقَاةِ بَلْ حُكْمُ هَذَا حُكْمُ سَائِرِ الْمُتَشَابِهَاتِ، إِمَّا التَّفْوِيضُ وَإِمَّا التَّأْوِيلُ، وَقَالَ عِيَاضٌ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَعْنَى قَوْلِهِ: لَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ، أَنَّهُ قَدَّمَ الْإِعْذَارَ وَالْإِنْذَارَ قَبْلَ أَخْذِهِمْ بِالْعُقُوبَةِ، وَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ فِي ذِكْرِ الشَّخْصِ مَا يُشْكِلُ كَذَا قَالَ، وَلَمْ يَتَّجِهْ أَخْذُ نَفْيِ الْإِشْكَالِ مِمَّا ذُكِرَ، ثُمَّ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الشَّخْصِ وَقَعَ تَجَوُّزًا مِنْ شَيْءَ أَوْ أَحَدَ، كَمَا يَجُوزُ إِطْلَاقُ الشَّخْصِ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالشَّخْصِ الْمُرْتَفِعُ؛ لِأَنَّ الشَّخْصَ هُوَ مَا ظَهَرَ وَشَخَصَ وَارْتَفَعَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى لَا مُرْتَفِعَ أَرْفَعُ مِنَ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ: لَا مُتَعَالِي أَعْلَى مِنَ اللَّهِ، قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لَا يَنْبَغِي لِشَخْصٍ أَنْ يَكُونَ أَغْيَرَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يُعَجِّلْ وَلَا بَادَرَ بِعُقُوبَةِ عَبْدِهِ لِارْتِكَابِهِ مَا نَهَاهُ عَنْهُ، بَلْ حَذَّرَهُ وَأَنْذَرَهُ وَأَعْذَرَ إِلَيْهِ وَأَمْهَلَهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَأَدَّبَ بِأَدَبِهِ وَيَقِفَ

عِنْدَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَبِهَذَا تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ تَعْقِيبِهِ بِقَوْلِهِ: وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَصْلُ وَضْعِ

ص: 401

الشَّخْصِ يَعْنِي فِي اللُّغَةِ لِجِرْمِ الْإِنْسَانِ وَجِسْمِهِ، يُقَالُ: شَخْصُ فُلَانٍ وَجُثْمَانِهِ، وَاسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ شَيْءٍ ظَاهِرٍ، يُقَالُ: شَخَصَ الشَّيْءُ إِذَا ظَهَرَ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَوَجَبَ تَأْوِيلُهُ، فَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا مُرْتَفِعَ، وَقِيلَ: لَا شَيْءَ، وَهُوَ أَشْبَهُ مِنَ الْأَوَّلِ، وَأَوْضَحُ مِنْهُ لَا مَوْجُودَ أَوْ لَا أَحَدَ وَهُوَ أَحْسَنُهَا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى؛ وَكَأَنَّ لَفْظَ الشَّخْصِ أُطْلِقَ مُبَالَغَةً فِي إِثْبَاتِ إِيمَانِ مَنْ يَتَعَذَّرُ عَلَى فَهْمِهِ مَوْجُودٌ لَا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنَ الْمَوْجُودَاتِ، لِئَلَّا يُفْضِيَ بِهِ ذَلِكَ إِلَى النَّفْيِ وَالتَّعْطِيلِ، وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِلْجَارِيَةِ: أَيْنَ اللَّهُ؟ قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ، فَحَكَمَ بِإِيمَانِهَا مَخَافَةَ أَنْ تَقَعَ فِي التَّعْطِيلِ لِقُصُورِ فَهْمِهَا عَمَّا يَنْبَغِي لَهُ مِنْ تَنْزِيهِهِ مِمَّا يَقْتَضِي التَّشْبِيهَ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.

(تَنْبِيهٌ)

لَمْ يُفْصِحِ الْمُصَنِّفُ بِإِطْلَاقِ الشَّخْصِ عَلَى اللَّهِ، بَلْ أَوْرَدَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الِاحْتِمَالِ، وَقَدْ جَزَمَ فِي الَّذِي بَعْدَهُ، فَتَسْمِيَتُهُ شَيْئًا لِظُهُورِ ذَلِكَ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْآيَتَيْنِ.

‌21 - بَاب: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ} فَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى نَفْسَهُ شَيْئًا،

وَسَمَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنَ شَيْئًا وَهُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ، وَقَالَ:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ}

7417 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِرَجُلٍ: أَمَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْءٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، سُورَةُ كَذَا، وَسُورَةُ كَذَا لِسُوَرٍ سَمَّاهَا.

قَوْلُهُ: (بَابٌ) بِالتَّنْوِينِ {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ} فَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى نَفْسَهُ شَيْئًا) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَالْقَابِسِيِّ، وَسَقَطَ لَفْظُ بَابٌ لِغَيْرِهِمَا مِنْ رِوَايَةِ الْفَرَبْرِيِّ، وَسَقَطَتِ التَّرْجَمَةُ مِنْ رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، وَذَكَرَ قَوْلَهُ:{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً} . وَحَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ بَعْدَ أَثَرَيْ أَبِي الْعَالِيَةِ، وَمُجَاهِدٍ فِي تَفْسِيرِ:{اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وَوَقَعَ عِنْدَ الْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً} - سَمَّى اللَّهُ نَفْسَهُ شَيْئًا - {قُلِ اللَّهُ} . وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَتَوْجِيهُ التَّرْجَمَةِ أَنَّ لَفْظَ: أَيُّ، إِذَا جَاءَتِ اسْتِفْهَامِيَّةً اقْتَضَى الظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ سُمِّيَ بِاسْمِ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ، فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى اللَّهُ شَيْئًا وَتَكُونَ الْجَلَالَةُ خَبَرَ مُبْتَدَأ مَحْذُوفٍ، أَيْ: ذَلِكَ الشَّيْءُ هُوَ اللَّهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً مَحْذُوفَ الْخَبَرِ، وَالتَّقْدِيرُ: اللَّهُ أَكْبَرُ شَهَادَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: وَسَمَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنَ شَيْئًا وَهُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ) يُشِيرُ إِلَى الْحَدِيثِ الَّذِي أَوْرَدَهُ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَفِيهِ: أَمَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ، وَهُوَ مُخْتَصَرٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ فِي قِصَّةِ الْوَاهِبَةِ تَقَدَّمَ بِطُولِهِ مَشْرُوحًا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، وَتَوْجِيهُهُ أَنَّ بَعْضَ الْقُرْآنِ قُرْآنٌ وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ شَيْئًا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِلْمَطْلُوبِ يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِيهَا مُتَّصِلٌ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي انْدِرَاجَ الْمُسْتَثْنَى فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَهُوَ الرَّاجِحُ، عَلَى أَنَّ لَفْظَ شَيْءٍ يُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ الرَّاجِحُ أَيْضًا، وَالْمُرَادُ بِالْوَجْهِ الذَّاتُ، وَتَوْجِيهُهُ أَنَّهُ عَبَّرَ عَنِ الْجُمْلَةِ بِأَشْهَرِ مَا فِيهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِالْوَجْهِ مَا يُعْمَلُ لِأَجْلِ اللَّهِ أَوِ الْجَاهُ، وَقِيلَ: إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ وَالتَّقْدِيرُ: لَكِنْ هُوَ سُبْحَانَهُ لَا يَهْلِكُ، وَالشَّيْءُ يُسَاوِي الْمَوْجُودَ لُغَةً وَعُرْفًا، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ لَيْسَ بِشَيْءٍ.

فَهُوَ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ فِي الذَّمِّ، فَلِذَلِكَ وَصَفَهُ بِصِفَةِ الْمَعْدُومِ، وَأَشَارَ ابْنُ بَطَّالٍ إِلَى أَنَّ الْبُخَارِيَّ انْتَزَعَ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ مِنْ كَلَامِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ يَحْيَى الْمَكِّيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ الْحَيْدَةِ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى نَفْسَهُ شَيْئًا إِثْبَاتًا لِوُجُودِهِ وَنَفْيًا لِلْعَدَمِ عَنْهُ، وَكَذَا أَجْرَى عَلَى

ص: 402

كَلَامِهِ مَا أَجْرَاهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَفْظَ شَيْءٍ مِنْ أَسْمَائِهِ بَلْ دَلَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ شَيْءٌ تَكْذِيبًا لِلدَّهْرِيَّةِ، وَمُنْكِرِي الْإِلَهِيَّةِ مِنَ الْأُمَمِ، وَسَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ سَيَكُونُ مَنْ يُلْحِدُ فِي أَسْمَائِهِ وَيُلَبِّسُ عَلَى خَلْقِهِ وَيُدْخِلُ كَلَامَهُ فِي الْأَشْيَاءِ الْمَخْلُوقَةِ، فَقَالَ:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فَأَخْرَجَ نَفْسَهُ وَكَلَامَهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمَخْلُوقَةِ، ثُمَّ وَصَفَ كَلَامَهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، فَقَالَ:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} فَدَلَّ عَلَى كَلَامِهِ بِمَا دَلَّ عَلَى نَفْسِهِ لِيُعْلَمَ أَنَّ كَلَامَهُ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ، فَكُلُّ صِفَةٍ تُسَمَّى شَيْئًا بِمَعْنَى أَنَّهَا مَوْجُودَةٌ، وَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ أَيْضًا أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْآثَارِ رَدًّا عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ النَّاشِئُ الْمُتَكَلِّمُ وَغَيْرُهُ، وَرَدًّا عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَعْدُومَ شَيْءٌ، وَقَدْ أَطْبَقَ الْعُقَلَاءُ عَلَى أَنَّ لَفْظَ شَيْءٍ يَقْتَضِي إِثْبَاتَ مَوْجُودٍ، وَعَلَى أَنَّ لَفْظَ لَا شَيْءٍ يَقْتَضِي نَفْيَ مَوْجُودٍ إِلَّا مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِطْلَاقِهِمْ لَيْسَ بِشَيْءٍ فِي الذَّمِّ فَإِنَّهُ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ.

‌22 - بَاب: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} ، {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}

قَالَ أَبُو عَالِيَةِ: {اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} ارْتَفَعَ. {فَسَوَّاهُنَّ} خَلَقَهُنَّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {اسْتَوَى} عَلَا عَلَى الْعَرْشِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:{الْمَجِيدِ} الْكَرِيمُ، {الْوَدُودُ} الْحَبِيبُ، يُقَالُ:{حَمِيدٌ مَجِيدٌ} كَأَنَّهُ فَعِيلٌ مِنْ مَاجِدٍ مَحْمُودٌ مِنْ حَمِدَ

7418 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، عن أَبي حَمْزَةَ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: إِنِّي عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَهُ قَوْمٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَقَالَ: اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ، قَالُوا: بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا، فَدَخَلَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَقَالَ: اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أَهْلَ الْيَمَنِ إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ، قَالُوا: قَبِلْنَا، جِئْنَاكَ لِنَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ وَلِنَسْأَلَكَ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ مَا كَانَ، قَالَ: كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ، ثُمَّ أَتَانِي رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا عِمْرَانُ أَدْرِكْ نَاقَتَكَ فَقَدْ ذَهَبَتْ، فَانْطَلَقْتُ أَطْلُبُهَا فَإِذَا السَّرَابُ يَنْقَطِعُ دُونَهَا، وَايْمُ اللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّهَا قَدْ ذَهَبَتْ وَلَمْ أَقُمْ.

7419 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ، حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: إِنَّ يَمِينَ اللَّهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ مَا فِي يَمِينِهِ وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى الْفَيْضُ - أَوْ: الْقَبْضُ - يَرْفَعُ وَيَخْفِضُ.

7420 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: جَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ يَشْكُو، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ. قَالَ أَنَسٌ: لَوْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَاتِمًا شَيْئًا لَكَتَمَ هَذِهِ، قَالَ: فَكَانَتْ زَيْنَبُ تَفْخَرُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَقُولُ: زَوَّجَكُنَّ أَهْلِيكُنَّ،

ص: 403

وَزَوَّجَنِي اللَّهُ تَعَالَى مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ.

وَعَنْ ثَابِتٍ: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ} نَزَلَتْ فِي شَأْنِ زَيْنَبَ وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ.

7421 -

حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ طَهْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ: نَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ فِي زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَأَطْعَمَ عَلَيْهَا يَوْمَئِذٍ خُبْزًا وَلَحْمًا، وَكَانَتْ تَفْخَرُ عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَتْ تَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ أَنْكَحَنِي فِي السَّمَاءِ.

7422 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ لَمَّا قَضَى الْخَلْقَ كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي

7423 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنِي هِلَالٌ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَصَامَ رَمَضَانَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ هَاجَرَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نُنَبِّئُ النَّاسَ بِذَلِكَ قَالَ إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ كُلُّ دَرَجَتَيْنِ مَا بَيْنَهُمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَسَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ

7424 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ فَلَمَّا غَرَبَتْ الشَّمْسُ قَالَ يَا أَبَا ذَرٍّ هَلْ تَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ قَالَ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ تَسْتَأْذِنُ فِي السُّجُودِ فَيُؤْذَنُ لَهَا وَكَأَنَّهَا قَدْ قِيلَ لَهَا ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا ثُمَّ قَرَأَ ذَلِكَ مُسْتَقَرٌّ لَهَا فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ

7425 -

حَدَّثَنَا مُوسَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ ابْنِ السَّبَّاقِ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ حَدَّثَهُ قَالَ أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ حَتَّى خَاتِمَةِ بَرَاءَةٌ

7426 -

حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ

ص: 404

عَنْهُمَا قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ الْعَلِيمُ الْحَلِيمُ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأَرْضِ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ

7427 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ"

7428 -

وَقَالَ الْمَاجِشُونُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ بُعِثَ فَإِذَا مُوسَى آخِذٌ بِالْعَرْشِ.

قَوْلُهُ: بَابُ {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} ، {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} كَذَا ذَكَرَ قِطْعَتَيْنِ مِنْ آيَتَيْنِ، وَتَلَطَّفَ فِي ذِكْرِ الثَّانِيَةِ عَقِبَ الْأُولَى؛ لِرَدِّ مَنْ تَوَهَّمَ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ أَنَّ الْعَرْشَ لَمْ يَزَلْ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مَذْهَبٌ بَاطِلٌ، وَكَذَا مَنْ زَعَمَ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ أَنَّ الْعَرْشَ هُوَ الْخَالِقُ الصَّانِعُ، وَرُبَّمَا تَمَسَّكَ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَبُو إِسْحَاقَ الْهَرَوِيُّ بِمَا أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ: حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ هُوَ الرُّمَّانِيُّ بِالرَّاءِ وَالتَّشْدِيدِ عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى عَرْشِهِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا، فَأَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ، وَهَذِهِ الْأَوَّلِيَّةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا، فَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} قَالَ: هَذَا بَدْءُ خَلْقِهِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاءَ وَعَرْشُهُ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ فَأَرْدَفَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْعَرْشَ مَرْبُوبٌ، وَكُلُّ مَرْبُوبٍ مَخْلُوقٌ، وَخَتَمَ الْبَابَ بِالْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ: فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةِ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ، فَإِنَّ فِي إِثْبَاتِ الْقَوَائِمِ لِلْعَرْشِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُ جِسْمٌ مُرَكَّبٌ لَهُ أَبْعَاضٌ وَأَجْزَاءٌ، وَالْجِسْمُ الْمُؤَلَّفُ مُحْدَثٌ مَخْلُوقٌ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ: اتَّفَقَتْ أَقَاوِيلُ هَذَا التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّ الْعَرْشَ هُوَ السَّرِيرُ وَأَنَّهُ جِسْمٌ خَلَقَهُ اللَّهُ وَأَمَرَ مَلَائِكَتَهُ بِحَمْلِهِ وَتَعَبَّدَهُمْ بِتَعْظِيمِهِ وَالطَّوَافِ

بِهِ كَمَا خَلَقَ فِي الْأَرْضِ بَيْتًا وَأَمَرَ بَنِي آدَمَ بِالطَّوَافِ بِهِ وَاسْتِقْبَالِهِ فِي الصَّلَاةِ، وَفِي الْآيَاتِ - أَيِ: الَّتِي ذَكَرَهَا - وَالْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ.

قَوْلُهُ: قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: {اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} ارْتَفَعَ فَسَوَّى خَلَقَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فَسَوَّاهُنَّ: خَلَقَهُنَّ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلْمَنْقُولِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ لَكِنْ بِلَفْظِ: فَقَضَاهُنَّ، كَمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} قَالَ: ارْتَفَعَ، وَفِي قَوْلِهِ:{فَقَضَاهُنَّ} خَلَقَهُنَّ وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَالَّذِي وَقَعَ: {فَسَوَّاهُنَّ} تَغْيِيرٌ، وَوَقَعَ لَفْظُ سَوَّى أَيْضًا فِي سُورَةِ النَّازِعَاتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} وَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ فُصِّلَتْ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي أَجَابَ بِهِ عَنِ الْأَسْئِلَةِ الَّتِي قَالَ السَّائِلُ: إِنَّهَا اخْتَلَفَتْ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ، فَإِنَّ فِيهَا: أَنَّهُ خَلَقَ الْأَرْضَ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ، ثُمَّ دَحَا الْأَرْضَ، ثُمَّ إِنَّ فِي تَفْسِيرِ سَوَّى بِخَلَقَ نَظَرًا؛ لِأَنَّ فِي التَّسْوِيَةِ قَدْرًا زَائِدًا عَلَى الْخَلْقِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى}

قَوْلُهُ: وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {اسْتَوَى} عَلَا عَلَى الْعَرْشِ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الِاسْتِوَاءِ الْمَذْكُورِ هُنَا، فَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: مَعْنَاهُ الِاسْتِيلَاءُ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةُ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:

قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ

مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مِهْرَاقٍ

ص: 405

وَقَالَتِ الْجِسْمِيَّةُ: مَعْنَاهُ الِاسْتِقْرَارُ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ السُّنَّةِ: مَعْنَاهُ: ارْتَفَعَ، وَبَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ عَلَا، وَبَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ الملك وَالْقُدْرَةُ، وَمِنْهُ: اسْتَوَتْ لَهُ الْمَمَالِكُ، يُقَالُ لِمَنْ أَطَاعَهُ أَهْلُ الْبِلَادِ، وَقِيلَ: مَعْنَى الِاسْتِوَاءِ التَّمَامُ وَالْفَرَاغُ مِنْ فِعْلِ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} فَعَلَى هَذَا، فَمَعْنَى اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ: أَتَمَّ الْخَلْقَ، وَخَصَّ لَفْظَ الْعَرْشِ لِكَوْنِهِ أَعْظَمَ الْأَشْيَاءِ، وَقِيلَ: إِنَّ عَلَى فِي قَوْلِهِ: عَلَى الْعَرْشِ، بِمَعْنَى: إِلَى، فَالْمُرَادُ عَلَى هَذَا انْتَهَى إِلَى الْعَرْشِ، أَيْ: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَرْشِ؛ لِأَنَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فَأَمَّا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّهُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ قَاهِرًا غَالِبًا مُسْتَوْلِيًا، وَقَوْلُهُ:{ثُمَّ اسْتَوَى} يَقْتَضِي افْتِتَاحَ هَذَا الْوَصْفِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَلَازِمُ تَأْوِيلِهِمْ أَنَّهُ كَانَ مُغَالَبًا فِيهِ فَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ بِقَهْرِ مَنْ غَالَبَهُ، وَهَذَا مُنْتَفٍ عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَأَمَّا قَوْلُ الْمُجَسِّمَةِ فَفَاسِدٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الِاسْتِقْرَارَ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ وَيَلْزَمُ مِنْهُ الْحُلُولُ وَالتَّنَاهِي، وَهُوَ مُحَالٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَائِقٌ بِالْمَخْلُوقَاتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} وَقَوْلُهُ: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} قَالَ: وَأَمَّا تَفْسِيرُ اسْتَوَى: عَلَا، فَهُوَ صَحِيحٌ وَهُوَ الْمَذْهَبُ الْحَقُّ، وَقَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْعُلَى، وَقَالَ:{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} وَهِيَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، وَأَمَّا مَنْ

فَسَّرَهُ: ارْتَفَعَ، فَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِفْ بِهِ نَفْسَهُ، قَالَ: وَاخْتَلَفَ أَهْلُ السُّنَّةِ: هَلِ الِاسْتِوَاءُ صِفَةُ ذَاتٍ أَوْ صِفَةُ فِعْلٍ، فَمَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ عَلَا. قَالَ: هِيَ صِفَةُ ذَاتٍ، وَمَنْ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ قَالَ هِيَ صِفَةُ فِعْلٍ، وَإِنَّ اللَّهَ فَعَلَ فِعْلًا سَمَّاهُ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ، لَا أَنَّ ذَلِكَ قَائِمٌ بِذَاتِهِ لِاسْتِحَالَةِ قِيَامِ الْحَوَادِثِ بِهِ، انْتَهَى مُلَخَّصًا.

وَقَدْ أَلْزَمَهُ مَنْ فَسَّرَهُ بِالِاسْتِيلَاءِ بِمِثْلِ مَا أَلْزَمَ هُوَ بِهِ مِنْ أَنَّهُ صَارَ قَاهِرًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، فَيَلْزَمُ أَنَّهُ صَارَ غَالِبًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ؛ وَالِانْفِصَالُ عَنْ ذَلِكَ لِلْفَرِيقَيْنِ بِالتَّمَسُّكِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ بِالتَّفْسِيرِ قَالُوا: مَعْنَاهُ: لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ فُصِّلَتْ، وَبَقِيَ مِنْ مَعَانِي اسْتَوَى مَا نُقِلَ عَنْ ثَعْلَبٍ اسْتَوَى الْوَجْهُ اتَّصَلَ، وَاسْتَوَى الْقَمَرُ امْتَلَأَ وَاسْتَوَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ تَمَاثَلَا، وَاسْتَوَى إِلَى الْمَكَانِ أَقْبَلَ، وَاسْتَوَى الْقَاعِدُ قَائِمًا وَالنَّائِمُ قَاعِدًا، وَيُمْكِنُ رَدُّ بَعْضِ هَذِهِ الْمَعَانِي إِلَى بَعْضٍ، وَكَذَا مَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ بَطَّالٍ، وَقَدْ نَقَلَ أَبُو إِسْمَاعِيلَ الْهَرَوِيُّ فِي كِتَابِ الْفَارُوقِ بِسَنَدِهِ إِلَى دَاوُدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ خَلَفٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَعْرَابِيِّ، يَعْنِي: مُحَمَّدَ بْنَ زِيَادٍ اللُّغَوِيَّ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} فَقَالَ: هُوَ عَلَى الْعَرْشِ كَمَا أَخْبَرَ، قَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، إِنَّمَا مَعْنَاهُ اسْتَوْلَى، فَقَالَ: اسْكُتْ، لَا يُقَالُ: اسْتَوْلَى عَلَى الشَّيْءِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مُضَادٌّ، وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ النَّضْرِ الْأَزْدِيِّ، سَمِعْتُ ابْنَ الْأَعْرَابِيِّ يَقُولُ: أَرَادَنِي أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دَاوُدَ أَنْ أَجِدَ لَهُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} بِمَعْنَى اسْتَوْلَى، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ مَا أَصَبْتُ هَذَا، وَقَالَ غَيْرُهُ: لَوْ كَانَ بِمَعْنَى اسْتَوْلَى لَمْ يَخْتَصَّ بِالْعَرْشِ؛ لِأَنَّهُ غَالِبٌ عَلَى جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَنَقَلَ مُحْيِي السُّنَّةِ الْبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ

وَأَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ مَعْنَاهُ ارْتَفَعَ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَالْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُمَا بِنَحْوِهِ، وَأَخْرَجَ أَبُو الْقَاسِمِ اللَّالَكَائِيُّ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ عَنْ أُمِّهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَالْإِقْرَارُ بِهِ إِيمَانٌ، وَالْجُحُودُ بِهِ كُفْرٌ وَمِنْ طَرِيقِ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سُئِلَ كَيْفَ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ؟ فَقَالَ: الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَعَلَى اللَّهِ الرِّسَالَةُ، وَعَلَى رَسُولِهِ الْبَلَاغُ، وَعَلَيْنَا التَّسْلِيمُ، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، قَالَ: كُنَّا وَالتَّابِعُونَ مُتَوَافِرُونَ نَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ، وَنُؤْمِنُ بِمَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنْ صِفَاتِهِ، وَأَخْرَجَ الثَّعْلَبِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} فَقَالَ: هُوَ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ

ص: 406

بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ مَالِكٍ فَدَخَلَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كَيْفَ اسْتَوَى؟ فَأَطْرَقَ مَالِكٌ فَأَخَذَتْهُ الرُّحَضَاءُ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى كَمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَلَا يُقَالُ: كَيْفَ، وَكَيْفَ عَنْهُ مَرْفُوعٌ، وَمَا أَرَاكَ إِلَّا صَاحِبَ بِدْعَةٍ أَخْرِجُوهُ وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ نَحْوُ الْمَنْقُولِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ لَكِنْ قَالَ فِيهِ: وَالْإِقْرَارُ بِهِ وَاجِبٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ قَالَ: كَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَشُعْبَةُ، وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَشَرِيكٌ، وَأَبُو عَوَانَةَ لَا يُحَدِّدُونَ، وَلَا يُشَبِّهُونَ، وَيَرْوُونَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ، وَلَا يَقُولُونَ: كَيْفَ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ وَهُوَ قَوْلُنَا، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَعَلَى هَذَا مَضَى أَكَابِرُنَا وَأَسْنَدَ اللَّالَكَائِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ، قَالَ: اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ كُلُّهُمْ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ وَبِالْأَحَادِيثِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الثِّقَاتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي صِفَةِ الرَّبِّ مِنْ غَيْرِ تَشْبِيهٍ وَلَا تَفْسِيرٍ، فَمَنْ فَسَّرَ شَيْئًا مِنْهَا وَقَالَ بِقَوْلِ جَهْمٍ فَقَدْ خَرَجَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَ الرَّبَّ بِصِفَةِ لَا شَيْءَ، وَمِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ سَأَلْتُ الْأَوْزَاعِيَّ، وَمَالِكًا، وَالثَّوْرِيَّ، وَاللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ عَنِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا الصِّفَةُ فَقَالُوا: أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلَا كَيْفٍ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: لِلَّهِ أَسْمَاءٌ وَصِفَاتٌ لَا يَسَعُ أَحَدًا رَدُّهَا، وَمَنْ خَالَفَ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ فَقَدْ كَفَرَ، وَأَمَّا قَبْلَ قِيَامِ الْحُجَّةِ فَإِنَّهُ يُعْذَرُ بِالْجَهْلِ؛ لِأَنَّ عِلْمَ ذَلِكَ لَا يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ وَلَا الرُّؤْيَةِ وَالْفِكْرِ، فَنُثْبِتُ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَنَنْفِي عَنْهُ التَّشْبِيهَ كَمَا نَفَى عَنْ نَفْسِهِ، فَقَالَ:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وَأَسْنَدَ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْحَوَارِيِّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ: كُلُّ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ فَتَفْسِيرُهُ تِلَاوَتُهُ وَالسُّكُوتُ عَنْهُ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرٍ

الضُّبَعِيِّ، قَالَ: مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي قَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قَالَ: بِلَا كَيْفٍ، وَالْآثَارُ فِيهِ عَنِ السَّلَفِ كَثِيرَةٌ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي الْجَامِعِ عَقِبَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي النُّزُولِ: وَهُوَ عَلَى الْعَرْشِ كَمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ، كَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَمَا يُشْبِهُهُ مِنَ الصِّفَاتِ، وَقَالَ فِي بَابِ فَضْلِ الصَّدَقَةِ: قَدْ ثَبَتَتْ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ فَنُؤْمِنُ بِهَا وَلَا نَتَوَهَّمُ، وَلَا يُقَالُ: كَيْفَ، كَذَا جَاءَ عَنْ مَالِكٍ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُمْ أَمَرُّوهَا بِلَا كَيْفٍ، وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَأَمَّا الْجَهْمِيَّةُ فَأَنْكَرُوهَا، وَقَالُوا: هَذَا تَشْبِيهٌ، وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: إِنَّمَا يَكُونُ التَّشْبِيهُ لَوْ قِيلَ: يَدٌ كَيَدٍ وَسَمْعٌ كَسَمْعٍ، وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ الْمَائِدَةِ قَالَ الْأَئِمَّةُ نُؤْمِنُ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ مِنْ غَيْرِ تَفْسِيرٍ، مِنْهُمُ الثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَهْلُ السُّنَّةِ مُجْمِعُونَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَمْ يُكَيِّفُوا شَيْئًا مِنْهَا؛ وَأَمَّا الْجَهْمِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَالْخَوَارِجُ، فَقَالُوا: مَنْ أَقَرَّ بِهَا فَهُوَ مُشَبِّهٌ فَسَمَّاهُمْ مَنْ أَقَرَّ بِهَا مُعَطِّلَةٌ، وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الرِّسَالَةِ النِّظَامِيَّةِ: اخْتَلَفَتْ مَسَالِكُ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الظَّوَاهِرِ، فَرَأَى بَعْضُهُمْ تَأْوِيلَهَا وَالْتَزَمَ ذَلِكَ فِي آيِ الْكِتَابِ وَمَا يَصِحُّ مِنَ السُّنَنِ، وَذَهَبَ أَئِمَّةُ السَّلَفِ إِلَى الِانْكِفَافِ عَنِ التَّأْوِيلِ وَإِجْرَاءِ الظَّوَاهِرِ عَلَى

مَوَارِدِهَا وَتَفْوِيضِ مَعَانِيهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالَّذِي نَرْتَضِيهِ رَأْيًا وَنَدِينُ اللَّهَ بِهِ عَقِيدَةً اتِّبَاعُ سَلَفِ الْأُمَّةِ لِلدَّلِيلِ الْقَاطِعِ عَلَى أَنَّ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ حُجَّةٌ، فَلَوْ كَانَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الظَّوَاهِرِ حَتْمًا لَأَوْشَكَ أَنْ يَكُونَ اهْتِمَامُهُمْ بِهِ فَوْقَ اهْتِمَامِهِمْ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، وَإِذَا انْصَرَمَ عَصْرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ عَلَى الْإِضْرَابِ عَنِ التَّأْوِيلِ كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْوَجْهُ الْمُتَّبَعُ، انْتَهَى.

وَقَدْ تَقَدَّمَ النَّقْلُ عَنْ أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّالِثِ، وَهُمْ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ كَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَاللَّيْثُ وَمَنْ عَاصَرَهُمْ، وَكَذَا مَنْ أَخَذَ عَنْهُمْ مِنَ الْأَئِمَّةِ، فَكَيْفَ لَا يَوْثُقُ بِمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْقُرُونِ

ص: 407

الثَّلَاثَةِ، وَهُمْ خَيْرُ الْقُرُونِ بِشَهَادَةِ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ، وَقَسَّمَ بَعْضُهُمْ أَقْوَالَ النَّاسِ فِي هَذَا الْبَابِ إِلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ: قَوْلَانِ لِمَنْ يُجْرِيهَا عَلَى ظَاهِرِهَا؛ أَحَدُهُمَا: مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا مِنْ جِنْسِ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَهُمُ الْمُشَبِّهَةُ، وَيَتَفَرَّعُ مِنْ قَوْلِهِمْ عِدَّةُ آرَاءٍ، وَالثَّانِي: مَنْ يَنْفِي عَنْهَا شَبَهَ صِفَةِ الْمَخْلُوقِينَ؛ لِأَنَّ ذَاتَ اللَّه لَا تُشْبِهُ الذَّوَاتَ، فَصِفَاتُهُ لَا تُشْبِهُ الصِّفَاتِ فَإِنَّ صِفَاتِ كُلِّ مَوْصُوفٍ تُنَاسِبُ ذَاتَهُ وَتُلَائِمُ حَقِيقَتَهُ، وَقَوْلَانِ لِمَنْ يُثْبِتُ كَوْنَهَا صِفَةً، وَلَكِنْ لَا يُجْرِيهَا عَلَى ظَاهِرِهَا؛ أَحَدُهُمَا يَقُولُ: لَا نُؤَوِّلُ شَيْئًا مِنْهَا بَلْ نَقُولُ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ، وَالْآخَرُ يُؤَوِّلُ، فَيَقُولُ مَثَلًا مَعْنَى الِاسْتِوَاءِ: الِاسْتِيلَاءُ، وَالْيَدُ الْقُدْرَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَقَوْلَانِ لِمَنْ لَا يَجْزِمُ بِأَنَّهَا صِفَةٌ أَحَدُهُمَا يَقُولُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صِفَةً وَظَاهِرُهَا غَيْرُ مُرَادٍ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا تَكُونَ صِفَةً، وَالْآخَرُ يَقُولُ: لَا يُخَاضُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا، بَلْ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يُدْرَكُ مَعْنَاهُ.

قَوْلُهُ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَجِيدُ الْكَرِيمُ، وَالْوَدُودُ الْحَبِيبُ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} قَالَ: الْمَجِيدُ الْكَرِيمُ، وَبِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} قَالَ: الْوَدُودُ الْحَبِيبُ، وَإِنَّمَا وَقَعَ تَقْدِيمُ الْمَجِيدِ قَبْلَ الْوَدُودِ هُنَا؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ تَفْسِيرُ لَفْظِ الْمَجِيدِ الْوَاقِعِ فِي قَوْلِهِ:{ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} فَلَمَّا فَسَّرَهُ اسْتَطْرَدَ لِتَفْسِيرِ الِاسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ قُرِئَ مَرْفُوعًا بِالِاتِّفَاقِ، وَذُو الْعَرْشِ بِالرَّفْعِ صِفَةٌ لَهُ، وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي الْمَجِيدُ بِالرَّفْعِ، فَيَكُونُ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ، وَبِالْكَسْرِ فَيَكُونُ صِفَةَ الْعَرْشِ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: جَمِيعُ مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ يَشْتَمِلُ عَلَى ذِكْرِ الْعَرْشِ إِلَّا أَثَرَ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ لَكِنَّهُ نَبَّهَ بِهِ عَلَى لَطِيفَةٍ، وَهِيَ أَنَّ الْمَجِيدَ فِي الْآيَةِ عَلَى قِرَاءَةِ الْكَسْرِ لَيْسَ صِفَةً لِلْعَرْشِ، حَتَّى لَا يُتَخَيَّلَ أَنَّهُ قَدِيمٌ بَلْ هِيَ صِفَةُ اللَّهِ، بِدَلِيلِ قِرَاءَةِ الرَّفْعِ، وَبِدَلِيلِ اقْتِرَانِهِ بِالْوَدُودِ فَيَكُونُ الْكَسْرُ عَلَى الْمُجَاوَرَةِ لِتَجْتَمِعَ الْقِرَاءَتَانِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، انْتَهَى. وَيُؤَيِّدُ أَنَّهَا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ صِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى مَا أَرْدَفَهُ بِهِ، وَهُوَ يُقَالُ: حَمِيدٌ مَجِيدٌ إِلَخْ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِلَفْظِ: إِذَا قَالَ الْعَبْدُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَجَّدَنِي عَبْدِي، ذَكَرَهُ ابْنُ التِّينِ قَالَ: وَيُقَالُ: الْمَجْدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الشَّرَفُ الْوَاسِعُ، فَالْمَاجِدُ مَنْ لَهُ آبَاءٌ مُتَقَدِّمُونَ فِي الشَّرَفِ، وَأَمَّا الْحَسَبُ وَالْكَرَمُ فَيَكُونَانِ فِي الرَّجُلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ آبَاءٌ شُرَفَاءُ، فَالْمَجِيدُ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنَ الْمَجْدِ، وَهُوَ الشَّرَفُ الْقَدِيمُ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْمَجْدُ السَّعَةُ فِي الْكَرَمِ وَالْجَلَالَةِ، وَأَصْلُهُ قَوْلُهُمْ: مَجَدَتِ الْإِبِلُ، أَيْ: وَقَعَتْ فِي مَرْعًى كَثِيرٍ وَاسِعٍ، وَأَمْجَدَهَا الرَّاعِي، وَوُصِفَ الْقُرْآنُ بِالْمَجِيدِ لِمَا يَتَضَمَّنُ مِنَ الْمَكَارِمِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ، انْتَهَى. وَمَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ فَلَا يَمْتَنِعُ وَصْفُ الْعَرْشِ بِذَلِكَ لِجَلَالَتِهِ وَعَظِيمِ قَدْرِهِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الرَّاغِبُ، وَلِذَلِكَ وُصِفَ بِالْكَرِيمِ فِي سُورَةِ قَدْ أَفْلَحَ، وَأَمَّا تَفْسِيرُ الْوَدُودِ بِالْحَبِيبِ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِمَعْنَى الْمُحِبِّ وَالْمَحْبُوبِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْوُدِّ مَحَبَّةُ الشَّيْءِ، قَالَ الرَّاغِبُ: الْوَدُودُ يَتَضَمَّنُ مَا دَخَلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ وَمَحَبَّتِهِمْ لَهُ.

قَوْلُهُ: (يُقَالُ: حَمِيدٌ مَجِيدٌ كَأَنَّهُ فَعِيلٌ مِنْ مَاجِدٍ مَحْمُودٍ مِنْ حَمِدَ) كَذَا لَهُمْ بِغَيْرِ يَاءٍ فِعْلًا مَاضِيًا وَلِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مَحْمُودٌ مِنْ حَمِيدٍ، وَأَصْلُ هَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي كِتَابِ الْمَجَازِ فِي قَوْلِهِ:{عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} أَيْ: مَحْمُودٌ مَاجِدٌ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: غَرَضُهُ مِنْهُ أَنَّ مَجِيدًا بِمَعْنَى فَاعِلٍ كَقَدِيرٍ بِمَعْنَى قَادِرٍ، وَحَمِيدًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، فَلِذَلِكَ قَالَ: مَجِيدٌ مِنْ مَاجِدٍ وَحَمِيدٌ مِنْ مَحْمُودٍ، قَالَ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: مَحْمُودٌ مِنْ حَمِيدٍ، وَفِي أُخْرَى مِنْ حَمِدَ مَبْنِيٌّ لِلْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ أَيْضًا، وَذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ حَمِيدٌ بِمَعْنَى حَامِدٍ وَمَجِيدٌ بِمَعْنَى مُمَجَّدٍ، ثُمَّ قَالَ: وَفِي عِبَارَةِ الْبُخَارِيِّ تَعْقِيدٌ. قُلْتُ: وَهُوَ فِي قَوْلِهِ: مَحْمُودٌ مِنْ حَمِدَ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الرُّوَاةُ فِيهِ وَالْأَوْلَى فِيهِ مَا وُجِدَ فِي أَصْلِهِ وَهُوَ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْبَابِ تِسْعَةَ أَحَادِيثَ لِبَعْضِهَا طَرِيقٍ أُخْرَى.

الأول حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَقَوْلُهُ فِي السَّنَدِ:

ص: 408

أَنْبَأَنَا أَبُو حَمْزَةَ هُوَ السُّكَّرِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي بَابِ: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، وَقَوْلُهُ: عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ فِي رِوَايَةِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ: حَدَّثَنَا جَامِعٌ، وَجَامِعٌ هَذَا يُكْنَى أَبَا صَخْرَةَ.

قَوْلُهُ: (إِنِّي عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَقَلْتُ نَاقَتِي بِالْبَابِ فَأَتَاهُ نَاسٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ، فَفِيهِ تَعَقُّبٌ عَلَى مَنْ وَحَّدَ بَيْنَ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَبَيْنَ الْقِصَّةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي الْمَغَازِي مِنْ حَدِيثِ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَمَعَهُ بِلَالٌ، فَأَتَاهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: أَلَا تُنْجِزُ لِي مَا وَعَدْتَنِي؟ فَقَالَ لَهُ: أَبْشِرْ، فَقَالَ: قَدْ أَكْثَرْتَ عَلَيَّ مِنْ أَبْشِرْ، فَأَقْبَلَ عَلَى أَبِي مُوسَى، وَبِلَالٌ كَهَيْئَةِ الْغَضْبَانِ، فَقَالَ: رَدَّ الْبُشْرَى، فَاقْبَلَا أَنْتُمَا، قَالَا: قَبِلْنَا. الْحَدِيثَ فَفَسَّرَ الْقَائِلَ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ: بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا بِهَذَا الْأَعْرَابِيِّ، وَفَسَّرَ أَهْلَ الْيَمَنِ بِأَبِي مُوسَى وَوَجْهُ التَّعَقُّبِ التَّصْرِيحُ فِي قِصَّةِ أَبِي مُوسَى بِأَنَّ الْقِصَّةَ كَانَتْ بِالْجِعْرَانَةِ، وَظَاهِرَ قِصَّةِ عِمْرَانَ أَنَّهَا كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ فَافْتَرَقَا وَزَعَمَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ الْقَائِلَ: أَعْطِنَا هُوَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ.

قَوْلُهُ: (إِذْ جَاءَهُ قَوْمٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ) فِي رِوَايَةِ أَبِي عَاصِمٍ، عَنِ الثَّوْرِيِّ فِي الْمَغَازِي: جَاءَتْ بَنُو تَمِيمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى إِرَادَةِ بَعْضِهِمْ وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْهُ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ: جَاءَ نَفَرٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ وَالْمُرَادُ وَفْدُ تَمِيمٍ كما جَاءَ صَرِيحًا عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ مُؤَمِّلِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ سُفْيَانَ: جَاءَ وَفْدٌ بَنِي تَمِيمٍ.

قَوْلُهُ: (اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ) فِي رِوَايَةِ أَبِي عَاصِمٍ: أَبْشِرُوا يَا بَنِي تَمِيمٍ، وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ الْبِشَارَةِ أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ نَجَا مِنَ الْخُلُودِ فِي النَّارِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَرَتَّبُ جَزَاؤُهُ عَلَى وَفْقِ عَمَلِهِ إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: بَشَّرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا يَقْتَضِي دُخُولَ الْجَنَّةِ حَيْثُ عَرَّفَهُمْ أُصُولَ الْعَقَائِدِ الَّتِي هِيَ الْمَبْدَأُ وَالْمَعَادُ وَمَا بَيْنَهُمَا، كَذَا قَالَ، وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّعْرِيفُ هُنَا لِأَهْلِ الْيَمَنِ وَذَلِكَ ظَاهِرٌ مِنْ سِيَاقِ الْحَدِيثِ، وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ قَالَ فِي قَوْلِ بَنِي تَمِيمٍ: جِئْنَاكَ لِنَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ لَا يَنْعَقِدُ بِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَحْدَهَا، وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّ الصَّوَابَ أَنَّهُ قَوْلُ أَهْلِ الْيَمَنِ لَا بَنِي تَمِيمٍ، وَهُوَ كَمَا قَالَ ابْنُ التِّينِ، لَكِنْ وَقَعَ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مَعْنٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِهَذَا السَّنَدِ مَا نَصُّهُ: دَخَلَ عَلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جِئْنَاكَ لِنَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ وَنَسْأَلَكَ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَهْلَ الْيَمَنِ وَهُوَ خَطَأٌ مِنْ هَذَا الرَّاوِي كَأَنَّهُ اخْتَصَرَ الْحَدِيثَ فَوَقَعَ فِي هَذَا الْوَهْمِ.

قَوْلُهُ: (قَالُوا: بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا). زَادَ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ: مَرَّتَيْنِ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ جَامِعٍ فِي الْمَغَازِي: فَقَالُوا: أَمَا إِذَا بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا، وَفِيهَا: فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ: فَكَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَرِهَ ذَلِكَ. وَفِي أُخْرَى فِي الْمَغَازِي مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ أَيْضًا: فَرُئِيَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، وَفِيهَا: فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَشَّرْتَنَا وَهُوَ دَالٌّ عَلَى إِسْلَامِهِمْ، وَإِنَّمَا رَامُوا الْعَاجِلَ، وَسَبَبُ غَضَبِهِ صلى الله عليه وسلم اسْتِشْعَارُهُ بِقِلَّةِ عِلْمِهِمْ لِكَوْنِهِمْ عَلَّقُوا آمَالَهُمْ بِعَاجِلِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ، وَقَدَّمُوا ذَلِكَ عَلَى التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ الَّذِي يُحَصِّلُ لَهُمْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: دَلَّ قَوْلُهُمْ: بَشَّرْتَنَا عَلَى أَنَّهُمْ قَبِلُوا فِي الْجُمْلَةِ لَكِنْ طَلَبُوا مَعَ ذَلِكَ شَيْئًا مِنَ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا نَفَى عَنْهُمُ الْقَبُولَ الْمَطْلُوبَ لَا مُطْلَقَ الْقَبُولِ، وَغَضِبَ حَيْثُ لَمْ يَهْتَمُّوا بِالسُّؤَالِ عَنْ حَقَائِقِ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ وَالْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ وَلَمْ يَعْتَنُوا بِضَبْطِهَا وَلَمْ يَسْأَلُوا عَنْ مُوجِبَاتِهَا وَالْمُوَصِّلَاتِ إِلَيْهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: لَمَّا لَمْ يَكُنْ جُلُّ اهْتِمَامِهِمْ إِلَّا بِشَأْنِ الدُّنْيَا، قَالُوا: بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا، فَمِنْ ثَمَّ قَالَ: إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ.

قَوْلُهُ: (فَدَخَلَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ) فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ: ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي عَاصِمٍ: فَجَاءَهُ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ.

قَوْلُهُ: (قَالُوا: قَبِلْنَا) زَادَ أَبُو عَاصِمٍ، وَأَبُو نُعَيْمٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَذَا عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ رِوَايَةِ شَيْبَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ،

ص: 409

عَنْ جَامِعٍ.

قَوْلُهُ: (جِئْنَاكَ لِنَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ وَلِنَسْأَلَكَ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ مَا كَانَ) هَذِهِ الرِّوَايَةُ أَتَمُّ الرِّوَايَاتِ الْوَاقِعَةُ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ، وَحَذَفَ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي بَعْضِهَا أَوْ بَعْضَهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: قَالُوا: قَدْ بَشَّرْتَنَا فَأَخْبِرْنَا عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ كَيْفَ كَانَ، وَلَمْ أَعْرِفِ اسْمَ قَائِلِ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَمْرِ فِي قَوْلِهِمْ هَذَا الْأَمْرُ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ.

قَوْلُهُ: (كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ) تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ بِلَفْظِ: وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ: كَانَ اللَّهُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ بِمَعْنَى: كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ، وَهِيَ أَصَرْحُ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ أَثْبَتَ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا مِنْ رِوَايَةِ الْبَابِ، وَهِيَ مِنْ مُسْتَشْنَعِ الْمَسَائِلِ الْمَنْسُوبَةِ لِابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَوَقَفْتُ فِي كَلَامٍ لَهُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، يُرَجِّحُ الرِّوَايَةَ الَّتِي فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى غَيْرِهَا، مَعَ أَنَّ قَضِيَّةَ الْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ تَقْتَضِي حَمْلَ هَذِهِ عَلَى الَّتِي فِي بَدْءِ الْخَلْقِ لَا الْعَكْسَ، وَالْجَمْعُ يُقَدَّمُ عَلَى التَّرْجِيحِ بِالِاتِّفَاقِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ حَالٌ، وَفِي الْمَذْهَبِ الْكُوفِيِّ خَبَرٌ، وَالْمَعْنَى يُسَاعِدُهُ إِذِ التَّقْدِيرُ كَانَ اللَّهُ مُنْفَرِدًا، وَقَدْ جَوَّزَ الْأَخْفَشُ دُخُولَ الْوَاوِ فِي خَبَرِ كَانَ وَأَخَوَاتِهَا نَحْوَ: كَانَ زَيْدٌ وَأَبُوهُ قَائِمٌ، عَلَى جَعْلِ الْجُمْلَةِ خَبَرًا مَعَ الْوَاوِ تَشْبِيهًا لِلْخَبَرِ بِالْحَالِ، وَمَالَ التُّورْبَشْتِيُّ إِلَى أَنَّهُمَا جُمْلَتَانِ مُسْتَقِلَّتَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ لَفْظَةُ: كَانَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِحَسَبِ حَالِ مَدْخُولِهَا، فَالْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ الْأَزَلِيَّةُ وَالْقِدَمُ، وَبِالثَّانِي الْحُدُوثُ بَعْدَ الْعَدَمِ، ثُمَّ قَالَ: فَالْحَاصِلُ أَنَّ عَطْفَ قَوْلِهِ: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} عَلَى قَوْلِهِ: كَانَ اللَّهُ مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ عَنْ حُصُولِ الْجُمْلَتَيْنِ فِي الْوُجُودِ وَتَفْوِيضِ التَّرْتِيبِ إِلَى الذِّهْنِ، قَالُوا: وَفِيهِ بِمَنْزِلَةِ ثُمَّ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: قَوْلُهُ: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: كَانَ اللَّهُ وَلَا يَلْزَمُ

مِنْهُ الْمَعِيَّةُ إِذِ اللَّازِمُ مِنَ الْوَاوِ الْعَاطِفَةِ الِاجْتِمَاعُ فِي أَصْلِ الثُّبُوتِ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، قَالَ غَيْرُهُ: وَمِنْ ثَمَّ جَاءَ شَيْءٌ غَيْرُهُ، وَمِنْ ثَمَّ جَاءَ قَوْلُهُ: وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ لِنَفْيِ تَوَهُّمِ الْمَعِيَّةِ، قَالَ الرَّاغِبُ: كَانَ عِبَارَةٌ عَمَّا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ؛ لَكِنَّهَا فِي كَثِيرٍ مِنْ وَصْفِ اللَّهِ تَعَالَى تُنْبِئُ عَنْ مَعْنَى الْأَزَلِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} قَالَ: وَمَا اسْتُعْمِلَ مِنْهُ فِي وَصْفِ شَيْءٍ مُتَعَلِّقًا بِوَصْفٍ لَهُ هُوَ مَوْجُودٌ فِيهِ فَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ لَازِمٌ لَهُ أَوْ قَلِيلُ الِانْفِكَاكِ عَنْهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} وَقَوْلُهُ: {وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا} وَإِذَا اسْتُعْمِلَ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَعْمَلُ عَلَى حَالِهِ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَغَيَّرَ، نَحْوَ: كَانَ فُلَانٌ كَذَا ثُمَّ صَارَ كَذَا، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْعَالَمَ حَادِثٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ ظَاهِرٌ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ سِوَى اللَّهِ وُجِدَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا.

قَوْلُهُ: (أَدْرِكْ نَاقَتَكَ فَقَدْ ذَهَبَتْ) فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ: انْحَلَّتْ نَاقَتُكَ مِنْ عِقَالِهَا. وَزَادَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: فَلَا أَدْرِي مَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ، أَيْ: مِمَّا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَكْمِلَةً لِذَلِكَ الْحَدِيثِ. قُلْتُ: وَلَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَسَانِيدِ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى نَظِيرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا عِمْرَانُ، وَلَوْ وُجِدَ ذَلِكَ لَأَمْكَنَ أَنْ يُعْرَفَ مِنْهُ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ عِمْرَانُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اتُّفِقَ أَنَّ الْحَدِيثَ انْتَهَى عِنْدَ قِيَامِهِ.

قَوْلُهُ: (وَأَيْمُ اللَّهِ) تَقَدَّمَ شَرْحُهَا فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ.

قَوْلُهُ: (لَوَدِدْتُ أَنَّهَا قَدْ ذَهَبَتْ وَلَمْ أَقُمْ) الْوُدُّ الْمَذْكُورُ تَسَلَّطَ عَلَى مَجْمُوعِ ذَهَابِهَا وَعَدَمِ قِيَامِهِ لَا عَلَى أَحَدِهِمَا فَقَطْ؛ لِأَنَّ ذَهَابَهَا كَانَ قَدْ تَحَقَّقَ بِانْفِلَاتِهَا، وَالْمُرَادُ بِالذَّهَابِ الْفَقْدُ الْكُلِّيُّ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّ يَمِينَ اللَّهِ مَلْأَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ قَبْلَ بَابَيْنِ، وَقَوْلُهُ هُنَا: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَقَعَ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ: وَالْعَرْشُ عَلَى الْمَاءِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ كَذَلِكَ حِينَ التَّحْدِيثِ بِذَلِكَ؛ وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ الْعَرْشَ كَانَ عَلَى الْمَاءِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَيُجْمَعُ بِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ عَلَى الْمَاءِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمَاءِ مَاءَ الْبَحْرِ، بَلْ هُوَ مَاءٌ تَحْتَ الْعَرْشِ كَمَا شَاءَ اللَّهُ

ص: 410

تَعَالَى، وَقَدْ جَاءَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ ذَكَرْتُهُ فِي أَوَائِلِ الْبَابِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْبَحْرِ، بِمَعْنَى أَنَّ أَرْجُلَ حَمَلَتْهُ فِي الْبَحْرِ كَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ، مِمَّا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} قَالَ: إِنَّ الصَّخْرَةَ الَّتِي الْأَرْضُ السَّابِعَةُ عَلَيْهَا، وَهِيَ مُنْتَهَى الْخَلْقِ عَلَى أَرْجَائِهَا أَرْبَعَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ، وَجْهُ إِنْسَانٍ وَأَسَدٍ وَثَوْرٍ وَنِسْرٍ، فَهُمْ قِيَامٌ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطُوا بِالْأَرَضِينَ وَالسَّمَاوَاتِ، رُءُوسُهُمْ تَحْتَ الْكُرْسِيِّ وَالْكُرْسِيُّ تَحْتَ الْعَرْشِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الطَّوِيلِ الَّذِي صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ مَعَ الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ، وَفَضْلُ الْعَرْشِ عَلَى الْكُرْسِيِّ كَفَضْلِ الْفَلَاةِ عَلَى الْحَلْقَةِ، وَلَهُ شَاهِدٌ عَنْ مُجَاهِدٍ أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي التَّفْسِيرِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْهُ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ) كَذَا لِلْجَمِيعِ غَيْرُ مَنْسُوبِ، وَذَكَرَ أَبُو نَصْرٍ الْكَلَابَاذِيُّ أَنَّهُ أَحْمَدُ بْنُ يَسَارٍ الْمَرْوَزِيُّ، وَقَالَ الْحَاكِمُ: هُوَ أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ، يَعْنِي: الْمَذْكُورَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ، وَشَيْخُهُ فِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ قَدْ أَخْرَجَ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَجَزَمَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ بِأَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيِّ وَلَمْ يَذْكُرْ وَاسِطَةً، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ طَرَفًا مِنْهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قِصَّةِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ هُنَاكَ مَبْسُوطًا.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَنَسٌ: لَوْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَاتِمًا شَيْئًا لَكَتَمَ هَذِهِ)، ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ، لَكِنْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ عَنْهُ نَزَلَتْ:{وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} فِي شَأْنِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَكَانَ زَيْدٌ يَشْكُو وَهَمَّ بِطَلَاقِهَا يَسْتَأْمِرُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ:{أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} وَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ هُنَا بِلَفْظِ: وَعَنْ ثَابِتٍ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ إِلَخْ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ مَوْصُولٌ أَنَّهُ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ وَلَيْسَ بِمُعَلَّقٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَوْ كَانَ كَاتِمًا إِلَخْ، فَلَمْ أَرَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مَوْصُولًا عَنْ أَنَسٍ، وَذَكَرَ ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ أَنَّهُ نَسَبَ قَوْلَهُ: لَوْ كَانَ كَاتِمًا لَكَتَمَ قِصَّةَ زَيْنَبَ إِلَى عَائِشَةَ، قَالَ: وَعَنْ غَيْرِهَا: لَكَتَمَ عَبَسَ وَتَوَلَّى، قُلْتُ: قَدْ ذَكَرْتُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ حَدِيثَ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَوْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَاتِمًا شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ الْحَدِيثَ، وَأَنَّهُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، ثُمَّ وَجَدْتُهُ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ مِنْ لَفْظِهِ صلى الله عليه وسلم: لَوْ كُنْتُ كَاتِمًا شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ الْحَدِيثَ، وَاقْتَصَرَ عِيَاضٌ فِي الشِّفَاءِ عَلَى نِسْبَتِهَا إِلَى عَائِشَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَأَغْفَلَ حَدِيثَ أَنَسٍ هَذَا، وَهُوَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ تَخْرِيجِ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَفِي الْبَابِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَشَارَ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ.

وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى فِي عَبَسَ وَتَوَلَّى فَلَمْ أَرَهَا إِلَّا عِنْدَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَحَدِ الضُّعَفَاءِ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: كَانَ يُقَالُ: لَوْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَتَمَ شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ لَكَتَمَ هَذَا عَنْ نَفْسِهِ، وَذَكَرَ قِصَّةَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وَنُزُولَ عَبَسَ وَتَوَلَّى، انْتَهَى. وَقَدْ أَخْرَجَ الْقِصَّةَ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو يَعْلَى، وَالطَّبَرِيُّ، وَالْحَاكِمُ مَوْصُولَةً عَنْ عَائِشَةَ، وَلَيْسَ فِيهَا هَذِهِ الزِّيَادَةُ، وَأَخْرَجَهَا مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ مُرْسَلَةً وَهُوَ الْمَحْفُوظُ عَنْ هِشَامٍ، وَتَفَرَّدَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ بِوَصْلِهِ عَنْ هِشَامٍ، وَأَخْرَجَهَا ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ كَذَلِكَ بِدُونِهَا، وَكَذَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ، وَأَوْرَدَهَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ مُرْسَلِ قَتَادَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَأَبِي مَالِكٍ الْغِفَارِيِّ، وَالضَّحَّاكِ، وَالْحَكَمِ وَغَيْرِهِمْ، وَلَيْسَ فِي رِوَايَةِ أَحَدٍ مِنْهُمْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ: فَكَانَتْ زَيْنَبُ تَفْخَرُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى قَوْلِهَا - وَزَوَّجَنِي اللَّهُ عز وجل مِنْ فَوْقِ

ص: 411

سَبْعِ سَمَاوَاتٍ)، أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَارِمِ بْنِ الْفَضْلِ، عَنْ حَمَّادٍ بِهَذَا السَّنَدِ بِلَفْظِ: نَزَلَتْ فِي زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} الْآيَةَ، وَكَانَتْ تَفْخَرُ إِلَخْ ثُمَّ ذَكَرَ رِوَايَةَ عِيسَى بْنِ طَهْمَانَ، عَنْ أَنَسٍ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ آخِرُ مَا وَقَعَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ ثُلَاثِيَّاتِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لِعِيسَى حَدِيثٌ آخَرُ فِي اللِّبَاسِ، لَكِنَّهُ لَيْسَ ثُلَاثِيًّا وَلَفْظُهُ هُنَا: وَكَانَتْ تَفْخَرُ عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَتْ تَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ أَنْكَحَنِي فِي السَّمَاءِ، وَزَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْفِرْيَابِيِّ، وَأَبِي قُتَيْبَةَ، عَنْ عِيسَى: أَنْتُنَّ أَنْكَحَكُنَّ آبَاؤُكُنَّ.

وَهَذَا الْإِطْلَاقُ مَحْمُولٌ عَلَى الْبَعْضِ، وَإِلَّا فَالْمُحَقَّقُ أَنَّ الَّتِي زَوَّجَهَا أَبُوهَا مِنْهُنَّ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ فَقَطْ، وَفِي سَوْدَةَ وَزَيْنَبَ بِنْتِ خُزَيْمَةَ، وَجُوَيْرِيَةَ احْتِمَالٌ، وَأَمَّا أُمُّ سَلَمَةَ وَأُمُّ حَبِيبَةَ، وَصَفِيَّةُ، وَمَيْمُونَةُ فَلَمْ يُزَوِّجْ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ أَبُوهَا، وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ: قَالَتْ زَيْنَبُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَسْتُ كَأَحَدٍ مِنْ نِسَائِكَ، لَيْسَتْ مِنْهُنَّ امْرَأَةٌ إِلَّا زَوَّجَهَا أَبُوهَا أَوْ أَخُوهَا أَوْ أَهْلُهَا غَيْرِي وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَوْصُولٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: قَالَتْ زَيْنَبُ: مَا أَنَا كَأَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ إِنَّهُنَّ زُوِّجْنَ بِالْمُهُورِ زَوَّجَهُنَّ الْأَوْلِيَاءُ، وَأَنَا زَوَّجَنِيَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم، وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي الْكِتَابِ، وَفِي مُرْسَلِ الشَّعْبِيِّ: قَالَتْ زَيْنَبُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا أَعْظَمُ نِسَائِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، أَنَا خَيْرُهُنَّ مَنْكِحًا وَأَكْرَمُهُنَّ سَفِيرًا وَأَقْرَبُهُنَّ رَحِمًا، فَزَوَّجَنِيكَ الرَّحْمَنُ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ، وَكَانَ جِبْرِيلُ هُوَ السَّفِيرُ بِذَلِكَ، وَأَنَا ابْنَةُ عَمَّتِكَ وَلَيْسَ لَكَ مِنْ نِسَائِكَ قَرِيبَةٌ غَيْرِي، أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، وَأَبُو الْقَاسِمِ الطَّحَاوِيُّ فِي كِتَابِ الْحُجَّةِ وَالتِّبْيَانِ لَهُ.

قَوْلُهُ: (مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ) فِي رِوَايَةِ عِيسَى بْنِ طَهْمَانَ، عَنْ أَنَسٍ الْمَذْكُورَةِ عَقِبَ هَذَا: وَكَانَتْ تَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ عز وجل أَنْكَحَنِي فِي السَّمَاءِ، وَسَنَدُهُ هَذِهِ آخِرُ الثُّلَاثِيَّاتِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الْبُخَارِيِّ، وَتَقَدَّمَ لِعِيسَى بْنِ طَهْمَانَ حَدِيثٌ آخَرُ غَيْرُ ثُلَاثِيٍّ تَكَلَّمَ فِيهِ ابْنُ حِبَّانَ بِكَلَامٍ لَمْ يَقْبَلُوهُ مِنْهُ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: وَأَطْعَمَ عَلَيْهَا يَوْمَئِذٍ خُبْزًا وَلَحْمًا، يَعْنِي: فِي وَلِيمَتِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَاضِحًا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ.

قَوْلُهُ: (فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، بَعْدَ قَوْلِهِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، وَعَنْ ثَابِتٍ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ إِلَخْ) كَذَا وَقَعَ مُرْسَلًا لَيْسَ فِيهِ أَنَسٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ يَعْلَى بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ مَوْصُولًا بِذِكْرِ أَنَسٍ فِيهِ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَةَ مَوْصُولًا، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ لُوَيْنٌ، عَنْ حَمَّادٍ مَوْصُولًا أَيْضًا، وَقَدْ بَيَّنَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ كَيْفِيَّةَ تَزْوِيجِ زَيْنَبَ: قَالَ: لَمَّا انْقَضَتْ عِدَّةُ زَيْنَبَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِزَيْدٍ اذْكُرْهَا عَلَيَّ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ قَوْلُهُ: فِي السَّمَاءِ ظَاهِرُهُ غَيْرُ مُرَادٍ، إِذِ اللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْحُلُولِ فِي الْمَكَانِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ جِهَةُ الْعُلُوِّ أَشْرَفَ مِنْ غَيْرِهَا أَضَافَهَا إِلَيْهِ إِشَارَةً إِلَى عُلُوِّ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ، وَبِنَحْوِ هَذَا أَجَابَ غَيْرُهُ عَنِ الْأَلْفَاظِ الْوَارِدَةِ مِنَ الْفَوْقِيَّةِ وَنَحْوِهَا، قَالَ الرَّاغِبُ: فَوْقَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَالْجِسْمِ وَالْعَدَدِ وَالْمَنْزِلَةِ وَالْقَهْرِ.

فَالْأَوَّلُ: بِاعْتِبَارِ الْعُلُوِّ وَيُقَابِلُهُ تَحْتَ نَحْوَ: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}

وَالثَّانِي: بِاعْتِبَارِ الصُّعُودِ وَالِانْحِدَارِ، نَحْوَ:{إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ}

وَالثَّالِثُ: فِي الْعَدَدِ نَحْوَ: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ}

والرَّابِعُ: فِي الْكِبَرِ وَالصِّغَرِ، كَقَوْلِهِ:{بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}

وَالْخَامِسُ: يَقَعُ تَارَةً بِاعْتِبَارِ الْفَضِيلَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، نَحْوَ:{وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} أَوِ الْأُخْرَوِيَّةِ نَحْوَ: {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}

وَالسَّادِسُ: نَحْوَ قَوْلِهِ: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} ، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} انْتَهَى مُلَخَّصًا.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَضَى الْخَلْقَ كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ: إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ:{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} وَيَأْتِي بَعْضُ

ص: 412

الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ: إِمَّا الْقَضَاءُ الَّذِي قَضَاهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} أَيْ: قَضَى ذَلِكَ، قَالَ: وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَوْقَ الْعَرْشِ، أَيْ: عِنْدَهُ عِلْمُ ذَلِكَ فَهُوَ لَا يَنْسَاهُ وَلَا يُبَدِّلُهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} وَإِمَّا اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ الَّذِي فِيهِ ذِكْرُ أَصْنَافِ الْخَلْقِ وَبَيَانُ أُمُورِهِمْ وَآجَالِهِمْ وَأَرْزَاقِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ، وَيَكُونُ مَعْنَى: فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، أَيْ: ذَكَرَهُ وَعَلِمَهُ وَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي التَّخْرِيجِ، عَلَى أَنَّ الْعَرْشَ خَلْقٌ مَخْلُوقٌ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ، فَلَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يُمَاسُّوا الْعَرْشَ إِذَا حَمَلُوهُ، وَإِنْ كَانَ حَامِلُ الْعَرْشِ وَحَامِلُ حَمَلَتِهِ هُوَ اللَّهُ، وَلَيْسَ قَوْلُنَا إِنَّ اللَّهَ عَلَى الْعَرْشِ، أَيْ: مُمَاسٌّ لَهُ أَوْ مُتَمَكِّنٌ فِيهِ أَوْ مُتَحَيِّزٌ فِي جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِهِ بَلْ هُوَ خَبَرٌ جَاءَ بِهِ التَّوْقِيفُ، فَقُلْنَا لَهُ بِهِ وَنَفَيْنَا عَنْهُ التَّكْيِيفَ إِذْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

وَقَوْلُهُ: فَوْقَ عَرْشِهِ صِفَةُ الْكِتَابِ، وَقِيلَ: إِنَّ فَوْقَ هُنَا بِمَعْنَى دُونَ، كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} وَهُوَ بَعِيدٌ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: يُؤْخَذُ مِنْ كَوْنِ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ فَوْقَ الْعَرْشِ أَنَّ الْحِكْمَةَ اقْتَضَتْ أَنْ يَكُونَ الْعَرْشُ حَامِلًا لِمَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ أَثَرِ حِكْمَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَغَامِضِ غَيْبِهِ لِيَسْتَأْثِرَ هُوَ بِذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْعِلْمِ وَالْإِحَاطَةِ، فَيَكُونُ مِنْ أَكْبَرِ الْأَدِلَّةِ عَلَى انْفِرَادِهِ بِعِلْمِ الْغَيْبِ، قَالَ: وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أَيْ: مَا شَاءَهُ مِنْ قُدْرَتِهِ وَهُوَ كِتَابُهُ الَّذِي وَضَعَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي فِيهِ: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةُ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْجِهَادِ مَعَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ، وَأَنَّ مَعْنَاهُ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ ذَلِكَ لَازِمٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا آمِرَ لَهُ وَلَا نَاهِي يُوجِبُ عَلَيْهِ مَا يَلْزَمُهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ إِنْجَازُ مَا وَعَدَ بِهِ مِنَ الثَّوَابِ، وَهُوَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: مِائَةُ دَرَجَةٍ فَلَيْسَ فِي سِيَاقِهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ الْعَدَدَ الْمَذْكُورَ هُوَ جَمِيعُ دَرَجِ الْجَنَّةِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، إِذْ لَيْسَ فِيهِ مَا يَنْفِيهَا، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَرْفُوعِ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَيُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ وَارْقَ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ مَنْزِلَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا وَعَدَدُ آيِ الْقُرْآنِ أَكْثَرُ مِنْ سِتَّةِ آلَافٍ وَمِائَتَيْنِ، وَالْخُلْفُ فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْكُسُورِ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: كُلُّ دَرَجَتَيْنِ مَا بَيْنَهُمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، اخْتَلَفَ الْخَبَرُ الْوَارِدُ فِي قَدْرِ مَسَافَةِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَذَكَرَ هُنَاكَ مَا وَرَدَ فِي التِّرْمِذِيِّ أَنَّهَا مِائَةُ عَامٍ، وَفِي الطَّبَرَانِيُّ خَمْسُمِائَةٍ، وَيُزَادُ هُنَا مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي التَّوْحِيدِ مِنْ صَحِيحِهِ وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: بَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَالَّتِي تَلِيهَا خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَبَيْنَ كُلِّ سَمَاءٍ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَفِي رِوَايَةِ: وَغِلَظُ كُلِّ سَمَاءٍ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَبَيْنَ

السَّابِعَةِ وَبَيْنَ الْكُرْسِيِّ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَبَيْنَ الْكُرْسِيِّ وَبَيْنَ الْمَاءِ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَالْعَرْشُ فَوْقَ الْمَاءِ وَاللَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِكُمْ. وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ، دُونَ قَوْلِهِ: وَبَيْنَ السَّابِعَةِ وَالْكُرْسِيِّ إِلَخْ، وَزَادَ فِيهِ: وَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ إِلَى الْعَرْشِ مِثْلُ جَمِيعِ ذَلِكَ. وَفِي حَدِيثِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ مَرْفُوعًا: هَلْ تَدْرُونَ بُعْدَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: إِحْدَى أَوِ اثْنَتَانِ أَوْ ثَلَاثٌ وَسَبْعُونَ، قَالَ: وَمَا فَوْقَهَا مِثْلُ ذَلِكَ حَتَّى عَدَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ، ثُمَّ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ الْبَحْرُ أَسْفَلُهُ مِنْ أَعْلَاهُ مِثْلُ مَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ، ثُمَّ فَوْقَهُ ثَمَانِيَةٌ أَوْعَالٍ مَا بَيْنَ أَظْلَافِهِنَّ وَرُكَبِهِنَّ مِثْلُ مَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ ثُمَّ الْعَرْشُ فَوْقَ ذَلِكَ بَيْنَ أَسْفَلِهِ وَأَعْلَاهُ مِثْلُ مَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ، ثُمَّ اللَّهُ فَوْقَ ذَلِكَ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ اخْتِلَافِ هَذَا الْعَدَدِ فِي هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ أَنْ تُحْمَلَ الْخَمْسُمِائَةِ عَلَى السَّيْرِ الْبَطِيءِ كَسَيْرِ الْمَاشِي عَلَى هِينَتِهِ، وَتُحْمَلُ السَّبْعِينَ عَلَى السَّيْرِ السَّرِيعِ

ص: 413

كَسَيْرِ السُّعَاةِ، وَلَوْلَا التَّحْدِيدُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى السَّبْعِينَ لَحَمَلْنَا السَّبْعِينَ عَلَى الْمُبَالَغَةِ، فَلَا تُنَافِي الْخَمْسَمِائَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنِ الْفَوْقِيَّةِ فِي الَّذِي قَبْلَهُ.

وَقَوْلُهُ فِيهِ: وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِنَصْبِ فَوْقَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَيُؤَيِّدُهُ الْأَحَادِيثُ الَّتِي قَبْلَ هَذَا، وَحَكَى فِي الْمَشَارِقِ أَنَّ الْأَصِيلِيَّ ضَبَطَهُ بِالرَّفْعِ بِمَعْنَى أَعْلَاهُ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ فِي الْمَطَالِعِ، وَقَالَ: إِنَّمَا قَيَّدَهُ الْأَصِيلِيُّ بِالنَّصْبِ كَغَيْرِهِ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَوْقَهُ لِلْفِرْدَوْسِ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: بَلْ هُوَ رَاجِعُ إِلَى الْجَنَّةِ كُلِّهَا، وَتُعُقِّبَ بِمَا فِي آخِرِ الْحَدِيثِ هُنَا، وَمِنْهُ: تَفَجَّرُ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ، فَإِنَّ الضَّمِيرَ لِلْفِرْدَوْسِ جَزْمًا وَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ لِلْجِنَانِ كُلِّهَا وَإِنْ كَانَ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَمِنْهَا تَفَجَّرُ؛ لِأَنَّهَا خَطَأٌ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ، وَسُفْيَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْذِرِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ بِلَفْظِ: وَمِنْهُ بِالضَّمِيرِ الْمُذَكَّرِ.

الْحَدِيثُ السَّادِسُ: حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ، وَفِي تَفْسِيرِ سُورَةِ يَسْ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا إِثْبَاتُ أَنَّ الْعَرْشَ مَخْلُوقٌ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ لَهُ فَوْقًا وَتَحْتًا وَهُمَا مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ صِفَةُ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنَ الْمَغْرِبِ فِي بَابِ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ مِنْ كِتَابِ الرِّقَاقِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: اسْتِئْذَانُ الشَّمْسِ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ فِيهَا حَيَاةً يُوجَدُ الْقَوْلُ عِنْدَهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى إِحْيَاءِ الْجَمَادِ وَالْمَوَاتِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِئْذَانُ أُسْنِدَ إِلَيْهَا مَجَازًا، وَالْمُرَادُ مَنْ هُوَ مُوَكَّلٌ بِهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ.

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ بِهَذَا، وَقَالَ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ.

الْحَدِيثُ السَّابِعُ: حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي جَمْعِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ آخِرُ سُورَةِ بَرَاءَةٌ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} - إِلَى قَوْلِهِ - {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ أَنَّ لِلْعَرْشِ رَبًّا، فَهُوَ مَرْبُوبٌ وَكُلُّ مَرْبُوبٍ مَخْلُوقٌ، وَمُوسَى شَيْخُهُ فِيهِ هُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ، وَإِبْرَاهِيمُ شَيْخُ شَيْخِهِ فِي السَّنَدِ الْأَوَّلِ هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، وَرِوَايَةُ اللَّيْثِ الْمُعَلَّقَةُ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَنْ وَصَلَهَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ بَرَاءَةٌ، وَرِوَايَتُهُ الْمُسْنَدَةُ تَقَدَّمَ سِيَاقُهَا فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ مَعَ شَرْحِ الْحَدِيثِ.

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي دُعَاءِ الْكَرْبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ، وَسَعِيدٌ فِي سَنَدِهِ هُوَ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ وَأَبُو الْعَالِيَةِ هُوَ الرِّيَاحِيُّ بِكَسْرٍ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ خَفِيفَةٍ، وَاسْمُهُ رُفَيْعٌ بِفَاءٍ مُصَغَّرٌ، وَأَمَّا أَبُو الْعَالِيَةِ الْبَرَّاءُ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ فَاسْمُهُ زِيَادُ بْنُ فَيْرُوزَ، وَرِوَايَتُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَبْوَابِ تَقْصِيرِ الصَّلَاةِ.

الْحَدِيثُ التَّاسِعُ: حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ ذَكَرَهُ مُخْتَصَرًا، وَتَقَدَّمَ بِهَذَا السَّنَدِ الَّذِي هُنَا تَامًّا فِي كِتَابِ الْأَشْخَاصِ، وَقَوْلُهُ: وَقَالَ الْمَاجِشُونُ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَضَمِّ الْمُعْجَمَةِ، هُوَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْفَضْلِ، أَيِ: ابْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْهَاشِمِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيُّ فِي الْأَطْرَافِ، وَتَبِعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ: إِنَّمَا رَوَى الْمَاجِشُونَ هَذَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ، عَنِ الْأَعْرَجِ لَا عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَحَكَمُوا عَلَى الْبُخَارِيِّ بِالْوَهْمِ فِي قَوْلِهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَحَدِيثُ الْأَعْرَجِ الَّذِي أُشِيرَ إِلَيْهِ تَقَدَّمَ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونِ كَمَا قَالُوا، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي الْفَضَائِلِ وَالنَّسَائِيُّ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ طَرِيقِهِ، وَلَكِنْ تَحَرَّرَ لِي أَنَّ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ شَيْخَيْنِ، فَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ طَرَفًا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، وَظَهَرَ لِي أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: عَنِ الْمَاجِشُونِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ، عَنِ الْأَعْرَجِ أَرْجَحُ، وَمِنْ ثَمَّ وَصَلَهَا الْبُخَارِيُّ وَعَلَّقَ الْأُخْرَى، فَإِنْ سَلَكْنَا سَبِيلَ الْجَمْعِ اسْتَغْنَى عَنِ التَّرْجِيحِ، وَإِلَّا فَلَا اسْتِدْرَاكَ عَلَى الْبُخَارِيِّ فِي الْحَالَيْنِ، وَكَذَا لَا تَعَقُّبَ عَلَى ابْنِ الصَّلَاحِ فِي تَفْرِقَتِهِ بَيْنَ مَا يَقُولُ فِيهِ الْبُخَارِيُّ: قَالَ فُلَانٌ جَازِمًا: فَيَكُونُ مَحْكُومًا بِصِحَّتِهِ بِخِلَافِ مَا لَا يَجْزِمُ بِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ جَازِمًا بِصِحَّتِهِ، وَقَدْ تَمَسَّكَ بَعْضُ مَنِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِهَذَا الْمِثَالِ، فَقَالَ: جَزَمَ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ وَهِيَ وَهْمٌ، وَقَدْ

ص: 414

عُرِفَ مِمَّا حَرَّرْتُهُ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْمَتْنِ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ فِي قِصَّةِ مُوسَى، وَقَدْ سَاقَهُ هُنَاكَ بِتَمَامِهِ بِسَنَدِ الْحَدِيثِ هُنَا.

تَكْمِلَةٌ:

وَقَعَ فِي مُرْسَلِ قَتَادَةَ أَنَّ الْعَرْشَ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ:{وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} قَالَ: هَذَا بَدْءُ خَلْقِهِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاءَ وَعَرْشُهُ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، وَلَهُ شَاهِدٌ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ مَرْفُوعٌ لَكِنَّ سَنَدُهُ ضَعِيفٌ.

‌23 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}

وَقَالَ أَبُو جَمْرَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: بَلَغَ أَبَا ذَرٍّ مَبْعَثُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لِأَخِيهِ: اعْلَمْ لِي عِلْمَ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ يَأْتِيهِ الْخَبَرُ مِنْ السَّمَاءِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ} يَرْفَعُ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ، يُقَالُ:{ذِي الْمَعَارِجِ} الْمَلَائِكَةُ تَعْرُجُ إِلَى اللَّهِ

7429 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ وَصَلَاةِ الْفَجْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهمْ، فَيَقُولُ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي، فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ.

7430 -

وَقَالَ خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ وَلَا يَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ إِلاَّ الطَّيِّبُ فَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فُلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ وَرَوَاهُ وَرْقَاءُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا يَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ إِلاَّ الطَّيِّبُ

7431 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو بِهِنَّ عِنْدَ الْكَرْبِ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ

7432 -

حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ أَبِي نُعْمٍ أَوْ أَبِي نُعْمٍ شَكَّ قَبِيصَةُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ بُعِثَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذُهَيْبَةٍ فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةٍ و حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ أَبِي نُعْمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ بَعَثَ عَلِيٌّ وَهُوَ بِالْيَمَنِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذُهَيْبَةٍ فِي تُرْبَتِهَا فَقَسَمَهَا بَيْنَ الأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ الْحَنْظَلِيِّ ثُمَّ أَحَدِ بَنِي مُجَاشِعٍ وَبَيْنَ عُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ الْفَزَارِيِّ وَبَيْنَ عَلْقَمَةَ

ص: 415

ابْنِ عُلَاثَةَ الْعَامِرِيِّ ثُمَّ أَحَدِ بَنِي كِلَابٍ وَبَيْنَ زَيْدِ الْخَيْلِ الطَّائِيِّ ثُمَّ أَحَدِ بَنِي نَبْهَانَ فَتَغَيَّظَتْ قُرَيْشٌ وَالأَنْصَارُ فَقَالُوا يُعْطِيهِ صَنَادِيدَ أَهْلِ نَجْدٍ وَيَدَعُنَا قَالَ إِنَّمَا أَتَأَلَّفُهُمْ فَأَقْبَلَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ نَاتِئُ الْجَبِينِ كَثُّ اللِّحْيَةِ مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ مَحْلُوقُ الرَّأْسِ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ اتَّقِ اللَّهَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فَمَنْ يُطِيعُ اللَّهَ إِذَا عَصَيْتُهُ فَيَأْمَنُنِي عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ وَلَا تَأْمَنُونِي فَسَأَلَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ قَتْلَهُ أُرَاهُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فَمَنَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا وَلَّى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الإِسْلَامِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنْ الرَّمِيَّةِ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَاقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ.

7433 -

حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَوْلِهِ {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} قَالَ مُسْتَقَرُّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ.

قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} وَقَالَ أَبُو جَمْرَةَ) بِالْجِيمِ وَالرَّاءِ (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بَلَغَ أَبَا ذَرٍّ مَبْعَثُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْحَدِيثَ، (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ، يُقَالُ: ذِي الْمَعَارِجِ: الْمَلَائِكَةُ تَعْرُجُ إِلَى اللَّهِ) أَمَّا الْآيَةُ الْأُولَى فَأَشَارَ إِلَى مَا جَاءَ فِي تَفْسِيرِهَا فِي الْكَلَامِ الْأَخِيرِ، وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ: وَالْمَعَارِجُ مِنْ نَعْتِ اللَّهِ تَعَالَى وَصَفَ بِذَلِكَ نَفْسَهُ؛ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَعْرُجُ إِلَيْهِ، وَحَكَى غَيْرُهُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ:{ذِي الْمَعَارِجِ} أَيِ: الْفَوَاضِلِ الْعَالِيَةِ، وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ فَأَشَارَ إِلَى تَفْسِيرِ مُجَاهِدٍ لَهَا فِي الْأَثَرِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِهَا: الْكَلِمَ الطَّيِّبَ ذِكْرُ اللَّهِ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ أَدَاءُ فَرَائِضِ اللَّهِ، فَمَنْ ذَكَرَ اللَّهَ وَلَمْ يُؤَدِّ فَرَائِضَهُ رَدَّ كَلَامَهُ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ يَرْفَعُ الْكَلَامَ الطَّيِّبَ، أَيْ: يُتَقَبَّلُ الْكَلَامُ الطَّيِّبُ إِذَا كَانَ مَعَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ، وَأَمَّا التَّعْلِيقُ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ فَمَضَى مَوْصُولًا فِي بَابِ إِسْلَامِ أَبِي ذَرٍّ وَسَاقَهُ هُنَاكَ بِطُولِهِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُ أَبِي ذَرٍّ لِأَخِيهِ: اعْلَمْ لِي عِلْمَ هَذَا الَّذِي يَأْتِيهِ الْخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ ثَمَّةَ، قَالَ الرَّاغِبُ: الْعُرُوجُ ذَهَابٌ فِي صُعُودٍ، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْقَالِيُّ فِي كِتَابِهِ الْبَارِعِ: الْمَعَارِجُ جَمْعُ مَعْرَجٍ بِفَتْحَتَيْنِ كَالْمَصَاعِدِ جَمْعُ مَصْعَدٍ، وَالْعُرُوجُ الِارْتِقَاءُ، يُقَالُ: عَرَجَ بِفَتْحِ الرَّاءِ يَعْرُجُ بِضَمِّهَا عُرُوجًا وَمَعْرَجًا، وَالْمِعْرَجُ الْمَصْعَدُ، وَالطَّرِيقُ الَّتِي تَعْرُجُ فِيهَا الْمَلَائِكَةُ إِلَى السَّمَاءِ، وَالْمِعْرَاجُ شَبِيهُ السُّلَّمِ أَوْ دَرَجٌ تَعْرُجُ فِيهِ الْأَرْوَاحُ إِذَا قُبِضَتْ، وَحَيْثُ تَصْعَدُ أَعْمَالُ بَنِي آدَمَ، وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: هُوَ الَّذِي يُعَانِيهِ الْمَرِيضُ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَيَشْخَصُ فِيمَا زَعَمَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ بَالِغٌ فِي الْحُسْنِ بِحَيْثُ إِنَّ النَّفْسَ إِذَا رَأَتْهُ لَا تَتَمَالَكُ أَنْ تَخْرُجَ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: صُعُودُ الْكَلَامِ الطَّيِّبِ وَالصَّدَقَةِ الطَّيِّبَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَبُولِ، وَعُرُوجُ الْمَلَائِكَةِ هُوَ إِلَى مَنَازِلِهِمْ فِي السَّمَاءِ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ مِنَ التَّعْبِيرِ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِلَى اللَّهِ فَهُوَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ عَنِ السَّلَفِ فِي التَّفْوِيضِ، وَعَنِ الْأَئِمَّةِ بَعْدَهُمْ فِي التَّأْوِيلِ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: غَرَضُ الْبُخَارِيِّ فِي هَذَا الْبَابِ الرَّدُّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ الْمُجَسِّمَةِ فِي تَعَلُّقِهَا بِهَذِهِ الظَّوَاهِرِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِجِسْمٍ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى مَكَانٍ يَسْتَقِرُّ فِيهِ فَقَدْ كَانَ وَلَا مَكَانَ، وَإِنَّمَا أَضَافَ الْمَعَارِجَ إِلَيْهِ إِضَافَةَ تَشْرِيفٍ، وَمَعْنَى الِارْتِفَاعِ إِلَيْهِ اعْتِلَاؤُهُ مَعَ تَنْزِيهِهِ عَنِ الْمَكَانِ، انْتَهَى. وَخَلْطُهُ الْمُجَسِّمَةَ بِالْجَهْمِيَّةِ مِنْ أَعْجَبِ مَا يُسْمَعُ، ثُمَّ ذَكَرَ

ص: 416

فِيهِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ لِبَعْضِهَا زِيَادَةٌ عَلَى الطَّرِيقِ الْوَاحِدَةِ.

الْحَدِيثُ الَأَوَّلُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ، إِسْمَاعِيلُ شَيْخُهُ هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ قَوْلُهُ فِيهِ ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِظَوَاهِرِ أَحَادِيثِ الْبَابِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْحَقَّ سبحانه وتعالى فِي جِهَةِ الْعُلُوِّ، وَقَدْ ذَكَرْتُ مَعْنَى الْعُلُوِّ فِي حَقِّهِ جَلَّ وَعَلَا فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ.

وَرَوَاهُ وَرْقَاءُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: وَلَا يَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ إِلَّا الطَّيِّبُ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: (وَقَالَ خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ) كَذَا لِلْجَمِيعِ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْخَطَّابِيِّ فِي شَرْحِهِ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ) هُوَ ابْنُ بِلَالٍ الْمَدَنِيُّ الْمَشْهُورُ، وَقَدْ وَصَلَهُ أَبُو بَكْرٍ الْجَوْزَقِيُّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الدَّغُولِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاذٍ السُّلَمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ فَذَكَرَهُ، مِثْلَ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ سَوَاءً، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُعَاذٍ وَبَيَّضَ لَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ، ثُمَّ قَالَ: رَوَاهُ، فَقَالَ: وَقَالَ خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَخْلَدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، لَكِنْ خَالَفَ فِي شَيْخِ سُلَيْمَانَ، فَقَالَ: عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ كَمَا أَوْضَحْتُ ذَلِكَ فِي أَوَائِلِ الزَّكَاةِ، وَقَدْ ضَاقَ مَخْرَجُهُ عَنِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَأَبِي نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجَيْهِمَا فَأَخْرَجَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ الَّتِي تَقَدَّمَتْ لِلْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ وَدَلَّتِ الرِّوَايَةُ الْمُعَلَّقَةُ وَمُوَافَقَةُ الْجَوْزَقِيِّ لَهَا عَلَى أَنَّ لِخَالِدٍ فِيهِ شَيْخَيْنِ، كَمَا أَنَّ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ فِيهِ شَيْخَيْنِ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّعْلِيقُ الَّذِي بَعْدَهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ وَرْقَاءُ) يَعْنِي ابْنَ عُمَرَ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: وَلَا يَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ إِلَّا الطَّيِّبُ)، يُرِيدُ أَنَّ رِوَايَةَ وَرْقَاءَ مُوَافِقَةٌ لِرِوَايَةِ سُلَيْمَانَ إِلَّا فِي شَيْخِ شَيْخِهِمَا، فَعِنْدَ سُلَيْمَانَ أَنَّهُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، وَعِنْدَ وَرْقَاءَ أَنَّهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ هَذَا فِي السَّنَدِ، وَأَمَّا فِي الْمَتْنِ فَظَاهِرُهُ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ، إِلَّا فِي قَوْلِهِ: الطَّيِّبَ فَإِنَّهُ فِي رِوَايَةِ وَرْقَاءَ: طَيِّبٍ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَلَامٍ، وَقَدْ وَصَلَهَا الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي النَّضْرِ هَاشِمِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ وَرْقَاءَ، فَوَقَعَ عِنْدَهُ الطَّيِّبَ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: مِثْلَ أُحُدٍ عِوَضُ قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْمُعَلَّقَةِ: مِثْلَ الْجَبَلِ، وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْمُعَلَّقَةِ: يَتَقَبَّلُهَا، وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: يَقْبَلُهَا مُخَفَّفًا بِغَيْرِ مُثَنَّاةٍ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْبَيْهَقِيِّ، وَقَوْلُهُ: يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي: يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا وَهِيَ رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ وَالْبَاقِي سَوَاءٌ، وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي الزَّكَاةِ أَنِّي لَمْ أَقِفْ عَلَى رِوَايَةِ وَرْقَاءَ هَذِهِ الْمُعَلَّقَةِ ثُمَّ وَجَدْتُهَا بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ كِتَابَتِي هُنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْمَتْنِ فِي كِتَابُ الزَّكَاةِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: ذِكْرُ الْيَمِينِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَعْنَاهُ حُسْنُ الْقَبُولِ، فَإِنَّ الْعَادَةَ قَدْ جَرَتْ مِنْ ذَوِي الْأَدَبِ بِأَنْ تُصَانَ الْيَمِينُ عَنْ مَسِّ الْأَشْيَاءِ الدَّنِيئَةِ، وَإِنَّمَا تُبَاشَرُ بِهَا الْأَشْيَاءَ الَّتِي لَهَا قَدْرٌ وَمَزِيَّةٌ وَلَيْسَ فِيمَا يُضَافُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ صِفَةِ الْيَدَيْنِ شِمَالٌ؛ لِأَنَّ الشِّمَالَ لِمَحَلِّ

النَّقْصِ فِي الضَّعِيفِ، وَقَدْ رُوِيَ: كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ وَلَيْسَ الْيَدُ عِنْدَنَا الْجَارِحَةُ إِنَّمَا هِيَ صِفَةٌ جَاءَ بِهَا التَّوْقِيفُ فَنَحْنُ نُطْلِقُهَا عَلَى مَا جَاءَتْ وَلَا نُكَيِّفُهَا وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، انْتَهَى. وَقَدْ مَضَى بَعْضُ مَا يُتَعَقَّبُ بِهِ كَلَامُهُ فِي بَابِ قَوْلِهِ {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} .

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي دُعَاءِ الْكَرْبِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ ذَكَرَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ، عَنْ سُفْيَانَ، وَهُوَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُوهُ هُوَ سَعِيدُ بْنُ مَسْرُوقٍ، وَابْنُ أَبِي نُعْمٍ هُوَ بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، اسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَالَّذِي وَقَعَ عِنْدَ قَبِيصَةَ - شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ مِنَ الشَّكِّ، هَلْ هُوَ أَبُو نُعْمٍ أَوِ ابْنُ أَبِي نُعْمٍ؟ لَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ قَبِيصَةُ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ طَرِيقَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَقِبَ رِوَايَةِ قَبِيصَةَ مَعَ نُزُولِهَا وَعُلُوِّ رِوَايَةِ قَبِيصَةَ لِخُلُوِّ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ مِنَ الشَّكِّ، وَقَدْ مَضَى فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ سُفْيَانَ بِالْجَزْمِ، وَمَضَى شَرْحُ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْفِتَنِ، وَقَوْلُهُ: بُعِثَ إِلَى

ص: 417

النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذُهَيْبَةٍ.

كَذَا فِيهِ: بُعِثَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَبَيَّنَهُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِقَوْلِهِ: بَعَثَ عَلِيٌّ وَهُوَ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ (وَهُوَ فِي الْيَمَنِ)، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِالْيَمَنِ، وَقَوْلُهُ: فَقَسَّمَهَا بَيْنَ الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ الْحَنْظَلِيِّ ثُمَّ أَحَدِ بَنِي مُجَاشِعٍ، بِجِيمٍ خَفِيفَةٍ وَشِينٍ مُعْجَمَةٍ مَكْسُورَةٍ (وَبَيْنَ عُيَيْنَةَ) بِمُهْمَلَةٍ وَنُونٍ مُصَغَّرٌ، ابْنِ بَدْرٍ الْفَزَارِيِّ، وَبَيْنَ عَلْقَمَةَ بْنِ عُلَاثَةَ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ بَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ (الْعَامِرِيُّ ثُمَّ أَحَدِ بَنِي كِلَابٍ وَبَيْنَ زَيْدِ الْخَيْلِ الطَّائِيِّ ثُمَّ أَحَدِ بَنِي نَبْهَانَ) وَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ كَانُوا مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ رَئِيسُ قَوْمِهِ، فَأَمَّا الْأَقْرَعُ فَهُوَ ابْنُ حَابِسٍ بِمُهْمَلَتَيْنِ وَبِمُوَحَّدَةٍ، ابْنُ عِقَالٍ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَقَافٍ خَفِيفَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَسَبُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ، وَلَهُ ذِكْرٌ فِي قَسْمِ الْغَنِيمَةِ يَوْمَ حُنَيْنٍ، قَالَ الْمُبَرِّدُ: كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ رَئِيسَ خِنْدَفَ، وَكَانَ مَحَلُّهُ فِيهَا مَحَلَّ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ فِي قَيْسٍ.

وَقَالَ الْمَرْزُبَانِيُّ: هُوَ أَوَّلُ مَنْ حَرَّمَ الْقِمَارَ، وَقِيلَ: كَانَ سَنُوطًا أَعْرَجَ مَعَ قَرَعِهِ وَعَوَرِهِ، وَكَانَ يَحْكُمُ فِي الْمَوَاسِمِ، وَهُوَ آخِرُ الْحُكَّامِ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، ويقال: إِنَّهُ كَانَ مِمَّنْ دَخَلَ مِنَ الْعَرَبِ فِي الْمَجُوسِيَّةِ، ثُمَّ أَسْلَمَ وَشَهِدَ الْفُتُوحَ وَاسْتُشْهِدَ بِالْيَرْمُوكِ، وَقِيلَ: بَلْ عَاشَ إِلَى خِلَافَةِ عُثْمَانَ فَأُصِيبَ بِالْجَوْزَجَانِ، وَأَمَّا عُيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ فَنُسِبَ إِلَى جَدِّ أَبِيهِ، وَهُوَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ لَوْذَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ فَزَارَةَ، وَكَانَ رَئِيسَ قَيْسٍ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَكُنْيَتُهُ أَبُو مَالِكٍ، وَقَدْ مَضَى لَهُ ذِكْرٌ فِي أَوَائِلِ الِاعْتِصَامِ، وَسَمَّاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الْأَحْمَقَ الْمُطَاعَ، وَارْتَدَّ مَعَ طُلَيْحَةَ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا عَلْقَمَةُ فَهُوَ ابْنُ عُلَاثَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ الْأَحْوَصِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَكَانَ رَئِيسَ بَنِي كِلَابٍ مَعَ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ، وَكَانَا يَتَنَازَعَانِ الشَّرَفَ فِيهِمْ، وَيَتَفَاخَرَانِ، وَلَهُمَا فِي ذَلِكَ أَخْبَارٌ شَهِيرَةٌ، وَقَدْ مَضَى فِي بَابِ بَعْثِ عَلِيٍّ رضي الله عنه عَلَى الْيَمَنِ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي بِلَفْظِ: وَالرَّابِعُ إِمَّا قَالَ عَلْقَمَةَ بْنَ عُلَاثَةَ، وَإِمَّا قَالَ عَامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ، وَكَانَ عَلْقَمَةُ حَلِيمًا عَاقِلًا، لَكِنْ كَانَ عَامِرٌ أَكْثَرَ مِنْ عَطَاءً، وَارْتَدَّ عَلْقَمَةُ مَعَ مَنِ ارْتَدَّ ثُمَّ عَادَ وَمَاتَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بِحَوْرَانَ، وَمَاتَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ عَلَى شِرْكِهِ فِي الْحَيَاةِ النَّبَوِيَّةِ.

وَأَمَّا زَيْدُ الْخَيْلِ فَهُوَ ابْنُ مُهَلْهَلِ بْنِ زَيْدِ بْنِ مِنْهَبِ بْنِ عَبْدِ بْنِ رُضَا بِضَمِّ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْمُعْجَمَةِ، وَقِيلَ: لَهُ زَيْدُ الْخَيْلِ لِعِنَايَتِهِ بِهَا، وَيُقَالُ: لَمْ يَكُنْ فِي الْعَرَبِ أَكْثَرُ خَيْلًا مِنْهُ، وَكَانَ شَاعِرًا خَطِيبًا شُجَاعًا جَوَادًا، وَسَمَّاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم زَيْدُ الْخَيْرِ بِالرَّاءِ بَدَلَ اللَّامِ لِمَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ، وَقَدْ ظَهَرَ أَثَرُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ مَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَيُقَالُ: بَلْ تُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ، قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: كَانَ مِنَ الْخَطَّاطِينَ، يَعْنِي: مِنْ طُولِهِ، وَكَانَ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي أَسَدٍ فَلَمْ يَرْتَدَّ مَعَ مَنِ ارْتَدَّ.

قَوْلُهُ: (فَتَغَيَّظَتْ قُرَيْشٌ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ مِنَ الْغَيْظِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْحَمَوِيِّ: فَتَغَضَّبَتْ بِضَادٍ مُعْجَمَةٍ بِغَيْرِ أَلِفٍ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ مِنَ الْغَضَبِ وَكَذَا لِلنَّسَفِيِّ، وَقَدْ مَضَى فِي قِصَّةِ عَادٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سُفْيَانَ بِلَفْظِ: فَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ وَالْأَنْصَارُ.

قَوْلُهُ: (إِنَّمَا أَتَأَلَّفُهُمْ) فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي الْمَغَازِي: أَلَا تَأْمَنُونِي، وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ، وَبِهَذَا تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ هَذَا الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ؛ لَكِنَّهُ جَرَى عَلَى عَادَتِهِ فِي إِدْخَالِ الْحَدِيثِ فِي الْبَابِ لِلَفْظَةِ: تَكُونُ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ هِيَ الْمُنَاسِبَةُ لِذَلِكَ الْبَابِ يُشِيرُ إِلَيْهَا، وَيُرِيدُ بِذَلِكَ شَحْذَ الْأَذْهَانِ وَالْبَعْثَ عَلَى كَثْرَةِ الِاسْتِحْضَارِ، وَقَدْ حَكَى الْبَيْهَقِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الضُّبَعِيِّ قَالَ: الْعَرَبُ تَضَعُ فِي مَوْضِعَ عَلَى كَقَوْلِهِ: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} وَقَوْلِهِ: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {مَنْ فِي السَّمَاءِ} أَيْ: عَلَى الْعَرْشِ فَوْقَ السَّمَاءِ كَمَا صَحَّتِ الْأَخْبَارُ بِذَلِكَ.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: جَمِيعُ الْأَحَادِيثِ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ مُطَابِقَةٌ لَهَا إِلَّا حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَلَيْسَ فِيهِ

ص: 418

إِلَّا قَوْلُهُ: رَبُّ الْعَرْشِ، وَمُطَابَقَتُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ نَبَّهَ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ أَثْبَتَ الْجِهَةَ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ:{ذِي الْمَعَارِجِ} فَفُهِمَ أَنَّ الْعُلُوَّ الْفَوْقِيَّ مُضَافٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَبَيَّنَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ الْجِهَةَ الَّتِي يَصْدُقُ عَلَيْهَا أَنَّهَا سَمَاءٌ، وَالْجِهَةُ الَّتِي يَصْدُقُ عَلَيْهَا أَنَّهَا عَرْشٌ كُلٌّ مِنْهُمَا مَخْلُوقٌ مَرْبُوبٌ مُحْدَثٌ، وَقَدْ كَانَ اللَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَغَيْرِهِ، فَحَدَثَتْ هَذِهِ الْأَمْكِنَةُ، وَقِدَمُهُ يُحِيلُ وَصْفَهُ بِالتَّحَيُّزِ فِيهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌24 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}

7434 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، أو هُشَيْمٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ جَرِيرٍ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ نَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، قَالَ: إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ، لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلَاةٍ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَافْعَلُوا.

7435 -

حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ يُوسُفَ الْيَرْبُوعِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا.

7436 -

حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْجُعْفِيُّ، عَنْ زَائِدَةَ، حَدَّثَنَا بَيانُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْبَدْرِ، فَقَالَ: إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا، لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ.

7437 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّاسَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هَلْ تُضَارُّونَ فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ؟ قَالُوا لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَهَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ قَالُوا لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتْبَعْهُ فَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَرَ وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ وَتَبْقَى هَذِهِ الأُمَّةُ فِيهَا شَافِعُوهَا أَوْ مُنَافِقُوهَا شَكَّ إِبْرَاهِيمُ فَيَأْتِيهِمْ اللَّهُ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا فَإِذَا جَاءَنَا رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ فَيَأْتِيهِمْ اللَّهُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ أَنْتَ رَبُّنَا فَيَتْبَعُونَهُ وَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي أَوَّلَ مَنْ يُجِيزُهَا وَلَا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ إِلاَّ الرُّسُلُ وَدَعْوَى الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ وَفِي جَهَنَّمَ كَلَالِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ هَلْ رَأَيْتُمْ السَّعْدَانَ قَالُوا نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَا قَدْرُ عِظَمِهَا إِلاَّ اللَّهُ تَخْطَفُ النَّاسَ

ص: 419

بِأَعْمَالِهِمْ فَمِنْهُمْ الْمُوبَقُ بَقِيَ بِعَمَلِهِ أَوْ الْمُوثَقُ بِعَمَلِهِ وَمِنْهُمْ الْمُخَرْدَلُ أَوْ الْمُجَازَى أَوْ نَحْوُهُ ثُمَّ يَتَجَلَّى حَتَّى إِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنْ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ بِرَحْمَتِهِ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا مِمَّنْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَرْحَمَهُ مِمَّنْ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَيَعْرِفُونَهُمْ فِي النَّارِ بِأَثَرِ السُّجُودِ تَأْكُلُ النَّارُ ابْنَ آدَمَ إِلاَّ أَثَرَ السُّجُودِ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ فَيَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ قَدْ امْتُحِشُوا فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءُ الْحَيَاةِ فَيَنْبُتُونَ تَحْتَهُ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ ثُمَّ يَفْرُغُ اللَّهُ مِنْ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ وَيَبْقَى رَجُلٌ مِنْهُمْ مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ عَلَى النَّارِ هُوَ آخِرُ أَهْلِ النَّارِ دُخُولًا الْجَنَّةَ فَيَقُولُ أَيْ رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِي عَنْ النَّارِ فَإِنَّهُ قَدْ قَشَبَنِي رِيحُهَا وَأَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا فَيَدْعُو اللَّهَ بِمَا شَاءَ أَنْ يَدْعُوَهُ ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ هَلْ عَسَيْتَ إِنْ أَعْطَيْتُكَ ذَلِكَ أَنْ تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ فَيَقُولُ لَا وَعِزَّتِكَ لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ وَيُعْطِي رَبَّهُ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ مَا شَاءَ فَيَصْرِفُ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ فَإِذَا أَقْبَلَ عَلَى الْجَنَّةِ وَرَآهَا سَكَتَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ ثُمَّ يَقُولُ أَيْ رَبِّ قَدِّمْنِي إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ أَلَسْتَ قَدْ أَعْطَيْتَ عُهُودَكَ وَمَوَاثِيقَكَ أَنْ لَا تَسْأَلَنِي غَيْرَ الَّذِي أُعْطِيتَ أَبَدًا وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ فَيَقُولُ أَيْ رَبِّ وَيَدْعُو اللَّهَ حَتَّى يَقُولَ هَلْ عَسَيْتَ إِنْ أُعْطِيتَ ذَلِكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَهُ فَيَقُولُ لَا وَعِزَّتِكَ لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ وَيُعْطِي مَا شَاءَ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ فَيُقَدِّمُهُ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَإِذَا قَامَ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ انْفَهَقَتْ لَهُ الْجَنَّةُ فَرَأَى مَا فِيهَا مِنْ الْحَبْرَةِ وَالسُّرُورِ فَيَسْكُتُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ ثُمَّ يَقُولُ أَيْ رَبِّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ فَيَقُولُ اللَّهُ أَلَسْتَ قَدْ أَعْطَيْتَ عُهُودَكَ وَمَوَاثِيقَكَ أَنْ لَا تَسْأَلَ غَيْرَ مَا أُعْطِيتَ فَيَقُولُ وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ فَيَقُولُ أَيْ رَبِّ لَا أَكُونَنَّ أَشْقَى خَلْقِكَ فَلَا يَزَالُ يَدْعُو حَتَّى يَضْحَكَ اللَّهُ مِنْهُ فَإِذَا ضَحِكَ مِنْهُ قَالَ لَهُ ادْخُلْ الْجَنَّةَ فَإِذَا دَخَلَهَا قَالَ اللَّهُ لَهُ تَمَنَّهْ فَسَأَلَ رَبَّهُ وَتَمَنَّى حَتَّى إِنَّ اللَّهَ لَيُذَكِّرُهُ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا حَتَّى انْقَطَعَتْ بِهِ الأَمَانِيُّ قَالَ اللَّهُ ذَلِكَ لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ.

7438 -

قَالَ عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يَرُدُّ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِهِ شَيْئًا حَتَّى إِذَا حَدَّثَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى قَالَ ذَلِكَ لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ مَعَهُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ مَا حَفِظْتُ إِلاَّ قَوْلَهُ ذَلِكَ لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَشْهَدُ أَنِّي حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَوْلَهُ ذَلِكَ لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَذَلِكَ الرَّجُلُ آخِرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ.

7439 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ عَنْ زَيْدٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ هَلْ تُضَارُونَ فِي

ص: 420

رُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ إِذَا كَانَتْ صَحْوًا قُلْنَا لَا قَالَ فَإِنَّكُمْ لَا تُضَارُونَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ يَوْمَئِذٍ إِلاَّ كَمَا تُضَارُونَ فِي رُؤْيَتِهِمَا ثُمَّ قَالَ يُنَادِي مُنَادٍ لِيَذْهَبْ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ فَيَذْهَبُ أَصْحَابُ الصَّلِيبِ مَعَ صَلِيبِهِمْ وَأَصْحَابُ الأَوْثَانِ مَعَ أَوْثَانِهِمْ وَأَصْحَابُ كُلِّ آلِهَةٍ مَعَ آلِهَتِهِمْ حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ وَغُبَّرَاتٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ثُمَّ يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ تُعْرَضُ كَأَنَّهَا سَرَابٌ فَيُقَالُ لِلْيَهُودِ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ قَالُوا كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ ابْنَ اللَّهِ فَيُقَالُ كَذَبْتُمْ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ صَاحِبَةٌ وَلَا وَلَدٌ فَمَا تُرِيدُونَ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ تَسْقِيَنَا فَيُقَالُ اشْرَبُوا فَيَتَسَاقَطُونَ فِي جَهَنَّمَ ثُمَّ يُقَالُ لِلنَّصَارَى مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ فَيَقُولُونَ كُنَّا نَعْبُدُ الْمَسِيحَ ابْنَ اللَّهِ فَيُقَالُ كَذَبْتُمْ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ صَاحِبَةٌ وَلَا وَلَدٌ فَمَا تُرِيدُونَ فَيَقُولُونَ نُرِيدُ أَنْ تَسْقِيَنَا فَيُقَالُ اشْرَبُوا فَيَتَسَاقَطُونَ فِي جَهَنَّمَ حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ فَيُقَالُ لَهُمْ مَا يَحْبِسُكُمْ وَقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ فَيَقُولُونَ فَارَقْنَاهُمْ وَنَحْنُ أَحْوَجُ مِنَّا إِلَيْهِ الْيَوْمَ وَإِنَّا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِيَلْحَقْ كُلُّ قَوْمٍ بِمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ وَإِنَّمَا نَنْتَظِرُ رَبَّنَا قَالَ فَيَأْتِيهِمْ الْجَبَّارُ فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ أَنْتَ رَبُّنَا فَلَا يُكَلِّمُهُ إِلاَّ الأَنْبِيَاءُ فَيَقُولُ هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ تَعْرِفُونَهُ فَيَقُولُونَ السَّاقُ فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ رِيَاءً وَسُمْعَةً فَيَذْهَبُ كَيْمَا يَسْجُدَ فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا ثُمَّ يُؤْتَى بِالْجَسْرِ فَيُجْعَلُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْجَسْرُ قَالَ مَدْحَضَةٌ مَزِلَّةٌ عَلَيْهِ خَطَاطِيفُ وَكَلَالِيبُ وَحَسَكَةٌ مُفَلْطَحَةٌ لَهَا شَوْكَةٌ عُقَيْفَاءُ تَكُونُ بِنَجْدٍ يُقَالُ لَهَا السَّعْدَانُ الْمُؤْمِنُ عَلَيْهَا كَالطَّرْفِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ وَنَاجٍ مَخْدُوشٌ وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ حَتَّى يَمُرَّ آخِرُهُمْ يُسْحَبُ سَحْبًا فَمَا أَنْتُمْ بِأَشَدَّ لِي مُنَاشَدَةً فِي الْحَقِّ قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِ يَوْمَئِذٍ لِلْجَبَّارِ وَإِذَا رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ نَجَوْا فِي إِخْوَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِخْوَانُنَا كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا وَيَصُومُونَ مَعَنَا وَيَعْمَلُونَ مَعَنَا فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ وَيُحَرِّمُ اللَّهُ صُوَرَهُمْ عَلَى النَّارِ فَيَأْتُونَهُمْ وَبَعْضُهُمْ قَدْ غَابَ فِي النَّارِ إِلَى قَدَمِهِ وَإِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا ثُمَّ يَعُودُونَ فَيَقُولُ اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ فَأَخْرِجُوهُ فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا ثُمَّ يَعُودُونَ فَيَقُولُ اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا قَالَ أَبُو سَعِيدٍ فَإِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِي فَاقْرَءُوا {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} فَيَشْفَعُ النَّبِيُّونَ وَالْمَلَائِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ فَيَقُولُ الْجَبَّارُ بَقِيَتْ شَفَاعَتِي فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنْ النَّارِ فَيُخْرِجُ أَقْوَامًا قَدْ امْتُحِشُوا فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرٍ بِأَفْوَاهِ الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ مَاءُ الْحَيَاةِ فَيَنْبُتُونَ فِي حَافَتَيْهِ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ قَدْ رَأَيْتُمُوهَا إِلَى جَانِبِ الصَّخْرَةِ وَإِلَى جَانِبِ الشَّجَرَةِ فَمَا كَانَ إِلَى الشَّمْسِ مِنْهَا كَانَ أَخْضَرَ وَمَا كَانَ مِنْهَا إِلَى الظِّلِّ كَانَ أَبْيَضَ فَيَخْرُجُونَ

ص: 421

كَأَنَّهُمْ اللُّؤْلُؤُ فَيُجْعَلُ فِي رِقَابِهِمْ الْخَوَاتِيمُ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فَيَقُولُ أَهْلُ الْجَنَّةِ هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ الرَّحْمَنِ أَدْخَلَهُمْ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ وَلَا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ فَيُقَالُ لَهُمْ لَكُمْ مَا رَأَيْتُمْ وَمِثْلَهُ مَعَهُ.

7440 -

وَقَالَ حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ يُحْبَسُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُهِمُّوا بِذَلِكَ فَيَقُولُونَ لَوْ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا فَيُرِيحُنَا مِنْ مَكَانِنَا فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ أَنْتَ آدَمُ أَبُو النَّاسِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَأَسْكَنَكَ جَنَّتَهُ وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ لِتَشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّكَ حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا قَالَ فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ قَالَ وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ أَكْلَهُ مِنْ الشَّجَرَةِ وَقَدْ نُهِيَ عَنْهَا وَلَكِنْ ائْتُوا نُوحًا أَوَّلَ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ سُؤَالَهُ رَبَّهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَكِنْ ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ قَالَ فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُ إِنِّي لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ ثَلَاثَ كَلِمَاتٍ كَذَبَهُنَّ وَلَكِنْ ائْتُوا مُوسَى عَبْدًا آتَاهُ اللَّهُ التَّوْرَاةَ وَكَلَّمَهُ وَقَرَّبَهُ نَجِيًّا قَالَ فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ إِنِّي لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ قَتْلَهُ النَّفْسَ وَلَكِنْ ائْتُوا عِيسَى عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ وَرُوحَ اللَّهِ وَكَلِمَتَهُ قَالَ فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ وَلَكِنْ ائْتُوا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم عَبْدًا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ فَيَأْتُونِي فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فِي دَارِهِ فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي فَيَقُولُ ارْفَعْ مُحَمَّدُ وَقُلْ يُسْمَعْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ وَسَلْ تُعْطَ قَالَ فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأُثْنِي عَلَى رَبِّي بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأَخْرُجُ فَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ قَالَ قَتَادَةُ وَسَمِعْتُهُ أَيْضًا يَقُولُ فَأَخْرُجُ فَأُخْرِجُهُمْ مِنْ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ ثُمَّ أَعُودُ الثَّانِيَةَ فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فِي دَارِهِ فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي ثُمَّ يَقُولُ ارْفَعْ مُحَمَّدُ وَقُلْ يُسْمَعْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ وَسَلْ تُعْطَ قَالَ فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأُثْنِي عَلَى رَبِّي بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ قَالَ ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأَخْرُجُ فَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ قَالَ قَتَادَةُ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ فَأَخْرُجُ فَأُخْرِجُهُمْ مِنْ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ ثُمَّ أَعُودُ الثَّالِثَةَ فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فِي دَارِهِ فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي ثُمَّ يَقُولُ ارْفَعْ مُحَمَّدُ وَقُلْ يُسْمَعْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ وَسَلْ تُعْطَهْ قَالَ فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأُثْنِي عَلَى رَبِّي بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ قَالَ ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأَخْرُجُ فَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ قَالَ قَتَادَةُ وَقَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ فَأَخْرُجُ فَأُخْرِجُهُمْ مِنْ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ حَتَّى مَا يَبْقَى فِي النَّارِ إِلاَّ مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ قَالَ ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} قَالَ وَهَذَا الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِي وُعِدَهُ نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم

ص: 422

7441 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنِي عَمِّي حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَ إِلَى الأَنْصَارِ فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ وَقَالَ لَهُمْ اصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنِّي عَلَى الْحَوْضِ

7442 -

حَدَّثَنِي ثَابِتُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ سُلَيْمَانَ الأَحْوَلِ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا تَهَجَّدَ مِنْ اللَّيْلِ قَالَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ أَنْتَ الْحَقُّ وَقَوْلُكَ الْحَقُّ وَوَعْدُكَ الْحَقُّ وَلِقَاؤُكَ الْحَقُّ وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ حَقٌّ اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْكَ خَاصَمْتُ وَبِكَ حَاكَمْتُ فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَأَسْرَرْتُ وَأَعْلَنْتُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ"

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ قَالَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ وَأَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ طَاوُسٍ قَيَّامُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ الْقَيُّومُ الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَقَرَأَ عُمَرُ الْقَيَّامُ وَكِلَاهُمَا مَدْحٌ

7443 -

حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنِي الأَعْمَشُ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ وَلَا حِجَابٌ يَحْجُبُهُ

7444 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلاَّ رِدَاءُ الْكِبْرِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ

7445 -

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَعْيَنَ وَجَامِعُ بْنُ أَبِي رَاشِدٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ اقْتَطَعَ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينٍ كَاذِبَةٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِصْدَاقَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ} الْآيَةَ

7446 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ رَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ لَقَدْ أَعْطَى بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى

ص: 423

وَهُوَ كَاذِبٌ وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ فَيَقُولُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْيَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ.

7447 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الزَّمَانُ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحَجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ أَيُّ شَهْرٍ هَذَا قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ يُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ أَلَيْسَ ذَا الْحَجَّةِ قُلْنَا بَلَى قَالَ أَيُّ بَلَدٍ هَذَا قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ أَلَيْسَ الْبَلْدَةَ قُلْنَا بَلَى قَالَ فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ قُلْنَا بَلَى قَالَ فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ قَالَ مُحَمَّدٌ وَأَحْسِبُهُ قَالَ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ أَلَا فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي ضُلَالًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ أَلَا لِيُبْلِغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يَبْلُغُهُ أَنْ يَكُونَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ"

فَكَانَ مُحَمَّدٌ إِذَا ذَكَرَهُ قَالَ صَدَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ ثُوَيْرِ بْنِ أَبِي فَاخِتَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَمَنْ يَنْظُرُ فِي مُلْكِهِ أَلْفَ سَنَةٍ، وَإِنَّ أَفْضَلَهُمْ مَنْزِلَةً لَمَنْ يَنْظُرُ فِي وَجْهِ رَبِّهِ عز وجل فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ.

قَالَ: ثُمَّ تَلَا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} قَالَ بِالْبَيَاضِ وَالصَّفَاءِ {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قَالَ: تَنْظُرُ كُلَّ يَوْمٍ فِي وَجْهِ اللَّهِ، لَفْظُ الطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُصْعَبِ بْنِ الْمِقْدَامِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ ثُوَيْرٍ، وَأَخْرَجَهُ عَبْدٌ، عَنْ شَبَابَةَ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، وَلَفْظُهُ: لَمَنْ يَنْظُرُ إِلَى جِنَانِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَخَدَمِهِ وَنَعِيمِهِ وَسُرُرِهِ مَسِيرَةَ أَلْفِ سَنَةٍ، وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مَنْ يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِهِ غَدْوَةً وَعَشِيَّةً، وَكَذَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ عَبْدِ، وَقَالَ: غَرِيبٌ، رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ إِسْرَائِيلَ مَرْفُوعًا، وَرَوَاهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبْجَرَ، عَنْ ثُوَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، مَوْقُوفًا، وَرَوَاهُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ ثُوَيْرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا أَيْضًا، قَالَ: وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا ذَكَرَ فِيهِ مُجَاهِدًا غَيْرَ الثَّوْرِيِّ بِالْعَنْعَنَةِ. قُلْتُ: أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ أَرْبَعَةِ طُرُقٍ عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ ثُوَيْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبْجَرَ، عَنْ ثُوَيْرٍ مَرْفُوعًا، وَقَالَ الْحَاكِمُ بَعْد تَخْرِيجِهِ: ثُوَيْرٌ لَمْ يُنْقَمْ عَلَيْهِ إِلَّا التَّشَيُّعُ.

قُلْتُ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا صَرَّحَ بِتَوْثِيقِهِ، بَلْ أَطْبَقُوا عَلَى تَضْعِيفِهِ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: الضَّعْفُ عَلَى أَحَادِيثِهِ بَيِّنٌ وَأَقْوَى مَا رَأَيْتُ فِيهِ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِيهِ، وَفِي لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، وَيَزِيدَ بْنِ أَبِي زَيْدٍ: مَا أَقْرَبَ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الصَّهْبَاءِ مَوْقُوفًا نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَخْرَجَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ إِلَى يَزِيدَ

ص: 424

النَّحْوِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، قَالَ: تَنْظُرُ إِلَى رَبِّهَا نَظَرًا وَأَخْرَجَ عَنِ الْبُخَارِيِّ عَنْ آدَمَ عَنْ مُبَارَكٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: تَنْظُرُ إِلَى الْخَالِقِ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَنْظُرَ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ، عَنْ أَبِيهِ،.

عَنْ عِكْرِمَةَ: انْظُرُوا مَاذَا أَعْطَى اللَّهُ عَبْدَهُ مِنَ النُّورِ فِي عَيْنِهِ مِنَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِ رَبِّهِ الْكَرِيمِ عِيَانًا - يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ - ثُمَّ قَالَ: لَوْ جُعِلَ نُورُ جَمِيعِ الْخَلْقِ فِي عَيْنَيْ عَبْدٍ ثُمَّ كُشِفَ عَنِ الشَّمْسِ سِتْرٌ وَاحِدٌ وَدُونُهَا سَبْعُونَ سِتْرًا مَا قَدَرَ عَلَى أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا، وَنُورُ الشَّمْسِ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نُورِ الْكُرْسِيِّ، وَنُورُ الْكُرْسِيِّ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نُورِ الْعَرْشِ، وَنُورُ الْعَرْشِ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نُورِ السِّتْرِ، وَإِبْرَاهِيمُ فِيهِ ضَعْفٌ، وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ إِنْكَارَ الرُّؤْيَةِ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِالْحَمْلِ عَلَى غَيْرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَخْرَجَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: نَاظِرَةٌ تَنْظُرُ الثَّوَابَ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ نَحْوَهُ، وَأَوْرَدَ الطَّبَرِيُّ الِاخْتِلَافَ، فَقَالَ: الْأَوْلَى عِنْدِي بِالصَّوَابِ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَعِكْرِمَةَ وَهُوَ ثُبُوتُ الرُّؤْيَةِ لِمُوَافَقَتِهِ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ، وَبَالَغَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي رَدِّ الَّذِي نُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَالَ هُوَ شُذُوذٌ، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ وَتَمَسَّكُوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ سُؤَالِ جِبْرِيلَ عَنِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ، وَفِيهِ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ.

قَالَ بَعْضُهُمْ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى انْتِفَاءِ الرُّؤْيَةِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْمَنْفِيَّ فِيهِ رُؤْيَتُهُ فِي الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ خَاصَّةٌ بِهَا، فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى جَوَازِ الرُّؤْيَةِ فِي الْآخِرَةِ لَمَا أَبْعَدَ، وَزَعَمَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ كَالسَّالِمِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ أَنَّ فِي الْخَبَرِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ يَرَوْنَ اللَّهَ فِي الْقِيَامَةِ مِنْ عُمُومِ اللِّقَاءِ وَالْخِطَابِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَرَاهُ بَعْضٌ دُونَ بَعْضٍ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ حَيْثُ جَاءَ فِيهِ أَنَّ الْكُفَّارَ يَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ إِذَا قِيلَ لَهُمْ: أَلَا تَرُدُّونَ، وَيَبْقَى الْمُؤْمِنُونَ، وَفِيهِمُ الْمُنَافِقُونَ فَيَرَوْنَهُ لَمَّا يَنْصِبُ الْجِسْرَ وَيَتْبَعُونَهُ، وَيُعْطِي كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ نُورَهُ ثُمَّ يُطْفَأُ نُورُ الْمُنَافِقِينَ، وَأَجَابُوا عَنْ قَوْلِهِ:{إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} أَنَّهُ بَعْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَهُوَ احْتِجَاجٌ مَرْدُودٌ، فَإِنَّ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، {ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَجْبِ وَقَعَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْحَجْبَ يَقَعُ عِنْدَ إِطْفَاءِ النُّورِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ يَتَجَلَّى لِلْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ مَعَهُمْ مِمَّنْ أَدْخَلَ نَفْسَهُ فِيهِمْ أَنْ تَعُمَّهُمُ الرُّؤْيَةُ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِهِمْ، فَيُنْعِمُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِرُؤْيَتِهِ دُونَ الْمُنَافِقِينَ كَمَا يَمْنَعُهُمْ مِنَ السُّجُودِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَجْهُ الدَّلِيلِ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ لَفْظَ: نَاضِرَةٌ: الْأَوَّلُ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ السَّاقِطَةِ مِنَ النَّضْرَةِ بِمَعْنَى السُّرُورِ، وَلَفْظُ: نَاظِرَةٌ بِالظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ الْمُشَالَةِ يَحْتَمِلُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: نَظَرُ التَّفَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} وَنَظَرُ الِانْتِظَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَنْظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً} وَنَظَرُ التَّعَطُّفِ وَالرَّحْمَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَنْظُرُ الله إِلَيْهِمْ، وَنَظَرُ الرُّؤْيَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} وَالثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ غَيْرُ مُرَادَةٌ، وَأَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَلِأَنَّ الْآخِرَةَ لَيْسَتْ بِدَارِ اسْتِدْلَالٍ، وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّ فِي الِانْتِظَارِ تَنْغِيصًا وَتَكْدِيرًا، وَالْآيَةُ خَرَجَتْ مَخْرَجَ الِامْتِنَانِ وَالْبِشَارَةِ، وَأَهْلُ الْجَنَّةِ لَا يَنْتَظِرُونَ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ مَهْمَا خَطَرَ لَهُمْ أَتَوْا بِهِ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمَخْلُوقَ لَا يَتَعَطَّفُ عَلَى خَالِقِهِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا نَظَرُ الرُّؤْيَةِ، وَانْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ النَّظَرَ إِذَا ذُكِرَ مَعَ الْوَجْهِ انْصَرَفَ الْعَيْنَيْنِ اللَّتَيْنِ فِي الْوَجْهِ؛ وَلِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَعَدَّى بِإِلَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ نَاظِرَةٌ هُنَا بِمَعْنَى رَائِيَةٌ انْدَفَعَ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَعْنَى نَاظِرَةٌ إِلَى ثَوَابِ رَبِّهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّقْدِيرِ وَأَيَّدَ مَنْطُوقَ الْآيَةِ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ بِمَفْهُومِ الْآيَةِ الْأُخْرَى فِي حَقِّ الْكَافِرِينَ أَنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ، وَقَيَّدَهَا بِالْقِيَامَةِ فِي الْآيَتَيْنِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الرُّؤْيَةَ تَحْصُلُ لِلْمُؤْمِنِينَ

ص: 425

فِي الْآخِرَةِ دُونَ الدُّنْيَا، انْتَهَى مُلَخَّصًا مُوَضَّحًا. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو الْعَبَّاسِ السَّرَّاجُ فِي تَارِيخِهِ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْجَرَوِيِّ وَهُوَ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ أَبِي سَلَمَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ، وَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} يَقُولُ قَوْمٌ: إِلَى ثَوَابِهِ، فَقَالَ: كَذَبُوا فَأَيْنَ هُمْ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} وَمِنْ حَيْثُ النَّظَرُ أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ يَصِحُّ أَنْ يُرَى، وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّنَزُّلِ وَإِلَّا فَصِفَاتُ الْخَالِقِ لَا تُقَاسُ عَلَى صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، وَأَدِلَّةُ السَّمْعِ طَافِحَةٌ بِوُقُوعِ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَمُنِعَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا إِلَّا أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَنَّ أَبْصَارَ أَهْلِ الدُّنْيَا فَانِيَةٌ وَأَبْصَارَهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَاقِيَةٌ جَيِّدٌ، وَلَكِنْ لَا يَمْنَعُ تَخْصِيصُ ذَلِكَ بِمَنْ ثَبَتَ وُقُوعُهُ لَهُ، وَمَنَعَ جُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ مِنَ الرُّؤْيَةِ مُتَمَسِّكِينَ بِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْمَرْئِيِّ أَنْ يَكُونَ فِي جِهَةٍ وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْجِهَةِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَرَى عِبَادَهُ، فَهُوَ رَاءٍ لَا مِنْ جِهَةٍ، وَاخْتَلَفَ مَنْ أَثْبَتَ الرُّؤْيَةَ فِي مَعْنَاهَا، فَقَالَ قَوْمٌ: يَحْصُلُ لِلرَّائِي الْعِلْمُ بِاللَّهِ تَعَالَى بِرُؤْيَةِ الْعَيْنِ كَمَا فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَرْئِيَّاتِ، وَهُوَ عَلَى وَفْقِ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ: كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ إِلَّا أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْجِهَةِ وَالْكَيْفِيَّةِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى الْعِلْمِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالرُّؤْيَةِ الْعِلْمُ، وَعَبَّرَ عَنْهَا بَعْضُهُمْ بِأَنَّهَا حُصُولُ حَالَةٍ فِي الْإِنْسَانِ نِسْبَتُهَا إِلَى ذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ نِسْبَةَ الْإِبْصَارِ إِلَى الْمَرْئِيَّاتِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ رُؤْيَةُ الْمُؤْمِنِ لِلَّهِ نَوْعُ كَشْفٍ وَعِلْمٍ، إِلَّا أَنَّهُ أَتَمُّ وَأَوْضَحُ مِنَ الْعِلْمِ، وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ مِنَ الْأَوَّلِ، وَتُعُقِّبَ الْأَوَّلُ بِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا اخْتِصَاصَ لِبَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ لَا يَتَفَاوَتُ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّ الرُّؤْيَةَ بِمَعْنَى الْعِلْمِ تَتَعَدَّى لِمَفْعُولَيْنِ، تَقُولُ: رَأَيْتُ زَيْدًا فَقِيهًا، أَيْ: عَلِمْتُهُ، فَإِنْ قُلْتَ: رَأَيْتُ زَيْدًا مُنْطَلِقًا لَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ إِلَّا رُؤْيَةُ الْبَصَرِ، وَيَزِيدُهُ تَحْقِيقًا قَوْلُهُ فِي الْخَبَرِ: إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا؛ لِأَنَّ اقْتِرَانَ الرُّؤْيَةِ بِالْعِيَانِ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْعِلْمِ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: ذَهَبَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَجُمْهُورُ الْأُمَّةِ إِلَى جَوَازِ رُؤْيَةِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ وَمَنَعَ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَبَعْضُ الْمُرْجِئَةِ، وَتَمَسَّكُوا بِأَنَّ الرُّؤْيَةَ تُوجِبُ كَوْنَ الْمَرْئِيِّ مُحْدَثًا وَحَالًّا فِي مَكَانٍ، وَأَوَّلُوا قَوْلَهُ {نَاظِرَةٌ} بِمُنْتَظِرَةٍ وَهُوَ خَطَأٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى بِإِلَى، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ ثُمَّ قَالَ: وَمَا تَمَسَّكُوا بِهِ فَاسِدٌ لِقِيَامِ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَوْجُودٌ، وَالرُّؤْيَةُ فِي تَعَلُّقِهَا بِالْمَرْئِيِّ بِمَنْزِلَةِ الْعِلْمِ فِي تَعَلُّقِهِ بِالْمَعْلُومِ، فَإِذَا كَانَ تَعَلُّقُ الْعِلْمِ بِالْمَعْلُومِ لَا يُوجِبُ حُدُوثَهُ فَكَذَلِكَ الْمَرْئِيُّ.

قَالَ: وَتَعَلَّقُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى لِمُوسَى: {لَنْ تَرَانِي} وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ فِي الدُّنْيَا جَمْعًا بَيْنَ دَلِيلَيِ الْآيَتَيْنِ، وَبِأَنَّ نَفْيَ الْإِدْرَاكِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الرُّؤْيَةِ لِإِمْكَانِ رُؤْيَةِ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ إِحَاطَةٍ بِحَقِيقَتِهِ، وَعَنِ الثَّانِي: الْمُرَادُ: لَنْ تَرَانِي فِي الدُّنْيَا جَمْعًا أَيْضًا؛ وَلِأَنَّ نَفْيَ الشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي إِحَالَتَهُ مَعَ مَا جَاءَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ عَلَى وَفْقِ الْآيَةِ، وَقَدْ تَلَقَّاهَا الْمُسْلِمُونَ بِالْقَبُولِ مِنْ لَدُنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ حَتَّى حَدَثَ مَنْ أَنْكَرَ الرُّؤْيَةَ وَخَالَفَ السَّلَفَ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: اشْتَرَطَ النُّفَاةُ فِي الرُّؤْيَةِ شُرُوطًا عَقْلِيَّةً كَالْبِنْيَةِ الْمَخْصُوصَةِ وَالْمُقَابَلَةِ وَاتِّصَالِ الْأَشِعَّةِ وَزَوَالِ الْمَوَانِعِ كَالْبُعْدِ وَالْحَجْبِ فِي خَبْطٍ لَهُمْ وَتَحَكُّمٍ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ لَا يَشْتَرِطُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ سِوَى وُجُودِ الْمَرْئِيِّ، وَأَنَّ الرُّؤْيَةَ إِدْرَاكٌ يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلرَّائِي فَيَرَى الْمَرْئِيَّ، وَتَقْتَرِنُ بِهَا أَحْوَالٌ يَجُوزُ تَبَدُّلُهَا وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُؤَلِّفُ فِي الْبَابِ أَحَدَ عَشَرَ حَدِيثًا.

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: حَدِيثُ جَرِيرٍ ذَكَرَهُ مُطَوَّلًا وَمُخْتَصَرًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ.

قَوْلُهُ: (خَالِدٌ أَوْ هُشَيْمٌ) كَذَا فِي نُسْخَةٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْمُسْتَمْلِي بِالشَّكِّ، وَفِي أُخْرَى بِالْوَاوِ وَكَذَا لِلْبَاقِينَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ إِسْمَاعِيلَ) هُوَ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ قَيْسٍ) هُوَ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ وَنُسِبَ فِي رِوَايَةِ مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ الْمُشَارِ إِلَيْهَا.

قَوْلُهُ: (عَنْ جَرِيرٍ) فِي رِوَايَةِ مَرْوَانَ الْمَذْكُورَةِ: وَسَمِعْتُ

ص: 426

جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَفِي رِوَايَةِ بَيَانٍ فِي الْبَابِ عَنْ قَيْسٍ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ.

قَوْلُهُ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ ق: كُنَّا جُلُوسًا لَيْلَةً مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (لَيْلَةَ الْبَدْرِ) فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ لَيْلَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ بَيَانٍ الْمَذْكُورَةِ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْبَدْرِ، فَقَالَ وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْقَوْلَ لَهُمْ صَدَرَ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ جَلَسُوا عِنْدَهُ.

قَوْلُهُ (إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَأَبِي أُسَامَةَ، وَوَكِيعٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: إِنَّكُمْ سَتُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّكُمْ فَتَرَوْنَهُ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي شِهَابٍ: إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا، هَكَذَا اقْتَصَرَ أَبُو شِهَابٍ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْحَدِيثِ لِلْأَكْثَرِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي فِي أَوَّلِهِ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْبَدْرِ، فَقَالَ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ خَلَفِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ أَبِي شِهَابٍ كَالْأَكْثَرِ، وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ الْبَلَدِيِّ، عَنْ أَبِي شِهَابٍ مُطَوَّلًا، وَاسْمُ أَبِي شِهَابٍ هَذَا عَبْدُ رَبِّهِ بْنُ نَافِعٍ الْحَنَّاطُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ، وَاسْمُ الرَّاوِي عَنْهُ عَاصِمُ بْنُ يُوسُفَ كَانَ خَيَّاطًا بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالتَّحْتَانِيَّةِ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: تَفَرَّدَ أَبُو شِهَابٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ بِقَوْلِهِ: عِيَانًا، وَهُوَ حَافِظٌ مُتْقِنٌ مِنْ ثِقَاتِ الْمُسْلِمِينَ، انْتَهَى. وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْهَرَوِيُّ فِي كِتَابِهِ الْفَارُوقِ أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَبِي أُنَيْسَةَ رَوَاهُ أَيْضًا عَنْ إِسْمَاعِيلَ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَسَاقَهُ مِنْ رِوَايَةِ: أَكْثَرَ مِنْ سِتِّينَ نَفْسًا عَنْ إِسْمَاعِيلَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ كَالْأَوَّلِ.

قَوْلُهُ: (لَا تُضَامُونَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ لِلْأَكْثَرِ، وَفِيهِ رِوَايَاتٌ أُخْرَى تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي بَابِ الصِّرَاطِ جِسْرُ جَهَنَّمَ مِنْ كِتَابِ الرِّقَاقِ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: سَمِعْتُ الشَّيْخَ الْإِمَامَ أَبَا الطَّيِّبِ سَهْلَ بْنَ مُحَمَّدٍ الصُّعْلُوكِيَّ يَقُولُ فِي إِمْلَائِهِ فِي قَوْلِهِ: لَا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ بِالضَّمِّ وَالتَّشْدِيدِ، مَعْنَاهُ: لَا تَجْتَمِعُونَ لِرُؤْيَتِهِ فِي جِهَةٍ، وَلَا يُضَمُّ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَمَعْنَاهُ بِفَتْحِ التَّاءِ كَذَلِكَ وَالْأَصْلُ لَا تَتَضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ بِاجْتِمَاعٍ فِي جِهَةٍ وَبِالتَّخْفِيفِ مِنَ الضَّيْمِ، وَمَعْنَاهُ: لَا تُظْلَمُونَ فِيهِ بِرُؤْيَةِ بَعْضِكُمْ دُونَ بَعْضٍ، فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ فِي جِهَاتِكُمْ كُلِّهَا وَهُوَ مُتَعَالي عَنِ الْجِهَةِ وَالتَّشْبِيهِ بِرُؤْيَةِ الْقَمَرِ لِلرُّؤْيَةِ دُونَ تَشْبِيهِ الْمَرْئِيِّ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّ النَّاسَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ: هَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ. الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَقَدْ مَضَى شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ، وَوَقَعَ هُنَا فِي قَوْلِهِ: فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فَإِذَا جَاءَنَا، وَيَحْتَاجُ إِلَى تَأَمُّلٍ، وَفِي قَوْلِهِ: أَوَّلُ مَنْ يُجِيزُ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي: يَجِيءُ مِنَ الْمَجِيءِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَيُعْطِي رَبَّهُ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: وَيُعْطِي اللَّهَ. وَفِي قَوْلِهِ: أَيْ رَبِّ لَا أَكُونُ. فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي: لَا أَكُونَنَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ لِذَلِكَ وَغَيْرِهِ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فِي مَعْنَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِطُولِهِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ أَيْضًا هُنَاكَ، وَقَوْلُهُ فِي سَنَدِهِ عَنْ زَيْدٍ هُوَ ابْنُ أَسْلَمَ، وَعَطَاءٌ هُوَ ابْنُ يَسَارٍ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: وَأَصْحَابُ آلِهَةٍ مَعَ آلِهَتِهِمْ. فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: إِلَهِهِمْ بِالْإِفْرَادِ، وَقَوْلُهُ: مَا يُجْلِسُكُمْ بِالْجِيمِ وَاللَّامِ مِنَ الْجُلُوسِ، أَيْ: يُقْعِدُكُمْ عَنِ الذَّهَابِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: مَا يَحْبِسُكُمْ بِالْحَاءِ وَالْمُوَحَّدَةِ مِنَ الْحَبْسِ، أَيْ: يَمْنَعُكُمْ وَهُوَ بِمَعْنَاهُ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فِي صُورَةٍ، اسْتَدَلَّ ابْنُ قُتَيْبَةَ بِذِكْرِ الصُّورَةِ عَلَى أَنَّ لِلَّهِ صُورَةً لَا كَالصُّوَرِ كَمَا ثَبَتَ أَنَّهُ شَيْءٌ لَا كَالْأَشْيَاءِ وَتَعَقَّبُوهُ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: تَمَسَّكَ بِهِ الْمُجَسِّمَةُ فَأَثْبَتُوا لِلَّهِ صُورَةً، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْعَلَامَةِ وَضَعَهَا اللَّهُ لَهُمْ دَلِيلًا عَلَى مَعْرِفَتِهِ كَمَا يُسَمَّى الدَّلِيلُ وَالْعَلَامَةُ صُورَةً، وَكَمَا تَقُولُ: صُورَةُ حَدِيثِكَ كَذَا وَصُورَةُ الْأَمْرِ كَذَا، وَالْحَدِيثُ وَالْأَمْرُ لَا صُورَةَ لَهُمَا حَقِيقَةً، وَأَجَازَ غَيْرُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالصُّورَةِ الصِّفَةُ، وَإِلَيْهِ مَيْلُ الْبَيْهَقِيِّ، وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ أَنَّ مَعْنَاهُ صُورَةُ الِاعْتِقَادِ، وَأَجَازَ الْخَطَّابِيُّ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ خَرَجَ عَلَى وَجْهِ الْمُشَاكَلَةِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ

ص: 427

ذِكْرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالطَّوَاغِيتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ هَذَا هُنَاكَ، وَكَذَا قَوْلُهُ: نَعُوذُ بِكَ.

وَقَالَ غَيْرُهُ فِي قَوْلِهِ فِي الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَهَا: يَحْتَمِلُ أَنْ يُشِيرَ بِذَلِكَ إِلَى مَا عَرَفُوهُ حِينَ أَخْرَجَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِنْ صُلْبِهِ ثُمَّ أَنْسَاهُمْ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ يُذَكِّرُهُمْ بِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَقَوْلُهُ: فَإِذَا رَأَيْنَا رَبَّنَا عَرَفْنَاهُ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الْمُهَلَّبِ: إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لَهُمْ مَلَكًا لِيَخْتَبِرَهُمْ فِي اعْتِقَادِ صِفَاتِ رَبِّهِمُ الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، فَإِذَا قَالَ لَهُمْ: أَنَا رَبُّكُمْ رَدُّوا عَلَيْهِ لِمَا رَأَوْا عَلَيْهِ مِنْ صِفَةِ الْمَخْلُوقِ، فَقَوْلُهُ: فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ، أَيْ: إِذَا ظَهَرَ لَنَا فِي مُلْكٍ لَا يَنْبَغِي لِغَيْرِهِ، وَعَظَمَةٍ لَا تُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ فَحِينَئِذٍ يَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا، قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ عَلَامَةٌ تَعْرِفُونَهَا، فَيَقُولُونَ: السَّاقُ، فَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنَّ اللَّهَ عَرَّفَهُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوِ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لَهُمْ عَلَامَةً تَجَلِّيهِ السَّاقُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَمْتَحِنُهُمْ بِإِرْسَالِ مَنْ يَقُولُ لَهُمْ: أَنَا رَبُّكُمْ، وَإِلَى ذَلِكَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} وَهِيَ وَإِنْ وَرَدَ أَنَّهَا فِي عَذَابِ الْقَبْرِ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَتَنَاوَلَ يَوْمَ الْمَوْقِفِ أَيْضًا، قَالَ: وَأَمَّا السَّاقُ فَجَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} قَالَ: عَنْ شِدَّةٍ مِنَ الْأَمْرِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: قَامَتِ الْحَرْبُ عَلَى سَاقٍ إِذَا اشْتَدَّتْ، وَمِنْهُ:

قَدْ سَنَّ أَصْحَابُكَ ضَرْبَ الْأَعْنَاقِ

وَقَامَتِ الْحَرْبُ بِنَا عَلَى سَاقِ

وَجَاءَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فِي تَفْسِيرِهَا عَنْ نُورٍ عَظِيمٍ. قَالَ ابْنُ فَوْرَكٍ: مَعْنَاهُ مَا يَتَجَدَّدُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْأَلْطَافِ. وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: كَشْفُ السَّاقِ لِلْمُؤْمِنِينَ رَحْمَةٌ وَلِغَيْرِهِمْ نِقْمَةٌ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: تَهَيَّبَ كَثِيرٌ مِنَ الشُّيُوخِ الْخَوْضَ فِي مَعْنَى السَّاقِ، وَمَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ يَكْشِفُ عَنْ قُدْرَتِهِ الَّتِي تَظْهَرُ بِهَا الشِّدَّةُ.

وَأَسْنَدَ الْبَيْهَقِيُّ الْأَثَرَ الْمَذْكُورَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِسَنَدَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا حَسَنٌ، وَزَادَ: إِذَا خَفِيَ عَلَيْكُمْ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ فَأَتْبِعُوهُ مِنَ الشِّعْرِ، وَذَكَرَ الرَّجَزَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ، وَأَنْشَدَ الْخَطَّابِيُّ فِي إِطْلَاقِ السَّاقِ عَلَى الْأَمْرِ الشَّدِيدِ: فِي سَنَةٍ قَدْ كَشَفَتْ عَنْ سَاقِهَا وَأَسْنَدَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يُرِيدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَقَدْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ النَّفْسُ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَيَذْهَبُ كَيْمَا يَسْجُدُ فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا، ذَكَرَ الْعَلَّامَةُ جَمَالُ الدِّينِ بْنُ هِشَامٍ فِي الْمُغْنِي أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَيْمَا مُجَرَّدَةً وَلَيْسَ بَعْدَهَا لَفْظُ يَسْجُدُ، فَقَالَ بَعْدَ أَنْ حَكَى عَنِ الْكُوفِيِّينَ: إِنَّ كَيْ نَاصِبَةٌ دَائِمًا، قَالَ: وَيَرُدُّهُ قَوْلُهُمْ: كَيْمَهْ، كَمَا يَقُولُونَ: لِمَهْ، وَأَجَابُوا بِأَنَّ التَّقْدِيرَ كَيْ تَفْعَلَ مَاذَا، وَيَلْزَمُهُمْ كَثْرَةُ الْحَذْفِ وَإِخْرَاجُ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةُ عَنِ الصَّدْرِ وَحَذْفُ أَلِفِهَا فِي غَيْرِ الْجَرِّ، وَحَذْفُ الْفِعْلِ الْمَنْصُوبِ مَعَ بَقَاءِ عَامِلِ النَّصْبِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ، نَعَمْ وَقَعَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي تَفْسِيرِ:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} فَيَذْهَبُ كَيْمَا فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا، أَيْ: كَيْمَا يَسْجُدُ، وَهُوَ غَرِيبٌ جِدًّا لَا يَحْتَمِلُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ، انْتَهَى كَلَامُهُ.

وَكَأَنَّهُ وَقَعَتْ لَهُ نُسْخَةٌ سَقَطَتْ مِنْهَا هَذِهِ اللَّفْظَةُ؛ لَكِنَّهَا ثَابِتَةٌ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الَّتِي وَقَفْتُ عَلَيْهَا حَتَّى أَنَّ ابْنَ بَطَّالٍ ذَكَرَهَا بِلَفْظِ: كَيْ يَسْجُدَ بِحَذْفِ مَا، وَكَلَامُ ابْنِ هِشَامٍ يُوهِمُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَوْرَدَهُ فِي التَّفْسِيرِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ ذَكَرَهَا هُنَا فَقَطْ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ أَجَازَ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ مِنَ الْأَشَاعِرَةِ، وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِقِصَّةِ أَبِي لَهَبٍ، وَأَنَّ اللَّهَ كَلَّفَهُ الْإِيمَانَ بِهِ مَعَ إِعْلَامِهِ بِأَنَّهُ يَمُوتُ عَلَى الْكُفْرِ، وَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ، قَالَ: وَمَنَعَ الْفُقَهَاءُ مِنْ ذَلِكَ وَتَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} وَأَجَابُوا عَنِ السُّجُودِ بِأَنَّهُمْ يُدْعَوْنَ إِلَيْهِ تَبْكِيتًا إِذْ أَدْخَلُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الْمُؤْمِنِينَ السَّاجِدِينَ فِي الدُّنْيَا فَدُعُوا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى السُّجُودِ فَتَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ، فَأَظْهَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ نِفَاقَهُمْ وَأَخْزَاهُمْ، قَالَ:

ص: 428

وَمِثْلُهُ مِنَ التَّبْكِيتِ مَا يُقَالُ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ: {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} وَلَيْسَ فِي هَذَا تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، بَلْ إِظْهَارُ خِزْيِهِمْ، وَمِثْلُهُ مَنْ كُلِّفَ أَنْ يَعْقِدَ شَعِيرَةً فَإِنَّهَا لِلزِّيَادَةِ فِي التَّوْبِيخِ وَالْعُقُوبَةِ، انْتَهَى.

وَلَمْ يَجِبْ عَنْ قِصَّةِ أَبِي لَهَبٍ، وَقَدِ ادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ مَسْأَلَةَ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ لَمْ تَقَعْ إِلَّا بِالْإِيمَانِ فَقَطْ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ طَوِيلَةُ الذَّيْلِ، لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ ذِكْرِهَا، وَقَوْلُهُ: قَالَ: مَدْحَضَةٌ: مَزِلَّةٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الزَّايِ، وَيَجُوزُ فَتْحُهَا وَتَشْدِيدُ اللَّامِ، قَالَ: أَيْ: مَوْضِعُ الزَّلَلِ، وَيُقَالُ بِالْكَسْرِ فِي الْمَكَانِ، وَبِالْفَتْحِ فِي الْمَقَالِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ هُنَا الدَّحْضُ الزَّلَقُ، لِيَدْحَضُوا لِيَزْلَقُوا زَلَقًا لَا يَثْبُتُ فِيهِ قَدَمٌ، وَهَذَا قَدْ تَقَدَّمَ لَهُمْ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْكَهْفِ، وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: عَلَيْهِ خَطَاطِيفٌ وَكَلَالِيبٌ، تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَقَوْلُهُ: وَحَسَكَةُ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَتَيْنِ. قَالَ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ وَغَيْرُهُ: الْحَسَكُ: نَبَاتٌ لَهُ ثَمَرٌ خَشِنٌ يَتَعَلَّقُ بِأَصْوَافِ الْغَنَمِ، وَرُبَّمَا اتُّخِذَ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيدٍ، وَهُوَ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ، وَقَوْلُهُ: مُفَلْطَحَةٌ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ بَعْدَهَا طَاءٌ ثُمَّ حَاءٌ مُهْمَلَتَانِ، كَذَا وَقَعَ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: مُطَلْفَحَةٌ بِتَقْدِيمِ الطَّاءِ وَتَأْخِيرِ الْفَاءِ وَاللَّامُ قَبْلَهَا، وَلِبَعْضِهِمْ كَالْأَوَّلِ لَكِنْ بِتَقْدِيمِ الْحَاءِ عَلَى الطَّاءِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ، وَهُوَ الَّذِي فِيهِ اتِّسَاعٌ وَهُوَ عَرِيضٌ، يُقَالُ: فَلْطَحَ الْقُرْصَ بَسَطَهُ وَعَرَّضَهُ، وَقَوْلُهُ: شَوْكَةٌ عَقِيفَةٌ بِالْقَافِ ثُمَّ الْفَاءِ وَزْنُ عَظِيمَةٌ، وَلِبَعْضِهِمْ عُقَيْفَاءُ بِصِيغَةِ التَّصْغِيرِ مَمْدُودٌ.

(تَنْبِيهٌ):

قَرَأْتُ فِي تَنْقِيحِ الزَّرْكَشِيِّ: وَقَعَ هُنَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ بَعْدَ شَفَاعَةِ الْأَنْبِيَاءِ، فَيَقُولُ اللَّهُ: بَقِيَتْ شَفَاعَتِي فَيُخْرِجُ مِنَ النَّارِ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا، وَتَمَسَّكَ بِهِ بَعْضُهُمْ فِي تَجْوِيزِ إِخْرَاجِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ النَّارِ، وَرُدَّ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ ضَعِيفَةٌ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُتَّصِلَةٍ، كَمَا قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ فِي الْجَمْعِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَيْرِ الْمَنْفِيِّ مَا زَادَ عَلَى أَصْلِ الْإِقْرَارِ بِالشَّهَادَتَيْنِ، كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ بَقِيَّةُ الْأَحَادِيثِ هَكَذَا قَالَ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ غَلَطٌ مِنْهُ، فَإِنَّ الرِّوَايَةَ مُتَّصِلَةٌ هُنَا، وَأَمَّا نِسْبَةُ ذَلِكَ لِعَبْدِ الْحَقِّ فَغَلَطٌ عَلَى غَلَطٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ إِلَّا فِي طَرِيقٍ أُخْرَى وَقَعَ فِيهَا: أَخْرِجُوا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ خَرْدَلٍ مِنْ خَيْرٍ. قَالَ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ غَيْرُ مُتَّصِلَةٍ، وَلَمَّا سَاقَ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ الَّذِي فِي هَذَا الْبَابِ سَاقَهُ بِلَفْظِ الْبُخَارِيِّ وَلَمْ يَتَعَقَّبْهُ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّصِلٍ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لَتَعَقَّبْنَاهُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا انْقِطَاعَ فِي السَّنَدِ أَصْلًا، ثُمَّ إِنَّ لَفْظَ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ هُنَا لَيْسَ كَمَا سَاقَهُ الزَّرْكَشِيُّ، وَإِنَّمَا فِيهِ: فَيَقُولُ الْجَبَّارُ: بَقِيَتْ شَفَاعَتِي فَيُخْرِجُ أَقْوَامًا قَدِ امْتُحِشُوا، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ: فَيَقُولُ أَهْلُ الْجَنَّةِ هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ الرَّحْمَنِ أَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ وَلَا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الزَّرْكَشِيُّ ذَكَرَهُ بِالْمَعْنَى.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: حَدِيثُ أَنَسٍ فِي الشَّفَاعَةِ، وَقَدْ مَضَى شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ صِفَةِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ مِنْ كِتَابِ الرِّقَاقِ، وَقَوْلُهُ هُنَا: وَقَالَ حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ كَذَا عِنْدَ الْجَمِيعِ إِلَّا فِي رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ، فَقَالَ فِيهَا: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْإِسْمَاع يلِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْلَمَ الطُّوسِيِّ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، فَذَكَرَهُ بِطُولِهِ، وَسَاقُوا الْحَدِيثَ كُلَّهُ إِلَّا النَّسَفِيَّ، فَسَاقَ مِنْهُ إِلَى قَوْلِهِ: خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَوَقَعَ لِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْحَمَوِيِّ نَحْوُهُ، لَكِنْ قَالَ: وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، بَعْدَ قَوْلِهِ: حَتَّى يُهِمُّوا بِذَلِكَ، وَنَحْوُهُ لِلْكُشْمِيهَنِيِّ. وَقَوْلُهُ فِيهِ: ثَلَاثُ كَذِبَاتٍ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي ثَلَاثُ كَلِمَاتٍ، وَقَوْلُهُ: فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فِي دَارِهِ فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا يُوهِمُ الْمَكَانَ وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ فِي دَارِهِ الَّذِي اتَّخَذَهَا لِأَوْلِيَائِهِ وَهِيَ الْجَنَّةُ وَهِيَ دَارُ السَّلَامِ، وَأُضِيفَتْ إِلَيْهِ إِضَافَةَ تَشْرِيفٍ مِثْلَ بَيْتِ اللَّهِ وَحَرَمِ اللَّهِ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: قَالَ قَتَادَةُ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: فَأُخْرِجُهُمْ هُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ، وَوَقَعَ لِلْكُشْمِيهَنِيِّ: وَسَمِعْتُهُ أَيْضًا يَقُولُ: وَلِلْمُسْتَمْلِي: وَسَمِعْتُهُ

ص: 429

يَقُولُ: فَأَخْرُجُ فَأُخْرِجُهُمْ، الْأَوَّلُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّ الرَّاءِ، وَالثَّانِي بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: حَدِيثُ أَنَسٍ: اصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنِّي عَلَى الْحَوْضِ.

قَوْلُهُ فِي السَّنَدِ: (حَدَّثَنِي عَمِّي) هُوَ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، وَأَبُوهُ هُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَلِيَعْقُوبَ فِيهِ شَيْخٌ آخَرُ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِهِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَمِّهِ، وَهِيَ أَعْلَى مِنْ رِوَايَتِهِ إِيَّاهُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ صَالِحٍ، وَهُوَ ابْنُ كَيْسَانَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ.

قَوْلُهُ: (أَرْسَلَ إِلَى الْأَنْصَارِ فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ)، كَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَالَ فِي أَوَّلِهِ: لَمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مَا أَفَاءَ مِنْ أَمْوَالِ هَوَازِنَ، ثُمَّ أَحَالَ بِبَقِيَّتِهِ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي قَبْلَهَا مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: فَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِي رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي مُعَاتَبَتِهِمْ، وَفِي آخِرِهِ: فَقَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ رَضِينَا، قَالَ: فَإِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ بَعْدِي أَثَرَةً شَدِيدَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنِّي عَلَى الْحَوْضِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ، وَسَاقَهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ أَتَمَّ مِنْهُ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ: حَتَّى تَلْقَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنَّهَا زِيَادَةٌ لَمْ تَقَعْ فِي بَقِيَّةِ الطُّرُقِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْفِتَنِ مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ، عَنْ أُسَيْدِ بْنِ الْحُضَيْرِ فِي قِصَّةٍ فِيهَا: فَسَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي، وَتَرْجَمَ لَهُ فِي مَنَاقِبِ الْأَنْصَارِ: بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي لِلْأَنْصَارِ - اصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ. قَالَ الرَّاغِبُ: اللِّقَاءُ مُقَابَلَةُ الشَّيْءِ وَمُصَادَفَتُهُ، لَقِيَهُ يَلْقَاهُ، وَيُقَالُ أَيْضًا فِي الْإِدْرَاكِ بِالْحِسِّن وَبِالْبَصِيرَةِ، وَمِنْهُ:{وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ} وَمُلَاقَاةُ اللَّهِ يُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الْمَوْتِ، وَعَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ: لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ يَوْمُ التَّلَاقِي لِالْتِقَاءِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِيهِ.

الْحَدِيثُ السَّادِسُ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الدُّعَاءِ عِنْدَ قِيَامِ اللَّيْلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ التَّهَجُّدِ مُسْتَوْفًى، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ: وَلِقَاءَكَ حَقٌّ وَقَدْ ذَكَرْتُ مَا يَتَعَلَّقُ بِاللِّقَاءِ فِي الَّذِي قَبْلَهُ وَسُفْيَانُ فِي سَنَدِهِ هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَسُلَيْمَانُ هُوَ ابْنُ أَبِي مُسْلِمٍ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: وَقَالَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ، وَأَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ طَاوُسٍ: قِيَّامُ يُرِيدُ أَنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَوَقَعَ عِنْدَهُ بَدَلَ قَوْلِهِ: أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: أَنْتَ قَيَّامُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَكَذَلِكَ أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ طَاوُسٍ وَطَرِيقُ قَيْسٍ وَصَلَهَا مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عِمْرَانَ ابْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ قَيْسٍ، وَلَمْ يَسُوقَا لَفْظَهُ، وَسَاقَهَا النَّسَائِيُّ كَذَلِكَ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ، وَرِوَايَةُ أَبِي الزُّبَيْرِ وَصَلَهَا مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْهُ، وَأَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِهِ، وَلَفْظِهِ: قَيَّامُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْقَيُّومُ: الْقَائِمُ عَلَى شَيْءٍ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِهَذَا، قَالَ الْحَلِيمِيُّ: الْقَيُّومُ: الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ يُدَبِّرُهُ بِمَا يُرِيدُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْمُثَنَّى: الْقَيُّومُ: فَيْعُولُ وَهُوَ الْقَائِمُ الَّذِي لَا يَزُولُ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْقَيُّومُ نَعْتٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْقِيَامِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَهُوَ الْقَيِّمُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ بِالرِّعَايَةِ لَهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَرَأَ عُمَرُ الْقَيَّامُ) قُلْتُ: تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَنْ وَصَلَهُ عَنْ عُمَرَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ نُوحٍ.

قَوْلُهُ: (وَكِلَاهُمَا مَدْحٌ)، أَيِ: الْقَيُّومُ وَالْقَيَّامُ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ.

الْحَدِيثُ السَّابِعُ: حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ، وَقَوْلُهُ: فِي سَنَدِهِ عَنْ خَيْثَمَةَ فِي رِوَايَةِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ: حَدَّثَنِي خَيْثَمَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ وَسِيَاقُهُ هُنَاكَ أَتَمُّ، وَسَيَأْتِي أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْأَعْمَشِ، وَقَوْلُهُ: وَلَا حِجَابٌ يَحْجُبُهُ، فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: وَلَا حَاجِبٌ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: مَعْنَى رَفْعُ الْحِجَابِ إِزَالَةُ الْآفَةِ مِنْ أَبْصَارِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَانِعَةِ لَهُمْ مِنَ الرُّؤْيَةِ فَيَرَوْنَهُ لِارْتِفَاعِهَا عَنْهُمْ بِخَلْقِ ضِدِّهَا فِيهِمْ، وَيُشِيرُ

ص: 430

إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي حَقِّ الْكُفَّارِ: {كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} وَقَالَ الْحَافِظُ صَلَاحُ الدِّينِ الْعَلَائِيُّ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ فِي قِصَّةِ مُعَاذٍ: وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ الْمُرَادُ بِالْحَاجِبِ وَالْحِجَابِ نَفْيُ الْمَانِعِ مِنَ الرُّؤْيَةِ كَمَا نَفَى عَدَمَ إِجَابَةِ دُعَاءِ الْمَظْلُومِ، ثُمَّ اسْتَعَارَ الْحِجَابَ لِلرَّدِّ، فَكَانَ نَفْيُهُ دَلِيلًا عَلَى ثُبُوتِ الْإِجَابَةِ وَالتَّعْبِيرِ بِنَفْيِ الْحِجَابِ أَبْلَغُ مِنَ التَّعْبِيرِ بِالْقَبُولِ؛ لِأَنَّ الْحِجَابَ مِنْ شَأْنِهِ الْمَنْعُ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى الْمَقْصُودِ، فَاسْتُعِيرَ نَفْيُهُ لِعَدَمِ الْمَنْعِ، وَيَتَخَرَّجُ كَثِيرٌ مِنْ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ التَّخْيِيلِيَّةِ، وَهِيَ أَنْ يَشْتَرِكَ شَيْئَانِ فِي وَصْفٍ، ثُمَّ يُعْتَمَدَ لَوَازِمَ أَحَدِهِمَا حَيْثُ تَكُونُ جِهَةُ الِاشْتِرَاكِ وَصْفًا فَيَثْبُتُ كَمَالُهُ فِي الْمُسْتَعَارِ بِوَاسِطَةِ شَيْءٍ آخَرَ، فَيَثْبُتُ ذَلِكَ لِلْمُسْتَعَارِ مُبَالَغَةً فِي إِثْبَاتِ الْمُشْتَرَكِ، قَالَ: وَبِالْحَمْلِ عَلَى هَذِهِ

الِاسْتِعَارَةِ التَّخْيِيلِيَّةِ يَحْصُلُ التَّخَلُّصُ مِنْ مَهَاوِي التَّجَسُّمِ، قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِالْحِجَابِ اسْتِعَارَةُ مَحْسُوسٍ لِمَعْقُولٍ؛ لِأَنَّ الْحِجَابَ حِسِّيٌّ وَالْمَنْعُ عَقْلِيٌّ، قَالَ: وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُ الْحِجَابِ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى مُنَزَّهٌ عَمَّا يَحْجُبُهُ، إِذِ الْحِجَابُ إِنَّمَا يُحِيطُ بِمُقَدَّرٍ مَحْسُوسٍ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِحِجَابِهِ مَنْعُهُ أَبْصَارَ خَلْقِهِ وَبَصَائِرَهُمْ بِمَا شَاءَ مَتَى شَاءَ كَيْفَ شَاءَ، وَإِذَا شَاءَ كَشَفَ ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ: وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ لَيْسَ مُرَادًا قَطْعًا، فَهِيَ اسْتِعَارَةٌ جَزْمًا وَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْحِجَابِ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الْحِجَابُ الْحِسِّيُّ لَكِنَّهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَخْلُوقِينَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَنَقَلَ الطِّيبِيُّ فِي شَرْحِ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى عِنْدَ مُسْلِمٍ: حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ أَنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ حِجَابَهُ خِلَافَ الْحُجُبِ الْمَعْهُودَةِ فَهُوَ مُحْتَجِبٌ عَنِ الْخَلْقِ بِأَنْوَارِ عِزِّهِ وَجَلَالِهِ وَأَشِعَّةِ عَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ، وَذَلِكَ هُوَ الْحِجَابُ الَّذِي تُدْهَشُ دُونَهُ الْعُقُولُ وَتُبْهَتُ الْأَبْصَارُ وَتَتَحَيَّرُ الْبَصَائِرُ، فَلَوْ كَشَفَهُ فَتَجَلَّى لِمَا وَرَاءَهُ بِحَقَائِقِ الصُّفَاتِ، وَعَظَمَةِ الذَّاتِ لَمْ يَبْقَ مَخْلُوقٌ إِلَّا احْتَرَقَ، وَلَا مَنْظُورٌ إِلَّا اضْمَحَلَّ، وَأَصْلُ الْحِجَابِ السَّتْرُ الْحَائِلُ بَيْنَ الرَّائِي وَالْمَرْئِيِّ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مَنْعُ الْأَبْصَارِ مِنَ الرُّؤْيَةِ لَهُ بِمَا ذُكِرَ فَقَامَ ذَلِكَ الْمَنْعُ مَقَامَ السِّتْرِ الْحَائِلِ فَعَبَّرَ بِهِ عَنْهُ، وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ الْحَالَةَ الْمُشَارَ إِلَيْهَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ هِيَ فِي دَارِ الدُّنْيَا الْمُعَدَّةِ لِلْفَنَاءِ دُونَ دَارِ الْآخِرَةِ الْمُعَدَّةِ لِلْبَقَاءِ، وَالْحِجَابُ فِي هَذَا الْحَدِ ثِ وَغَيْرِهِ يَرْجِعُ إِلَى الْخَلْقِ؛ لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمَحْجُوبُونَ عَنْهُ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: أَصْلُ الْحِجَابِ الْمَنْعُ مِنَ الرُّؤْيَةِ، وَالْحِجَابُ فِي حَقِيقَةِ اللُّغَةِ السِّتْرُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَجْسَامِ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، فَعُرِفَ أَنَّ الْمُرَادَ الْمَنْعُ مِنْ رُؤْيَتِهِ وَذَكَرَ النُّورَ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنَ الْإِدْرَاكِ فِي الْعَادَةِ لِشُعَاعِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْوَجْهِ الذَّاتُ وَبِمَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ.

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ: حَدِيثُ أَبِي مُوسَى، وَعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْعَمِّيُّ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، وَأَبُو عِمْرَانَ هُوَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ الْجَوْنِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ هُوَ ابْنُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الرَّحْمَنِ.

قَوْلُهُ: جَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا)، فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ حَمَّادٌ: لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا قَدْ رَفَعَهُ، قَالَ: جَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ لِلْمُقَرَّبِينَ، وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ مِنْ وَرِقٍ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَا حَكَيْتُهُ عَلَى التِّرْمِذِيِّ الْحَكِيمِ، أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} الدُّنُوُّ بِمَعْنَى الْقُرْبِ لَا أَنَّهُمَا دُونَ الْجَنَّتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ قَبْلَهُمَا، وَصَرَّحَ جَمَاعَةٌ بِأَنَّ الْأُولَيَيْنِ أَفْضَلُ مِنَ الْأُخْرَيَيْنِ، وَعَكَسَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ لِلْأَوَّلِينَ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: اخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ فِي الدَّرَجَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ:

ص: 431

مَعْنَاهُ فِي الْفَضْلِ، وَقَوْلُهُ: جَنَّتَانِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} وَتَفْسِيرٌ لَهُ، وَهُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُمَا جَنَّتَانِ، وَآنِيَتُهُمَا مُبْتَدَأٌ، ومِنْ فِضَّةٍ خَبَرُهُ؛ قَالَهُ الْكِرْمَانِيُّ قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ فِضَّةٍ كَمَا قَالَ ابْنُ مَالِكٍ مَرَرْتُ بِوَادِ إِبِلٍ كُلُّهُ، أَنَّ كُلُّهُ فَاعِلٌ، أَيْ: جَنَّتَانِ مُفَضَّضٌ آنِيَتُهُمَا، انْتَهَى.

وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ، وَظَاهِرُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْجَنَّتَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ لَا فِضَّةٍ فِيهِمَا وَبِالْعَكْسِ، وَيُعَارِضُهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَدِّثْنَا عَنِ الْجَنَّةِ، مَا بِنَاؤُهَا؟ قَالَ: لَبِنَةٌ مِنْ ذَهَبٍ وَلَبِنَةٌ مِنْ فِضَّةٍ، الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَلَهُ شَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَسَنَدُهُ حَسَنٌ وَآخَرُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ وَلَفْظُهُ: خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ لَبِنَةً مِنْ ذَهَبٍ وَلَبِنَةً مِنْ فِضَّةٍ الْحَدِيثَ، وَيُجْمَعُ بِأَنَّ الْأَوَّلَ صِفَةُ مَا فِي كُلِّ جَنَّةٍ مِنْ آنِيَةٍ وَغَيْرِهَا، وَالثَّانِي صِفَةُ حَوَائِطِ الْجِنَانِ كُلِّهَا، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ فِي الْبَعْثِ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: أَنَّ اللَّهَ أَحَاطَ حَائِطَ الْجَنَّةِ لَبِنَةً مِنْ ذَهَبٍ وَلَبِنَةً مِنْ فِضَّةٍ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ ذَهَبٍ، وَيَتَرَجَّحُ الِاحْتِمَالُ الثَّانِي.

قَوْلُهُ: (وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ) قَالَ الْمَازِرِيُّ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُخَاطِبُ الْعَرَبَ بِمَا تَفْهَمُ وَيُخْرِجُ لَهُمُ الْأَشْيَاءَ الْمَعْنَوِيَّةَ إِلَى الْحِسِّ لِيُقَرِّبَ تَنَاوُلَهُمْ لَهَا، فَعَبَّرَ عَنْ زَوَالِ الْمَوَانِعِ وَرَفْعِهِ عَنِ الْأَبْصَارِ بِذَلِكَ، وَقَالَ عِيَاضٌ: كَانَتِ الْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ الِاسْتِعَارَةَ كَثِيرًا، وَهُوَ أَرْفَعُ أَدَوَاتِ بَدِيعِ فَصَاحَتِهَا وَإِيجَازِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{جَنَاحَ الذُّلِّ} فَمُخَاطَبَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُمْ بِرِدَاءِ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى، وَمَنْ لَمْ يَفْهَمْ ذَلِكَ تَاهَ، فَمَنْ أَجْرَى الْكَلَامَ عَلَى ظَاهِرِهِ أَفْضَى بِهِ الْأَمْرُ إِلَى التَّجْسِيمِ، وَمَنْ لَمْ يَتَّضِحْ لَهُ وَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُهَا إِمَّا أَنْ يُكَذِّبَ نَقَلَتَهَا وَإِمَّا أَنْ يُؤَوِّلَهَا كَأَنْ يَقُولَ: اسْتَعَارَ لِعَظِيمِ سُلْطَانِ اللَّهِ وَكِبْرِيَائِهِ، وَعَظَمَتِهِ وَهَيْبَتِهِ وَجَلَالِهِ الْمَانِعِ إِدْرَاكَ أَبْصَارِ الْبَشَرِ مَعَ ضَعْفِهَا لِذَلِكَ رِدَاءَ الْكِبْرِيَاءِ، فَإِذَا شَاءَ تَقْوِيَةَ أَبْصَارِهُمْ وَقُلُوبِهِمْ كَشَفَ عَنْهُمْ حِجَابَ هَيْبَتِهِ وَمَوَانِعَ عَظَمَتِهِ، انْتَهَى مُلَخَّصًا.

وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: عَلَى وَجْهِهِ: حَالٌ مِنْ رِدَاءِ الْكِبْرِيَاءِ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ فَإِمَّا مُفَوَّضٌ وَإِمَّا مُتَأَوَّلٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَجْهِ الذَّاتُ، وَالرِّدَاءُ صِفَةٌ مِنْ صِفَةِ الذَّاتِ اللَّازِمَةِ الْمُنَزَّهَةِ عَمَّا يُشْبِهُ الْمَخْلُوقَاتِ، ثُمَّ اسْتَشْكَلَ ظَاهِرَهُ بِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ غَيْرُ وَاقِعَةٍ، وَأَجَابَ بِأَنَّ مَفْهُومَهُ بَيَانُ قُرْبِ النَّظَرِ إِذْ رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ لَا يَكُونُ مَانِعًا مِنَ الرُّؤْيَةِ فَعَبَّرَ عَنْ زَوَالِ الْمَانِعِ عَنِ الْإِبْصَارِ بِإِزَالَةِ الْمُرَادِ، انْتَهَى.

وَحَاصِلُهُ: أَنَّ رِدَاءَ الْكِبْرِيَاءِ مَانِعٌ عَنِ الرُّؤْيَةِ، فَكَأَنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا تَقْدِيرُهُ بَعْدَ قَوْلِهِ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ: فَإِنَّهُ يَمُنُّ عَلَيْهِمْ بِرَفْعِهِ فَيَحْصُلُ لَهُمُ الْفَوْزُ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ، فَكَأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا تَبَوَّءُوا مَقَاعِدَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ لَوْلَا مَا عِنْدَهُمْ مِنْ هَيْبَةِ ذِي الْجَلَالِ لَمَا حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرُّؤْيَةِ حَائِلٌ، فَإِذَا أَرَادَ إِكْرَامَهُمْ حَفَّهُمْ بِرَأْفَتِهِ وَتَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِتَقْوِيَتِهِمْ عَلَى النَّظَرِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ، ثُمَّ وَجَدْتُ فِي حَدِيثِ صُهَيْبٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِرِدَاءِ الْكِبْرِيَاءِ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْحِجَابُ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ صُهَيْبٍ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَكْشِفُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ إِكْرَامًا لَهُمْ، وَالْحَدِيثُ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ، وَابْنِ حِبَّانَ وَلَفْظُ مُسْلِمٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، يَقُولُ اللَّهُ عز وجل: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا وَتُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ؟ قَالَ: فَيَكْشِفُ لَهُمُ الْحِجَابَ فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْهُ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَقِبَ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى، وَلَعَلَّهُ أَشَارَ إِلَى تَأْوِيلِهِ بِهِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي الْمُفْهِمِ الرِّدَاءُ اسْتِعَارَةٌ كَنَّى بِهَا عَنِ الْعَظَمَةِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الثِّيَابَ الْمَحْسُوسَةَ؛ لَكِنَّ الْمُنَاسَبَةَ أَنَّ الرِّدَاءَ

ص: 432

وَالْإِزَارَ لَمَّا كَانَا

مُتَلَازِمَيْنِ لِلْمُخَاطَبِ مِنَ الْعَرَبِ عَبَّرَ عَنِ الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ بِهِمَا، وَمَعْنَى حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّ مُقْتَضَى عِزَّةِ اللَّهِ وَاسْتِغْنَائِهِ أَنْ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ لَكِنَّ رَحْمَتَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ اقْتَضَتْ أَنْ يُرِيَهُمْ وَجْهَهُ كَمَالًا لِلنِّعْمَةِ، فَإِذَا زَالَ الْمَانِعُ فَعَلَ مَعَهُمْ خِلَافَ مُقْتَضَى الْكِبْرِيَاءِ فَكَأَنَّهُ رَفَعَ عَنْهُمْ حِجَابًا كَانَ يَمْنَعُهُمْ، وَنَقَلَ الطَّبَرِيُّ عَنْ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} قَالَ: هُوَ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (فِي جَنَّةِ عَدْنٍ). قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَا تَعَلُّقَ لِلْمُجَسِّمَةِ فِي إِثْبَاتِ الْمَكَانِ لِمَا ثَبَتَ مِنَ اسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ سُبْحَانَهُ جِسْمًا أَوْ حَالًا فِي مَكَانٍ، فَيَكُونُ تَأْوِيلُ الرِّدَاءِ: الْآفَةُ الْمَوْجُودَةُ لِأَبْصَارِهِمُ الْمَانِعَةُ لَهُمْ مِنْ رُؤْيَتِهِ، وَإِزَالَتُهَا فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِهِ يَفْعَلُهُ فِي مَحَلِّ رُؤْيَتِهِمْ فَلَا يَرَوْنَهُ مَا دَامَ ذَلِكَ الْمَانِعُ مَوْجُودًا، فَإِذَا فَعَلَ الرُّؤْيَةَ زَالَ ذَلِكَ الْمَانِعُ وَسَمَّاهُ رِدَاءً لِتَنَزُّلِهِ فِي الْمَنْعِ مَنْزِلَةَ الرِّدَاءِ الَّذِي يَحْجُبُ الْوَجْهَ عَنْ رُؤْيَتِهِ فَأَطْلَقَ عَلَيْهِ الرِّدَاءَ مَجَازًا، وَقَوْلُهُ: فِي جَنَّةِ عَدْنٍ رَاجِعٌ إِلَى الْقَوْمِ، وَقَالَ عِيَاضٌ: مَعْنَاهُ رَاجِعٌ إِلَى النَّظِرِينَ، أَيْ: وَهُمْ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ، لَا إِلَى اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا تَحْوِيهِ الْأَمْكِنَةُ سُبْحَانَهُ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْقَوْمِ مِثْلَ: كَائِنِينَ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: فِي جَنَّةِ عَدْنٍ مُتَعَلِّقٌ بِمَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ فِي الظَّرْفِ فَيُقَيَّدُ بِالْمَفْهُومِ انْتِفَاءُ هَذَا الْحَصْرِ فِي غَيْرِ الْجَنَّةِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ التُّورْبَشْتِيُّ بِقَوْلِهِ: يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ وَالْحُجُبُ مُرْتَفِعَةٌ وَالْمَوَانِعُ الَّتِي تَحْجُبُ عَنِ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِ مُضْمَحِلَّةٌ إِلَّا مَا يَصُدُّهُمْ مِنَ الْهَيْبَةِ كَمَا قِيلَ:

أَشْتَاقُهُ فَإِذَا بَدَا

أَطْرَقْتُ مِنْ إِجْلَالِهِ

فَإِذَا حَفَّهُمْ بِرَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ رَفَعَ ذَلِكَ عَنْهُمْ تَفَضُّلًا مِنْهُ عَلَيْهِمْ.

الْحَدِيثُ التَّاسِعُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ.

قَوْلُهُ: (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ) وَهُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَاوِيهِ، وَهُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ: (مِصْدَاقَهُ)، أَيِ: الْحَدِيثُ، وَمِصْدَاقٌ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ مِفْعَالٌ مِنَ الصِّدْقِ بِمَعْنَى الْمُوَافَقَةِ.

قَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ} - إِلَى أَنْ قَالَ - {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} الْآيَةَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِ، وَالْمُرَادُ هُنَا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ:{وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} وَيُؤْخَذُ مِنْهُ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ الْغَضَبَ سَبَبٌ لِمَنْعِ الْكَلَامِ، وَالرُّؤْيَةُ وَالرِّضَا سَبَبٌ لِوُجُودِهِمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ.

الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَمْرٍو) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ الْمَكِّيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ سَنَدًا وَمَتْنًا فِي كِتَابِ الشُّرْبِ وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي أَوَاخِرِ الْأَحْكَامِ.

الْحَدِيثُ الْحَادِي عَشَرَ: حَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ فِي سَنَدِهِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ، وَأَيُّوبُ هُوَ السَّخْتِيَانِيُّ، وَمُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ سِيرِينَ، وَابْنُ أَبِي بَكْرَةَ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ كَمَا وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَالسَّنَدُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِعَيْنِهِ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ وَفِي الْمَغَازِي، وَأَغْفَلَ الْمِزِّيُّ ذِكْرَ هَذَا السَّنَدِ فِي التَّوْحِيدِ، وَفِي الْمَغَازِي وَهُوَ ثَابِتٌ فِيهِمَا، وَزَعَمَ أَنَّهُ أَخْرَجَهُ فِي التَّفْسِيرِ عَنْ أَبِي مُوسَى، وَلَمْ أَرَهُ فِي التَّفْسِيرِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ مِنْهُ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ إِلَّا قِطْعَةً يَسِيرَةً إِلَى قَوْلِهِ: وَشَعْبَانُ، وَسَاقَهُ بِتَمَامِهِ فِي الْمَغَازِي، وَهُنَا إِلَّا أَنَّهُ سَقَطَ مِنْ وَسَطِهِ هُنَا عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ السَّرَخْسِيِّ، قَوْلُهُ: قَالَ: فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا - إِلَى قَوْلِهِ - قَالَ: فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُفَرَّقًا، أَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِأَوَّلِهِ وَهُوَ: أَنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ فَفِي تَفْسِيرِ سُورَةِ بَرَاءَةٌ، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْبَلَدِ الْحَرَامِ. فَفِي بَابِ الْخُطْبَةِ أَيَّامَ مِنًى مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّهْيِ عَنْ ضَرْبِ بَعْضِهِمْ رِقَابَ بَعْضٍ فَفِي كِتَابِ الْفِتَنِ، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَثِّ عَلَى التَّبْلِيغِ فَفِي كِتَابِ الْعِلْمِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ: وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ

ص: 433

عَنْ أَعْمَالِكُمْ، وَقَدْ ذَكَرْتُ مَا فُسِّرَ بِهِ اللِّقَاءُ فِي الْحَدِيثِ الْخَامِسِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

(تَكْمِلَةٌ):

جَمَعَ الدَّارَقُطْنِيُّ طُرُقَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ، فَزَادَتْ عَلَى الْعِشْرِينَ، وَتَبِعَهَا ابْنُ الْقَيِّمِ فِي حَادِي الْأَرْوَاحِ، فَبَلَغَتِ الثَّلَاثِينَ وَأَكْثَرُهَا جِيَادٌ، وَأَسْنَدَ الدَّارَقُطْنِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، قَالَ: عِنْدِي سَبْعَةَ عَشَرَ حَدِيثًا فِي الرُّؤْيَةِ صِحَاحٌ.

‌25 - بَاب مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}

7448 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أُسَامَةَ، قَالَ: كَانَ ابْنٌ لِبَعْضِ بَنَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَقْضِي فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَهَا، فَأَرْسَلَ: إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ، وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلٌّ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ، فَأَقْسَمَتْ عَلَيْهِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقُمْتُ مَعَهُ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، فَلَمَّا دَخَلْنَا نَاوَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّبِيَّ وَنَفْسُهُ تَقَلْقَلُ فِي صَدْرِهِ حَسِبْتُهُ قَالَ: كَأَنَّهَا شَنَّةٌ، فَبَكَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: أَتَبْكِي؟ فَقَالَ: إِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ.

7449 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اخْتَصَمَتْ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ إِلَى رَبّهِمَا فَقَالَتْ الْجَنَّةُ يَا رَبِّ مَا لَهَا لَا يَدْخُلُهَا إِلاَّ ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ وَقَالَتْ النَّارُ يَعْنِي أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْجَنَّةِ أَنْتِ رَحْمَتِي وَقَالَ لِلنَّارِ أَنْتِ عَذَابِي أُصِيبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا قَالَ فَأَمَّا الْجَنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا وَإِنَّهُ يُنْشِئُ لِلنَّارِ

(1)

مَنْ يَشَاءُ فَيُلْقَوْنَ فِيهَا فَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ثَلَاثًا حَتَّى يَضَعَ فِيهَا قَدَمَهُ فَتَمْتَلِئُ وَيُرَدُّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ وَتَقُولُ قَطْ قَطْ قَطْ

7450 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيُصِيبَنَّ أَقْوَامًا سَفْعٌ مِنْ النَّارِ بِذُنُوبٍ أَصَابُوهَا عُقُوبَةً ثُمَّ يُدْخِلُهُمْ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ يُقَالُ لَهُمْ الْجَهَنَّمِيُّونَ

وَقَالَ هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ حَدَّثَنَا أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

(1)

جزم ابن القيم بأن هذا غلط من الراوي، صوابه "ينشيء للجنة" كما تقدم برقم 4850 من طريق عبد الرزاق عن همام عن أبي هريرة، وكما في رقم 7384 من طريق قتادة عن أنس، فتبين منهما أن الراوي هنا سبق لفظه من الجنة إلى النار، يسمونه في مصطلح الحديث "المنقلب"

ص: 434

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} .

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الرَّحْمَةُ تَنْقَسِمُ إِلَى صِفَةِ ذَاتٍ، وَإِلَى صِفَةِ فِعْلٍ، وَهُنَا يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ صِفَةَ ذَاتٍ، فَيَكُونَ مَعْنَاهَا إِرَادَةُ إِثَابَةِ الطَّائِعِينَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ صِفَةَ فِعْلٍ، فَيَكُونَ مَعْنَاهَا أَنَّ فَضْلَ اللَّهِ - بِسَوْقِ السَّحَابِ وَإِنْزَالِ الْمَطَرِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، فَكَانَ ذَلِكَ رَحْمَةٌ لَهُمْ لِكَوْنِهِ بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَنَحْوَ تَسْمِيَةِ الْجَنَّةِ رَحْمَةً لِكَوْنِهَا فِعْلًا مِنْ أَفْعَالِهِ حَادِثَةً بِقُدْرَتِهِ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ بَابُ الْأَسْمَاءِ الَّتِي تَتْبَعُ إِثْبَاتَ التَّدْبِيرِ لِلَّهِ دُونَ مَنْ سِوَاهُ فَمِنْ ذَلِكَ: الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَى الرَّحْمَنِ: ذُو الرَّحْمَةِ الشَّامِلَةِ الَّتِي وَسِعَتِ الْخَلْقَ فِي أَرْزَاقِهِمْ وَأَسْبَابِ مَعَايِشِهِمْ وَمَصَالِحِهِمْ، قَالَ: وَالرَّحِيمُ خَاصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ:{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} وَقَالَ غَيْرُهُ: الرَّحْمَنُ خَاصٌّ فِي التَّسْمِيَةِ عَامٌّ فِي الْفِعْلِ، وَالرَّحِيمُ عَامٌّ فِي التَّسْمِيَةِ خَاصٌّ فِي الْفِعْلِ، انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي أَوَائِلِ التَّوْحِيدِ فِي بَابِ:{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} وَتَكَلَّمَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى الْحِكْمَةِ ف ي تَذْكِيرِ قَرِيبٍ مَعَ أَنَّهُ وَصْفُ الرَّحْمَةِ، فَقَالَ الْفَرَّاءُ: قَرِيبَةٌ وَبَعِيدَةٌ إِنْ أُرِيدَ بِهَا النَّسَبُ ثُبُوتًا وَنَفْيًا، فَتُؤَنَّثُ جَزْمًا، فَتَقُولُ فُلَانَةٌ قَرِيبَةٌ أَوْ لَيْسَتْ قَرِيبَةً لِي، فَإِنْ أُرِيدَ الْمَكَانُ جَازَ الْوَجْهَانِ؛ لِأَنَّهُ صِفَةُ الْمَكَانِ فَتَقُولُ: فُلَانَةٌ قَرِيبَةٌ وَقَرِيبٌ إِذَا كَانَتْ فِي مَكَانٍ غَيْرِ بَعِيدٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ:

عَشِيَّةٌ لَا عَفْرَاءَ مِنْكَ قَرِيبَةٌ

فَتَدْنُوا وَلَا عَفْرَاءَ مِنْكَ بَعِيدُ

وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقِيسِ:

لَهُ الْوَيْلُ إِنْ أَمْسَى وَلَا

أُمُّ سَالِمٍ، قَرِيبٌ الْبَيْتَ،

وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِهِمْ سَبِيلُ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ أَنْ يَجْرِيَا عَلَى أَفْعَالِهِمَا فَمَرْدُودٌ؛ لِأَنَّهُ رَدُّ الْجَائِزِ بِالْمَشْهُورِ، وَقَالَ تَعَالَى:{وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: قَرِيبٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} لَيْسَ وَصْفًا لِلرَّحْمَةِ، إِنَّمَا هُوَ ظَرْفٌ لَهَا فَجَازَ فِيهِ التَّأْنِيثُ وَالتَّذْكِيرُ، وَيَصْلُحُ لِلْجَمْعِ وَالْمُثَنَّى وَالْمُفْرَدِ، وَلَوْ أُرِيدَ بِهَا الصِّفَةُ لَوَجَبَتِ الْمُطَابَقَةُ، وَتَعَقَّبَهُ الْأَخْفَشُ بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ ظَرْفًا لَنُصِبَتْ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ يَتَّسِعُ فِي الظَّرْفِ، وَوَرَاءَ ذَلِكَ أَجْوِبَةٌ أُخْرَى مُتَقَارِبَةٌ، وَيُقَالُ: إِنَّ أَقْوَاهَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ فَقِيلَ: هِيَ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: شَيْءٌ قَرِيبٌ، وَقِيلَ: لَمَّا كَانَتْ بِمَعْنَى الْغُفْرَانِ أَوِ الْعَفْوِ أَوِ الْمَطَرِ أَوِ الْإِحْسَانِ حُمِلَتْ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: الرُّحْمُ بِالضَّمَّةِ وَالرَّحْمَةُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَذُكِّرَ بِاعْتِبَارِ الرُّحْمِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّهَا ذَاتُ قُرْبٍ كَقَوْلِهِمْ حَائِضٌ؛ لِأَنَّهَا ذَاتُ حَيْضٍ، وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ جَاءَ عَلَى فَعِيلٍ كَنَقِيقٍ لِصَوْتِ الضِّفْدَعِ، وَقِيلَ: لَمَّا كَانَ وَزْنُهُ وَزْنَ الْمَصْدَرِ نَحْوَ زَفِيرٍ وَشَهِيقٍ أُعْطِيَ حُكْمَهُ فِي اسْتِوَاءِ التَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ، وَقِيلَ: إِنَّ الرَّحْمَةَ بِمَعْنَى مَفْعَلَةٍ فَتَكُونُ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ وَفَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَثِيرٍ، وَقِيلَ: أَعْطَى فَعِيلٍ بِمَعْنَى فَاعِلٍ حُكْمَ فَعِيلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ التَّأْنِيثِ الْمَجَازِيِّ كَطَلَعَ الشَّمْسُ، وَبِهَذَا

جَزَمَ ابْنُ التِّينِ، وَتَعَقَّبُوهُ بِأَنَّ شَرْطَهُ تَقَدُّمُ الْفِعْلِ، وَهُنَا جَاءَ الْفِعْلُ مُتَأَخِّرًا فَلَا يَجُوزُ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ بَعْضَهُمْ حَكَى الْجَوَازَ مُطْلَقًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ:

أَحَدُهَا: حَدِيثُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ التَّوْحِيدِ، وَقَوْلُهُ إِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ فِيهِ إِثْبَاتُ صِفَةِ الرَّحْمَةِ لَهُ وَهُوَ مَقْصُودُ التَّرْجَمَةِ.

ثَانِيهَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: اخْتَصَمَتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ وَيَعْقُوبُ فِي سَنَدِهِ هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْخَامِسِ مِنَ الْبَابِ قَبْلَهُ، وَالْأَعْرَجُ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هُرْمُزَ، وَلَيْسَ لِصَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثُ.

قَوْلُهُ: (اخْتَصَمَتْ) فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي سُورَةِ ق تَحَاجَّتْ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ احْتَجَّتْ، وَكَذَا لَهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ

ص: 435

أَبِي هُرَيْرَةَ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: تَحَاجَّتْ أَصْلُهُ تَحَاجَجَتْ وَهُوَ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْحِجَاجِ وَهُوَ الْخِصَامِ وَزْنُهُ وَمَعْنَاهُ، يُقَالُ: حَاجَجْتُهُ مُحَاجَجَةً وَمُحَاجَّةً وَحِجَاجًا، أَيْ: غَالَبْتُهُ بِالْحُجَّةِ، وَمِنْهُ: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، لَكِنَّ حَدِيثَ الْبَابِ لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ غَلَبَةُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.

قُلْتُ: إِنَّمَا وِزَانُ: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، لَوْ جَاءَ تَحَاجَّتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَحَاجَّتِ الْجَنَّةُ النَّارَ، وَإِلَّا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُقُوعِ الْخِصَامِ الْغَلَبَةُ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الْمُهَلَّبِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخِصَامُ حَقِيقَةً بِأَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ فِيهِمَا حَيَاةً وَفَهْمًا وَكَلَامًا وَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَجَازًا كَقَوْلِهِمْ: امْتَلَأَ الْحَوْضُ، وَقَالَ قَطْنِي: وَالْحَوْضُ لَا يَتَكَلَّمُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنِ امْتِلَائِهِ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِمَّنْ يَنْطِقُ لَقَالَ ذَلِكَ، وَكَذَا فِي قَوْلِ النَّارِ:{هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} قَالَ: وَحَاصِلُ اخْتِصَاصِهِمَا افْتِخَارُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْأُخْرَى بِمَنْ يَسْكُنُهَا فَتَظُنُّ النَّارُ أَنَّهَا بِمَنْ أُلْقِيَ فِيهَا مِنْ عُظَمَاءِ الدُّنْيَا أَبَرُّ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْجَنَّةِ، وَتَظُنُّ الْجَنَّةُ أَنَّهَا بِمَنْ أَسْكَنَهَا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَبَرُّ عِنْدَ اللَّهِ، فَأُجِيبَتَا بِأَنَّهُ لَا فَضْلَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْأُخْرَى مِنْ طَرِيقِ مَنْ يَسْكُنُهُمَا، وَفِي كِلَاهُمَا شَائِبَةُ شِكَايَةٍ إِلَى رَبِّهِمَا إِذْ لَمْ تَذْكُرْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إِلَّا مَا اخْتَصَّتْ بِهِ، وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ إِلَى مَشِيئَتِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ كَلَامُ النَّوَوِيِّ فِي هَذَا فِي تَفْسِيرِ ق، وَقَالَ صَاحِبُ الْمُفْهِمِ: يَجُوزُ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ ذَلِكَ الْقَوْلَ فِيمَا شَاءَ مِنْ أَجْزَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ عَقْلًا فِي الْأَصْوَاتِ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهَا حَيًّا عَلَى الرَّاجِحِ وَلَوْ سَلَّمْنَا الشَّرْطَ لَجَازَ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ فِي بَعْضِ أَجْزَائِهِمَا الْجَمَادِيَّةِ حَيَاةً لَا سِيَّمَا وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} إِنَّ كُلَّ مَا فِي الْجَنَّةِ

حَيٌّ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِلِسَانِ الْحَالِ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى.

قَوْلُهُ: (فَقَالَتِ الْجَنَّةُ: يَا رَبِّ مَا لَهَا) فِيهِ الْتِفَاتٌ؛ لِأَنَّ نَسَقَ الْكَلَامِ أَنْ تَقُولَ: مَا لِي، وَقَدْ وَقَعَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ مَا لِي، وَكَذَا لِمُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ.

قَوْلُهُ: (إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ) زَادَ مُسْلِمٌ: وَعَجَزُهُمْ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ وَغَرَثُهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْمُرَادِ بِالضُّعَفَاءِ فِي تَفْسِيرِ ق، وَسَقَطُهُمْ بِفَتْحَتَيْنِ جَمْعُ سَاقِطٍ، وَهُوَ النَّازِلُ الْقَدْرَ، الَّذِي لَا يُؤْبَهُ لَهُ، وَسَقَطُ الْمَتَاعِ رَدِيئُهُ، وَعَجَزُهُمْ بِفَتْحَتَيْنِ أَيْضًا جَمْعُ عَاجِزٍ ضَبَطَهُ عِيَاضٌ، وَتَعَقَّبَهُ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ كَكَاتِبٍ وَكَتَبَةٍ، وَسُقُوطُ التَّاءِ فِي هَذَا الْجَمْعِ نَادِرٌ، قَالَ: وَالصَّوَابُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ مِثْلَ: شَاهِدٌ وَشُهَّدٌ، وَأَمَّا غَرَثُهُمْ فَهُوَ بِمُعْجَمَةٍ وَمُثَلَّثَةٍ جَمْعُ غَرْثَانَ، أَيْ: جَيْعَانَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ، أَيْ: غَفَلَتُهُمْ، وَالْمُرَادُ بِهِ أَهْلُ الْإِيمَانِ الَّذِينَ لَمْ يَتَفَطَّنُوا لِلشُّبَهِ، وَلَمْ تُوَسْوِسْ لَهُمُ الشَّيَاطِينُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَهُمْ أَهْلُ عَقَائِدَ صَحِيحَةٍ وَإِيمَانٍ ثَابِتٍ، وَهُمُ الْجُمْهُورُ، وَأَمَّا أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ فَهُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ قَلِيلٌ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَتِ النَّارُ فَقَالَ لِلْجَنَّةِ)، كَذَا وَقَعَ هُنَا مُخْتَصَرًا. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: سَقَطَ قَوْلُ النَّارِ هُنَا مِنْ جَمِيعِ النُّسَخِ وَهُوَ مَحْفُوظٌ فِي الْحَدِيثِ، رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ بِلَفْظِ: أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ. قُلْتُ: هُوَ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ، لِلدَّارَقُطْنِيِّ، وَكَذَا هُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ وَرْقَاءَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، وَلَهُ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ: يَدْخُلُنِي الْجَبَّارُونَ وَالْمُتَكَبِّرُونَ.

وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: مَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: فَقَالَتِ النَّارُ: فِيَّ. أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى وَسَاقَ مُسْلِمٌ سَنَدَهُ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي). زَادَ أَبُو الزِّنَادِ فِي رِوَايَتِهِ: أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَكَذَا لِهَمَّامٍ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ لِلنَّارِ: أَنْتِ عَذَابِي أُصِيبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ). زَادَ أَبُو الزِّنَادِ: مِنْ عِبَادِي.

قَوْلُهُ: (مِلْؤُهَا) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ اللَّامِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ.

قَوْلُهُ: (فَأَمَّا الْجَنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا، وَأَنَّهُ يُنْشِئُ لِلنَّارِ مَنْ يَشَاءُ) قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْقَابِسِيُّ: الْمَعْرُوفُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ اللَّهَ يُنْشِئُ لِلْجَنَّةِ خَلْقًا، وَأَمَّا النَّارُ فَيَضَعُ فِيهَا قَدَمَهُ قَالَ: وَلَا أَعْلَمُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ يُنْشِئُ لِلنَّارِ

ص: 436

خَلْقًا إِلَّا هَذَا، انْتَهَى. وَقَدْ مَضَى فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ ق مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: يُقَالُ لِجَهَنَّمَ: هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ، فَيَضَعُ الرَّبُّ عَلَيْهَا قَدَمَهُ فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ، وَمِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ بِلَفْظِ فَأَمَّا النَّارُ فَلَا تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ رِجْلَهُ فَتَقُولَ: قَطْ قَطْ، فَهُنَاكَ تَمْتَلِئُ وَيَزْوِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَلَا يَظْلِمُ اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا، وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ بَيَانُ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْمُرَادِ بِالْقَدَمِ مُسْتَوْفًى، وَأَجَابَ عِيَاضٌ بِأَنَّ أَحَدَ مَا قِيلَ فِي تَأْوِيلِ الْقَدَمِ أَنَّهُمْ قَوْمٌ تَقَدَّمَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ يَخْلُقُهُمْ قَالَ: فَهَذَا مُطَابِقٌ لِلْإِنْشَاءِ، وَذِكْرُ الْقَدَمِ بَعْدَ الْإِنْشَاءِ يُرَجِّحُ أَنْ يَكُونَا مُتَغَايِرَيْنِ، وَعَنِ الْمُهَلَّبِ قَالَ: فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ حُجَّةٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ لِلَّهِ أَنْ يُعَذِّبَ مَنْ لَمْ يُكَلِّفُهُ لِعِبَادَتِهِ فِي الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِلْكُهُ فَلَوْ عَذَّبَهُمْ لَكَانَ غَيْرَ ظَالِمٍ، انْتَهَى.

وَأَهْلُ السُّنَّةِ إِنَّمَا تَمَسَّكُوا فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} وَ {يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ مِنْ جِهَةِ الْجَوَازِ، وَأَمَّا الْوُقُوعُ فَفِيهِ نَظَرٌ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ حُجَّةٌ لِلِاخْتِلَافِ فِي لَفْظِهِ وَلِقَبُولِهِ التَّأْوِيلَ، وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ: إِنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ مَقْلُوبٌ، وَجَزَمَ ابْنُ الْقَيِّمِ بِأَنَّهُ غَلَطٌ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ بِأَنَّ جَهَنَّمَ تَمْتَلِئُ مِنْ إِبْلِيسَ وَأَتْبَاعِهِ، وَكَذَا أَنْكَرَ الرِّوَايَةَ شَيْخُنَا الْبُلْقِينِيُّ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ:{وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} ثُمَّ قَالَ: وَحَمْلُهُ عَلَى أَحْجَارٍ تُلْقَى فِي النَّارِ أَقْرَبُ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى ذِي رُوحٍ يُعَذَّبُ بِغَيْرِ ذَنْبٍ، انْتَهَى.

وَيُمْكِنُ الْتِزَامُ أَنْ يَكُونُوا مِنْ ذَوِي الْأَرْوَاحِ، وَلَكِنْ لَا يُعَذَّبُونَ كَمَا فِي الْخَزَنَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِالْإِنْشَاءِ ابْتِدَاءُ إِدْخَالِ الْكُفَّارَ النَّارَ، وَعَبَّرَ عَنِ ابْتِدَاءِ الْإِدْخَالِ بِالْإِنْشَاءِ فَهُوَ إِنْشَاءُ الْإِدْخَالِ لَا الْإِنْشَاءُ بِمَعْنَى ابْتِدَاءِ الْخَلْقِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: فَيُلْقَوْنَ فِيهَا، وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ وَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ: حَتَّى يَضَعَ فِيهَا قَدَمَهُ فَحِينَئِذٍ تَمْتَلِئُ، فَالَّذِي يَمْلَؤُهَا حَتَّى تَقُولَ: حَسْبِي هُوَ الْقَدَمُ، كَمَا هُوَ صَرِيحُ الْخَبَرِ، وَتَأْوِيلُ الْقَدَمِ قَدْ تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَدْ أَيَّدَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ حَمْلَهُ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} إِذْ لَوْ كَانَ عَلَى ظَاهِرِهِ لَكَانَ أَهْلُ النَّارِ فِي نَعِيمِ الْمُشَاهَدَةِ كَمَا يَتَنَعَّمُ أَهْلُ الْجَنَّةِ بِرُؤْيَةِ رَبِّهِمْ؛ لِأَنَّ مُشَاهَدَةَ الْحَقِّ لَا يَكُونُ مَعَهَا عَذَابٌ، وَقَالَ عِيَاضٌ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ عِنْدَ ذِكْرِ الْجَنَّةِ: فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا، أَنَّهُ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُ، كَمَا قَالَ: أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى تَخَاصُمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَإِنَّ الَّذِي جَعَلَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا عَدْلٌ وَحِكْمَةٌ وَبِاسْتِحْقَاقِ كُلٍّ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَظْلِمَ أَحَدًا، وَقَالَ غَيْرُهُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّلْمِيحِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا} فَعَبَّرَ عَنْ تَرْكِ تَضْيِيعِ الْأَجْرِ بِتَرْكِ الظُّلْمِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يُدْخِلُ مَنْ أَحْسَنَ الْجَنَّةَ الَّتِي وَعَدَ الْمُتَّقِينَ بِرَحْمَتِهِ، وَقَدْ قَالَ

لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي، وقال:{إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} وَبِهَذَا تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى اتِّسَاعِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ بِحَيْثُ تَسَعُ كُلَّ مَنْ كَانَ وَمَنْ يَكُونُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَتَحْتَاجُ إِلَى زِيَادَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آخِرِ الرِّقَاقِ أَنَّ آخِرَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُعْطَى مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: يُؤْخَذُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ الْأَشْيَاءَ تُوصَفُ بِغَالِبِهَا؛ لِأَنَّ الْجَنَّةَ قَدْ يَدْخُلُهَا غَيْرُ الضُّعَفَاءِ وَالنَّارُ قَدْ يَدْخُلُهَا غَيْرُ الْمُتَكَبِّرِينَ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ حَمَلَ قَوْلَ النَّارِ:{هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} عَلَى أَنَّهُ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، وَأَنَّهَا لَا تَحْتَاجُ إِلَى زِيَادَةٍ.

وَقَالَ هَمَّامٌ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، حَدَّثَنَا أَنَسٌ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: حَدِيثُ أَنَسٍ.

قَوْلُهُ: (سَفْعٌ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْفَاءِ، ثُمَّ مُهْمَلَةٍ هُوَ أَثَرُ تَغَيُّرِ الْبَشَرَةِ فَيَبْقَى فِيهَا بَعْضُ سَوَادٍ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ هَمَّامٌ:، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، حَدَّثَنَا أَنَسٌ) تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ مَعَ شَرْحِهِ وَأَرَادَ بِهِ هُنَا أَنَّ الْعَنْعَنَةَ الَّتِي فِي طَرِيقِ هِشَامٍ مَحْمُولَةٌ عَلَى السَّمَاعِ بِدَلِيلِ رِوَايَةِ هَمَّامٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 437

‌26 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا}

7451 -

حَدَّثَنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: جَاءَ حَبْرٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللَّهَ يَضَعُ السَّمَاءَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْأَرْضَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْجِبَالَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ وَالْأَنْهَارَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَقُولُ بِيَدِهِ: أَنَا الْمَلِكُ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا} ، وَقَعَ لِبَعْضِهِمْ: يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَهُوَ خَطَأٌ، ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ الْمُهَلَّبُ: الْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّهُمَا مُمْسَكَتَانِ بِغَيْرِ آلَةٍ، وَالْحَدِيثُ يَقْتَضِي أَنَّهُمَا مُمْسَكَتَانِ بِالْإِصْبَعِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِمْسَاكَ بِالْإِصْبَعِ مُحَالٌ؛ لِأَنَّهُ يَفْتَقِرُ إِلَى مُمْسِكٍ، وَأَجَابَ غَيْرُهُ بِأَنَّ الْإِمْسَاكَ فِي الْآيَةِ يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا، وَفِي الْحَدِيثِ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ مَضَى تَوْجِيهُ الْإِصْبَعِ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ السُّنَّةِ مَعَ شَرْحِهِ فِي بَابِ قَوْلِهِ: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ، قَالَ الرَّاغِبُ: إِمْسَاكُ الشَّيْءِ التَّعَلُّقُ بِهِ وَحِفْظُهُ، وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ} الْآيَةَ، وَيُقَالُ: أَمْسَكْتُ عَنْ كَذَا: امْتَنَعْتُ عَنْهُ، وَمِنْهُ:{هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ}

قَوْلُهُ: (إِنَّ اللَّهَ يَضَعُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ الْحَدِيثَ) وَمَضَى هُنَاكَ بِلَفْظِ: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِلتَّرْجَمَةِ، لَكِنْ جَرَى عَلَى عَادَتِهِ فِي الْإِشَارَةِ وَذَكَرَ فِيهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْأَعْمَشِ، وَفِيهِ تَصْرِيحُهُ بِسَمَاعِهِ لَهُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ النَّخَعِيُّ، وَمُوسَى شَيْخُ الْبُخَارِيِّ، فِيهِ هُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ، كَمَا جَزَمَ بِهِ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ، وَقَوْلُهُ: جَاءَ حَبْرٌ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا، بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ سَاكِنَةٌ، ثُمَّ رَاءٌ وَاحِدُ الْأَحْبَارِ، وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمَشَارِقِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: جَاءَ جِبْرِيلُ، قَالَ: وَهُوَ تَصْحِيفٌ فَاحِشٌ، وَهُوَ كَمَا قَالَ، فَقَدْ مَضَى فِي الْبَابِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ: جَاءَ رَجُلٌ، وَفِي الرِّوَايَةِ الَّتِي قَبْلَهَا: أَنَّ يَهُودِيًّا جَاءَ، وَلِمُسْلِمٍ: جَاءَ حَبْرٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَعُرِفَ أَنَّ مَنْ قَالَ: جِبْرِيلُ فَقَدْ صَحَّفَ.

‌27 - بَاب مَا جَاءَ فِي تَخْلِيقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَغَيْرِهَما مِنْ الْخَلَائِقِ، وَهُوَ فِعْلُ الرَّبِّ تبارك وتعالى وَأَمْرُهُ،

فَالرَّبُّ بِصِفَاتِهِ وَفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ، وَهُوَ الْخَالِقُ الْمُكَوِّنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَمَا كَانَ بِفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ وَتَخْلِيقِهِ وَتَكْوِينِهِ فَهُوَ مَفْعُولٌ مَخْلُوقٌ مُكَوَّنٌ

7452 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بِتُّ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ لَيْلَةً وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَهَا لِأَنْظُرَ كَيْفَ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِاللَّيْلِ، فَتَحَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَهْلِهِ سَاعَةً، ثُمَّ رَقَدَ فَلَمَّا كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ أَوْ بَعْضُهُ، قَعَدَ فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَرَأَ:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} - إِلَى قَوْلِهِ - {لأُولِي الأَلْبَابِ} ثُمَّ قَامَ فَتَوَضَّأَ وَاسْتَنَّ، ثُمَّ صَلَّى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً ثُمَّ، أَذَّنَ بِلَالٌ بِالصَّلَاةِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى لِلنَّاسِ الصُّبْحَ.

ص: 438

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا جَاءَ فِي تَخْلِيقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْخَلَائِقِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ تَخْلِيقِ وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَعَلَيْهَا شَرْحُ ابْنِ بَطَّالٍ، وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِلْآيَةِ، وَأَمَّا التَّخْلِيقُ فَإِنَّهُ مِنْ خَلَّقَ بِالتَّشْدِيدِ، وَقَدِ اسْتُعْمِلَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} وَتَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى تَفْسِيرِهِ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ.

قَوْلُهُ: (وَهُوَ فِعْلُ الرَّبِّ وَأَمْرُهُ) الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ هُنَا قَوْلُهُ: كُنْ، وَالْأَمْرُ يُطْلَقُ بِإِزَاءِ مَعَانٍ مِنْهَا صِيغَةُ أَفْعِلْ، وَمِنْهَا الصِّفَةُ وَالشَّأْنُ، وَالْأَوَّلُ الْمُرَادُ هُنَا.

قَوْلُهُ: (فَالرَّبُّ بِصِفَاتِهِ وَفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ) كَذَا ثَبَتَ لِلْجَمِيعِ، وَزَادَ أَبُو ذَرٍّ: فِي رِوَايَتِهِ وَكَلَامِهِ.

قَوْلُهُ: (وَهُوَ الْخَالِقُ الْمُكَوِّنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ) الْمُكَوِّنُ بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ الْمَكْسُورَةِ لَمْ يَرِدْ فِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَلَكِنْ وَرَدَ مَعْنَاهُ وَهُوَ الْمُصَوِّرُ، وَقَوْلُهُ: وَكَلَامِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَأَمْرِهِ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمْرِ هُنَا قَوْلُهُ: كُنْ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ كَلَامِهِ، وَسَقَطَ قَوْلُهُ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ وَفِعْلِهِ فِي بَعْضِ النُّسَخِ.

قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَهُوَ أَوْلَى لِيَصِحَّ لَفْظُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، كَذَا قَالَ وَسِيَاقُ الْمُصَنِّفِ يَقْتَضِي التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الْفِعْلِ وَمَا يَنْشَأُ عَنِ الْفِعْلِ، فَالْأَوَّلُ مِنْ صِفَةِ الْفَاعِلِ، وَالْبَارِي غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَصِفَاتُهُ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ، وَأَمَّا مَفْعُولُهُ وَهُوَ مَا يَنْشَأُ عَنْ فِعْلِهِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ وَمِنْ ثَمَّ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: وَمَا كَانَ بِفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ وَتَخْلِيقِهِ وَتَكْوِينِهِ فَهُوَ مَفْعُولٌ مَخْلُوقٌ مُكَوَّنٌ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالْمُرَادُ بِالْأَمْرِ هُنَا الْمَأْمُورُ بِهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} إِنْ قُلْنَا: الضَّمِيرَ لِلَّهِ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى:{لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ، وَفِيهِ: سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى:{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} فَسَيَأْتِي فِي آخِرِ كِتَابِ التَّوْحِيدِ احْتِجَاجُ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَغَيْرِهِ بِهِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؛ لِأَنَّ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كُنْ، وَقَدْ عُطِفَ عَلَى الْخَلْقِ، وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ، وَكُنْ مِنْ كَلَامِهِ، فَصَحَّ الِاسْتِدْلَالُ، وَوَهَمَ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمْرِ هُنَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا} ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَأْمُورُ فَهُوَ الَّذِي يُوجَدُ بِكُنْ، وَكُنْ صِيغَةُ الْأَمْرِ، وَهِيَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَالَّذِي يُوجَدُ بِهَا هُوَ الْمَخْلُوقُ وَأَطْلَقَ عَلَيْهِ الْأَمْرَ؛ لِأَنَّهُ نَشَأَ عَنْهُ، ثُمَّ وَجَدْتُ بَيَانَ مُرَادِهِ فِي كِتَابِهِ الَّذِي

أَفْرَدَهُ فِي خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، فَقَالَ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْفَاعِلِ وَالْفِعْلِ وَالْمَفْعُولِ، فَقَالَتِ الْقَدَرِيَّةُ: الْأَفَاعِيلُ كُلُّهَا مِنَ الْبَشَرِ، وَقَالَتِ الْجَبْرِيَّةُ: الْأَفَاعِيلُ كُلُّهَا مِنَ اللَّهِ، وَقَالَتِ الْجَهْمِيَّةُ: الْفِعْلُ وَالْمَفْعُولُ وَاحِدٌ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: كُنْ مَخْلُوقٌ، وَقَالَ السَّلَفُ: التَّخْلِيقُ فِعْلُ اللَّهِ وَأَفَاعِيلُنَا مَخْلُوقَةٌ، فَفِعْلُ اللَّهِ صِفَةُ اللَّهِ وَالْمَفْعُولُ مَنْ سِوَاهُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ انْتَهَى. وَمَسْأَلَةُ التَّكْوِينِ مَشْهُورَةٌ بَيْنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَأَصْلُهَا: إِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا: هَلْ صِفَةُ الْفِعْلِ قَدِيمَةٌ أَوْ حَادِثَةٌ؟ فَقَالَ جَمْعٌ مِنَ السَّلَفِ، مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ: هِيَ قَدِيمَةٌ، وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمُ ابْنُ كِلَابٍ، وَالْأَشْعَرِيُّ: هِيَ حَادِثَةٌ لِئَلَّا يَلْزَمَ أَنْ يَكُونَ الْمَخْلُوقُ قَدِيمًا، وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّهُ يُوجَدُ فِي الْأَزَلِ صِفَةُ الْخَلْقِ وَلَا مَخْلُوقَ، وَأَجَابَ الْأَشْعَرِيُّ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ خَلْقٌ وَلَا مَخْلُوقٌ، كَمَا لَا يَكُونُ ضَارِبٌ وَلَا مَضْرُوبٌ، فَأَلْزَمُوهُ بِحُدُوثِ صِفَاتٍ فَيَلْزَمُ حُلُولُ الْحَوَادِثِ.

بِاللَّهِ، فَأَجَابَ بِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَا تُحْدِثُ فِي الذَّاتِ شَيْئًا جَدِيدًا فَتَعَقَّبُوهُ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ لَا يُسَمَّى فِي الْأَزَلِ خَالِقًا وَلَا رَازِقًا، وَكَلَامُ اللَّهِ قَدِيمٌ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ فِيهِ الْخَالِقُ الرَّزَّاقُ فَانْفَصَلَ بَعْضُ الْأَشْعَرِيَّةِ بِأَنَّ إِطْلَاقَ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِعَدَمِ التَّسْمِيَةِ عَدَمُهَا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ، وَلَمْ يَرْتَضِ هَذَا بَعْضُهُمْ بَلْ قَالَ وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ نَفْسِهِ: إِنَّ الْأَسَامِيَ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْأَعْلَامِ وَالْعَلَمُ لَيْسَ بِحَقِيقَةٍ وَلَا مَجَازٍ فِي اللُّغَةِ، وَأَمَّا فِي الشَّرْعِ فَلَفْظُ الْخَالِقِ الرَّازِقِ صَادِقٌ عَلَيْهِ تَعَالَى بِالْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْبَحْثُ إِنَّمَا هُوَ فِيهَا لَا فِي الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ فَأَلْزَمُوهُ بِتَجْوِيزِ إِطْلَاقِ اسْمِ الْفَاعِلِ عَلَى مَنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ الْفِعْلُ، فَأَجَابَ أَنَّ

ص: 439

الْإِطْلَاقَ هُنَا شَرْعِيٌّ لَا لُغَوِيٌّ انْتَهَى. وَتَصَرُّفُ الْبُخَارِيِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَقْتَضِي مُوَافَقَةَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَالصَّائِرُ إِلَيْهِ يَسْلَمُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مَسْأَلَةِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

وَأَمَّا ابْنُ بَطَّالٍ فَقَالَ: غَرَضُهُ بَيَانُ أَنَّ جَمِيعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا مَخْلُوقٌ، لِقِيَامِ دَلَائِلِ الْحُدُوثِ عَلَيْهَا، وَلِقِيَامِ الْبُرْهَانِ عَلَى أَنَّهُ لَا خَالِقَ غَيْرُ اللَّهِ وَبُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الطَّبَائِعَ خَالِقَةٌ أَوِ الْأَفْلَاكَ أَوِ النُّورَ أَوِ الظُّلْمَةَ أَوِ الْعَرْشَ، فَلَمَّا فَسَدَتْ جَمِيعُ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى حُدُوثِ ذَلِكَ كُلِّهِ وَافْتِقَارِهِ إِلَى مُحْدِثٍ لِاسْتِحَالَةِ وُجُودِ مُحْدَثٍ لَا مُحْدِثَ لَهُ وَكِتَابُ اللَّهِ شَاهِدٌ بِذَلِكَ كَآيَةِ الْبَابِ، اسْتُدِلَّ بِآيَاتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَنَّهُ الْخَلَّاقُ الْعَظِيمُ وَأَنَّهُ خَلَّاقُ سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ، لِانْتِفَاءِ الْحَوَادِثِ عَنْهُ الدَّالَّةِ عَلَى حُدُوثِ مَنْ يَقُومُ بِهِ وَأَنَّ ذَاتَهُ وَصِفَاتِهِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ، وَالْقُرْآنُ صِفَةٌ لَهُ فَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ كَانَ عَنْ أَمْرِهِ وَفِعْلِهِ وَتَكْوِينِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ مَخْلُوقٌ لَهُ انْتَهَى. وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْبُخَارِيُّ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ عَلَى مَا أَنْعَمَ.

قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ (فَلَمَّا كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَخِيرُ أَوْ بَعْضُهُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَوْ نِصْفُهُ بِنُونٍ وَمُهْمَلَةٍ وَفَاءٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ بِهَذَا السَّنَدِ وَالْمَتْنِ لَكِنْ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ هَذِهِ اللَّفْظَةَ.

‌28 - بَاب قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ}

7453 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي.

7454 -

حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ أَنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَهُ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَهُ ثُمَّ يُبْعَثُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ فَيُؤْذَنُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيَكْتُبُ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى لَا يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ إِلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُ النَّارَ وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ إِلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا.

7455 -

حَدَّثَنَا خَلَادُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَا جِبْرِيلُ مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَزُورَنَا أَكْثَرَ مِمَّا تَزُورُنَا فَنَزَلَتْ {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ قَالَ كَانَ هَذَا الْجَوَابَ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.

7456 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَرْثٍ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى عَسِيبٍ فَمَرَّ بِقَوْمٍ مِنْ الْيَهُودِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ سَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا تَسْأَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ فَسَأَلُوهُ فَقَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى الْعَسِيبِ وَأَنَا خَلْفَهُ فَظَنَنْتُ أَنَّهُ

ص: 440

يُوحَى إِلَيْهِ فَقَالَ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلًا} فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ قَدْ قُلْنَا لَكُمْ لَا تَسْأَلُوهُ

7457 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ لَا يُخْرِجُهُ إِلاَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ وَتَصْدِيقُ كَلِمَاتِهِ بِأَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ يَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ

7458 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ الرَّجُلُ يُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ شَجَاعَةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ

قَوْلُهُ (بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} ذَكَرَ فِيهِ سِتَّةَ أَحَادِيثَ.

أَوَّلُهَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} وَأَشَارَ بِهِ إِلَى تَرْجِيحِ الْقَوْلِ بِأَنَّ الرَّحْمَةَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ لِكَوْنِ الْكَلِمَةِ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ فَمَهْمَا اسْتُشْكِلَ فِي إِطْلَاقِ السَّبْقِ فِي صِفَةِ الرَّحْمَةِ جَاءَ مِثْلُهُ فِي صِفَةِ الْكَلِمَةِ، وَمَهْمَا أُجِيبَ بِهِ عَنْ قَوْلِهِ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا حَصَلَ بِهِ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ سَبَقَتْ رَحْمَتِي وَقَدْ غَفَلَ عَنْ مُرَادِهِ مَنْ قَالَ دَلَّ وَصْفُ الرَّحْمَةِ بِالسَّبْقِ عَلَى أَنَّهَا مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِالرَّحْمَةِ إِرَادَةُ إِيصَالِ الثَّوَابِ، وَبِالْغَضَبِ إِرَادَةُ إِيصَالِ الْعُقُوبَةِ؛ فَالسَّبْقُ حِينَئِذٍ بَيْنَ مُتَعَلِّقَيِ الْإِرَادَةِ فَلَا إِشْكَالَ، وَقَوْلُهُ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ أَيْ خَلَقَهُمْ، وَكُلُّ صَنْعَةٍ مُحْكَمَةٍ مُتْقَنَةٍ فَهِيَ قَضَاءٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {إِذَا قَضَى أَمْرًا} .

الْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْقَدَرِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَفِيهِ مِنَ الْبَحْثِ مَا تَقَدَّمَ فِي الَّذِي قَبْلَهُ، وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ أَنَّهُ قَالَ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا بِجَمِيعِ كَلَامِهِ لِقَوْلِهِ: فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْكَلِمَاتِ إِنَّمَا يَقَعُ عِنْدَ التَّخْلِيقِ، وَكَذَا قَوْلُهُ ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَهُوَ إِنَّمَا يَقَعُ بِقَوْلِهِ كُنْ وَهُوَ مِنْ كَلَامِهِ سُبْحَانَهُ، قَالَ: وَيَرُدُّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَوْ شَاءَ لَعَذَّبَ أَهْلَ الطَّاعَةِ، وَوَجْهُ الرَّدِّ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ صِفَةِ الْحَكِيمِ أَنْ يَتَبَدَّلَ عِلْمُهُ، وَقَدْ عَلِمَ فِي الْأَزَلِ مَنْ يَرْحَمُ وَمَنْ يُعَذِّبُ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّهُمَا كَلَامُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَلَمْ يَحْتَجَّ لَهُمْ، وَوَجْهُ الرَّدِّ عَلَى مَا ادَّعَاهُ الدَّاوُدِيُّ، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالْآمِرُ إِنَّمَا هُوَ الْمَلَكُ وَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ يَتَلَقَّاهُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَأَمَّا الثَّانِي: فَالْمُرَادُ لَوْ قُدِّرَ ذَلِكَ فِي الْأَزَلِ لَوَقَعَ فَلَا يَلْزَمُ مَا قَالَ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي نُزُولِ

ص: 441

قَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ} وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ مَرْيَمَ، وَزَادَ هُنَا قَالَ: كَانَ هَذَا الْجَوَابُ لِمُحَمَّدٍ وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ هَذَا كَانَ الْجَوَابُ لِمُحَمَّدٍ، وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ هُنَا بِأَمْرِ رَبِّكَ بِمَعْنَى الْإِذْنِ أَيْ مَا نَتَنَزَّلُ إِلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْوَحْيِ وَالْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ، وَيَجِيءُ فِي قَوْلِ جِبْرِيلَ عليه السلام بِأَمْرِ رَبِّكَ الْبَحْثُ الَّذِي تَقَدَّمَ قَبْلَهُ عَنِ الدَّاوُدِيِّ وَجَوَابُهُ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} وَيَحْيَى شَيْخُهُ فِيهِ هُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي التَّفْسِيرِ، وَيَأْتِي شَيْءٌ مِنْهُ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَقَوْلُهُ فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ يَأْتِي فِي الَّذِي بَعْدَهُ بِلَفْظِ فَعَلِمْتُ فَقِيلَ أَطْلَقَ الْعِلْمَ وَأَرَادَ الظَّنَّ، وَقِيلَ بِالْعَكْسِ، وَقِيلَ ظَنَّ أَوَّلًا ثُمَّ تَحَقَّقَ آخِرًا، فَإِطْلَاقُ الظَّنِّ بِاعْتِبَارِ أَوَّلِ مَا رَآهُ، وَإِطْلَاقُ الْعِلْمِ بِاعْتِبَارِ آخِرِ الْحَالِ.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ وَتَصْدِيقُ كَلِمَاتِهِ أَيِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ بِالْحَثِّ عَلَى الْجِهَادِ وَمَا وَعَدَ فِيهِ مِنَ الثَّوَابِ، وَشَيْخُهُ إِسْمَاعِيلُ فِيهِ هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، وَتَقَدَّمَ بِهَذَا السَّنَدِ فِي فَرْضِ الْخُمُسِ، وَتَقَدَّمَ فِي شَرْحِهِ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ، وَسَتَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ أَيْضًا بَعْدَ بَابٍ.

الْحَدِيثُ السَّادِسُ: حَدِيثُ أَبِي مُوسَى مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْجِهَادِ وَالْمُرَادُ هُنَا بِقَوْلِهِ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ، أَيْ كَلِمَةُ تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَهِيَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الْآيَةَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْكَلِمَةِ الْقَضِيَّةَ. قَالَ الرَّاغِبُ: كُلُّ قَضِيَّةٍ تُسَمَّى كَلِمَةً سَوَاءٌ كَانَتْ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا، وَالْمُرَادُ هُنَا حُكْمُهُ وَشَرْعُهُ.

‌29 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ}

7459 -

حَدَّثَنَا شِهَابُ بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ الْمُغِيرَةِ، بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي قَوْمٌ ظَاهِرِينَ عَلَى النَّاسِ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ.

7460 -

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا ابْنُ جَابِرٍ حَدَّثَنِي عُمَيْرُ بْنُ هَانِئٍ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لَا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ مَا يَضُرُّهُمْ مَنْ كَذَّبَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ مَالِكُ بْنُ يُخَامِرَ سَمِعْتُ مُعَاذًا يَقُولُ وَهُمْ بِالشَّأْمِ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ هَذَا مَالِكٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاذًا يَقُولُ وَهُمْ بِالشَّأْمِ.

7461 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ وَقَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى مُسَيْلِمَةَ فِي أَصْحَابِهِ فَقَالَ لَوْ سَأَلْتَنِي هَذِهِ الْقِطْعَةَ مَا أَعْطَيْتُكَهَا وَلَنْ تَعْدُوَ أَمْرَ اللَّهِ فِيكَ وَلَئِنْ أَدْبَرْتَ لَيَعْقِرَنَّكَ اللَّهُ.

7462 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ بَيْنَا أَنَا أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ حَرْثِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَسِيبٍ مَعَهُ فَمَرَرْنَا عَلَى نَفَرٍ مِنْ الْيَهُودِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ سَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا تَسْأَلُوهُ أَنْ يَجِيءَ فِيهِ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَنَسْأَلَنَّهُ فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَالَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ مَا الرُّوحُ فَسَكَتَ عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَعَلِمْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ فَقَالَ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتُوا مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلًا} قَالَ الأَعْمَشُ هَكَذَا فِي قِرَاءَتِنَا

ص: 442

قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ} زَادَ غَيْرُ أَبِي ذَرٍّ {أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وَنَقَصَ {إِذَا أَرَدْنَاهُ} مِنْ رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ عِيَاضٌ: كَذَا وَقَعَ لِجَمِيعِ الرُّوَاةِ عَنِ الْفَرَبْرِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي ذَرٍّ، وَالْأَصِيلِيِّ، وَالْقَابِسِيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، وَصَوَابُ التِّلَاوَةِ إِنَّمَا قَوْلُنَا وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُتَرْجِمَ بِالْآيَةِ الْأُخْرَى {وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} وَسَبَقَ الْقَلَمُ إِلَى هَذِهِ. قُلْتُ: وَقَعَ فِي نُسْخَةٍ مُعْتَمَدَةٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ إِنَّمَا قَوْلُنَا عَلَى وَفْقِ التِّلَاوَةِ وَعَلَيْهَا شَرْحُ ابْنِ التِّينِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ إِصْلَاحِ مَنْ تَأَخَّرَ عَنْهُ وَإِلَّا فَالْقَوْلُ مَا قَالَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ: قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: دَلَّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ حَدِيثُ عُبَادَةَ أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ فَقَالَ اكْتُبْ الْحَدِيثَ قَالَ: وَإِنَّمَا نَطَقَ الْقَلَمُ بِكَلَامِهِ لِقَوْلِهِ {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} قَالَ فَكَلَامُ اللَّهِ سَابِقٌ عَلَى أَوَّلِ خَلْقِهِ فَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَعَنِ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ سَمِعْتُ الْبُوَيْطِيَّ يَقُولُ خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ كُلَّهُ بِقَوْلِهِ كُنْ فَلَوْ كَانَ كُنْ مَخْلُوقًا لَكَانَ قَدْ خَلَقَ الْخَلْقَ بِمَخْلُوقٍ ولَيْسَ كَذَلِكَ، ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ خَمْسَةَ أَحَادِيثَ.

الْأَوَّلُ حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ وَقَوْلُهُ فِيهِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ هُوَ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ وَقَيْسٌ هُوَ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ وَمِنَ الَّذِي بَعْدَهُ قَوْلُهُ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْمُرَادِ بِهِ عِنْدَ شَرْحِهِ فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْمُرَادُ بِأَمْرِ اللَّهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ السَّاعَةُ وَالصَّوَابُ أَمْرُ اللَّهِ بِقِيَامِ السَّاعَةِ فَيَرْجِعُ إِلَى حُكْمِهِ وَقَضَائِهِ.

وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ: حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ فِي ذَلِكَ، وَفِيهِ رِوَايَةُ مَالِكِ بْنِ يُخَامِرَ بِضَمِّ التَّحْتَانِيَّةِ وَتَخْفِيفِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ عَنْ مُعَاذٍ وَهُمْ بِالشَّامِ، وَذَكَرَ مُعَاوِيَةَ عَنْهُ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ فِيهِ وَلَا مَنْ خَذَلَهُمْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ حِذَاهُمْ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ ذَالٍ مُعْجَمَةٍ بَعْدَهَا أَلِفٌ لَيِّنَةٌ، قَالَ: وَلَهَا وَجْهٌ، يَعْنِي مَنْ جَاوَرَهُمْ مِمَّنْ لَا يُوَافِقُهُمْ، قَالَ: وَلَكِنَّ الصَّوَابَ بِفَتْحِ الْخاءِ الْمُعْجَمَةِ وَبِاللَّامِ مِنَ الْخِذْلَانِ، وَابْنُ جَابِرٍ الْمَذْكُورُ فِيهِ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ نُسِبَ لِجَدِّهِ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي شَأْنِ مُسَيْلِمَةَ ذَكَرَ مِنْهُ طَرَفًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِتَمَامِهِ فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي مَعَ شَرْحِهِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ: وَلَنْ يَعْدُوَ أَمْرُ اللَّهِ فِيكَ، أَيْ مَا قَدَّرَهُ عَلَيْكَ مِنَ الشَّقَاءِ أَوِ السَّعَادَةِ.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي سُؤَالِ الْيَهُودِ عَنِ الرُّوحِ، وَقَوْلُهُ {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الرُّوحَ قَدِيمَةٌ زَعْمًا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمْرِ هُنَا الْأَمْرُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} وَهُوَ فَاسِدٌ، فَإِنَّ الْأَمْرَ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ لِمَعَانٍ يَتَبَيَّنُ الْمُرَادُ بِكُلٍّ مِنْهَا مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَمْرِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} وَأَنَّهُ بِمَعْنَى الطَّلَبِ الَّذِي هُوَ أَحَدُ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ، وَأَمَّا الْأَمْرُ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ هَذَا فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَأْمُورُ كَمَا يُقَالُ الْخَلْقُ وَيُرَادُ بِهِ الْمَخْلُوقُ، وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ، فَفِي تَفْسِيرِ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ غَيْرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} يَقُولُ هُوَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ لَيْسَ هُوَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالرُّوحِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا هَلْ هِيَ الرُّوحُ الَّتِي تَقُومُ بِهَا الْحَيَاةُ أَوِ الرُّوحُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا} وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} وَتَمَسَّكَ مَنْ قَالَ بِالثَّانِي بِأَنَّ السُّؤَالَ إِنَّمَا يَقَعُ فِي الْعَادَةِ عَمَّا لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِالْوَحْيِ، وَالرُّوحُ الَّتِي بِهَا الْحَيَاةُ قَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِيهَا قَدِيمًا وَحَدِيثًا، بِخِلَافِ الرُّوحِ الْمَذْكُورِ فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ بَلْ هِيَ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ بِخِلَافِ الْأُولَى، وَقَدْ أَطْلَقَ اللَّهُ لَفْظَ الرُّوحِ عَلَى الْوَحْيِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} وَفِي قَوْلِهِ {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى

ص: 443

مَنْ يَشَاءُ} وَعَلَى الْقُوَّةِ وَالثَّبَاتِ وَالنَّصْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} وَعَلَى جِبْرِيلَ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ، وَعَلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَلَمْ يَقَعْ فِي الْقُرْآنِ تَسْمِيَةُ رُوحِ بَنِي آدَمَ رُوحًا بَلْ سَمَّاهَا نَفْسًا فِي قَوْلِهِ: النَّفْسُ الْمُطَمْئِنَةُ، وَالنَّفْسُ الْأَمَارَةُ بِالسُّوءِ، وَالنَّفْسُ اللَّوَّامَةُ، وَأَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ، وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ، وَتَمَسَّكَ مَنْ زَعَمَ بِأَنَّهَا قَدِيمَةٌ بِإِضَافَتِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} وَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ تَقَعُ عَلَى صِفَةٍ تَقُومُ بِالْمَوْصُوفِ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، وَعَلَى مَا يَنْفَصِلُ عَنْهُ كَبَيْتِ اللَّهِ وَنَاقَةِ اللَّهِ فَقَوْلُهُ: رُوحُ اللَّهِ، مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ.

الثَّانِي: وَهِيَ إِضَافَةُ تَخْصِيصٍ وَتَشْرِيفٍ وَهِيَ فَوْقَ الْإِضَافَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي بِمَعْنَى الْإِيجَادِ فَالْإِضَافَةُ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ: إِضَافَةُ إِيجَادٍ وَإِضَافَةُ تَشْرِيفٍ وَإِضَافَةُ صِفَةٍ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرُّوحَ مَخْلُوقَةٌ عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} ، {وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} ، {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} وَالْأَرْوَاحُ مَرْبُوبَةٌ وَكُلُّ مَرْبُوبٍ مَخْلُوقُ، رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى لِزَكَرِيَّا:{وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} وَهَذَا الْخِطَابُ لِجَسَدِهِ وَرُوحِهِ مَعًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} وَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّ قَوْلَهُ خَلْقُنَا يَتَنَاوَلُ الْأَرْوَاحَ وَالْأَجْسَادَ مَعًا أَوِ الْأَرْوَاحَ فَقَطْ، وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ بَدْءِ الْخَلْقِ، وَقَدْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مَخْلُوقُونَ وَهُمْ أَرْوَاحٌ، وَحَدِيثُ الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ وَالْجُنُودُ الْمُجَنَّدَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا مَخْلُوقَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ وَشَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ وَحَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ بِلَالًا قَالَ لَمَّا نَامُوا فِي الْوَادِي: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخَذَ بِنَفْسِي الَّذِي أَخَذَ بِنَفْسِكَ، وَالْمُرَادُ بِالنَّفْسِ الرُّوحُ قَطْعًا لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَكُمْ حِينَ شَاءَ الْحَدِيثَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} الْآيَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي

سُورَةِ سُبْحَانَ، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ وَمَا أُوتُوا مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَمَا أُوتِيتُمْ عَلَى وَفْقِ الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ فِي بَقِيَّتِهِ: قَالَ الْأَعْمَشُ هَكَذَا فِي قِرَاءَتِنَا، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: غَرَضُهُ الرَّدُّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ بِأَمْرِهِ لَهُ وَأَنَّ أَمْرَهُ وَقَوْلُهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَأَنَّهُ يَقُولُ كُنْ حَقِيقَةً، وَأَنَّ الْأَمْرَ غَيْرُ الْخَلْقِ لِعَطْفِهِ عَلَيْهِ بِالْوَاوِ انْتَهَى. وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِهَذَا فِي بَابِ:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}

‌30 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا}

{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} ، {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} سَخَّرَ: ذَلَّلَ.

7463 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ بَيْتِهِ إِلَّا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ وَتَصْدِيقُ كَلِمَتِهِ أَنْ

ص: 444

يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ يَرُدَّهُ إِلَى مَسْكَنِهِ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ.

قَوْلُهُ (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} - إِلَى قَوْلِهِ - {جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} فِي رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ وَسَاقَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ الْآيَةَ كُلَّهَا.

قَوْلُهُ: وَقَوْلُهُ {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} جَاءَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ سُؤَالِ الْيَهُودِ عَنِ الرُّوحِ وَنُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} قَالُوا كَيْفَ وَقَدْ أُوتِينَا التَّوْرَاةَ؟ فَنَزَلَتْ {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} الْآيَةَ فَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْجَوْزَاءِ قَالَ: لَوْ كَانَ كُلُّ شَجَرَةٍ فِي الْأَرْضِ أَقْلَامًا وَالْبَحْرُ مِدادًا لَنَفِدَ الْمَاءُ وَتَكَسَّرَتِ الْأَقْلَامُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ اللَّهِ، وَعَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا فِي هَذَا الْقُرْآنِ يُوشِكُ أَنْ يَنْفَدَ فَنَزَلَتْ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ، وَفِيهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: لَوْ كَانَ شَجَرُ الْأَرْضِ أَقْلَامًا وَمَعَ الْبَحْرِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مِدَادًا لَتَكَسَّرَتِ الْأَقْلَامُ وَنَفِدَ مَاءُ الْبِحَارِ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي سَمِعْتُ بعض أَهْلَ الْعِلْمِ يَقُولُ قَوْلُ اللَّهِ عز وجل {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} وَقَوْلُهُ {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ} الْآيَةَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَخْلُوقًا لَكَانَ لَهُ قَدْرٌ وَكَانَتْ لَهُ عِنَايَةٌ وَلَنَفِدَ كَنَفَادِ الْمَخْلُوقِينَ، وَتَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.

قَوْلُهُ: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} . سَخَّرَ: ذَلَّلَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ وَقَوْلُهُ {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ} وَسَاقَ إِلَى أَنْ قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ {عَلَى الْعَرْشِ} إِلَى قَوْلِهِ {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} وَسَاقَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ الْآيَةَ كُلَّهَا، وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ قَرِيبًا تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ قَوْلُهُ وَتَصْدِيقُ كَلِمَتِهِ وَوَقَعَ فِي نُسْخَةٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي ذَرٍّ وَكَلِمَاتٍ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِكَلِمَاتِهِ الْأَوَامِرُ الْوَارِدَةُ بِالْجِهَادِ وَمَا وَعَدَ عَلَيْهِ مِنَ الثَّوَابِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا أَلْفَاظُ الشَّهَادَتَيْنِ وَأَنَّ تَصْدِيقَهُ بِهَا يُثْبِتُ فِي نَفْسِهِ عَدَاوَةَ مَنْ كَذَّبَهُمَا وَالْحِرْصَ عَلَى قَتْلِهِ وَقَوْلُهُ {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} تَقَدَّمَ بَيَانُ السِّتَّةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ حم فُصِّلَتْ، وَقَوْلُهُ {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} أَيْ وَيُغْشِي النَّهَارَ اللَّيْلَ فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} وَالْغَرَضُ مِنَ الْآيَةِ قَوْلُهُ {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} وَسَيَأْتِي بَسْطُ الْقَوْلِ فِيهِ فِي أَوَاخِرِ هَذَا الْكِتَابِ فِي بَابِ {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَحَذَفَ ابْنُ بَطَّالٍ هَذَا الْبَابَ وَمَا فِيهِ.

‌31 - بَاب فِي الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ

وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} - {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} - {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} - {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}

قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}

7464 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا

ص: 445

دَعَوْتُمْ اللَّهَ فَاعْزِمُوا فِي الدُّعَاءِ، وَلَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ إِنْ شِئْتَ فَأَعْطِنِي، فَإِنَّ اللَّهَ لَا مُسْتَكْرِهَ لَهُ.

دَعَوْتُمْ اللَّهَ فَاعْزِمُوا فِي الدُّعَاءِ وَلَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ إِنْ شِئْتَ فَأَعْطِنِي فَإِنَّ اللَّهَ لَا مُسْتَكْرِهَ لَهُ

7465 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ ح و حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي أَخِي عَبْدُ الْحَمِيدِ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ أَنَّ حُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ عليهما السلام أَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً فَقَالَ لَهُمْ أَلَا تُصَلُّونَ قَالَ عَلِيٌّ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ قُلْتُ ذَلِكَ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا ثُمَّ سَمِعْتُهُ وَهُوَ مُدْبِرٌ يَضْرِبُ فَخِذَهُ وَيَقُولُ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا

7466 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ حَدَّثَنَا هِلَالُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ خَامَةِ الزَّرْعِ يَفِيءُ وَرَقُهُ مِنْ حَيْثُ أَتَتْهَا الرِّيحُ تُكَفِّئُهَا فَإِذَا سَكَنَتْ اعْتَدَلَتْ وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ يُكَفَّأُ بِالْبَلَاءِ وَمَثَلُ الْكَافِرِ كَمَثَلِ الأَرْزَةِ صَمَّاءَ مُعْتَدِلَةً حَتَّى يَقْصِمَهَا اللَّهُ إِذَا شَاءَ

حديث أبي هريرة " مثل المؤمن كمثل خامة الزرع " وقد تقدم شرحه في الرقاق، والمراد منه قوله في آخره:"يقصمها الله إذا شاء " أي في الوقت الذي سبقت إرادته أن يقصمه فيه.

7467 -

حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولَ إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ فِيمَا سَلَفَ قَبْلَكُمْ مِنْ الأُمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ أُعْطِيَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ فَعَمِلُوا بِهَا حَتَّى انْتَصَفَ النَّهَارُ ثُمَّ عَجَزُوا فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا ثُمَّ أُعْطِيَ أَهْلُ الإِنْجِيلِ الإِنْجِيلَ فَعَمِلُوا بِهِ حَتَّى صَلَاةِ الْعَصْرِ ثُمَّ عَجَزُوا فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا ثُمَّ أُعْطِيتُمْ الْقُرْآنَ فَعَمِلْتُمْ بِهِ حَتَّى غُرُوبِ الشَّمْسِ فَأُعْطِيتُمْ قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ قَالَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَقَلُّ عَمَلًا وَأَكْثَرُ أَجْرًا قَالَ هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ أَجْرِكُمْ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَا فَقَالَ فَذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ

7468 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ الْمُسْنَدِيُّ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَهْطٍ فَقَالَ أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ وَلَا تَعْصُونِي فِي مَعْرُوفٍ فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَأُخِذَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ لَهُ كَفَّارَةٌ وَطَهُورٌ وَمَنْ سَتَرَهُ اللَّهُ فَذَلِكَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ

حديث عبادة بن الصامت في المبايعة، وقد تقدم شرحه في " كتاب الإيمان " أوائل الكتاب والمراد منه هنا قوله:"ومن ستره الله فذلك إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له".

7469 -

حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ عليه السلام كَانَ لَهُ سِتُّونَ امْرَأَةً فَقَالَ لَاطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى نِسَائِي فَلْتَحْمِلْنَ كُلُّ امْرَأَةٍ وَلْتَلِدْنَ فَارِسًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَطَافَ عَلَى نِسَائِهِ فَمَا وَلَدَتْ مِنْهُنَّ إِلاَّ امْرَأَةٌ وَلَدَتْ شِقَّ غُلَامٍ قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَوْ كَانَ

ص: 446

سُلَيْمَانُ اسْتَثْنَى لَحَمَلَتْ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ فَوَلَدَتْ فَارِسًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ

7470 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى أَعْرَابِيٍّ يَعُودُهُ فَقَالَ لَا بَأْسَ عَلَيْكَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَالَ قَالَ الأَعْرَابِيُّ طَهُورٌ بَلْ هِيَ حُمَّى تَفُورُ عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ تُزِيرُهُ الْقُبُورَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فَنَعَمْ إِذًا

7471 -

حَدَّثَنَا ابْنُ سَلَامٍ أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ حِينَ نَامُوا عَنْ الصَّلَاةِ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَكُمْ حِينَ شَاءَ وَرَدَّهَا حِينَ شَاءَ فَقَضَوْا حَوَائِجَهُمْ وَتَوَضَّئُوا إِلَى أَنْ طَلَعَتْ الشَّمْسُ وَابْيَضَّتْ فَقَامَ فَصَلَّى

7472 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَالأَعْرَجِ ح و حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ اسْتَبَّ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَرَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ فَقَالَ الْمُسْلِمُ وَالَّذِي اصْطَفَى مُحَمَّدًا عَلَى الْعَالَمِينَ فِي قَسَمٍ يُقْسِمُ بِهِ فَقَالَ الْيَهُودِيُّ وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْعَالَمِينَ فَرَفَعَ الْمُسْلِمُ يَدَهُ عِنْدَ ذَلِكَ فَلَطَمَ الْيَهُودِيَّ فَذَهَبَ الْيَهُودِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ الْمُسْلِمِ

فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ بِجَانِبِ الْعَرْشِ فَلَا أَدْرِي أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي أَوْ كَانَ مِمَّنْ اسْتَثْنَى اللَّهُ

7473 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي عِيسَى أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْمَدِينَةُ يَأْتِيهَا الدَّجَّالُ فَيَجِدُ الْمَلَائِكَةَ يَحْرُسُونَهَا فَلَا يَقْرَبُهَا الدَّجَّالُ وَلَا الطَّاعُونُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ

حديث أنس في المدينة وفيه: ولا الطاعون إن شاء الله، وقد تقدم شرحه في " كتاب الفتن " وشيخه إسحاق بن أبي عيسى ليس له إلا هذه الرواية.

7474 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ فَأُرِيدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَخْتَبِيَ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ

حديث أبي هريرة لكل نبي دعوة، وقد تقدم شرحه في أوائل " كتاب الدعوات".

7475 -

حَدَّثَنَا يَسَرَةُ بْنُ صَفْوَانَ بْنِ جَمِيلٍ اللَّخْمِيُّ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي عَلَى قَلِيبٍ فَنَزَعْتُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَنْزِعَ ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ فَنَزَعَ ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ وَفِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ ثُمَّ أَخَذَهَا عُمَرُ فَاسْتَحَالَتْ غَرْبًا فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنْ النَّاسِ يَفْرِي فَرِيَّهُ حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُ حَوْلَهُ بِعَطَنٍ

ص: 447

7476 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَتَاهُ السَّائِلُ وَرُبَّمَا قَالَ جَاءَهُ السَّائِلُ أَوْ صَاحِبُ الْحَاجَةِ قَالَ اشْفَعُوا فَلْتُؤْجَرُوا وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مَا شَاءَ.

7477 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ ارْزُقْنِي إِنْ شِئْتَ وَليَعْزِمْ مَسْأَلَتَهُ إِنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ لَا مُكْرِهُ لَهُ

7478 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ عَمْرٌو حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فِي صَاحِبِ مُوسَى أَهُوَ خَضِرٌ فَمَرَّ بِهِمَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ الأَنْصَارِيُّ فَدَعَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ إِنِّي تَمَارَيْتُ أَنَا وَصَاحِبِي هَذَا فِي صَاحِبِ مُوسَى الَّذِي سَأَلَ السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ شَأْنَهُ قَالَ نَعَمْ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: {بَيْنَا مُوسَى فِي مَلَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ فَقَالَ مُوسَى لَا فَأُوحِيَ إِلَى مُوسَى بَلَى عَبْدُنَا خَضِرٌ فَسَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ الْحُوتَ آيَةً وَقِيلَ لَهُ إِذَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَارْجِعْ فَإِنَّكَ سَتَلْقَاهُ فَكَانَ مُوسَى يَتْبَعُ أَثَرَ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ فَقَالَ فَتَى مُوسَى لِمُوسَى أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهِ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ قَالَ مُوسَى ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا فَوَجَدَا خَضِرًا وَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا مَا قَصَّ اللَّهُ}

7479 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ نَنْزِلُ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ يُرِيدُ الْمُحَصَّبَ

7480 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ حَاصَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ الطَّائِفِ فَلَمْ يَفْتَحْهَا فَقَالَ إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ نَقْفُلُ وَلَمْ نَفْتَحْ قَالَ فَاغْدُوا عَلَى الْقِتَالِ فَغَدَوْا فَأَصَابَتْهُمْ جِرَاحَاتٌ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَكَأَنَّ ذَلِكَ أَعْجَبَهُمْ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

قَوْلُهُ: بَابٌ فِي الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ) قَالَ الرَّاغِبُ: الْمَشِيئَةُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ سَوَاءٌ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْمَشِيئَةَ فِي الْأَصْلِ إِيجَادُ الشَّيْءِ وَإِصَابَتُهُ فَمِنَ اللَّهِ الْإِيجَادُ وَمِنَ النَّاسِ الْإِصَابَةُ، وَفِي الْعُرْفِ تُسْتَعْمَلُ مَوْضِعَ الْإِرَادَةِ.

ص: 448

قَوْلُهُ (وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} ، وَقَوْلُهُ:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} ، وَقَوْلُهُ:{وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وَقَوْلُهُ: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} قَالَ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ أَنْ سَاقَ بِسَنَدِهِ إِلَى الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمَشِيئَةُ إِرَادَةُ اللَّهِ وَقَدْ أَعْلَمَ اللَّهُ خَلْقَهُ أَنَّ الْمَشِيئَةَ لَهُ دُونَهُمْ فَقَالَ {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} فَلَيْسَتْ لِلْخَلْقِ مَشِيئَةٌ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، وَبِهِ إِلَى الرَّبِيعِ قَالَ: سُئِلَ الشَّافِعِيُّ عَنِ الْقَدَرِ فَقَالَ:

مَا شِئْتَ كَانَ وَإِنْ لَمْ أَشَأْ

وَمَا شِئْتُ إِنْ لَمْ تَشَأْ لَمْ يَكُنْ

الْأَبْيَاتَ، ثُمَّ سَاقَ مِمَّا تَكَرَّرَ مِنْ ذِكْرِ الْمَشِيئَةِ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ مَوْضِعًا مِنْهَا - غَيْرُ مَا ذُكِرَ فِي التَّرْجَمَةِ - قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْبَقَرَةِ {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} وَقَوْلُهُ {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} وَقَوْلُهُ {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ} وَقَوْلُهُ {وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} وَقَوْلُهُ فِي آلِ عِمْرَانَ {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} وَقَوْلُهُ {يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} وَقَوْلُهُ فِي النِّسَاءِ {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْأَنْعَامِ {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} الْآيَةَ فَقَدْ تَمَسَّكَ بِهَا الْمُعْتَزِلَةُ وَقَالُوا: إِنَّ فِيهَا رَدًّا عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ تَمَسَّكُوا بِأَصْلٍ قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَرَاهِينُ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ مَخْلُوقٍ وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَخْلُقَ الْمَخْلُوقُ شَيْئًا، وَالْإِرَادَةُ شَرْطٌ فِي الْخَلْقِ وَيَسْتَحِيلُ ثُبُوتُ الْمَشْرُوطِ بِدُونِ شَرْطِهِ، فَلَمَّا عَانَدَ الْمُشْرِكُونَ الْمَعْقُولَ وَكَذَّبُوا الْمَنْقُولَ الَّذِي جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ وَأُلْزِمُوا الْحُجَّةَ بِذَلِكَ تَمَسَّكُوا بِالْمَشِيئَةِ وَالْقَدَرِ السَّابِقِ، وَهِيَ حُجَّةٌ مَرْدُودَةٌ؛ لِأَنَّ الْقَدَرَ لَا تَبْطُلُ بِهِ الشَّرِيعَةُ وَجَرَيَانُ الْأَحْكَامِ عَلَى الْعِبَادِ بِأَكْسَابِهِمْ فَمَنْ قَدَّرَ عَلَيْهِ بِالْمَعْصِيَةِ كَانَ ذَلِكَ عَلَامَةً عَلَى أَنَّهُ قَدَّرَ عَلَيْهِ الْعِقَابَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ مِنْ غَيْرِ الْمُشْرِكِينَ، وَمَنْ قَدَّرَ عَلَيْهِ بِالطَّاعَةِ كَانَ ذَلِكَ

عَلَامَةً عَلَى أَنَّهُ قَدَّرَ عَلَيْهِ بِالثَّوَابِ، وَحَرْفُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ قَاسُوا الْخَالِقَ عَلَى الْمَخْلُوقِ وَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمَخْلُوقَ لَوْ عَاقَبَ مَنْ يُطِيعُهُ مِنْ أَتْبَاعِهِ عُدَّ ظَالِمًا لِكَوْنِهِ لَيْسَ مَالِكًا لَهُ بِالْحَقِيقَةِ، وَالْخَالِقُ لَوْ عَذَّبَ مَنْ يُطِيعُهُ لَمْ يُعَدَّ ظَالِمًا؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ مِلْكُهُ فَلَهُ الْأَمْرُ كُلُّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ، وَأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مُتَعَلِّقَةٌ بِهَا وَمَوْقُوفَةٌ عَلَيْهَا مَا اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى تَعْلِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ بِهِ فِي جَمِيعِ الْأَفْعَالِ، وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ فِي تَرْجَمَةِ الزُّهْرِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَخِي الزّ هْرِيِّ عَنْ عَمِّهِ قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَأْمُرُ بِرِوَايَةِ قَصِيدَةِ لَبِيدٍ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا: إِنَّ تَقْوَى رَبِّنَا خَيْرٌ نَفَلْ

وَبِإِذْنِ اللَّهِ رَيْثِي وَعَجَلْ

أَحْمَدُ اللَّهَ فَلَا نِدَّ لَهُ

بِيَدَيْهِ الْخَيْرُ مَا شَاءَ فَعَلْ

مَنْ هَدَاهُ سُبُلَ الْخَيْرِ اهْتَدَى

نَاعِمَ الْبَالِ وَمَنْ شَاءَ أَضَلْ

وَحَرْفُ النِّزَاعِ بَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْإِرَادَةَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ تَابِعَةٌ لِلْعِلْمِ وَعِنْدَهُمْ تَابِعَةٌ لِلْأَمْرِ، وَيَدُلُّ لِأَهْلِ السُّنَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى {يُرِيدُ اللَّهُ أَلا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ} وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: غَرَضُ الْبُخَارِيِّ إِثْبَاتُ الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَإِرَادَتُهُ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ، وَزَعَمَ الْمُعْتَزِلَةُ أَنَّهَا صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ فِعْلِهِ وَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ إِرَادَتَهُ لَوْ كَانَتْ مُحْدَثَةً لَمْ يَخْلُ أَنْ يُحْدِثَهَا فِي نَفْسِهِ أَوْ فِي غَيْرِهِ أَوْ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا أَوْ لَا فِي شَيْءٍ مِنْهُمَا.

وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ

ص: 449

مُحَالٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ، وَالثَّانِي فَاسِدٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْغَيْرُ مُرِيدًا لَهَا، وَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ الْبَارِي مُرِيدًا إِذِ الْمُرِيدُ مَنْ صَدَرَتْ مِنْهُ الْإِرَادَةُ وَهُوَ الْغَيْرُ كَمَا بَطَلَ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا إِذَا أَحْدَثَ الْعِلْمَ فِي غَيْرِهِ، وَحَقِيقَةُ الْمُرِيدِ أَنْ يَكُونَ الْإِرَادَةُ مِنْهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَالرَّابِعُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ قِيَامَهَا بِنَفْسِهَا، وَإِذَا فَسَدَتْ هَذِهِ الْأَقْسَامُ صَحَّ أَنَّهُ مُرِيدٌ بِإِرَادَةٍ قَدِيمَةٍ هِيَ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ، وَيَكُونُ تَعَلُّقُهَا بِمَا يَصِحُّ كَوْنُهُ مُرَادًا، فَمَا وَقَعَ بِإِرَادَتِهِ قَالَ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ إِلَّا مَا يَشَاءُ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وَغَيْرُهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَقَالَ {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَ اقْتِتَالَهُمُ الْوَاقِعَ مِنْهُمْ لِكَوْنِهِ مُرِيدًا لَهُ، وَإِذَا كَانَ هُوَ الْفَاعِلَ لِاقْتِتَالِهِمْ فَهُوَ الْمُرِيدُ لِمَشِيئَتِهِمْ وَالْفَاعِلُ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ كَسْبَ الْعِبَادِ إِنَّمَا هُوَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ، وَلَوْ لَمْ يُرِدْ وُقُوعَهُ مَا وَقَعَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْإِرَادَةُ عَلَى قِسْمَيْنِ: إِرَادَةُ أَمْرٍ وَتَشْرِيعٍ، وَإِرَادَةُ قَضَاءٍ وَتَقْدِيرٍ، فَالْأُولَى تَتَعَلَّقُ بِالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ سَوَاءٌ وَقَعَتْ أَمْ لَا، وَالثَّانِيَةُ شَامِلَةٌ لِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ مُحِيطَةٌ بِجَمِيعِ الْحَادِثَاتِ طَاعَةً وَمَعْصِيَةً، وَإِلَى الْأَوَّلِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وَإِلَى الثَّانِي الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْإِرَادَةِ وَالرِّضَا فَقَالُوا: يُرِيدُ وُقُوعَ الْمَعْصِيَةِ وَلَا يَرْضَاهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} وَتَمَسَّكُوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} وَأَجَابَ أَهْلُ السُّنَّةِ بِمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} يَعْنِي بِعِبَادِهِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ بِقَوْلِهِمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَأَرَادَ عِبَادَهُ الْمُخْلِصِينَ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} فَحَبَّبَ إِلَيْهِمُ الْإِيمَانَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} مَعْنَاهُ وَمَا تَشَاءُونَ الطَّاعَةَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ قَسَرَكُمْ عَلَيْهَا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا قَالَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ فِي مَوْضِعِ مَا شَاءَ؛ لِأَنَّ حَرْفَ الشَّرْطِ لِلِاسْتِقْبَالِ وَصَرْفُ الْمَشِيئَةِ إِلَى الْقَسْرِ تَحْرِيفٌ لَا إِشْعَارَ لِلْآيَةِ بِشَيْءٍ مِنْهُ، وَإِنَّمَا الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ مَشِيئَةُ الِاسْتِقَامَةِ كَسْبًا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ مِنَ الْعِبَادِ، وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} أَيْ يُعْطِي مَنِ اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ الْمُلْكَ، يُرِيدُونَ أَنَّ الْحِكْمَةَ تَقْتَضِي رِعَايَةَ الْمَصْلَحَةِ وَيَدَّعُونَ وُجُوبَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنْ يُعْطِيَ الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ سَوَاءٌ كَانَ مُتَّصِفًا بِصِفَاتِ مَنْ يَصْلُحُ لِلْمُلْكِ أَمْ لَا مِنْ غَيْرِ رِعَايَةِ اسْتِحْقَاقٍ وَلَا وُجُوبٍ وَلَا أَصْلَحَ بَلْ يُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ يَكْفُرُ بِهِ وَيَكْفُرُ نِعْمَتَهُ حَتَّى يُهْلِكَهُ كَكَثِيرٍ مِنَ الْكُفَّارِ مِثْلَ نُمْرُودَ وَالْفَرَاعِنَةِ، وَيُؤْتِيهِ إِذَا شَاءَ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَيَدْعُو إِلَى دِينِهِ وَيَرْحَمُ بِهِ الْخَلْقَ مِثْلَ يُوسُفَ، وَدَاوُدَ، وَسُلَيْمَانَ، وَحِكْمَتُهُ فِي كِلَا الْأَمْرَيْنِ عِلْمُهُ وَإِحْكَامُهُ بِإِرَادَتِهِ تَخْصِيصَ مَقْدُورَاتِهِ. قَوْلُهُ {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ: نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ) تَقَدَّمَ مَوْصُولًا بِتَمَامِهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْقَصَصِ وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى وَبَعْضُهُ فِي الْجَنَائِزِ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مَعْنَى {لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} لِأَنَّكَ لَا تَعْلَمُ الْمَطْبُوعَ عَلَى قَلْبِهِ فَيُقْرَنُ بِهِ اللُّطْفُ حَتَّى يَدْعُوَهُ إِلَى الْقَبُولِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ الْقَابِلِينَ لِذَلِكَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ اللُّطْفَ الَّذِي يَسْتَنِدُونَ إِلَيْهِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَمُرَادُهُمْ بِمَنْ يَقْبَلُ مِمَّنْ لَا يَقْبَلُ مَنْ يَقَعُ ذَلِكَ مِنْهُ لِذَاتِهِ لَا بِحُكْمِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} أَيِ الَّذِينَ

ص: 450

خَصَّصَهُمْ بِذَلِكَ فِي الْأَزَلِ.

قَوْلُهُ {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} هَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا تَمَسَّكَ بِهَا الْمُعْتَزِلَةُ لِقَوْلِهِمْ فَقَالُوا: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرِيدُ الْمَعْصِيَةَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ مَعْنَى إِرَادَةِ الْيُسْرِ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ وَمَعَ الْمَرَضِ وَالْإِفْطَارِ بِشَرْطِهِ، وَإِرَادَةِ الْعُسْرِ الْمَنْفِيَّةِ الْإِلْزَامُ بِالصَّوْمِ فِي السَّفَرِ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ، فَالْإِلْزَامُ هُوَ الَّذِي لَا يَقَعُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرِيدُهُ وَبِهَذَا تَظْهَرُ الْحِكْمَةُ فِي تَأْخِيرِهَا عَنِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَالْفَصْلِ بَيْنَ آيَاتِ الْمَشِيئَةِ وَآيَاتِ الْإِرَادَةِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُ الْإِرَادَةِ فِي الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ أَيْضًا، وَقَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ إِلَّا مَا يُرِيدُهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَنَّهُ مُرِيدٌ لِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ آمِرًا بِهَا، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ لَا يُرِيدُ الشَّرَّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَهُ لَطَلَبَهُ، وَزَعَمُوا أَنَّ الْأَمْرَ نَفْسُ الْإِرَادَةِ وَشَنَّعُوا عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ الْفَحْشَاءَ مُرَادَةٌ لِلَّهِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُنَزَّهَ عَنْهَا، وَانْفَصَلَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يُرِيدُ الشَّيْءَ لِيُعَاقِبَ عَلَيْهِ، وَلِثُبُوتِ أَنَّهُ خَلَقَ النَّارَ وَخَلَقَ لَهَا أَهْلًا وَخَلَقَ الْجَنَّةَ وَخَلَقَ لَهَا أَهْلًا وَأَلْزَمُوا الْمُعْتَزِلَةَ بِأَنَّهُمْ جَعَلُوا أَنَّهُ يَقَعُ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يُرِيدُ، وَيُقَالُ: إِنَّ بَعْضَ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ أُحْضِرَ لِلْمُنَاظَرَةِ مَعَ بَعْضِ أَئِمَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ فَلَمَّا جَلَسَ الْمُعْتَزِلِيُّ قَالَ: سُبْحَانَ مَنْ تَنَزَّهَ عَنِ الْفَحْشَاءِ، فَقَالَ السُّنِّيُّ: سُبْحَانَ مَنْ لَا يَقَعُ فِي مُلْكِهِ إِلَّا مَا يَشَاءُ، فَقَالَ الْمُعْتَزِلِيُّ:

أَيَشَاءُ رَبُّنَا أَنْ يُعْصَى؟ فَقَالَ السُّنِّيُّ: أَفَيُعْصَى رَبُّنَا قَهْرًا؟ فَقَالَ الْمُعْتَزِلِيُّ: أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَنِي الْهُدَى وَقَضَى عَلَيَّ بِالرَّدَى أَحْسَنَ إِلَيَّ أَوْ أَسَاءَ؟ فَقَالَ السُّنِّيُّ: إِنْ كَانَ مَنَعَكَ مَا هُوَ لَكَ فَقَدْ أَسَاءَ وَإِنْ كَانَ مَنَعَكَ مَا هُوَ لَهُ فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ فَانْقَطَعَ. ثُمَّ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ بَعْدَ الْحَدِيثِ الْمُعَلَّقِ فِيهِ سَبْعَةَ عَشَرَ حَدِيثًا فِيهَا كُلِّهَا ذِكْرُ الْمَشِيئَةِ، وَتَقَدَّمَتْ كُلُّهَا فِي أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ.

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: حَدِيثُ أَنَسٍ: إِذَا دَعَوْتُمُ اللَّهَ فَاعْزِمُوا فِي الدُّعَاءِ أَيِ اجْزِمُوا وَلَا تَرَدَّدُوا، مِنْ عَزَمْتُ عَلَى الشَّيْءِ إِذَا صَمَّمْتَ عَلَى فِعْلِهِ، وَقِيلَ: عَزْمُ الْمَسْأَلَةِ الْجَزْمُ بِهَا مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ فِي الطَّلَبِ، وَقِيلَ هُوَ حُسْنُ الظَّنِّ بِاللَّهِ فِي الْإِجَابَةِ، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ فِي التَّعْلِيقِ صُورَةَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ وَعَنِ الْمَطْلُوبِ، وَقَوْلُهُ لَا مُسْتَكْرِهَ لَهُ أَيْ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ يُوهِمُ إِمْكَانَ إِعْطَائِهِ عَلَى غَيْرِ الْمَشِيئَةِ وَلَيْسَ بَعْدَ الْمَشِيئَةِ إِلَّا الْإِكْرَاهُ وَاللَّهُ لَا مُكْرِهَ لَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ عَلِيٍّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ التَّهَجُّدِ، وَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ قَوْلُ عَلِيٍّ: إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا، وَأَقَرَّهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ فَقَالَ لَهُمْ وَكَذَا قَوْلُ عَلِيٍّ يَبْعَثَنَا إِشَارَةٌ إِلَى نَفْسِهِ وَإِلَى مَنْ عِنْدَهُ، وَقَوْلُهُ فِيهِ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ وَأَخُوهُ عَبْدُ الْحَمِيدِ هُوَ أَبُو بَكْرٍ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ أَكْثَرَ مِنَ اسْمِهِ، وَسُلَيْمَانُ هُوَ ابْنُ بِلَالٍ وَقَدْ سَمِعَ إِسْمَاعِيلَ بْنَ سُلَيْمَانَ بِلَا وَاسِطَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ خَامَةِ الزَّرْعِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الرِّقَاقِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ قَوْلُهُ فِي آخِرِهِ يَقْصِمُهَا اللَّهُ إِذَا شَاءَ أَيْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي سَبَقَتْ إِرَادَتُهُ أَنْ يَقْصِمَهُ فِيهِ.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فِي الْمُبَايَعَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ أَوَائِلَ الْكِتَابِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ وَمَنْ سَتَرَهُ اللَّهُ فَذَلِكَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ.

الْحَدِيثُ السَّادِسُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: فِي قَوْلِ سُلَيْمَانَ عليه السلام: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى نِسَائِي وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ وَبَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي عَدَدِ نِسَائِهِ، وَذَكَرَهُ هُنَا بِلَفْظِ لَوْ كَانَ سُلَيْمَانُ اسْتَثْنَى لَحَمَلَتْ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ، أَيْ لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَإِطْلَاقُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى قَوْلِ

ص: 451

إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِحَسَبِ اللُّغَةِ.

الْحَدِيثُ السَّابِعُ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي قَالَ بَلْ هِيَ حُمَّى تَفُورُ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الطِّبِّ وَذَكَرَهُ لِقَوْلِهِ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ: حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ حِينَ نَامُوا عَنِ الصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَكُمْ حِينَ شَاءَ وَرَدَّهَا حِينَ شَاءَ، ذَكَرَهُ هُنَا مُخْتَصَرًا وَتَقَدَّمَ بِأَتَمَّ مِنْهُ فِي بَابِ الْأَذَانِ بَعْدَ ذَهَابِ الْوَقْتِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ.

الْحَدِيثُ التَّاسِعُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: فِي قِصَّةِ الْمُسْلِمِ الَّذِي لَطَمَ الْيَهُودِيَّ أَوْرَدَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَذَكَرَهُ لِقَوْلِهِ فِيهِ: أَوْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} وَقَدْ تَقَدَّمَ.

الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ: حَدِيثُ أَنَسٍ فِي الْمَدِينَةِ وَفِيهِ: وَلَا الطَّاعُونُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ، وَشَيْخُهُ إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي عِيسَى لَيْسَ لَهُ إِلَّا هَذِهِ الرِّوَايَةُ.

الْحَدِيثُ الْحَادِيَ عَشَرَ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الدَّعَوَاتِ.

الْحَدِيثُ الثَّانِيَ عَشَرَ: حَدِيثُهُ بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي عَلَى قَلِيبٍ فَنَزَعْتُ مَا شَاءَ اللَّهُ، الْحَدِيثَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي مَنَاقِبِ عُمَرَ، وَفِي الْفِتَنِ وَيَسَرَةُ شَيْخُهُ بِفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ وَالْمُهْمَلَةِ بِوَزْنِ بَشَرَةَ بِمُوَحَّدَةٍ وَمُعْجَمَةٍ وَقَوْلُهُ فِي السَّنَدِ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَخَالَفَهُ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ فَقَالَ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ زَادَ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ، وَالزُّهْرِيِّ صَالِحًا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ أَبُو مَسْعُودٍ وَقَدْ تَعَقَّبَهُ قَبْلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فَقَالَ: إِنَّمَا يُعْرَفُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ كَذَلِكَ، وَقَالَ يَبْعُدُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْغَلَطِ، وَقَالَ الْبَرْقَانِيُّ: فِي كُلِّ مَنْ رَوَاهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَدْخَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الزُّهْرِيِّ صَالِحًا.

الْحَدِيثُ الثَّالِثَ عَشَرَ: حَدِيثُ أَبِي مُوسَى: اشْفَعُوا فَلْتُؤْجَرُوا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِهَذَا السَّنَدِ وَالْمَتْنِ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ وَشُرِحَ هُنَاكَ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مَا شَاءَ أَيْ يُظْهِرُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ بِالْوَحْيِ أَوِ الْإِلْهَامِ مَا قَدَّرَهُ فِي عِلْمِهِ بِأَنَّهُ سَيَقَعُ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعَ عَشَرَ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا يَقُلْ أَحَدُكُمُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ مَعَ حَدِيثِ أَنَسٍ الْمُبْدَأِ بِذِكْرِهِ فِي هَذَا الْبَابِ.

الْحَدِيثُ الْخَامِسَ عَشَرَ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي صَاحِبِ مُوسَى، وَالْخَضِرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي التَّفْسِيرِ، وَتَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْهُ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ وَشَيْخُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ هُوَ الْمُسْنَدِيُّ، وَشَيْخُ الْمُسْنَدِيِّ أَبُو حَفْصٍ عَمْرٌو بِفَتْحِ الْعَيْنِ هُوَ ابْنُ أَبِي سَلَمَةَ التِّنِّيسِيُّ بِمُثَنَّاةٍ وَنُونٍ ثَقِيلَةٍ مَكْسُورَةٍ، وَأَبُو سَلَمَةَ أَبُوهُ لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ قَوْلُهُ فِيهِ حِكَايَةً عَنْ مُوسَى {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ قَوْلَ ذَلِكَ يُرْجَى فِيهِ النُّجْحُ وَوُقُوعُ الْمَطْلُوبِ غَالِبًا وَقَدْ يَتَخَلَّفُ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يُقَدِّرِ اللَّهُ وُقُوعَهُ كَمَا سَيَأْتِي مِثَالُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ.

الْحَدِيثُ السادس عَشَرَ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: نَنْزِلُ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا فِي كِتَابِ الْحَجِّ وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ أَيْضًا.

الْحَدِيثُ السَّابِعَ عَشَرَ: حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: حَاصَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الطَّائِفَ الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْغَزَوَاتِ وَبَيَانُ الِاخْتِلَافِ عَلَى أَبِي الْعَبَّاسِ تَابِعِيِّهِ هَلْ هُوَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بِضَمِّ الْعَيْنِ أَوْ بِفَتْحِهَا وَبَيَانُ الصَّوَابِ مِنْ ذَلِكَ، وَذُكِرَ هُنَا لِقَوْلِهِ إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَرَّتَيْنِ، فَمَا قَفَلُوا فِي الْأُولَى، وَقَفَلُوا فِي الثَّانِيَةِ.

‌32 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}

وَلَمْ يَقُلْ مَاذَا خَلَقَ رَبُّكُمْ

وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} وَقَالَ مَسْرُوقٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ

ص: 452

بِالْوَحْيِ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ شَيْئًا، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَسَكَنَ الصَّوْتُ عَرَفُوا أَنَّهُ الْحَقُّ، وَنَادَوْا {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ}

وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: يَحْشُرُ اللَّهُ الْعِبَادَ فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ: أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ.

7481 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ إِذَا قَضَى اللَّهُ الأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتْ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ قَالَ عَلِيٌّ وَقَالَ غَيْرُهُ صَفْوَانٍ يَنْفُذُهُمْ ذَلِكَ فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ.

قَالَ سُفْيَانُ: قَالَ عَمْرٌو: سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ بهذا. قُلْتُ لِسُفْيَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ لِسُفْيَانَ: إِنَّ إِنْسَانًا رَوَى عَنْ عَمْرٍو بن دينار، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ أَنَّهُ قَرَأَ: فزع، قَالَ سُفْيَانُ: هَكَذَا قَرَأَ عَمْرٌو، فَلَا أَدْرِي سَمِعَهُ هَكَذَا أَمْ لَا؟ قَالَ سُفْيَانُ: وَهِيَ قِرَاءَتُنَا.

7482 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ، وَقَالَ صَاحِبٌ لَهُ: يُرِيدُ أَنْ يَجْهَرَ بِهِ.

7483 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَقُولُ اللَّهُ: يَا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، فَيُنَادَى بِصَوْتٍ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إِلَى النَّارِ.

7484 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، وَلَقَدْ أَمَرَهُ رَبُّهُ أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ.

قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} وَسَاقَ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ ثُمَّ قَالَ: وَلَمْ يَقُلْ مَاذَا خَلَقَ رَبُّكُمْ.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: اسْتَدَلَّ الْبُخَارِيُّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ قَدِيمٌ لِذَاتِهِ قَائِمٌ بِصِفَاتِهِ لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا بِهِ وَلَا يَزَالُ كَلَامُهُ لَا يُشْبِهُ الْمَخْلُوقِينَ، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ الَّتِي نَفَتْ كَلَامَ اللَّهِ، وَلِلْكِلَابِيَّةِ فِي قَوْلِهِمْ هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْفِعْلِ وَالتَّكْوِينِ، وَتَمَسَّكُوا بِقَوْلِ الْعَرَبِ قُلْتُ بِيَدِي هَذَا أَيْ حَرَّكْتُهَا، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْكَلَامَ لَا يُعْقَلُ إِلَّا بِأَعْضَاءٍ وَلِسَانٍ، وَالْبَارِي

ص: 453

مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، فَرَدَّ عَلَيْهِمُ الْبُخَارِيُّ بِحَدِيثِ الْبَابِ وَالْآيَةِ، وَفِيهِ أَنَّهُمْ إِذَا ذَهَبَ عَنْهُمُ الْفَزَعُ قَالُوا لِمَنْ فَوْقَهُمْ: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ سَمِعُوا قَوْلًا لَمْ يَفْهَمُوا مَعْنَاهُ مِنْ أَجْلِ فَزَعِهِمْ فَقَالُوا: مَاذَا قَالَ وَلَمْ يَقُولُوا: مَاذَا خَلَقَ وَكَذَا أَجَابَهُمْ مَنْ فَوْقَهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِقَوْلِهِمْ قَالُوا الْحَقَّ، وَالْحَقُّ أَحَدُ صِفَتَيِ الذَّاتِ الَّتِي لَا يَجُوزُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى كَلَامِهِ الْبَاطِلُ، فَلَوْ كَانَ خَلْقًا أَوْ فِعْلًا لَقَالُوا: خَلَقَ خَلْقًا إِنْسَانًا أَوْ غَيْرَهُ، فَلَمَّا وَصَفُوهُ بِمَا يُوصَفُ بِهِ الْكَلَامُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ بِمَعْنَى التَّكْوِينِ انْتَهَى.

وَهَذَا الَّذِي نَسَبَهُ لِلْكِلَابِيَّةِ بَعِيدٌ مِنْ كَلَامِهِمْ، وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامُ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ، فَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ أَنَّ الْمَرِيسِيَّ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} هُوَ كَقَوْلِ الْعَرَبِ: قَالَتِ السَّمَاءُ فَأَمْطَرَتْ، وَقَالَ الْجِدَارُ هَكَذَا إِذَا مَالَ، فَمَعْنَاهُ قَوْلُهُ إِذَا أَرَدْنَاهُ: إِذَا كَوَّنَّاهُ، وَتَعَقَّبَهُ أَبُو عُبَيْدٍ بِأَنَّهُ أُغْلُوطَةٌ؛ لِأَنَّ الْقَائِلَ إِذَا قَالَ: قَالَتِ السَّمَاءُ لَمْ يَكُنْ كَلَامًا صَحِيحًا حَتَّى يَقُولَ فَأَمْطَرَتْ، بِخِلَافِ مَنْ يَقُولُ قَالَ الْإِنْسَانُ فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ قَالَ كَلَامًا، فَلَوْلَا قَوْلُهُ فَأَمْطَرَتْ لَكَانَ الْكَلَامُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ السَّمَاءَ لَا قَوْلَ لَهَا فَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْبُخَارِيُّ، وَهَذَا أَوَّلُ بَابٍ تَكَلَّمَ فِيهِ الْبُخَارِيُّ عَلَى مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ وَهِيَ طَوِيلَةُ الذَّيْلِ، قَدْ أَكْثَرَ أَئِمَّةُ الْفِرَقِ فِيهَا الْقَوْلَ، وَمُلَخَّصُ ذَلِكَ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الِاعْتِقَادِ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ مَخْلُوقًا وَلَا مُحْدَثًا وَلَا حَادِثًا.

قَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقًا لَكَانَ مَخْلُوقًا بِكُنْ وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ اللَّهِ لِشَيْءٍ بِقَوْلٍ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ قَوْلًا ثَانِيًا وَثَالِثًا فَيَتَسَلْسَلُ وَهُوَ فَاسِدٌ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ} فَخَصَّ الْقُرْآنَ بِالتَّعْلِيمِ؛ لِأَنَّهُ كَلَامُهُ وَصِفَتُهُ، وَخَصَّ الْإِنْسَانَ بِالتَّخْلِيقِ؛ لِأَنَّهُ خَلْقُهُ وَمَصْنُوعُهُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَقَالَ: خَلَقَ الْقُرْآنَ وَالْإِنْسَانَ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَلَامُ الْمُتَكَلِّمِ قَائِمًا بِغَيْرِهِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا} الْآيَةَ، فَلَوْ كَانَ لَا يُوجَدُ إِلَّا مَخْلُوقًا فِي شَيْءٍ مَخْلُوقٍ لَمْ يَكُنْ لِاشْتِرَاطِ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ مَعْنًى لِاسْتِوَاءِ جَمِيعِ الْخَلْقِ فِي سَمَاعِهِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ فَبَطَلَ قَوْلُ الْجَهْمِيَّةِ إِنَّهُ مَخْلُوقٌ فِي غَيْرِ اللَّهِ وَيَلْزَمُهُمْ فِي قَوْلِهِمْ إنَّ اللَّهَ خَلَقَ كَلَامًا فِي شَجَرَةٍ كَلَّمَ بِهِ مُوسَى أَنْ يَكُونَ مَنْ سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ مِنْ مَلَكٍ أَوْ نَبِيٍّ أَفْضَلَ فِي سَمَاعِ الْكَلَامِ مِنْ مُوسَى، وَيَلْزَمُهُمْ أَنْ تَكُونَ الشَّجَرَةُ هِيَ الْمُتَكَلِّمَةَ بِمَا ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّهُ كَلَّمَ بِهِ مُوسَى وَهُوَ قَوْلُهُ {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي} وَقَدْ أَنْكَرَ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلَ الْمُشْرِكِينَ {إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ} وَلَا يُعْتَرَضُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ}؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ قَوْلٌ تَلَقَّاهُ عَنْ رَسُولٍ الله كَرِيمٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} وَلَا بِقَوْلِهِ: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا

عَرَبِيًّا}؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ سَمَّيْنَاهُ قُرْآنًا، وَهُوَ كَقَوْلِهِ {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} وَقَوْلِهِ {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} وَقَوْلِهِ {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} فَالْمُرَادُ أَنَّ تَنْزِيلَهُ إِلَيْنَا هُوَ الْمُحْدَثُ لَا الذِّكْرُ نَفْسُهُ، وَبِهَذَا احْتَجَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ثُمَّ سَاقَ الْبَيْهَقِيُّ حَدِيثَ نِيَارٍ - بِكَسْرِ النُّونِ وَتَخْفِيفِ التَّحْتَانِيَّةِ - ابْنِ مُكْرَمٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ الرُّومِ فَقَالُوا: هَذَا كَلَامُكَ أَوْ كَلَامُ صَاحِبِكَ، قَالَ لَيْسَ كَلَامِي وَلَا كَلَامَ صَاحِبِي وَلَكِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ، وَأَصْلُ هَذَا الْحَدِيثِ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مُصَحَّحًا، وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مَا حَكَّمْتُ مَخْلُوقًا، مَا حَكَّمْتُ إِلَّا الْقُرْآنَ، وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ وَغَيْرَهُ مِنْ مَشْيَخَتِنَا يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ، وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَلَّمَ مُوسَى، وَعَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَكَذَا غَيْرُهُ مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ وَالصُّحُفِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّ كَلَامَ

ص: 454

اللَّهِ صِفَةُ فِعْلٍ مَخْلُوقَةٌ وَأَنَّهُ كَلَّمَ مُوسَى بِكَلَامٍ أَحْدَثَهُ فِي الشَّجَرَةِ، وَقَالَ أَحْمَدُ وَمَنْ تَبِعَهُ: كَلَامُ اللَّهِ هُوَ عِلْمُهُ لَمْ يَزَلْ وَلَيْسَ بِمَخْلُوقٍ، وَقَالَتِ الْأَشْعَرِيَّةُ كَلَامُ اللَّهِ صِفَةُ ذَاتٍ لَمْ يَزَلْ وَلَيْسَ بِمَخْلُوقٍ وَهُوَ غَيْرُ عِلْمِ اللَّهِ وَلَيْسَ لِلَّهِ إِلَّا كَلَامٌ وَاحِدٌ، وَاحْتُجَّ لِأَحْمَدَ بِأَنَّ الدَّلَائِلَ الْقَاطِعَةَ قَامَتْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ فَلَمَّا كَانَ كَلَامُنَا غَيْرَنَا، وَكَانَ مَخْلُوقًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ سبحانه وتعالى لَيْسَ غَيْرَهُ وَلَيْسَ مَخْلُوقًا، وَأَطَالَ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُخَالِفِينَ لِذَلِكَ وَقَالَ غَيْرُهُ: اخْتَلَفُوا فَقَالَتِ الْجَهْمِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَبَعْضُ الزَّيْدِيَّةِ وَالْإِمَامِيَّةُ وَبَعْضُ الْخَوَارِجِ: كَلَامُ اللَّهِ مَخْلُوقٌ خَلَقَهُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ كَالشَّجَرَةِ حِينَ كَلَّمَ مُوسَى، وَحَقِيقَتُهُ قَوْلُهُمْ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ وَإِنْ نُسِبَ إِلَيْهِ ذَلِكَ فَبِطَرِيقِ الْمَجَازِ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ يَتَكَلَّمُ حَقِيقَةً لَكِنْ يَخْلُقُ ذَلِكَ الْكَلَامَ فِي غَيْرِهِ. وَقَالَتِ الْكِلَابِيَّةُ: الْكَلَامُ صِفَةٌ وَاحِدَةٌ قَدِيمَةُ الْعَيْنِ لَازِمَةٌ لِذَاتِ اللَّهِ كَالْحَيَاةِ، وَأَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَتَكْلِيمِهِ لِمَنْ كَلَّمَهُ إِنَّمَا هُوَ خَلْقُ إِدْرَاكٍ لَهُ يَسْمَعُ بِهِ الْكَلَامَ وَنِدَاؤُهُ لِمُوسَى لَمْ يَزَلْ لَكِنَّهُ أَسْمَعَهُ ذَلِكَ النِّدَاءَ حِينَ نَاجَاهُ.

وَيُحْكَى عَنْ أَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ نَحْوُهُ لَكِنْ قَالَ: خَلَقَ صَوْتًا حِينَ نَادَاهُ فَأَسْمَعَهُ كَلَامَهُ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا هُوَ مُرَادُ السَّلَفِ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ، وَأَخَذَ بِقَوْلِ ابْنِ كِلَابٍ الْقَابِسِيِّ، وَالْأَشْعَرِيِّ وَأَتْبَاعِهِمَا وَقَالُوا: إِذَا كَانَ الْكَلَامُ قَدِيمًا لِعَيْنِهِ لَازِمًا لِذَاتِ الرَّبِّ وَثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ فَالْحُرُوفُ لَيْسَتْ قَدِيمَةً؛ لِأَنَّهَا مُتَعَاقِبَةٌ، وَمَا كَانَ مَسْبُوقًا بِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ قَدِيمًا، وَالْكَلَامُ الْقَدِيمُ مَعْنًى قَائِمٌ بِالذَّاتِ لَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَجَزَّأُ بَلْ هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ إِنْ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ فَهُوَ قُرْآنٌ أَوْ بِالْعِبْرَانِيَّةِ فَهُوَ تَوْرَاةٌ مَثَلًا وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ وَغَيْرُهُمْ إِلَى أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ كَلَامُ اللَّهِ وَكَذَا التَّوْرَاةُ، وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إِذَا شَاءَ وَأَنَّهُ تَكَلَّمَ بِحُرُوفِ الْقُرْآنِ وَأَسْمَعَ مَنْ شَاءَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ صَوْتَهُ، وَقَالُوا: إِنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ قَدِيمَةُ الْعَيْنِ لَازِمَةُ الذَّاتِ لَيْسَتْ مُتَعَاقِبَةً بَلْ لَمْ تَزَلْ قَائِمَةً بِذَاتِهِ مُقْتَرِنَةً لَا تُسْبَقُ، وَالتَّعَاقُبُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ بِخِلَافِ الْخَالِقِ، وَذَهَبَ أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ إِلَى أَنَّ الْأَصْوَاتَ وَالْحُرُوفَ هِيَ الْمَسْمُوعَةُ مِنَ الْقَارِئِينَ، وَأَبَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فَقَالُوا لَيْسَتْ هِيَ الْمَسْمُوعَةُ مِنَ الْقَارِئِينَ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ بِالْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِهِ وَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ لَكِنَّهُ فِي الْأَزَلِ لَمْ يَتَكَلَّمْ لِامْتِنَاعِ وُجُودِ الْحَادِثِ فِي الْأَزَلِ، فَكَلَامُهُ حَادِثٌ فِي ذَاتِهِ لَا مُحْدَثٌ، وَذَهَبَ الْكَرَّامِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ حَادِثٌ فِي ذَاتِهِ وَمُحْدَثٌ، وَذَكَرَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى مُتَكَلِّمٌ بِكَلَامٍ يَقُومُ بِذَاتِهِ وَبِمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ هُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ نَقْلًا وَعَقْلًا، وَأَطَالَ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ، وَالْمَحْفُوظُ عَنْ جُمْهُورِ السَّلَفِ تَرْكُ الْخَوْضِ فِي ذَلِكَ وَالتَّعَمُّقِ فِيهِ وَالِاقْتِصَارُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ ثُمَّ السُّكُوتُ عَمَّا وَرَاءَ ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ حَيْثُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ (وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} زَعَمَ ابْنُ بَطَّالٍ أَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى سَبَبِ النُّزُولِ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا: شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ الْأَصْنَامُ نَزَلَتْ. فَأَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّ الَّذِينَ يَشْفَعُونَ عِنْدَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ إِنَّمَا يَشْفَعُونَ فِيمَنْ يَشْفَعُونَ فِيهِ بَعْدَ إِذْنِهِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ انْتَهَى.

وَلَمْ أَقِفْ عَلَى نَقْلٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِخُصُوصِهَا، وَأَظُنُّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ بِهَذَا إِلَى تَرْجِيحِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ عَنْ قُلُوبِهِمْ لِلْمَلَائِكَةِ وَإنَّ فَاعِلَ الشَّفَاعَةِ فِي قَوْلِهِ وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ هُمُ الْمَلَائِكَةُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَ وَصْفِ الْمَلَائِكَةِ {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} بِخِلَافِ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الضَّمِيرَ لِلْكُفَّارِ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ} كَمَا نَقَلَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، وَزَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّفْزِيعِ حَالَةُ مُفَارَقَةِ الْحَيَاةِ، وَيَكُونُ اتِّبَاعُهُمْ إِيَّاهُ مُسْتَصْحَبًا

ص: 455

إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ قُلِ ادْعُوا إِلَى آخِرِهِ مُعْتَرِضَةٌ، وَحَمَلَ هَذَا الْقَائِلُ عَلَى هَذَا الزَّعْمِ أَنَّ قَوْلَهُ {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} غَايَةٌ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُغَيَّا فَادَّعَى أَنَّهُ مَا ذَكَرَهُ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ: الْمُرَادُ بِالزَّعْمِ الْكُفْرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى زَعَمْتُمْ أَيْ تَمَادَيْتُمْ فِي الْكُفْرِ إِلَى غَايَةِ التَّفْزِيعِ، ثُمَّ تَرَكْتُمْ زَعْمَكُمْ وَقُلْتُمْ قَالَ الْحَقُّ وَفِيهِ الْتِفَاتٌ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ، وَيُفْهَمُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ أَنَّ هُنَاكَ فَزَعًا مِمَّنْ يَرْجُو الشَّفَاعَةَ هَلْ يُؤْذَنُ لَهُ بِالشَّفَاعَةِ أَوْ لَا؟ فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَتَرَبَّصُونَ زَمَانًا فَزِعِينَ حَتَّى إِذَا كُشِفَ الْفَزَعُ عَنِ الْجَمِيعِ بِكَلَامٍ يَقُولُ اللَّهُ فِي إِطْلَاقِ الْإِذْنِ تَبَاشَرُوا بِذَلِكَ، وَسَأَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ، أَيِ الْقَوْلُ الْحَقُّ وَهُوَ الْإِذْنُ فِي الشَّفَاعَةِ لِمَنِ ارْتَضَى.

قُلْتُ: وَجَمِيعُ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فالْأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ تُؤَيِّدُهُ قَدْ ذَكَرْتُ بَعْضَهَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ سَبَإٍ وَسَأُشِيرُ إِلَيْهَا هُنَا بَعْدُ، وَالصَّحِيحُ فِي إِعْرَابِهَا مَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَهُوَ أَنَّ الْمُغَيَّا مَحْذُوفٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَا هُمْ شُفَعَاءُ كَمَا تَزْعُمُونَ بَلْ هُمْ عِنْدَهُ مُمْتَثِلُونَ لِأَمْرِهِ إِلَى أَنْ يَزُولَ الْفَزَعُ عَنْ قُلُوبِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِهِمُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِلْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ فَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَأَمَّا اعْتِرَاضُ مَنْ تَعَقَّبَهُ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُنْقَادِينَ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ دَفْعُ مَا تَأَوَّلَهُ لَكِنَّ حَقَّ الْعِبَارَةِ أَنْ يَقُولَ: بَلْ هُمْ خَاضِعُونَ لِأَمْرِهِ مُرْتَقِبُونَ لِمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ قِبَلِهِ خَائِفُونَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ السَّاعَةِ إِلَى أَنْ يَكْشِفَ عَنْهُمْ ذَلِكَ بِإِخْبَارِ جِبْرِيلَ بِمَا أَمَرَ بِهِ مِنْ إِبْلَاغِ الْوَحْيِ لِلرُّسُلِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ سِتَّةَ أَحَادِيثَ.

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ (وَقَالَ مَسْرُوقٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ إِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ تبارك وتعالى بِالْوَحْيِ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَسَكَنَ الصَّوْتُ عَرَفُوا أَنَّهُ الْحَقُّ وَنَادَوْا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا الْحَقَّ) وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَثَبَتَ بِمُثَلَّثَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ مَفْتُوحَيْنِ بَدَلَ وَسَكَنَ هَكَذَا ذَكَرَ هَذَا التَّعْلِيقَ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ وَصَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ وَهُوَ أَبُو الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ وَلَفْظُهُ إِنَّ اللَّهَ عز وجل إِذَا تَكَلَّمَ بِالْوَحْيِ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاءِ لِلسَّمَاءِ صَلْصَلَةً كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفَاءِ فَيُصْعَقُونَ، فَلَا يَزَالُونَ كَذَلِكَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ جِبْرِيلُ، فَإِذَا جَاءَهُمْ جِبْرِيلُ فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالَ: وَيَقُولُونَ يَا جِبْرِيلُ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالَ فَيَقُولُ الْحَقَّ، قَالَ فَيُنَادُونَ الْحَقُّ الْحَقُّ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ شُرَيْحٍ الرَّازِيُّ، وَعَلِيُّ بْنُ إِشْكَابَ، وَعَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ مَرْفُوعًا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي السُّنَنِ عَنْهُمْ وَلَفْظُهُ مِثْلُهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فَيَقُولُونَ: مَاذَا قَالَ رَبُّكَ؟ قَالَ: وَرَوَاهُ شُعْبَةُ، عَنِ الْأَعْمَشِ مَوْقُوفًا وَجَاءَ عَنْهُ مَرْفُوعًا أَيْضًا.

قُلْتُ: وهَكَذَا رَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ مَرْفُوعًا، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي حَمْزَةَ السُّكَّرِيِّ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِهَذَا السَّنَدِ إِلَى مَسْرُوقٍ قَالَ: مَنْ كَانَ يُحَدِّثُنَا بِتَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ لَوْلَا ابْنُ مَسْعُودٍ سَأَلْنَاهُ عَنْهُ فَذَكَرَهُ مَوْقُوفًا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُورِ فِي الصَّحِيحِ، ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ بِهَذَا، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ إِشْكَابَ مَرْفُوعًا، وَقَالَ هَكَذَا حَدَّثَ بِهِ أَبُو مُعَاوِيَةَ مُسْنَدًا وَوَجَدْتُهُ بِالْكُوفَةِ مَوْقُوفًا، ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ وَشُعْبَةَ كِلَاهُمَا عَنِ الْأَعْمَشِ مَوْقُوفًا، وَمِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، وَالْأَعْمَشِ مَعًا وَمِنْ رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورٍ كَذَلِكَ، وَهَكَذَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ، وَجَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ مَوْقُوفًا، وَرَوَاهُ فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، وَرَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ النَّخَعِيُّ، عَنْ أَبِي الضُّحَى مَرْفُوعًا، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ كَذَلِكَ، وَأَغْفَلَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْفَضْلِ فِي الْجُزْءِ الَّذِي جَمَعَهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى أَحَادِيثِ الصَّوْتِ هَذِهِ الطُّرُقَ كُلَّهَا، وَاقْتَصَرَ عَلَى طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ فَنَقَلَ كَلَامَ مَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ،

ص: 456

وَأَسْنَدَ إِلَى أَنَّ الْجَرْحَ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّعْدِيلِ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ ثِقَةٌ مُخَرَّجٌ حَدِيثُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، عَنِ ابْنِ الْمُفَضَّلِ وَكَانَ شَيْخَ وَالِدِهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِيمَنْ خُرِّجَ لَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ: هَذَا جَازَ الْقَنْطَرَةَ، وَقَرَّرَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ ذَلِكَ بِأَنَّ مَنِ اتَّفَقَ الشَّيْخَانِ عَلَى التَّخْرِيجِ لَهُمْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُمْ بِالِاتِّفَاقِ بِطَرِيقِ الِاسْتِلْزَامِ لِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَصْحِيحِ مَا أَخْرَجَاهُ وَمِنْ لَازِمِهِ عَدَالَةُ رُوَاتِهِ إِلَى أَنْ تَتَبَيَّنَ الْعِلَّةُ الْقَادِحَةُ بِأَنْ تَكُونَ مُفَسِّرَةً وَلَا تَقْبَلَ التَّأْوِيلَ.

قَوْلُهُ: سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ: سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاءِ لِلسَّمَاءِ صَلْصَلَةً كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفَا وَلِبَعْضِهِمْ الصَّفْوَانِ بَدَلَ الصَّفَا، وَفِي رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ الْحَدِيدِ بَدَلَ السِّلْسِلَةِ وَفِي رِوَايَةِ شَيْبَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مَنْصُورٍ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِثْلَ صَوْتِ السِّلْسِلَةِ وَعِنْدَهُ مِنْ رِوَايَةِ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: سَمِعَ مَنْ دُونَهُ صَوْتًا كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ إِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْيِ أَخَذَتِ السَّمَاوَاتُ مِنْهُ رَجْفَةً أَوْ قَالَ رِعْدَةً شَدِيدَةً مِنْ خَوْفِ اللَّهِ، فَإِذَا سَمِعَ ذَلِكَ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ صُعِقُوا وَخَرُّوا لِلَّهِ سُجَّدًا وَكَذَا وَقَعَ قَوْلُهُ وَيَخِرُّونَ سُجَّدًا فِي رِوَايَةِ أَبِي مَالِكٍ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ وَابْنِ نُمَيْرٍ الْمُشَارِ إِلَيْهَا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ فَيَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْ أَمْرِ السَّاعَةِ فَيَفْزَعُونَ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ (وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ) بِنُونٍ مُهْمَلَةٍ مُصَغَّرٌ هُوَ الْجُهَنِيُّ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ وَأَنَّ الْحَدِيثَ الْمَوْقُوفَ هُنَاكَ طَرَفٌ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ الْحِكْمَةِ فِي إِيرَادِهِ هُنَاكَ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ وَهُنَا بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ، وَسَاقَ هُنَا مِنَ الْحَدِيثِ بَعْضَهُ وَأَخْرَجَهُ بِتَمَامِهِ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو يَعْلَى، وَالطَّبَرَانِيُّ كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْمَكِّيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ، وَأَوَّلُ الْمَتْنِ الْمَرْفُوعُ يَحْشُرُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - أَوْ قَالَ - الْعِبَادَ، عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا، قَالَ قُلْنَا: وَمَا بُهْمًا؟ قَالَ: لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنَادِيهِمْ فَذَكَرَهُ وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ الدَّيَّانُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ وَلَهُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَقٌّ حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَلِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ عِنْدَهُ حَقٌّ حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ حَتَّى اللَّطْمَةُ، قَالَ قُلْنَا: كَيْفَ؟ وَإِنَّا إِنَّمَا نَأْتِي عُرَاةً بُهْمًا، قَالَ الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ لَفْظُ أَحْمَدَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ هَمَّامٍ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ مُخْتَلَفٌ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ وَقَدْ أَشَرْتُ إِلَى ذِكْرِ مَنْ تَابَعَهُ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ، وَقَوْلُهُ غُرْلًا بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الرِّقَاقِ فِي شَرْحِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِيهِ حُفَاةً بَدَلَ قَوْلِهِ بُهْمًا وَهُوَ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْهَاءِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ الَّذِينَ لَا شَيْءَ مَعَهُمْ، وَقِيلَ الْمَجْهُولُونَ، وَقِيلَ الْمُتَشَابِهُو الْأَلْوَانِ، وَالْأَوَّلُ الْمُوَافِقُ لِمَا هُنَا.

قَوْلُهُ: فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ) حَمَلَهُ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ عَلَى مَجَازِ الْحَذْفِ أَيْ يَأْمُرُ مَنْ يُنَادِي وَاسْتَبْعَدَهُ بَعْضُ مَنْ أَثْبَتَ الصَّوْتَ بِأَنَّ فِي قَوْلِهِ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُ هَذَا فِيهِمْ وَبِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ إِذَا سَمِعُوهُ صُعِقُوا كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَإِذَا سَمِعَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لَمْ يُصْعَقُوا، قَالَ: فَعَلَى هَذَا فَصِفَاتُهُ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ لَا تُشْبِهُ صَوْتَ غَيْرِهِ إِذْ لَيْسَ يُوجَدُ شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِهِ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، هَكَذَا قَرَّرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: مَعْنَى يُنَادِيهِمْ يَقُولُ، وَقَوْلُهُ بِصَوْتٍ أَيْ مَخْلُوقٍ غَيْرِ قَائِمٍ بِذَاتِهِ، وَالْحِكْمَةُ فِي كَوْنِهِ خَارِقًا لِعَادَةِ الْأَصْوَاتِ الْمَخْلُوقَةِ الْمُعْتَادَةِ الَّتِي يَظْهَرُ التَّفَاوُتُ فِي سَمَاعِهَا بَيْنَ الْبَعِيدِ وَالْقَرِيبِ هِيَ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْمَسْمُوعَ كَلَامُ اللَّهِ كَمَا أَنَّ مُوسَى لَمَّا كَلَّمَهُ اللَّهُ كَانَ يَسْمَعُهُ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: الْكَلَامُ مَا يَنْطِقُ بِهِ الْمُتَكَلِّمُ وَهُوَ مُسْتَقِرٌّ فِي نَفْسِهِ كَمَا جَاءَ

ص: 457

فِي حَدِيثِ عُمَرَ يَعْنِي فِي قِصَّةِ السَّقِيفَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ سِيَاقُهُ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ، وَفِيهِ: وَكُنْتُ زَوَّرْتُ فِي نَفْسِي مَقَالَةً، وَفِي رِوَايَةِ: هَيَّأْتُ فِي نَفْسِي كَلَامًا، قَالَ: فَسَمَّاهُ كَلَامًا قَبْلَ التَّكَلُّمِ بِهِ، قَالَ: فَإِنْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ ذَا مَخَارِجَ سُمِعَ كَلَامُهُ ذَا حُرُوفٍ وَأَصْوَاتٍ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذِي مَخَارِجَ فَهُوَ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَالْبَارِي عز وجل لَيْسَ بِذِي مَخَارِجَ، فَلَا يَكُونُ كَلَامُهُ بِحُرُوفٍ وَأَصْوَاتٍ، فَإِذَا فَهِمَهُ السَّامِعُ تَلَاهُ بِحُرُوفٍ وَأَصْوَاتٍ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ جَابِرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ وَقَالَ: اخْتَلَفَ الْحُفَّاظُ فِي الِاحْتِجَاجِ بِرِوَايَاتِ ابْنِ عَقِيلٍ لِسُوءِ حِفْظِهِ وَلَمْ يَثْبُتْ لَفْظُ الصَّوْتِ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَيْرِ حَدِيثِهِ، فَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى غَيْرِهِ، كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ يَعْنِي الَّذِي قَبْلَهُ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَعْنِي الَّذِي بَعْدَهُ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَسْمَعُونَ عِنْدَ حُصُولِ الْوَحْيِ صَوْتًا فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الصَّوْتُ لِلسَّمَاءِ أَوْ لِلْمَلَكِ الْآتِي بِالْوَحْيِ أَوْ لِأَجْنِحَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَإِذَا احْتَمَلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ نَصًّا فِي الْمَسْأَلَةِ، وَأَشَارَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الرَّاوِيَ أَرَادَ فَيُنَادِي نِدَاءً فَعَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ بِصَوْتٍ انْتَهَى.

وَهَذَا حَاصِلُ كَلَامِ مَنْ يَنْفِي الصَّوْتَ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُسْمِعْ أَحَدًا مِنْ مَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ كَلَامَهُ بَلْ أَلْهَمَهُمْ إِيَّاهُ، وَحَاصِلُ الِاحْتِجَاجِ لِلنَّفْيِ الرُّجُوعُ إِلَى الْقِيَاسِ عَلَى أَصْوَاتِ الْمَخْلُوقِينَ؛ لِأَنَّهَا الَّتِي عُهِدَ أَنَّهَا ذَاتُ مَخَارِجَ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ إِذِ الصَّوْتُ قَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ مَخَارِجَ كَمَا أَنَّ الرُّؤْيَةَ قَدْ تَكُونُ مِنْ غَيْرِ اتِّصَالِ أَشِعَّةٍ كَمَا سَبَقَ سَلَّمْنَا، لَكِنْ تَمْنَعُ الْقِيَاسَ الْمَذْكُورَ، وَصِفَاتُ الْخَالِقِ لَا تُقَاسُ عَلَى صِفَةِ الْمَخْلُوقِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذِكْرُ الصَّوْتِ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ ثَمَّ، إِمَّا التَّفْوِيضُ وَإِمَّا التَّأْوِيلُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

قَوْلُهُ: (الدَّيَّانُ) قَالَ الْحَلِيمِيُّ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ مَلِك يَوْمِ الدِّينِ، وَهُوَ الْمُحَاسِبُ الْمُجَازِي لَا يُضَيِّعُ عَمَلَ عَامِلٍ انْتَهَى. وَوَقَعَ فِي مُرْسَلِ أَبِي قِلَابَةَ الْبِرُّ لَا يَبْلَى وَالْإِثْمُ لَا يُنْسَى وَالدَّيَّانُ لَا يَمُوتُ وَكُنْ كَمَا شِئْتَ كَمَا تَدِينُ تُدَانُ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الزُّهْدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْمَعْنَى لَا مَلِكَ إِلَّا أَنَا وَلَا مُجَازِي إِلَّا أَنَا، وَهُوَ مِنْ حَصْرِ الْمُبْتَدَأِ فِي الْخَبَرِ وَفِي هَذَا اللَّفْظِ إِشَارَةٌ إِلَى صِفَةِ الْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الصِّفَاتِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ قَالَ الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ يَعْنِي أَنَّ الْقِصَاصَ بَيْنَ الْمُتَظَالِمِينَ إِنَّمَا يَقَعُ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي الرِّقَاقِ، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا قِبَلَ أَخِيهِ مَظْلِمَةٌ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ الْمَدِينِيُّ وَسُفْيَانُ هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَقَدْ تَقَدَّمَ بِهَذَا السَّنَدِ وَالْمَتْنِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْحِجْرِ وَسِيَاقُهُ هُنَاكَ أَتَمُّ، وَتَقَدَّمَ مُعْظَمُ شَرْحِهِ هُنَاكَ.

قَوْلُهُ (يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ سَبَأٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ.

قَوْلُهُ: إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ) وَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا إِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْيِ وَكَذَا فِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ.

قَوْلُهُ (ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا) فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاءِ الصَّلْصَلَةَ.

قَوْلُهُ: (خُضْعَانًا) مَصْدَرٌ كَقَوْلِهِ غُفْرَانًا، قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ جَمْعُ خَاضِعٍ.

قَوْلُهُ (قَالَ عَلِيٌّ) هُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ (وَقَالَ غَيْرُهُ صَفَوَانٍ يَنْفُذُهُمْ) قَالَ عِيَاضٌ: ضَبَطُوهُ بِفَتْحِ الْفَاءِ مِنْ صَفَوَانٍ، وَلَيْسَ لَهُ مَعْنًى وَإِنَّمَا أَرَادَ لِغَيْرِ الْمُبْهَمِ، قَوْلُهُ يَنْفُذُهُمْ وَهُوَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ الْفَاءِ أَيْ يَعُمُّهُمْ. قُلْتُ: وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ وَلَكِنْ لَا يُفَسَّرُ بِهِ الْغَيْرُ الْمَذْكُورُ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَيْرُ سُفْيَانَ، وَذَكَرَهُ الْكِرْمَانِيُّ بِلَفْظِ صَفْوَانٍ يَنْفُذُ فِيهِمْ ذَلِكَ بِزِيَادَةِ لَفْظِ الْإِنْفَاذِ أَيْ يَنْفُذُ اللَّهُ ذَلِكَ الْقَوْلَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ، أَوْ مِنَ النُّفُوذِ أَيْ يَنْفُذُ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ أَوْ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ غَيْرُ سُفْيَانَ، قَالَ: إِنَّ صَفَوَانٍ بِفَتْحِ

ص: 458

الْفَاءِ فَالِاخْتِلَافُ فِي الْفَتْحِ وَالسُّكُونِ، وَيَنْفُذُهُمْ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْغَيْرِ بَلْ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ سُفْيَانَ وَغَيْرِهِ انْتَهَى. وَسِيَاقُ عَلِيٍّ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ يُخَالِفُ هَذَا الِاحْتِمَالَ لَكِنْ قَدْ وَقَعَتْ زِيَادَةُ يَنْفُذُهُمْ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا وَهِيَ عَنْ سُفْيَانَ فَيَقْوَى مَا قَالَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ عَلِيٌّ وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ - إِلَى قَوْلِهِ - قَالَ نَعَمْ) عَلِيٌّ هُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ الْمَذْكُورُ، وَمُرَادُهُ أَنَّ ابْنَ عُيَيْنَةَ كَانَ يَسُوقُ السَّنَدَ مَرَّةً بِالْعَنْعَنَةِ وَمَرَّةً بِالتَّحْدِيثِ وَالسَّمَاعِ فَاسْتَثْبَتَهُ عَلِيٌّ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ نَعَمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَذْكُورِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْحِجْرِ بِصِيغَةِ التَّصْرِيحِ فِي جَمِيعِ السَّنَدِ، وَكَذَا عَنِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ فِي تَفْسِيرِ سَبَأ.

قَوْلُهُ: قَالَ عَلِيٌّ) هُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ أَيْضًا.

قَوْلُهُ (إِنَّ إِنْسَانًا رَوَى عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ - إِلَى أَنْ قَالَ - أَنَّهُ فَرَغَ) هُوَ بِالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَزْنُ الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ سَبَأ مَنْ قَرَأَهَا كَذَلِكَ، وَوَقَعَ لِلْأَكْثَرِ هُنَا كَالْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ وَالسِّيَاقُ يُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ، وَقَوْلُهُ قَالَ سُفْيَانُ هَكَذَا قَرَأَ عَمْرٌو يَعْنِي ابْنُ دِينَارٍ.

قَوْلُهُ (فَلَا أَدْرِي سَمِعَهُ هَكَذَا أَمْ لَا) أَيْ سَمِعَهُ مِنْ عِكْرِمَةَ أَوْ قَرَأَهَا كَذَلِكَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا قِرَاءَتُهُ. وَقَوْلُ سُفْيَانَ: وَهِيَ قِرَاءَتُنَا يُرِيدُ نَفْسَهُ وَمَنْ تَابَعَهُ.

(تَنْبِيهٌ):

وَقَعَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْحِجْرِ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ هُنَا بَعْدَ قَوْلِهِ {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} فَسَمِعَهَا مُسْتَرِقُو السَّمْعِ هَكَذَا إِلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ التَّفْزِيعَ الْمَذْكُورَ يَقَعُ لِلْمَلَائِكَةِ وَأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قُلُوبِهِمْ لِلْمَلَائِكَةِ لَا لِلْكُفَّارِ بِخِلَافِ مَا جَزَمَ بِهِ مَنْ قَدَّمْتُ ذِكْرَهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ مَا نَصُّهُ أَخَذَتْ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ مِنْهُ رِعْدَةً خَوْفًا مِنَ اللَّهِ وَخَرُّوا سُجَّدًا، فَيَكُونُ أَوَّلُ مَنْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ جِبْرِيلُ فَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ بِمَا أَرَادَ فَيَمْضِي بِهِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ مِنْ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَابْنِ مَرْدَوَيْهِ كَمَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفْوَانِ فَلَا يَنْزِلُ عَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ إِلَّا صُعِقُوا {إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ ثُمَّ يَقُولُ: يَكُونُ الْعَامُ كَذَا فَيَسْمَعُهُ الْجِنُّ، وَعِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ لَمَّا نَزَلَ جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ فَزِعَ أَهْلُ السَّمَاءِ لِانْحِطَاطِهِ، وَسَمِعُوا صَوْتَ الْوَحْيِ كَأَشَدِّ مَا يَكُونُ مِنْ صَوْتِ الْحَدِيدِ عَلَى الصَّفَا فَيَقُولُونَ: يَا جِبْرِيلُ، بِمَ أُمِرْتَ الْحَدِيثَ.

وَعِنْدَهُ وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمْ تَكُنْ قَبِيلَةٌ مِنَ الْجِنِّ إِلَّا وَلَهُمْ مَقَاعِدُ لِلسَّمْعِ، فَكَانَ إِذَا نَزَلَ الْوَحْيُ سَمِعَ الْمَلَائِكَةُ صَوْتًا كَصَوْتِ الْحَدِيدَةِ أَلْقَيْتَهَا عَلَى الصَّفَا فَإِذَا سَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ ذَلِكَ خَرُّوا سُجَّدًا، فَلَمْ يَرْفَعُوا حَتَّى يَنْزِلَ فَإِذَا نَزَلَ قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَكُونُ فِي السَّمَاءِ قَالُوا الْحَقُّ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَكُونُ فِي الْأَرْضِ مِنْ غَيْثٍ أَوْ مَوْتٍ تَكَلَّمُوا فِيهِ فَسَمِعَتِ الشَّيَاطِينُ فَيَنْزِلُونَ عَلَى أَوْلِيَائِهِمْ مِنَ الْإِنْسِ، وَفِي لَفْظٍ فَيَقُولُونَ يَكُونُ الْعَامُ كَذَا فَيَسْمَعُهُ الْجِنُّ فَتُحَدِّثُهُ الْكَهَنَةُ، وَفِي لَفْظٍ يَنْزِلُ الْأَمْرُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا لَهُ وَقْعَةٌ كَوَقْعِ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّخْرَةِ فَيَفْزَعُ لَهُ جَمِيعُ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ الْحَدِيثَ، فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ ظَاهِرَةٌ جِدًّا فِي أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ فِي الدُّنْيَا بِخِلَافِ قَوْلِ مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ أَقْدَمُوا عَلَى الْجَزْمِ بِأَنَّ الضَّمِيرَ لِلْكُفَّارِ وَأَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُخَالِفِينَ لِمَا صَحَّ مِنَ الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ مِنْ أَجْلِ خَفَاءِ مَعْنَى الْغَايَةِ فِي قَوْلِهِ {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} وَفِي الْحَدِيثِ إِثْبَاتُ الشَّفَاعَةِ وَأَنْكَرَهَا الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ، وَهِيَ أَنْوَاعٌ أَثْبَتَهَا أَهْلُ السُّنَّةِ، مِنْهَا: الْخَلَاصُ مِنْ هَوْلِ الْمَوْقِفِ وَهِيَ خَاصَّةٌ بِمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ وَاضِحًا فِي الرِّقَاقِ، وَهَذِهِ لَا يُنْكِرُهَا أَحَدٌ مِنْ فِرَقِ الْأُمَّةِ، وَمِنْهَا الشَّفَاعَةُ فِي قَوْمٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَخَصَّ

هَذِهِ الْمُعْتَزِلَةُ بِمَنْ لَا تَبِعَةَ عَلَيْهِ، وَمِنْهَا الشَّفَاعَةُ فِي رَفْعِ الدَّرَجَاتِ، وَلَا خِلَافَ فِي وُقُوعِهَا، وَمِنْهَا الشَّفَاعَةُ فِي إِخْرَاجِ قَوْمٍ مِنَ النَّارِ عُصَاةٍ أُدْخِلُوهَا بِذُنُوبِهِمْ وَهَذِهِ الَّتِي أَنْكَرُوهَا، وَقَدْ ثَبَتَتْ بِهَا الْأَخْبَارُ

ص: 459

الْكَثِيرَةُ، وَأَطْبَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى قَبُولِهَا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي التَّغَنِّي بِالْقُرْآنِ، وَقَدْ مَضَى شَرْحُهُ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: وَقَالَ صَاحِبٌ لَهُ يَجْهَرُ بِهِ، فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: يَجْهَرُ بِالْقُرْآنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ هُنَاكَ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُدْرَجًا، وَأَشَارَ بِإِيرَادِهِ هُنَا إِلَى حَدِيثِ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ الَّذِي أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ مَيْسَرَةَ مَوْلَى فَضَالَةَ عَنْ فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَلَّهُ عز وجل أَشَدُّ أَذَنًا إِلَى الرَّجُلِ الْحَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ مِنْ صَاحِبِ الْقَيْنَةِ إِلَى قَيْنَتِهِ. وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ عَنْ مَيْسَرَةَ، وَقَوْلُهُ أَذَنًا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمُعْجَمَةِ أَيِ اسْتِمَاعًا.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فِي بَعْثِ النَّارِ ذَكَرَهُ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ مَضَى شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي أَوَاخِرِ الرِّقَاقِ، وَقَوْلُهُ يَقُولُ اللَّهُ يَا آدَمُ فِي رِوَايَةِ التَّفْسِيرِ يَقُولُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا آدَمُ.

قَوْلُهُ (فَيُنَادى بِصَوْتٍ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إِلَى النَّارِ) هَذَا آخِرُ مَا أَوْرَدَ مِنْهُ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ بِتَمَامِهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْحَجِّ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ هُنَا وَوَقَعَ فَيُنَادِي مَضْبُوطًا لِلْأَكْثَرِ بِكَسْرِ الدَّالِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ بِفَتْحِهَا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ وَلَا مَحْذُورَ فِي رِوَايَةِ الْجُمْهُورِ، فَإِنَّ قَرِينَةَ قَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ تَدُلُّ ظَاهِرًا عَلَى أَنَّ الْمُنَادِي مَلَكٌ يَأْمُرُهُ اللَّهُ بِأَنْ يُنَادِي بِذَلِكَ، وَقَدْ طَعَنَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْفَضْلِ فِي صِحَّةِ هَذِهِ الطَّرِيقِ، وَذَكَرَ كَلَامَهُمْ فِي حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، وَأَنَّهُ انْفَرَدَ بِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْأَعْمَشِ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ فَقَدْ وَافَقَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ أَخْرَجَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ لَهُ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الْمُحَارِبِيِّ، وَاسْتَدَلَّ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ كَيْفَ شَاءَ، وَأَنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ مُؤَلَّفَةٌ حَرْفًا حَرْفًا فِيهَا التَّطْرِيبُ - بِالْهَمْزِ - وَالتَّرْجِيعُ، بِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ يَعْلَى بْنِ مَمْلَكٍ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَاللَّامِ بَيْنَهُمَا مِيمٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ كَافٌ، أَنَّهُ سَأَلَ أُمَّ سَلَمَةَ عَنْ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَصَلَاتِهِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ وَنَعَتَتْ قِرَاءَتَهُ فَإِذَا قِرَاءَتُهُ حَرْفًا حَرْفًا، وَهَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْكَلَامِ فِي أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ هَلْ هُوَ بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ أَوْ لَا، فَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَا يَكُونُ الْكَلَامُ إِلَّا بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ وَالْكَلَامُ الْمَنْسُوبُ إِلَى اللَّهِ

قَائِمٌ بِالشَّجَرَةِ، وَقَالَتِ الْأَشَاعِرَةُ: كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلَا صَوْتٍ وَأَثْبَتَتِ الْكَلَامَ النَّفْسِيَّ، وَحَقِيقَتُهُ مَعْنًى قَائِمٌ بِالنَّفْسِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ عَنْهُ الْعِبَارَةُ كَالْعَرَبِيَّةِ وَالْعَجَمِيَّةِ، وَاخْتِلَافُهَا لَا يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ، وَالْكَلَامُ النَّفْسِيُّ هُوَ ذَلِكَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ، وَأَثْبَتَتِ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ اللَّهَ مُتَكَلِّمٌ بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ، أَمَّا الْحُرُوفُ فَلِلتَّصْرِيحِ بِهَا فِي ظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَأَمَّا الصَّوْتُ فَمَنْ مَنَعَ قَالَ: إِنَّ الصَّوْتَ هُوَ الْهَوَاءُ الْمُنْقَطِعُ الْمَسْمُوعُ مِنَ الْحَنْجَرَةِ، وَأَجَابَ مَنْ أَثْبَتَهُ بِأَنَّ الصَّوْتَ الْمَوْصُوفَ بِذَلِكَ هُوَ الْمَعْهُودُ مِنَ الْآدَمِيِّينَ كَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ، وَصِفَاتُ الرَّبِّ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُ الْمَحْذُورُ الْمَذْكُورُ مَعَ اعْتِقَادِ التَّنْزِيهِ وَعَدَمِ التَّشْبِيهِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ الْحَنْجَرَةِ فَلَا يَلْزَمُ التَّشْبِيهَ، وَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ: سَأَلْتُ أَبِي عَنْ قَوْمٍ يَقُولُونَ: لَمَّا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى لَمْ يَتَكَلَّمْ بِصَوْتٍ، فَقَالَ لِي أَبِي: بَلْ تَكَلَّمَ بِصَوْتٍ، هَذِهِ الْأَحَادِيثُ تُرْوَى كَمَا جَاءَتْ، وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ.

الْحَدِيثُ السَّادِسُ: حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي فَضْلِ خَدِيجَةَ، وَفِيهِ وَلَقَدْ أَمَرَهُ اللَّهُ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ وَلَقَدْ أَمَرَهُ رَبُّهُ.

قَوْلُهُ (بِبَيْتٍ مِنَ الْجَنَّةِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ وَقَدْ مَضَى شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي الْمَنَاقِبِ.

‌33 - بَاب كَلَامِ الرَّبِّ مَعَ جِبْرِيلَ وَنِدَاءِ اللَّهِ الْمَلَائِكَةَ. وَقَالَ مَعْمَرٌ: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ} - أَيْ يُلْقَى

ص: 460

عَلَيْكَ، وَتَلَقَّاهُ أَنْتَ - أَيْ وتَأْخُذُهُ عَنْهُمْ - وَمِثْلُهُ، {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ}

7485 -

حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ - هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ -، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي جِبْرِيلُ فِي السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ وَيُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ.

7486 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ وَصَلَاةِ الْفَجْرِ ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي فَيَقُولُونَ تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ

7487 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ وَاصِلٍ عَنْ الْمَعْرُورِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَتَانِي جِبْرِيلُ فَبَشَّرَنِي أَنَّهُ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ قُلْتُ وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى قَالَ وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى

قَوْلُهُ (بَابُ كَلَامِ الرَّبِّ تَعَالَى مَعَ جِبْرِيلَ وَنِدَاءِ اللَّهِ الْمَلَائِكَةَ) ذَكَرَ فِيهِ أَثَرًا وَثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ، وَفِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ: نِدَاءُ اللَّهِ جِبْرِيلَ، وَفِي الثَّانِي: سُؤَالُ اللَّهِ الْمَلَائِكَةَ عَلَى عَكْسِ مَا وَقَعَ فِي التَّرْجَمَةِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ. وَذَكَرَ فِي الْأَدَبِ أَنَّ أَحْمَدَ أَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ بِلَفْظِ حَتَّى يَقُولَ يَا جِبْرِيلُ إِنَّ عَبْدِي فُلَانًا يَلْتَمِسُ أَنْ يُرْضِيَنِي الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ (وَقَالَ مَعْمَرٌ: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ} - أَيْ يُلْقَى عَلَيْكَ - وَتَلَقَّاهُ أَنْتَ - أَيْ تَأْخُذُهُ عَنْهُمْ - وَمِثْلُهُ {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} مَعْمَرٌ هَذَا قَدْ يَتَبَادَرُ أَنَّهُ ابْنُ رَاشِدٍ شَيْخُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى اللُّغَوِيُّ، قَالَ أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ: وَجَدْتُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْمَجَازِ لَهُ فَقَالَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النَّمْلِ فِي قَوْلِهِ عز وجل: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ} أَيْ تَأْخُذُهُ عَنْهُمْ وَيُلْقَى عَلَيْكَ، وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} أَيْ قَبِلَهَا وَأَخَذَهَا عَنْهُ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَتَلَا عَلَيْنَا أَبُو مَهْدِيٍّ آيَةً فَقَالَ: تَلَقَّيْتُهَا مِنْ عَمِّي تَلَقَّاهَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ تَلَقَّاهَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ} أَيْ لَا يُوَفَّقُ لَهَا وَلَا يُلَقَّنُهَا وَلَا يُرْزَقُهَا، وَحَاصِلُهُ أَنَّهَا تَأْتِي بِالْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ وَأَنَّهَا هُنَا صَالِحَةٌ لِكُلٍّ مِنْهَا وَأَصْلُهُ اللِّقَاءُ وَهُوَ اسْتِقْبَالُ الشَّيْءِ وَمُصَادَفَتُهُ.

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ) هُوَ ابْنُ مَنْصُورٍ وَتَرَدَّدَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَإِنَّمَا جَزَمْتُ بِهِ لِقَوْلِهِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ فَإِنَّ إِسْحَاقَ لَا يَقُولُ إِلَّا أَخْبَرَنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي مِنْ بَابِ مَا يُكْرَهُ مِنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ نَحْوُ هَذَا وَعَبْدُ الصَّمَدِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ،

ص: 461

وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي هَذَا السَّنَدِ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ حَدِيثٌ آخَرُ وَقَدْ جَزَمَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ بِأَنَّ إِسْحَاقَ الْمَذْكُورَ فِيهِ هُوَ ابْنُ مَنْصُورٍ، وَتَكَلَّمْتُ عَلَى سَنَدِهِ هُنَاكَ وَهُوَ فِي بَابِ الْمَاءِ الَّذِي يُغْسَلُ بِهِ شَعْرُ الْإِنْسَانِ.

قَوْلُهُ (إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلَانًا) كَذَا هُنَا بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي، وَفِي رِوَايَةِ نَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَاضِيَةِ فِي الْأَدَبِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا بِصِيغَةِ الْمُضَارَعَةِ، وَفِي الْأَوَّلُ إِشَارَةٌ إِلَى سَبْقِ الْمَحَبَّةِ عَلَى النِّدَاءِ، وَفِي الثَّانِي إِشَارَةٌ إِلَى اسْتِمْرَارِ ذَلِكَ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُهُ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي جَمْرَةَ: فِي تَعْبِيرِهِ عَنْ كَثْرَةِ الْإِحْسَانِ بِالْحُبِّ تَأْنِيسُ الْعِبَادِ وَإِدْخَالُ الْمَسَرَّةِ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا سَمِعَ عَنْ مَوْلَاهُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ حَصَلَ عَلَى أَعْلَى السُّرُورِ عِنْدَهُ وَتَحَقَّقَ بِكُلِّ خَيْرٍ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا إِنَّمَا يَتَأَتَّى لِمَنْ فِي طَبْعِهِ فُتُوَّةٌ وَمُرُوءَةٌ وَحُسْنُ إِنَابَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلا مَنْ يُنِيبُ} وَأَمَّا مَنْ فِي نَفْسِهِ رُعُونَةٌ وَلَهُ شَهْوَةٌ غَالِبَةٌ فَلَا يَرُدُّهُ إِلَّا الزَّجْرُ بِالتَّعْنِيفِ وَالضَّرْبِ، قَالَ: وَفِي تَقْدِيمِ الْأَمْرِ بِذَلِكَ لِجِبْرِيلَ قَبْلَ غَيْرِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِظْهَارٌ لِرَفِيعِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى غَيْرِهِ مِنْهُمْ، قَالَ: وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى تَوْفِيَةِ أَعْمَالِ الْبِرِّ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا فَرْضِهَا وَسُنَّتِهَا، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَيْضًا كَثْرَةُ التَّحْذِيرِ عَنِ الْمَعَاصِي وَالْبِدَعِ؛ لِأَنَّهَا مَظِنَّةُ السَّخَطِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ قَوْلُهُ فِيهِ: فَيَسْأَلُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ أَيْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَلَيْسَ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ الْمَذْكُورَةِ هُنَا التَّصْرِيحُ بِتَسْمِيَةِ الَّذِي يَسْأَلُ، وَوَقَعَ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ فِي الصَّلَاةِ بِلَفْظِ فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهِيَ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ أَيْضًا، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ جُمْهُورِ رُوَاةِ مَالِكٍ حَذْفُهَا، وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَقَدْ ذَكَرْتُ لَفْظَهُ هُنَاكَ، وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْعُرُوجِ فِي بَابِ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ قَرِيبًا.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ وَاصِلٍ) هُوَ الْمَعْرُوفُ بِالْأَحْدَبِ، وَالْمَعْرُورِ بِمُهْمَلَاتٍ. قَوْلُهُ (أَتَانِي جِبْرِيلُ فَبَشَّرَنِي) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ تَقَدَّمَ بِتَمَامِهِ مَشْرُوحًا فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ.

قَوْلُهُ: (وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: وَإِنْ سَرَقَ وَزَنَى فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَفِي مُنَاسَبَتِهِ لِلتَّرْجَمَةِ غُمُوضٌ، وَكَأَنَّهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ جِبْرِيلَ إِنَّمَا يُبَشِّرُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِأَمْرٍ يَتَلَقَّاهُ عَنْ رَبِّهِ عز وجل، فَكَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ لَهُ: بَشِّرْ مُحَمَّدًا بِأَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِهِ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ فَبَشَّرَهُ بِذَلِكَ.

‌34 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: {يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} بَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَالْأَرْضِ السَّابِعَةِ

7488 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ، عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا فُلَانُ، إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَقُلْ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ، وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا إِلَّا إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، فَإِنَّكَ إِنْ مُتَّ فِي لَيْلَتِكَ مُتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَإِنْ أَصْبَحْتَ أَصَبْتَ أَجْرًا.

7489 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى

ص: 462

قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْأَحْزَابِ: اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، سَرِيعَ الْحِسَابِ، اهْزِمْ الْأَحْزَابَ وَزَلْزِلْهِمْ.

زَادَ الْحُمَيْدِيُّ: ابْنُ أَبِي خَالِدٍ، سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم.

7490 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما:{وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} قَالَ: أُنْزِلَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُتَوَارٍ بِمَكَّةَ، فَكَانَ إِذَا رَفَعَ صَوْتَهُ سَمِعَ الْمُشْرِكُونَ فَسَبُّوا الْقُرْآنَ وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا * وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} حَتَّى يَسْمَعَ الْمُشْرِكُونَ، {وَلا تُخَافِتْ بِهَا} عَنْ أَصْحَابِكَ فَلَا تُسْمِعُهُمْ. {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا} أَسْمِعْهُمْ وَلَا تَجْهَرْ حَتَّى يَأْخُذُوا عَنْكَ الْقُرْآنَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ} كَذَا لِلْجَمِيعِ وَنُقِلَ فِي تَفْسِيرِ الطَّبَرِيِّ أَنْزَلَهُ إِلَيْكَ بِعِلْمٍ مِنْهُ أَنَّكَ خِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْمُرَادُ بِالْإِنْزَالِ إِفْهَامُ الْعِبَادِ مَعَانِي الْفُرُوضِ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ وَلَيْسَ إِنْزَالُهُ لَهُ كَإِنْزَالِ الْأَجْسَامِ الْمَخْلُوقَةِ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا مَخْلُوقٍ انْتَهَى. وَالْكَلَامُ الثَّانِي مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ سَلَفًا وَخَلَفًا، وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، وَالْمَنْقُولُ عَنِ السَّلَفِ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، تَلَقَّاهُ جِبْرِيلُ عَنِ اللَّهِ وَبَلَّغَهُ جِبْرِيلُ إِلَى مُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام وَبَلَّغَهُ صلى الله عليه وسلم إِلَى أُمَّتِهِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ مُجَاهِدٌ: يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ: بَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَالْأَرْضِ السَّابِعَةِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ السَّرَخْسِيِّ مِنْ بَدَلَ بَيْنَ وَقَدْ وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِ مِنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ إِلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْكَعْبَةُ بَيْنَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ بَيْتًا مِنَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعِ، وَعَنْ قَتَادَةَ نَحْوُ ذَلِكَ ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ.

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: حَدِيثُ الْبَرَاءِ فِي الْقَوْلِ عِنْدَ النَّوْمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْأَدْعِيَةِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ قَوْلُهُ فِيهِ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا اللَّهُمَّ مُنْزِلُ الْكِتَابَ وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ وَزَلْزِلْهُمْ فِي رِوَايَةِ السَّرَخْسِيِّ وَزَلْزِلْ بِهِمْ.

قَوْلُهُ (زَادَ الْحُمَيْدِيُّ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ إِلَى آخِرِ السَّنَدِ) مُرَادُهُ بِالزِّيَادَةِ التَّصْرِيحُ الْوَاقِعُ فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ، لِسُفْيَانَ، وَإِسْمَاعِيلَ، وَعَبْدَ اللَّهِ، بِخِلَافِ رِوَايَةِ قُتَيْبَةَ فَإِنَّهَا بِالْعَنْعَنَةِ فِي الثَّلَاثَةِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ هَكَذَا، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِهِ، وَقَالَ: أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ قُتَيْبَةَ، وَالْحُمَيْدِيِّ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي سِيَاقِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} أُنْزِلَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُتَوَارٍ بِمَكَّةَ الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي آخِرِ تَفْسِيرِ سُورَةِ سُبْحَانَ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ أُنْزِلَتْ وَالْآيَاتُ الْمُصَرِّحَةُ بِلَفْظِ الْإِنْزَالِ وَالتَّنْزِيلِ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ، قَالَ الرَّاغِبُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِنْزَالِ وَالتَّنْزِيلِ فِي وَصْفِ الْقُرْآنِ وَالْمَلَائِكَةِ أَنَّ التَّنْزِيلَ يَخْتَصُّ بِالْمَوْضِعِ الَّذِي يُشِيرُ إِلَى إِنْزَالِهِ مُتَفَرِّقًا وَمَرَّةَ بَعْدَ أُخْرَى، وَالْإِنْزَالُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} قَالَ الرَّاغِبُ: عَبَّرَ بِالْإِنْزَالِ دُونَ التَّنْزِيلِ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ دَفْعَةً وَاحِدَةً إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {حم * وَالْكِتَابِ

ص: 463

الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلا} وَيُؤَيِّدُ التَّفْصِيلَ قَوْلُهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ الْأَوَّلِ الْقُرْآنُ وَبِالثَّانِي مَا عَدَاهُ، وَالْقُرْآنُ نَزَلَ نُجُومًا إِلَى الْأَرْضِ بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ، وَيَرِدُ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ أَطْلَقَ نُزِّلَ مَوْضِعَ أَنْزَلَ، قَالَ: وَلَوْلَا هَذَا التَّأْوِيلِ لَكَانَ مُتَدَافِعًا لِقَوْلِهِ جُمْلَةً

وَاحِدَةً، وَهَذَا بَنَاهُ هَذَا الْقَائِلُ عَلَى أَنَّ نُزِّلَ بِالتَّشْدِيدِ يَقْتَضِي التَّفْرِيقَ فَاحْتَاجَ إِلَى ادِّعَاءِ مَا ذَكَرَ، وَإِلَّا فَقَدْ قَالَ غَيْرُهُ: إِنَّ التضَّعِيفَ لَا يَسْتَلْزِمُ حَقِيقَةَ التَّكْثِيرِ بَلْ يَرِدُ لِلتَّعْظِيمِ، وَهُوَ فِي حُكْمِ التَّكْثِيرِ مَعْنًى فَبِهَذَا يُدْفَعُ الْإِشْكَالُ.

‌35 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} ، {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} حَقٌّ، {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} بِاللَّعِبِ.

7491 -

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي الْأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ.

7492 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ عز وجل: الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَأَكْلَهُ وَشُرْبَهُ مِنْ أَجْلِي، وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ حِينَ يُفْطِرُ، وَفَرْحَةٌ حِينَ يَلْقَى رَبَّهُ، وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ.

7493 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: بَيْنَمَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا حرَّ عَلَيْهِ رِجْلُ جَرَادٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ يَحْثِي فِي ثَوْبِهِ، فَنَادَاه رَبُّهُ، يَا أَيُّوبُ، أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، وَلَكِنْ لَا غِنَى بِي عَنْ بَرَكَتِكَ. الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا فِي اغْتِسَالِ أَيُّوبَ عليه السلام عُرْيَانًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ فَنَادَاهُ رَبُّهُ إِلَى آخِرِهِ.

7494 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْأَغَرِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَتنْزِلُ رَبُّنَا تبارك وتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ.

7495 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، أَنَّ الْأَعْرَجَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

7496 -

وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ قَالَ اللَّهُ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ.

ص: 464

7497 -

حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ: هَذِهِ خَدِيجَةُ أَتَتْكَ بِإِنَاءٍ فِيهِ طَعَامٌ، أَوْ إِنَاءٍ فِيهِ شَرَابٌ، فَأَقْرِئْهَا مِنْ رَبِّهَا السَّلَامَ، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ فِيهِ، وَلَا نَصَبَ.

7498 -

حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ اللَّهُ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ.

7499 -

حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ الْأَحْوَلُ، أَنَّ طَاوُسًا أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا تَهَجَّدَ مِنْ اللَّيْلِ قَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمَنْ فِيهِنَّ، أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَقَوْلُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ الْحَقُّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ إِلَهِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ.

7500 -

حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ النُّمَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ الْأَيْلِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ قَالَ: سَمِعْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ، وَعَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ، وَعُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا، فَبَرَّأَهَا اللَّهُ مِمَّا قَالُوا، وَكُلٌّ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنْ الْحَدِيثِ الَّذِي حَدَّثَنِي عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: وَلَكِن وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ يُنْزِلُ بَرَاءَتِي وَحْيًا يُتْلَى، وَلَشَأْنِي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى، وَلَكِن كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ} الْعَشْرَ الْآيَاتِ.

7501 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ: إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً فَلَا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا بِمِثْلِهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ.

7502 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي مُزَرِّدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ قَامَتْ الرَّحِمُ فَقَالَ: مَهْ،

ص: 465

قَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنْ الْقَطِيعَةِ، فَقَالَ: أَلَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَذَلِكِ لَكِ، ثُمَّ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}

7503 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: مُطِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: قَالَ اللَّهُ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي كَافِرٌ بِي وَمُؤْمِنٌ بِي.

7504 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ اللَّهُ: إِذَا أَحَبَّ عَبْدِي لِقَائِي أَحْبَبْتُ لِقَاءَهُ، وَإِذَا كَرِهَ لِقَائِي كَرِهْتُ لِقَاءَهُ.

7505 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ اللَّهُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي.

7506 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ رَجُلٌ - لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ - إِذَا مَاتَ فَحَرِّقُوهُ وَاذْرُوا نِصْفَهُ فِي الْبَرِّ وَنِصْفَهُ فِي الْبَحْرِ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَيُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا لَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ، فَأَمَرَ اللَّهُ الْبَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، وَأَمَرَ الْبَرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: لِمَ فَعَلْتَ؟ قَالَ: مِنْ خَشْيَتِكَ وَأَنْتَ أَعْلَمُ، فَغَفَرَ لَهُ.

7507 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي عَمْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ عَبْدًا أَصَابَ ذَنْبًا - وَرُبَّمَا قَالَ: أَذْنَبَ ذَنْبًا - فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ ذنبا - وَرُبَّمَا قَالَ: أَصَبْتُ - فَاغْفِرْ، فَقَالَ رَبُّهُ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَصَابَ ذَنْبًا - أَوْ أَذْنَبَ ذَنْبًا - فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ - أَوْ أَصَبْتُ - آخَرَ فَاغْفِرْهُ. فَقَالَ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا - وَرُبَّمَا قَالَ: أَصَابَ ذَنْبًا - فقَالَ: رَبِّ أَصَبْتُ - أَوْ أَذْنَبْتُ - آخَرَ فَاغْفِرْهُ لِي، فَقَالَ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ثَلَاثًا فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ.

7508 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ سَمِعْتُ أَبِي حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَبْدِ الْغَافِرِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا فِيمَنْ سَلَفَ أَوْ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ قَالَ كَلِمَةً يَعْنِي أَعْطَاهُ اللَّهُ مَالًا وَوَلَدًا فَلَمَّا حَضَرَتْ الْوَفَاةُ قَالَ لِبَنِيهِ أَيَّ أَبٍ كُنْتُ لَكُمْ قَالُوا خَيْرَ أَبٍ قَالَ فَإِنَّهُ لَمْ يَبْتَئِرْ - أَوْ لَمْ

ص: 466

يَبْتَئِزْ - عِنْدَ اللَّهِ خَيْرًا وَإِنْ يَقْدِرْ اللَّهُ عَلَيْهِ يُعَذِّبْهُ فَانْظُرُوا إِذَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي حَتَّى إِذَا صِرْتُ فَحْمًا فَاسْحَقُونِي - أَوْ قَالَ فاسحكوني - فَإِذَا كَانَ يَوْمُ رِيحٍ عَاصِفٍ فَأَذْرُونِي فِيهَا فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَ مَوَاثِيقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَرَبِّي فَفَعَلُوا ثُمَّ أَذْرَوْهُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ فَقَالَ اللَّهُ عز وجل كُنْ فَإِذَا هُوَ رَجُلٌ قَائِمٌ قَالَ اللَّهُ أَيْ عَبْدِي مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ فَعَلْتَ مَا فَعَلْتَ قَالَ مَخَافَتُكَ أَوْ فَرَقٌ مِنْكَ قَالَ فَمَا تَلَافَاهُ أَنْ رَحِمَهُ عِنْدَهَا وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى فَمَا تَلَافَاهُ غَيْرُهَا فَحَدَّثْتُ بِهِ أَبَا عُثْمَانَ فَقَالَ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ سَلْمَانَ غَيْرَ أَنَّهُ زَادَ فِيهِ أَذْرُونِي فِي الْبَحْرِ أَوْ كَمَا حَدَّثَ.

حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ وَقَالَ لَمْ يَبْتَئِرْ وَقَالَ خَلِيفَةُ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ وَقَالَ لَمْ يَبْتَئِزْ فَسَّرَهُ قَتَادَةُ لَمْ يَدَّخِرْ.

قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} كَذَا لِلْجَمِيعِ، زَادَ أَبُو ذَرٍّ الْآيَةَ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَرَادَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ وَأَحَادِيثِهَا مَا أَرَادَ فِي الْأَبْوَابِ قَبْلَهَا أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِهِ وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا وَلَا يَزَالُ، ثُمَّ أَخَذَ فِي ذِكْرِ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ غَرَضَهُ أَنُّ كَلَامَ اللَّهِ لَا يَخْتَصُّ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّهُ لَيْسَ نَوْعًا وَاحِدًا كَمَا تَقَدَّمَ نَقْلُهُ عَمَّنْ قَالَهُ، وَأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَخْلُوقِ وَهُوَ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِهِ فَإِنَّهُ يُلْقِيهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ بِحَسَبِ حَاجَتِهِمْ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنْ مَصَالِحِهِمْ، وَأَحَادِيثُ الْبَابِ كَالْمُصَرِّحَةِ بِهَذَا الْمُرَادِ.

قَوْلُهُ: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} الْحَقُّ، {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} بِاللَّعِبِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَسَقَطَ مِنْ أَوَّلِهِ لَفْظُ إِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِ وَثَبَتَ لِكُلِّ مَنْ عَدَا أَبَا ذَرٍّ حَقٌّ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَلَامٍ، وَسَقَطَتْ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ وَالتَّفْسِيرُ الْمَذْكُورُ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِ أَبِي عُبَيْدَةَ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ الْمَجَازِ قَوْلُهُ {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} أَيْ مَا هُوَ بِاللَّعِبِ وَالْمُرَادُ بِالْحَقِّ الشَّيْءُ الثَّابِتُ الَّذِي لَا يَزُولُ وَبِهَذَا تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِلْآيَةِ الَّتِي فِي التَّرْجَمَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ سَبْعَةَ عَشَرَ حَدِيثًا مُعْظَمُهَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَكْثَرُهَا قَدْ تَكَرَّرَ.

أَوَّلُهَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَوْلُهُ قَالَ اللَّهُ: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ الْحَدِيثَ. وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا إِثْبَاتُ إِسْنَادِ الْقَوْلِ إِلَيْهِ سبحانه وتعالى وَقَوْلُهُ يُؤْذِينِي أَيْ يَنْسُبُ إِلَيَّ مَا لَا يَلِيقُ بِي، وَتَقَدَّمَ لَهُ تَوْجِيهٌ آخَرُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْجَاثِيَةِ مَعَ سَائِرِ مَبَاحِثِهِ وَهُوَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْقُدْسِيَّةِ، وَكَذَا مَا بَعْدَهُ إِلَى آخِرِ الْخَامِسِ.

الثَّانِي: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا. قَوْلُهُ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَفِيهِ وَالصَّوْمُ جُنَّةُ، وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ وَفِيهِ وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الصِّيَامِ، وَقَوْلُهُ فِي السَّنَدِ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ يُرِيدُ الْفَضْلَ بْنَ دُكَيْنِ الْكُوفِيَّ الْحَافِظَ الْمَشْهُورَ الْقَدِيمَ، وَلَيْسَ هُوَ الْحَافِظُ الْمُتَأَخِّرُ صَاحِبُ الْحِلْيَةِ وَالْمُسْتَخْرَجِ، وَقَوْلُهُ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ كَذَا لِلْجَمِيعِ إِلَّا لِأَبِي عَلِيِّ بْنِ السَّكَنِ فَوَقَعَ عِنْدَهُ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ - وَهُوَ الثَّوْرِيُّ - حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ زَادَ فِيهِ الثَّوْرِيُّ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ: وَالصَّوَابُ قَوْلُ مَنْ خَالَفَهُ مِنْ سَائِرِ الرُّوَاةِ، وَرَأَيْتُ فِي رِوَايَةِ الْقَابِسِيِّ، عَنْ أَبِي الْمَرْوَزِيِّ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ أُرَاهُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، فَحَذَفَ لَفْظَ قَالَ بَيْنَ قَوْلِهِ أُرَاهُ وَحَدَّثَنَا وَأُرَاهُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ أَظُنُّهُ، وَأَبُو نُعَيْمٍ سَمِعَ مِنَ الْأَعْمَشِ وَمِنَ السُّفْيَانَيْنِ عَنِ الْأَعْمَشِ لَكِنَّ سُفْيَانَ

ص: 467

الْمَذْكُورَ هُنَا هُوَ الثَّوْرِيُّ جَزْمًا، وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِ ذَلِكَ فَقَائِلُ أُرَاهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْبُخَارِيَّ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَنْ دُونِهِ وَهُوَ الرَّاجِحُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ رِوَايَةِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِدُونِ الْوَاسِطَةِ وَهَذَا مِنْ أَعْلَى مَا وَقَعَ لِأَبِي نُعَيْمٍ مِنَ الْعَوَالِي فِي هَذَا الْجَامِعِ الصَّحِيحِ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا، قَوْلُهُ: يَتَنَزَّلُ رَبُّنَا) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِمُثَنَّاةٍ وَتَشْدِيدٍ، وَلِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ يَنْزِلُ بِحَذْفِ التَّاءِ وَالتَّخْفِيفِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ التَّهَجُّدِ فِي بَابِ الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ، وَتَرْجَمَ لَهُ فِي الدَّعَوَاتِ الدُّعَاءُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ مُنَاسَبَةُ التَّرْجَمَةِ لِحَدِيثِ الْبَابِ مَعَ أَنَّ لَفْظَهُ حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ وَمَضَى بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ التَّوْحِيدِ فِي بَابِ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ فَيَقُولُ مَنْ يَدْعُونِي إِلَى آخِرِهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي الْمُرَادِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُنَادِي بِهِ مَلَكًا بِأَمْرِهِ أَوْ لَا؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ إِثْبَاتُ نِسْبَةِ الْقَوْلِ إِلَيْهِ وَهِيَ حَاصِلَةٌ عَلَى كُلٍّ مِنَ الْحَالَتَيْنِ، وَقَدْ نَبَّهْتُ عَلَى مَنْ أَخْرَجَ الزِّيَادَةَ الْمُصَرِّحَةَ بِأَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ مَلَكًا فَيُنَادِي فِي كِتَابِ التَّهَجُّدِ وَتَأْوِلُ ابْنِ حَزْمٍ النُّزُولَ بِأَنَّهُ فِعْلٌ يَفْعَلُهُ اللَّهُ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا كَالْفَتْحِ لِقَبُولِ الدُّعَاءِ وَأَنَّ تِلْكَ السَّاعَةَ مِنْ مَظَانِّ الْإِجَابَةِ وَهُوَ مَعْهُودٌ فِي اللُّغَةِ، تَقُولُ: فُلَانٌ نَزَلَ لِي عَنْ حَقِّهِ بِمَعْنَى وَهَبَهُ، قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا صِفَةُ فِعْلٍ تَعْلِيقُهُ بِوَقْتٍ مَحْدُودٍ وَمَنْ لَمْ يَزَلْ لَا يَتَعَلَّقُ بِالزَّمَانِ فَصَحَّ أَنَّهُ فِعْلٌ حَادِثٌ، وَقَدْ عَقَدَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو إِسْمَاعِيلَ الْهَرَوِيُّ وَهُوَ مِنَ الْمُبَالِغِينَ فِي الْإِثْبَاتِ حَتَّى طَعَنَ فِيهِ بَعْضُهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ الْفَارُوقِ بَابًا لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَأَوْرَدَهُ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ ثُمَّ ذَكَرَهُ مِنْ طُرُقٍ زَعَمَ أَنَّهَا لَا

تَقْبَلُ التَّأْوِيلَ مِثْلَ حَدِيثِ عَطَاءٍ مَوْلَى أُمِّ صَبِيَّةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ إِذَا ذَهَبَ ثُلُثَ اللَّيْلِ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَزَادَ فَلَا يَزَالُ بِهَا حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَيَقُولُ هَلْ مِنْ دَاعٍ يُسْتَجَابُ لَهُ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَفِيهِ اخْتِلَافٌ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَفِيهِ: فَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ صَعِدَ إِلَى الْعَرْشِ أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ الْهِجْرِيِّ وَفِيهِ مَقَالٌ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو إِسْمَاعِيلَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عَلِّمْنِي فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ فَإِذَا انْفَجَرَ الْفَجْرُ صَعِدَ وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ عَمِّ أَبِيهِ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَمِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَفِي آخِرِهِ ثُمَّ يَعْلُو رَبُّنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ عُبَادَةَ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَمِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَفِيهِ ثُمَّ يَعْلُو رَبُّنَا إِلَى السَّمَاءِ الْعُلْيَا إِلَى كُرْسِيِّهِ وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْجَعْفَرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ أَسْلَمَ وَفِيهِمَا مَقَالٌ، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي الْخَطَّابِ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْوِتْرِ فَذَكَرَ الْوِتْرَ وَفِي آخِرِهِ حَتَّى إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ ارْتَفَعَ وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ ثُوَيْرِ بْنِ أَبِي فَاخِتَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، فَهَذِهِ الطُّرُقُ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهَا لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ أَنَّهَا لَا تَقْبَلُ التَّأْوِيلَ فَإِنَّ مُحَصَّلَهَا ذِكْرُ الصُّعُودِ بَعْدَ النُّزُولِ فَكَمَا قَبِلَ النُّزُولَ

التَّأْوِيلُ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الصُّعُودِ التَّأْوِيلُ، وَالتَّسْلِيمُ أَسْلَمُ كَمَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ أَجَادَ هُوَ فِي قَوْلِهِ فِي آخِرِ كِتَابِهِ فَأَشَارَ إِلَى مَا وَرَدَ مِنَ الصِّفَاتِ وَكُلُّهَا مِنَ التَّقْرِيبِ لَا مِنَ التَّمْثِيلِ، وَفِي مَذَاهِبِ الْعَرَبِ سَعَةٌ، يَقُولُونَ أَمْرٌ بَيِّنٌ كَالشَّمْسِ وَجَوَادٌ كَالرِّيحِ وَحَقٌّ كَالنَّهَارِ، وَلَا تُرِيدُ تَحْقِيقَ الِاشْتِبَاهِ وَإِنَّمَا تُرِيدُ تَحْقِيقَ الْإِثْبَاتِ وَالتَّقْرِيبِ عَلَى الْأَفْهَامِ، فَقَدْ عَلِمَ مَنْ عَقَلَ أَنَّ الْمَاءَ أَبْعَدُ الْأَشْيَاءِ شَبَهًا

ص: 468

بِالصَّخْرِ، وَاللَّهُ يَقُولُ {فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} فَأَرَادَ الْعِظَمَ وَالْعُلُوَّ لَا الشَّبَهَ فِي الْحَقِيقَةِ، وَالْعَرَبُ تُشَبِّهُ الصُّورَةَ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَاللَّفْظَ بِالسِّحْرِ، وَالْمَوَاعِيدَ الْكَاذِبَةَ بِالرِّيَاحِ، وَلَا تَعُدُّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كَذِبًا وَلَا تُوجِبُ حَقِيقَةً، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا.

قَوْلُهُ (أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ قَالَ اللَّهُ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ) تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْحِكْمَةِ فِي تَصْدِيرِهِ هَذَا الْحَدِيثَ بِقَوْلِهِ نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ فِي بَابِ مَنْ أَخَذَ حَقَّهُ أَوِ اقْتَصَّ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ أَوَّلُ حَدِيثٍ فِي النُّسْخَةِ فَكَانَ الْبُخَارِيُّ أَحْيَانًا إِذَا سَاقَ مِنْهَا حَدِيثًا ذَكَرَ طَرَفًا مِنْ أَوَّلِ حَدِيثٍ فِيهَا ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ الَّذِي يُرِيدُ إِيرَادَهُ، وَأَحْيَانًا لَا يَصْنَعُ ذَلِكَ، وَقَدْ وَقَعَ لَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِعَيْنِهِ كُلٌّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، فَإِنَّ هَذَا الْقَدْرَ وَهُوَ قَوْلُهُ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ أَوْرَدَهُ بِتَمَامِهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ هُودٍ، وَفِيهِ وَقَالَ: يَدُ اللَّهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةً الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ، وَاقْتَطَعَ هَذَا الْقَدْرَ فَسَاقَهُ فِي بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فَذَكَرَ أَوَّلَهُ يَدُ اللَّهِ مَلْأَى وَلَمْ يَذْكُرْ أَوَّلَهُ نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ وَلَا أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ وَاقْتَصَرَ مِنْهُ هُنَا عَلَى هَذَا الْقَدْرِ، وَوَقَعَ فِي الْأَطْرَافِ لِلْمِزِّيِّ فِي تَرْجَمَةِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، لِلْبُخَارِيِّ فِي التَّفْسِيرِ وَفِي التَّوْحِيدِ بِجَمِيعِهِ عَنْ أَبِي الْيَمَانِ، عَنْ شُعَيْبٍ انْتَهَى. وَالْمَفْهُومُ مِنْ إِطْلَاقِهِ أَنَّهُ فِي التَّوْحِيدِ نَظِيرُ مَا فِي التَّفْسِيرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ نِسْبَةُ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ وَهُوَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْقُدْسِيَّةِ.

الْحَدِيثُ السَّادِسُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ.

قَوْلُهُ: ابْنُ فُضَيْلٍ) هُوَ مُحَمَّدٌ.

قَوْلُهُ (عُمَارَةَ) هُوَ ابْنُ الْقَعْقَاعِ بْنُ شُبْرُمَةَ.

قَوْلُهُ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ هَذِهِ خَدِيجَةُ) كَذَا أَوْرَدَهُ هُنَا مُخْتَصَرًا، وَالْقَائِلُ جِبْرِيلُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ تَزْوِيجِ خَدِيجَةَ فِي أَوَاخِرِ الْمَنَاقِبِ عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ بِهَذَا السَّنَدِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ خَدِيجَةُ إِلَى آخِرِهِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ جَزْمَ الْكِرْمَانِيِّ بِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مَوْقُوفٌ غَيْرُ مَرْفُوعٍ مَرْدُودٌ.

قَوْلُهُ: أَتَتْكَ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي هُنَا تَأْتِيكَ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ بِلَفْظِ أَتَتْ بِغَيْرِ ضَمِيرٍ.

قَوْلُهُ (بِإِنَاءٍ فِيهِ طَعَامٌ أَوْ إِنَاءٍ أَوْ شَرَابٌ) كَذَا لِلْأَصِيلِيِّ، وَأَبِي ذَرٍّ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي ذَرٍّ أَوْ إِنَاءٍ فِيهِ شَرَابٌ وَكَذَا لِلْبَاقِينَ وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ بِلَفْظِ إِدَامٌ أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ قَوْلُهُ بِإِنَاءٍ فِيهِ طَعَامٌ أَوْ إِنَاءٍ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي هَلْ قَالَ فِيهِ طَعَامٌ أَوْ قَالَ إِنَاءً فَقَطْ لَمْ يَذْكُرْ مَا فِيهِ، وَيَجُوزُ فِي قَوْلِهِ أَوْ شَرَابٌ الرَّفْعُ وَالْجَرُّ.

قَوْلُهُ (فَأَقْرِئْهَا) زَادَ فِي رِوَايَةِ قُتَيْبَةَ فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُهُ فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ فَأَقْرِئْهَا مِنْ رَبِّهَا السَّلَامَ وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ حَدِيثُ عَائِشَةَ وَفِيهِ وَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْمُرَادِ بِالْقَصَبِ وَمُطَابَقَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ اقْرَأِ السَّلَامَ فَإِنَّهُ بِمَعْنَى التَّسْلِيمِ عَلَيْهَا.

الْحَدِيثُ السَّابِعُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ اللَّهُ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي، وَهُوَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْقُدْسِيَّةِ، وَالْإِضَافَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِعِبَادِي لِلتَّشْرِيفِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ السَّجْدَةِ وَسِيَاقُهُ هُنَاكَ أَتَمُّ.

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الدُّعَاءِ فِي التَّهَجُّدِ فِي اللَّيْلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} أَوْرَدَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ وَقَوْلُكُ الْحَقُّ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَقِّ اللَّازِمُ الثَّابِتُ.

الْحَدِيثُ التَّاسِعُ: حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ ذَكَرَ مِنْهُ طَرَفًا، وَقَدْ ذَكَرَ مِنْهُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ قِطَعًا يَسِيرَةً فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ مِنْهَا فِي الْجِهَادِ وَالشَّهَادَاتِ وَالتَّفْسِيرِ وَسَاقَهُ بِتَمَامِهِ فِي الشَّهَادَاتِ وَفِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النُّورِ وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِيهَا، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهَا

ص: 469

وَاللَّهُ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ عز وجل كَانَ يُنَزِّلُ فِي بَرَاءَتِي وَحْيًا يُتْلَى وَمُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ ظَاهِرَةٌ مِنْ قَوْلِهَا يَتَكَلَّمُ اللَّهُ.

الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا.

قَوْلُهُ (يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً فَلَا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الرِّقَاقِ فِي بَابِ مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ أَوْ سَيِّئَةٍ وَهُوَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْقُدْسِيَّةِ أَيْضًا، وَكَذَا الْأَرْبَعَةُ بَعْدَهُ، وَمُنَاسَبَتُهُ لِلْبَابِ ظَاهِرَةٌ أَيْضًا، وَقَوْلُهُ: فَإِذَا عَمِلَهَا فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَإِنْ وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ، زَادَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ السَّرَخْسِيِّ ضِعْفٍ وَهِيَ ثَابِتَةٌ لِلْجَمِيعِ فِي آخِرِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الرِّقَاقِ، وَاسْتَدَلَّ بِمَفْهُومِ الْغَايَةِ فِي قَوْلِهِ فَلَا تَكْتُبُوهَا حَتَّى يَعْمَلَهَا وَبِمَفْهُومِ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ فَإِذَا عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِمِثْلِهَا مَنْ قَالَ: إِنَّ الْعَزْمَ عَلَى فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ لَا يُكْتَبُ سَيِّئَةً حَتَّى يَقَعَ الْعَمَلُ وَلَوْ بِالشُّرُوعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ الْبَحْثِ فِيهِ هُنَاكَ.

الْحَدِيثُ الْحَادِي عَشَرَ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالرَّحِمِ وَفِيهِ قَالَ أَلَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَفِيهِ قَالَتْ: بَلَى يَا رَبِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْأَدَبِ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ شَيْخُهُ هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، وَسُلَيْمَان هُوَ ابْنُ بِلَالٍ، وَصَرَّحَ إِسْمَاعِيلُ بِتَحْدِيثِهِ لَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَهُ حَدِيثٌ فِي بَابِ الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ أَدْخَلَ فِيهِ أَخَاهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سُلَيْمَانَ الْمَذْكُورِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: الرَّحِمُ الَّتِي تُوصَلُ وَتُقْطَعُ إِنَّمَا هِيَ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي لَا يَتَأَتَّى مِنْهَا الْكَلَامُ إِذْ هِيَ قَرَابَةٌ تَجْمَعُهَا رَحِمٌ وَاحِدَةٌ فَيَتَّصِلُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، فَالْمُرَادُ تَعْظِيمُ شَأْنِهَا وَبَيَانُ فَضِيلَةِ مَنْ وَصَلَهَا وَإِثْمِ مَنْ قَطَعَهَا فَوَرَدَ الْكَلَامُ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي اسْتِعْمَالِ الِاسْتِعَارَاتِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَتَجَسُّدُ الْمَعَانِي غَيْرُ مُمْتَنِعٍ فِي الْقُدْرَةِ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي عَشَرَ: حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ وَهُوَ الْجُهَنِيُّ ذَكَرَ فِيهِ طَرَفًا مِنْ حَدِيثٍ مَضَى بِتَمَامِهِ فِي آخِرِ الِاسْتِسْقَاءِ مَعَ شَرْحِهِ، وَسُفْيَان فِيهِ هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَصَالِحٌ هُوَ ابْنُ كَيْسَانَ، وَعُبَيْدُ اللَّه هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ قُتَيْبَةَ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ، وَأَبُو نُعَيْمٍ مِنْ رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ سُفْيَانَ وَذَكَرْتُ مَا فِي سِيَاقِهِ مِنْ فَائِدَةٍ هُنَاكَ، وَقَوْلُهُ هُنَا مُطِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِضَمِّ الْمِيمِ أَيْ وَقَعَ الْمَطَرُ بِدُعَائِهِ أَوْ نُسِبَ ذَلِكَ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَنْ عَدَاهُ كَانَ تَبَعًا لَهُ يُقَالُ مَطَرَتِ السَّمَاءُ وَأَمْطَرَتْ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقِيلَ مَطَرَتْ فِي الرَّحْمَةِ وَأَمْطَرَتْ فِي الْعَذَابِ، وَقِيلَ مَطَرَتْ فِي اللَّازِمِ وَأَمْطَرَتْ فِي الْمُتَعَدِّي.

الْحَدِيثُ الثَّالِثَ عَشَرَ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةً أَيْضًا.

قَوْلُهُ (إِذَا أَحَبَّ عَبْدِي لِقَائِي) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ مِنْ كِتَابِ الرِّقَاقِ بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي تَخْصِيصِ ذَلِكَ بِوَقْتِ الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآثَارُ أَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ وَمُعَايَنَةِ مَا هُنَالِكَ وَذَلِكَ حِينَ لَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ التَّائِبِ إِنْ لَمْ يَتُبْ قَبْلَ ذَلِكَ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعَ عَشَرَ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا.

قَوْلُهُ (قَالَ اللَّهُ أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي) تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ التَّوْحِيدِ فِي بَابِ: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَوَّلُهُ يَقُولُ اللَّهُ وَزَادَ وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي الْحَدِيثَ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ هُنَاكَ مُسْتَوْفًى.

الْحَدِيثُ الْخَامِسَ عَشَرَ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا فِي قِصَّةِ الَّذِي أَمَرَ بِأَنْ يُحَرِّقُوهُ إِذَا مَاتَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الرِّقَاقِ، وَمِنْ قَبْلِ ذَلِكَ فِي ذِكْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَيَأْتِي شَيْءٌ مِنْهُ فِي آخِرِ هَذَا الْبَابِ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ: قَالَ رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ إِذَا مَاتَ فَحَرِّقُوهُ، فِيهِ الْتِفَاتٌ وَنَسَقُ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ: إِذَا مِتُّ فَحَرِّقُونِي، وَقَوْلُهُ فَأَمَرَ اللَّهُ الْبَحْرَ لِيَجْمَعَ، فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ فَجَمَعَ.

الْحَدِيثُ السَّادِسَ عَشَرَ: قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ) هُوَ السَّرْمَارِيُّ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَبِكَسْرِهَا وَبِسُكُونِ الرَّاءِ، تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي ذِكْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَعَمْرُو بْنُ عَاصِم هُوَ الْكُلَابِيُّ الْبَصْرِيُّ يُكْنَى أَبَا عُثْمَانَ، وَقَدْ حَدَّثَ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ بِلَا وَاسِطَةٍ

ص: 470

فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، فَنَزَلَ الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا السَّنَدِ بِالنِّسْبَةِ لِهَمَّامٍ دَرَجَةً، وَقَدْ وَقَعَ هَذَا الْحَدِيثُ لِمُسْلِمٍ عَالِيًا فَإِنَّهُ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ إِسْحَاقَ، نَعَمْ وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ نَازِلًا كَالْبُخَارِيِّ، وَإِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّه هُوَ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيُّ التَّابِعِيُّ الْمَشْهُورُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَشَرَةُ أَحَادِيثَ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَاسْمُ أَبِيهِ كُنْيَتُهُ وَهُوَ أَنْصَارِيٌّ صَحَابِيٌّ، وَيُقَالُ إِنَّ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ رُؤْيَةٌ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ لَيْسَتْ لَهُ صُحْبَةٌ وَلَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ آخَرُ أَدْرَكَهُ مَالِكٌ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ نُسِبَ لِجَدِّهِ. قُلْتُ: فَعَلَى هَذَا هُوَ ابْنُ أَخِي الرَّاوِي عَنْهُ.

قَوْلُهُ (إِنَّ عَبْدًا أَصَابَ ذَنْبًا وَرُبَّمَا قَالَ أَذْنَبَ ذَنْبًا) كَذَا تَكَرَّرَ هَذَا الشَّكُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَلَفْظُهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ عز وجل قَالَ أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا وَكَذَا فِي بَقِيَّةِ الْمَوَاضِعِ.

قَوْلُهُ: فَقَالَ رَبُّهُ أَعَلِمَ) بِهَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ وَالْفِعْلِ الْمَاضِي.

قَوْلُهُ (وَيَأْخُذُ بِهِ) أَيْ يُعَاقِبُ فَاعِلَهُ، وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ.

قَوْلُهُ: ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ) أَيْ مِنَ الزَّمَانِ وَسَقَطَ هَذَا مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادٍ.

قَوْلُهُ (ثُمَّ أَصَابَ ذَنْبًا) فِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ.

قَوْلُهُ: فِي آخِرِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِي) فِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ: اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُصِرَّ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ مُغَلِّبًا الْحَسَنَةَ الَّتِي جَاءَ بِهَا وَهِيَ اعْتِقَادُهُ أَنَّ لَهُ رَبًّا خَالِقًا يُعَذِّبُهُ وَيَغْفِرُ لَهُ وَاسْتِغْفَارُهُ إِيَّاهُ عَلَى ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَلَا حَسَنَةَ أَعْظَمُ مِنَ التَّوْحِيدِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ اسْتِغْفَارَهُ رَبَّهُ تَوْبَةٌ مِنْهُ قُلْنَا لَيْسَ الِاسْتِغْفَارُ أَكْثَرَ مِنْ طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ، وَقَدْ يَطْلُبُهَا الْمُصِرُّ وَالتَّائِبُ وَلَا دَلِيلَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ تَائِبٌ مِمَّا سَأَلَ الْغُفْرَانَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ حَدَّ التَّوْبَةِ الرُّجُوعُ عَنِ الذَّنْبِ وَالْعَزْمُ أَنْ لَا يَعُودَ إِلَيْهِ وَالْإِقْلَاعُ عَنْهُ وَالِاسْتِغْفَارُ بِمُجَرَّدِهِ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ ذَلِكَ انْتَهَى.

وَقَالَ غَيْرُهُ: شُرُوطُ التَّوْبَةِ ثَلَاثَةٌ: الْإِقْلَاعُ وَالنَّدَمُ وَالْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ، وَالتَّعْبِيرُ بِالرُّجُوعِ عَنِ الذَّنْبِ لَا يُفِيدُ مَعْنَى النَّدَمِ بَلْ هُوَ إِلَى مَعْنَى الْإِقْلَاعِ أَقْرَبُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَكْفِي فِي التَّوْبَةِ تَحَقُّقُ النَّدَمِ عَلَى وُقُوعِهِ مِنْهُ فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْإِقْلَاعَ عَنْهُ وَالْعَزْمِ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ فَهُمَا نَاشِئَانِ عَنِ النَّدَمِ لَا أَصْلَانِ مَعَهُ وَمِنْ ثُمَّ جَاءَ الْحَدِيثُ: النَّدَمُ تَوْبَةٌ وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَصَحَّحَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي بَابِ التَّوْبَةِ مِنْ أَوَائِلِ كِتَابِ الدَّعَوَاتِ مُسْتَوْفًى، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ: يَدُلُّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى عَظِيمِ فَائِدَةِ الِاسْتِغْفَارِ وَعَلَى عَظِيمِ فَضْلِ اللَّهِ وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ وَحِلْمِهِ وَكَرَمِهِ؛ لَكِنَّ هَذَا الِاسْتِغْفَارُ هُوَ الَّذِي ثَبَتَ مَعْنَاهُ فِي الْقَلْبِ مُقَارِنًا لِلِّسَانِ لِيَنْحَلَّ بِهِ عَقْدُ الْإِصْرَارِ وَيَحْصُلَ مَعَهُ النَّدَمُ فَهُوَ تَرْجَمَةٌ لِلتَّوْبَةِ، وَيَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ: خِيَارُكُمْ كُلُّ مُفْتَنٍ تَوَّابٍ، وَمَعْنَاهُ الَّذِي يَتَكَرَّرُ مِنْهُ الذَّنْبُ وَالتَّوْبَةُ فَكُلَّمَا وَقَعَ فِي الذَّنْبِ عَادَ إِلَى التَّوْبَةِ لَا مَنْ قَالَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ بِلِسَانِهِ وَقَلْبُهُ مُصِرٌّ عَلَى تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ، فَهَذَا الَّذِي اسْتِغْفَارُهُ يَحْتَاجُ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ.

قُلْتُ: وَيَشْهَدُ لَهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، وَالْمُسْتَغْفِرُ مِنَ الذَّنْبِ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَيْهِ كَالْمُسْتَهْزِئِ بِرَبِّهِ وَالرَّاجِحُ أَنَّ قَوْلَهُ وَالْمُسْتَغْفِرُ إِلَى آخِرِهِ مَوْقُوفٌ وَأَوَّلُهُ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَسَنَدُهُ حَسَنٌ، وَحَدِيثُ خِيَارُكُمْ كُلُّ مُفْتَنٍ تَوَّابٍ ذَكَرَهُ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ عَنْ عَلِيٍّ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَفَائِدَةُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْعَوْدَ إِلَى الذَّنْبِ وَإِنْ كَانَ أَقْبَحَ مِنَ ابْتِدَائِهِ؛ لِأَنَّهُ انْضَافَ إِلَى مُلَابَسَةِ الذَّنْبِ نَقْضُ التَّوْبَةِ؛ لَكِنَّ الْعَوْدَ إِلَى التَّوْبَةِ أَحْسَنُ مِنَ ابْتِدَائِهَا؛ لِأَنَّهُ انْضَافَ إِلَيْهَا مُلَازَمَةُ الطَّلَبِ مِنَ الْكَرِيمِ وَالْإِلْحَاحُ فِي سُؤَالِهِ

ص: 471

وَالِاعْتِرَافُ بِأَنَّهُ لَا غَافِرَ لِلذَّنْبِ سِوَاهُ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْحَدِيثِ: إِنَّ الذُّنُوبَ وَلَوْ تَكَرَّرَتْ مِائَةَ مَرَّةٍ بَلْ أَلْفًا وَأَكْثَرَ وَتَابَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ أَوْ تَابَ عَنِ الْجَمِيعِ تَوْبَةً وَاحِدَةً صَحَّتْ تَوْبَتُهُ، وَقَوْلُهُ: اعْمَلْ مَا شِئْتَ مَعْنَاهُ مَا دُمْتَ تُذْنِبَ فَتَتُوبَ غَفَرْتُ لَكَ، وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الْأَذْكَارِ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خَيْثَمٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا تَقُلْ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فَيَكُونُ ذَنْبًا وَكَذِبًا إِنْ لَمْ تَفْعَلْ بَلْ قُلْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ، قَالَ النَّوَوِيُّ هَذَا حَسَنٌ، وَأَمَّا كَرَاهِيَةُ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَتَسْمِيَتُهُ كَذِبًا فَلَا يُوَافَقُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ أَطْلُبُ مَغْفِرَتَهُ وَلَيْسَ هَذَا كَذِبًا، قَالَ وَيَكْفِي فِي رَدِّهِ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ بِلَفْظِ: مَنْ قَالَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيَّ الْقَيُّومَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.

قُلْتُ: هَذَا فِي لَفْظِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيَّ الْقَيُّومَ، وَأَمَّا أَتُوبُ إِلَيْهِ فَهُوَ الَّذِي عَنَى الرَّبِيعُ رحمه الله أَنَّهُ كَذِبٌ وَهُوَ كَذَلِكَ إِذَا قَالَهُ وَلَمْ يَفْعَلِ التَّوْبَةَ كَمَا قَالَ، وَفِي الِاسْتِدْلَالِ لِلرَّدِّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَظَرٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ مَا إِذَا قَالَهَا وَفَعَلَ شُرُوطَ التَّوْبَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الرَّبِيعُ قَصَدَ مَجْمُوعَ اللَّفْظَيْنِ لَا خُصُوصَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فَيَصِحُّ كَلَامُهُ كُلُّهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَأَيْتُ فِي الْحَلَبِيَّاتِ لِلسُّبْكِيِّ الْكَبِيرِ: الِاسْتِغْفَارُ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ إِمَّا بِاللِّسَانِ أَوْ بِالْقَلْبِ أَوْ بِهِمَا، فَالْأَوَّلُ فِيهِ نَفْعٌ؛ لِأَنَّهُ خَيْرٌ مِنَ السُّكُوتِ؛ وَلِأَنَّهُ يَعْتَادُ قَوْلَ الْخَيْرِ، وَالثَّانِي نَافِعٌ جِدًّا، وَالثَّالِثُ أَبْلَغُ مِنْهُمَا لَكِنَّهُمَا لَا يُمَحِّصَانِ الذَّنْبَ حَتَّى تُوجَدَ التَّوْبَةُ، فَإِنَّ الْعَاصِي الْمُصِرَّ يَطْلُبُ الْمَغْفِرَةَ وَلَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ وُجُودَ التَّوْبَةِ مِنْهُ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَالَّذِي ذَكَرْتُهُ مِنْ أَنَّ مَعْنَى الِاسْتِغْفَارِ هُوَ غَيْرُ مَعْنَى التَّوْبَةِ هُوَ بِحَسَبِ وَضْعِ اللَّفْظِ؛ لَكِنَّهُ غَلَبَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ أَنَّ لَفْظَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مَعْنَاهُ التَّوْبَةُ فَمَنْ كَانَ ذَلِكَ مُعْتَقَدَهُ فَهُوَ يُرِيدُ التَّوِبَةَ لَا مَحَالَةَ، ثُمَّ قَالَ: وَذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالِاسْتِغْفَارِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ.

حَدَّثَنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، وَقَالَ: لَمْ يَبْتَئِرْ. وَقَالَ لي خَلِيفَةُ:، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ وَقَالَ: لَمْ يَبْتَئِزْ، فَسَّرَهُ قَتَادَةُ: لَمْ يَدَّخِرْ.

الْحَدِيثُ السَّابِعَ عَشَرَ: حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فِي قِصَّةِ الَّذِي أَمَرَ أَنْ يُحَرِّقُوهُ، وَتَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي الْخَامِسَ عَشَرَ.

قَوْلُهُ: مُعْتَمِرٌ سَمِعْتُ أَبِي) هُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ طَرْخَانَ التَّيْمِيُّ وَالسَّنَدُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ، وَفِيهِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ.

قَوْلُهُ (عَنْ عُقْبَةَ بْنَ عَبْدِ الْغَافِرِ) فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ سَمِعْتُ عُقْبَةَ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فِي الرِّقَاقِ مَعَ سَائِرِ شَرْحِهِ وَقَوْلُهُ أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا فِيمَنْ سَلَفَ - أَوْ - فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَوَقَعَ عِنْدَ الْأَصِيلِيِّ قَبْلَهُمْ وَقَدْ مَضَى فِي الرِّقَاقِ عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ مُعْتَمِرٍ بِلَفْظِ: ذَكَرَ رَجُلًا فِيمَنْ كَانَ سَلَفَ قَبْلَكُمْ وَلَمْ يَشُكَّ وَقَوْلُهُ: قَالَ كَلِمَةً يَعْنِي أَعْطَاهُ اللَّهُ مَالًا، فِي رِوَايَةِ مُوسَى آتَاهُ اللَّهُ مَالًا وَوَلَدًا وَقَوْلُهُ: أَيَّ أَبٍ كُنْتُ لَكُمْ قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ هُوَ بِنَصْبِ أَيٍّ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كُنْتُ، وَجَازَ تَقْدِيمُهُ لِكَوْنِهِ اسْتِفْهَامًا وَيَجُوزُ الرَّفْعُ وَجَوَابُهُمْ بِقَوْلِهِمْ خَيْرَ أَبٍ الْأَجْوَدُ النَّصْبُ عَلَى تَقْدِيرِ كُنْتَ خَيْرَ أَبٍ فَيُوَافِقُ مَا هُوَ جَوَابٌ عَنْهُ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ بِتَقْدِيرِ: أَنْتَ خَيْرُ أَبٍ، وَقَوْلُهُ فَإِنَّهُ لَمْ يَبْتَئِرْ أَوْ لَمْ يَبْتَئِزْ تَقَدَّمَ عَزْوُ هَذَا الشَّكِّ أَنَّهَا بِالرَّاءِ أَوْ بِالزَّايِ لِرِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ تَبَعًا لِلْقَاضِي عِيَاضٍ، وَقَدْ وَجَدْتُهَا هُنَا فِيمَا عِنْدَنَا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ عَنْ شُيُوخِهِ، وَقَوْلُهُ: فَاسْحَقُونِي أَوْ قَالَ فَاسْحَكُونِي فِي رِوَايَةِ مُوسَى مِثْلُهُ لَكِنْ قَالَ أَوْ قَالَ فَاسْهَكُونِي بِالْهَاءِ بَدَلَ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالشَّكُّ هَلْ قَالَهَا بِالْقَافِ أَوِ الْكَافِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: فَاسْحَلُونِي يَعْنِي بِاللَّامِ ثُمَّ قَالَ مَعْنَاهُ أَبْرِدُونِي بِالسَّحْلِ وَهُوَ الْمِبْرَدُ، وَيُقَالُ لِلْبُرَادَةِ سُحَالَةٌ وَأَمَّا اسْحَكُونِي بِالْكَافِ

فَأَصْلُهُ السَّحْقُ، فَأُبْدِلَتِ الْقَافُ كَافًا وَمِثْلُهُ السَّهَكُ بِالْهَاءِ وَالْكَافِ، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ قَالَ فَحَدَّثْتُ بِهِ أَبَا عُثْمَانَ الْقَائِلُ هُوَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ وَذَهِلَ الْكِرْمَانِيُ فَجَزَمَ بِأَنَّهُ قَتَادَةُ وَأَبُو عُثْمَان هُوَ النَّهْدِيُّ، وَقَوْلُهُ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ سَلْمَانَ إِلَى آخِرِهِ سَلْمَانُ هُوَ الْفَارِسِيُّ، وَأَبُو عُثْمَانَ مَعْرُوفٌ

ص: 472

بِالرِّوَايَةِ عَنْهُ، وَقَدْ أَغْفَلَ الْمِزِّيُّ ذِكْرَ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ مُسْنَدِ سَلْمَانَ فِي الْأَطْرَافِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا فِي الرِّقَاقِ وَنَبَّهْتُ عَلَى صِفَةِ تَخْرِيجِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ لَهُ، وَقَوْلُهُ حَدَّثَنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ وَقَالَ لَمْ يَبْتَئِرْ أَيْ بِالرَّاءِ لَمْ يَشُكَّ وَقَدْ سَاقَهُ بِتَمَامِهِ فِي الرِّقَاقِ عَنْ مُوسَى الْمَذْكُورِ وَهُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ التَّبُوذَكِيُّ، وَسَاقَ فِي آخِرِ رِوَايَتِهِ حَدِيثَ سَلْمَانَ أَيْضًا كَذَلِكَ وَقَوْلُهُ بَعْدَهُ وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ هُوَ ابْنُ خَيَّاطٍ، وَسَقَطَ لِلْأَكْثَرِ لَفْظُ لِي حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ لَمْ يَبْتَئِرْ يَعْنِي بِالْحَدِيثِ بِكَمَالِهِ؛ وَلَكِنَّهُ قَالَ لَمْ يَبْتَئِزْ بِالزَّايِ، وَقَوْلُهُ فَسَّرَهُ قَتَادَةُ لَمْ يَدَّخِرْ وَقَعَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي رِوَايَةِ خَلِيفَةَ دُونَ رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْأَسْوَدِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيِّ، عَنْ مُعْتَمِرٍ وَذَكَرَ فِيهِ تَفْسِيرَ قَتَادَةَ هَذَا، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الشَّهِيدِيِّ، عَنْ مُعْتَمِرٍ، وَقَدِ اسْتَوْعَبْتُ اخْتِلَافَ أَلْفَاظِ النَّاقِلِينَ لِهَذَا الْخَبَرِ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ بِمَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَتِهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

‌36 - بَاب كَلَامِ الرَّبِّ عز وجل يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ

7509 -

حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ رَاشِدٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ شُفِّعْتُ فَقُلْتُ: يَا رَبِّ، أَدْخِلْ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ خَرْدَلَةٌ فَيَدْخُلُونَ، ثُمَّ أَقُولُ: أَدْخِلْ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى شَيْءٍ، فَقَالَ أَنَسٌ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

7510 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا مَعْبَدُ بْنُ هِلَالٍ الْعَنَزِيُّ قَالَ اجْتَمَعْنَا نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَذَهَبْنَا إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَذَهَبْنَا مَعَنَا بِثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ إِلَيْهِ يَسْأَلُهُ لَنَا عَنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ فَإِذَا هُوَ فِي قَصْرِهِ فَوَافَقْنَاهُ يُصَلِّي الضُّحَى فَاسْتَأْذَنَّا فَأَذِنَ لَنَا وَهُوَ قَاعِدٌ عَلَى فِرَاشِهِ فَقُلْنَا لِثَابِتٍ لَا تَسْأَلْهُ عَنْ شَيْءٍ أَوَّلَ مِنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ فَقَالَ يَا أَبَا حَمْزَةَ هَؤُلَاءِ إِخْوَانُكَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ جَاءُوكَ يَسْأَلُونَكَ عَنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ فَقَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم قَالَ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِإِبْرَاهِيمَ فَإِنَّهُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى فَإِنَّهُ كَلِيمُ اللَّهِ فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَى فَإِنَّهُ رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَيَأْتُونِي فَأَقُولُ أَنَا لَهَا فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فَيُؤْذَنُ لِي وَيُلْهِمُنِي مَحَامِدَ أَحْمَدُهُ بِهَا لَا تَحْضُرُنِي الْآنَ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ وَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيَقُولُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي فَيَقُولُ انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي فَيَقُولُ انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ

ص: 473

ذَرَّةٍ أَوْ خَرْدَلَةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيَقُولُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي فَيَقُولُ انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَالِ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ مِنْ النَّارِ فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ أَنَسٍ قُلْتُ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا لَوْ مَرَرْنَا بِالْحَسَنِ وَهُوَ مُتَوَارٍ فِي مَنْزِلِ أَبِي خَلِيفَةَ فَحَدَّثْنَاهُ بِمَا حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ فَأَتَيْنَاهُ فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَأَذِنَ لَنَا فَقُلْنَا لَهُ يَا أَبَا سَعِيدٍ جِئْنَاكَ مِنْ عِنْدِ أَخِيكَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَلَمْ نَرَ مِثْلَ مَا حَدَّثَنَا فِي الشَّفَاعَةِ فَقَالَ هِيهْ فَحَدَّثْنَاهُ بِالْحَدِيثِ فَانْتَهَى إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ فَقَالَ هِيهْ فَقُلْنَا لَمْ يَزِدْ لَنَا عَلَى هَذَا فَقَالَ لَقَدْ حَدَّثَنِي وَهُوَ جَمِيعٌ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً فَلَا أَدْرِي أَنَسِيَ أَمْ كَرِهَ أَنْ تَتَّكِلُوا قُلْنَا يَا أَبَا سَعِيدٍ فَحَدِّثْنَا فَضَحِكَ وَقَالَ خُلِقَ الإِنْسَانُ عَجُولًا مَا ذَكَرْتُهُ إِلاَّ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُحَدِّثَكُمْ حَدَّثَنِي كَمَا حَدَّثَكُمْ بِهِ قَالَ ثُمَّ أَعُودُ الرَّابِعَةَ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَهْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَقُولُ يَا رَبِّ ائْذَنْ لِي فِيمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَيَقُولُ وَعِزَّتِي وَجَلَالِي وَكِبْرِيَائِي وَعَظَمَتِي لَاخْرِجَنَّ مِنْهَا مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ

7511 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ آخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ وَآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْ النَّارِ رَجُلٌ يَخْرُجُ حَبْوًا فَيَقُولُ لَهُ رَبُّهُ ادْخُلْ الْجَنَّةَ فَيَقُولُ رَبِّ الْجَنَّةُ مَلْأَى فَيَقُولُ لَهُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَكُلُّ ذَلِكَ يُعِيدُ عَلَيْهِ الْجَنَّةُ مَلْأَى فَيَقُولُ إِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا عَشْرَ مِرَارٍ

7512 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلاَّ النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ

قَالَ الأَعْمَشُ وَحَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ عَنْ خَيْثَمَةَ مِثْلَهُ وَزَادَ فِيهِ وَلَوْ بِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ

7513 -

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ جَاءَ حَبْرٌ مِنْ الْيَهُودِ فَقَالَ إِنَّهُ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَعَلَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ وَالأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ وَالْخَلَائِقَ عَلَى إِصْبَعٍ ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الْمَلِكُ فَلَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَضْحَكُ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ تَعَجُّبًا وَتَصْدِيقًا لِقَوْلِهِ ثُمَّ قال النبي صلى الله عليه وسلم: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ - إِلَى قَوْلِهِ يُشْرِكُونَ}

ص: 474

7514 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "فِي النَّجْوَى قَالَ يَدْنُو أَحَدُكُمْ مِنْ رَبِّهِ حَتَّى يَضَعَ كَنَفَهُ عَلَيْهِ فَيَقُولُ أَعَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُ نَعَمْ وَيَقُولُ عَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُ نَعَمْ فَيُقَرِّرُهُ ثُمَّ يَقُولُ إِنِّي سَتَرْتُ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ.

وَقَالَ آدَمُ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ حَدَّثَنَا صَفْوَانُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: بَابُ كَلَامِ الرَّبِّ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ) ذَكَرَ فِيهِ خَمْسَةَ أَحَادِيثَ.

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: حَدِيثُ أَنَسٍ فِي الشَّفَاعَةِ أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا جِدًّا ثُمَّ مُطَوَّلًا، وَقَدْ مَضَى شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ.

قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ رَاشِدٍ) هُوَ يُوسُفُ بْنُ مُوسَى بْنِ رَاشِدٍ الْقَطَّانُ الْكُوفِيُّ نَزِيلُ بَغْدَادَ نِسْبَةً لِجَدِّهِ وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ لِأَبِيهِ أَشْهَرُ، وَلَهُمْ شَيْخٌ آخَرُ يُقَالُ لَهُ يُوسُفُ بْنُ مُوسَى التَّسْتُرِيُّ نَزِيلُ الرَّيِّ أَصْغَرُ مِنَ الْقَطَّانِ، وَشَيْخُهُ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ يُنْسَبُ لِجَدِّهِ كَثِيرًا وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ هُوَ الْمُقْرِئُ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ حَدِيثًا غَيْرَ هَذَا بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحْمَدَ، وَتَقَدَّمَ فِي بَابِ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ.

قَوْلُهُ: إِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُفِّعْتُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِضَمِّ أَوَّلِهِ مُشَدَّدًا وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِفَتْحِهِ مُخَفَّفًا.

قَوْلُهُ (فَقُلْتُ يَا رَبِّ أَدْخِلِ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ خَرْدَلَةٌ) هَكَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَفِي الَّتِي بَعْدَهَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي يَقُولُ ذَلِكَ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي سَائِرِ الْأَخْبَارِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ هَذَا فِيهِ كَلَامُ الْأَنْبِيَاءِ مَعَ الرَّبِّ لَيْسَ كَلَامُ الرَّبِّ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ.

قَوْلُهُ (ثُمَّ أَقُولُ) ذَكَرَ ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَهُ بِلَفْظِ ثُمَّ نَقُولُ بِالنُّونِ، قَالَ وَلَا أَعْلَمُ مَنْ رَوَاهُ بِالْيَاءِ فَإِنْ كَانَ رُوِيَ بِالْيَاءِ طَابَقَ التَّبْوِيبَ، أَيْ ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ وَيَكُونُ جَوَابًا عَنِ اعْتِرَاضِ الدَّاوُدِيِّ حَيْثُ قَالَ قَوْلَهُ ثُمَّ أَقُولُ خِلَافٌ لِسَائِرِ الرِّوَايَاتِ فَإِنَّ فِيهَا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ يُخْرِجَ.

قُلْتُ: وَفِيهِ نَظَرٌ وَالْمَوْجُودُ عِنْدَ أَكْثَرِ الرُّوَاةِ: ثُمَّ أَقُولُ بِالْهَمْزَةِ كَمَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَالَّذِي أَظُنُّ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ كَعَادَتِهِ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَاصِمٍ أَحْمَدِ بْنِ جَوَّاسٍ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالتَّشْدِيدِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ وَلَفْظُهُ أَشْفَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ لِي لَكَ مَنْ فِي قَلْبِهِ شَعِيرَةٌ، وَلَكَ مَنْ فِي قَلْبِهِ خَرْدَلَةٌ، وَلَكَ مَنْ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ فَهَذَا مِنْ كَلَامِ الرَّبِّ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ أَوَّلًا فَيُجَابُ إِلَى ذَلِكَ ثَانِيًا، فَوَقَعَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ذِكْرُ السُّؤَالِ وَفِي الْبَقِيَّةِ ذِكْرُ الْإِجَابَةِ، وَقَوْلُهُ فِي الْأُولَى مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى شَيْءٍ قَالَ الدَّاوُدِيُّ هَذَا زَائِدٌ عَلَى سَائِرِ الرِّوَايَاتِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ مُفَسَّرٌ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ حَيْثُ جَاءَ فِيهَا أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَالِ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ قَالَ الْكِرْمَانِيُّ قَوْلُهُ أَدْنَى أَدْنَى التَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ التَّوْزِيعُ عَلَى الْحَبَّةِ وَالْخَرْدَلِ أَيْ أَقَلُّ حَبَّةِ مِنْ أَقَلِّ خَرْدَلَةٍ مِنَ الْإِيمَانِ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ صِحَّةُ الْقَوْلِ بِتَجَزُّؤ الْإِيمَانِ وَزِيَادَتِهِ وَنُقْصَانِهِ، وَقَوْلُهُ قَالَ أَنَسٌ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي قَوْلَهُ أَدْنَى شَيْءٍ وَكَأَنَّهُ يَضُمُّ أَصَابِعَهُ وَيُشِيرُ بِهَا، وَقَوْلُهُ فَأَخْرِجْهُ مِنَ النَّارِ مِنَ النَّارِ مِنَ النَّارِ التَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ أَيْضًا لِلْمُبَالَغَةِ أَوْ لِلنَّظَرِ إِلَى الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ مِنْ الْحَبَّةِ

وَالْخَرْدَلَةِ وَالْإِيمَانِ أَوْ جَعَلَ أَيْضًا لِلنَّارِ مَرَاتِبَ. قُلْتُ: سَقَطَ تَكْرِيرُ قَوْلِهِ مِنَ النَّارِ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَمَنْ ذَكَرْتُ مَعَهُ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ هَذِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذَا الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ وَقَوْلُهُ فِيهِ فَذَهَبْنَا مَعَنَا بِثَابِتٍ

ص: 475

الْبُنَانِيِّ إِلَيْهِ يَسْأَلُهُ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَسَأَلَهُ بِفَاءٍ وَصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي، قَالَ ابْنُ التِّينِ: فِيهِ تَقْدِيمُ الرَّجُلِ الَّذِي هُوَ مِنْ خَاصَّةِ الْعَالِمِ لِيَسْأَلَهُ، وَفِي قَوْلِهِ فَإِذَا هُوَ فِي قَصْرِهِ قَالَ ابْنُ التِّينِ: فِيهِ اتِّخَاذُ الْقَصْرِ لِمَنْ كَثُرَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَقَوْلُهُ فَوَافَقْنَا كَذَا لَهُمْ بِحَذْفِ الْمَفْعُولِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ فَوَافَقْنَاهُ وَقَوْلُهُ مَاجَ النَّاسُ أَيِ اخْتَلَطُوا، يُقَالُ: مَاجَ الْبَحْرُ أَيِ اضْطَرَبَتْ أَمْوَاجُهُ، وَقَوْلُهُ فَإِنَّهُ كَلِيمُ اللَّهِ كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ فَإِنَّهُ كَلَّمَ اللَّهَ بِلَفْظِ الْفِعْلِ الْمَاضِي، وَقَوْلُهُ فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَيَقُولُ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ.

(قَوْلُهُ: وَهُوَ مُتَوَارٍ فِي مَنْزِلِ أَبِي خَلِيفَةَ) هُوَ حَجَّاجُ بْنُ عَتَّابٍ الْعَبْدِيُّ الْبَصْرِيُّ وَالِدُ عُمَرَ بْنِ أَبِي خَلِيفَةَ، سَمَّاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَتَبِعَهُ الْحَاكِمُ أَبُو أَحْمَدَ فِي الْكُنَى.

قَوْلُهُ (وَهُوَ جَمِيعُ) أَيْ مُجْتَمِعُ الْعَقْلِ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ كَانَ حِينَئِذٍ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْكِبَرِ الَّذِي هُوَ مَظِنَّةُ تَفَرُّقِ الذِّهْنِ وَحُدُوثُ اخْتِلَاطِ الْحِفْظِ، وَقَوْلُهُ فَحَدَّثْنَاهُ بِسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ وَحَذْفِ الضَّمِيرِ، وَقَوْلُهُ قُلْنَا يَا أَبَا سَعِيدٍ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ

فَقُلْنَا قَالَ ابْنُ التِّينِ: قَالَ هُنَا لَسْتُ لَهَا وَفِي غَيْرِهِ لَسْتُ هُنَاكُمْ قَالَ: وَأَسْقُطَ هُنَا ذِكْرَ نُوحٍ وَزَادَ فَأَقُولُ أَنَا لَهَا وَزَادَ فَأَقُولُ أُمَّتِي أُمَّتِي قَالَ الدَّاوُدِيُّ لَا أُرَاهُ مَحْفُوظًا؛ لِأَنَّ الْخَلَائِقَ اجْتَمَعُوا وَاسْتَشْفَعُوا وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ هَذِهِ الْأُمَّةُ خَاصَّةً لَمْ تَذْهَبْ إِلَى غَيْرِ نَبِيِّهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْجَمِيعُ وَإِذَا كَانَتِ الشَّفَاعَةُ لَهُمْ فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ فَكَيْفَ يَخُصُّهَا بِقَوْلِهِ أُمَّتِي أُمَّتِي، ثُمَّ قَالَ: وَأَوَّلُ هَذَا الْحَدِيثِ لَيْسَ مُتَّصِلًا بِآخِرِهِ بَلْ بَقِيَ بَيْنَ طَلَبِهِمُ الشَّفَاعَةَ وَبَيْنَ قَوْلِهِ فَاشْفَعْ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أُمُورِ الْقِيَامَةِ.

قُلْتُ: وَقَدْ بَيَّنْتُ الْجَوَابَ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ عِنْدَ شَرْحِ الْحَدِيثِ بِمَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا وَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ بِأَنَّ مَعْنِي الْكَلَامِ فَيُؤْذَنُ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ الْمَوْعُودِ بِهَا فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ، وَقَوْلُهُ وَيُلْهِمُنِي ابْتِدَاءُ كَلَامٍ آخَرَ وَبَيَانٌ لِلشَّفَاعَةِ الْأُخْرَى الْخَاصَّةِ بِأُمَّتِهِ، وَفِي السِّيَاقِ اخْتِصَارٌ وَادَّعَى الْمُهَلَّبُ أَنَّ قَوْلَهُ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِي مِمَّا زَادَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ عَلَى سَائِرِ الرُّوَاةِ كَذَا قَالَ، وَهُوَ اجْتِرَاءٌ عَلَى الْقَوْلِ بِالظَّنِّ الَّذِي لَا يَسْتَنِدُ إِلَى دَلِيلٍ فَإِنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ حَرْبٍ لَمْ يَنْفَرِدْ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ بَلْ رَوَاهَا مَعَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَكَذَا أَبُو الرَّبِيعِ الزُّهْرَانِيُّ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَلَمْ يَسُقْ مُسْلِمٌ لَفْظَهُ وَيَحْيَى بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَرَبِيٍّ عِنْدَ النَّسَائِيِّ فِي التَّفْسِيرِ وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ حَسَّابٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ لُوَيْنٌ كِلَاهُمَا عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ كُلُّهُمْ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ شَيْخِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ فِيهِ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَكَذَا وَقَعَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ فِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَاضِيَةِ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدٍ وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي رِجَالِ الْبُخَارِيِّ وَلَا فِي رِجَالِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ أَحَدًا اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدٍ، وَالْمَعْرُوفُ مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ فَقِيلَ هُوَ الذُّهْلِيُّ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ فَارِسٍ نُسِبَ لِجَدِّ أَبِيهِ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ الْحَاكِمُ وَالْكَلَابَاذِيُّ، وَأَبُو مَسْعُودٍ، وَقِيلَ مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ جَبَلَةَ الرَّافِعِيُّ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ، وَخَلَفٌ الْوَاسِطِيُّ فِي الْأَطْرَافِ، وَقَدْ رَوَى هُنَا عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ بِالْوَاسِطَةِ، وَرَوَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ بِلَا وَاسِطَةٍ عِدَّةَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا فِي الْمَغَازِي وَالتَّفْسِيرِ وَالْفَرَائِضِ، وَمَنْصُورٌ فِي السَّنَدِ هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، وَإِبْرَاهِيمُ هُوَ النَّخَعِيُّ، وَعَبِيدَةُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ هُوَ ابْنُ عَمْرٍو السَّلْمَانِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَرِجَالُ سَنَدِ هَذَا إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى كُوفِيُّونَ.

قَوْلُهُ: إِنَّ آخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ) الْحَدِيثَ ذَكَرَهُ مُخْتَصَرًا جِدًّا وَقَدْ مَضَى بِتَمَامِهِ مَشْرُوحًا فِي الرِّقَاقِ، وَقَوْلُهُ كُلُّ ذَلِكَ يُعِيدُ عَلَيْهِ الْجَنَّةُ، فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فَكُلُّ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ عَشْرَ مِرَارٍ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ

ص: 476

عَشْرَ مَرَّاتٍ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ وَقَوْلُهُ قَالَ الْأَعْمَشُ: وَحَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ هُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الَّذِي قَبْلَهُ إِلَيْهِ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: جَاءَ حَبْرٌ مِنَ الْيَهُودِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وَتَقَدَّمَ كَلَامُ الْخَطَّابِيِّ فِي إِنْكَارِهِ تَارَةً وَفِي تَأْوِيلِهِ أُخْرَى، وَقَالَ أَيْضًا: الِاسْتِدْلَالُ بِالتَّبَسُّمِ وَالضَّحِكِ فِي مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ غَيْرُ سَائِغٍ مَعَ تَكَافُؤِ وَجْهَيِ الدَّلَالَةِ الْمُتَعَارِضَيْنِ فِيهِ، وَلَوْ صَحَّ الْخَبَرُ لَكَانَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ مِنْهُ مُتَأَوَّلًا عَلَى نَوْعٍ مِنَ الْمَجَازِ وَضَرْبٍ مِنَ التَّمْثِيلِ مِمَّا جَرَتْ عَادَةُ الْكَلَامِ بَيْنَ النَّاسِ فِي عُرْفِ تَخَاطُبِهِمْ فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ قُدْرَتَهُ عَلَى طَيِّهَا وَسُهُولَةِ الْأَمْرِ فِي جَمْعِهَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ جَمَعَ شَيْئًا فِي كَفِّهِ فَاسْتَخَفَّ حَمْلُهُ فَلَمْ يَشْتَمِلْ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ كَفِّهِ لَكِنَّهُ أَقَلَّهُ بِبَعْضِ أَصَابِعِهِ، وَقَدْ يَقُولُ الْإِنْسَانُ فِي الْأَمْرِ الشَّاقِّ إِذَا أُضِيفَ إِلَى الْقَوِيِّ: إِنَّهُ يَأْتِي عَلَيْهِ بِإِصْبَعٍ أَوْ إِنَّهُ يُقِلُّهُ بِخِنْصَرِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مِنْ تَخْلِيطِ الْيَهُودِ وَتَحْرِيفِهِمْ، وإِنَّ ضَحِكَهُ عليه الصلاة والسلام إِنَّمَا كَانَ عَلَى مَعْنَى التَّعَجُّبِ وَالنَّكِيرِ لَهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَقَالَ آدَمُ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي النَّجْوَى.

قَوْلُهُ: يَدْنُو أَحَدُكُمْ مِنْ رَبِّهِ) قَالَ ابْنُ التِّينِ: يَعْنِي يَقْرُبُ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَهُوَ سَائِغٌ فِي اللُّغَةِ يُقَالُ: فُلَانٌ قَرِيبُ مِنْ فُلَانٍ وَيُرَادُ الرُّتْبَةُ، وَمِثْلُهُ {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} وَقَوْلُهُ فَيَضَعُ كَنَفَهُ بِفَتْحِ الْكَافِ وَالنُّونِ بَعْدَهَا فَاءٌ الْمُرَادُ بِالْكَنَفِ السِّتْرُ، وَقَدْ جَاءَ مُفَسَّرًا بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَوَاءٍ، عَنْ قَتَادَةَ فَقَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: كَنَفُهُ سِتْرُهُ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تُحِيطُ بِهِ عِنَايَتُهُ التَّامَّةُ، وَمَنْ رَوَاهُ بِالْمُثَنَّاةِ الْمَكْسُورَةِ فَقَدْ صَحَّفَ عَلَى مَا جَزَمَ بِهِ جَمْعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ.

قَوْلُهُ: وَقَالَ آدَمُ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِلَى آخِرِهِ ذَكَرَ هَذِهِ الرِّوَايَةُ لِتَصْرِيحِ قَتَادَةَ فِيهَا بِقَوْلِهِ: حَدَّثَنَا صَفْوَانُ، وَهَكَذَا ذَكَرَهُ عَنْ آدَمَ فِي كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ.

(تَنْبِيهَانِ):

أَحَدُهُمَا لَيْسَ فِي أَحَادِيثِ الْبَابِ كَلَامُ الرَّبِّ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ وَسَائِرُ أَحَادِيثِ الْبَابِ فِي كَلَامِ الرَّبِّ مَعَ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِذَا ثَبَتَ كَلَامُهُ مَعَ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ فَوُقُوعُهُ لِلْأَنْبِيَاءِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. الثَّانِي: تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّرْجَمَةِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَيَخْتَصُّ بِالرُّكْنِ الثَّانِي مِنَ التَّرْجَمَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَغَيْرِهِمْ، وَأَمَّا سَائِرُهَا فَهُوَ شَامِلٌ لِلْأَنْبِيَاءِ وَلِغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى وَفْقِ التَّرْجَمَةِ.

‌37 - بَاب ما جاء في قَوْلِهِ {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}

7515 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنَا عُقَيْلٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ مُوسَى: أَنْتَ آدَمُ الَّذِي أَخْرَجْتَ ذُرِّيَّتَكَ مِنْ الْجَنَّةِ، قَالَ آدَمُ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَاتِهِ وَكَلَامِهِ ثُمَّ تَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِّرَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى.

7516 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُجْمَعُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُونَ لَوْ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا فَيُرِيحُنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ لَهُ أَنْتَ آدَمُ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَأَسْجَدَ لَكَ الْمَلَائِكَةَ وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا

ص: 477

فَيَقُولُ لَهُمْ لَسْتُ هُنَاكُمْ فَيَذْكُرُ لَهُمْ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ

7517 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ أَنَّهُ جَاءَهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ وَهُوَ نَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقَالَ أَوَّلُهُمْ أَيُّهُمْ هُوَ فَقَالَ أَوْسَطُهُمْ هُوَ خَيْرُهُمْ فَقَالَ آخِرُهُمْ خُذُوا خَيْرَهُمْ فَكَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَلَمْ يَرَهُمْ حَتَّى أَتَوْهُ لَيْلَةً أُخْرَى فِيمَا يَرَى قَلْبُهُ وَتَنَامُ عَيْنُهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ وَكَذَلِكَ الأَنْبِيَاءُ تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلَا تَنَامُ قُلُوبُهُمْ فَلَمْ يُكَلِّمُوهُ حَتَّى احْتَمَلُوهُ فَوَضَعُوهُ عِنْدَ بِئْرِ زَمْزَمَ فَتَوَلَاهُ مِنْهُمْ جِبْرِيلُ فَشَقَّ جِبْرِيلُ مَا بَيْنَ نَحْرِهِ إِلَى لَبَّتِهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَدْرِهِ وَجَوْفِهِ فَغَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ بِيَدِهِ حَتَّى أَنْقَى جَوْفَهُ ثُمَّ أُتِيَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ تَوْرٌ مِنْ ذَهَبٍ مَحْشُوًّا إِيمَانًا وَحِكْمَةً فَحَشَا بِهِ صَدْرَهُ وَلَغَادِيدَهُ يَعْنِي عُرُوقَ حَلْقِهِ ثُمَّ أَطْبَقَهُ ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَضَرَبَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِهَا فَنَادَاهُ أَهْلُ السَّمَاءِ مَنْ هَذَا فَقَالَ جِبْرِيلُ قَالُوا وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مَعِيَ مُحَمَّدٌ قَالَ وَقَدْ بُعِثَ قَالَ نَعَمْ قَالُوا فَمَرْحَبًا بِهِ وَأَهْلًا فَيَسْتَبْشِرُ بِهِ أَهْلُ السَّمَاءِ لَا يَعْلَمُ أَهْلُ السَّمَاءِ بِمَا يُرِيدُ اللَّهُ بِهِ فِي الأَرْضِ حَتَّى يُعْلِمَهُمْ فَوَجَدَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا آدَمَ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ هَذَا أَبُوكَ آدَمُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَرَدَّ عَلَيْهِ آدَمُ وَقَالَ مَرْحَبًا وَأَهْلًا بِابْنِي نِعْمَ الِابْنُ أَنْتَ فَإِذَا هُوَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِنَهَرَيْنِ يَطَّرِدَانِ فَقَالَ مَا هَذَانِ النَّهَرَانِ يَا جِبْرِيلُ قَالَ هَذَا النِّيلُ وَالْفُرَاتُ عُنْصُرُهُمَا ثُمَّ مَضَى بِهِ فِي السَّمَاءِ فَإِذَا هُوَ بِنَهَرٍ آخَرَ عَلَيْهِ قَصْرٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدٍ فَضَرَبَ يَدَهُ فَإِذَا هُوَ مِسْكٌ أَذْفَرُ قَالَ مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ قَالَ هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي خَبَأَ لَكَ رَبُّكَ ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ فَقَالَتْ الْمَلَائِكَةُ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَتْ لَهُ الأُولَى مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ قَالُوا وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم قَالُوا وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ نَعَمْ قَالُوا مَرْحَبًا بِهِ وَأَهْلًا ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ وَقَالُوا لَهُ مِثْلَ مَا قَالَتْ الأُولَى وَالثَّانِيَةُ ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى الرَّابِعَةِ فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ فَقَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ كُلُّ سَمَاءٍ فِيهَا أَنْبِيَاءُ قَدْ سَمَّاهُمْ فَأَوْعَيْتُ مِنْهُمْ إِدْرِيسَ فِي الثَّانِيَةِ وَهَارُونَ فِي الرَّابِعَةِ وَآخَرَ فِي الْخَامِسَةِ لَمْ أَحْفَظْ اسْمَهُ وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّادِسَةِ وَمُوسَى فِي السَّابِعَةِ بِتَفْضِيلِ كَلَامِ اللَّهِ فَقَالَ مُوسَى رَبِّ لَمْ أَظُنَّ أَنْ يُرْفَعَ عَلَيَّ أَحَدٌ ثُمَّ عَلَا بِهِ فَوْقَ ذَلِكَ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلاَّ اللَّهُ حَتَّى جَاءَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى وَدَنَا لِلْجَبَّارِ رَبِّ الْعِزَّةِ فَتَدَلَّى حَتَّى كَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى اللَّهُ فِيمَا أَوْحَى إِلَيْهِ خَمْسِينَ صَلَاةً عَلَى أُمَّتِكَ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ثُمَّ هَبَطَ حَتَّى بَلَغَ مُوسَى فَاحْتَبَسَهُ مُوسَى فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ مَاذَا عَهِدَ إِلَيْكَ رَبُّكَ قَالَ عَهِدَ إِلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ قَالَ إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ فَارْجِعْ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ رَبُّكَ وَعَنْهُمْ فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى جِبْرِيلَ كَأَنَّهُ يَسْتَشِيرُهُ فِي ذَلِكَ فَأَشَارَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ أَنْ نَعَمْ إِنْ شِئْتَ فَعَلَا بِهِ إِلَى الْجَبَّارِ فَقَالَ وَهُوَ مَكَانَهُ يَا رَبِّ خَفِّفْ عَنَّا فَإِنَّ أُمَّتِي لَا تَسْتَطِيعُ هَذَا فَوَضَعَ عَنْهُ عَشْرَ صَلَوَاتٍ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مُوسَى فَاحْتَبَسَهُ فَلَمْ

ص: 478

يَزَلْ يُرَدِّدُهُ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ حَتَّى صَارَتْ إِلَى خَمْسِ صَلَوَاتٍ ثُمَّ احْتَبَسَهُ مُوسَى عِنْدَ الْخَمْسِ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ لَقَدْ رَاوَدْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَوْمِي عَلَى أَدْنَى مِنْ هَذَا فَضَعُفُوا فَتَرَكُوهُ فَأُمَّتُكَ أَضْعَفُ أَجْسَادًا وَقُلُوبًا وَأَبْدَانًا وَأَبْصَارًا وَأَسْمَاعًا فَارْجِعْ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ رَبُّكَ كُلَّ ذَلِكَ يَلْتَفِتُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى جِبْرِيلَ لِيُشِيرَ عَلَيْهِ وَلَا يَكْرَهُ ذَلِكَ جِبْرِيلُ فَرَفَعَهُ عِنْدَ الْخَامِسَةِ فَقَالَ يَا رَبِّ إِنَّ أُمَّتِي ضُعَفَاءُ أَجْسَادُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ وَأَسْمَاعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَأَبْدَانُهُمْ فَخَفِّفْ عَنَّا فَقَالَ الْجَبَّارُ يَا مُحَمَّدُ قَالَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ قَالَ إِنَّهُ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ كَمَا فَرَضْتُهُ عَلَيْكَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ قَالَ فَكُلُّ حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا فَهِيَ خَمْسُونَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ وَهِيَ خَمْسٌ عَلَيْكَ فَرَجَعَ إِلَى مُوسَى فَقَالَ كَيْفَ فَعَلْتَ فَقَالَ خَفَّفَ عَنَّا أَعْطَانَا بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا قَالَ مُوسَى قَدْ وَاللَّهِ رَاوَدْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ فَتَرَكُوهُ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ أَيْضًا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَا مُوسَى قَدْ وَاللَّهِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي مِمَّا اخْتَلَفْتُ إِلَيْهِ قَالَ فَاهْبِطْ بِاسْمِ اللَّهِ قَالَ وَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ فِي مَسْجِدِ الْحَرَامِ.

قَوْلُهُ (بَابُ مَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ عز وجل: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} كَذَا لِأَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ وَمِثْلُهُ لِأَبِي ذَرٍّ لَكِنْ بِحَذْفِ لَفْظِ قَوْلِهِ عز وجل، وَلِغَيْرِهِمَا بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} قَالَ الْأَئِمَّةُ: هَذِهِ الْآيَةُ أَقْوَى مَا وَرَدَ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ، قَالَ النَّحَّاسُ: أَجْمَعَ النَّحْوِيُّونَ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ إِذَا أُكِّدَ بِالْمَصْدَرِ لَمْ يَكُنْ مَجَازًا؛ فَإِذَا قَالَ تَكْلِيمًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا عَلَى الْحَقِيقَةِ الَّتِي تُعْقَلُ، وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ كَلَامٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَكِنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ هَلْ سَمِعَهُ مُوسَى مِنَ اللَّهِ تَعَالَى حَقِيقَةً أَوْ مِنَ الشَّجَرَةِ؟ فَالتَّأْكِيدُ رَفَعُ الْمَجَازَ عَنْ كَوْنِهِ غَيْرَ كَلَامٍ أَمَّا الْمُتَكَلِّمُ بِهِ فَمَسْكُوتٌ عَنْهُ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاةِ الْمُحَدَّثِ عَنْهُ فَهُوَ لِرَفْعِ الْمَجَازِ عَنِ النِّسْبَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ نُسِبَ الْكَلَامُ فِيهَا إِلَى اللَّهِ فَهُوَ الْمُتَكَلِّمُ حَقِيقَةً، وَيُؤَكِّدُهُ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} وَأَجْمَعَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى أَنَّ كَلَّمَ هُنَا مِنَ الْكَلَامِ، وَنَقَلَ الْكَشَّافُ عَنْ بِدَعِ بَعْضِ التَّفَاسِيرِ أَنَّهُ مِنَ الْكَلْمِ بِمَعْنَى الْجُرْحِ وَهُوَ مَرْدُودٌ بِالْإِجْمَاعِ الْمَذْكُورِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: اخْتَلَفَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي سَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ فَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ: كَلَامُ اللَّهِ الْقَائِمُ بِذَاتِهِ يُسْمَعُ عِنْدَ تِلَاوَةِ كُلِّ تَالٍ وَقِرَاءَةِ كُلِّ قَارِئٍ، وَقَالَ الْبَاقِلَّانِيُّ: إِنَّمَا تُسْمَعُ التِّلَاوَةُ دُونَ الْمَتْلُوِّ وَالْقِرَاءَةُ دُونَ الْمَقْرُوءِ، وَتَقَدَّمَ فِي بَابِ {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} شَيْءٌ

مِنْ هَذَا وَأَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ أَنَّ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيَّ قَالَ: إِنِّي مُضَحٍ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا، وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ التَّوْحِيدِ أَنَّ سَلْمَ بْنَ أَحَوْزَ قَتَلَ جَهْمَ بْنَ صَفْوَانَ؛ لِأَنَّهُ أَنْكَرَ أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا، ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ.

أَحُدُهَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، وَقَدْ مَضَى شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ قَوْلُهُ أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَكَلَامِهِ وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ وَبِكَلَامِهِ.

ثَانِيهَا: حَدِيثُ أَنَسٍ فِي الشَّفَاعَةِ أَوْرَدَ مِنْهُ طَرَفًا مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى قَوْلِهِ فِي ذِكْرِ آدَمَ وَيَذْكُرُ لَهُمْ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ وَقَدْ مَضَى شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: أَرَادَ ذِكْرَ مُثوسَى قَالُوا لَهُ: وَكَلَّمَكَ اللَّهُ فَلَمْ يَذْكُرْهُ. قُلْتُ: جَرَى عَلَى عَادَتِهِ فِي الْإِشَارَةِ، وَقَدْ مَضَى فِي تَفْسِيرِ الْبَقَرَةِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ شَيْخِهِ هُنَا وَسَاقَهُ فِيهِ بِطُولِهِ، وَفِيهِ ائْتُوا مُوسَى عَبْدًا كَلَّمَهُ اللَّهُ وَأَعْطَاهُ التَّوْرَاةَ الْحَدِيثَ، وَمَضَى أَيْضًا فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ هَذَا فِي بَابِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}

ص: 479

عَنْ مُعَاذِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنْ هِشَامٍ بِهَذَا السَّنَدِ وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ أَيْضًا، وَفِيهِ ائْتُوا مُوسَى عَبْدًا آتَاهُ اللَّهُ التَّوْرَاةَ وَكَلَّمَهُ تَكْلِيمًا وَكَذَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فِي الشَّفَاعَةِ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ وَصَحَّحَهُ أَبُو عَوَانَةَ وَغَيْرُهُ فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُ انْطَلِقُوا إِلَى مُوسَى فَإِنَّ اللَّهَ كَلَّمَهُ تَكْلِيمًا وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مِنْهُ هَذَا الْقَدْرَ تَعْلِيقًا.

ثَالِثُهَا: حَدِيثُ أَنَسٍ فِي الْمِعْرَاجِ أَوْرَدَهُ مِنْ رِوَايَةِ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَيِ ابْنِ أَبِي نَمِرٍ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْمِيمِ وَهُوَ مَدَنِيٌّ تَابِعِيٌّ يُكْنَى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ النَّخَعِيِّ الْقَاضِي، وَقَدْ أَوْرَدَ بَعْضَ هَذَا الْحَدِيثِ فِي التَّرْجَمَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَأَوْرَدَ حَدِيثَ الْإِسْرَاءِ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ وَأَوْرَدَهُ مِنْ رِوَايَةِ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ وَفِي أَوَائِلِ الْبَعْثَةِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَشَرَحْتُهُ هُنَاكَ، وَأَخَّرْتُ مَا يَتَعَلَّقُ بِرِوَايَةِ شَرِيكٍ هَذِهِ هُنَا لِمَا اخْتَصَّتْ بِهِ مِنَ الْمُخَالَفَاتِ.

قَوْلُهُ: لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ، أَنَّهُ جَاءَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ إِذْ جَاءَ بَدَلَ أَنَّهُ جَاءَهُ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَالنَّفَرُ الثَّلَاثَةُ لَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَتِهِمْ صَرِيحًا لَكِنَّهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَأَخْلَقُ بِهِمْ أَنْ يَكُونُوا مَنْ ذُكِرَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الْمَاضِي فِي أَوَائِلِ الِاعْتِصَامِ بِلَفْظِ جَاءَتْ مَلَائِكَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ نَائِمٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ وَبَيَّنْتُ هُنَاكَ أَنَّ مِنْهُمْ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ ثُمَّ وَجَدْتُ التَّصْرِيحَ بِتَسْمِيَتِهِمَا فِي رِوَايَةِ مَيْمُونِ بْنِ سِيَاهٍ، عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَلَفْظُهُ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ فَقَالَا أَيُّهُمْ - وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَنَامُ حَوْلَ الْكَعْبَةِ - فَقَالَا أُمِرْنَا بِسَيِّدِهِمْ ثُمَّ ذَهَبَا ثُمَّ جَاءَا وَهُمْ ثَلَاثَةٌ فَأَلْقَوْهُ فَقَلَبُوهُ لِظَهْرِهِ وَقَوْلُهُ وَقَبْلَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ أَنْكَرَهَا الْخَطَّابِيُّ، وَابْنُ حَزْمٍ، وَعَبْدُ الْحَقِّ، وَالْقَاضِي عِيَاضٌ، وَالنَّوَوِيُّ وَعِبَارَةُ النَّوَوِيِّ: وَقَعَ فِي رِوَايَةِ شَرِيكٍ - يَعْنِي هَذِهِ - أَوْهَامٌ أَنْكَرَهَا الْعُلَمَاءُ أَحَدُهَا: قَوْلُهُ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ وَهُوَ غَلَطٌ لَمْ يُوَافَقْ عَلَيْهِ، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ فَرْضَ الصَّلَاةِ كَانَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ فَكَيْفَ يَكُونُ قَبْلَ الْوَحْيِ انْتَهَى.

وَصَرَّحَ الْمَذْكُورُونَ بِأَنَّ شَرِيكًا تَفَرَّدَ بِذَلِكَ، وَفِي دَعْوَى التَّفَرُّدِ نَظَرٌ فَقَدْ وَافَقَهُ كَثِيرُ بْنُ خُنَيْسٍ بِمُعْجَمَةٍ وَنُونٍ مُصَغَّرٌ عَنْ أَنَسٍ كَمَا أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي مِنْ طَرِيقِهِ.

قَوْلُهُ: (وَهُوَ نَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) قَدْ أَكَّدَ هَذَا بِقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَنَحْوُهُ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ وَقَدْ قَدَّمْتُ وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ مُخْتَلَفِ الرِّوَايَاتِ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ.

قَوْلُهُ: فَقَالَ أَوَّلُهُمْ أَيُّهُمْ هُوَ) فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ كَانَ نَائِمًا بَيْنَ جَمَاعَةٍ أَقَلُّهُمُ اثْنَانِ، وَقَدْ جَاءَ أَنَّهُ كَانَ نَائِمًا مَعَهُ حِينَئِذٍ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمُّهُ وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ابْنُ عَمِّهِ.

قَوْلُهُ: فَقَالَ أَحَدُهُمْ خُذُوا خَيْرَهُمْ فَكَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ) الضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي كَانَتْ لِمَحْذُوفٍ وَكَذَا خَبَرُ كَانَ وَالتَّقْدِيرُ: فَكَانَتِ الْقِصَّةُ الْوَاقِعَةُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ مَا ذُكِرَ هُنَا.

قَوْلُهُ (فَلَمْ يَرَهُمْ) أَيْ بَعْدَ ذَلِكَ (حَتَّى أَتَوْهُ لَيْلَةً أُخْرَى) وَلَمْ يُعَيِّنِ الْمُدَّةَ الَّتِي بَيْنَ الْمَجِيئَيْنِ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْمَجِيءَ الثَّانِيَ كَانَ بَعْدَ أَنْ أُوحِيَ إِلَيْهِ وَحِينَئِذٍ وَقَعَ الْإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ عِنْدَ شَرْحِهِ، وَإِذَا كَانَ بَيْنَ الْمَجِيئَيْنِ مُدَّةٌ فَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْمُدَّةُ لَيْلَةً وَاحِدَةً أَوْ لَيَالِيَ كَثِيرَةً أَوْ عِدَّةَ سِنِينَ، وَبِهَذَا يَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ عَنْ رِوَايَةِ شَرِيكٍ وَيَحْصُلُ بِهِ الْوِفَاقُ أَنَّ الْإِسْرَاءَ كَانَ فِي الْيَقَظَةِ بَعْدَ الْبَعْثَةِ وَقَبْلَ الْهِجْرَةِ وَيَسْقُطُ تَشْنِيعُ الْخَطَّابِيِّ، وَابْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِمَا بِأَنَّ شَرِيكًا خَالَفَ الْإِجْمَاعَ فِي دَعْوَاهُ أَنَّ الْمِعْرَاجَ كَانَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ اللَّيْلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ أَتَاهُ فِيهِمَا الْمَلَائِكَةُ سَبْعٌ وَقِيلَ ثَمَانٍ وَقِيلَ تِسْعٌ وَقِيلَ عَشْرٌ وَقِيلَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ فَيُحْمَلُ عَلَى إِرَادَةِ السِّنِينَ لَا كَمَا فَهِمَهُ الشَّارِحُ الْمَذْكُورُ أَنَّهَا لَيَالٍ، وَبِذَلِكَ

ص: 480

جَزَمَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ نَفْسِهِ وَأَقْوَى مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ أَنَّ الْمِعْرَاجَ بَعْدَ الْبَعْثَةِ قَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ نَفْسِهِ أَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لِبَوَّابِ السَّمَاءِ إِذْ قَالَ لَهُ أَبُعِثَ؟ قَالَ: نَعَمْ.

فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْمِعْرَاجَ كَانَ بَعْدَ الْبَعْثَةِ فَيَتَعَيَّنُ مَا ذَكَرْتُهُ مِنَ التَّأْوِيلِ وَأَقَلُّهُ قَوْلُهُ فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَإِنْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ جَازَ أَنْ يَكُونَ نَامَ بَعْدَ أَنْ هَبَطَ مِنَ السَّمَاءِ فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَجَازَ أَنْ يُؤَوَّلَ قَوْلُهُ اسْتَيْقَظَ أَيْ أَفَاقَ مِمَّا كَانَ فِيهِ فَإِنَّهُ كَانَ إِذَا أُوحِيَ إِلَيْهِ يَسْتَغْرِقُ فَإِذَا انْتَهَى. رَجَعَ إِلَى حَالَتِهِ الْأُولَى، فَكَنَّى عَنْهُ بِالِاسْتِيقَاظِ.

قَوْلُهُ (فِيمَا يَرَى قَلْبُهُ وَتَنَامُ عَيْنُهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي التَّرْجَمَةِ النَّبَوِيَّةِ.

قَوْلُهُ: فَلَمْ يُكَلِّمُوهُ حَتَّى احْتَمَلُوهُ) تَقَدَّمَ وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ فُرِجَ سَقْفُ بَيْتِي وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ بِأَنَّهُ كَانَ فِي الْحَطِيمِ عِنْدَ شَرْحِهِ بِنَاءً عَلَى اتِّحَادِ قِصَّةِ الْإِسْرَاءِ، أَمَّا إِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْإِسْرَاءَ كَانَ مُتَعَدِّدًا فَلَا إِشْكَالَ أَصْلًا.

قَوْلُهُ (فَشَقَّ جِبْرِيلُ مَا بَيْنَ نَحْرِهِ إِلَى لَبَّتِهِ) بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ وَهِيَ مَوْضِعُ الْقِلَادَةِ مِنَ الصَّدْرِ، وَمِنْ هُنَاكَ تُنْحَرُ الْإِبِلُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ شَرْحِهِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ شَقَّ الصَّدْرِ عِنْدَ الْإِسْرَاءِ وَزَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا وَقَعَ وَهُوَ صَغِيرٌ، وَبَيَّنْتُ أَنَّهُ ثَبَتَ كَذَلِكَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ شَرِيكٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ، وَأَنَّ شَقَّ الصَّدْرِ وَقَعَ أَيْضًا عِنْدَ الْبَعْثَةِ، كَمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ، وَذَكَرَ أَبُو بِشْرٍ الدُّولَابِيُّ بِسَنَدِهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَأَى فِي الْمَنَامِ أَنَّ بَطْنَهُ أُخْرِجَ ثُمَّ أُعِيدَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِخَدِيجَةَ الْحَدِيثَ. وَتَقَدَّمَ بَيَانُ الْحِكْمَةِ فِي تَعَدُّدِ ذَلِكَ وَوَقَعَ شَقُّ الصَّدْرِ الْكَرِيمِ أَيْضًا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ حِينَ كَانَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ وَهُوَ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ فِي زِيَادَاتِ الْمُسْنَدِ، وَتَقَدَّمَ الْإِلْمَامُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي التَّرْجَمَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَوَقَعَ فِي الشِّفَاءِ أَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لَمَّا غَسَلَ قَلْبَهُ: قَلْبٌ سَدِيدٌ فِيهِ عَيْنَانِ تُبْصِرَانِ وَأُذُنَانِ تَسْمَعَانِ.

قَوْلُهُ: ثُمَّ أَتَى بِطَسْتٍ مَحْشُوًّا) كَذَا وَقَعَ بِالنَّصْبِ وَأُعْرِبَ بِأَنَّهُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، وَالتَّقْدِيرُ بِطَسْتٍ كَائِنٍ مِنْ ذَهَبٍ فَنُقِلَ الضَّمِيرُ مِنَ اسْمِ الْفَاعِلِ إِلَى الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، وَتَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ بِلَفْظِ مَحْشُوٍّ بِالْجَرِّ عَلَى الصِّفَةِ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ إِيمَانًا فَمَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَقَوْلُهُ وَحِكْمَةً مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ (بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ تَوْرٍ مِنْ ذَهَبٍ) التَّوْرُ بِمُثَنَّاةٍ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الْوُضُوءِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ غَيْرُ الطَّسْتِ، وَأَنَّهُ كَانَ دَاخِلَ الطَّسْتِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ فِي شَرْحِ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ فِي الْإِسْرَاءِ أَنَّهُم غَسَلُوهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ مَحْفُوظَةً احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا فِيهِ مَاءُ زَمْزَمَ وَالْآخَرُ هُوَ الْمَحْشُوُّ بِالْإِيمَانِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ التَّوْرُ ظَرْفَ الْمَاءِ وَغَيْرِهِ، وَالطَّسْتُ لِمَا يُصَبُّ فِيهِ عِنْدَ الْغَسْلِ صِيَانَةً لَهُ عَنِ التَّبَدُّدِ فِي الْأَرْضِ وَجَرْيًا عَلَى الْعَادَةِ فِي الطَّسْتِ وَمَا يُوضَعُ فِيهِ الْمَاءُ.

قَوْلُهُ: فَحَشَا بِهِ صَدْرَهُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَحَشَا بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالشِّينِ. وَصَدْرَهُ بِالنَّصْبِ وَلِغَيْرِهِ بِضَمِّ الْحَاءِ وَكَسْرِ الشِّينِ وَصَدْرُهُ بِالرَّفْعِ.

قَوْلُهُ (وَلَغَادِيدَهُ) بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ فَسَّرَهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِأَنَّهَا عُرُوقُ حَلْقِهِ، وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ هِيَ اللَّحْمَاتُ الَّتِي بَيْنَ الْحَنَكِ وَصَفْحَةِ الْعُنُقِ، وَأَحَدُهَا لُغْدُودٌ وَلِغْدِيدٌ، وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا لُغْدٌ وَجَمْعُهُ أَلْغَادٌ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ أَطْبَقَهُ ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا) إِنْ كَانَتِ الْقِصَّةُ مُتَعَدِّدَةً فَلَا إِشْكَالَ وَإِنْ كَانَتْ مُتَّحِدَةً فَفِي هَذَا السِّيَاقِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ ثُمَّ أَرْكَبَهُ الْبُرَاقَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ أَتَى بِالْمِعْرَاجِ كَمَا فِي حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ فَغُسِلَ بِهِ قَلْبِي ثُمَّ حُشِيَ ثُمَّ أُعِيدَ ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ فَحُمِلْتُ عَلَيْهِ فَانْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الدُّنْيَا وَفِي سِيَاقِهِ أَيْضًا حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ حَتَّى أَتَى بِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ ثُمَّ أَتَى بِالْمِعْرَاجِ كَمَا فِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ رَفَعَهُ: أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَى بِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَرَبَطْتُهُ، ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ

ص: 481

ثُمَّ عُرِجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ.

قَوْلُهُ: فَاسْتَبْشَرَ بِهِ أَهْلُ السَّمَاءِ) كَأَنَّهُمْ كَانُوا أُعْلِمُوا أَنَّهُ سَيُعْرَجُ بِهِ فَكَانُوا مُتَرَقِّبِينَ لِذَلِكَ.

قَوْلُهُ (لَا يَعْلَمُ أَهْلُ السَّمَاءِ بِمَا يُرِيدُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مَا يُرِيدُ (اللَّهُ بِهِ فِي الْأَرْضِ حَتَّى يُعْلِمَهُمْ) أَيْ عَلَى لِسَانِ مَنْ شَاءَ كَجِبْرِيلَ.

قَوْلُهُ (فَإِذَا هُوَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِنَهَرَيْنِ يَطَّرِدَانِ) أَيْ يَجْرِيَانِ، وَظَاهِرُ هَذَا يُخَالِفُ حَدِيثَ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ، فَإِنَّ فِيهِ بَعْدَ ذِكْرِ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى فَإِذَا فِي أَصْلِهَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ وَيُجْمَعُ بِأَنَّ أَصْلَ نَبْعِهِمَا مِنْ تَحْتِ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَمَقَرَّهُمَا فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَمِنْهَا يَنْزِلَانِ إِلَى الْأَرْضِ، وَوَقَعَ هُنَا النِّيلُ وَالْفُرَاتُ عُنْصُرُهَا وَالْعُنْصُرُ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَتَيْنِ بَيْنَهُمَا نُونٌ سَاكِنَةٌ هُوَ الْأَصْلُ.

قَوْلُهُ: ثُمَّ مَضَى بِهِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَإِذَا هُوَ بِنَهَرٍ آخَرَ عَلَيْهِ قَصْرٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدٍ فَضَرَبَ يَدَهُ) أَيْ فِي النَّهَرِ (فَإِذَا هُوَ) أَيْ طِينُهُ (مِسْكٌ أَذْفَرُ، قَالَ مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي خَبَأَ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ مَهْمُوزٌ أَيِ ادَّخَرَ (لَكَ رَبُّكَ) وَهَذَا مِمَّا يُسْتَشْكَلُ مِنْ رِوَايَةِ شَرِيكٍ فَإِنَّ الْكَوْثَرَ فِي الْجَنَّةِ وَالْجَنَّةُ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسٍ رَفَعَهُ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَإِذَا أَنَا بِنَهَرٍ حَافَّتَاهُ خِيَامُ اللُّؤْلُؤِ فَضَرَبْتُ بِيَدَيَّ فِي مَجْرَى مِائِهِ فَإِذَا مِسْكٌ أَذْفَرُ فَقَالَ جِبْرِيلُ هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَصْلُ هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ بِنَحْوِهِ، وَقَدْ مَضَى فِي التَّفْسِيرِ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْجَنَّةِ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ وَلَفْظُهُ لَمَّا عُرِجَ بِنَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عُرِضَ لَهُ فِي الْجَنَّةِ نَهْرٌ الْحَدِيثَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ شَيْءٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: ثُمَّ مَضَى بِهِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا إِلَى السَّابِعَةِ فَإِذَا هُوَ بِنَهَرٍ.

قَوْلُهُ (كُلُّ سَمَاءٍ فِيهَا أَنْبِيَاءُ قَدْ سَمَّاهُمْ فَوَعَيْتُ مِنْهُمْ إِدْرِيسَ فِي الثَّانِيَةِ، وَهَارُونَ فِي الرَّابِعَةِ، وَآخَرَ فِي الْخَامِسَةِ وَلَمْ أَحْفَظِ اسْمَهُ، وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّادِسَةِ، وَمُوسَى فِي السَّابِعَةِ) كَذَا فِي رِوَايَةِ شَرِيكٍ، وَفِي حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ أَنَسٌ فَذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ فِي السَّمَاوَاتِ آدَمَ وَإِدْرِيسَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَإِبْرَاهِيمَ، وَلَمْ يَثْبُتْ كَيْفَ مَنَازِلُهُمْ غَيْرَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ آدَمَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ انْتَهَى. وَهَذَا مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ شَرِيكٍ فِي إِبْرَاهِيمَ وَهُمَا مُخَالِفَانِ لِرِوَايَةِ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَقَدْ قَدَّمْتُ فِي شَرْحِهِ أَنَّ الْأَكْثَرَ وَافَقُوا قَتَادَةَ وَسِيَاقُهُ يَدُلُّ عَلَى رُجْحَانِ رِوَايَتِهِ فَإِنَّهُ ضَبَطَ اسْمَ كُلِّ نَبِيٍّ وَالسَّمَاءِ الَّتِي هُوَ فِيهَا وَوَافَقَهُ ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ وَجَمَاعَةٍ ذَكَرْتُهُمْ هُنَاكَ فَهُوَ الْمُعْتَمَدُ لَكِنْ إِنْ قُلْنَا إِنَّ الْقِصَّةَ تَعَدَّدَتْ فَلَا تَرْجِيحَ وَلَا إِشْكَالَ.

قَوْلُهُ (وَمُوسَى فِي السَّابِعَةِ بِفَضْلِ كَلَامِهِ لِلَّهِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِتَفْضِيلِ كَلَامِ اللَّهِ وَهِيَ رِوَايَةُ الْأَكْثَرِ، وَهِيَ مُرَادُ التَّرْجَمَةِ وَالْمُطَابِقُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} وَهَذَا التَّعْلِيقُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَرِيكًا ضَبَطَ كَوْنَ مُوسَى فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ حَدِيثَ أَبِي ذَرٍّ يُوَافِقُهُ؛ لَكِنَّ الْمَشْهُورَ فِي الرِّوَايَاتِ أَنَّ الَّذِي فِي السَّابِعَةِ هُوَ إِبْرَاهِيمُ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ بِأَنَّهُ كَانَ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ فَمَعَ التَّعَدُّدِ لَا إِشْكَالَ وَمَعَ الِاتِّحَادِ فَقَدْ جُمِعَ بِأَنَّ مُوسَى كَانَ فِي حَالَةِ الْعُرُوجِ فِي السَّادِسَةِ وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّابِعَةِ عَلَى ظَاهِرِ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ وَعِنْدَ الْهُبُوطِ كَانَ مُوسَى فِي السَّابِعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْقِصَّةِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَلَّمَهُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِهِ مِنَ الصَّلَاةِ كَمَا كَلَّمَهُ مُوسَى، وَالسَّمَاءُ السَّابِعَةُ هِيَ أَوَّلُ شَيْءٍ انْتَهَى إِلَيْهِ حَالَةَ الْهُبُوطِ فَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ مُوسَى بِهَا؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَاطَبَهُ فِي ذَلِكَ كَمَا ثَبَتَ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لَقِيَ مُوسَى فِي السَّادِسَةِ فَأُصْعِدَ مَعَهُ إِلَى السَّابِعَةِ تَفْضِيلًا لَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَجْلِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَظَهَرَتْ فَائِدَةُ ذَلِكَ فِي كَلَامِهِ مَعَ الْمُصْطَفَى فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ أُمَّتِهِ فِي الصَّلَاةِ، وَقَدْ أَشَارَ النَّوَوِيُّ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

قَوْلُهُ (فَقَالَ

ص: 482

مُوسَى رَبِّ لَمْ أَظُنَّ أَنْ تَرْفَعَ عَلَيَّ أَحَدًا) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ فِي تَرْفَعَ، وَأَحَدًا بِالنَّصْبِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَنْ يُرْفَعَ بِضَمِّ التَّحْتَانِيَّةِ أَوَّلِهِ وَأَحَدٌ بِالرَّفْعِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فَهِمَ مُوسَى مِنَ اخْتِصَاصِهِ بِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ فِي الدُّنْيَا دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْبَشَرِ لِقَوْلِهِ {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِ وَبِكَلامِي} أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ هُنَا الْبَشَرُ كُلُّهُمْ وَأَنَّهُ اسْتَحَقَّ بِذَلِكَ أَنْ لَا يُرْفَعَ أَحَدٌ عَلَيْهِ، فَلَمَّا فَضَّلَ اللَّهُ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِمَا أَعْطَاهُ مِنَ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ وَغَيْرِهِ ارْتَفَعَ عَلَى مُوسَى وَغَيْرِهِ بِذَلِكَ ثُمَّ ذَكَرَ الِاخْتِلَافَ فِي أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى فِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ كَلَّمَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ أَوْ بِوَاسِطَةٍ، وَالْخِلَافُ فِي وُقُوعِ الرُّؤْيَةِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِعَيْنِ رَأْسِهِ أَوْ بِعَيْنِ قَلْبِهِ فِي الْيَقَظَةِ أَوْ فِي الْمَنَامِ، وَقَدْ مَضَى بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النَّجْمِ بِمَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَتِهِ.

قَوْلُهُ: ثُمَّ عَلَا بِهِ فَوْقَ ذَلِكَ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ حَتَّى جَاءَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى) كَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ شَرِيك وَهُوَ مِمَّا خَالَفَ فِيهِ غَيْرَهُ، فَإِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى فِي السَّابِعَةِ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ فِي السَّادِسَةِ، وَقَدْ قَدَّمْتُ وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا عِنْدَ شَرْحِهِ، وَلَعَلَّ فِي السِّيَاقِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَكَانَ ذِكْرُ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى قَبْلُ ثُمَّ عَلَا بِهِ فَوْقَ ذَلِكَ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ ثُمَّ عَرَجَ بِي حَتَّى ظَهَرْتَ بِمُسْتَوًى أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْمُسْتَوَى وَالصَّرِيفِ عِنْدَ شَرْحِهِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَيْمُونِ بْنِ سِيَاهٍ، عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ بَعْدَ ذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ فِي السَّابِعَةِ فَإِذَا هُوَ بِنَهَرٍ فَذَكَرَ أَمْرَ الْكَوْثَرِ قَالَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَهَذَا مُوَافِقٌ لِلْجُمْهُورِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةُ مِنَ الْعُلُوِّ الْبَالِغِ لِسِدْرَةِ الْمُنْتَهَى صِفَةُ أَعْلَاهَا وَمَا تَقَدَّمَ صِفَةُ أَصْلِهَا.

قَوْلُهُ (وَدَنَا الْجَبَّارُ رَبُّ الْعِزَّةِ فَتَدَلَّى حَتَّى كَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) فِي رِوَايَةِ مَيْمُونٍ الْمَذْكُورَةِ فَدَنَا رَبُّكَ عز وجل فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى قَالَ الْخَطَّابِيُّ لَيْسَ فِي هَذَا الْكِتَابِ - يَعْنِي صَحِيحَ الْبُخَارِيِّ - حَدِيثٌ أَشْنَعُ ظَاهِرًا وَلَا أَشْنَعُ مَذَاقًا مِنْ هَذَا الْفَصْلِ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي تَحْدِيدَ الْمَسَافَةِ بَيْنَ أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ وَبَيْنَ الْآخَرِ وَتَمْيِيزُ مَكَانِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، هَذَا إِلَى مَا فِي التَّدَلِّي مِنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ لَهُ بِالشَّيْءِ الَّذِي تَعَلَّقَ مِنْ فَوْقٍ إِلَى أَسْفَلَ، قَالَ: فَمَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ إِلَّا هَذَا الْقَدْرُ مَقْطُوعًا عَنْ غَيْرِهِ وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ بِأَوَّلِ الْقِصَّةِ وَآخِرِهَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ وَجْهُهُ وَمَعْنَاهُ وَكَانَ قُصَارَاهُ مَا رَدَّ الْحَدِيثَ مِنْ أَصْلِهِ، وَأَمَّا الْوُقُوعُ فِي التَّشْبِيهِ وَهُمَا خُطَّتَانِ مَرْغُوبٌ عَنْهُمَا، وَأَمَّا مَنِ اعْتَبَرَ أَوَّلَ الْحَدِيثِ بِآخِرِهِ فَإِنَّهُ يَزُولُ عَنْهُ الْإِشْكَالُ فَإِنَّهُ مُصَرَّحٌ فِيهِمَا بِأَنَّهُ كَانَ رُؤْيَا لِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِهِ وَهُوَ نَائِمٌ وَفِي آخِرِهِ اسْتَيْقَظَ وَبَعْضُ الرُّؤْيَا مَثَلَ يُضْرَبُ لِيُتَأَوَّلَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُصْرَفَ إِلَيْهِ مَعْنَى التَّعْبِيرِ فِي مِثْلِهِ، وَبَعْضُ الرُّؤْيَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ بَلْ يَأْتِي كَالْمُشَاهَدَةِ.

قُلْتُ: وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى مَنْ تَعَقَّبَ كَلَامَهُ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: إِنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَعْبِيرٍ؛ لِأَنَّهُ كَلَامُ مَنْ لَمْ يُمْعِنِ النَّظَرَ فِي هَذَا الْمَحَلِّ، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ التَّعْبِيرِ أَنَّ بَعْضَ مَرْأَى الْأَنْبِيَاءِ يَقْبَلُ التَّعْبِيرَ، وَتَقَدَّمَ مِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ قَوْلُ الصَّحَابَةِ لَهُ صلى الله عليه وسلم فِي رُؤْيَةِ الْقَمِيصِ فَمَا أَوَّلْتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الدِّينُ، وَفِي رُؤْيَةِ اللَّبَنِ؟ قَالَ: الْعِلْمُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَكِنْ جَزَمَ الْخَطَّابِيُّ بِأَنَّهُ كَانَ فِي الْمَنَامِ مُتَعَقَّبٌ بِمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ قَبْلُ، ثُمَّ قَالَ الْخَطَّابِيُّ مُشِيرًا إِلَى رَفْعِ الْحَدِيثِ مِنْ أَصْلِهِ بِأَنَّ الْقِصَّةَ بِطُولِهَا إِنَّمَا هِيَ حِكَايَةٌ يَحْكِيهَا أَنَسٌ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ لَمْ يَعْزُهَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا نَقَلَهَا عَنْهُ وَلَا أَضَافَهَا إِلَى قَوْلِهِ، فَحَاصِلُ الْأَمْرِ فِي النَّقْلِ أَنَّهَا مِنْ جِهَةِ الرَّاوِي إِمَّا مِنْ أَنَسٍ وَإِمَّا مِنْ شَرِيكٍ فَإِنَّهُ كَثِيرُ التَّفَرُّدِ بِمَنَاكِيرِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَا يُتَابِعُهُ عَلَيْهَا سَائِرُ الرُّوَاةِ انْتَهَى.

وَمَا نَفَاهُ مِنْ أَنَّ أَنَسًا لَمْ يُسْنِدْ هَذِهِ الْقِصَّةَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا تَأْثِيرَ لَهُ، فَأَدْنَى أَمْرِهِ فِيهَا أَنْ يَكُونَ مُرْسَلَ صَحَابِيٍّ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَلَقَّاهَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

ص: 483

أَوْ عَنْ صَحَابِيٍّ تَلَقَّاهَا عَنْهُ، وَمِثْلُ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ لَا يُقَالُ بِالرَّأْيِ فَيَكُونُ لَهَا حُكْمُ الرَّفْعِ، وَلَوْ كَانَ لِمَا ذَكَرَهُ تَأْثِيرٌ لَمْ يُحْمَلْ حَدِيثُ أَحَدٍ رَوَى مِثْلَ ذَلِكَ عَلَى الرَّفْعِ أَصْلًا وَهُوَ خِلَافُ عَمَلِ الْمُحَدِّثِينَ قَاطِبَةً، فَالتَّعْلِيلُ بِذَلِكَ مَرْدُودٌ، ثُمَّ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّ الَّذِي وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مِنْ نِسْبَةِ التَّدَلِّي لِلْجَبَّارِ عز وجل مُخَالِفٌ لِعَامَّةِ السَّلَفِ وَالْعُلَمَاءِ وَأَهْلِ التَّفْسِيرِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْهُمْ وَمَنْ تَأَخَّرَ، قَالَ: وَالَّذِي قِيلَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ دَنَا جِبْرِيلُ مِنْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَتَدَلَّى أَيْ تَقَرَّبَ مِنْهُ، وَقِيلَ هُوَ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ: أَيْ تَدَلَّى فُلَانًا؛ لِأَنَّ التَّدَلِّيَ بِسَبَبِ الدُّنُوِّ، الثَّانِي تَدَلَّى لَهُ جِبْرِيلُ بَعْدَ الِانْتِصَابِ وَالِارْتِفَاعِ حَتَّى رَآهُ مُتَدَلِّيًا كَمَا رَآهُ مُرْتَفِعًا، وَذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ حَيْثُ أَقْدَرَهُ عَلَى أَنْ يَتَدَلَّى فِي الْهَوَاءِ مِنْ غَيْرِ اعْتِمَادٍ عَلَى شَيْءٍ وَلَا تَمَسُّكٍ بِشَيْءٍ، الثَّالِثُ: دَنَا جِبْرِيلُ فَتَدَلَّى مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم سَاجِدًا لِرَبِّهِ تَعَالَى شُكْرًا عَلَى مَا أَعْطَاهُ، قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ أَنَسٍ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ شَرِيكٍ فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الشَّنِيعَةَ، وَذَلِكَ مِمَّا يُقَوِّي الظَّنَّ أَنَّهَا صَادِرَةٌ مِنْ جِهَةِ شَرِيكٍ انْتَهَى. وَقَدْ أَخْرَجَ الْأُمَوِيُّ فِي مَغَازِيهِ وَمِنْ طَرِيقِهِ الْبَيْهَقِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} قَالَ دَنَا مِنْهُ رَبُّهُ، وَهَذَا سَنَدٌ حَسَنٌ وَهُوَ شَاهِدٌ قَوِيٌّ لِرِوَايَةِ شَرِيكٍ، ثُمَّ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ لَفْظَةٌ أُخْرَى تَفَرَّدَ بِهَا شَرِيكٌ أَيْضًا لَمْ يَذْكُرْهَا غَيْرُهُ وَهِيَ قَوْلُهُ: فَعَلَا بِهِ - يَعْنِي جِبْرِيلَ - إِلَى الْجَبَّارِ تَعَالَى فَقَالَ وَهُوَ مَكَانُهُ: يَا رَبِّ خَفِّفْ عَنَّا قَالَ وَالْمَكَانُ لَا يُضَافُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا هُوَ مَكَانُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي مَقَامِهِ الْأَوَّلِ الَّذِي قَامَ فِيهِ قَبْلَ هُبُوطِهِ انْتَهَى.

وَهَذَا الْأَخِيرُ مُتَعَيَّنٌ وَلَيْسَ فِي السِّيَاقِ تَصْرِيحٌ بِإِضَافَةِ الْمَكَانِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا مَا جَزَمَ بِهِ مِنْ مُخَالَفَةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ لِرِوَايَةِ شَرِيكٍ، عَنْ أَنَسٍ فِي التَّدَلِّي فَفِيهِ نَظَرٌ، فَقَدْ ذَكَرْتُ مَنْ وَافَقَهُ، وَقَدْ نَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ دَنَا اللَّهُ سبحانه وتعالى قَالَ وَالْمَعْنَى دَنَا أَمْرُهُ وَحُكْمُهُ، وَأَصْلُ التَّدَلِّي النُّزُولُ إِلَى الشَّيْءِ حَتَّى يَقْرُبَ مِنْهُ، قَالَ: وَقِيلَ تَدَلَّى الرَّفْرَفُ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم حَتَّى جَلَسَ عَلَيْهِ، ثُمَّ دَنَا مُحَمَّدٌ مِنْ رَبِّهِ انْتَهَى.

وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النَّجْمِ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ رَآهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى جِبْرِيلَ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ، وَمَضَى بَسْطُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ هُنَاكَ، وَنَقَلَ الْبَيْهَقِيُّ نَحْوَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: فَاتَّفَقَتْ رِوَايَاتُ هَؤُلَاءِ عَلَى ذَلِكَ، وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} ثُمَّ نُقِلَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي عَبْدِهِ لِجِبْرِيلَ، وَالتَّقْدِيرُ: فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى جِبْرِيلَ، وَعَنِ الْفَرَّاءِ التَّقْدِيرُ: فَأَوْحَى جِبْرِيلُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدٍ مَا أَوْحَى، وَقَدْ أَزَالَ الْعُلَمَاءُ إِشْكَالَهُ فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الشِّفَاءِ: إِضَافَةُ الدُّنُوِّ وَالْقُرْبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْ مِنَ اللَّهِ لَيْسَ دُنُوَّ مَكَانٍ وَلَا قُرْبَ زَمَانٍ وَإِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِبَانَةٌ لِعَظِيمِ مَنْزِلَتِهِ وَشَرِيفِ رُتْبَتِهِ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ عز وجل تَأْنِيسٌ لِنَبِيِّهِ وَإِكْرَامٌ لَهُ، وَيُتَأَوَّلُ فِيهِ مَا قَالُوهُ فِي حَدِيثِ: يَنْزِلُ رَبُّنَا إِلَى السَّمَاءِ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ: مَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَقَالَ غَيْرُهُ: الدُّنُوُّ مَجَازٌ عَنِ الْقُرْبِ الْمَعْنَوِيِّ لِإِظْهَارِ عَظِيمِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ رَبِّهِ تَعَالَى، وَالتَّدَلِّي طَلَبُ زِيَادَةِ الْقُرْبِ، وَقَابَ قَوْسَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِبَارَةٌ عَنْ لُطْفِ الْمَحَلِّ وَإِيضَاحِ الْمَعْرِفَةِ وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ إِجَابَةُ سُؤَالِهِ وَرَفْعُ دَرَجَتِهِ، وَقَالَ عَبْدُ الْحَقِّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ زَادَ فِيهِ - يَعْنِي شَرِيكًا - زِيَادَةٌ مَجْهُولَةٌ وَأَتَى فِيهِ بِأَلْفَاظِ غَيْرِ مَعْرُوفَةٍ،

وَقَدْ رَوَى الْإِسْرَاءَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ فَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِمَا أَتَى بِهِ شَرِيكٌ، وَشَرِيكٌ لَيْسَ بِالْحَافِظِ وَسَبَقَ إِلَى ذَلِكَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٌ فِيمَا حَكَاهُ الْحَافِظُ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ طَاهِرٍ فِي جُزْءٍ جَمَعَهُ سَمَّاهُ الِانْتِصَارُ لِأَيَامَى الْأَمْصَارِ فَنَقَلَ فِيهِ عَنِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنِ ابْنِ حَزْمٍ قَالَ: لَمْ نَجِدْ لِلْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ فِي كِتَابَيْهِمَا شَيْئًا لَا يَحْتَمِلُ مَخْرَجًا إِلَّا حَدِيثَيْنِ ثُمَّ غَلَبَهُ فِي تَخْرِيجِهِ الْوَهْمُ مَعَ إِتْقَانِهِمَا وَصِحَّةِ مَعْرِفَتِهِمَا فَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ، وَقَالَ: فِيهِ أَلْفَاظٌ مُعْجَمَةٌ وَالْآفَةُ

ص: 484

مِنْ شَرِيكٍ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ وَأَنَّهُ حِينَئِذٍ فُرِضَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ قَالَ: وَهَذَا لَا خِلَافَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِنَّمَا كَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ وَبَعْدَ أَنْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِنَحْوِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةٍ، ثُمَّ قَوْلُهُ إِنَّ الْجَبَّارَ دَنَا فَتَدَلَّى حَتَّى كَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى وَعَائِشَةُ رضي الله عنها تَقُولُ: إِنَّ الَّذِي دَنَا فَتَدَلَّى جِبْرِيلُ انْتَهَى.

وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ طَاهِرٍ: تَعْلِيلُ الْحَدِيثِ بِتَفَرُّدِ شَرِيكٍ، وَدَعْوَى ابْنِ حَزْمٍ أَنَّ الْآفَةَ مِنْهُ شَيْءٍ لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ فَإِنَّ شَرِيكًا قَبِلَهُ أَئِمَّةُ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَوَثَّقُوهُ وَرَوَوْا عَنْهُ وَأَدْخَلُوا حَدِيثَهُ فِي تَصَانِيفِهِمْ وَاحْتَجُّوا بِهِ، وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الدَّوْرَقِيُّ وَعُثْمَانُ الدَّارِمِيُّ وَعَبَّاسٌ الدَّوْرِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ لَا بَأْسَ بِهِ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ مَشْهُورٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ حَدَّثَ عَنْهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنَ الثِّقَاتِ، وَحَدِيثُهُ إِذَا رَوَى عَنْهُ ثِقَةٌ لَا بَأْسَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ ضَعِيفٌ، قَالَ ابْنُ طَاهِرٍ: وَحَدِيثُهُ هَذَا رَوَاهُ عَنْهُ ثِقَةٌ وَهُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، قَالَ وَعَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ تَفَرُّدِهِ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ لَا يَقْتَضِي طَرْحَ حَدِيثِهِ فَوَهْمُ الثِّقَةِ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْحَدِيثِ لَا يُسْقِطُ جَمِيعَ الْحَدِيثِ وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْوَهْمُ لَا يَسْتَلْزِمُ ارْتِكَابَ مَحْذُورٍ وَلَوْ تُرِكَ حَدِيثُ مَنْ وَهَمَ فِي تَارِيخٍ لَتُرِكَ حَدِيثُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ بَعْدَ أَنْ أُوحِيَ إِلَيْهِ فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ انْتَهَى.

وَقَدْ سَبَقَ إِلَى التَّنْبِيهِ عَلَى مَا فِي رِوَايَةِ شَرِيكٍ مِنَ الْمُخَالَفَةِ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ أَنْ سَاقَ سَنَدَهُ وَبَعْضَ الْمَتْنِ، ثُمَّ قَالَ: فَقَدَّمَ وَأَخَّرَ وَزَادَ وَنَقَصَ وَسَبَقَ ابْنَ حَزْمٍ أَيْضًا إِلَى الْكَلَامِ فِي شَرِيكٍ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ كَمَا قَدَّمْتُهُ، وَقَالَ فِيهِ النَّسَائِيُّ، وَأَبُو مُحَمَّدِ بْنُ الْجَارُودِ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَكَانَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ لَا يُحَدِّثُ عَنْهُ، نَعَمْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ: ثِقَةٌ فَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَإِذَا تَفَرَّدَ عُدَّ مَا يَنْفَرِدُ بِهِ شَاذًّا وَكَذَا مُنْكَرًا عَلَى رَأْيِ مَنْ يَقُولُ: الْمُنْكَرُ وَالشَّاذُّ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَالْأَوْلَى الْتِزَامُ وُرُودِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي خَالَفَ فِيهَا غَيْرَهُ، وَالْجَوَابُ عَنْهَا إِمَّا بِدَفْعِ تَفَرُّدِهِ وَإِمَّا بِتَأْوِيلِهِ عَلَى وِفَاقِ الْجَمَاعَةِ، وَمَجْمُوعُ مَا خَالَفَتْ فِيهِ رِوَايَةُ شَرِيكٍ غَيْرَهُ مِنَ الْمَشْهُورِينَ عَشَرَةُ أَشْيَاءَ بَلْ تَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ.

الْأَوَّلُ: أَمْكِنَةُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي السَّمَاوَاتِ وَقَدْ أَفْصَحَ بِأَنَّهُ لَمْ يَضْبِطْ مَنَازِلَهُمْ وَقَدْ وَافَقَهُ الزُّهْرِيُّ فِي بَعْضِ مَا ذَكَرَ كَمَا سَبَقَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ.

وَالثَّانِي: كَوْنُ الْمِعْرَاجِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَقَدْ سَبَقَ الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ، وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ عَنْ قَوْلِهِ قَبْلَ أَنْ يُوحَى بِأَنَّ الْقَبْلِيَّةَ هُنَا فِي أَمْرٍ مَخْصُوصٍ وَلَيْسَتْ مُطْلَقَةً وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ مَثَلًا أَيْ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ بَغْتَةً قَبْلَ أَنْ يُنْذَرَ بِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ: فُرِجَ سَقْفُ بَيْتِي.

الثَّالِثُ: كَوْنُهُ مَنَامًا وَقَدْ سَبَقَ الْجَوَابُ عَنْهُ أَيْضًا بِمَا فِيهِ غُنْيَةٌ.

الرَّابِعُ: مُخَالَفَتُهُ فِي مَحَلِّ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَأَنَّهَا فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا فِي السَّابِعَةِ أَوِ السَّادِسَةِ كَمَا تَقَدَّمَ.

الْخَامِسُ: مُخَالَفَتُهُ فِي النَّهَرَيْنِ وَهُمَا النِّيلُ وَالْفُرَاتُ وَأَنَّ عُنْصُرَهُمَا فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَالْمَشْهُورُ فِي غَيْرِ رِوَايَتِهِ أَنَّهُمَا فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَأَنَّهُمَا مِنْ تَحْتِ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى.

السَّادِسُ: شَقُّ الصَّدْرِ عِنْدَ الْإِسْرَاءِ وَقَدْ وَافَقَتْهُ رِوَايَةُ غَيْرِهِ كَمَا بَيَّنْتُ ذَلِكَ فِي شَرْحِ رِوَايَةِ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَقَدْ أَشَرْتُ إِلَيْهِ أَيْضًا هُنَا.

السَّابِعُ: ذِكْرُ نَهْرِ الْكَوْثَرِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَالْمَشْهُورُ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ فِي الْجَنَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ.

الثَّامِنُ: نِسْبَةُ الدُّنُوِّ وَالتَّدَلِّي إِلَى اللَّهِ عز وجل وَالْمَشْهُورُ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ جِبْرِيلُ كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ.

التَّاسِعُ: تَصْرِيحُهُ بِأَنَّ امْتِنَاعَهُ صلى الله عليه وسلم مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى سُؤَالِ رَبِّهِ التَّخْفِيفَ كَانَ عِنْدَ الْخَامِسَةِ، وَمُقْتَضَى رِوَايَةِ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ التَّاسِعَةِ.

الْعَاشِرُ: قَوْلُهُ فَعَلَا بِهِ الْجَبَّارُ فَقَالَ وَهُوَ مَكَانَهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ.

الْحَادِي عَشَرَ: رُجُوعُهُ بَعْدَ الْخَمْسِ، وَالْمَشْهُورُ فِي الْأَحَادِيثِ أَنَّ مُوسَى عليه الصلاة والسلام أَمَرَهُ بِالرُّجُوعِ بَعْدَ أَنِ انْتَهَى التَّخْفِيفُ إِلَى الْخَمْسِ فَامْتَنَعَ كَمَا

ص: 485

سَأُبَيِّنُهُ.

الثَّانِي عَشَرَ: زِيَادَةُ ذِكْرِ التَّوْرِ فِي الطَّسْتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ فَهَذِهِ أَكْثَرُ مِنْ عَشَرَةِ مَوَاضِعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَمْ أَرَهَا مَجْمُوعَةً فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِمَّنْ تَقَدَّمَ، وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ إِشْكَالَ مَنِ اسْتَشْكَلَهُ وَالْجَوَابَ عَنْهُ إِنْ أَمْكَنَ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، وَقَدْ جَزَمَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ بِأَنَّ فِي رِوَايَةِ شَرِيكٍ عَشَرَةُ أَوْهَامٍ لَكِنْ عَدَّ مُخَالَفَتَهُ لِمَحَالِّ الْأَنْبِيَاءِ أَرْبَعَةً مِنْهَا وَأَنَا جَعَلْتُهَا وَاحِدَةً فَعَلَى طَرِيقَتِهِ تَزِيدُ الْعِدَّةُ ثَلَاثَةً، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

قَوْلُهُ: مَاذَا عَهِدَ إِلَيْكَ رَبُّكَ) أَيْ أَمَرَكَ أَوْ أَوْصَاكَ (قَالَ عَهِدَ إِلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً) فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ عَهِدَ إِلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ وَآمُرَ أُمَّتِي أَنْ يُصَلُّوا خَمْسِينَ صَلَاةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ اخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ.

قَوْلُهُ: فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى جِبْرِيلَ كَأَنَّهُ يَسْتَشِيرُهُ فِي ذَلِكَ فَأَشَارَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ أَيْ نَعَمْ) فِي رِوَايَةِ أَنْ نَعَمْ وَأَنْ بِالْفَتْحِ وَالتَّخْفِيفِ مُفَسِّرَةٌ فَهِيَ فِي الْمَعْنَى هُنَا مِثْلُ أَيْ وَهِيَ بِالتَّخْفِيفِ.

قَوْلُهُ: إِنْ شِئْتَ) يُقَوِّي مَا ذَكَرْتُهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم فَهِمَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْخَمْسِينَ لَمْ يَكُنْ عَلَى سَبِيلِ الْحَتْمِ.

قَوْلُهُ: فَعَلَا بِهِ إِلَى الْجَبَّارِ) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ عِنْدَ شَرْحِ قَوْلِهِ فَتَدَلَّى، وَقَوْلُهُ فَقَالَ وَهُوَ مَكَانُهُ تَقَدَّمَ أَيْضًا بَحْثُ الْخَطَّابِيِّ فِيهِ وَجَوَابُهُ.

قَوْلُهُ (وَاللَّهُ لَقَدْ رَاوَدْت بَنِي إِسْرَائِيلَ قَوْمِي عَلَى أَدْنَى مِنْ هَذِهِ) أَيِ الْخَمْسُ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مِنْ هَذَا أَيِ الْقَدْرُ (فَضَعُفُوا فَتَرَكُوهُ) أَمَّا قَوْلُهُ رَاوَدْتُ فَهُوَ مِنَ الرَّوْدِ مِنْ رَادَ يَرُودُ إِذَا طَلَبَ الْمَرْعَى وَهُوَ الرَّائِدُ، ثُمَّ اشْتُهِرَ فِيمَا يُرِيدُ الرِّجَالُ مِنَ النِّسَاءِ، وَاسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ مَطْلُوبٍ وَأَمَّا قَوْلُهُ أَدْنَى فَالْمُرَادُ بِهِ أَقَلُّ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ، عَنْ أَنَسٍ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ تَعْيِينُ ذَلِكَ وَلَفْظُهُ: فَرَضَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ صَلَاتَانِ فَمَا قَامُوا بِهِمَا.

قَوْلُهُ: فَأُمَّتُكَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَأُمَّتُكَ، (أَضْعَفُ أَجْسَادًا) أَيْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ.

قَوْلُهُ (أَضْعَفُ أَجْسَادًا وَقُلُوبًا وَأَبْدَانًا) الْأَجْسَامُ وَالْأَجْسَادُ سَوَاءٌ، وَالْجِسْمُ وَالْجَسَدُ جَمِيعُ الشَّخْصِ وَالْأَجْسَامُ أَعَمُّ مِنَ الْأَبْدَانِ؛ لِأَنَّ الْبَدَنَ مِنَ الْجَسَدِ مَا سِوَى الرَّأْسِ وَالْأَطْرَافِ، وَقِيلَ الْبَدَنُ أَعَالِي الْجَسَدِ دُونَ أَسَافِلِهِ.

قَوْلُهُ: كُلَّ ذَلِكَ يَلْتَفِتُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى جِبْرِيلَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ يَتَلَفَّتُ بِتَقْدِيمِ الْمُثَنَّاةِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ.

قَوْلُهُ: فَرَفَعَهُ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي يَرْفَعُهُ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى.

قَوْلُهُ (عِنْدَ الْخَامِسَةِ) هَذَا التَّنْصِيصُ عَلَى الْخَامِسَةِ عَلَى أَنَّهَا الْأَخِيرَةُ يُخَالِفُ رِوَايَةَ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ وَضَعَ عَنْهُ كُلَّ مَرَّةٍ خَمْسًا وَأَنَّ الْمُرَاجَعَةَ كَانَتْ تِسْعَ مَرَّاتٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ وَرُجُوعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ تَقْرِيرِ الْخَمْسِ لِطَلَبِ التَّخْفِيفِ مِمَّا وَقَعَ مِنْ تَفَرُّدَاتِ شَرِيكٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَالْمَحْفُوظُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِمُوسَى فِي الْأَخِيرَةِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي، وَهَذَا أَصَرْحُ بِأَنَّهُ رَاجِعٌ فِي الْأَخِيرَةِ وَأَنَّ الْجَبَّارَ سبحانه وتعالى قَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ، قَالَ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: إِنَّهُ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ الدَّاوُدِيُّ فِيمَا نَقَلَهُ ابْنُ التِّينِ فَقَالَ: الرُّجُوعُ الْأَخِيرُ لَيْسَ بِثَابِتٍ وَالَّذِي فِي الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ قَالَ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي فَنُودِيَ أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي وَقَوْلُهُ هُنَا فَقَالَ مُوسَى ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ قَالَ الدَّاوُدِيُّ كَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ مُوسَى قَالَ لَهُ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ بَعْدَ أَنْ قَالَ: لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ. وَلَا يَثْبُتُ لِتَوَاطُؤ الرِّوَايَاتِ عَلَى خِلَافِهِ، وَمَا كَانَ مُوسَى لِيَأْمُرَهُ بِالرُّجُوعِ بَعْدَ أَنْ يَقُولَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ ذَلِكَ انْتَهَى. وَأَغْفَلَ الْكِرْمَانِيُّ رِوَايَةَ ثَابِتٍ فَقَالَ إِذَا خُفِّفَتْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ عَشَرَةٌ كَانَتِ الْأَخِيرَةُ سَادِسَةً فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لَيْسَ فِيهِ حَصْرٌ لِجَوَازِ أَنْ يُخَفِّفَ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ خَمْسَ عَشْرَةَ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ.

قَوْلُهُ: لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ) تَمَسَّكَ مَنْ أَنْكَرَ النَّسْخَ وَرُدَّ بِأَنَّ النَّسْخَ بَيَانُ انْتِهَاءِ الْحُكْمِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَبْدِيلُ الْقَوْلِ.

قَوْلُهُ فِي الْأَخِيرَةِ (قَدْ وَاللَّهِ رَاوَدْتُ إِلَخْ) رَاوَدْتُ يَتَعَلَّقُ بِقَدْ وَالْقَسَمُ مُقْحَمٌ بَيْنَهُمَا لِإِرَادَةِ التَّأْكِيدِ فَقَدْ تَقَدَّمَ بِلَفْظِ وَاللَّهِ لَقَدْ رَاوَدْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ.

قَوْلُهُ (قَالَ فَاهْبِطْ بِاسْمِ اللَّهِ) ظَاهِرُ السِّيَاقِ أَنَّ مُوسَى

ص: 486

هُوَ الَّذِي قَالَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَهُ عَقِبَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ وَاللَّهِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي مِمَّا اخْتَلَفْتُ إِلَيْهِ، قَالَ: فَاهْبِطْ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الَّذِي قَالَ لَهُ فَاهْبِطْ بِاسْمِ اللَّهِ هُوَ جِبْرِيلُ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ الدَّاوُدِيُّ.

قَوْلُهُ: فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) قَالَ الْقُرْطُبِيُّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِيقَاظًا مِنْ نَوْمَةٍ نَامَهَا بَعْدَ الْإِسْرَاءِ؛ لِأَنَّ إِسْرَاءَهُ لَمْ يَكُنْ طُولَ لَيْلَتِهِ وَإِنَّمَا كَانَ فِي بَعْضِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَفَقْتُ مِمَّا كُنْتُ فِيهِ مِمَّا خَامَرَ بَاطِنَهُ مِنْ مُشَاهَدَةِ الْمَلَأِ الْأَعْلَى؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَى حَالِ بَشَرِيَّتِهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا وَهُوَ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي أَوَّلِهِ بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ فَمُرَادُهُ فِي أَوَّلِ الْقِصَّةِ وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ قَدِ ابْتَدَأَ نَوْمَهُ فَأَتَاهُ الْمَلَكُ فَأَيْقَظَهُ، وَفِي قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى بَيْنَا أَنَا بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ أَتَانِي الْمَلَكُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ اسْتَحْكَمَ فِي نَوْمِهِ انْتَهَى. وَهَذَا كُلُّهُ يَنْبَنِي عَلَى تَوَحُّدِ الْقِصَّةِ، وَإِلَّا فَمَتَى حُمِلَتْ عَلَى التَّعَدُّدِ بِأَنْ كَانَ الْمِعْرَاجُ مَرَّةً فِي الْمَنَامِ وَأُخْرَى فِي الْيَقَظَةِ فَلَا يَحْتَاجُ لِذَلِكَ.

(تَنْبِيهٌ):

قِيلَ اخْتَصَّ مُوسَى عليه السلام بِهَذَا دُونَ غَيْرِهِ مِمَّنْ لَقِيَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ تَلَقَّاهُ عِنْدَ الْهُبُوطِ؛ وَلِأَنَّ أُمَّتَهُ أَكْثَرُ مِنْ أُمَّةِ غَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّ كِتَابَهُ أَكْبَرُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ قَبْلَ الْقُرْآنِ تَشْرِيعًا وَأَحْكَامًا، أَوْ لِأَنَّ أُمَّةَ مُوسَى كَانُوا كُلِّفُوا مِنَ الصَّلَاةِ مَا ثَقُلَ عَلَيْهِمْ فَخَافَ مُوسَى عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ مِثْلَ ذَلِكَ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ فَإِنِّي بَلَوْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ لَاقَاهُ بَعْدَ الْهُبُوطِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ أَقْوَى مِنْ هَذَا، وَفِيهِ أَنَّهُ لَقِيَهُ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ انْتَهَى. وَإِذَا جَمَعْنَا بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ لَقِيَهُ فِي الصُّعُودِ فِي السَّادِسَةِ وَصَعِدَ مُوسَى إِلَى السَّابِعَةِ فَلَقِيَهُ فِيهَا بَعْدَ الْهُبُوطِ ارْتَفَعَ الْإِشْكَالُ وَبَطَلَ الرَّدُّ الْمَذْكُورُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌38 - بَاب كَلَامِ الرَّبِّ مَعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ

7518 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى يَا رَبِّ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ؟ فَيَقُولُ: أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ، وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا.

7519 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ حَدَّثَنَا هِلَالٌ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَوْمًا يُحَدِّثُ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِي الزَّرْعِ فَقَالَ لَهُ أَوَلَسْتَ فِيمَا شِئْتَ قَالَ بَلَى وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَزْرَعَ فَأَسْرَعَ وَبَذَرَ فَتَبَادَرَ الطَّرْفَ نَبَاتُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ وَاسْتِحْصَادُهُ وَتَكْوِيرُهُ أَمْثَالَ الْجِبَالِ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى دُونَكَ يَا ابْنَ آدَمَ فَإِنَّهُ لَا يُشْبِعُكَ شَيْءٌ فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا تَجِدُ هَذَا إِلاَّ قُرَشِيًّا أَوْ أَنْصَارِيًّا فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ زَرْعٍ فَأَمَّا نَحْنُ فَلَسْنَا بِأَصْحَابِ زَرْعٍ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ

ص: 487

قَوْلُهُ (بَابُ كَلَامِ الرَّبِّ مَعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ) أَيْ بَعْدَ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ ظَاهِرَيْنِ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ:

أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الرِّقَاقِ فِي بَابِ صِفَةِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: اسْتَشْكَلَ بَعْضُهُمْ هَذَا؛ لِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ لَهُ أَنْ يَسْخَطَ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ وَهُوَ خِلَافُ ظَوَاهِرِ الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} ، {أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} وَأَجَابَ بِأَنَّ إِخْرَاجَ الْعِبَادِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ مِنْ تَفَضُّلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَكَذَلِكَ تَنْجِيزَ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّعِيمِ مِنْ تَفَضُّلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَأَمَّا دَوَامُ ذَلِكَ فَزِيَادَةٌ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى الْمُجَازَاةِ لَوْ كَانَتْ لَازِمَةً، وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَلَمَّا كَانَتِ الْمُجَازَاةُ لَا تَزِيدُ فِي الْعَادَةِ عَلَى الْمُدَّةِ - وَمُدَّةُ الدُّنْيَا مُتَنَاهِيَةٌ - جَازَ أَنْ تَتَنَاهَى مُدَّةُ الْمُجَازَاةِ فَتَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِالدَّوَامِ فَارْتَفَعَ الْإِشْكَالُ جُمْلَةً، انْتَهَى مُلَخَّصًا، وَقَالَ غَيْرُهُ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الرِّضَا أَفْضَلُ مِنَ اللِّقَاءِ وَهُوَ مُشْكِلٌ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ الرِّضَا أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّ الرِّضَا أَفْضَلُ مِنَ الْعَطَاءِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ فَاللِّقَاءُ مُسْتَلْزِمٌ لِلرِّضَا فَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ اللَّازِمِ وَإِرَادَةِ الْمَلْزُومِ، كَذَا نَقَلَ الْكِرْمَانِيُّ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ حُصُولُ أَنْوَاعِ الرِّضْوَانِ وَمِنْ جُمْلَتِهَا اللِّقَاءُ فَلَا إِشْكَالَ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جمرة: فِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ إِضَافَةِ الْمَنْزِلِ لِسَاكِنِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَصْلِ لَهُ

فَإِنَّ الْجَنَّةَ مِلْكُ اللَّهِ عز وجل، وَقَدْ أَضَافَهَا لِسَاكِنِهَا بِقَوْلِهِ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، قَالَ: وَالْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِ دَوَامِ رِضَاهُ بَعْدَ الِاسْتِقْرَارِ أَنَّهُ لَوْ أَخْبَرَ بِهِ قَبْلَ الِاسْتِقْرَارِ لَكَانَ خَبَرًا مِنْ بَابِ عِلْمِ الْيَقِينِ، فَأَخْبَرَ بِهِ بَعْدَ الِاسْتِقْرَارِ لِيَكُونَ مِنْ بَابِ عَيْنِ الْيَقِينِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} قَالَ: وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخَاطَبَ أَحَدٌ بِشَيْءٍ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَهُ مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَيْهِ وَلَوْ عَلَى بَعْضِهِ، وَكَذَا يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ لَا يَأْخُذَ مِنَ الْأُمُورِ إِلَّا قَدْرَ مَا يَحْمِلُهُ، وَفِيهِ الْأَدَبُ فِي السُّؤَالِ لِقَوْلِهِمْ: وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا شَيْئًا أَفْضَلَ مِمَّا هُمْ فِيهِ فَاسْتَفْهَمُوا عَمَّا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ، وَفِيهِ أَنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ وَالْفَضْلَ وَالِاغْتِبَاطَ إِنَّمَا هُوَ فِي رِضَا اللَّهِ سبحانه وتعالى، وَكُلُّ شَيْءٍ مَا عَدَاهُ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُهُ فَهُوَ مِنْ أَثَرِهِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى رِضَا كُلٍّ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِحَالِهِ مَعَ اخْتِلَافِ مَنَازِلِهِمْ وَتَنْوِيعِ دَرَجَاتِهِمْ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ أَجَابُوا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَعْطَيْتُنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

ثَانِيهُمَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِي رِوَايَةِ السَّرَخْسِيِّ يَسْتَأْذِنُ رَبَّهُ فِي الزَّرْعِ.

قَوْلُهُ (فَأُحِبُّ أَنْ أَزْرَعَ فَأَسْرَعَ) فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَأَذِنَ لَهُ فَزَرَعَ فَأَسْرَعَ.

قَوْلُهُ: فَإِنَّهُ لَا يُشْبِعُكَ شَيْءٌ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ مِنَ الشِّبَعِ، وَلِلْمُسْتَمْلِي لَا يَسَعُكَ شَيْءٌ بِالْمُهْمَلَةِ بِغَيْرِ مُوَحَّدَةٍ مِنَ الْوُسْعِ.

قَوْلُهُ: فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا تَجِدُ هَذَا إِلَّا قُرَشِيًّا أَوْ أَنْصَارِيًّا فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ زَرْعٍ) قَالَ الدَّاوُدِيُّ قَوْلُهُ قُرَشِيًّا وَهْمٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِأَكْثَرِهِمْ زَرْعٌ. قُلْتُ: وَتَعْلِيلُهُ يَرُدُّ عَلَى نَفْيِهِ الْمُطْلَقِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِبَعْضِهِمْ زَرْعًا صَدَقَ قَوْلُهُ أَنَّ الزَّارِعَ الْمَذْكُورَ مِنْهُمْ، وَاسْتَشْكَلَ قَوْلُهُ لَا يُشْبِعُكَ شَيْءٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ {إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى} وَأُجِيبَ بِأَنَّ نَفْيَ الشِّبَعِ لَا يُوجِبُ الْجُوعَ؛ لِأَنَّ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةٌ وَهِيَ الْكِفَايَةُ، وَأَكْلُ أَهْلِ الْجَنَّةِ لِلتَّنَعُّمِ وَالِاسْتِلْذَاذِ لَا عَنِ الْجُوعِ، وَاخْتُلِفَ فِي الشِّبَعِ فِيهَا وَالصَّوَابُ أَنْ لَا شِبَعَ فِيهَا إِذْ لَوْ كَانَ لَمَنَعَ دَوَامَ أَكْلِ الْمُسْتَلِذِّ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ لَا يُشْبِعُكَ شَيْءٌ جِنْسُ الْآدَمِيِّ، وَمَا طُبِعَ عَلَيْهِ فَهُوَ فِي طَلَبِ الِازْدِيَادِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى.

ص: 488

‌39 - بَاب ذِكْرِ اللَّهِ بِالْأَمْرِ وَذِكْرِ الْعِبَادِ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالرِّسَالَةِ وَالْإِبْلَاغِ،

لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} ، {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ * فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} غُمَّةٌ: هَمٌّ وَضِيقٌ.

قَالَ مُجَاهِدٌ: اقْضُوا إِلَيَّ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ، يُقَالُ: افْرُقْ: اقْضِ.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} إِنْسَانٌ يَأْتِيهِ فَيَسْتَمِعُ مَا يَقُولُ، وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَهُوَ آمِنٌ حَتَّى يَأْتِيَهُ فَيَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ، وَحَتَّى يَبْلُغَ مَأْمَنَهُ حَيْثُ جَاءَ، النَّبَأُ الْعَظِيمُ: الْقُرْآنُ، {صَوَابًا} حَقًّا فِي الدُّنْيَا وَعَمَلٌ بِهِ.

قَوْلُهُ: بَابُ ذِكْرِ اللَّهِ بِالْأَمْرِ وَذِكْرِ الْعِبَادِ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالرِّسَالَةِ وَالْبَلَاغِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَالْإِبْلَاغِ وَعَلَيْهَا اقْتَصَرَ ابْنُ التِّينِ.

قَوْلُهُ (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ: بَيَّنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ ذِكْرَ الْعَبْدِ غَيْرُ ذِكْرِ اللَّهِ عَبْدَهُ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْعَبْدِ الدُّعَاءُ وَالتَّضَرُّعُ وَالثَّنَاءُ وَذِكْرَ اللَّهِ الْإِجَابَةُ ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ عُمَرَ - رَفَعَهُ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: مَعْنَى قَوْلِهِ بَابُ ذِكْرِ اللَّهِ بِالْأَمْرِ ذِكْرُ اللَّهِ عِبَادَهُ بِأَنْ أَمَرَهُمْ بِطَاعَتِهِ وَيَكُونُ مِنْ رَحْمَتِهِ لَهُمْ وَإِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ إِذَا أَطَاعُوهُ أَوْ بِعَذَابِهِ إِذَا عَصَوْهُ، وَذِكْرُ الْعِبَادِ لِرَبِّهِمْ أَنْ يَدْعُوَهُ وَيَتَضَرَّعُوا إِلَيْهِ وَيُبَلِّغُوا رِسَالَاتَهُ إِلَى الْخَلْقِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} إِذَا ذَكَرَ الْعَبْدُ رَبَّهُ وَهُوَ عَلَى طَاعَتِهِ ذَكَرَهُ بِرَحْمَتِهِ، وَإِذَا ذَكَرَهُ وَهُوَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ ذَكَرَهُ بِلَعْنَتِهِ، قَالَ: وَمَعْنَى قَوْلِهِ {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} اذْكُرُونِي بِالطَّاعَةِ أَذْكُرْكُمْ بِالْمَعُونَةِ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: اذْكُرُونِي بِالطَّاعَةِ أَذْكُرْكُمْ بِالْمَغْفِرَةِ، وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ نَحْوَ أَرْبَعِينَ عِبَارَةٍ أَكْثَرُهَا عَنْ أَهْلِ الزُّهْدِ وَمَرْجِعُهَا إِلَى مَعْنَى التَّوْحِيدِ وَالثَّوَابِ أَوِ الْمَحَبَّةِ وَالْوَصْلِ أَوِ الدُّعَاءِ وَالْإِجَابَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَذِكْرُ الْعِبَادِ بِالدُّعَاءِ إِلَى آخِرِهِ، فَجَمِيعُ مَا ذَكَرَهُ وَاضِحٌ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ وَيَشْرَكُهُمْ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ سَائِرُ الْعِبَادِ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّ ذِكْرَ الْعَبْدِ بِاللِّسَانِ وَعِنْدَمَا يَهِمُّ بِالسَّيِّئَةِ فَيَذْكُرُ مَقَامَ رَبِّهِ فَيَكُفُّ، وَنُقِلَ عَنِ الدَّاوُدِيِّ قَالَ

قَوْمٌ: إِنَّ هَذَا الذِّكْرَ أَفْضَلُ، قَالَ: وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ قَوْلُهُ بِلِسَانِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا مِنْ قَلْبِهِ أَعْظَمُ مِنْ ذِكْرِهِ بِقَلْبِهِ وَوُقُوفِهِ عَنْ عَمَلِ السَّيِّئَةِ. قُلْتُ: إِنَّمَا كَانَ أَعْظَمَ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ ذِكْرِ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ التَّفَاضُلُ بِصِحَّةِ التَّقَابُلِ بِذِكْرِ اللَّهِ بِاللِّسَانِ دُونَ الْقَلْبِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ ذِكْرِهِ بِالْقَلْبِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ، وَأَمَّا وُقُوفُهُ بِسَبَبِ الذِّكْرِ عَنْ عَمَلِ السَّيِّئَةِ فَقَدْرٌ زَائِدٌ يَزْدَادُ بِسَبَبِهِ فَضْلُ الذِّكْرِ، فَظَهَرَ صِحَّةُ مَا نَقَلَهُ عَنِ الْقَوْمِ دُونَ مَا تَخَيَّلَهُ.

قَوْلُهُ {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ} إِلَخْ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ أَشَارَ إِلَى أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ نُوحًا بِمَا بَلَّغَ بِهِ مَنْ أَمَرَهُ وَذَكَّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ، وَكَذَلِكَ فَرَضَ عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ تَبْلِيغَ كِتَابِهِ وَشَرِيعَتِهِ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَذْكُورٌ بِأَنَّهُ أُمِرَ بِالتِّلَاوَةِ عَلَى الْأُمَّةِ وَالتَّبْلِيغِ إِلَيْهِمْ أَنَّ نُوحًا كَانَ يُذَكِّرُهُمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَحْكَامِهِ.

قَوْلُهُ: غُمَّةً: هَمٌّ وَضِيقٌ) هُوَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ {ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} وَهُوَ بَقِيَّةُ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ أَوَّلًا وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ

ص: 489

نَبَأَ نُوحٍ} وَحَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّ مَعْنَى غُمَّةً شَيْءٌ لَيْسَ ظَاهِرًا، يُقَالُ الْقَوْمُ فِي غُمَّةٍ إِذَا غَطَّى عَلَيْهِمْ أَمْرُهُمْ وَالْتَبَسَ، وَمِنْهُ غُمَّ الْهِلَالُ إِذَا غَشِيَهُ شَيْءٌ فَغَطَّاهُ، وَالْغَمُّ مَا يغشى الْقَلْبَ مِنَ الْكَرْبِ.

قَوْلُهُ: قَالَ مُجَاهِدٌ اقْضُوا إِلَيَّ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ افْرُقِ اقْضِ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ وَرْقَاءَ بْنِ عُمَرَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ} قَالَ اقْضُوا إِلَيَّ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ اقْضُوا إِلَيَّ: افْعَلُوا مَا بَدَا لَكُمْ، وَقَالَ غَيْرُهُ أَظْهِرُوا الْأَمْرَ وَمَيِّزُوهُ بِحَيْثُ لَا تَبْقَى شُبْهَةٌ ثُمَّ اقْضُوا بِمَا شِئْتُمْ مِنْ قَتْلٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ إِمْهَالٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ افْرُقِ اقْضِ فَمَعْنَاهُ أَظْهِرِ الْأَمْرَ وَافْصِلْهُ بِحَيْثُ لَا تَبْقَى شُبْهَةٌ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ يُقَالُ افْرُقِ اقْضِ فَلَا يَكُونُ مِنْ كَلَامِ مُجَاهِدٍ، وَيُؤَيِّدُهُ إِعَادَةُ قَوْلِهِ بَعْدَهُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ.

قَوْلُهُ: وَقَالَ مُجَاهِدٌ {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} إِنْسَانٌ يَأْتِيهِ) أَيْ يَأْتِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم (فَيَسْتَمِعُ مَا يَقُولُهُ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَهُوَ آمِنٌ حَتَّى يَأْتِيَهُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ حِينَ يَأْتِيهِ، (فَيَسْمَعُ كَلَامَ اللَّهِ حَتَّى يَبْلُغَ مَأْمَنَهُ حَيْثُ جَاءَ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ إِلَى مُجَاهِدٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} إِنْسَانٌ يَأْتِيهِ فَيَسْمَعُ مَا يَقُولُ وَمَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ فَهُوَ آمِنٌ حَتَّى يَأْتِيَهُ فَيَسْمَعُ كَلَامَ اللَّهِ حَتَّى يُبَلِّغَهُ مَأْمَنَهُ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَجْلِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ بِإِجَارَةِ الَّذِي يَسْمَعُ الذِّكْرَ حَتَّى يَسْمَعَهُ، فَإِنْ آمَنَ فَذَاكَ وَإِلَّا فَيَبْلُغُ مَأْمَنَهُ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيهِ مَا شَاءَ.

قَوْلُهُ: (وَالنَّبَأُ الْعَظِيمُ: الْقُرْآنُ) هُوَ تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ، وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ إِلَيْهِ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: سُمِّيَ نَبَأً؛ لِأَنَّهُ يُنَبَّأُ بِهِ، وَالْمَعْنَى بِهِ إِذَا سَأَلُوا عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ فَأَجِبْهُمْ وَبَلِّغِ الْقُرْآنَ إِلَيْهِمْ، قَالَ الرَّاغِبُ: النَّبَأُ الْخَبَرُ ذُو الْفَائِدَةِ الْجَلِيلَةِ يَحْصُلُ بِهِ عِلْمٌ أَوْ ظَنٌّ غَالِبٌ، وَحَقُّ الْخَبَرِ الَّذِي يُسَمَّى نَبَأً أَنْ يَتَعَرَّى عَنِ الْكَذِبِ.

قَوْلُهُ: صَوَابًا: حَقًّا فِي الدُّنْيَا وَعَمَلٌ بِهِ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: يُرِيدُ قَوْلُهُ تَعَالَى {إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} أَيْ حَقًّا فِي الدُّنْيَا وَعَمَلٌ بِهِ فَهُوَ الَّذِي يُؤْذَنُ لَهُ فِي الْكَلَامِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ بِالشَّفَاعَةِ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ. قُلْتُ: وَهَذَا وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: عَادَةُ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ إِذَا ذَكَرَ آيَةً مُنَاسِبَةً لِلتَّرْجَمَةِ يَذْكُرُ مَعَهَا بَعْضَ مَا يَتَعَلَّقُ بِتِلْكَ السُّورَةِ الَّتِي فِيهَا تِلْكَ الْآيَةُ مِمَّا ثَبَتَ عِنْدَهُ فِي تَفْسِيرٍ وَنَحْوِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِيَّةِ انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ وَجْهُ مُنَاسَبَةِ هَذِهِ الْآيَةِ الْأَخِيرَةِ بِالتَّرْجَمَةِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي مُنَاسَبَتِهَا أَنَّ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ {صَوَابًا} بِقَوْلِ الْحَقِّ وَالْعَمَلِ بِهِ فِي الدُّنْيَا يَشْمَلُ ذِكْرَ اللَّهِ بِاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ مُجْتَمِعَيْنِ وَمُنْفَرِدَيْنِ فَنَاسَبَ قَوْلُهُ ذِكْرَ الْعِبَادِ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ.

(تَنْبِيهٌ):

لَمْ يَذْكُرْ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثًا مَرْفُوعًا وَلَعَلَّهُ بَيَّضَ لَهُ فَأَدْبَجَهُ النُّسَّاخُ كَغَيْرِهِ، وَاللَّائِقُ بِهِ الْحَدِيثُ الْقُدْسِيُّ: مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا فَإِنَّهُ يَصِحُّ فِي قَوْلِهِ مَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ - أَيْ مِنَ النَّاسِ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ - ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ - أَيْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ - بِالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ ثُمَّ وَجَدْتُهُ فِي كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ قَدْ أَوْرَدَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي فِيهِ اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: يَقُولُ الْعَبْدُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَيَقُولُ اللَّهُ حَمِدَنِي عَبْدِي - إِلَى أَنْ قَالَ - يَقُولُ الْعَبْدُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ يَقُولُ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ الْحَدِيثَ. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِيهِ بَيَانُ أَنَّ سُؤَالَ الْعَبْدِ غَيْرُ مَا يُعْطِيهِ اللَّهُ وَأَنَّ قَوْلَ الْعَبْدِ غَيْرُ كَلَامِ اللَّهِ وَهَذَا مِنَ الْعَبْدِ الدُّعَاءُ وَالتَّضَرُّعُ وَمِنَ اللَّهِ الْأَمْرُ وَالْإِجَابَةُ انْتَهَى. وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ مَالِكٌ، وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَلَيْسَ هُوَ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ فِي صَحِيحِهِ فَاكْتَفَى فِيهِ بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ وَفِي كِتَابِهِ مِنْ ذَلِكَ نَظَائِرُ.

‌40 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا}

وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ، {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ

ص: 490

أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} وَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ}

وَقَالَ عِكْرِمَةُ: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} ، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ} وَ {مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} فَذَلِكَ إِيمَانُهُمْ وَهُمْ يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ، وَمَا ذُكِرَ فِي خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَكْسَابِهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ} يعني بِالرِّسَالَةِ وَالْعَذَابِ، {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} الْمُبَلِّغِينَ الْمُؤَدِّينَ مِنْ الرُّسُلِ، {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} عِنْدَنَا، {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} الْقُرْآنُ، {وَصَدَّقَ بِهِ} الْمُؤْمِنُ، يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: هَذَا الَّذِي أَعْطَيْتَنِي عَمِلْتُ بِمَا فِيهِ.

7520 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ. قُلْتُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ تَخَافُ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: ثُمَّ أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ.

قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} وَقَوْلُهُ: {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ثُمَّ ذَكَرَ آيَاتٍ وَآثَارًا إِلَى ذِكْرِ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ قَالَ أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ النِّدُّ بِكَسْرِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ يُقَالُ لَهُ النَّدِيدُ أَيْضًا وَهُوَ نَظِيرُ الشَّيْءِ الَّذِي يُعَارِضُهُ فِي أُمُورِهِ، وَقِيلَ نِدُّ الشَّيْءِ مَنْ يُشَارِكُهُ فِي جَوْهَرِهِ وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الْمِثْلِ لَكِنَّ الْمِثْلَ يُقَالُ فِي أَيِّ مُشَارَكَةٍ كَانَتْ فَكُلُّ نِدٍّ مِثْلٌ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ قَالَهُ الرَّاغِبُ قَالَ: وَالضِّدُّ أَحَدُ الْمُتَقَابِلَيْنِ وَهُمَا الشَّيْئَانِ الْمُخْتَلِفَانِ اللَّذَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ فَفَارَقَ النِّدَّ فِي الْمُشَارَكَةِ وَوَافَقَهُ فِي الْمُعَارَضَةِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: غَرَضُ الْبُخَارِيِّ فِي هَذَا الْبَابِ إِثْبَاتُ نِسْبَةِ الْأَفْعَالِ كلَهَا لِلَّهِ تَعَالَى سَوَاءٌ كَانَتْ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ خَيْرًا أَوْ شَرًّا فَهِيَ لِلَّهِ تَعَالَى خَلْقٌ وَلِلْعِبَادِ كَسْبٌ، وَلَا يُنْسَبُ شَيْءٌ مِنَ الْخَلْقِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ شَرِيكًا وَنِدًّا وَمُسَاوِيًا لَهُ فِي نِسْبَةِ الْفِعْلِ إِلَيْهِ، وَقَدْ نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ عَلَى ذَلِكَ بِالْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ وَغَيْرِهَا الْمُصَرِّحَةِ بِنَفْيِ الْأَنْدَادِ وَالْآلِهَةِ الْمَدْعُوَّةِ مَعَهُ، فَتَضَمَّنَتِ الرَّدَّ عَلَى مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَخْلُقُ أَفْعَالَهُ، ومنها مَا حَذَّرَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ أَثْنَى عَلَيْهِمْ، وَمِنْهَا مَا وَبَّخَ بِهِ الْكَافِرِينَ، وَحَدِيثُ الْبَابِ ظَاهِرٌ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: التَّرْجَمَةُ مُشْعِرَةٌ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِثْبَاتُ نَفْيِ الشَّرِيكِ عَنِ اللَّهِ سبحانه وتعالى، فَكَانَ الْمُنَاسِبُ

ذِكْرَهُ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ التَّوْحِيدِ لَكِنْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ هُنَا ذَلِكَ بَلِ الْمُرَادُ بَيَانُ كَوْنِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى؛ إِذْ لَوْ كَانَتْ أَفْعَالُهُمْ بِخَلْقِهِمْ لَكَانُوا أَنْدَادًا لِلَّهِ وَشُرَكَاءَ لَهُ فِي الْخَلْقِ، وَلِهَذَا عَطَفَ مَا ذَكَرَ عَلَيْهِ، وَتَضَمَّنَ الرَّدَّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ فِي قَوْلِهِمْ لَا قُدْرَةَ لِلْعَبْدِ أَصْلًا وَعَلَى الْمُعْتَزِلَةِ حَيْثُ قَالُوا: لَا دَخْلَ لِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا. وَالْمَذْهَبُ الْحَقُّ أَنْ لَا جَبْرَ وَلَا قَدَرَ بَلْ أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ فَإِنْ قِيلَ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الْعَبْدِ بِقُدْرَةٍ مِنْهُ أَوَّلًا إِذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَعَلَى الْأَوَّلِ يَثْبُتُ الْقَدَرُ الَّذِي تَدَّعِيهِ الْمُعْتَزِلَةُ،

ص: 491

وَإِلَّا ثَبَتَ الْجَبْرُ الَّذِي هُوَ قَوْلُ الْجَهْمِيَّةِ، فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: بَلْ لِلْعَبْدِ قُدْرَةٌ يُفَرِّقُ بِهَا بَيْنَ النَّازِلِ مِنَ الْمَنَارَةِ وَالسَّاقِطِ مِنْهَا، وَلَكِنْ لَا تَأْثِيرَ لَهَا بَلْ فِعْلُهُ ذَلِكَ وَاقِعٌ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَتَأْثِيرُ قُدْرَتِهِ فِيهِ بَعْدَ قُدْرَةِ الْعَبْدِ عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُسَمَّى بِالْكَسْبِ، وَحَاصِلُ مَا تُعْرَفُ بِهِ قُدْرَةُ الْعَبْدِ أَنَّهَا صِفَةٌ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْفِعْلُ وَالتَّرْكُ عَادَةً، وَتَقَعُ عَلَى وَفْقِ الْإِرَادَةِ انْتَهَى.

وَقَدْ أَطْنَبَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاسْتَظْهَرَ بِالْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ الْوَارِدَةِ عَنِ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ، وَغَرَضُهُ هُنَا الرَّدُّ عَلَى مَنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ التِّلَاوَةِ وَالْمَتْلُوِّ، وَلِذَلِكَ أَتْبَعَ هَذَا الْبَابَ بِالتَّرَاجِمِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِذَلِكَ، مِثْلَ بَابِ: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، وَبَابِ: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ وَغَيْرِهِمَا، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ الْمَشْهُورَةُ بِمَسْأَلَةِ اللَّفْظِ، وَيُقَالُ لِأَصْحَابِهَا اللَّفْظِيَّةُ، وَاشْتَدَّ إِنْكَارُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَمَنْ تَبِعَهُ عَلَى مَنْ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ، وَيُقَالُ إِنَّ أَوَّلَ مَنْ قَالَهُ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْكَرَابِيسِيُّ أَحَدُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ النَّاقِلِينَ لِكِتَابِهِ الْقَدِيمِ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ أَحْمَدَ بَدَّعَهُ وَهَجَرَهُ، ثُمَّ قَالَ بِذَلِكَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَصْبَهَانِيُّ رَأْسُ الظَّاهِرِيَّةِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ بِنَيْسَابُورَ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ إِسْحَاقُ وَبَلَغَ ذَلِكَ أَحْمَدَ فَلَمَّا قَدِمَ بَغْدَادَ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي الدُّخُولِ عَلَيْهِ، وَجَمَعَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَسْمَاءَ مَنْ أَطْلَقَ عَلَى اللَّفْظِيَّةِ أَنَّهُمْ جَهْمِيَّةٌ فَبَلَغُوا عَدَدًا كَثِيرًا مِنَ الْأَئِمَّةِ وَأَفْرَدَ لِذَلِكَ بَابًا فِي كِتَابِهِ الرَّدُّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ، وَالَّذِي يَتَحَصَّلُ مِنْ كَلَامِ الْمُحَقِّقِينَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ أَرَادُوا حَسْمَ الْمَادَّةِ صَوْنًا لِلْقُرْآنِ أَنْ يُوصَفَ بِكَوْنِهِ مَخْلُوقًا، وَإِذَا حُقِّقَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ لَمْ يُفْصِحْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِأَنَّ حَرَكَةَ لِسَانِهِ إِذَا قَرَأَ قَدِيمَةٌ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ: مَذْهَبُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ

وَهُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ، وَأَمَّا التِّلَاوَةُ فَهُمْ عَلَى طَرِيقَتَيْنِ، مِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ التِّلَاوَةِ وَالْمَتْلُوِّ وَمِنْهُمْ مَنْ أَحَبَّ تَرْكَ الْقَوْلِ فِيهِ، وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَهُمَا فَإِنَّمَا أَرَادَ حَسْمَ الْمَادَّةِ لِئَلَّا يَتَذَرَّعَ أَحَدٌ إِلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، ثُمَّ أَسْنَدَ مِنْ طَرِيقَيْنِ إِلَى أَحْمَدَ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ، وَقَالَ الْقُرْآنُ كَيْفَ تَصَرَّفَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَأَخَذَ بِظَاهِرِ هَذَا، الثَّانِي مَنْ لَمْ يَفْهَمْ مُرَادَهُ وَهُوَ مُبَيَّنٌ فِي الْأَوَّلِ، وَكَذَا نُقِلَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْلَمَ الطُّوسِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الصَّوْتُ مِنَ الْمُصَوِّتِ كَلَامُ اللَّهِ وَهِيَ عِبَارَةٌ رَدِيئَةٌ لَمْ يُرِدْ ظَاهِرَهَا وَإِنَّمَا أَرَادَ نَفْيَ كَوْنِ الْمَتْلُوِّ مَخْلُوقًا، وَوَقَعَ نَحْوُ ذَلِكَ لِإِمَامِ الْأَئِمَّةِ مُحَمَّدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، ثُمَّ رَجَعَ وَلَهُ فِي ذَلِكَ مَعَ تَلَامِذَتِهِ قِصَّةٌ مَشْهُورَةٌ، وَقَدْ أَمْلَى أَبُو بَكْرٍ الضُّبَعِيُّ - الْفَقِيهُ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ مِنْ تَلَامِذَتِهِ ابْنُ خُزَيْمَةَ - اعْتِقَادَهُ، وَفِيهِ لَمْ يَزَلِ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا وَلَا مِثْلَ لِكَلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ نَفَى الْمِثْلَ عَنْ صِفَاتِهِ كَمَا نَفَى الْمِثْلَ عَنْ ذَاتِهِ، وَنَفَى النَّفَادَ عَنْ كَلَامِهِ كَمَا نَفَى الْهَلَاكَ عَنْ نَفْسِهِ، فَقَالَ {لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} وَقَالَ {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} فَاسْتَصْوَبَ ذَلِكَ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَرَضِيَ بِهِ، وَقَالَ غَيْرُهُ ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْبُخَارِيَّ خَالَفَ أَحْمَدَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ مَنْ تَدَبَّرَ كَلَامَهُ لَمْ يَجِدْ فِيهِ خِلَافًا مَعْنَوِيًّا؛ لَكِنَّ الْعَالِمَ مِنْ شَأْنِهِ إِذَا

ابْتُلِيَ فِي رَدِّ بِدْعَةٍ يَكُونُ أَكْثَرُ كَلَامِهِ فِي رَدِّهَا دُونَ مَا يُقَابِلُهَا، فَلَمَّا ابْتُلِيَ أَحْمَدُ بِمَنْ يَقُولُ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ كَانَ أَكْثَرُ كَلَامِهِ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ حَتَّى بَالَغَ فَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ يَقِفُ وَلَا يَقُولُ مَخْلُوقٌ وَلَا غَيْرَ مَخْلُوقٍ، وَعَلَى مَنْ قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ لِئَلَّا يَتَذَرَّعَ بِذَلِكَ مَنْ يَقُولُ الْقُرْآنُ بِلَفْظِي مَخْلُوقٌ، مَعَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ لَكِنَّهُ قَدْ يَخْفَى عَلَى الْبَعْضِ، وَأَمَّا الْبُخَارِيُّ فَابْتُلِيَ بِمَنْ يَقُولُ أَصْوَاتُ الْعِبَادِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ حَتَّى بَالَغَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ وَالْمِدَادُ وَالْوَرَقُ بَعْدَ الْكِتَابَةِ، فَكَانَ أَكْثَرُ كَلَامِهِ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَبَالَغَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ بِالْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ، وَأَطْنَبَ فِي ذَلِكَ حَتَّى نُسِبَ إِلَى أَنَّهُ مِنَ اللَّفْظِيَّةِ مَعَ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ إِنَّ الَّذِي يُسْمَعُ مِنَ الْقَارِئِ هُوَ الصَّوْتُ الْقَدِيمُ لَا يُعْرَفُ عَنِ السَّلَفِ، وَلَا قَالَهُ أَحْمَدُ

ص: 492

وَلَا أَئِمَّةُ أَصْحَابِهِ، وَإِنَّمَا سَبَبُ نِسْبَةِ ذَلِكَ لِأَحْمَدَ قَوْلُهُ مَنْ قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جَهْمِيٌّ، فَظَنُّوا أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ اللَّفْظِ وَالصَّوْتِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحْمَدَ فِي الصَّوْتِ مَا نُقِلَ عَنْهُ فِي اللَّفْظِ بَلْ صَرَّحَ فِي مَوَاضِعَ بِأَنَّ الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ مِنَ الْقَارِئِ هُوَ صَوْتُ الْقَارِئِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ وَسَيَأْتِي قَرِيبًا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ اللَّفْظَ يُضَافُ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ بِهِ ابْتِدَاءً، فَيُقَالُ عَمَّنْ رَوَى الْحَدِيثَ بِلَفْظِهِ هَذَا لَفْظُهُ وَلِمَنْ رَوَاهُ بِغَيْرِ لَفْظِهِ هَذَا مَعْنَاهُ وَلَفْظُهُ كَذَا، وَلَا يُقَالُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ هَذَا صَوْتُهُ فَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ غَيْرِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} وَاخْتُلِفَ هَلِ الْمُرَادُ جِبْرِيلُ أَوِ الرَّسُولُ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَالْمُرَادُ بِهِ التَّبْلِيغُ؛ لِأَنَّ جِبْرِيلَ مُبَلِّغٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى رَسُولِهِ وَالرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم مُبَلِّغٌ لِلنَّاسِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحْمَدَ قَطُّ أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ قَدِيمٌ وَلَا صَوْتَهُ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ إِطْلَاقَ اللَّفْظِ، وَصَرَّحَ الْبُخَارِيُّ بِأَنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ وَأَنَّ أَحْمَدَ لَا يُخَالِفُ ذَلِكَ، فَقَالَ فِي كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مَا يَدَّعُونَهُ عَنْ أَحْمَدَ لَيْسَ الْكَثِيرُ مِنْهُ بِالْبَيِّنِ وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا مُرَادَهُ وَمَذْهَبَهُ، وَالْمَعْرُوفُ عَنْ أَحْمَدَ وَأَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَمَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ لَكِنَّهُمْ كَرِهُوا التَّنْقِيبَ عَنِ الْأَشْيَاءِ الْغَامِضَةِ وَتَجَنَّبُوا الْخَوْضَ فِيهَا وَالتَّنَازُعَ إِلَّا مَا بَيَّنَهُ الرَّسُولُ عليه الصلاة والسلام، ثُمَّ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ عَصْرِهِ أَنَّهُ قَالَ: الْقُرْآنُ بِأَلْفَاظِنَا وَأَلْفَاظُنَا بِالْقُرْآنِ شَيْءٌ وَاحِدٌ، فَالتِّلَاوَةُ هِيَ الْمَتْلُوُّ وَالْقِرَاءَةُ هِيَ الْمَقْرُوءُ، قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ التِّلَاوَةَ فِعْلُ التَّالِي، فَقَالَ: ظَنَنْتُهَا مَصْدَرَيْنِ، قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: أَرْسِلْ إِلَى مَنْ كَتَبَ عَنْكَ مَا قُلْتُ؟ فَاسْتَرِدَّهُ فَقَالَ: كَيْفَ وَقَدْ مَضَى، انْتَهَى.

وَمُحَصَّلُ مَا نُقِلَ عَنْ أَهْلِ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ، الْأَوَّلُ: قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ، وَالثَّانِي: قَوْلُ الْكُلَّابِيَّةِ أَنَّهُ قَدِيمٌ قَائِمٌ بِذَاتِ الرَّبِّ لَيْسَ بِحُرُوفٍ وَلَا أَصْوَاتٍ، وَالْمَوْجُودُ بَيْنَ النَّاسِ عِبَارَةٌ عَنْهُ لَا عَيْنُهُ، وَالثَّالِثُ: قَوْلُ السَّالِمِيَّةِ أنَّهُ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ قَدِيمَةُ الْأَعْيُنِ، وَهُوَ عَيْنُ هَذِهِ الْحُرُوفِ الْمَكْتُوبَةِ وَالْأَصْوَاتِ الْمَسْمُوعَةِ، وَالرَّابِعُ: قَوْلُ الْكَرَّامِيَّةِ أنَّهُ مُحْدَثٌ لَا مَخْلُوقٌ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ الْقَوْلِ فِيهِ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَتَكَلَّمْ إِذَا شَاءَ؛ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَدُ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ، وَافْتَرَقَ أَصْحَابُهُ فِرْقَتَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُوَ لَازِمٌ لِذَاتِهِ وَالْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ مُقْتَرِنَةٌ لَا مُتَعَاقِبَةٌ وَيَسْمَعُ كَلَامَهُ مَنْ شَاءَ، وأَكْثَرُهُمْ قَالُوا إِنَّهُ مُتَكَلِّمٌ بِمَا شَاءَ مَتَى شَاءَ، وَإنَّهُ نَادَى مُوسَى عليه السلام حِينَ كَلَّمَهُ وَلَمْ يَكُنْ نَادَاهُ مِنْ قَبْلُ، وَالَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ قَوْلُ الْأَشْعَرِيَّةِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، مَكْتُوبٌ فِي الْمَصَاحِفِ مَحْفُوظٌ فِي الصُّدُورِ مَقْرُوءٌ بِالْأَلْسِنَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} وَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْجِهَادِ لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ، كَرَاهِيَةَ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ وَلَيْسَ الْمُرَادُ مَا فِي الصُّدُورِ بَلْ مَا فِي الصُّحُفِ، وَأَجْمَعَ السَّلَفُ عَلَى أَنَّ الَّذِي بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ كَلَامُ اللَّهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْقُرْآنُ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْمَقْرُوءُ وَهُوَ الصِّفَةُ الْقَدِيمَةُ، وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْقِرَاءَةُ وَهِيَ الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ، وَبِسَبَبِ ذَلِكَ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ فَمُرَادُهُمُ الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ الْقَائِمُ بِالذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ فَهُوَ مِنَ الصِّفَاتِ الْمَوْجُودَةِ الْقَدِيمَةِ، وَأَمَّا الْحُرُوفُ فَإِنْ كَانَتْ حَرَكَاتٍ أَدَوَاتٍ كَاللِّسَانِ وَالشَّفَتَيْنِ فَهِيَ أَعْرَاضٌ، وَإِنْ كَانَتْ كِتَابَةً فَهِيَ أَجْسَامٌ، وَقِيَامُ الْأَجْسَامِ وَالْأَعْرَاضِ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، وَيَلْزَمُ مَنْ أَثْبَتَ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَهُوَ يَأْبَى ذَلِكَ وَيَفِرُّ مِنْهُ، فَأَلْجَأَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ إِلَى ادِّعَاءِ قِدَمِ الْحُرُوفِ كَمَا الْتَزَمَتْهُ السَّالِمِيَّةُ، وَمِنْهُمْ مَنِ الْتَزَمَ قِيَامَ ذَلِكَ بِذَاتِهِ، وَمِنْ شِدَّةِ اللَّبْسِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَثُرَ نَهْيُ السَّلَفِ عَنِ الْخَوْضِ فِيهَا وَاكْتَفَوْا بِاعْتِقَادِ أَنَّ

ص: 493

الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَلَمْ يَزِيدُوا عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا وَهُوَ أَسْلَمُ الْأَقْوَالِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

قَوْلُهُ {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ فَلَا تَجْعَلُوا لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَهُوَ غَلَطٌ.

قَوْلُهُ: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} - إِلَى قَوْلِهِ - {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} سَاقَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ الْآيَتَيْنِ بِكَمَالِهِمَا، قَالَ الطَّبَرِيُّ هَذَا مِنَ الْكَلَامِ الْمُوجَزِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ التَّقْدِيمُ، وَالْمَعْنَى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ - إِلَى قَوْلِهِ - مِنَ الْخَاسِرِينَ، وَأُوحِيَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ مِثْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ ذَلِكَ، وَمَعْنَى لَيَحْبَطَنَّ: لَيَبْطُلَنَّ ثَوَابُ عَمَلِكَ انْتَهَى. وَالْغَرَضُ هُنَا تَشْدِيدُ الْوَعِيدِ عَلَى مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ، وَأَنَّ الشِّرْكَ مُحَذَّرٌ مِنْهُ فِي الشَّرَائِعِ كُلِّهَا وَأَنَّ لِلْإِنْسَانِ عَمَلًا يُثَابُ عَلَيْهِ إِذَا سَلِمَ مِنَ الشِّرْكِ وَيَبْطُلُ ثَوَابَهُ إِذَا أَشْرَكَ.

قَوْلُهُ {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} أَشَارَ بِإِيرَادِهَا إِلَى مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ فِي الْبَابِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفُرْقَانِ، فَفِيهِ بَعْدَ قَوْلِهِ أَنْ تُزَانِي بِحَلِيلَةِ جَارِكَ وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} الْآيَةَ وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ بِهَا إِلَى تَفْسِيرِ الْجَعْلِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَتَيْنِ قَبْلَهَا، وَأَنَّ الْمُرَادَ الدُّعَاءُ إِمَّا بِمَعْنَى النِّدَاءِ وَإِمَّا بِمَعْنَى الْعِبَادَةِ وَإِمَّا بِمَعْنَى الِاعْتِقَادِ، وَقَدْ رَدَّ أَحْمَدُ عَلَى مَنْ تَمَسَّكَ مِنَ الْقَائِلِينَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} وَقَالَ هِيَ حُجَّةٌ فِي أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ؛ لِأَنَّ الْمَجْعُولَ مَخْلُوقٌ فَنَاقَضَهُ بِنَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ أَنَّ أَحْمَدَ رَدَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} فَلَيْسَ الْمَعْنَى فَخَلَقَهُمْ، وَمِثْلُهُ احْتِجَاجُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْلَمَ الطُّوسِيِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً} قَالَ أَفَخَلَقَهُمْ بَعْدَ أَنْ أَغْرَقَهُمْ؟ وَعَنْ إِسْحَاقَ ابْنِ رَاهْوَيْهِ أَنَّهُ احْتَجَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} وَعَنْ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ أَنَّهُ احْتَجَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} وَعَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ يَحْيَى الْمَكِّيِّ فِي مُنَاظَرَتِهِ لِبِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ حِينَ قَالَ لَهُ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} نَصٌّ فِي أَنَّهُ مَخْلُوقٌ فَنَاقَضَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّ الْجَعْلَ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ وَفِي لُغَةِ الْعَرَبِ لِمَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ، قَالَ الرَّاغِبُ: جَعَلَ لَفْظٌ عَامٌّ فِي الْأَفْعَالِ كُلِّهَا وَيَتَصَرَّفُ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ، الْأَوَّلُ: صَارَ، نَحْوَ: جَعَلَ زَيْدٌ يَقُولُ، وَالثَّانِي: أَوْجَدَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} وَالثَّالِثُ: إِخْرَاجُ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ} وَالرَّابِعُ: تَصْيِيرُ شَيْءٍ عَلَى حَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا} وَالْخَامِسُ: الْحُكْمُ بِالشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ فَمِثَالُ مَا كَانَ مِنْهُ حَقًّا قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} وَمِثَالُ مَا كَانَ بَاطِلًا قَوْلُهُ تَعَالَى {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا} انْتَهَى. وَأَثْبَتَ بَعْضُهُمْ سَادِسًا: وَهُوَ الْوَصْفُ وَمَثَّلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا} وَتَقَدَّمَ أَنَّهَا تَأْتِي بِمَعْنَى الدُّعَاءِ وَالنِّدَاءِ وَالِاعْتِقَادِ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

قَوْلُهُ (وَقَالَ عِكْرِمَةُ إِلَخْ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ، عَنْ هَنَّادِ بْنِ السُّرِّيِّ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} قَالَ يَسْأَلُهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ وَمَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ؟ فَيَقُولُونَ: اللَّهُ فَذَلِكَ إِيمَانُهُمْ وَهُمْ يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ الْفَضْلِ الثَّمَانِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} قَالَ هُوَ قَوْلُ اللَّهِ {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} فَإِذَا سُئِلُوا عَنِ اللَّهِ وَعَنْ صِفَتِهِ وَصَفُوهُ بِغَيْرِ صِفَتِهِ وَجَعَلُوا لَهُ وَلَدًا وَأَشْرَكُوا بِهِ وَبِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ عَنْ عَطَاءٍ وَعَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوُهُ

ص: 494

وَبِسَنَدٍ حَسَنٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مِنْ إِيمَانِهِمْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَمَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَمَنْ خَلَقَ الْجِبَالَ قَالُوا اللَّهُ وَهُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ.

قَوْلُهُ: وَمَا ذُكِرَ فِي خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَعْمَالِ وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ.

قَوْلُهُ: وَأَكْسَابِهِمْ) بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى أَفْعَالِ، وَفِي رِوَايَةٍ وَاكْتِسَابِهِمْ بِزِيَادَةِ مُثَنَّاةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْكَسْبِ وَيَأْتِي الْإِلْمَامُ بِهِ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}

قَوْلُهُ: لِقَوْلِهِ: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} وَجْهُ الدَّلَالَةِ عُمُومُ قَوْلِهِ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ، وَالْكَسْبُ شَيْءٌ فَيَكُونُ مَخْلُوقًا لِلَّهِ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: وَقَالَ مُجَاهِدٌ مَا تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ إِلَّا بِالْحَقِّ يَعْنِي بِالرِّسَالَةِ وَالْعَذَابِ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ.

قَوْلُهُ {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} الْمُبَلِّغِينَ الْمُؤَدِّينَ مِنَ الرُّسُلِ) هُوَ فِي تَفْسِيرِ الْفِرْيَابِيِّ أَيْضًا بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: مَعْنَاهُ أَخَذْتُ الْمِيثَاقَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْمَذْكُورِينَ كَيْمَا أَسْأَلُ مَنْ أَرْسَلْتُهُمْ عَمَّا أَجَابَتْهُمْ بِهِ أُمَمُهُمْ.

قَوْلُهُ: وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ عِنْدَنَا) هُوَ أَيْضًا مِنْ قَوْلِ مُجَاهِدٍ أَخْرَجَهُ الْفِرْيَابِيُّ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} الْقُرْآنُ، وَصَدَّقَ بِهِ: الْمُؤْمِنُ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَذَا الَّذِي أَعْطَيْتَنِي عَمِلْتُ بِمَا فِيهِ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ يَجِيئُونَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُونَ هَذَا الَّذِي أَعْطَيْتُمُونَا عَمِلْنَا بِمَا فِيهِ، وَمِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَمِنْ طَرِيقٍ لَيِّنٌ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَالَّذِي صَدَّقَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَ بِالْقُرْآنِ وَالَّذِي صَدَّقَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ، وَمِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ هُوَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، قَالَ الطَّبَرِيُّ: الْأَوْلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ كُلُّ مَنْ دَعَا إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَالْإِيمَانِ بِرَسُولِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ وَالْمُصَدِّقُ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ ذَلِكَ وَرَدَ عَقِبَ قَوْلِهِ {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ} الْآيَةَ.

وأما حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فتَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي بَابِ إِثْمِ الزُّنَاةِ مِنْ كِتَابِ الْحُدُودِ وَذَكَرْتُ مَا فِي سَنَدِهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ عَلَى أَبِي وَائِلٍ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ من زَعْمَ أَنَّهُ يَخْلُقُ فِعْلَ نَفْسِهِ يَكُونُ كَمَنْ جَعَلَ لِلَّهِ نِدًّا، وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ فَيَكُونُ اعْتِقَادُهُ حَرَامًا.

‌41 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ}

7521 -

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: اجْتَمَعَ عِنْدَ الْبَيْتِ ثَقَفِيَّانِ وَقُرَشِيٌّ، أَوْ قُرَشِيَّانِ وَثَقَفِيٌّ، كَثِيرَةٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ، قَلِيلَةٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَتَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ مَا نَقُولُ؟ قَالَ الْآخَرُ: يَسْمَعُ إِنْ جَهَرْنَا، وَلَا يَسْمَعُ إِنْ أَخْفَيْنَا، وَقَالَ الْآخَرُ: إِنْ كَانَ يَسْمَعُ إِذَا جَهَرْنَا فَإِنَّهُ يَسْمَعُ إِذَا أَخْفَيْنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ} الْآيَةَ.

قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ} الْآيَةَ) سَاقَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ الْآيَةَ كُلَّهَا فِيهِ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ اجْتَمَعَ عِنْدَ الْبَيْتِ، وَفِيهِ يَسْمَعُ إِنْ جَهَرْنَا

ص: 495

وَلَا يَسْمَعُ إِنْ أَخْفَيْنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ} وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِ فُصِّلَتْ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: غَرَضُ الْبُخَارِيِّ فِي هَذَا الْبَابِ إِثْبَاتُ السَّمْعِ لِلَّهِ وَأَطَالَ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ التَّوْحِيدِ فِي قَوْلِهِ {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} وَالَّذِي أَقُولُ إِنَّ غَرَضَهُ فِي هَذَا الْبَابِ إِثْبَاتُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ مَتَى شَاءَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَمْثِلَةِ إِنْزَالِ الْآيَةِ بَعْدَ الْآيَةِ عَلَى السَّبَبِ الَّذِي يَقَعُ فِي الْأَرْضِ وَهَذَا يَنْفَصِلُ عَنْهُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْكَلَامَ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ وَأَنَّ الْإِنْزَالَ بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَوْ مِنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ: نَزَلَ الْقُرْآنَ دَفْعَةً وَاحِدَةً إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَوُضِعَ فِي بَيْتِ الْعِزَّةِ ثُمَّ أُنْزِلَ إِلَى الْأَرْضِ نُجُومًا رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِهَذَا فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ إِثْبَاتُ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ وَإِبْطَالُ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّ الَّذِي قَالَ يَسْمَعُ إِنْ جَهَرْنَا وَلَا يَسْمَعُ إِنْ أَخْفَيْنَا قَاسَ قِيَاسًا فَاسِدًا؛ لِأَنَّهُ شَبَّهَ سَمْعَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَسْمَاعِ خَلْقِهِ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْجَهْرَ وَلَا يَسْمَعُونَ السِّرَّ، وَالَّذِي قَالَ إِنْ كَانَ يَسْمَعُ إِنْ جَهَرْنَا فَإِنَّهُ يَسْمَعُ إِنْ أَخْفَيْنَا أَصَابَ فِي قِيَاسِهِ

حَيْثُ لَمْ يُشَبِّهُ اللَّهَ بِخَلْقِهِ، وَنَزَّهَهُ عَنْ مُمَاثَلَتِهِمْ وَإِنَّمَا وَصَفَ الْجَمِيعَ بِقِلَّةِ الْفِقْهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الَّذِي أَصَابَ لَمْ يَعْتَقِدْ حَقِيقَةَ مَا قَالَ بَلْ شَكَّ بِقَوْلِهِ إِنْ كَانَ وَقَوْلُهُ فِي وَصْفِهِمْ كَثِيرَةٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ قَلِيلَةٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ وَقَعَ بِالرَّفْعِ عَلَى الصِّفَةِ وَيَجُوزُ النَّصْبُ، وَأَنَّثَ الشَّحْمَ وَالْفِقْهَ لِإِضَافَتِهِمَا إِلَى الْبُطُونِ وَالْقُلُوبِ، وَالتَّأْنِيثُ يَسْرِي مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ إِلَى الْمُضَافِ، أَوْ أَنَّثَ بِتَأْوِيلِ شَحْمٍ بِشُحُومٍ وَفِقْهٍ بِفُهُومٍ.

‌42 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} وَ {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ}

وَقَوْلِهِ تَعَالَى {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} وَأَنَّ حَدَثَهُ لَا يُشْبِهُ حَدَثَ الْمَخْلُوقِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِنَّ اللَّهَ عز وجل يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ، وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ.

7522 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ كُتُبِهِمْ وَعِنْدَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ أَقْرَبُ الْكُتُبِ عَهْدًا بِاللَّهِ، تَقْرَءُونَهُ مَحْضًا لَمْ يُشَبْ.

7523 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ وَكِتَابُكُمْ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم أَحْدَثُ الْأَخْبَارِ بِاللَّهِ، مَحْضًا لَمْ يُشَبْ، وَقَدْ حَدَّثَكُمْ اللَّهُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ بَدَّلُوا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ وَغَيَّرُوا، فَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِمْ قَالُوا: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِذَلِكَ ثَمَنًا قَلِيلًا، أَوَلَا يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنْ الْعِلْمِ عَنْ مَسْأَلَتِهِمْ، فَلَا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا رَجُلًا مِنْهُمْ يَسْأَلُكُمْ عَنْ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ.

قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} تَقَدَّمَ مَا جَاءَ فِي تَفْسِيرِهَا فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ فِي التَّفْسِيرِ.

قَوْلُهُ: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} وَقَوْلُهُ: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} وَإنَّ حَدَثَهُ لَا يُشْبِهُ حَدَثَ الْمَخْلُوقِينَ

ص: 496

لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: غَرَضُ الْبُخَارِيِّ الْفَرْقُ بَيْنَ وَصْفِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ وَبَيْنَ وَصْفِهِ بِأَنَّهُ مُحْدَثٌ، فَأَحَالَ وَصْفَهُ بِالْخَلْقِ وَأَجَازَ وَصْفَهُ بِالْحَدَثِ اعْتِمَادًا عَلَى الْآيَةِ، وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ وَهُوَ خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الذِّكْرَ الْمَوْصُوفَ فِي الْآيَةِ بِالْإِحْدَاثِ لَيْسَ هُوَ نَفْسَ كَلَامِهِ تَعَالَى لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ مُحْدَثًا وَمُنْشَأً وَمُخْتَرَعًا وَمَخْلُوقًا أَلْفَاظٌ مُتَرَادِفَةٌ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ فَإِذَا لَمْ يَجُزْ وَصْفُ كَلَامِهِ الْقَائِمِ بِذَاتِهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ لَمْ يَجُزْ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ مُحْدَثٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالذِّكْرُ الْمَوْصُوفُ فِي الْآيَةِ بِأَنَّهُ مُحْدَثٌ هُوَ الرَّسُولُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ سَمَّاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولا} فَيَكُونُ الْمَعْنَى: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ مُحْدَثٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ هُنَا وَعْظَ الرَّسُولِ إِيَّاهُمْ وَتَحْذِيرَهُ مِنَ الْمَعَاصِي فَسَمَّاهُ ذِكْرًا وَأَضَافَهُ إِلَيْهِ إِذْ هُوَ فَاعِلُهُ وَمُقَدِّرٌ رَسُولَهُ عَلَى اكْتِسَابِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مَرْجِعَ الْأَحْدَاثِ إِلَى الْإِتْيَانِ لَا إِلَى الذِّكْرِ الْقَدِيمِ؛ لِأَنَّ نُزُولَ الْقُرْآنِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَكَانَ نُزُولُهُ يَحْدُثُ حِينًا بَعْدَ حِينٍ كَمَا أَنَّ الْعَالِمَ يَعْلَمُ مَا لَا يَعْلَمُهُ الْجَاهِلُ فَإِذَا عَلِمَهُ الْجَاهِلُ حَدَثَ عِنْدَهُ الْعِلْمُ وَلَمْ يَكُنْ إِحْدَاثُهُ عِنْدَ التَّعَلُّمِ إِحْدَاثَ عَيْنِ الْمُعَلَّمِ. قُلْتُ: وَالِاحْتِمَالُ الْأَخِيرُ أَقْرَبُ إِلَى مُرَادِ الْبُخَارِيِّ لِمَا قَدَّمْتُ قَبْلُ أَنَّ مَبْنَى هَذِهِ التَّرَاجِمِ عِنْدَهُ عَلَى إِثْبَاتِ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ وَمُرَادُهُ هُنَا الْحَدَثُ بِالنِّسْبَةِ لِلْإِنْزَالِ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ ابْنُ الْمُنِيرِ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: صِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى سَلْبِيَّةٌ وَوُجُودِيَّةٌ وَإِضَافِيَّةٌ، فَالْأُولَى: هِيَ التَّنْزِيهَاتُ، وَالثَّانِيَةُ: هِيَ الْقَدِيمَةُ، وَالثَّالِثَةُ: الْخَلْقُ وَالرِّزْقُ، وَهِيَ حَادِثَةٌ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ حُدُوثِهَا تَغَيُّرٌ فِي ذَاتِ اللَّهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ الْوُجُودِيَّةِ، كَمَا أَنَّ تَعَلُّقَ الْعِلْمِ وَتَعَلُّقَ الْقُدْرَةِ بِالْمَعْلُومَاتِ وَالْمَقْدُورَاتِ حَادِثٌ وَكَذَا جَمِيعُ الصِّفَاتِ الْفِعْلِيَّةِ، فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَالْإِنْزَالُ حَادِثٌ وَالْمُنَزَّلُ قَدِيمٌ وَتَعَلُّقُ الْقُدْرَةِ حَادِثٌ وَنَفْسُ الْقُدْرَةِ قَدِيمَةٌ فَالْمَذْكُورُ وَهُوَ الْقُرْآنُ قَدِيمٌ وَالذِّكْرُ حَادِثٌ، وَأَمَّا مَا نَقَلَهُ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الْمُهَلَّبِ فَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْبُخَارِيَّ لَا يَقْصِدُ ذَلِكَ وَلَا يَرْضَى بِمَا نُسِبَ إِلَيْهِ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَخْلُوقٍ وَحَادِثٍ لَا عَقْلًا وَلَا نَقْلًا وَلَا عُرْفًا، وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ قِيلَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ حَمْلَ لَفْظِ مُحْدَثٍ عَلَى الْحَدِيثِ فَمَعْنَى ذِكْرٍ مُحْدَثٍ أَيْ مُتَحَدَّثٌ بِهِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الرَّازِيِّ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْجَهْمِيَّةِ احْتَجَّ لِزَعْمِهِ أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ لَهُ هِشَامٌ مُحْدَثٌ إِلَيْنَا مُحَدَّثٌ إِلَى الْعِبَادِ، وَعَنْ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيِّ نَحْوُهُ، وَمِنْ طَرِيقِ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ قَالَ مُحْدَثٌ

عِنْدَ الْخَلْقِ لَا عِنْدَ اللَّهِ، قَالَ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّهُ مُحْدَثٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَعْلَمُهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ لَا يَعْلَمُهُ، وَأَمَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ فَلَمْ يَزَلْ عَالِمًا وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمُحْدَثٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا لَا أَنَّهُ كَانَ لَا يَتَكَلَّمُ حَتَّى أَحْدَثَ كَلَامًا لِنَفْسِهِ فَمَنْ زَعَمَ ذَلِكَ فَقَدْ شَبَّهَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ؛ لِأَنَّ الْخَلْقَ كَانُوا لَا يَتَكَلَّمُونَ حَتَّى أَحْدَثَ لَهُمْ كَلَامًا فَتَكَلَّمُوا بِهِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْمُحْدَثُ مَا أُوجِدَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَذَلِكَ إِمَّا فِي ذَاتِهِ أَوْ إِحْدَاثِهِ عِنْدَ مَنْ حَصَلَ عِنْدَهُ، وَيُقَالُ لِكُلِّ مَا قَرُبَ عَهْدُهُ حَدَثٌ فِعَالًا كَانَ أَوْ مَقَالًا، وَقَالَ غَيْرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} وَفِي قَوْلِهِ {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} الْمَعْنَى يَحْدُثُ عِنْدَهُمْ م الَمْ يَكُنْ يَعْلَمُونَهُ، فَهُوَ نَظِيرُ الْآيَةِ الْأُولَى، وَقَدْ نَقَلَ الْهَرَوِيُّ فِي الْفَارُوقِ بِسَنَدِهِ إِلَى حَرْبٍ الْكِرْمَانِيِّ: سَأَلْتُ إِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيَّ يَعْنِي ابْنَ رَاهْوَيْهِ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} قَالَ: قَدِيمٌ مِنْ رَبِّ الْعِزَّةِ مُحْدَثٌ إِلَى الْأَرْضِ فَهَذَا هُوَ سَلَفُ الْبُخَارِيِّ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ احْتَجَّ مَنْ قَالَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، قَالُوا: وَالْمُحْدَثُ هُوَ الْمَخْلُوقُ وَالْجَوَابُ أَنَّ لَفْظَ الذِّكْرِ فِي الْقُرْآنِ يَتَصَرَّفُ عَلَى وُجُوهِ الذِّكْرِ بِمَعْنَى الْعِلْمِ، وَمِنْهُ {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} وَالذِّكْرُ بِمَعْنَى الْعِظَةِ، وَمِنْهُ {ص * وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} وَالذِّكْرُ بِمَعْنَى الصَّلَاةِ، وَمِنْهُ {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} وَالذِّكْرُ بِمَعْنَى الشَّرَفِ،

ص: 497

وَمِنْهُ {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} ، {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} قَالَ: فَإِذَا كَانَ الذِّكْرُ يَتَصَرَّفُ إِلَى هَذِهِ الْأَوْجُهِ وَهِيَ كُلُّهَا مُحْدَثَةٌ كَانَ حَمْلُهُ عَلَى إِحْدَاهَا أَوْلَى؛ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانَ مُحْدَثًا) وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الذِّكْرِ مَا هُوَ مُحْدَثٌ كَمَا قُلْنَا وَقِيلَ مُحْدَثٌ عِنْدَهُمْ وَمِنْ زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: الذِّكْرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْقُرْآنُ وَهُوَ مُحْدَثٌ عِنْدَنَا وَهُوَ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى، وَلَمْ يَزَلْ سبحانه وتعالى بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَهَذَا مِنْهُ - أَيْ مِنَ الدَّاوُدِيِّ - عَظِيمٌ، وَاسْتِدْلَالُهُ يُرَدُّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ لَمْ يَزَلْ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ وَهُوَ قَدِيمٌ فَكَيْفَ تَكُونُ صِفَتُهُ مُحْدَثَةً وَهُوَ لَمْ يَزَلْ بِهَا إِلَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّ الْمُحْدَثَ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ كَمَا يَقُولُ الْبَلْخِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْبُخَارِيِّ حَيْثُ قَالَ: وَإِنَّ حَدَثَهُ لَا يُشْبِهُ حَدَثَ الْمَخْلُوقِينَ فَأَثْبَتَ أَنَّهُ مُحْدَثٌ انْتَهَى.

وَمَا اسْتَعْظَمَهُ مِنْ كَلَامِ الدَّاوُدِيِّ هُوَ بِحَسَبِ مَا تَخَيَّلَهُ، وَإِلَّا فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مُرَادَ الدَّاوُدِيِّ أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْكَلَامُ الْقَدِيمُ الَّذِي هُوَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ غَيْرُ مُحْدَثٍ وَإِنَّمَا يُطْلَقُ الْحَدَثُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِنْزَالِهِ إِلَى الْمُكَلَّفِينَ وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى قِرَاءَتِهِمْ لَهُ وَإِقْرَائِهِمْ غَيْرَهُمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَدْ أَعَادَ الدَّاوُدِيُّ نَحْوَ هَذَا فِي شَرْحِ قَوْلِ عَائِشَةَ وَلَشَأْنِي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى، قَالَ الدَّاوُدِيُّ: فِيهِ أَنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِبَرَاءَةِ عَائِشَةَ حِينَ أَنْزَلَ بَرَاءَتَهَا بِخِلَافِ قَوْلِ بَعْضِ النَّاسِ أنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ، فَقَالَ ابْنُ التِّينِ أَيْضًا هَذَا مِنَ الدَّاوُدِيِّ عَظِيمٌ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى مُتَكَلِّمًا بِكَلَامٍ حَادِثٍ فَتَحِلَّ فِيهِ الْحَوَادِثُ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِأَنْزَلَ أَنَّ الْإِنْزَالَ هُوَ الْمُحْدَثُ لَيْسَ أَنَّ الْكَلَامَ الْقَدِيمَ نَزَلَ الْآنَ انْتَهَى.

وَهَذَا مُرَادُ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ قَالَ فِي كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ، يَعْنِي الْقَاسِمَ بْنَ سَلَّامٍ: احْتَجَّ هَؤُلَاءِ الْجَهْمِيَّةُ بِآيَاتٍ وَلَيْسَ فِيمَا احْتَجُّوا بِهِ أَشَدُّ بَأْسًا مِنْ ثَلَاثِ آيَاتٍ قَوْلُهُ {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} وَ {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ} وَ {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} قَالُوا: إِنْ قُلْتُمْ إِنَّ الْقُرْآنَ لَا شَيْءَ كَفَرْتُمْ وَإِنْ قُلْتُمْ إِنَّ الْمَسِيحَ كَلِمَةُ اللَّهِ فَقَدْ أَقْرَرْتُمْ أَنَّهُ خُلِقَ وَإِنْ قُلْتُمْ لَيْسَ بِمُحْدَثٍ رَدَدْتُمُ الْقُرْآنَ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ أَمَّا قَوْلُهُ {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} فَقَدْ قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فَأَخْبَرَ أَنَّ خَلْقَهُ بِقَوْلِهِ وَأَوَّلُ خَلْقِهِ هُوَ مِنْ أَوَّلِ الشَّيْءِ الَّذِي قَالَ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ، وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَهُ بِقَوْلِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كَلَامَهُ قَبْلَ خَلْقِهِ، وَأَمَّا الْمَسِيحُ فَالْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ بِكَلِمَتِهِ لَا أَنَّهُ هُوَ الْكَلِمَةُ لِقَوْلِهِ {أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} وَلَمْ يَقُلْ أَلْقَاهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ} وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّالِثَةُ فَإِنَّمَا حَدَثُ الْقُرْآنِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ لِمَا عَلَّمَهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، ثُمَّ سَاقَ الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَنْ قَالَ: سَمِعْتُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ يَعْنِي الْقَطَّانَ يَقُولُ مَا زِلْتُ أَسْمَعُ أَصْحَابَنَا يَقُولُونَ إِنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ، قَالَ الْبُخَارِيُّ حَرَكَاتُهُمْ وَأَصْوَاتُهُمْ وَأَكْسَابُهُمْ وَكِتَابَتُهُمْ مَخْلُوقَةٌ، فَأَمَّا الْقُرْآنُ الْمَتْلُوُّ الْمُبِينُ الْمُثْبَتُ فِي الْمَصَاحِفِ الْمَسْطُورُ الْمَكْتُوبُ الْمُوعَى فِي الْقُلُوبِ فَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِخَلْقٍ قَالَ: وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ يَعْنِي ابْنَ رَاهْوَيْهِ: فَأَمَّا الْأَوْعِيَةُ فَمَنْ يَشُكُّ فِي خَلْقِهَا، قَالَ الْبُخَارِيُّ فَالْمِدَادُ وَالْوَرَقُ وَنَحْوُهُ خَلْقٌ، وَأَنْتَ تَكْتُبُ اللَّهُ فَاللَّهُ فِي ذَاتِهِ هُوَ الْخَالِقُ وَخَطُّكَ مِنْ فِعْلِكَ وَهُوَ خَلْقٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ دُونَ اللَّهِ هُوَ بِصُنْعِهِ، ثُمَّ سَاقَ حَدِيثَ حُذَيْفَةَ رَفَعَهُ: إِنَّ اللَّهَ يَصْنَعُ كُلَّ صَانِعٍ وَصَنْعَتَهُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

قَوْلُهُ: وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَاللَّفْظُ لَهُ وَأَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ، عَنْ أَبِي

ص: 498

وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا نُسَلِّمُ فِي الصَّلَاةِ وَنَأْمُرُ بِحَاجَتِنَا، فَقَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَلِّي فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ فَأَخَذَنِي مَا قَدُمَ وَمَا حَدُثَ فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ وَأَصْلُ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ لَكِنْ قَالَ فِيهَا إِنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلًا وَقَدْ مَضَى فِي أَوَاخِرِ الصَّلَاةِ وَفِي هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الصَّلَاةِ وَلَيْسَ فِيهِ مَقْصُودُ الْبَابِ، ثم ذكر حديث ابن عباس موقوفا من وجهين.

قَوْلُهُ (كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ كُتُبِهِمْ) هَذِهِ رِوَايَةُ عِكْرِمَةَ عَنْهُ وَرِوَايَةُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ ابْنُ عُتْبَةَ عَنْهُ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ.

قَوْلُهُ (وَعِنْدَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ أَقْرَبُ الْكُتُبِ عَهْدًا بِاللَّهِ) هَذِهِ رِوَايَةُ عِكْرِمَةَ وَرِوَايَةُ عُبَيْدِ اللَّهِ وَكِتَابُكُمُ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أَحْدَثُ الْأَخْبَارِ بِاللَّهِ أَيْ أَقْرَبُهَا نُزُولًا إِلَيْكُمْ وَأَخْبَارًا مِنَ اللَّهِ سبحانه وتعالى وَقَدْ جَرَى الْبُخَارِيُّ عَلَى عَادَتِهِ فِي الْإِشَارَةِ إِلَى اللَّفْظِ الَّذِي يُرِيدُهُ وَإِيرَادِهِ لَفْظًا آخَرَ غَيْرَهُ فَإِنَّهُ أَوْرَدَ أَثَرَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ أَقْرَبُ وَهُوَ عِنْدَهُ فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ بِلَفْظِ أَحْدَثُ وَهُوَ أَلْيَقُ بِمُرَادِهِ هُنَا وَقَدْ جَاءَ نَظِيرُ هَذَا الْوَصْفِ مِنْ كَلَامِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ مَنْسُوبًا إِلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى فَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ، عَنْ مُغِيثِ بْنِ سُمَيٍّ قَالَ قَالَ كَعْبٌ عَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّهُ أَحْدَثُ الْكُتُبِ عَهْدًا بِالرَّحْمَنِ، زَادَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ كَعْبٍ: وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي التَّوْرَاةِ: يَا مُوسَى إِنِّي مُنَزِّلٌ عَلَيْكَ تَوْرَاةً حَدِيثَةً أَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا.

قَوْلُهُ (تَقْرَءُونَهُ مَحْضًا لَمْ يُشَبْ) هَذَا آخِرُ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ وَقَوْلُهُ لَمْ يُشَبْ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ، أَيْ لَمْ يُخَالِطْهُ غَيْرُهُ، وَزَادَ عُبَيْدُ اللَّهِ فِي رِوَايَتِهِ وَقَدْ حَدَّثَكُمُ اللَّهُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ بَدَّلُوا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ وَغَيَّرُوا إِلَخْ يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} - إِلَى - {يَكْسِبُونَ} وَقَوْلُهُ لِيَشْتَرُوا بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي لِيَشْتَرُوا بِهِ وَقَوْلُهُ عَنِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي إِلَيْكُمْ وَقَوْلُهُ جَاءَكُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِسْنَادُ الْمَجِيءِ إِلَى الْعِلْمِ كَإِسْنَادِ النَّهْيِ إِلَيْهِ.

قَوْلُهُ (فَلَا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا رَجُلًا مِنْهُمْ يَسْأَلُكُمْ) فِيهِ تَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِالْقَسَمِ وَكَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا يَسْأَلُونَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ كِتَابَكُمْ لَا تَحْرِيفَ فِيهِ، فَكَيْفَ تَسْأَلُونَهُمْ وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ كِتَابَهُمْ مُحَرَّفٌ.

‌43 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} وَفِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ،

وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا مَعَ عَبْدِي إذا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ.

7524 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعَالِجُ مِنْ التَّنْزِيلِ شِدَّةً، وَكَانَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ، فَقَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: أُحَرِّكُهُمَا لَكَ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحَرِّكُهُمَا؟ فَقَالَ سَعِيدٌ: أَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُحَرِّكُهُمَا، فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل:{لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} قَالَ جَمْعُهُ فِي صَدْرِكَ، ثُمَّ تَقْرَؤُهُ، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} قَالَ: فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ، قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ عليه السلام اسْتَمَعَ، فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَمَا أَقْرَأَهُ.

قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} يَعْنِي إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.

قَوْلُهُ: وَفِعْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ

ص: 499

الْوَحْيُ) قَدْ بَيَّنَهُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ بِأَنَّهُ كَانَ يُعَالِجُ شِدَّةً مِنْ أَجْلِ تَحَفُّظِهِ فَلَمَّا نَزَلَتْ صَارَ يَسْتَمِعُ فَإِذَا ذَهَبَ الْمَلَكُ قَرَأَهُ كَمَا سَمِعَهُ.

قَوْلُهُ (وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ اللَّهُ عز وجل: أَنَا مَعَ عَبْدِي إِذَا ذَكَرَنِي) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مَا ذَكَرَنِي (وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ فِي خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْمُهَاجِرِ عَنْ كَرِيمَةَ بِنْتِ الْحَسْحَاسِ - بِمُهْمَلَاتٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ: إِذَا ذَكَرَنِي وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ وَنَحْنُ فِي بَيْتِ هَذِهِ - يَعْنِي أُمَّ الدَّرْدَاءِ - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ طَرِيقِ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ الدِّمَشْقِيِّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ الدَّرْدَاءِ فَلَمَّا سَلَّمْتُ جَلَسْتُ فَسَمِعْتُ كَرِيمَةَ بِنْتَ الْحَسْحَاسِ وَكَانَتْ مِنْ صَوَاحِبِ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَتْ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه وَهُوَ فِي بَيْتِ هَذِهِ - تُشِيرُ إِلَى أُمِّ الدَّرْدَاءِ - سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ، فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ مَا ذَكَرَنِي، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ أَيْضًا وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ مِنْ رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ كَرِيمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَجَّحَ الْحُفَّاظُ طَرِيقَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، وَرَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ إِسْمَاعِيلَ عَنْ كَرِيمَةَ وَعَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ مَعًا وَهَذَا مِنَ الْأَحَادِيثِ

الَّتِي عَلَّقَهَا الْبُخَارِيُّ وَلَمْ يَصِلْهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِهِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَا مَعَ عَبْدِي زَمَانَ ذِكْرِهِ لِي، أَيْ أَنَا مَعَهُ بِالْحِفْظِ وَالْكِلَاءَةِ لَا أَنَّهُ مَعَهُ بِذَاتِهِ حَيْثُ حَلَّ الْعَبْدُ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ أَيْ تَحَرَّكَتْ بِاسْمِي لَا أَنَّ شَفَتَيْهِ وَلِسَانَهُ تَتَحَرَّكُ بِذَاتِهِ تَعَالَى لِاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ انْتَهَى مُلَخَّصًا، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْمَعِيَّةُ هُنَا مَعِيَّةُ الرَّحْمَةِ، وَأَمَّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} فَهِيَ مَعِيَّةُ الْعِلْمِ يَعْنِي فَهَذِهِ أَخَصُّ مِنَ الْمَعِيَّةِ الَّتِي فِي الْآيَةِ.

ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً، الْحَدِيثَ، وَهُوَ مِنْ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْقِرَاءَةُ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ قُرْآنًا فِي الْآيَتَيْنِ الْقِرَاءَةُ لَا نَفْسَ الْقُرْآنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: غَرَضُهُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ تَحْرِيكَ اللِّسَانِ وَالشَّفَتَيْنِ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَمَلٌ لَهُ يُؤْجَرُ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} فِيهِ إِضَافَةُ الْفِعْلِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْفَاعِلِ لَهُ مَنْ يَأْمُرُهُ بِفِعْلِهِ، فَإِنَّ الْقَارِئَ لِكَلَامِهِ تَعَالَى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هُوَ جِبْرِيلُ، فَفِيهِ بَيَانٌ لِكُلِّ مَا أَشْكَلَ مِنْ كُلِّ فِعْلٍ يُنْسَبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ فِعْلُهُ مِنَ الْمَجِيءِ وَالنُّزُولِ وَنَحْوِ ذَلِكَ انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مُرَادَ الْبُخَارِيِّ بِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ الْمَوْصُولِ وَالْمُعَلَّقِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ قِرَاءَةَ الْقَارِئِ قَدِيمَةٌ فَأَبَانَ أَنَّ حَرَكَةَ لِسَانِ الْقَارِئِ بِالْقُرْآنِ مِنْ فِعْلِ الْقَارِئِ بِخِلَافِ الْمَقْرُوءِ فَإِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ الْقَدِيمُ كَمَا أَنَّ حَرَكَةَ لِسَانِ ذَاكِرِ اللَّهِ حَادِثَةٌ مِنْ فِعْلِهِ، وَالْمَذْكُورُ وَهُوَ اللَّهُ سبحانه وتعالى قَدِيمٌ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِالتَّرَاجِمِ الَّتِي تَأْتِي بَعْدَ هَذَا.

‌44 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} يَتَخَافَتُونَ: يَتَسَارُّونَ.

7525 -

حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، عَنْ هُشَيْمٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} قَالَ: نَزَلَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُخْتَفٍ بِمَكَّةَ، فَكَانَ إِذَا صَلَّى بِأَصْحَابِهِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ، فَإِذَا سَمِعَهُ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، فَقَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ

ص: 500

صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} أَيْ: بِقِرَاءَتِكَ، فَيَسْمَعَ الْمُشْرِكُونَ فَيَسُبُّوا الْقُرْآنَ، {وَلا تُخَافِتْ بِهَا} عَنْ أَصْحَابِكَ فَلَا تُسْمِعُهُمْ، {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا} .

7526 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا فِي الدُّعَاءِ.

7527 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ وَزَادَ غَيْرُهُ يَجْهَرُ بِهِ.

قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} أَشَارَ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِلَى أَنَّ الْقَوْلَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِالْقُرْآنِ أَوْ بِغَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ بِالْقُرْآنِ فَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ فَلَيْسَ بِمَخْلُوقٍ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِهِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} بَعْدَ قَوْلِهِ {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: مُرَادُهُ بِهَذَا الْبَابِ إِثْبَاتُ الْعِلْمِ لِلَّهِ صِفَةً ذَاتِيَّةً لِاسْتِوَاءِ عِلْمِهِ بِالْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ وَالسِّرِّ، وَقَدْ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ فِي آيَةٍ أُخْرَى {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ} وَأَنَّ اكْتِسَابَ الْعَبْدِ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ لِلَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ثُمَّ قَالَ عَقِبَ ذَلِكَ {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ عَالِمٌ بِمَا أَسَرُّوهُ وَمَا

جَهَرُوا بِهِ وَأَنَّهُ خَالِقٌ لِذَلِكَ فِيهِمْ، فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ مَنْ خَلَقَ رَاجِعٌ إِلَى الْقَائِلِينَ قِيلَ لَهُ إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّمَدُّحِ مِنْهُ بِعِلْمِهِ بِمَا أَسَرَّ الْعَبْدُ وَجَهَرَ وَأَنَّهُ خَلَقَهُ فَإِنَّهُ جَعَلَ خَلْقَهُ دَلِيلًا عَلَى كَوْنِهِ عَالِمًا بِقَوْلِهِمْ فَيَتَعَيَّنُ رُجُوعُ قَوْلِهِ: خَلَقَ إِلَى قَوْلِهِمْ لِيَتِمَّ تَمَدُّحِهِ بِالْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَلِيَكُونَ أَحَدُهُمَا دَلِيلًا عَلَى الْآخَرِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْأَقْوَالَ خَلْقُ اللَّهِ تَعَالَى فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْأَفْعَالُ خَلْقًا لَهُ سبحانه وتعالى، وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: ظَنَّ الشَّارِحُ أَنَّهُ قَصَدَ بِالتَّرْجَمَةِ إِثْبَاتَ الْعِلْمِ وَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ وَإِلَّا لَتَقَاطَعَتِ الْمَقَاصِدُ مِمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ التَّرْجَمَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَبَيْنَ حَدِيثِ: لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ وَإِنَّمَا قَصَدَ الْبُخَارِيُّ الْإِشَارَةَ إِلَى النُّكْتَةِ الَّتِي سَبَبُ مِحْنَتِهِ بِمَسْأَلَةِ اللَّفْظِ فَأَشَارَ بِالتَّرْجَمَةِ إِلَى أَنَّ تِلَاوَةَ الْخَلْقِ تَتَّصِفُ بِالسِّرِّ وَالْجَهْرِ وَيَسْتَلْزِمُ أَنْ تَكُونَ مَخْلُوقَةً، وَسَاقَ الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ عِدَّةِ أَحَادِيثَ دَالَّةٍ عَلَى ذَلِكَ فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ أَصْوَاتَ الْخَلْقِ وَقِرَاءَتَهُمْ وَدِرَاسَتَهُمْ وَتَعْلِيمَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ مُخْتَلِفَةٌ بَعْضُهَا أَحْسَنُ وَأَزْيَنُ وَأَحْلَى وَأَصْوَتُ وَأَرْتَلُ وَأَلْحَنُ وَأَعْلَى وَأَخْفَضُ وَأَغَضُّ وَأَخْشَعُ وَأَجْهَرُ وَأَخْفَى وَأَقْصَرُ وَأَمَدُّ وَأَلْيَنُ مِنْ بَعْضٍ.

قَوْلُهُ: {يَتَخَافَتُونَ} يَتَسَارُّونَ) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَالسِّينٌ مُهْمَلَةٌ وَفِي بَعْضِهَا بِشِينٍ مُعْجَمَةٍ وَزِيَادَةُ وَاوٍ بِغَيْرِ تَثْقِيلٍ، أَيْ يَتَرَاجَعُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ سِرًّا.

ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} وَفِي آخِرِهِ: فَقَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} أَيْ بِقِرَاءَتِكَ.

وَحَدِيثَ عَائِشَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الدُّعَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُمَا فِي تَفْسِيرِ سُبْحَانَ.

وَحَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ، وَزَادَ غَيْرُهُ: يَجْهَرْ بِهِ، أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ وَقَدْ مَضَى فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ، وَفِي بَابِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} مِنْ طَرِيقِ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِلَفْظِ مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ

ص: 501

وَقَالَ صَاحِبٌ لَهُ يَجْهَرُ بِهِ وَسَيَأْتِي قَرِيبًا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بِلَفْظِ مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الْغَيْرَ الْمُبْهَمَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ وَهُوَ الصَّاحِبُ الْمُبْهَمُ فِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ، وَالْحَدِيثُ وَاحِدٌ إِلَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ رَوَاهُ بِلَفْظِ: مَا أَذِنَ اللَّهُ وَبَعْضَهُمْ رَوَاهُ بِلَفْظِ لَيْسَ مِنَّا وَإِسْحَاقُ شَيْخُهُ فِيهِ هُوَ ابْنُ مَنْصُورٍ، وَقَالَ الْحَاكِمُ، بْنُ نَصْرٍ وَرَجَّحَ الْأَوَّلُ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ وَأَبُو عَاصِمٍ هُوَ النَّبِيلُ وَهُوَ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ قَدْ أَكْثَرَ عَنْهُ بِلَا وَاسِطَةٍ وَأَقْرَبُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ حَدِيثٍ مِنْ كِتَابِ التَّوْحِيدِ.

‌45 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ،

وَرَجُلٌ يَقُولُ: لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ هَذَا فَعَلْتُ كَمَا يَفْعَلُ، فَبَيَّنَ الله أَنَّ قِيَامَهُ بِالْكِتَابِ هُوَ فِعْلُهُ، وَقَالَ:{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}

7528 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَحَاسُدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ هَذَا لَفَعَلْتُ كَمَا يَفْعَلُ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ فِي حَقِّهِ، فَيَقُولُ: لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ.

7529 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ الزُّهْرِيُّ:، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ. سَمِعْتُ من سُفْيَانَ مِرَارًا: لَمْ أَسْمَعْهُ يَذْكُرُ الْخَبَرَ. وَهُوَ مِنْ صَحِيحِ حَدِيثِهِ.

قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَالنَّهَارِ بِحَذْفِ وَآنَاءَ الثَّانِيَةِ.

قَوْلُهُ: وَرَجُلٌ يَقُولُ لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ هَذَا فَعَلْتُ كَمَا يَفْعَلُ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: كَذَا أَوْرَدَ التَّرْجَمَةَ مَخْرُومَةً إِذْ ذَكَرَ مِنْ صَاحِبِ الْقُرْآنِ حَالَ الْمَحْسُودِ فَقَطْ وَمِنْ صَاحِبِ الْمَالِ حَالَ الْحَاسِدِ فَقَطْ وَلَكِنْ لَا لَبْسَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ حَالَيْ حَامِلِ الْقُرْآنِ حَاسِدًا وَمَحْسُودًا وَتَرَكَ حَالَ ذِي الْمَالِ.

قَوْلُهُ: فَبَيَّنَ أَنَّ قِيَامَهُ بِالْكِتَابِ هُوَ فِعْلُهُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَنَّ قِرَاءَتَهُ الْكِتَابَ هُوَ فِعْلُهُ.

قَوْلُهُ {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} وَقَالَ: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أَمَّا الْآيَةُ الْأُولَى فَالْمُرَادُ مِنْهَا اخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ؛ لِأَنَّهَا تَشْمَلُ الْكَلَامَ كُلَّهُ فَتَدْخُلُ الْقِرَاءَةُ، وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ فَعُمُومُ فِعْلِ الْخَيْرِ يَتَنَاوَلُ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرَ وَالدُّعَاءَ وَغَيْرَ ذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ فِعْلُ الْقَارِئِ.

ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا تَحَاسُدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ.

وَحَدِيثَ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ، وَقَدْ مَضَى شَرْحُ الْمَتْنِ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ، وَقَوْلُهُ سَمِعْتُ مِنْ سُفْيَانَ مِرَارًا هُوَ كَلَامُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ، وَقَوْلُهُ لَمْ أَسْمَعْهُ يَذْكُرُ الْخَبَرَ أَيْ مَا سَمِعَهُ مِنْهُ إِلَّا بِالْعَنْعَنَةِ. قَوْلُهُ:

ص: 502

وَهُوَ مِنْ صَحِيحِ حَدِيثِهِ) قُلْتُ قَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنْ أَبِي يَعْلَى، عَنْ أَبِي خَيْثَمَةَ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَالِمٍ بِهِ قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ دَلَّتْ أَحَادِيثُ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ عَلَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ فِعْلُ الْقَارِئِ وَأَنَّهَا تُسَمَّى تَغَنِّيًا، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ اعْتِقَادًا لَا إِطْلَاقًا حَذَرًا مِنَ الْإِيهَامِ وَفِرَارًا مِنَ الِابْتِدَاعِ بِمُخَالَفَةِ السَّلَفِ فِي الْإِطْلَاقِ وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ نَقَلَ عَنِّي أَنِّي قُلْتُ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَقَدْ كَذَبَ، وَإِنَّمَا قُلْتُ إِنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ، قَالَ: وَقَدْ قَارَبَ الْإِفْصَاحَ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ بِمَا رَمَزَ إِلَيْهِ فِي الَّتِي قَبْلَهَا.

‌46 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}

وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: مِنْ اللَّهِ عز وجل الرِّسَالَةُ، وَعَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْبَلَاغُ، وَعَلَيْنَا التَّسْلِيمُ، وَقَالَ:{لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي} وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} وَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِذَا أَعْجَبَكَ حُسْنُ عَمَلِ امْرِئٍ فَقُلْ: {اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ أَحَدٌ، وَقَالَ مَعْمَرٌ:{ذَلِكَ الْكِتَابُ} هَذَا الْقُرْآنُ، {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} بَيَانٌ وَدِلَالَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ} هَذَا حُكْمُ اللَّهِ، {لا رَيْبَ فِيهِ} لَا شَكَّ، {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ} يَعْنِي هَذِهِ أَعْلَامُ الْقُرْآنِ، وَمِثْلُهُ:{حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} يَعْنِي بِكُمْ، وَقَالَ أَنَسٌ: بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَالَهُ حَرَامًا إِلَى قَوْمِ، وَقَالَ: أَتُؤْمِنُونِي أُبَلِّغُ رِسَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلَ يُحَدِّثُهُمْ.

7530 -

حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّقِّيُّ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ، وَزِيَادُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ، قَالَ الْمُغِيرَةُ: أَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم عَنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا أَنَّهُ مَنْ قُتِلَ مِنَّا صَارَ إِلَى الْجَنَّةِ.

7531 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم كَتَمَ شَيْئًا وَقَالَ مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَتَمَ شَيْئًا مِنْ الْوَحْيِ فَلَا تُصَدِّقْهُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}

7532 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ قَالَ أَنْ تَدْعُوَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ قَالَ ثُمَّ أَيْ قَالَ ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ قَالَ ثُمَّ أَيْ قَالَ أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَهَا {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} الْآيَةَ

ص: 503

قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} كَذَا لِلْجَمِيعِ، وَظَاهِرُهُ اتِّحَادُ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى إِنْ لَمْ تَفْعَلْ: لَمْ تُبَلِّغْ لَكِنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْجَزَاءِ لَازِمُهُ، فَهُوَ كَحَدِيثِ: وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ. وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِهَذَا الْأَمْرِ، فَقِيلَ: الْمُرَادُ بَلِّغْ كَمَا أُنْزِلَ، وَهُوَ عَلَى مَا فَهِمَتْ عَائِشَةُ وَغَيْرُهَا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بَلِّغْهُ ظَاهِرًا وَلَا تَخْشَ مِنْ أَحَدٍ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، وَالثَّانِي أَخَصُّ مِنَ الْأَوَّلِ، وَعَلَى هَذَا لَا يَتَّحِدُ الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ، لَكِنَّ الْأَوْلَى قَوْلُ الْأَكْثَرِ لِظُهُورِ الْعُمُومِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أُنْزِلَ. وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ تَبْلِيغُ كُلَّ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَرَجَّحَ الْأَخِيرَ ابْنُ التِّينِ وَنَسَبَهُ لِأَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَقَدِ احْتَجَّ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَلَا مِنَ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ وَلَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَخْلُوقٌ، ثُمَّ ذَكَرَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ كَانَ مَا يَقُولُ الْجَعْدُ حَقًّا لَبَلَّغَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: مِنَ اللَّهِ الرِّسَالَةُ، وَعَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْبَلَاغُ، وَعَلَيْنَا التَّسْلِيمُ) هَذَا وَقَعَ فِي قِصَّةٍ أَخْرَجَهَا الْحُمَيْدِيُّ فِي النَّوَادِرِ وَمِنْ طَرِيقِهِ الْخَطِيبُ، قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِلزُّهْرِيِّ يَا أَبَا بَكْرٍ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ مِنَّا مَنْ شَقَّ الْجُيُوبَ، مَا مَعْنَاهُ؟ فَقَالَ الزُّهْرِيُّ: مِنَ اللَّهِ الْعِلْمُ، وَعَلَى رَسُولِهِ الْبَلَاغُ، وَعَلَيْنَا التَّسْلِيمُ. وَهَذَا الرَّجُلُ هُوَ الْأَوْزَاعِيُّ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ دُحَيْمٍ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ: قُلْتُ لِلزُّهْرِيِّ فَذَكَرَهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ} وَقَالَ: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي} قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ بَعْدَ أَنْ سَاقَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ} الْآيَةَ، قَالَ: فَذَكَرَ تَبْلِيغَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ ثُمَّ وَصَفَ فِعْلَ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ فَقَالَ: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ، قَالَ: فَسَمَّى تَبْلِيغَهُ الرِّسَالَةَ وَتَرْكَهُ فِعْلًا، وَلَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الرَّسُولَ لَمْ يَفْعَلْ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، يَعْنِي: فَإِذَا بَلَّغَ فَقَدْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ وَتِلَاوَتُهُ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ هُوَ التَّبْلِيغُ وَهُوَ فِعْلُهُ، وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي الْأَحْوَصِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْجُشَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الْقِصَّةَ وَفِيهَا قَالَ: أَتَتْنِي رِسَالَةٌ مِنْ رَبِّي فَضِقْتُ بِهَا ذَرْعًا، وَرَأَيْتُ أَنَّ النَّاسَ سَيُكَذِّبُونَنِي فَقِيلَ لِي: لَتَفْعَلَنَّ أَوْ لَيُفْعَلَنَّ بِكَ، وَأَصْلُهُ فِي السُّنَنِ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ. وَحَدِيثُ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ فِي قِصَّةِ الْكُسُوفِ، وَفِيهِ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي خُطْبَتِهِ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ رَسُولٌ، فَأُذَكِّرُكُمْ بِاللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي قَصَّرْتُ عَنْ تَبْلِيغِ شَيْءٍ مِنْ رِسَالَاتِ رَبِّي.

يَعْنِي فَقُولُوا - فَقَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ بَلَّغْتَ رِسَالَاتِ رَبِّكَ وَقَضَيْتَ الَّذِي عَلَيْكَ، وَأَصْلُهُ فِي السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ فِي الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى:{بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} هُوَ مِمَّا أُمِرَ بِهِ، وَكَذَلِكَ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَالصَّلَاةُ بِجُمْلَتِهَا طَاعَةُ اللَّهِ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ مِنْ جُمْلَةِ الصَّلَاةِ، فَالصَّلَاةُ طَاعَةٌ وَالْأَمْرُ بِهَا قُرْآنٌ، وَهُوَ مَكْتُوبٌ فِي الْمَصَاحِفِ، مَحْفُوظٌ فِي الصُّدُورِ، مَقْرُوءٌ عَلَى الْأَلْسِنَةِ، فَالْقِرَاءَةُ وَالْحِفْظُ وَالْكِتَابَةُ مَخْلُوقَةٌ، وَالْمَقْرُوءُ وَالْمَحْفُوظُ وَالْمَكْتُوبُ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ، وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ أَنَّكَ تَكْتُبُ: اللَّهُ، وَتَحْفَظُهُ وَتَدْعُوهُ، فَدُعَاؤُكَ وَحِفْظُكَ وَكِتَابَتُكَ وَفِعْلُكَ مَخْلُوقٌ، وَاللَّهُ هُوَ الْخَالِقُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ حِينَ تَخَلَّفَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: {فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} قَدْ تَقَدَّمَ هَذَا مُسْنَدًا فِي تَفْسِيرِ بَرَاءَةٌ فِي حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ وَفِي آخِرِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} الْآيَةَ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَمُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ التَّفْويضِ وَالِانْقِيَادِ وَالتَّسْلِيمِ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُزَكِّيَ عَمَلَهُ بَلْ يُفَوِّضَ إِلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى. قُلْتُ: وَمُرَادُ الْبُخَارِيِّ تَسْمِيَةُ ذَلِكَ عَمَلًا كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِهِ فِي الَّذِي قَبْلَهُ.

قَوْلُهُ:

ص: 504

وَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِذَا أَعْجَبَكَ حُسْنَ عَمَلِ امْرِئٍ فَقُلِ: {اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ أَحَدٌ) قُلْتُ: زَعَمَ مُغَلْطَايْ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ أَخْرَجَ هَذَا الْأَثَرَ فِي كِتَابِ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَقَدْ وَهَمَ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا وَقَعَ هَذَا فِي قِصَّةٍ ذَكَرَهَا الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مِنْ رِوَايَةِ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: وَذَكَرَتِ الَّذِي كَانَ مِنْ شَأْنِ عُثْمَانَ: وَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا فَوَاللَّهِ مَا أَحْبَبْتُ أَنْ يُنْتَهَكَ مِنْ عُثْمَانَ أَمْرٌ قَطُّ إِلَّا انْتُهِكَ مِنِّي مِثْلُهُ، حَتَّى وَاللَّهِ لَوْ أَحْبَبْتُ قَتْلَهُ لَقُتِلْتُ، يَا عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَدِيٍّ لَا يَغُرَّنَّكَ أَحَدٌ بَعْدَ الَّذِينَ تَعْلَمُ، فَوَاللَّهِ مَا احْتَقَرْتُ مِنْ أَعْمَالِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى نَجَمَ النَّفَرُ الَّذِينَ طَعَنُوا فِي عُثْمَانَ، فَقَالُوا قَوْلًا لَا يَحْسُنُ مِثْلُهُ، وَقَرَءُوا قِرَاءَةً لَا يَحْسُنُ مِثْلُهَا، وَصَلُّوا صَلَاةً لَا يُصَلَّى مِثْلُهَا، فَلَمَّا تَدَبَّرْتُ الصَّنِيعَ إِذَا هُمْ وَاللَّهِ مَا يُقَارِبُونَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا أَعْجَبَكَ حُسْنُ قَوْلِ امْرِئٍ فَقُلِ: اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ أَحَدٌ.

وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَقُولُ: احْتَقَرْتُ أَعْمَالَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ نَجَمَ الْقُرَّاءُ الَّذِينَ طَعَنُوا عَلَى عُثْمَانَ فَذَكَرَ نَحْوَهُ وَفِيهِ: فَوَاللَّهِ مَا يُقَارِبُونَ عَمَلَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا أَعْجَبَكَ حُسْنُ عَمَلِ امْرِئٍ مِنْهُمْ فَقُلِ: اعْمَلُوا، إِلَخْ، وَالْمُرَادُ بِالْقُرَّاءِ الْمَذْكُورِينَ الَّذِينَ قَامُوا عَلَى عُثْمَانَ، وَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ أَشْيَاءَ اعْتَذَرَ عَنْ فِعْلِهَا، ثُمَّ كَانُوا مَعَ عَلِيٍّ ثُمَّ خَرَجُوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى عَلِيٍّ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ أَخْبَارُهُمْ مُفَصَّلَةً فِي كِتَابِ الْفِتَنِ، وَدَلَّ سِيَاقُ الْقِصَّةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَمَلِ مَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ مِنَ الْقِرَاءَةِ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهِمَا، فَسَمَّتْ كُلَّ ذَلِكَ عَمَلًا، وَقَوْلُهَا فِي آخِرِهِ: وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ أَحَدٌ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ الْمَكْسُورَةِ وَالْفَاءِ الْمَفْتُوحَةِ وَالنُّونُ الثَّقِيلَةُ لِلتَّأْكِيدِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ عَنِ الدَّاوُدِيِّ مَعْنَاهُ: لَا تَغْتَرَّ بِمَدْحِ أَحَدٍ وَحَاسِبْ نَفْسَكَ، وَالصَّوَابُ مَا قَالَهُ غَيْرُهُ أَنَّ الْمَعْنَى: لَا يَغُرَّنَّكَ أَحَدٌ بِعَمَلِهِ فَتَظُنَّ بِهِ الْخَيْرَ إِلَّا أنْ رَأَيْتَهُ وَاقِفًا عِنْدَ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ مَعْمَرٌ: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} هَذَا الْقُرْآنُ، {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} بَيَانٌ وَدَلَالَةٌ كَقَوْلِهِ: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ} هَذَا حُكْمُ اللَّهِ، {لا رَيْبَ فِيهِ} لَا شَكَّ، {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ} يَعْنِي هَذِهِ أَعْلَامُ الْقُرْآنِ، وَمِثْلُهُ: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} يَعْنِي بِكُمْ) مَعْمَرٌ هَذَا هُوَ ابْنُ الْمُثَنَّى اللُّغَوِيُّ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَهَذَا الْمَنْقُولُ عَنْهُ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ مَجَازِ الْقُرْآنِ، وَوَهَمَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ شَيْخُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَقَدِ اغْتَرَّ مُغَلْطَايْ بِذَلِكَ فَزَعَمَ أَنَّ عَبْدَ الرَّزَّاقِ أَخْرَجَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ مَعْمَرٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ نُسَخِ تَفْسِيرِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَلَفْظُ أَبِي عُبَيْدَةَ:{ذَلِكَ الْكِتَابُ} مَعْنَاهُ هَذَا الْقُرْآنُ، قَالَ: وَقَدْ تُخَاطِبُ الْعَرَبُ الشَّاهِدَ بِمُخَاطَبَةِ الْغَائِبِ، وَقَدْ أَنْكَرَ ثَعْلَبٌ هَذِهِ الْمَقَالَةَ وَقَالَ: اسْتِعْمَالُ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ مَوْضِعَ الْآخَرِ يَقْلِبُ الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ هَذَا الْقُرْآنُ هُوَ ذَلِكَ الَّذِي كَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِهِ عَلَيْكُمْ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: لَمَّا كَانَ الْقَوْلُ وَالرِّسَالَةُ مِنَ السَّمَاءِ، وَالْكِتَابُ وَالرَّسُولُ فِي الْأَرْضِ قِيلَ ذَلِكَ يَا مُحَمَّدُ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ كَقَوْلِكَ لِلرَّجُلِ وَهُوَ يُحَدِّثُكَ: وَذَلِكَ وَاللَّهِ الْحَقُّ، فَهُوَ فِي اللَّفْظِ بِمَنْزِلَةِ الْغَائِبِ وَلَيْسَ بِغَائِبٍ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى ذَلِكَ الَّذِي سَمِعْتُ بِهِ، وَاسْتَشْهَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} فَلَمَّا جَازَ أَنْ يُخْبِرَ بِضَمِيرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ لِلْحَاضِرِ وَضَمِيرِ الْغَيْبَةِ عَنِ الْغَائِبِ فِي قِصَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يُخْبِرَ عَنْ

ضَمِيرِ الْقَرِيبِ بِضَمِيرِ الْبَعِيدِ، وَهُوَ صَنِيعٌ مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، يُسَمِّيهِ أَصْحَابُ الْمَعَانِي الِالْتِفَاتُ، وَقِيلَ الْحِكْمَةُ فِي هَذَا هُنَا: أَنَّ كُلَّ مَنْ خُوطِبَ يَجُوزُ أَنْ يَرْكَبَ الْفُلْكَ لَكِنْ لَمَّا كَانَ فِي الْعَادَةِ أَنْ لَا يَرْكَبَهَا إِلَّا الْأَقَلُّ وَقَعَ الْخِطَابُ أَوَّلًا لِلْجَمِيعِ ثُمَّ عَدَلَ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنِ الْبَعْضِ الَّذِينَ مِنْ شَأْنِهِمُ الرُّكُوبُ، وَقَالَ أَيْضًا:{لا رَيْبَ فِيهِ} : لَا شَكَّ فِيهِ، {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} أَيْ بَيَانٌ لِلْمُتَّقِينَ،

ص: 505

وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْهِدَايَةَ نَوْعٌ مِنَ التَّبْلِيغِ، وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةٍ أُخْرَى:{تِلْكَ آيَاتُ} هَذِهِ آيَاتُ، وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةٍ أُخْرَى:{الآيَاتِ} الْأَعْلَامُ، وَهَذَا قَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ يُونُسَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَمِثْلُهُ {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ} فَمُرَادُهُ أَنَّهُ نَظِيرُ اسْتِعْمَالِ ذَلِكَ مَوْضِعَ هَذَا، فَلَمَّا سَاغَ اسْتِعْمَالُ مَا هُوَ لِلْبَعِيدِ لِلْقَرِيبِ جَازَ اسْتِعْمَالُ مَا هُوَ لِلْغَائِبِ لِلْحَاضِرِ، وَلَفْظُ مِثْلُهُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ، وَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ بِضَمِّ الْمِيمِ وَالْمُثَلَّثَةِ وَاللَّامِ وَهُوَ بَعِيدٌ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَوْجُودُ فِي كِتَابِ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَهُ فِي مُقَدَّمَةِ كِتَابِهِ الْمَذْكُورِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: وَمِنْ مَجَازِ مَا جَاءَتْ مُخَاطَبَتُهُ مُخَاطَبَةَ الشَّاهِدِ ثُمَّ حُوِّلَ إِلَى مُخَاطَبَةِ الْغَائِبِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} أَيْ بِكُمْ، ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ.

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ (وَقَالَ أَنَسٌ: بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَالَهُ حَرَامًا إِلَى قَوْمٍ وَقَالَ: أَتُؤْمِنُوني حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلَ يُحَدِّثُهُمْ) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ وَصَلَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي الْجِهَادِ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَقْوَامًا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ إِلَى بَنِي عَامِرٍ فِي سَبْعِينَ رَاكِبًا فَلَمَّا قَدِمُوا قَالَ لَهُمْ خَالِي: أَتَقَدَّمُكُمْ فَإِنْ أَمَّنُونِي حَتَّى أُبَلِّغَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِلَّا كُنْتُمْ قَرِيبًا مِنِّي، فَتَقَدَّمَ فَأَمَّنُوهُ فَبَيْنَمَا هُوَ يُحَدِّثُهُمْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ الْقِصَّةَ وَلَفْظُهُ فِي الْمَغَازِي عَنْ أَنَسٍ، فَانْطَلَقَ حَرَامٌ أَخُو أُمِّ سُلَيْمٍ فَذَكَرَهُ، وَفِيهِ: وَإِنْ قَتَلُونِي أَتَيْتُمْ أَصْحَابَكُمْ، فَقَالَ: أَتُؤْمِنُوني أُبَلِّغُ رِسَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلَ يُحَدِّثُهُمْ وَأَوْمَئُوا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فَأَتَاهُ فَطَعَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ الْحَدِيثَ، وَسِيَاقُهُ فِي الْمَغَازِي أَقْرَبُ إِلَى اللَّفْظِ الْمُعَلَّقِ هُنَا، وَفِي السِّيَاقِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ بَعْدَ قَوْلِهِ أَتَيْتُمْ أَصْحَابَكُمْ، فَأَتَى الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: أَتُؤْمِنُوني.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيُّ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْقَابِسِيِّ: عَنْ أَبِي زَيْدٍ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ: وَكَذَا كَانَ فِي نُسْخَةِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْأَصِيلِيِّ إِلَّا أَنَّهُ أَصْلَحَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بِالتَّصْغِيرِ، وَقَالَ: هُوَ سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ) بِمُهْمَلَةٍ وَتَحْتَانِيَّةٍ ثَقِيلَةٍ، وَجُبَيْرٌ هُوَ وَالِدُ زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ الرَّاوِي عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ الْمُغِيرَةُ) هُوَ ابْنُ شُعْبَةَ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم عَنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا أَنَّهُ مَنْ قُتِلَ مِنَّا صَارَ إِلَى الْجَنَّةِ) هَذَا الْقَدْرُ هُوَ الْمَرْفُوعُ مِنَ الْحَدِيثِ، وَقَدْ مَضَى بِطُولِهِ وَشَوَاهِدُهُ فِي كِتَابِ الْجِزْيَةِ وَبَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي ضَبْطِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْمَذْكُورِ فِي سَنَدِهِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم كَتَمَ شَيْئًا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ، حَدَّثَنَا عَنْ شُعْبَةَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ) أَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ فَهُوَ الْفِرْيَابِيُّ كَمَا جَزَمَ بِهِ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ، وَأَمَّا سُفْيَانُ فَهُوَ الثَّوْرِيُّ، وَأَمَّا إِسْمَاعِيلُ فَهُوَ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ الْمَذْكُورِ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ، وَأَمَّا مُحَمَّدٌ الْمَذْكُورُ أَوَّلُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْفِرْيَابِيُّ الْمَذْكُورُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى فَيَكُونُ مَوْصُولًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ فَيَكُونُ مُعَلَّقًا وَهُوَ مُقْتَضَى صَنِيعِ الْمِزِّيِّ، وَأَمَّا أَبُو نُعَيْمٍ فَقَالَ فِي الْمُسْتَخْرَجِ رَوَاهُ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي عَامِرٍ وَمُقْتَضَاهُ أَنْ يَكُونَ وَقَعَ عِنْدَهُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَوْ قَالَ لِي مُحَمَّدٌ؛ لِأَنَّ عَادَتَهُ إِذَا وَقَعَ بِصِيغَةِ قَالَ مُجَرَّدَةً أَنْ يَقُولَ أَخْرَجَهُ بِلَا رِوَايَةٍ يَعْنِي صِيغَةً صَرِيحَةً، وَأَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ هُوَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِي عَامِرٍ الْعَقَدِيِّ مِثْلَ مَا سَاقَهُ الْبُخَارِيُّ وَزَادَ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ اللَّهَ رَآهُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ فَلَا تُصَدِّقْهُ، إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْقَدْرُ مُفْرَدًا فِي بَابِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ هَذَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ بِهَذَا السَّنَدِ وَزَادَ: مَنْ

ص: 506

حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ

الْغَيْبَ الْحَدِيثَ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْ غُنْدَرٍ عَنْ شُعْبَةَ كَذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قِصَّةِ الرُّؤْيَةِ وَالْغَيْبِ هُنَاكَ وَكُلُّ مَا أُنْزِلَ عَلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فَلَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ طَرَفَانِ طَرَفُ الْأَخْذِ مِنْ جِبْرِيلَ عليه السلام وَقَدْ مَضَى فِي الْبَابِ السَّابِقِ، وَطَرَفُ الْأَدَاءِ لِلْأُمَّةِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالتَّبْلِيغِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَيُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} وَزَادَ فِي آخِرِهِ هُنَا: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَهَا: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَمُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ أَنَّ التَّبْلِيغَ عَلَى نَوْعَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَصْلُ أَنْ يُبَلِّغَهُ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ خَاصٌّ بِمَا يُتَعَبَّدُ بِتِلَاوَتِهِ وَهُوَ الْقُرْآنُ.

وَثَانِيهُمَا: أَنْ يُبَلِّغَ مَا يُسْتَنْبَطُ مِنْ أُصُولِ مَا تَقَدَّمَ إِنْزَالُهُ فَيَنْزِلُ عَلَيْهِ مُوَافَقَتَهُ فِيمَا اسْتَنْبَطَهُ إِمَّا بِنَصِّهِ وَإِمَّا بِمَا يَدُلُّ عَلَى مُوَافَقَتِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى كَهَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّهَا اشْتَمَلَتْ عَلَى الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ فِي حَقِّ مَنْ أَشْرَكَ وَهِيَ مُطَابِقَةٌ لِلنَّصِّ، وَفِي حَقِّ مَنْ قَتَلَ النَّفْسَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَهِيَ مُطَابِقَةٌ لِلْحَدِيثِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَإِنْ كَانَ عَظِيمًا لَكِنَّ قَتْلَ الْوَلَدِ أَشَدُّ قُبْحًا من قَتْلِ مَنْ لَيْسَ بِوَلَدٍ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الزُّنَاةِ فَإِنَّ الزِّنَا بِحَلِيلَةِ الْجَارِ أَعْظَمُ قُبْحًا مِنْ مُطْلَقِ الزِّنَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إِنْزَالُ هَذِهِ الْآيَةِ سَابِقًا عَلَى إِخْبَارِهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا أَخْبَرَ بِهِ لَكِنْ لَمْ يَسْمَعْهَا الصَّحَابِيُّ إِلَّا بَعْدَ ذَلِكَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ نَزَلَ تَعْظِيمُ الْإِثْمِ فِيهِ سَابِقًا وَلَكِنِ اخْتَصَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِمَجْمُوعِ الثَّلَاثَةِ فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ مَعَ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهَا، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالتَّصْدِيقِ الْمُوَافَقَةُ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَيْهَا، فَعَلَى هَذَا فَمُطَابَقَةُ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ ظَاهِرَةٌ جِدًّا وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَاسْتَدَلَّ أَبُو الْمُظَفَّرِ بْنُ السَّمْعَانِيُّ بِآيَاتِ الْبَابِ وَأَحَادِيثِهِ عَلَى فَسَادِ طَرِيقَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي تَقْسِيمِ الْأَشْيَاءِ إِلَى جِسْمٍ وَجَوْهَرٍ وَعَرَضٍ، قَالُوا: فَالْجِسْمُ مَا اجْتَمَعَ مِنَ الِافْتِرَاقِ، وَالْجَوْهَرُ: مَا حَمَلَ الْعَرَضَ، وَالْعَرَضُ: مَا لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ، وَجَعَلُوا الرُّوحَ مِنَ الْأَعْرَاضِ، وَرَدُّوا الْأَخْبَارَ فِي خَلْقِ الرُّوحِ قَبْلَ الْجَسَدِ وَالْعَقْلِ قَبْلَ الْخَلْقِ، وَاعْتَمَدُوا عَلَى حَدْسِهِمْ وَمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ نَظَرُهُمْ، ثُمَّ

يَعْرِضُونَ عَلَيْهِ النُّصُوصَ، فَمَا وَافَقَهُ قَبِلُوهُ وَمَا خَالَفَهُ رَدُّوهُ، ثُمَّ سَاقَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَنَظَائِرَهَا مِنَ الْأَمْرِ بِالتَّبْلِيغِ، قَالَ: وَكَانَ مِمَّا أُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ التَّوْحِيدُ بَلْ هُوَ أَصْلُ مَا أُمِرَ بِهِ فَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ أُصُولِهِ وَقَوَاعِدِهِ وَشَرَائِعِهِ إِلَّا بَلَّغَهُ ثُمَّ لَمْ يَدَعْ إِلَّا الِاسْتِدْلَالِ بِمَا تَمَسَّكُوا بِهِ مِنَ الْجَوْهَرِ وَالْعَرَضِ، وَلَا يُوجَدُ عَنْهُ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْ ذَلِكَ حَرْفٌ وَاحِدٌ فَمَا فَوْقَهُ، فَعُرِفَ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ ذَهَبُوا خِلَافَ مَذْهَبِهِمْ وَسَلَكُوا غَيْرَ سَبِيلِهِمْ بِطَرِيقٍ مُحْدَثٍ مُخْتَرَعٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَصْحَابُهُ رضي الله عنهم، وَيَلْزَمُ مِنْ سُلُوكِهِ الْعَوْدُ عَلَى السَّلَفِ بِالطَّعْنِ وَالْقَدْحِ وَنِسْبَتِهِمْ إِلَى قِلَّةِ الْمَعْرِفَةِ وَاشْتِبَاهِ الطُّرُقِ، فَالْحَذَرِ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِكَلَامِهِمْ وَالِاكْتِرَاثِ بِمَقَالَاتِهِمْ فَإِنَّهَا سَرِيعَةُ التَّهَافُتِ كَثِيرَةُ التَّنَاقُضِ، وَمَا مِنْ كَلَامٍ تَسْمَعُهُ لِفِرْقَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا وَتَجِدُ لِخُصُومِهِمْ عَلَيْهِ كَلَامًا يُوَازِنُهُ أَوْ يُقَارِبُهُ، فَكُلٌّ بِكُلٍّ مُقَابَلٌ، وَبَعْضٌ بِبَعْضٍ مُعَارَضٌ، وَحَسْبُكَ مِنْ قَبِيحِ مَا يَلْزَمُ مِنْ طَرِيقَتِهِمْ أَنَّا إِذَا جَرَيْنَا عَلَى مَا قَالُوهُ وَأَلْزَمْنَا النَّاسَ بِمَا ذَكَرُوهُ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ تَكْفِيرُ الْعَوَامِّ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ إِلَّا الِاتِّبَاعَ الْمُجَرَّدَ وَلَوْ عُرِضَ عَلَيْهِمْ هَذَا الطَّرِيقُ مَا فَهِمَهُ أَكْثَرُهُمْ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَصِيرَ مِنْهُمْ صَاحِبَ نَظَرٍ، وَإِنَّمَا غَايَةُ تَوْحِيدِهِمُ الْتِزَامُ مَا وَجَدُوا عَلَيْهِ أَئِمَّتَهُمْ فِي عَقَائِدِ الدِّينِ وَالْعَضُّ عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَالْمُوَاظَبَةُ عَلَى وَظَائِفِ الْعِبَادَاتِ

وَمُلَازَمَةُ الْأَذْكَارِ بِقُلُوبٍ سَلِيمَةً طَاهِرَةٌ عَنِ الشُّبَهِ وَالشُّكُوكِ فَتَرَاهُمْ لَا يَحِيدُونَ عَمَّا اعْتَقَدُوهُ وَلَوْ قُطِّعُوا إِرْبًا إِرْبًا، فَهَنِيئًا لَهُمْ هَذَا الْيَقِينُ وَطُوبَى لَهُمْ هَذِهِ السَّلَامَةُ، فَإِذَا كَفَرَ هَؤُلَاءِ وَهُمُ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ وَجُمْهُورُ الْأُمَّةِ فَمَا هَذَا إِلَّا طَيُّ بِسَاطِ الْإِسْلَامِ وَهَدْمُ مَنَارِ الدِّينِ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

‌47 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا} وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أُعْطِيَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ

ص: 507

التَّوْرَاةَ فَعَمِلُوا بِهَا، وَأُعْطِيَ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ الْإِنْجِيلَ فَعَمِلُوا بِهِ، وَأُعْطِيتُمْ الْقُرْآنَ فَعَمِلْتُمْ بِهِ، وَقَالَ أَبُو رَزِينٍ:{يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} يَتَّبِعُونَهُ وَيَعْمَلُونَ بِهِ حَقَّ عَمَلِهِ، يُقَالُ: يُتْلَى: يُقْرَأُ، حَسَنُ التِّلَاوَةِ: حَسَنُ الْقِرَاءَةِ لِلْقُرْآنِ، {لا يَمَسُّهُ} لَا يَجِدُ طَعْمَهُ وَنَفْعَهُ إِلَّا مَنْ آمَنَ بِالْقُرْآنِ، وَلَا يَحْمِلُهُ بِحَقِّهِ إِلَّا الْمُوقِنُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وَسَمَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ وَالصَّلَاةَ عَمَلًا، وقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِبِلَالٍ: أَخْبِرْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الْإِسْلَامِ، قَالَ: مَا عَمِلْتُ عَمَلًا أَرْجَى عِنْدِي أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ إِلَّا صَلَّيْتُ، وَسُئِلَ: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ الْجِهَادُ ثُمَّ حَجٌّ مَبْرُورٌ.

7533 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي سَالِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ فِيمَنْ سَلَفَ مِنْ الْأُمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، أُوتِيَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ فَعَمِلُوا بِهَا حَتَّى انْتَصَفَ النَّهَارُ ثُمَّ عَجَزُوا فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، ثُمَّ أُوتِيَ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ الْإِنْجِيلَ فَعَمِلُوا بِهِ حَتَّى صُلِّيَتْ الْعَصْرُ ثُمَّ عَجَزُوا فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، ثُمَّ أُوتِيتُمْ الْقُرْآنَ فَعَمِلْتُمْ بِهِ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ فَأُعْطِيتُمْ قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: هَؤُلَاءِ أَقَلُّ مِنَّا عَمَلًا وَأَكْثَرُ أَجْرًا، قَالَ اللَّهُ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ شَيْئًا؟ قَالُوا: لَا، فقَالَ: فَهُوَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا} مُرَادُهُ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتِّلَاوَةِ الْقِرَاءَةُ، وَقَدْ فُسِّرَتِ التِّلَاوَةُ بِالْعَمَلِ وَالْعَمَلُ مِنْ فِعْلِ الْعَامِلِ، وَقَالَ فِي كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ: ذَكَرَ صلى الله عليه وسلم أَنَّ بَعْضَهُمْ يَزِيدُ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِرَاءَةِ، وَبَعْضَهُمْ يَنْقُصُ، فَهُمْ يَتَفَاضَلُونَ فِي التِّلَاوَةِ بِالْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ، وَأَمَّا الْمَتْلُوُّ وَهُوَ الْقُرْآنُ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ، وَيُقَالُ: فُلَانٌ حَسَنُ الْقِرَاءَةِ وَرَدِيءُ الْقِرَاءَةِ وَلَا يُقَالُ حَسَنُ الْقُرْآنِ وَلَا رَدِيءُ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا يُسْنَدُ إِلَى الْعِبَادِ الْقِرَاءَةُ لَا الْقُرْآنُ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ الرَّبِّ سبحانه وتعالى وَالْقِرَاءَةَ فِعْلُ الْعَبْدِ، وَلَا يَخْفَى هَذَا إِلَّا عَلَى مَنْ لَمْ يُوَفَّقْ ثُمَّ قَالَ تَقُولُ قَرَأْتَ بِقِرَاءَةِ عَاصِمٍ وَقِرَاءَتُكَ عَلَى قِرَاءَةِ عَاصِمٍ، وَلَوْ أَنَّ عَاصِمًا حَلَفَ أَنْ لَا يَقْرَأَ الْيَوْمَ ثُمَّ قَرَأْتَ أَنْتَ عَلَى قِرَاءَتِهِ لَمْ يَحْنَثْ هُوَ قَالَ وَقَالَ أَحْمَدُ لَا تُعْجِبُنِي قِرَاءَةُ حَمْزَةَ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَلَا يُقَالُ: لَا يُعْجِبُنِي الْقُرْآنُ، فَظَهَرَ افْتِرَاقُهُمَا.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أُعْطِيَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ إِلَخْ) وَصَلَهُ فِي آخِرِ هَذَا الْبَابِ بِلَفْظِ أُوتِيَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَأُوتِيتُمْ وَقَدْ مَضَى فِي اللَّفْظِ الْمُعَلَّقِ أُعْطِيَ وَأُعْطِيتُمْ فِي بَابِ الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ التَّوْحِيدِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو رَزِينٍ) بِرَاءٍ ثُمَّ زَايٍ بِوَزْنِ عَظِيمٍ هُوَ مَسْعُودُ بْنُ مَالِكٍ الْأَسَدِيُّ الْكُوفِيُّ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ.

قَوْلُهُ: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} يَعْمَلُونَ بِهِ حَقَّ عَمَلِهِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَلِغَيْرِهِ يَتْلُونَهُ: يَتَّبِعُونَهُ وَيَعْمَلُونَ بِهِ حَقَّ عَمَلِهِ، وَهَذَا وَصَلَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي حُذَيْفَةَ مُوسَى بْنِ مَسْعُودٍ عَنْهُ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ عَنْ أَبِي رَزِينٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} قَالَ: يَتَّبِعُونَهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ وَيَعْمَلُونَ بِهِ حَقَّ عَمَلِهِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَافَقَ أَبَا رَزِينٍ عِكْرِمَةُ وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:

ص: 508

{وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} أَيْ تَبِعَهَا، وَقَالَ الشَّاعِرُ:

قَدْ جَعَلْتُ دَلْوِي تَسْتَتْلِينِي

وَقَالَ قَتَادَةُ: هُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم آمَنُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَعَمِلُوا بِمَا فِيهِ.

قَوْلُهُ: (يُقَالُ: يُتْلَى: يُقْرَأُ) هُوَ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي كِتَابِ الْمَجَازِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} يُقْرَأُ عَلَيْهِمْ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ} مَا كُنْتَ تَقْرَأُ كِتَابًا قَبْلَ الْقُرْآنِ.

قَوْلُهُ: حَسَنُ التِّلَاوَةِ: حَسَنُ الْقِرَاءَةِ لِلْقُرْآنِ) قَالَ الرَّاغِبُ: التِّلَاوَةُ الِاتِّبَاعُ وَهِيَ تَقَعُ بِالْجِسْمِ تَارَةً وَتَارَةً بِالِاقْتِدَاءِ فِي الْحُكْمِ وَتَارَةً بِالْقِرَاءَةِ وَتَدَبُّرُ الْمَعْنَى، وَالتِّلَاوَةُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ تَخْتَصُّ بِاتِّبَاعِ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُنَزَّلَةِ تَارَةً بِالْقِرَاءَةِ وَتَارَةً بِامْتِثَالِ مَا فِيهِ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ، وَهِيَ أَعَمُّ مِنَ الْقِرَاءَةِ فَكُلُّ قِرَاءَةٍ تِلَاوَةٌ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ.

قَوْلُهُ: {لا يَمَسُّهُ} لَا يَجِدُ طَعْمَهُ وَنَفْعَهُ إِلَّا مَنْ آمَنَ بِالْقُرْآنِ وَلَا يَحْمِلُهُ بِحَقِّهِ إِلَّا الْمُوقِنُ) وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي الْمُؤْمِنُ. (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} وَحَاصِلُ هَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّ مَعْنَى لَا يَمَسُّ الْقُرْآنَ لَا يَجِدَ طَعْمَهُ وَنَفْعَهُ إِلَّا مَنْ آمَنَ بِهِ وَأَيْقَنَ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدَ اللَّهِ فَهُوَ الْمُطَهَّرُ مِنَ الْكُفْرِ، وَلَا يَحْمِلُهُ بِحَقِّهِ إِلَّا الْمُطَهَّرُ مِنَ الْجَهْلِ وَالشَّكِّ لَا الْغَافِلُ عَنْهُ الَّذِي لَا يَعْمَلُ، فَيَكُونُ كَالْحِمَارِ الَّذِي يَحْمِلُ مَا لَا يَدْرِيهِ.

قَوْلُهُ: (وَسَمَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ وَالصَّلَاةَ عَمَلًا) أَمَّا تَسْمِيَتُهُ صلى الله عليه وسلم الْإِسْلَامَ عَمَلًا فَاسْتَنْبَطَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ حَدِيثِ سُؤَالِ جِبْرِيلَ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ فَقَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِجِبْرِيلَ حِينَ سَأَلَهُ عَنِ الْإِيمَانِ: تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، ثُمَّ قَالَ: مَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: تَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ بِلَفْظِ فَقَالَ: يَا رَسُولُ اللَّهِ مَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: أَنْ تُسْلِمَ وَجْهَكُ لِلَّهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ، الْحَدِيثَ، وَسَاقَهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ بِنَحْوِهِ قَالَ: فَسَمَّى الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ وَالْإِحْسَانَ وَالصَّلَاةَ بِقِرَاءَتِهَا وَمَا فِيهَا مِنْ حَرَكَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فِعْلًا انْتَهَى. وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ أَسْنَدَهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالثَّانِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَمَّا تَسْمِيَةُ الْإِيمَانِ عَمَلًا فَهُوَ فِي الْحَدِيثِ الْمُعَلَّقِ فِي الْبَابِ: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: إِيمَانٌ بِاللَّهِ الْحَدِيثَ، وَقَدْ أَعَادَهُ فِي بَابِ:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} وَأَمَّا تَسْمِيَةُ الصَّلَاةِ عَمَلًا فَهُوَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِبِلَالٍ إِلَخْ) تَقَدَّمَ مَوْصُولًا مَشْرُوحًا فِي مَنَاقِبِ بِلَالٍ مِنْ مَنَاقِبِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، وَدُخُولُهُ فِيهِ ظَاهِرٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الصَّلَاةَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنَ الْقِرَاءَةِ.

قَوْلُهُ: (وَسُئِلَ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ الْجِهَادُ ثُمَّ حَجٌّ مَبْرُورٌ) وَهُوَ حَدِيثٌ وَصَلَهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ وَفِي الْحَجِّ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَوْرَدَهُ فِي كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَمِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، وَأَوْرَدَهُ فِيهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ عِنْدَ اللَّهِ إِيمَانٌ لَا شَكَّ فِيهِ الْحَدِيثَ، وَهُوَ أَصْرَحُ فِي مُرَادِهِ لَكِنْ لَيْسَ سَنَدُهُ عَلَى شَرْطِهِ فِي الصَّحِيحِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالدَّارِمِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِيهِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُبْشِيٍّ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ وَيَاءٌ كَيَاءِ النَّسَبِ مِثْلَ حَدِيثِ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالدَّارِمِيِّ، وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الْأَعْمَالِ خَيْرٌ قَالَ: إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْعِتْقِ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ نَحْوُ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ بِمَعْنَاهُ، وَحَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَتَصْدِيقٌ بِكِتَابِهِ، قَالَ: فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْإِيمَانَ وَالتَّصْدِيقَ وَالْجِهَادَ وَالْحَجَّ عَمَلًا، ثُمَّ أَوْرَدَ حَدِيثَ مُعَاذٍ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى

اللَّهِ؟ قَالَ: أَنْ تَمُوتَ وَلِسَانُكَ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، قَالَ فَبَيَّنَ أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ

ص: 509

الْعَمَلُ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ: إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ فِيمَنْ سَلَفَ مِنَ الْأُمَمِ، أَيْ زَمَنَ بَقَائِكُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى زَمَنِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ مَشرُوحًا وَأَحَدُ طَرَفَيِ التَّشْبِيهِ مَحْذُوفٌ وَالْمُرَادُ بَاقِي النَّهَارِ.

وَعَبْدَان شَيْخُهُ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَيُونُس هُوَ ابْنُ يَزِيدَ وَسَالِمٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: حَتَّى غُرُوبَ الشَّمْسِ، وَقَوْلُهُ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ مِنْ شَيْءٍ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ شَيْئًا، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: مَعْنَى هَذَا الْبَابِ كَالَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ كُلَّ مَا يُنْشِئُهُ الْإِنْسَانُ مِمَّا يُؤْمَرُ بِهِ مِنْ صَلَاةٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ جِهَادٍ وَسَائِرِ الشَّرَائِعِ عَمَلٌ يُجَازَى عَلَى فِعْلِهِ وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ إِنْ أُنْفِذَ الْوَعِيدُ انْتَهَى. وَلَيْسَ غَرَضُ الْبُخَارِيِّ هُنَا بَيَانُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْوَعِيدِ بَلْ مَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ قَبْلُ، وَتَشَاغَلَ ابْنُ التِّينِ بِبَعْضِ مَا يَتَعَلَّقُ بِلَفْظِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فَنَقَلَ عَنِ الدَّاوُدِيِّ أَنَّهُ أَنْكَرَ قَوْلَهُ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ أُعْطُوا قِيرَاطًا وَتَمَسَّكَ بِمَا فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا حَاجَةَ لَنَا فِي أَجْرِكَ، ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّ هَذَا فِي طَائِفَةٍ أُخْرَى وَهُمْ مَنْ آمَنَ بِنَبِيِّهِ قَبْلَ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَهَذَا الْأَخِيرُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَقَدْ أَوْضَحْتُهُ بِشَوَاهِدِهِ فِي كِتَابِ الْمَوَاقِيتِ وَفِي تَشَاغُلِ مَنْ شَرَحَ هَذَا الْكِتَابِ بِمِثْلِ هَذَا هُنَا إِعْرَاضٌ عَنْ مَقْصُودِ الْمُصَنِّفِ هُنَا، وَحَقُّ الشَّارِحِ بَيَانُ مَقَاصِدِ الْمُصَنِّفِ تَقْرِيرًا وَإِنْكَارًا وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.

‌48 - بَاب وَسَمَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ عَمَلًا، وَقَالَ: لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ

7534 -

حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْوَلِيدِ، وَحَدَّثَنِي عَبَّادُ بْنُ يَعْقُوبَ الْأَسَدِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ الْعَيْزَارِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا، وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ، ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ) كَذَا لَهُمْ بِغَيْرِ تَرْجَمَةٍ وَهُوَ كَالْفَصْلِ مِنَ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ وَهُوَ ظَاهِرٌ.

قَوْلُهُ: (وَسَمَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ عَمَلًا، وَقَالَ: لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ) أَمَّا التَّعْلِيقُ الْأَوَّلُ فَمَذْكُورٌ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْبَابِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَمَضَى فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ) هُوَ ابْنُ حَرْبٍ.

قَوْلُهُ: (عَنِ الْوَلِيدِ وَحَدَّثَنِي عَبَّادٌ) أَمَّا الْوَلِيدُ فَهُوَ ابْنُ الْعَيْزَارِ الْمَذْكُورِ فِي السَّنَدِ الثَّانِي، وَالْقَائِلُ وَحَدَّثَنِي عَبَّادٌ هُوَ الْبُخَارِيُّ وَعَبَّادٌ شَيْخُهُ هَذَا مَذْكُورٌ بِالرَّفْضِ وَلَكِنَّهُ مَوْصُوفٌ بِالصِّدْقِ وَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثُ الْوَاحِدُ وَسَاقَهُ عَلَى لَفْظِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَفْظُ شُعْبَةَ فِي بَابِ فَضْلِ الصَّلَاةِ لِوَقْتِهَا فِي أَبْوَابِ الْمَوَاقِيتِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ وَفِيهِ ثُمَّ أَيُّ ثُمَّ أَيُّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَأَوَّلُهُ سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ وَعُرِفَ مِنْهُ تَسْمِيَةُ الْمُبْهَمِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ حَيْثُ قَالَ فِيهَا: إِنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي حَدَّثَ بِهِ بِالْمَعْنَى فَأَبْهَمَ السَّائِلُ ذُهُولًا عَنْ أَنَّهُ الرَّاوِي، كَمَا حَذَفَ مِنْ صُورَةِ السُّؤَالِ التَّرْتِيبَ فِي قَوْلِهِ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ مَسْعُودٍ حَدَّثَ بِهِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ.

وَأَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ شَيْخُ الْوَلِيدِ بْنِ الْعَيْزَارِ هُوَ سَعْدُ بْنُ إِيَاسٍ أَحَدُ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَالشَّيْبَانِيُّ الرَّاوِي عَنِ الْعَيْزَارِ هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ الْكُوفِيُّ وَاسْمُهُ سُلَيْمَانُ وَهُوَ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ، وَفِي السَّنَدِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ وَرِجَالُ سَنَدِهِ كُلُّهُمْ كُوفِيُّونَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمَوْصِلِيِّ عَنْ عَبَّادِ بْنِ الْعَوَّامِ فَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ يَعْنِي الشَّيْبَانِيَّ، وَقَالَ فِيهِ: سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، أَوْ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم

ص: 510

عَنِ الْأَعْمَالِ أَيُّهَا أَفْضَلُ؟ فَهَذَا مِمَّا يُؤَيِّدُ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ وَأَنَّ الرَّاوِيَ لَمْ يَضْبِطِ اللَّفْظَ، وَشُعْبَةُ أَتْقَنُ مِنَ الشَّيْبَانِيِّ وَأَضْبَطُ لِأَلْفَاظِ الْحَدِيثِ، فَرِوَايَتُهُ هِيَ الْمُعْتَمَدَةُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌49 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} ، {هَلُوعًا} ضَجُورًا

7535 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ الْحَسَنِ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَالٌ فَأَعْطَى قَوْمًا وَمَنَعَ آخَرِينَ، فَبَلَغَهُ أَنَّهُمْ عَتَبُوا، فَقَالَ: إِنِّي أُعْطِي الرَّجُلَ وَأَدَعُ الرَّجُلَ، وَالَّذِي أَدَعُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ الَّذِي أُعْطِي، أُعْطِي أَقْوَامًا لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْجَزَعِ وَالْهَلَعِ، وَأَكِلُ أَقْوَامًا إِلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْغِنَى وَالْخَيْرِ، مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ، فَقَالَ عَمْرٌو: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِكَلِمَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حُمْرَ النَّعَمِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} سَقَطَ لِأَبِي ذَرٍّ لَفْظُ: قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَزَادَ فِي رِوَايَتِهِ هَلُوعًا: ضَجُورًا وَهُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ: خُلِقَ هَلُوعًا: أَيْ ضَجُورًا، وَالْهُلَاعُ مَصْدَرٌ وَهُوَ أَشَدُّ الْجَزَعِ.

قَوْلُهُ: (عَنِ الْحَسَنِ) هُوَ الْبَصْرِيُّ، وَالسَّنَدُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ، وَعَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ بِالْمُثَنَّاةِ الْمَفْتُوحَةِ وَالْمُعْجَمَةِ السَّاكِنَةِ وَاللَّامِ الْمَكْسُورَةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ هُوَ النَّمَرِيُّ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالنُّونِ وَالتَّخْفِيفِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ حَدِيثِهِ هَذَا فِي فَرْضِ الْخُمُسِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ فِيهِ: لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْجَزَعِ وَالْهَلَعِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: مُرَادُهُ فِي هَذَا الْبَابِ إِثْبَاتُ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْإِنْسَانِ بِأَخْلَاقِهِ مِنَ الْهَلَعِ وَالصَّبْرِ وَالْمَنْعِ وَالْإِعْطَاءِ، وَقَدِ اسْتَثْنَى اللَّهُ الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ لَا يَضْجَرُونَ بِتَكَرُّرِهَا عَلَيْهِمْ وَلَا يَمْنَعُونَ حَقَّ اللَّهِ فِي أَمْوَالِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَحْتَسِبُونَ بِهَا الثَّوَابَ وَيَكْسِبُونَ بِهَا التِّجَارَةَ الرَّابِحَةَ فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ مَنِ ادَّعَى لِنَفْسِهِ قُدْرَةً وَحَوْلًا بِالْإِمْسَاكِ وَالشُّحِّ وَالضَّجَرِ مِنَ الْفَقْرِ وَقِلَّةِ الصَّبْرِ لِقَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ بِعَالِمٍ وَلَا عَابِدٍ؛ لِأَنَّ مَنِ ادَّعَى أَنَّ لَهُ قُدْرَةً عَلَى نَفْعِ نَفْسِهِ أَوْ دَفْعِ الضُّرِّ عَنْهَا فَقَدِ افْتَرَى انْتَهَى مُلَخَّصًا، وَأَوَّلُهُ كَافٍ فِي الْمُرَادِ فَإِنَّ قَصْدَ الْبُخَارِيِّ أَنَّ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةَ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْإِنْسَانِ لَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يَخْلُقُهَا بِفِعْلِهِ، وَفِيهِ أَنَّ الرِّزْقَ فِي الدُّنْيَا لَيْسَ عَلَى قَدْرِ الْمَرْزُوقِ فِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَإِنَّمَا تَقَعُ الْعَطِيَّةُ وَالْمَنْعُ بِحَسَبِ السِّيَاسَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَكَانَ صلى الله عليه وسلم يُعْطِي مَنْ يَخْشَى عَلَيْهِ الْجَزَعَ وَالْهَلَعَ لَوْ مُنِعَ، وَيَمْنَعُ مَنْ يَثِقُ بِصَبْرِهِ وَاحْتِمَالِهِ وَقَنَاعَتِهِ بِثَوَابِ الْآخِرَةِ، وَفِيهِ أَنَّ

الْبَشَرَ جُبِلُوا عَلَى حُبِّ الْعَطَاءِ وَبُغْضِ الْمَنْعِ، وَالْإِسْرَاعِ إِلَى إِنْكَارِ ذَلِكَ قَبْلَ الْفِكْرَةِ فِي عَاقِبَتِهِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ، وَفِيهِ أَنَّ الْمَنْعَ قَدْ يَكُونُ خَيْرًا لِلْمَمْنُوعِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الصَّحَابِيُّ: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ حُمْرَ النَّعَمِ وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِتِلْكَ لِلْبَدَلِيَّةِ، أَيْ مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بَدَلَ كَلِمَتِهِ النَّعَمَ الْحُمْرَ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ الْمَذْكُورَةَ تَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ إِيمَانِهِ الْمُفْضِي بِهِ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ، وَثَوَابُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَأَبْقَى، وَفِيهِ اسْتِئْلَافُ مَنْ يُخْشَى جَزَعُهُ أَوْ يُرْجَى بِسَبَبِ إِعْطَائِهِ طَاعَةُ مَنْ يَتَّبِعُهُ وَالِاعْتِذَارُ إِلَى مَنْ ظَنَّ ظَنًّا وَالْأَمْرُ بِخِلَافِهِ.

‌50 - بَاب ذِكْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرِوَايَتِهِ عَنْ رَبِّهِ

7536 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ الْهَرَوِيُّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ

ص: 511

أَنَسٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عز وجل قَالَ: إِذَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِذَا تَقَرَّبَ إلي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِذَا أَتَانِي مَشْيًا أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً.

7537 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ التَّيْمِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ رُبَّمَا ذَكَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ إِذَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا أَوْ بُوعًا

وَقَالَ مُعْتَمِرٌ سَمِعْتُ أَبِي سَمِعْتُ أَنَسًا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عز وجل

7538 -

حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّكُمْ قَالَ لِكُلِّ عَمَلٍ كَفَّارَةٌ وَالصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ

7539 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ ح و قَالَ لِي خَلِيفَةُ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ قَالَ لَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّهُ خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى وَنَسَبَهُ إِلَى أَبِيهِ

7540 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي سُرَيْجٍ أَخْبَرَنَا شَبَابَةُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيِّ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفَتْحِ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ أَوْ مِنْ سُورَةِ الْفَتْحِ قَالَ فَرَجَّعَ فِيهَا قَالَ ثُمَّ قَرَأَ مُعَاوِيَةُ يَحْكِي قِرَاءَةَ ابْنِ مُغَفَّلٍ وَقَالَ لَوْلَا أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَيْكُمْ لَرَجَّعْتُ كَمَا رَجَّعَ ابْنُ مُغَفَّلٍ يَحْكِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ لِمُعَاوِيَةَ كَيْفَ كَانَ تَرْجِيعُهُ قَالَ آ آ آ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ

قَوْلُهُ: (بَابُ ذِكْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرِوَايَتِهِ عَنْ رَبِّهِ) يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ الْأُولَى مَحْذُوفَةُ الْمَفْعُولِ، وَالتَّقْدِيرُ: ذِكْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَبَّهُ عز وجل، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ضَمَّنَ الذِّكْرَ مَعْنَى التَّحْدِيثِ فَعَدَّاهُ بِعَنْ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ عَنْ رَبِّهِ مُتَعَلِّقٌ بِالذِّكْرِ وَالرِّوَايَةِ مَعًا، وَقَدْ تَرْجَمَ هَذَا فِي كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ بِلَفْظِ: مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ وَيَرْوِي عَنْ رَبِّهِ وَهُوَ أَوْضَحُ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ مَعْنَى هَذَا الْبَابِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَوَى عَنْ رَبِّهِ السُّنَّةَ كَمَا رَوَى عَنْهُ الْقُرْآنَ انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مُرَادَهُ تَصْحِيحُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ الْمُرَادِ بِكَلَامِ اللَّهِ سبحانه وتعالى، وَذَكَرَ فِيهِ خَمْسَةَ أَحَادِيثَ.

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ) هُوَ أَبُو يَحْيَى الْبَغْدَادِيُّ الْمُلَقَّبُ صَاعِقَةَ، وَأَبُو زَيْدٍ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ قَدْ حَدَّثَ عَنْهُ بِلَا وَاسِطَةٍ فِي بَابِ إِذَا رَأَى الْمُحْرِمُونَ صَيْدًا فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْحَجِّ وَكَذَا فِي غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ رِوَايَةِ قَتَادَةَ وَخَالَفَهُ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي، فَقَالَ: عَنْ أَنَسٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَالْأَوَّلُ مُرْسَلُ صَحَابِيٍّ.

قَوْلُهُ: (يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عز وجل فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ

ص: 512

طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ وَمِنْ طَرِيقِ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ، سَمِعْتُ قَتَادَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ رَبُّكُمْ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ عَنْ شُعْبَةَ وَمِنْ طَرِيقِهِ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ يَقُولُ اللَّهُ. قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ قَوْلُهُ: قَالَ رَبُّكُمْ وَقَوْلُهُ: يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّكُمْ سَوَاءٌ أَيْ فِي الْمَعْنَى.

قَوْلُهُ: (إِذَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ إِلَيَّ شِبْرًا) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنِّي وَفِي رِوَايَةِ الطَّيَالِسِيِّ إِنْ تَقَرَّبَ مِنِّي عَبْدِي وَالْأَصْلُ هُنَا الْإِتْيَانُ بِمِنْ، لَكِنْ يُفِيدُ اسْتِعْمَالُ إِلَى بِمَعْنَى الِانْتِهَاءِ فَهُوَ أَبْلَغُ.

قَوْلُهُ: (تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِذَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيّ مِنِّي وَكَذَا لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ وَالطَّيَالِسِيِّ.

قَوْلُهُ: (ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِذَا أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً) لَمْ يَقَعْ وَإِذَا أَتَانِي إِلَخْ فِي رِوَايَةِ الطَّيَالِسِيِّ.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَصَفَ سُبْحَانَهُ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ يَتَقَرَّبُ إِلَى عَبْدِهِ وَوَصَفَ الْعَبْدَ بِالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ وَوَصَفَهُ بِالْإِتْيَانِ وَالْهَرْوَلَةِ، كُلُّ ذَلِكَ يَحْتَمِلُ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ فَحَمْلُهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ يَقْتَضِي قَطْعَ الْمَسَافَاتِ وَتَدَانِي الْأَجْسَامِ وَذَلِكَ فِي حَقِّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، فَلَمَّا اسْتَحَالَتِ الْحَقِيقَةُ تَعَيَّنَ الْمَجَازُ لِشُهْرَتِهِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَيَكُونُ وَصْفُ الْعَبْدِ بِالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ شِبْرًا وَذِرَاعًا وَإِتْيَانُهُ وَمَشْيُهُ مَعْنَاهُ التَّقَرُّبُ إِلَيْهِ بِطَاعَتِهِ وَأَدَاءِ مُفْتَرَضَاتِهِ وَنَوَافِلِهِ، وَيَكُونُ تَقَرُّبُهُ سُبْحَانَهُ مِنْ عَبْدِهِ وَإِتْيَانُهُ وَالْمَشْيُ عِبَارَةٌ عَنْ إِثْبَاتِهِ عَلَى طَاعَتِهِ وَتَقَرُّبِهِ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً، أَيْ أَتَاهُ ثَوَابِي مُسْرِعًا، وَنُقِلَ عَنِ الطَّبَرِيِّ أَنَّهُ إِنَّمَا مَثَّلَ الْقَلِيلَ مِنَ الطَّاعَةِ بِالشِّبْرِ مِنْهُ وَالضِّعْفُ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالثَّوَابُ بِالذِّرَاعِ، فَجَعَلَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى مَبْلَغِ كَرَامَتِهِ لِمَنْ أَدْمَنَ عَلَى طَاعَتِهِ، أَنَّ ثَوَابَ عَمَلِهِ لَهُ عَلَى عَمَلِهِ الضَّعْفُ، وَأَنَّ الْكَرَامَةَ مُجَاوَزَةٌ حَدَّهُ إِلَى مَا يُثِيبُهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ الْقُرْبُ هُنَا نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ قُرْبُ الرُّتْبَةِ وَتَوْفِيرُ الْكَرَامَةِ، وَالْهَرْوَلَةُ كِنَايَةٌ عَنْ سُرْعَةِ الرَّحْمَةِ إِلَيْهِ وَرِضَا اللَّهِ عَنِ الْعَبْدِ وَتَضْعِيفِ الْأَجْرِ، قَالَ: وَالْهَرْوَلَةُ ضَرْبٌ مِنَ الْمَشْيِ السَّرِيعِ، وَهِيَ دُونَ الْعَدْوِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْمَشَارِقِ: الْمُرَادُ بِمَا جَاءَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ سُرْعَةُ قَبُولِ تَوْبَةِ اللَّهِ لِلْعَبْدِ أَوْ تَيْسِيرُ طَاعَتِهِ وَتَقْوِيَتُهُ عَلَيْهَا وَتَمَامُ هِدَايَتِهِ

وَتَوْفِيقِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: قُرْبُ الْعَبْدِ مِنَ اللَّهِ التَّخْصِيصُ بِكَثِيرٍ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي يَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي يُوصَفُ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى نَحْوَ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ وَالْحِلْمِ وَالرَّحْمَةِ وَغَيْرِهَا، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِإِزَالَةِ الْقَاذُورَاتِ الْمَعْنَوِيَّةِ مِنَ الْجَهْلِ وَالطَّيْشِ وَالْغَضَبِ وَغَيْرِهَا بِقَدْرِ طَاقَةِ الْبَشَرِ وَهُوَ قُرْبٌ رُوحَانِيٌّ لَا بَدَنِيٌّ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: إِذَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: (يَحْيَى) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ وَالتَّيْمِيُّ هُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ طَرْخَانَ.

قَوْلُهُ: (رُبَّمَا ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ إِذَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ مِنِّي) كَذَا لِلْجَمِيعِ، لَيْسَ فِيهِ الرِّوَايَةُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ خَلَّادٍ عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيِّ عَنْ يَحْيَى فَقَالَ فِيهِ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ اللَّهُ عز وجل. وَقَالَ مُسْلِمٌ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ وَابْنُ أَبِي عَدِيٍّ كِلَاهُمَا عَنْ سُلَيْمَانَ فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ اللَّهُ عز وجل.

قَوْلُهُ: (وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا أَوْ بُوعًا) كَذَا فِيهِ بِالشَّكِّ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} بِغَيْرِ شَكٍّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَقُولُ اللَّهُ عز وجل: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَوَقَعَ ذِكْرُ الْهَرْوَلَةِ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الَّذِي أَوَّلُهُ رَفَعَهُ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ حَسَنَةً فَجَزَاؤُهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، وَفِيهِ: وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيْهِ شِبْرًا الْحَدِيثَ، وَفِي آخِرِهِ: وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً، وَمَنْ أَتَانِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطِيئَةً لَمْ يُشْرِكْ بِي شَيْئًا جَعَلْتُهَا لَهُ مَغْفِرَةً أَخْرَجَهُ

ص: 513

مُسْلِمٌ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْبَاعُ مَعْرُوفٌ وَهُوَ قَدْرُ مَدِّ الْيَدَيْنِ، وَأَمَّا الْبَوْعُ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ فَهُوَ مَصْدَرُ بَاعَ يَبُوعُ بَوْعًا.

قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِضَمِّ الْبَاءِ جَمْعُ بَاعٍ مِثْلُ دَارٍ وَدُورٍ، وَأَغْرَبَ النَّوَوِيُّ فَقَالَ: الْبَاعُ وَالْبَوْعُ بِالضَّمِّ وَالْفَتْحُ كُلُّهُ بِمَعْنًى، فَإِنْ أَرَادَ مَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَإِلَّا لَمْ يُصَرِّحْ أَحَدٌ بِأَنَّ الْبُوعَ بِالضَّمِّ وَالْبَاعَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَالَ الْبَاجِيُّ الْبَاعُ طُولُ ذِرَاعَيِ الْإِنْسَانِ وَعَضُدَيْهِ وَعَرْضِ صَدْرِهِ وَذَلِكَ قَدْرُ أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ وَهُوَ مِنَ الدَّوَابِّ قَدْرُ خَطْوِهَا فِي الْمَشْيِ وَهُوَ مَا بَيْنَ قَوَائِمِهَا، وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ الْمَذْكُورَةِ: وَإِذَا أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّي بُوعًا أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُعْتَمِرٌ) هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ الْمَذْكُورُ وَأَرَادَ بِهَذَا التَّعْلِيقِ بَيَانَ التَّصْرِيحِ بِالرِّوَايَةِ فِيهِ عَنِ اللَّهِ عز وجل، وَقَدْ وَصَلَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ رِوَايَةِ الْمُعْتَمِرِ كَمَا سَأُنَبِّهُ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَبِّهِ عز وجل كَذَا سَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ عَنِ السَّرَخْسِيِّ وَالْكُشْمِيهَنِيِّ لَفْظَةُ: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَثَبَتَتْ لِلْمُسْتَمْلِي وَالْبَاقِينَ، وَقَالَ عِيَاضٌ عَنِ الْأَصِيلِيِّ: لَمْ يَكُنْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي كِتَابِ الْفَرَبْرِيِّ، وَقَدْ أَلْحَقَهَا عَبْدُوسٌ.

قُلْتُ: وَثَبَتَتْ عِنْدَ مُسْلِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنِ الْمُعْتَمِرِ وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ لَكِنَّهُ أَحَالَ بِهِ عَلَى رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ زَكَرِيَّا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى فَقَالَ فِي سِيَاقِهِ: عَنْ أَبِيهِ حَدَّثَنِي أَنَسٌ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى، وَوَصَلَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ قَالَ: حَدَّثَ أَبِي عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ رَبِّهِ تبارك وتعالى، وَوَصَلَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الشَّهِيدِ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَنَسٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ عز وجل، وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُتَوَكِّلِ الْعَسْقَلَانِيُّ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنِي أَبِي أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قَالَ اللَّهُ عز وجل: إِذَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ مِنِّي شِبْرًا، فَذَكَرَهُ وَقَالَ فِيهِ: بَاعًا وَلَمْ يَشُكَّ، وَفِي آخِرِهِ: أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً، وَزَادَ: وَإِنْ هَرْوَلَ سَعَيْتُ إِلَيْهِ وَاللَّهُ أَسْرَعُ بِالْمَغْفِرَةِ، قَالَ الْبَرْقَانِيُّ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُ فِي مُسْتَخْرَجِهِ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ: لَمْ أَجِدْ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ يَعْنِي مُحَمَّدَ بْنَ الْمُتَوَكِّلِ انْتَهَى.

وَهُوَ صَدُوقٌ عَارِفٌ بِالْحَدِيثِ عِنْدَهُ غَرَائِبُ وَأَفْرَادٌ وَهُوَ مِنْ شُيُوخِ أَبِي دَاوُدَ فِي السُّنَنِ، وَالْقَوْلُ فِي مَعْنَاهُ كَمَا تَقَدَّمَ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي مِثْلِ مُضَاعَفَةِ الثَّوَابِ يَقْبَلُ مَنْ أَقْبَلَ نَحْوَ آخِرِ قَدْرِ شِبْرٍ فَاسْتَقْبَلَهُ بِقَدْرِ ذِرَاعٍ، قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ التَّوْفِيقُ لَهُ بِالْعَمَلِ الَّذِي يُقِرِّبُهُ مِنْهُ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَمَّا قَامَتِ الْبَرَاهِينُ عَلَى اسْتِحَالَةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِطَاعَةٍ قَلِيلَةٍ جَازَيْتُهُ بِثَوَابٍ كَثِيرٍ، وَكُلَّمَا زَادَ فِي الطَّاعَةِ أَزِيدُ فِي الثَّوَابِ، وَإِنْ كَانَتْ كَيْفِيَّةُ إِتْيَانِهِ بِالطَّاعَةِ بِطَرِيقِ التَّأَنِّي يَكُونُ كَيْفِيَّةُ إِتْيَانِي بِالثَّوَابِ بِطَرِيقِ الْإِسْرَاعِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الثَّوَابَ رَاجِحٌ عَلَى الْعَمَلِ بِطَرِيقِ الْكَيْفِ وَالْكَمِّ، وَلَفْظُ الْقُرْبِ وَالْهَرْوَلَةِ مَجَازٌ عَلَى سَبِيلِ الْمُشَاكَلَةِ أَوِ الِاسْتِعَارَةِ أَوْ إِرَادَةِ لَوَازِمِهَا.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: حَدِيثُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ وَهُوَ الْجُمَحِيُّ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّكُمْ قَالَ: لِكُلِّ عَمَلٍ كَفَّارَةٌ، وَالصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ وَهُوَ غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عز وجل: لِكُلِّ عَمَلٍ كَفَّارَةٌ إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْهُ وَأَوْرَدَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ غُنْدَرٍ، وَأَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ: لِكُلِّ عَمَلٍ كَفَّارَةٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: حَدِيثُ أَبِي الْعَالِيَةِ، وَهُوَ رُفَيْعٌ بِفَاءٍ مُصَغَّرٌ الرِّيَاحِيُّ بِكَسْرِ الرَّاءِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ ثُمَّ حَاءٌ مُهْمَلَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا

ص: 514

يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ، أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ وَمِنْ طَرِيقِ سَعيد وَهُوَ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ كِلَاهُمَا عَنْ قَتَادَةَ عَنْهُ، وَسَاقَهُ عَلَى لَفْظِ سَعِيدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَرْجَمَةِ يُونُسَ عليه السلام مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ هُنَا، وَلَفْظُهُ: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ، فَذَكَرَهُ وَأَخْرَجَهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ كَذَلِكَ وَصَرَّحَ فِيهِ بِالتَّحْدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَفْظُهُ: عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ حَدَّثَنِي ابْنُ عَمِّ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ أَبُو دَاوُدَ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُ عَنْ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ عَنْ شُعْبَةَ لَمْ يَسْمَعْ قَتَادَةُ مِنْ أَبِي الْعَالِيَةِ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ هَذَا أَحَدُهَا.

قُلْتُ: قَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ سَمِعْتُ أَبَا الْعَالِيَةِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ، وَلَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ عَنْ شُعْبَةَ فِيهِ عَنْ رَبِّهِ وَلَا عَنِ اللَّهِ عز وجل، وَكَذَا تَقَدَّمَ فِي آخِرِ تَفْسِيرِ النِّسَاءِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما لَيْسَ فِيهِ عَنْ رَبِّهِ وَحَكَى ابْنُ التِّينِ عَنِ الدَّاوُدِيِّ قَالَ: أَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ لَيْسَ فِيهَا فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ فَإِنْ كَانَ هَذَا مَحْفُوظًا فَهُوَ مِمَّنْ سِوَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَسَاقَ الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ كَمَا مَضَى فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَهُوَ وَارِدٌ سَوَاءٌ كَانَ فِي الرِّوَايَةِ عَنْ رَبِّهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ بِخِلَافِ مَا يُوهِمُهُ كَلَامُهُ.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي سُرَيْجٍ) وَهُوَ بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ جِيمٍ، وَهُوَ أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ فَقِيلَ هُوَ اسْمُ أَبِي سُرَيْجٍ وَقِيلَ: أَبُو سُرَيْجٍ جَدُّ أَحْمَدَ، وَأَحْمَدُ يُكْنَى أَبَا جَعْفَرٍ.

قَوْلُهُ: (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ) بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ، وَفِي رِوَايَةِ حَجَّاجِ بْنِ مِنْهَالٍ عَنْ شُعْبَةَ أَخْبَرَنِي أَبُو إِيَاسٍ وَهُوَ مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُغَفَّلِ تَقَدَّمَ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ.

قَوْلُهُ: (سُورَةَ الْفَتْحِ أَوْ مِنْ سُورَةِ الْفَتْحِ) فِي رِوَايَةِ حَجَّاجٍ سُورَةَ الْفَتْحِ وَلَمْ يَشُكَّ.

قَوْلُهُ: (فَرَجَّعَ فِيهَا) بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ أَيْ رَدَّدَ الصَّوْتَ فِي الْحَلْقِ وَالْجَهْرِ بِالْقَوْلِ مُكَرِّرًا بَعْدَ خَفَائِهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ آدَمَ عَنْ شُعْبَةَ، وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ أَوْ مِنْ سُورَةِ الْفَتْحِ قِرَاءَةً لَيِّنَةً يُرَجِّعُ فِيهَا أَخْرَجَهُ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَرَأَ مُعَاوِيَةُ) ابْنُ قُرَّةَ (يَحْكِي قِرَاءَةَ ابْنِ مُغَفَّلٍ) هُوَ كَلَامُ شُعْبَةَ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَرَأَ وَرَجَّعَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَتْحِ عَنْ شُعْبَةِ قَالَ مُعَاوِيَةُ: لَوْ شِئْتُ أَنْ أَحْكِيَ لَكُمْ قِرَاءَتَهُ لَفَعَلْتُ، وَفِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ عَنْ شُعْبَةَ: لَوْلَا أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ حَوْلِي لَرَجَّعْتُ كَمَا رَجَّعَ، وَهَذَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَمْ يُرَجِّعْ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَيُحْمَلُ الْأَوَّلُ عَلَى أَنَّهُ حَكَى الْقِرَاءَةَ دُونَ التَّرْجِيعِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي آخِرِهِ كَيْفَ كَانَ تَرْجِيعُهُ؟ وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ شُعْبَةَ فَقَالَ فِيهِ: قَالَ مُعَاوِيَةُ: لَوْلَا أَنْ أَخْشَى أَنْ يَجْتَمِعَ عَلَيْكُمُ النَّاسُ لَحَكَيْتُ لَكُمْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ مَا حَكَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ لِمُعَاوِيَةَ) أَيِ ابْنِ قُرَّةَ، وَالْقَائِلُ شُعْبَةُ.

قَوْلُهُ: (كَيْفَ كَانَ تَرْجِيعُهُ؟ قَالَ: آآ آثَلَاثَ مَرَّاتٍ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِجَازَةُ الْقِرَاءَةِ بِالتَّرْجِيعِ وَالْأَلْحَانِ الْمُلَذِّذَةِ لِلْقُلُوبِ بِحُسْنِ الصَّوْتِ، وَقَوْلُ مُعَاوِيَةَ: لَوْلَا أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالتَّرْجِيعِ تَجْمَعُ نُفُوسَ النَّاسِ إِلَى الْإِصْغَاءِ وَتَسْتَمِيلُهَا بِذَلِكَ حَتَّى لَا تَكَادَ تَصْبِرَ عَنِ اسْتِمَاعِ التَّرْجِيعِ الْمَشُوبِ بِلَذَّةِ الْحِكْمَةِ الْمُهَيِّمَةِ، وَفِي قَوْلِهِ: آبِمَدِّ الْهَمْزَةِ وَالسُّكُوتِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُرَاعِي فِي قِرَاءَتِهِ الْمَدَّ وَالْوَقْفَ انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذَا كُلِّهِ فِي أَوَاخِرِ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ فِي بَابِ التَّرْجِيعِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةُ صَوْتِهِ عِنْدَ هَزِّ الرَّاحِلَةِ كَمَا يَعْتَرِي رَافِعَ صَوْتِهِ إِذَا كَانَ رَاكِبًا مِنَ انْضِغَاطِ صَوْتِهِ وَتَقْطِيعِهِ لِأَجْلِ هَزِّ الْمَرْكُوبِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَجْهُ دُخُولِ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَيْضًا يَرْوِي الْقُرْآنَ عَنْ رَبِّهِ كَذَا قَالَ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الرِّوَايَةُ عَنِ الرَّبِّ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ قُرْآنًا أَوْ غَيْرَهُ بِدُونِ الْوَاسِطَةِ وَبِالْوَاسِطَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمُتَبَادِرُ هُوَ مَا كَانَ بِغَيْرِ الْوَاسِطَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 515

‌51 - بَاب مَا يَجُوزُ مِنْ تَفْسِيرِ التَّوْرَاةِ وَغَيْرِهَا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ بِالْعَرَبِيَّةِ وَغَيْرِهَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}

7541 -

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ أَنَّ هِرَقْلَ دَعَا تَرْجُمَانَهُ، ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَهُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ، {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الْآيَةَ.

7542 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الإِسْلَامِ

فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ الْآيَةَ

7543 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنْ الْيَهُودِ قَدْ زَنَيَا فَقَالَ لِلْيَهُودِ مَا تَصْنَعُونَ بِهِمَا قَالُوا نُسَخِّمُ وُجُوهَهُمَا وَنُخْزِيهِمَا قَالَ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَجَاءُوا فَقَالُوا لِرَجُلٍ مِمَّنْ يَرْضَوْنَ يَا أَعْوَرُ اقْرَأْ فَقَرَأَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَوْضِعٍ مِنْهَا فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ قَالَ ارْفَعْ يَدَكَ فَرَفَعَ يَدَهُ فَإِذَا فِيهِ آيَةُ الرَّجْمِ تَلُوحُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ عَلَيْهِمَا الرَّجْمَ وَلَكِنَّا نُكَاتِمُهُ بَيْنَنَا فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا فَرَأَيْتُهُ يُجَانِئُ عَلَيْهَا الْحِجَارَةَ

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يَجُوزُ مِنْ تَفْسِيرِ التَّوْرَاةِ وَكُتُبِ اللَّهِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ: مِنْ تَفْسِيرِ التَّوْرَاةِ وَغَيْرِهَا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى وَكُلٌّ مِنْهُمَا مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ؛ لِأَنَّ التَّوْرَاةَ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (بِالْعَرَبِيَّةِ وَغَيْرِهَا) أَيْ مِنَ اللُّغَاتِ، فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَغَيْرِهَا وَلِكُلٍّ وَجْهٌ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الَّذِي بِالْعَرَبِيَّةِ مَثَلًا يَجُوزُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَبِالْعَكْسِ، وَهَلْ يَتَقَيَّدُ الْجَوَازُ بِمَنْ لَا يَفْقَهُ ذَلِكَ اللِّسَانَ أَوْ لَا، الْأَوَّلُ قَوْلُ الْأَكْثَرِ.

قَوْلُهُ: (لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ تُتْلَى عَلَى الْعَرَبِ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ الْعِبْرَانِيَّةَ فَقَضِيَّةُ ذَلِكَ الْإِذْنُ فِي التَّعْبِيرِ عَنْهَا بِالْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ.

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ أَنَّ هِرَقْلَ دَعَا تَرْجُمَانِهِ)، فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: بِتَرْجُمَانِهِ (ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَهُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ، ويَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) هَذَا طَرَفٌ مِنَ الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ الَّذِي تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي بَدْءِ الْوَحْيِ وَفِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ وَفِي تَفْسِيرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَى هِرَقْلَ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، وَلِسَانُ هِرَقْلَ رُومِيٌّ، فَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ اعْتَمَدَ فِي إِبْلَاغِهِ مَا فِي الْكِتَابِ عَلَى مَنْ يُتَرْجِمُ عَنْهُ بِلِسَانِ الْمَبْعُوثِ إِلَيْهِ لِيَفْهَمَهُ، وَالْمُتَرْجِمُ الْمَذْكُورُ هُوَ التَّرْجُمَانُ وَكَذَا وَقَعَ، وَاسْتَدَلَّ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ بِقِصَّةِ هِرَقْلَ لِمَطْلُوبِهِ أَنَّ الْقِرَاءَةَ فِعْلُ الْقَارِئِ، فَقَالَ: قَدْ كَتَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي كِتَابِهِ إِلَى قَيْصَرَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَقَرَأَهُ تَرْجُمَانُ قَيْصَرَ عَلَى قَيْصَرَ وَأَصْحَابِهِ، وَلَا يُشَكُّ فِي قِرَاءَةِ الْكُفَّارِ أَنَّهَا أَعْمَالُهُمْ، وَأَمَّا الْمَقْرُوءُ فَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى

ص: 516

لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ وَمَنْ حَلَفَ بِأَصْوَاتِ الْكُفَّارِ وَنِدَاءِ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ يَمِينٌ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ بِالْقُرْآنِ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ ذَكَرَهُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فِي تَفْسِيرِ الْبَقَرَةِ، وَفِي بَابِ: لَا تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ مِنْ كِتَابِ الِاعْتِصَامِ وَهُنَا وَهُوَ مِنْ نَوَادِرِ مَا وَقَعَ لَهُ فَإِنَّهُ لَا يَكَادُ يُخْرِجُ الْحَدِيثَ فِي مَكَانَيْنِ فَضْلًا عَنْ ثَلَاثَةٍ بِسِيَاقٍ وَاحِدٍ بَلْ يَتَصَرَّفُ فِي الْمَتْنِ بِالِاخْتِصَارِ وَالِاقْتِصَارِ وَبِالتَّمَامِ، وَفِي السَّنَدِ بِالْوَصْلِ وَالتَّعْلِيقِ مِنْ جَمِيعِ أَوْجُهِهِ، وَفِي الرُّوَاةِ بِسِيَاقِهِ عَنْ رَاوٍ غَيْرِ الْآخَرِ، فَبِحَسَبِ ذَلِكَ لَا يَكُونُ مُكَرَّرًا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَيَنْدُرُ لَهُ مَا وَقَعَ هُنَا، وَإِنَّمَا وَقَعَ ذَلِكَ غَالِبًا حَيْثُ يَكُونُ الْمَتْنُ قَصِيرًا وَالسَّنَدُ فَرْدًا، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى بَعْضِهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ قَالَ: تَجُوزُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِالْفَارِسِيَّةِ، وَأَيَّدَ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَى قَوْلَ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام كَنُوحٍ عليه السلام وَغَيْرِهِ مِمَّنْ لَيْسَ عَرَبِيًّا بِلِسَانِ الْقُرْآنِ وَهُوَ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى:{لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} وَالْإِنْذَارُ إِنَّمَا يَكُونُ بِمَا يَفْهَمُونَهُ مِنْ لِسَانِهِمْ، فَقِرَاءَةُ أَهْلِ كُلِّ لُغَةٍ بِلِسَانِهِمْ حَتَّى يَقَعَ لَهُمُ الْإِنْذَارُ بِهِ، قَالَ: وَأَجَابَ مَنْ مَنَعَ بِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا نَطَقُوا إِلَّا بِمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ فِي الْقُرْآنِ سَلَّمْنَا، وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَحْكِيَ اللَّهُ قَوْلَهُمْ بِلِسَانِ الْعَرَبِ ثُمَّ يَتَعَبَّدُنَا بِتِلَاوَتِهِ عَلَى مَا أَنْزَلَهُ، ثُمَّ نَقَلَ الِاخْتِلَافَ فِي إِجْزَاءِ صَلَاةِ مَنْ قَرَأَ فِيهَا بِالْفَارِسِيِّ وَمَنْ أَجَازَ ذَلِكَ عِنْدَ الْعَجْزِ دُونَ الْإِمْكَانِ

وَعَمَّمَ وَأَطَالَ فِي ذَلِكَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ التَّفْصِيلُ فَإِنْ كَانَ الْقَارِئُ قَادِرًا عَلَى التِّلَاوَةِ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْعُدُولُ عَنْهُ، وَلَا تُجْزِئُ صَلَاتُهُ وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا، وَإِنْ كَانَ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ بِلِسَانِهِ؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ وَبِهِ حَاجَةٌ إِلَى حِفْظِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلًا وَتَرْكًا، وَإِنْ كَانَ دَاخِلَ الصَّلَاةِ فَقَدْ جَعَلَ الشَّارِعُ لَهُ بَدَلًا وَهُوَ الذِّكْرُ، وَكُلُّ كَلِمَةٍ مِنَ الذِّكْرِ لَا يَعْجِزُ عَنِ النُّطْقِ بِهَا مَنْ لَيْسَ بِعَرَبِيٍّ فَيَقُولُهَا وَيُكَرِّرُهَا فَتُجْزِئُ عَنِ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ قِرَاءَتُهُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى يَتَعَلَّمَ، وَعَلَى هَذَا فَمَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ أَوْ أَرَادَ الدُّخُولَ فِيهِ فَقُرِئَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فَلَمْ يَفْهَمْهُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُعَرَّبَ لَهُ لِتَعْرِيفِ أَحْكَامِهِ أَوْ لِتَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ فَيَدْخُلُ فِيهِ، وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ أَنَّ ذَلِكَ بِلِسَانِهِمْ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِلِسَانِ الْعَرَبِ فَلَا يَكُونُ نَصًّا فِي الدَّلَالَةِ، ثُمَّ الْمُرَادُ بِإِيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ لَيْسَ مَا تَشَاغَلَ بِهِ ابْنُ بَطَّالٍ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مِنْهُ كَمَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ إِنْ صَدَقُوا فِيمَا فَسَّرُوا مِنْ كِتَابِهِمْ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ عَلَى طَرِيقِ التَّعْبِيرِ عَمَّا أُنْزِلَ، وَكَلَامُ اللَّهِ وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ، فَبِأَيِّ لِسَانٍ قُرِئَ فَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ، ثُمَّ أَسْنَدَ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} يَعْنِي وَمَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْعَجَمِ وَغَيْرِهِمْ،

قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ يَكُونُ لَا يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ فَإِذَا بَلَغَهُ مَعْنَاهُ بِلِسَانِهِ فَهُوَ لَهُ نَذِيرٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي أَوَّلِ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا بِثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي رَجْمِ الْيَهُودِيَّيْنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ وَإِسْمَاعِيلُ فِي السَّنَدِ هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مِقْسَمٍ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ عُلَيَّةَ وَأَيُّوبُ هُوَ السَّخْتِيَانِيُّ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: فَقَالُوا لِرَجُلٍ مِمَّنْ يَرْضَوْنَ أَعْوَرَ: اقْرَأْ كَذَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ، وَهُوَ مَجْرُورٌ بِالْفَتْحَةِ صِفَةُ رَجُلٍ، وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ يَا أَعْوَرَ وَهُوَ بِالرَّفْعِ وَقَوْلُهُ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا أَيْ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، وَعِنْدَ الْكُشْمِيهَنِيِّ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى الْمَوْضِعِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ ارْفَعْ يَدَكَ) كَذَا أَبْهَمَ الْقَائِلَ وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، وَالْوَاضِعُ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صُورِيَّا، وَقَوْلُهُ: نَتَكَاتَمُهُ أَيِ الرَّجْمُ، وَعِنْدَ الْكُشْمِيهَنِيِّ نَتَكَاتَمُهَا أَيِ الْآيَةُ.

ص: 517

‌52 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ سفرة الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَزَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ

7544 -

حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ يَزِيدَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ.

7545 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعَلْقَمَةُ بْنُ وَقَّاصٍ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإِفْكِ مَا قَالُوا وَكُلٌّ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنْ الْحَدِيثِ قَالَتْ فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي وَأَنَا حِينَئِذٍ أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ يُبَرِّئُنِي وَلَكِنِّي وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ يُنْزِلُ فِي شَأْنِي وَحْيًا يُتْلَى وَلَشَأْنِي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى وَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} الْعَشْرَ الْآيَاتِ كُلَّهَا

7546 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ أُرَاهُ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْعِشَاءِ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ صَوْتًا أَوْ قِرَاءَةً مِنْهُ

7547 -

حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُتَوَارِيًا بِمَكَّةَ وَكَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَإِذَا سَمِعَ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ وَمَنْ جَاءَ بِهِ فَقَالَ اللَّهُ عز وجل لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا}

7548 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رضي الله عنه قَالَ لَهُ إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ أَوْ بَادِيَتِكَ فَأَذَّنْتَ لِلصَّلَاةِ فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلَا إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ إِلاَّ شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

7549 -

حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أُمِّهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَرَأْسُهُ فِي حَجْرِي وَأَنَا حَائِضٌ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمَاهِرُ) أَيِ الْحَاذِقُ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا جَوْدَةُ التِّلَاوَةِ مَعَ حُسْنِ الْحِفْظِ.

قَوْلُهُ: (مَعَ سَفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ إِلَّا عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَقَالَ: مَعَ السَّفَرَةِ وَهُوَ كَذَلِكَ لِلْأَكْثَرِ، وَالْأَوَّلُ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ، وَالْمُرَادُ بِالسَّفَرَةِ الْكَتَبَةُ جَمْعُ سَافِرٍ مِثْلُ كَاتِبٍ وَزْنُهُ وَمَعْنَاهُ، وَهُمْ هُنَا الَّذِينَ يَنْقُلُونَ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فَوُصِفُوا بِالْكِرَامِ أَيِ الْمُكَرَّمِينَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْبَرَرَةُ أَيِ الْمُطِيعِينَ الْمُطَهَّرِينَ مِنَ الذُّنُوبِ وَأَصْلُ الْحَدِيثِ تَقَدَّمَ مُسْنَدًا فِي التَّفْسِيرِ لَكِنْ بِلَفْظِ: مَثَلَ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ حَافِظٌ لَهُ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَأَخْرَجَهُ

ص: 518

مُسْلِمٌ بِلَفْظِهِ مِنْ طَرِيقِ زُرَارَةَ بْنِ أَبِي أَوْفَى عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ الْمَاهِرُ: الْحَاذِقُ وَأَصْلُهُ الْحِذْقُ بِالسِّبَاحَةِ؛ قَالَهُ الْهَرَوِيُّ وَالْمُرَادُ بِالْمَهَارَةِ بِالْقُرْآنِ جَوْدَةُ الْحِفْظِ وَجَوْدَةُ التِّلَاوَةِ مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ فِيهِ لِكَوْنِهِ يَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ كَمَا يَسَّرَهُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَكَانَ مِثْلَهَا فِي الْحِفْظِ وَالدَّرَجَةِ.

قَوْلُهُ: (وَزَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ) هَذَا الْحَدِيثُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي عَلَّقَهَا الْبُخَارِيُّ وَلَمْ يَصِلْهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ فِي كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْسَجَةَ عَنِ الْبَرَاءِ بِهَذَا، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْإفْرَادِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَعَ لَنَا فِي الْأَوَّلِ مِنْ فَوَائِدِ عُثْمَانَ بْنِ السَّمَّاكِ وَلَكِنَّهُ مَوْقُوفٌ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ الْمَدُّ وَالتَّرْتِيلُ وَالْمَهَارَةُ فِي الْقُرْآنِ جَوْدَةُ التِّلَاوَةِ بِجَوْدَةِ الْحِفْظِ فَلَا يَتَلَعْثَمُ وَلَا يَتَشَكَّكُ وَتَكُونُ قِرَاءَتُهُ سَهْلَةً بِتَيْسِيرِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا يَسَّرَهُ عَلَى الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ قَالَ: وَلَعَلَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ بِأَحَادِيثِ هَذَا الْبَابِ إِلَى أَنَّ الْمَاهِرَ بِالْقُرْآنِ هُوَ الْحَافِظُ لَهُ مَعَ حُسْنِ الصَّوْتِ بِهِ وَالْجَهْرِ بِهِ بِصَوْتٍ مُطْرِبٍ بِحَيْثُ يَلْتَذُّ سَامِعُهُ انْتَهَى.

وَالَّذِي قَصَدَهُ الْبُخَارِيُّ إِثْبَاتَ كَوْنِ التِّلَاوَةِ فِعْلَ الْعَبْدِ فَإِنَّهَا يَدْخُلُهَا التَّزْيِينُ وَالتَّحْسِينُ وَالتَّطْرِيبُ، وَقَدْ يَقَعُ بِأَضْدَادِ ذَلِكَ، وَكُلُّ ذَلِكَ دَالٌّ عَلَى الْمُرَادِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ الْمُنِيرِ فَقَالَ: ظَنَّ الشَّارِحُ أَنَّ غَرَضَ الْبُخَارِيِّ جَوَازُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِتَحْسِينِ الصَّوْتِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا غَرَضُهُ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ وَصْفِ التِّلَاوَةِ بِالتَّحْسِينِ وَالتَّرْجِيعِ وَالْخَفْضِ وَالرَّفْعِ وَمُقَارَنَةِ الْأَحْوَالِ الْبَشَرِيَّةِ كَقَوْلِ عَائِشَةَ: يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي حِجْرِي وَأَنَا حَائِضٌ فَكُلُّ ذَلِكَ يُحَقِّقُ أَنَّ التِّلَاوَةَ فِعْلُ الْقَارِئِ، وَتَتَّصِفُ بِمَا تَتَّصِفُ بِهِ الْأَفْعَالُ وَيَتَعَلَّقُ بِالظُّرُوفِ الزَّمَانِيَّةِ وَالْمَكَانِيَّةِ انْتَهَى.

وَيُؤَيِّدُهُ مَا قَالَ فِي كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَ حَدِيثَ: زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ وَعَلَّقَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما، وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: يَا أَبَا مُوسَى لَقَدْ أُوتِيتَ مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بِلَفْظِ سَمِعَ أَبَا مُوسَى يَقْرَأُ فَقَالَ: كَأَنَّ هَذَا مِنْ أَصْوَاتِ آلِ دَاوُدَ، ثُمَّ قَالَ: وَلَا رَيْبَ فِي تَخْلِيقِ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ وَنِدَائِهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ عَائِشَةَ: الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْحَدِيثَ، وَحَدِيثَ أَنَسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ كَانَ يَمُدُّ مَدًّا، وَحَدِيثَ قُطْبَةَ بْنَ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ:{وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} يَمُدُّ بِهَا صَوْتَهُ، ثُمَّ قَالَ: فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ أَصْوَاتَ الْخَلْقِ وَقِرَاءَتَهُمْ مُخْتَلِفَةٌ بَعْضُهَا أَحْسَنُ مِنْ بَعْضٍ، وَأَزْيَنُ وَأَحْلَى وَأَرْتَلُ وَأَمْهَرُ وَأَمَدُّ وَغَيْرُ ذَلِكَ، ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ سِتَّةَ أَحَادِيثَ.

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ.

قَوْلُهُ: (ابْنُ أَبِي حَازِمٍ) هُوَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ دِينَارٍ وَيَزِيدُ شَيْخُهُ هُوَ ابْنُ الْهَادِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ هُوَ التَّيْمِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي بَابِ: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ مِنْ كِتَابِ التَّوْحِيدِ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ، ذَكَرَ مِنْهُ طَرَفًا مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ عَنِ اللَّيْثِ عَنْ يُونُسَ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ مَشَايِخِهِ وَفِيهِ: وَلَكِنْ وَاللَّهِ وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: وَلَكِنِّي وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ يُنْزِلُ فِي شَأْنِي وَحْيًا يُتْلَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} الْعَشْرَ الْآيَاتِ كُلَّهَا، هَكَذَا اقْتَصَرَ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ مِنْهُ، وَتَقَدَّمَ بِطُولِهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النُّورِ مَعَ شَرْحِهِ، وَقَدْ أَوْرَدَ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَابِ قَوْلِهِ: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا

ص: 519

كَلامَ اللَّهِ} مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ يُونُسَ، وَذَكَرَهُ فِي خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، ثُمَّ قَالَ: فَبَيَّنَتْ رضي الله عنها أَنَّ الْإِنْذَارَ مِنَ اللَّهِ وَأَنَّ النَّاسَ يَتْلُونَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ عِدَّةَ آيَاتٍ فِيهَا ذِكْرُ التِّلَاوَةِ، ثُمَّ قَالَ: فَبَيَّنَ سبحانه وتعالى أَنَّ التِّلَاوَةَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ رضي الله عنهم، وَأَنَّ الْوَحْيَ مِنَ اللَّهِ سبحانه وتعالى.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: حَدِيثُ الْبَرَاءِ.

قَوْلُهُ: (يَقْرَأُ فِي الْعِشَاءِ وَالتِّينِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِالتِّينِ فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ صَوْتًا أَوْ قِرَاءَةً مِنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وَمُرَادُهُ مِنْهُ هُنَا بَيَانُ اخْتِلَافِ الْأَصْوَاتِ بِالْقِرَاءَةِ مِنْ جِهَةِ النَّغَمِ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُبْحَانَ، وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} وَمُرَادُهُ مِنْهُ هُنَا بَيَانُ اخْتِلَافِ الْأَصْوَاتِ بِالْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ: لَا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلَا إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ إِلَّا شَهِدَ لَهُ الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْأَذَانِ وَمُرَادُهُ مِنْهُ هُنَا بَيَانُ اخْتِلَافِ الْأَصْوَاتِ بِالرَّفْعِ وَالْخَفْضِ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَجْهُ مُنَاسَبَتِهِ أَنَّ رَفْعَ الْأَصْوَاتِ بِالْقُرْآنِ أَحَقُّ بِالشَّهَادَةِ لَهُ وَأَوْلَى.

الْحَدِيثُ السَّادِسُ: حَدِيثُ عَائِشَةَ.

قَوْلُهُ: (سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَمَنْصُورٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشَّيْبِيُّ، وَأُمُّهُ هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ شَيْبَةَ مِنْ صِغَارِ الصَّحَابَةِ.

قَوْلُهُ: (يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَرَأْسُهُ فِي حِجْرِي وَأَنَا حَائِضٌ) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ وَتَقَدَّمَ بَيَانُ الْمُرَادِ بِهِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ الْمُنِيرِ، وَمِنْهُ يَظْهَرُ وَجْهُ مُنَاسَبَةِ ذِكْرِهِ فِي هَذَا الْبَابِ.

‌53 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}

7550 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي عُرْوَةُ أَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدٍ الْقَارِيَّ حَدَّثَاهُ أَنَّهُمَا سَمِعَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِي الصَّلَاةِ فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ فَلَبَبْتُهُ بِرِدَائِهِ فَقُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ؟ قَالَ: أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: كَذَبْتَ أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ، فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا، فَقَالَ: أَرْسِلْهُ، اقْرَأْ يَا هِشَامُ، فَقَرَأَ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اقْرَأْ يَا عُمَرُ، فَقَرَأْتُ، فَقَالَ: كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} كَذَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ وَلِلْبَاقِينَ مِنَ الْقُرْآنِ وَكُلٌّ مِنَ اللَّفْظَيْنِ فِي السُّورَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْقِرَاءَةِ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ بَعْضُ أَرْكَانِهَا، ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عُمَرَ فِي قِصَّتِهِ مَعَ هِشَامِ بْنِ حَكِيمٍ فِي قِرَاءَةِ سُورَةِ الْفُرْقَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ. وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ الضَّمِيرُ لِلْقُرْآنِ وَالْمُرَادُ بِالْمُتَيَسِّرِ مِنْهُ فِي الْحَدِيثِ غَيْرُ الْمُرَادِ بِهِ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُتَيَسِّرِ فِي الْآيَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ فِي الْحَدِيثِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَسْتَحْضِرُهُ الْقَارِئُ مِنَ الْقُرْآنِ، فَالْأَوَّلُ

ص: 520

مِنَ الْكَمِّيَّةِ، وَالثَّانِي مِنَ الْكَيْفِيَّةِ، وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ وَحَدِيثِهَا لِلْأَبْوَابِ الَّتِي قَبْلَهَا مِنْ جِهَةِ التَّفَاوُتِ فِي الْكَيْفِيَّةِ وَمِنْ جِهَةِ جَوَازِ نِسْبَةِ الْقِرَاءَةِ لِلْقَارِئِ.

‌54 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ. يُقَالُ: مُيَسَّرٌ: مُهَيَّأٌ.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ بِلِسَانِكَ: هَوَّنَّا قِرَاءَتَهُ عَلَيْكَ.

وَقَالَ مَطَرٌ الْوَرَّاقُ: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} قَالَ: هَلْ مِنْ طَالِبِ عِلْمٍ فَيُعَانَ عَلَيْهِ

7551 -

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ يَزِيدُ: حَدَّثَنِي مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عِمْرَانَ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: فِيمَا يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ؟ قَالَ: كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ.

7552 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ وَالْأَعْمَشِ سَمِعَا سَعْدَ بْنَ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ فِي جَنَازَةٍ فَأَخَذَ عُودًا فَجَعَلَ يَنْكُتُ فِي الْأَرْضِ فَقَالَ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنْ الجنة أَوْ مِنْ النار، قَالُوا: أَلَا نَتَّكِلُ؟ قَالَ: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ، {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} الْآيَةَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} قِيلَ: المراد بالذكر: الْأَذْكَارُ وَالِاتِّعَاظُ، وَقِيلَ: الْحِفْظُ، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ) فَذَكَرَهُ مَوْصُولًا فِي الْبَابِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ بِلِسَانِكَ هَوَّنَّاهُ عَلَيْكَ) فِي رِوَايَةٍ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ: هَوَّنَّا قِرَاءَتَهُ عَلَيْكَ وَهُوَ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَالْوَاوِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ مِنَ التَّهْوِينِ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ عَنْ وَرْقَاءَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} قَالَ: هَوَّنَّاهُ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ تَيْسِيرُ الْقُرْآنِ: تَسْهِيلُهُ عَلَى لِسَانِ الْقَارِئِ حَتَّى يُسَارِعَ إِلَى قِرَاءَتِهِ، فَرُبَّمَا سَبَقَ لِسَانَهُ فِي الْقِرَاءَةِ فَيُجَاوِزُ الْحَرْفَ إِلَى مَا بَعْدَهُ وَيَحْذِفُ الْكَلِمَةَ حِرْصًا عَلَى مَا بَعْدَهَا انْتَهَى. وَفِي دُخُولِ هَذَا فِي الْمُرَادِ نَظَرٌ كَبِيرٌ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مَطَرٌ الْوَرَّاقُ {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} قَالَ: هَلْ مِنْ طَالِبِ عِلْمٍ فَيُعَانُ عَلَيْهِ، وَقَعَ هَذَا التَّعْلِيقُ عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَحْدَهُ، وَثَبَتَ أَيْضًا لِلْجُرْجَانِيِّ عَنِ الْفَرَبْرِيِّ، وَوَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ زَمْعَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَوْذَبٍ عَنْ مَطَرٍ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ مِنْ طَرِيقِ ضَمْرَةَ. ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فِيمَ يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ؟ قَالَ: كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، وَهُوَ مُخْتَصَرٌ مِنْ حَدِيثٍ سَبَقَ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ فِيهِ عَنْ عِمْرَانَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُعْرَفُ أَهْلُ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَلِمَ يَعْمَلِ الْعَامِلُونَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ هُنَاكَ، وَيَزِيدُ شَيْخُ عَبْدِ الْوَارِثِ فِيهِ هُوَ الْمَعْرُوفُ بِالرِّشْكِ، وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ الرِّشْكُ فَذَكَرَهُ.

وَحَدِيثُ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَفِيهِ: وَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ أَوْ مِنَ الْجَنَّةِ وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ هُنَاكَ أَيْضًا وَفِيهِ: وَفِي حَدِيثِ عِمْرَانَ الَّذِي قَبْلَهُ كُلٌّ مُيَسَّرٌ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ فِي شَرْحِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَذْكُورِ فِي بَابِ كَلَامِ اللَّهِ مَعَ أَهْلِ

ص: 521

الْجَنَّةِ فِيهِ نِدَاءُ اللَّهِ تَعَالَى لِأَهْلِ الْجَنَّةِ بِقَرِينَةِ جَوَابِهِمْ بِلَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْمُرَاجَعَةُ بِقَوْلِهِ: هَلْ رَضِيتُمْ، وَقَوْلُهُمْ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى، وَقَوْلُهُ: أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ، وَقَوْلُهُمْ: يَا رَبَّنَا وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ، وَقَوْلُهُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سبحانه وتعالى هُوَ الَّذِي كَلَّمَهُمْ وَكَلَامُهُ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ مُيَسَّرٌ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَالنَّظَرُ فِي كَيْفِيَّتِهِ مَمْنُوعٌ، وَلَا نَقُولُ بِالْحُلُولِ فِي الْمُحْدَثِ وَهِيَ الْحُرُوفُ وَلَا أَنَّهُ دَلَّ عَلَيْهِ وَلَيْسَ بِمَوْجُودٍ، بَلِ الْإِيمَانُ بِأَنَّهُ مُنَزَّلٌ حَقٌّ مُيَسَّرٌ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ صِدْقٌ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: حَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ مُقَدَّرًا فَلْنَتْرُكِ الْمَشَقَّةَ فِي الْعَمَلِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهَا سُمِّيَ بِالتَّكْلِيفِ، وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ كُلَّ مَنْ خُلِقَ لِشَيْءٍ يُسِّرَ لِعَمَلِهِ فَلَا مَشَقَّةَ مَعَ التَّيْسِيرِ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَرَادُوا أَنْ يَتَّخِذُوا مَا سَبَقَ حُجَّةً فِي تَرْكِ الْعَمَلِ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ هُنَا أَمْرَيْنِ لَا يُبْطِلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ: بَاطِنٌ وَهُوَ مَا اقْتَضَاهُ حُكْمُ الرُّبُوبِيَّةِ، وَظَاهِرٌ وَهُوَ السِّمَةُ اللَّازِمَةُ بِحَقِّ الْعُبُودِيَّةِ وَهُوَ أَمَارَةٌ لِلْعَاقِبَةِ فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الْعَمَلَ فِي الْعَاجِلِ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْآجِلِ وَأَنَّ الظَّاهِرَ لَا يُتْرَكُ لِلْبَاطِنِ. قُلْتُ: وَكَأَنَّ مُنَاسَبَةُ هَذَا الْبَابِ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ جِهَةِ الِاشْتِرَاكِ فِي لَفْظِ التَّيْسِيرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌55 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} ، {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ}

قَالَ قَتَادَةُ: مَكْتُوبٌ، {يَسْطُرُونَ} يَخُطُّونَ {فِي أُمِّ الْكِتَابِ} جُمْلَةِ الْكِتَابِ وَأَصْلِهِ، {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} مَا يَتَكَلَّمُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا كُتِبَ عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُكْتَبُ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ، {يُحَرِّفُونَ} يُزِيلُونَ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يُزِيلُ لَفْظَ كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ عز وجل وَلَكِنَّهُمْ يُحَرِّفُونَهُ: يَتَأَوَّلُونَهُ عن غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، دِرَاسَتُهُمْ: تِلَاوَتُهُمْ، {وَاعِيَةٌ} حَافِظَةٌ، {وَتَعِيَهَا} تَحْفَظُهَا، {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ} يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ، {وَمَنْ بَلَغَ} هَذَا الْقُرْآنُ فَهُوَ لَهُ نَذِيرٌ

7553 -

وقَالَ لِي خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ سَمِعْتُ أَبِي عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ كِتَابًا عِنْدَهُ، غَلَبَتْ - أَوْ قَالَ: سَبَقَتْ - رَحْمَتِي غَضَبِي فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ.

7554 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي غَالِبٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ أَنَّ أَبَا رَافِعٍ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي فَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ وَالَّذِي بَعْدَهَا: قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّ الْقُرْآنَ يُحْفَظُ وَيُسْطَرُ، وَالْقُرْآنُ الْمُوعَى فِي الْقُلُوبِ الْمَسْطُورُ فِي الْمَصَاحِفِ الْمَتْلُوُّ بِالْأَلْسِنَةِ كَلَامِ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ، وَأَمَّا الْمِدَادُ وَالْوَرَقُ وَالْجِلْدُ فَإِنَّهُ مَخْلُوقٌ.

قَوْلُهُ: {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} قَالَ قَتَادَةُ: مَكْتُوبٌ) وَصَلَهُ الْبُخَارِيُّ فِي خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} قَالَ: الْمَسْطُورُ: الْمَكْتُوبُ، فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ: هُوَ الْكِتَابُ، وَصَلَهُ عبْيدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ رِوَايَةِ شَيْبَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ كِلَاهُمَا عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ أَبِي

ص: 522

نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} قَالَ: صُحُفٌ مَكْتُوبَةٌ، {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} قَالَ: فِي صُحُفٍ.

قَوْلُهُ: {يَسْطُرُونَ} يَخُطُّونَ) أَيْ يَكْتُبُونَ، أَوْرَدَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ شَيْبَانَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:{وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} قَالَ: وَمَا يَكْتُبُونَ.

قَوْلُهُ: {فِي أُمِّ الْكِتَابِ} جُمْلَةُ الْكِتَابِ وَأَصْلُهُ) وَصَلَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} قَالَ: جُمْلَةُ الْكِتَابِ وَأَصْلُهُ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} يَقُولُ: جُمْلَةُ ذَلِكَ عِنْدَهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ وَمَا يُكْتَبُ وَمَا يُبَدَّلُ.

قَوْلُهُ: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} مَا يَتَكَلَّمُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا كُتِبَ عَلَيْهِ، وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ وَالْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ:{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} قَالَ: مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا كُتِبَ عَلَيْهِ وَمِنْ طَرِيقِ زَائِدَةَ بْنِ قُدَامَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ مَجْمَعٍ قَالَ: الْمَلَكُ مِدَادُهُ رِيقُهُ، وَقَلَمُهُ لِسَانُهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَكْتُبُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} قَالَ: إِنَّمَا يَكْتُبُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، وَأَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} قَالَ: يُكْتَبُ كُلَّ مَا تَكَلَّمَ بِهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ حَتَّى أَنَّهُ لَيُكْتَبُ قَوْلَهُ: أَكَلْتُ شَرِبْتُ ذَهَبْتُ جِئْتُ رَأَيْتُ حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمَ الْخَمِيسِ عُرِضَ قَوْلُهُ وَعَمَلُهُ فَأُقِرَّ مَا كَانَ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَأُلْقِيَ سَائِرُهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ:{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ هَذَا مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رِئَابٍ بِكَسْرِ الرَّاءِ ثُمَّ يَاءٍ مَهْمُوزَةٍ وَآخِرُهُ مُوَحَّدَةٌ، وَالْكَلْبِيُّ مَتْرُوكٌ وَأَبُو صَالِحٍ لَمْ يُدْرِكْ جَابِرًا هَذَا، وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ وَالْحَسَنِ {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا كُتِبَ عَلَيْهِ، وَكَانَ عِكْرِمَةُ يَقُولُ: إِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. قُلْتُ: وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِرِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْمَذْكُورَةِ.

قَوْلُهُ: {يُحَرِّفُونَ} يُزِيلُونَ) لَمْ أَرَ هَذَا مَوْصُولًا مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ وَجْهٍ ثَابِتٍ مَعَ أَنَّ الَّذِي قَبْلَهُ مِنْ كَلَامِهِ وَكَذَا الَّذِي بَعْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: دِرَاسَتُهُمْ: تِلَاوَتُهُمْ وَمَا بَعْدَهُ، وَأَخْرَجَ جَمِيعَ ذَلِكَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ قَوْلِهِ:{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يُخَالِفُ مَا ذَكَرَ هُنَا وَهُوَ تَفْسِيرُ يُحَرِّفُونَ بِقَوْلِهِ: يُزِيلُونَ، نَعَمْ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي كِتَابِ الْمَجَازِ فِي قَوْلِهِ:{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} قَالَ: يُقَلِّبُونَ وَيُغَيِّرُونَ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: التَّحْرِيفُ الْإِمَالَةُ وَتَحْرِيفُ الْكَلَامِ أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى حَرْفٍ مِنَ الِاحْتِمَالِ بِحَيْثُ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى وَجْهَيْنِ فَأَكْثَرَ.

قَوْلُهُ: (وَلَيْسَ أَحَدٌ يُزِيلُ لَفْظَ كِتَابِ اللَّهِ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ عز وجل وَلَكِنَّهُمْ يُحَرِّفُونَهُ: يَتَأَوَّلُونَهُ عَنْ غَيْرِ تَأْوِيلِهِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، قَالَ شَيْخُنَا ابْنُ الْمُلَقِّنِ فِي شَرْحه هَذَا الَّذِي قَالَهُ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ مُخْتَارُهُ - أَيِ الْبُخَارِيُّ - وَقَدْ صَرَّحَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا بِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بَدَّلُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَفَرَّعُوا عَلَى ذَلِكَ جَوَازَ امْتِهَانِ أَوْرَاقِهِمَا وَهُوَ يُخَالِفُ مَا قَالَهُ الْبُخَارِيُّ هُنَا انْتَهَى. وَهُوَ كَالصَّرِيحِ فِي أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَيْسَ أَحَدٌ إِلَى آخِرِهِ مِنْ كَلَامِ الْبُخَارِيِّ ذَيَّلَ بِهِ تَفْسِيرَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَقِيَّةَ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ الْمُتَأَخِّرِينَ: اخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَقْوَالٍ، أَحَدُهَا: أَنَّهَا بُدِّلَتْ كُلُّهَا وَهُوَ مُقْتَضَى الْقَوْلِ الْمَحْكِيِّ بِجَوَازِ الِامْتِهَانِ وَهُوَ إِفْرَاطٌ، وَيَنْبَغِي حَمْلُ إِطْلَاقِ مَنْ أَطْلَقَهُ عَلَى الْأَكْثَرِ وَإِلَّا فَهِيَ مُكَابَرَةٌ، وَالْآيَاتُ وَالْأَخْبَارُ كَثِيرَةٌ فِي أَنَّهُ بَقِيَ مِنْهَا أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ لَمْ تُبَدَّلْ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ

ص: 523

تَعَالَى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} الْآيَةَ، وَمِنْ ذَلِكَ قِصَّةُ رَجْمِ الْيَهُودِيَّيْنِ، وَفِيهِ وُجُودُ آيَةِ الرَّجْمِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ثَانِيهَا: أَنَّ التَّبْدِيلَ وَقَعَ وَلَكِنْ فِي مُعْظَمِهَا وَأَدِلَّتُهُ كَثِيرَةٌ، وَيَنْبَغِي حَمْلُ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ.

ثَالِثُهَا: وَقَعَ فِي الْيَسِيرِ مِنْهَا وَمُعْظَمُهَا بَاقٍ عَلَى حَالِهِ، وَنَصَرَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ فِي كِتَابِهِ الرَّدُّ الصَّحِيحُ عَلَى مَنْ بَدَّلَ دِينَ الْمَسِيحِ. رَابِعُهَا: إِنَّمَا وَقَعَ التَّبْدِيلُ وَالتَّغْيِيرُ فِي الْمَعَانِي لَا فِي الْأَلْفَاظِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ هُنَا، وَقَدْ سُئِلَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُجَرَّدًا فَأَجَابَ فِي فَتَاوِيهِ أَنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ، وَاحْتَجَّ لِلثَّانِي مِنْ أَوْجُهٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:{لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} وَهُوَ مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} وَلَا يَتَعَيَّنُ الْجَمْعُ بِمَا ذُكِرَ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى اللَّفْظِ فِي النَّفْيِ وَعَلَى الْمَعْنَى فِي الْإِثْبَاتِ لِجَوَازِ الْحَمْلِ فِي النَّفْيِ عَلَى الْحُكْمِ وَفِي الْإِثْبَاتِ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَمِنْهَا أَنَّ نَسْخَ التَّوْرَاةِ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ وَالْجَنُوبِ وَالشَّمَالِ لَا يَخْتَلِفُ وَمِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَقَعَ التَّبْدِيلُ فَيَتَوَارَدُ النَّسْخُ بِذَلِكَ عَلَى مِنْهَاجِ وَاحِدٍ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ عَجِيبٌ؛ لِأَنَّهُ إِذَا جَازَ وُقُوعُ التَّبْدِيلِ جَازَ إِعْدَامُ الْمُبْدَلِ وَالنُّسَخُ الْمَوْجُودَةُ الْآنَ هِيَ الَّتِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهَا الْأَمْرُ عِنْدَهُمْ عِنْدَ التَّبْدِيلِ وَالْأَخْبَارُ بِذَلِكَ طَافِحَةٌ، أَمَّا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّوْرَاةِ فَلِأَنَّ بُخْتَنَصَّرَ لَمَّا غَزَا بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَأَهْلَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَزَّقَهُمْ بَيْنَ قَتِيلٍ وَأَسِيرٍ وَأَعْدَمَ كُتُبَهُمْ حَتَّى جَاءَ عُزَيْرٌ فَأَمْلَاهَا عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِنْجِيلِ فَإِنَّ الرُّومَ لَمَّا دَخَلُوا فِي النَّصْرَانِيَّةِ جَمَعَ مَلِكُهُمْ أَكَابِرَهُمْ عَلَى مَا فِي الْإِنْجِيلِ الَّذِي بِأَيْدِيهِمْ

وَتَحْرِيفُهُمُ الْمَعَانِي لَا يُنْكَرُ بَلْ هُوَ مَوْجُودٌ عِنْدَهُمْ بِكَثْرَةٍ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ هَلْ حُرِّفَتِ الْأَلْفَاظُ أَوْ لَا؟ وَقَدْ وُجِدَ فِي الْكِتَابَيْنِ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ مِنْ عِنْدَ اللَّهِ عز وجل أَصْلًا، وَقَدْ سَرَدَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِهِ الْفَصْلِ فِي الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِنْ هَذَا الْجِنْسِ؛ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ فِي أَوَّلِ فَصْلٍ فِي أَوَّلِ وَرَقَةٍ مِنْ تَوْرَاةِ الْيَهُودِ الَّتِي عِنْدَ رُهْبَانِهِمْ وَقُرَّائِهِمْ وَعَانَاتِهِمْ وَعِيسَوِيِّهِمْ حَيْثُ كَانُوا فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهَا عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ، لَوْ رَامَ أَحَدٌ أَنْ يَزِيدَ فِيهَا لَفْظَةً أَوْ يُنْقِصَ مِنْهَا لَفْظَةً لَافْتَضَحَ عِنْدَهُمْ مُتَّفَقًا عَلَيْهَا عِنْدَهُمْ إِلَى الْأَحْبَارِ الْهَارُونِيَّةِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ الْخَرَابِ الثَّانِي يَذْكُرُونَ أَنَّهَا مُبَلَّغَةٌ مِنْ أُولَئِكَ إِلَى عِزْرَا الْهَارُونِيِّ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لَمَّا أَكَلَ آدَمُ مِنَ الشَّجَرَةِ: هَذَا آدَمُ قَدْ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنَّا فِي مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَأَنَّ السَّحَرَةَ عَمِلُوا لِفِرْعَوْنَ نَظِيرَ مَا أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الدَّمِ وَالضَّفَادِعِ وَأَنَّهُمْ عَجَزُوا عَنِ الْبَعُوضِ، وَأَنَّ ابْنَتَيْ لُوطٍ بَعْدَ هَلَاكِ قَوْمِهِ ضَاجَعَتْ كُلٌّ مِنْهُمَا أَبَاهَا بَعْدَ أَنْ سَقَتْهُ الْخَمْرَ فَوَطِئَ كُلًّا مِنْهُمَا فَحَمَلَتَا مِنْهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُنْكَرَةِ الْمُسْتَبْشَعَةِ، وَذَكَرَ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى أَنَّ التَّبْدِيلَ وَقَعَ فِيهَا إِلَى أَنْ أُعْدِمَتْ فَأَمْلَاهَا عِزْرَا الْمَذْكُورُ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ الْآنَ، ثُمَّ سَاقَ أَشْيَاءَ مِنْ نَصِّ التَّوْرَاةِ الَّتِي بِأَيْدِيهِمُ الْآنَ الْكَذِبُ فِيهَا ظَاهِرٌ جِدًّا ثُمَّ قَالَ: وَبَلَغَنَا عَنْ قَوْمٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ

يُنْكِرُونَ أَنَّ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ اللَّتَيْنِ بِأَيْدِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مُحَرَّفَانِ، وَالْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ قِلَّةُ مُبَالَاتِهِمْ بِنُصُوصِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَقَدِ اشْتَمَلَا عَلَى أَنَّهُمْ:{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} وَ: يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ويلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَيكْتُمُونَ الْحَقَّ وهم يعْلَمُونَ، وَيُقَالُ لِهَؤُلَاءِ الْمُنْكِرِينَ: قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ الصَّحَابَةِ: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، وَلَيْسَ بِأَيْدِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى شَيْءٌ مِنْ هَذَا، وَيُقَالُ لِمَنِ ادَّعَى أَنَّ نَقْلَهُمْ نَقْلٌ مُتَوَاتِرٌ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنْ لَا ذِكْرَ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فِي الْكِتَابَيْنِ، فَإِنْ صَدَّقْتُمُوهُمْ فِيمَا بِأَيْدِيهِمْ لِكَوْنِهِ نُقِلَ نَقْلَ الْمُتَوَاتِرِ فَصَدَّقُوهُمْ فِيمَا زَعَمُوهُ أَنْ لَا ذِكْرَ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَصْحَابِهِ، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ تَصْدِيقُ

ص: 524

بَعْضٍ وَتَكْذِيبُ بَعْضٍ مَعَ مَجِيئِهِمَا مَجِيئًا وَاحِدًا انْتَهَى كَلَامُهُ وَفِيهِ فَوَائِدُ، وَقَالَ الشَّيْخُ بَدْرُ الدِّينِ الزَّرْكَشِيُّ: اغْتَرَّ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِهَذَا - يَعْنِي بِمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ - فَقَالَ: إِنَّ فِي تَحْرِيفِ التَّوْرَاةِ خِلَافًا هَلْ هُوَ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى أَوْ فِي الْمَعْنَى فَقَطْ، وَمَالَ إِلَى الثَّانِي وَرَأَى جَوَازَ مُطَالَعَتِهَا وَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُمْ حَرَّفُوا وَبَدَّلُوا، وَالِاشْتِغَالُ بِنَظَرِهَا وَكِتَابَتِهَا لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ غَضِبَ صلى الله عليه وسلم حِينَ رَأَى مَعَ عُمَرَ صَحِيفَةً فِيهَا شَيْءٌ مِنَ

التَّوْرَاةِ، وَقَالَ: لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا اتِّبَاعِي وَلَوْلَا أَنَّهُ مَعْصِيَةٌ مَا غَضِبَ فِيهِ. قُلْتُ: إِنْ ثَبَتَ الْإِجْمَاعُ فَلَا كَلَامَ فِيهِ وَقَدْ قَيَّدَهُ بِالِاشْتِغَالِ بِكِتَابَتِهَا وَنَظَرِهَا فَإِنْ أَرَادَ مَنْ يَتَشَاغَلُ بِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ فَلَا يَحْصُلُ الْمَطْلُوبُ؛ لِأَنَّهُ يُفْهِمُ أَنَّهُ لَوْ تَشَاغَلَ بِذَلِكَ مَعَ تَشَاغُلِهِ بِغَيْرِهِ جَازَ وَإِنْ أَرَادَ مُطْلَقَ التَّشَاغُلِ فَهُوَ مَحَلُّ النَّظَرِ، وَفِي وَصْفِهِ الْقَوْلَ الْمَذْكُورَ بِالْبُطْلَانِ مَعَ مَا تَقَدَّمَ نَظَرٌ أَيْضًا، فَقَدْ نُسِبَ لِوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَهُوَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِالتَّوْرَاةِ، وَنُسِبَ أَيْضًا لِابْنِ عَبَّاسٍ تَرْجُمَانِ الْقُرْآنِ، وَكَانَ يَنْبَغِي لَهُ تَرْكَ الدَّفْعِ بِالصَّدْرِ وَالتَّشَاغُلِ بِرَدِّ أَدِلَّةِ الْمُخَالِفِ الَّتِي حَكَيْتُهَا، وَفِي اسْتِدْلَالِهِ عَلَى عَدَمِ الْجَوَازِ الَّذِي ادَّعَى الْإِجْمَاعُ فِيهِ بِقِصَّةِ عُمَرَ نَظَرٌ أَيْضًا سَأَذْكُرُهُ بَعْدَ تَخْرِيجِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَاللَّفْظُ لَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: نَسَخَ عُمَرُ كِتَابًا مِنَ التَّوْرَاةِ بِالْعَرَبِيَّةِ فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلَ يَقْرَأُ وَوَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَغَيَّرُ.

فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: وَيْحَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أَلَا تَرَى وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوكُمْ وَقَدْ ضَلُّوا، وَإِنَّكُمْ إِمَّا أَنْ تُكَذِّبُوا بِحَقٍّ أَوْ تُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ، وَاللَّهِ لَوْ كَانَ مُوسَى بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مَا حَلَّ لَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي وَفِي سَنَدِهِ جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَلِأَحْمَدُ أَيْضًا وَأَبِي يَعْلَى مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ عُمَرَ أَتَى بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَرَأَهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَغَضِبَ فَذَكَرَ نَحْوَهُ دُونَ قَوْلِ الْأَنْصَارِيِّ وَفِيهِ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي وَفِي سَنَدِهِ مُجَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ وَهُوَ لَيِّنٌ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ فِيهِ مَجْهُولٌ وَمُخْتَلَفٌ فِيهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: جَاءَ عُمَرُ بِجَوَامِعَ مِنَ التَّوْرَاةِ فَذَكَرَ بِنَحْوِهِ، وَسَمَّى الْأَنْصَارِيَّ الَّذِي خَاطَبَ عُمَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ الَّذِي رَأَى الْأَذَانَ، وَفِيهِ: لَوْ كَانَ مُوسَى بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ ثُمَّ اتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُوني لَضَلَلْتُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: جَاءَ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي مَرَرْتُ بِأَخٍ لِي مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ فَكَتَبَ لِي جَوَامِعَ مِنَ التَّوْرَاةِ أَلَا أَعْرِضُهَا عَلَيْكَ؟ قَالَ: فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَصْبَحَ مُوسَى فِيكُمْ ثُمَّ اتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ، وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى مِنْ طَرِيقِ

خَالِدِ بْنِ عُرْفُطَةَ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عُمَرَ فَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ فَضَرَبَهُ بِعَصًا مَعَهُ، فَقَالَ: مَا لِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: أَنْتَ الَّذِي نَسَخْتَ كِتَابَ دَانْيَالَ؟ قَالَ: مُرْنِي بِأَمْرِكَ، قَالَ: انْطَلِقْ فَامْحُهُ فَلَئِنْ بَلَغَنِي أَنَّكَ قَرَأْتَهُ أَوْ أَقْرَأْتَهُ لَأُنْهِكَنَّكَ عُقُوبَةً، ثُمَّ قَالَ: انْطَلَقْتُ فَانْتَسَخْتُ كِتَابًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ثُمَّ جِئْتُ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا هَذَا؟ قُلْتُ: كِتَابٌ انْتَسَخْتُهُ لِنَزْدَادَ بِهِ عِلْمًا إِلَى عِلْمِنَا فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ، فَذَكَرَ قِصَّةً فِيهَا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِمَهُ وَاخْتُصِرَ لِيَ الْكَلَامُ اخْتِصَارًا، وَلَقَدْ أَتَيْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً فَلَا تَتَهَوَّكُوا، وَفِي سَنَدِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ الْوَاسِطِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَهَذِهِ جَمِيعُ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَهِيَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَا يُحْتَجُّ بِهِ لَكِنَّ مَجْمُوعَهَا يَقْتَضِي أَنَّ لَهَا أَصْلًا، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ كَرَاهِيَةَ ذَلِكَ لِلتَّنْزِيهِ لَا لِلتَّحْرِيمِ، وَالْأَوْلَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ مَنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ وَيَصِرْ مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْإِيمَانِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِخِلَافِ الرَّاسِخِ فَيَجُوزُ لَهُ وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ إِلَى الرَّدِّ عَلَى الْمُخَالِفِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ نَقْلُ الْأَئِمَّةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا مِنَ التَّوْرَاةِ وَإِلْزَامُهُمُ الْيَهُودَ

ص: 525

بِالتَّصْدِيقِ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بِمَا يَسْتَخْرِجُونَهُ مِنْ كِتَابِهِمْ، وَلَوْلَا اعْتِقَادُهُمْ جَوَازَ النَّظَرِ فِيهِ لَمَا فَعَلُوهُ وَتَوَارَدُوا عَلَيْهِ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ لِلتَّحْرِيمِ بِمَا وَرَدَ مِنَ الْغَضَبِ وَدَعْوَاهُ

أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً مَا غَضِبَ مِنْهُ فَهُوَ مُعْتَرَضٌ بِأَنَّهُ قَدْ يَغْضَبُ مِنْ فِعْلِ الْمَكْرُوهِ وَمِنْ فِعْلِ مَا هُوَ خِلَافُ الْأَوْلَى إِذَا صَدَرَ مِمَّنْ لَا يَلِيقُ مِنْهُ ذَلِكَ، كَغَضَبِهِ مِنْ تَطْوِيلِ مُعَاذٍ صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالْقِرَاءَةِ، وَقَدْ يَغْضَبُ مِمَّنْ يَقَعُ مِنْهُ تَقْصِيرٌ فِي فَهْمِ الْأَمْرِ الْوَاضِحِ مِثْلَ الَّذِي سَأَلَ عَنْ لُقَطَةِ الْإِبِلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ الْغَضَبُ فِيُ الْمَوْعِظَةِ، وَمَضَى فِي كِتَابِ الْأَدَبِ مَا يَجُوزُ مِنَ الْغَضَبِ.

قَوْلُهُ: (يَتَأَوَّلُونَهُ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَطَائِفَةٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} التَّأْوِيلُ التَّفْسِيرُ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا آخَرُونَ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْهَرَوِيُّ: التَّأْوِيلُ رَدُّ أَحَدِ الْمُحْتَمَلَيْنِ إِلَى مَا يُطَابِقُ الظَّاهِرَ، وَالتَّفْسِيرُ كَشْفُ الْمُرَادِ عَنِ اللَّفْظِ الْمُشْكِلِ وَحَكَى صَاحِبُ النِّهَايَةِ أَنَّ التَّأْوِيلَ نَقْلُ ظَاهِرِ اللَّفْظِ عَنْ وَضْعِهِ الْأَصْلِيِّ إِلَى مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ لَوْلَاهُ مَا تُرِكَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، وَقِيلَ: التَّأْوِيلُ إِبْدَاءُ احْتِمَالِ لَفْظٍ مُعْتَضِدٍ بِدَلِيلٍ خَارِجٍ عَنْهُ، وَمَثَّلَ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{لا رَيْبَ فِيهِ} قَالَ: مَنْ قَالَ: لَا شَكَّ فِيهِ فَهُوَ التَّفْسِيرُ، وَمَنْ قَالَ: لِأَنَّهُ حَقٌّ فِي نَفْسِهِ لَا يَقْبَلُ الشَّكَّ فَهُوَ التَّأْوِيلُ، وَمُرَادُ الْبُخَارِيِّ بِقَوْلِهِ: يَتَأَوَّلُونَهُ أَنَّهُمْ يُحَرِّفُونَ الْمُرَادَ بِضَرْبٍ مِنَ التَّأْوِيلِ كَمَا لَوْ كَانَتِ الْكَلِمَةُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ تَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ قَرِيبٌ وَبَعِيدٌ وَكَانَ الْمُرَادُ الْقَرِيبُ فَإِنَّهُمْ يَحْمِلُونَهَا عَلَى الْبَعِيدِ وَنَحْوَ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (دِرَاسَتُهُمْ: تِلَاوَتُهُمْ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} قَالَ: حَافِظَةٌ، قِيلَ: النُّكْتَةُ فِي إِفْرَادِ الْأُذُنِ الْإِشَارَةُ بِقِلَّةِ مَنْ يَعِي مِنَ النَّاسِ، وَوَرَدَ فِي خَبَرٍ ضَعِيفٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأُذُنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ خَاصٌّ وَهِيَ أُذُنُ عَلِيٍّ، أَخْرَجَهُ الثَّعْلَبِيُّ مِنْ مُرْسَلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَفِي سَنَدِهِ أَبُو حَمْزَةَ الثُّمَالِيُّ بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ، وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَالطَّبَرِيُّ مِنْ مُرْسَلِ مَكْحُولٍ نَحْوَهُ.

قَوْلُهُ: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ} يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ، وَمَنْ بَلَغَ هَذَا الْقُرْآنُ فَهُوَ لَهُ نَذِيرٌ وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: قَوْلُهُ: وَمَنْ بَلَغَ أَيْ بَلَغَهُ فَحَذَفَ الْهَاءَ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَمَنْ بَلَغَ الْحُلُمَ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دَاوُدَ الْخُرَيْبِيِّ بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ ثُمَّ رَاءٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ مُصَغَّرٌ قَالَ مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَشَدُّ عَلَى أَصْحَابِ جَهْمٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ:{لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} فَمَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ فَكَأَنَّمَا سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ أَبِي) هُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ طَرْخَانَ التَّيْمِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ) كَذَا وَقَعَ بِالْعَنْعَنَةِ وَفِي السَّنَدِ الَّذِي بَعْدَهُ التَّصْرِيحُ بِالتَّحْدِيثِ مِنْ قَتَادَةَ وَأَبِي رَافِعٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَكَذَا بِالسَّمَاعِ لِأَبِي رَافِعٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ.

قَوْلُهُ: (لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ لَمَّا خَلَقَ.

قَوْلُهُ: (غَلَبَتْ أَوْ قَالَ سَبَقَتْ) كَذَا بِالشَّكِّ، وَفِي الَّتِي بَعْدَهَا بِالْجَزْمِ سَبَقَتْ.

قَوْلُهُ: (فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: عِنْدَهُ فِي بَابِ {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} وَعَلَى قَوْلِهِ: فَوْقَ الْعَرْشِ فِي بَابِ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ أَيْضًا وَالْغَرَضُ مِنْهُ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ فَوْقَ الْعَرْشِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي غَالِبٍ) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ حَدَّثَنَا وَهُوَ قُومَسِيٌّ نَزَلَ بَغْدَادَ، وَيُقَالُ لَهُ الطَّيَالِسِيُّ، وَكَانَ حَافِظًا مِنْ أَقْرَانِ الْبُخَارِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي بَابِ الْأَخْذِ بِالْيَدِ مِنْ كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ وَقَدْ نَزَلَ الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ دَرَجَةً بِالنِّسْبَةِ لِحَدِيثِ مُعْتَمِرٍ فَإِنَّهُ أَخْرَجَ عَنْهُ الْكَثِيرَ بِوَاسِطَةِ وَاحِدٍ فَعِنْدَهُ فِي الْعِلْمِ وَالْجِهَادِ وَالدَّعَوَاتِ وَالْأَشْرِبَةِ وَالصُّلْحِ وَاللِّبَاسِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ أَخْرَجَهَا مُسَدَّدٌ عَنْ مُعْتَمِرٍ، وَدَرَجَتَيْنِ بِالنِّسْبَةِ لِحَدِيثِ قَتَادَةَ فَإِنَّهُ عِنْدَهُ الْكَثِيرُ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ عَنْهُ بِوَاسِطَةِ وَاحِدٍ عَنْ شُعْبَةَ، وَقَدْ سَمِعَ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ، وَالْأَنْصَارِيُّ سَمِعَ مِنْ

ص: 526

سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، وَلَكِنْ لَمْ يُخَرِّجِ الْبُخَارِيُّ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ فِي الْجَامِعِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ شَيْخُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي غَالِبٍ بَصْرِيٌّ يُقَالُ لَهُ ابْنُ أَبِي سَمِينَةَ بِمُهْمَلَةٍ وَنُونٍ وَزْنُ عَظِيمَةَ مِنَ الطَّبَقَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ أَخْرَجَ عَنْهُ فِي التَّارِيخِ بِلَا وَاسِطَةٍ وَلَمْ أَرَ عَنْهُ فِي الْجَامِعِ شَيْئًا إِلَّا هَذَا الْمَوْضِعَ، وَقَدْ سَمِعَ مِنْهُ مَنْ حَدَّثَ عَنِ الْبُخَارِيِّ مِثْلُ صَالِحِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْحَافِظِ الْمُلَقَّبِ جَزَرَةَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالزَّايِ وَمُوسَى بْنِ هَارُونَ وَغَيْرِهِمَا.

‌56 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} ، {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}

وَيُقَالُ لِلْمُصَوِّرِينَ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ. {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: بَيَّنَ اللَّهُ الْخَلْقَ مِنْ الْأَمْرِ بقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} وَسَمَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْإِيمَانَ عَمَلًا، قَالَ أَبُو ذَرٍّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: إِيمَانٌ بِاللَّهِ، وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ، وَقَالَ:{جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وَقَالَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مُرْنَا بِجُمَلٍ مِنْ الْأَمْرِ إِنْ عَمِلْنَا بِهَا دَخَلْنَا الْجَنَّةَ، فَأَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَالشَّهَادَةِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، فَجَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ عَمَلًا

7555 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ وَالْقَاسِمِ التَّمِيمِيِّ عَنْ زَهْدَمٍ قَالَ: كَانَ بَيْنَ هَذَا الْحَيِّ مِنْ جُرْمٍ وَبَيْنَ الْأَشْعَرِيِّينَ وُدٌّ وَإِخَاءٌ، فَكُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فَقُرِّبَ إِلَيْهِ الطَّعَامُ فِيهِ لَحْمُ دَجَاجٍ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ اللَّهِ كَأَنَّهُ مِنْ الْمَوَالِي فَدَعَاهُ إِلَيْهِ فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُهُ يَأْكُلُ شَيْئًا فَقَذِرْتُهُ فَحَلَفْتُ لَا آكُلُهُ، فَقَالَ: هَلُمَّ فَلْأُحَدِّثْكَ عَنْ ذَاكَ، إِنِّي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي نَفَرٍ مِنْ الْأَشْعَرِيِّينَ نَسْتَحْمِلُهُ، قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَحْمِلُكُمْ وَمَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ، فَأُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِنَهْبِ إِبِلٍ فَسَأَلَ عَنَّا فَقَالَ: أَيْنَ النَّفَرُ الْأَشْعَرِيُّونَ؟ فَأَمَرَ لَنَا بِخَمْسِ ذَوْدٍ غُرِّ الذُّرَى ثُمَّ انْطَلَقْنَا، قُلْنَا: مَا صَنَعْنَا؟ حَلَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَحْمِلَنَا وَمَا عِنْدَهُ مَا يَحْمِلُنَا ثُمَّ حَمَلَنَا، تَغَفَّلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمِينَهُ، وَاللَّهِ لَا نُفْلِحُ أَبَدًا فَرَجَعْنَا إِلَيْهِ فَقُلْنَا لَهُ، فَقَالَ: لَسْتُ أَنَا أَحْمِلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَمَلَكُمْ، وَإِنِّي وَاللَّهِ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ وَتَحَلَّلْتُهَا.

7556 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ حَدَّثَنَا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا أَبُو جَمْرَةَ الضُّبَعِيُّ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ مُضَرَ وَإِنَّا لَا نَصِلُ إِلَيْكَ إِلاَّ فِي أَشْهُرٍ حُرُمٍ فَمُرْنَا بِجُمَلٍ مِنْ الأَمْرِ إِنْ عَمِلْنَا بِهِ دَخَلْنَا الْجَنَّةَ وَنَدْعُو إِلَيْهَا مَنْ وَرَاءَنَا قَالَ آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ آمُرُكُمْ بِالإِيمَانِ بِاللَّهِ وَهَلْ تَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ بِاللَّهِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَإِقَامُ

ص: 527

الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَتُعْطُوا مِنْ الْمَغْنَمِ الْخُمُسَ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ لَا تَشْرَبُوا فِي الدُّبَّاءِ وَالنَّقِيرِ وَالظُّرُوفِ الْمُزَفَّتَةِ وَالْحَنْتَمَةِ

7557 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُقَالُ لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ؟

7558 -

حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن نافع عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم أحيوا ما خلقتم"

7559 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ عَنْ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ قَالَ اللَّهُ عز وجل وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً أَوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً أَوْ شَعِيرَةً.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} ذَكَرَ ابْنُ بَطَّالٍ عَنِ الْمُهَلَّبِ أَنَّ غَرَضَ الْبُخَارِيِّ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِثْبَاتُ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَأَقْوَالَهُمْ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَفَرَّقَ بَيْنَ الْأَمْرِ بِقَوْلِهِ: كُنْ، وَبَيْنَ الْخَلْقِ بِقَوْلِهِ:{وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} فَجَعَلَ الْأَمْرَ غَيْرَ الْخَلْقِ وَتَسْخِيرُهَا الَّذِي يَدُلُّ عَلَى خَلْقِهَا إِنَّمَا هُوَ عَنْ أَمْرِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ نُطْقَ الْإِنْسَانِ بِالْإِيمَانِ عَمَلٌ مِنْ أَعْمَالِهِ كَمَا ذَكَرَ فِي قِصَّةِ عَبْدِ الْقَيْسِ حَيْثُ سَأَلُوا عَنْ عَمَلٍ يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ فَأَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَفَسَّرَهُ بِالشَّهَادَةِ وَمَا ذَكَرَ مَعَهَا، وَفِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْمَذْكُورِ: وَإِنَّمَا اللَّهُ الَّذِي حَمَلَكُمْ الرَّدُّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَخْلُقُونَ أَعْمَالَهُمْ.

قَوْلُهُ: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} كَذَا لَهُمْ وَلَعَلَّهُ سَقَطَ مِنْهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: التَّقْدِيرُ خَلَقْنَا كُلَّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ خَالِقَ كُلَّ شَيْءٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى، وَأَمَّا قَوْلُهُ:{خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} فَهُوَ ظَاهِرٌ فِي إِثْبَاتِ نِسْبَةِ الْعَمَلِ إِلَى الْعِبَادِ، فَقَدْ يُشْكِلُ عَلَى الْأَوَّلِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الْعَمَلَ هُنَا غَيْرُ الْخَلْقِ وَهُوَ الْكَسْبُ الَّذِي يَكُونُ مُسْنَدًا إِلَى الْعَبْدِ حَيْثُ أَثْبَتَ لَهُ فِيهِ صُنْعًا، وَيُسْنَدُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ إِنَّ وُجُودَهُ إِنَّمَا هُوَ بِتَأْثِيرِ قُدْرَتِهِ وَلَهُ وجِهَتَانِ، جِهَةٌ تَنْفِي الْقَدَرَ، وَجِهَةٌ تَنْفِي الْجَبْرَ، فَهُوَ مُسْنَدٌ إِلَى اللَّهِ حَقِيقَةً وَإِلَى الْعَبْدِ عَادَةً، وَهِيَ صِفَةٌ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْفِعْلُ وَالتَّرْكُ، فَكُلُّ مَا أُسْنِدَ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بِالنَّظَرِ إِلَى تَأْثِيرِ الْقُدْرَةِ وَيُقَالُ لَهُ الْخَلْقُ، وَمَا أُسْنِدَ إِلَى الْعَبْدِ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى وَيُقَالُ لَهُ الْكَسْبُ، وَعَلَيْهِ يَقَعُ الْمَدْحُ وَالذَّمُّ، كَمَا يُذَمُّ الْمُشَوَّهُ الْوَجْهِ وَيُمْدَحُ الْجَمِيلُ الصُّورَةِ، وَأَمَّا الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ فَهُوَ عَلَامَةٌ، وَالْعَبْدُ إِنَّمَا هُوَ مِلْكُ اللَّهِ تَعَالَى يَفْعَلُ فِيهِ مَا يَشَاءُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ هَذَا بِأَتَمَّ مِنْهُ فِي بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ سَلَكَهَا فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِإِعْرَابِ مَا هَلْ هِيَ مَصْدَرِيَّةٌ أَوْ مَوْصُولَةٌ، وَقَدْ قَالَ

الطَّبَرِيُّ: فِيهَا وَجْهَانِ فَمَنْ قَالَ مَصْدَرِيَّةٌ قَالَ الْمَعْنَى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ عَمَلَكُمْ، وَمَنْ قَالَ مَوْصُولَةٌ قَالَ: خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ الَّذِي تَعْمَلُونَ، أَيْ تَعْمَلُونَ مِنْهُ الْأَصْنَامَ وَهُوَ الْخَشَبُ وَالنُّحَاسُ وَغَيْرُهُمَا، ثُمَّ أَسْنَدَ عَنْ قَتَادَةَ مَا يُرَجِّحُ الْقَوْلَ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:

ص: 528

{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} أَيْ بِأَيْدِيكُمْ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ أَيْضًا قَالَ:{أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} أَيْ مِنَ الْأَصْنَامِ، {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} أَيْ بِأَيْدِيكُمْ، وَتَمَسَّكَ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذَا التَّأْوِيلِ، قَالَ السُّهَيْلِيُّ فِي نَتَائِجِ الْفِكْرِ لَهُ: اتَّفَقَ الْعُقَلَاءُ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْجَوَاهِرِ وَالْأَجْسَامِ، فَلَا تَقُولُ عَمِلْتُ حَبْلًا وَلَا صَنَعْتُ جَمَلًا وَلَا شَجَرًا، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَنْ قَالَ: أَعْجَبَنِي مَا عَمِلْتَ، فَمَعْنَاهُ الْحَدَثُ فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ فِي تَأْوِيلِ:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} إِلَّا أَنَّهَا مَصْدَرِيَّةٌ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَلَا يَصِحُّ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ أنَّهَا مَوْصُولَةٌ فَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهَا وَاقِعَةٌ عَلَى الْأَصْنَامِ الَّتِي كَانُوا يَنْحِتُونَهَا فَقَالُوا: التَّقْدِيرُ خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ الْأَصْنَامَ، وَزَعَمُوا أَنَّ نَظْمَ الْكَلَامِ يَقْتَضِي مَا قَالُوهُ لِتَقَدُّمِ قَوْلِهِ مَا تَنْحِتُونَ؛ لِأَنَّهَا وَاقِعَةٌ عَلَى الْحِجَارَةِ الْمَنْحُوتَةِ فَكَذَلِكَ مَا الثَّانِيَةُ، وَالتَّقْدِيرُ عِنْدَهُمْ: أَتَعْبُدُونَ حِجَارَةً تَنْحِتُونَهَا وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ تِلْكَ الْحِجَارَةَ الَّتِي تَعْمَلُونَهَا، هَذِهِ شُبْهَتُهُمْ وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ النَّحْوِ إِذْ مَا لَا تَكُونُ مَعَ الْفِعْلِ الْخَاصِّ إِلَّا مَصْدَرِيَّةً، فَعَلَى هَذَا فَالْآيَةُ

تَرُدُّ مَذْهَبَهُمْ وَتُفْسِدُ قَوْلَهُمْ وَالنَّظْمُ عَلَى قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَبْدَعُ، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ تَقُولُ: عَمِلْتُ الصَّحْفَةَ وَصَنَعْتُ الْجَفْنَةَ، وَكَذَا يَصِحُّ عَمِلْتُ الصَّنَمَ قُلْنَا لَا يَتَعَلَّقُ ذَلِكَ إِلَّا بِالصُّورَةِ الَّتِي هِيَ التَّأْلِيفُ وَالتَّرْكِيبُ، وَهِيَ الْفِعْلُ الَّذِي هُوَ الْإِحْدَاثُ دُونَ الْجَوَاهِرِ بِالِاتِّفَاقِ، وَلِأَنَّ الْآيَةَ وَرَدَتْ فِي بَيَانِ اسْتِحْقَاقِ الْخَالِقِ الْعِبَادَةَ لِانْفِرَادِهِ بِالْخَلْقِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى مَنْ يَعْبُدُ مَا لَا يَخْلُقُ وَهُمْ يُخْلَقُونَ، فَقَالَ: أَتَعْبُدُونَ مَنْ لَا يَخْلُقُ وَتَدَعُونَ عِبَادَةَ مَنْ خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ أَعْمَالَكُمُ الَّتِي تَعْمَلُونَ، وَلَوْ كَانُوا كَمَا زَعَمُوا لَمَا قَامَتِ الْحُجَّةُ مِنْ نَفْسِ هَذَا الْكَلَامِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَعَلَهُمْ خَالِقِينَ لِأَعْمَالِهِمْ وَهُوَ خَالِقٌ لِلْأَجْنَاسِ لَشَرَكَهُمْ مَعَهُمْ فِي الْخَلْقِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ إِفْكِهِمْ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الِاعْتِقَادِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} فَدَخَلَ فِيهِ الْأَعْيَانُ وَالْأَفْعَالُ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَقَالَ تَعَالَى:{أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} فَنَفَى أَنْ يَكُونَ خَالِقُ غَيْرَهُ، وَنَفَى أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ سِوَاهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، فَلَوْ كَانَتِ الْأَفْعَالُ غَيْرَ مَخْلُوقَةٍ لَهُ لَكَانَ خَالِقَ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ لَا خَالِقَ كُلَّ شَيْءٍ، وَهُوَ بِخِلَافِ الْآيَةِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْأَفْعَالَ أَكْثَرُ مِنَ الْأَعْيَانِ فَلَوْ كَانَ اللَّهُ خَالِقَ الْأَعْيَانَ، وَالنَّاسُ خَالِقَ الْأَفْعَالَ لَكَانَ مَخْلُوقَاتُ النَّاسِ أَكْثَرَ مِنْ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ.

وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} وَقَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي إِعْرَابِ الْقُرْآنِ لَهُ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا تَعْمَلُونَ} مَوْصُولَةٌ فِرَارًا مِنْ أَنْ يُقِرُّوا بِعُمُومِ الْخَلْقِ لِلَّهِ تَعَالَى، يُرِيدُونَ أَنَّهُ خَلَقَ الْأَشْيَاءَ الَّتِي تُنْحَتُ مِنْهَا الْأَصْنَامُ، وَأَمَّا الْأَعْمَالُ وَالْحَرَكَاتُ فَإِنَّهَا غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي خَلْقِ اللَّهِ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِذَلِكَ تَنْزِيهَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ خَلْقِ الشَّرِّ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ أَهْلُ السُّنَّةِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ إِبْلِيسَ وَهُوَ الشَّرُّ كُلُّهُ، وَقَالَ تَعَالَى:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} فَأَثْبَتَ أَنَّهُ خَلَقَ الشَّرَّ، وَأَطْبَقَ الْقُرَّاءُ حَتَّى أَهْلُ الشُّذُوذِ عَلَى إِضَافَةِ شَرِّ إِلَى مَا إِلَّا عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ رَأْسَ الِاعْتِزَالِ فَقَرَأَهَا بِتَنْوِينِ شَرٍّ لِيُصَحِّحَ مَذْهَبَهُ، وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِإِجْمَاعِ مَنْ قَبْلِهِ عَلَى قِرَاءَتِهَا بِالْإِضَافَةِ، قَالَ: وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً، وَالْمَعْنَى خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ عَمَلَكُمْ انْتَهَى.

وَقَوَّى صَاحِبُ الْكَشَّافِ مَذْهَبَهُ بِأَنَّ قَوْلَهُ: وَمَا تَعْمَلُونَ تَرْجَمَةٌ عَنْ قَوْلِهِ قَبْلَهَا: مَا تَنْحِتُونَ وَمَا فِي قَوْلِهِ: {مَا تَنْحِتُونَ} مَوْصُولَةٌ اتِّفَاقًا، فَلَا يَعْدِلُ بِـ مَا الَّتِي بَعْدَهَا عَنْ أُخْتِهَا، وَأَطَالَ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ، وَمِنْ جُمْلَتِهِ فَإِنْ قُلْتُ مَا أَنْكَرْتُ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً وَالْمَعْنَى: خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ عَمَلَكُمْ كَمَا تَقُولُ الْمُجْبِرَةُ يَعْنِي أَهْلَ السُّنَّةِ، قُلْتُ: أَقْرَبُ مَا يَبْطُلُ بِهِ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ يَأْبَاهُ إِبَاءً جَلِيًّا؛ لِأَنَّ اللَّهَ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الْعَابِدَ وَالْمَعْبُودَ جَمِيعًا خَلْقُ اللَّهِ فَكَيْفَ يُعْبَدُ الْمَخْلُوقُ مَعَ أَنَّ الْعَابِدَ هُوَ الَّذِي عَمِلَ صُورَةَ الْمَعْبُودِ وَلَوْلَاهُ لَمَا قَدَرَ أَنْ يُشَكِّلَ نَفْسَهُ، فَلَوْ كَانَ التَّقْدِيرُ خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ

ص: 529

عَمَلَكُمْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قُلْتُ هِيَ مَوْصُول ةٌ لَكِنَّ التَّقْدِيرَ: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَهُ مِنْ أَعْمَالِكُمْ قُلْتُ: وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا حُجَّةٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ خَلِيلٍ السَّكُونِيُّ فَقَالَ: فِي كَلَامِهِ صَرْفٌ لِلْآيَةِ عَنْ دَلَالَتِهَا الْحَقِيقِيَّةِ إِلَى ضَرْبٍ مِنَ التَّأْوِيلِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ بَلْ لِنُصْرَةِ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْعِبَادَ يَخْلُقُونَ أَكْسَابَهُمْ، فَإِذَا حَمَلَهَا عَلَى الْأَصْنَامِ لَمْ تَتَنَاوَلِ الْحَرَكَاتِ، وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَيَقُولُونَ: الْقُرْآنُ نَزَلَ بِلِسَانِ الْعَرَبِ وَأَئِمَّةُ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ الْوَارِدَ بَعْدَ مَا يُتَأَوَّلُ بِالْمَصْدَرِ، نَحْوَ: أَعْجَبَنِي مَا صَنَعْتَ: أَيْ صُنْعُكَ، وَعَلَى هَذَا فَمَعْنَى الْآيَةِ خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ أَعْمَالَكُمْ، وَالْأَعْمَالُ لَيْسَتْ هِيَ جَوَاهِرُ الْأَصْنَامِ اتِّفَاقًا، فَمَعْنَى الْآيَةِ عِنْدَهُمْ إِذَا كَانَ اللَّهُ

خَالِقَ أَعْمَالَكُمُ الَّتِي تَتَوَهَّمُ الْقَدَرِيَّةُ أَنَّهُمْ خَالِقُونَ لَهَا فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ خَالِقًا لِمَا لَمْ يَدَّعِ فِيهِ أَحَدٌ الْخَلْقِيَّةَ وَهِيَ الْأَصْنَامُ، قَالَ: وَمَدَارُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَنَّ الْحَقِيقَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْمَجَازِ وَلَا أَثَرَ لِلْمَرْجُوحِ مَعَ الرَّاجِحِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْخَشَبَ الَّتِي مِنْهَا الْأَصْنَامُ وَالصُّوَرَ الَّتِي لِلْأَصْنَامِ لَيْسَتْ بِعَمَلٍ لَنَا وَإِنَّمَا عَمَلُنَا مَا أَقْدَرَنَا اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَعَانِي الْمَكْسُوبَةِ الَّتِي عَلَيْهَا ثَوَابُ الْعِبَادِ وَعِقَابُهُمْ، فَإِذَا قُلْتُ: عَمِلَ النَّجَّارُ السَّرِيرَ، فَالْمَعْنَى عَمِلَ حَرَكَاتٍ فِي مَحَلٍّ أَظْهَرَ اللَّهُ لَنَا عِنْدَهَا التَّشَكُّلَ فِي السَّرِيرِ، فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَهِيَ مَعْمُولُكُمْ، وَأَمَّا مَا يُطَالِبُ بِهِ الْمُعْتَزِلِيُّ مِنَ الرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْآيَةِ فَهُوَ مِنْ أَبْيَنِ شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى إِذَا أَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَنَا وَخَلَقَ أَعْمَالَنَا الَّتِي يَظْهَرُ بِهَا التَّأْثِيرُ بَيْنَ أَشْكَالِ الْأَصْنَامِ وَغَيْرِهَا فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ خَالِقًا لِلْمُتَأَثِّرِ الَّذِي لَمْ يَدَّعِ فِيهِ أَحَدٌ لَا سُنِّيٌّ وَلَا مُعْتَزِلِيٌّ، وَدَلَالَةُ الْمُوَافَقَةِ أَقْوَى فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَأَبْلَغُ مِنْ غَيْرِهَا وَقَدْ وَافَقَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} فَإِنَّهُ أَدَلُّ عَلَى نَفْيِ الضَّرْبِ مِنْ أَنْ لَوْ قَالَ: وَلَا تَضْرِبْهُمَا، وَقَالَ: إِنَّهَا مِنْ نُكَتِ عِلْمِ الْبَيَانِ ثُمَّ غَفَلَ عَنْهَا اتِّبَاعًا لِهَوَاهُ، وَأَمَّا ادِّعَاؤُهُ فَكَّ النَّظْمِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ بُطْلَانُ الْحُجَّةِ؛ لِأَنَّ فَكَّهُ لِمَا هُوَ أَبْلَغُ سَائِغٌ بَلْ أَكْمَلُ لِمُرَاعَاةِ الْبَلَاغَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَلِمَ لَا تَكُونُ الْآيَةُ

مُخْبِرَةً عَنْ أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ لِلْعَبْدِ فَهُوَ خَلْقٌ لِلرَّبِّ فَيَنْدَرِجُ فِيهِ الرَّدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَعَ مُرَاعَاةِ النَّظْمِ، وَمَنْ قَيَّدَ الْآيَةَ بِعَمَلِ الْعَبْدِ دُونَ عَمَلٍ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَأَجَابَ الْبَيْضَاوِيُّ بِأَنَّ دَعْوَى أَنَّهَا مَصْدَرِيَّةٌ أَبْلَغُ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُمْ إِذَا كَانَ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فَالْمُتَوَقِّفُ عَلَى فِعْلِهِمْ أَوْلَى بِذَلِكَ، وَيَتَرَجَّحُ أَيْضًا بِأَنَّ غَيْرَهُ لَا يَخْلُو مِنْ حَذْفٍ أَوْ مَجَازٍ وَهُوَ سَالِمٌ مِنْ ذَلِكَ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَتَكْمِلَةُ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ تَقَرَّرَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْبَيَانِ أَنَّ الْكِنَايَةَ أَوْلَى مِنَ التَّصْرِيحِ فَإِذَا نَفَى الْحُكْمَ الْعَامَّ لِيَنْتَفِيَ الْخَاصُّ كَانَ أَقْوَى فِي الْحُجَّةِ، وَقَدْ سَلَكَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ هَذَا بِعَيْنِهِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} الْآيَةَ وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: يَتَعَيَّنُ حَمْلُ مَا عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوا الْأَصْنَامَ مِنْ حَيْثُ هِيَ حِجَارَةٌ أَوْ خَشَبٌ عَارِيَةٌ عَنِ الصُّورَةِ بَلْ عَبَدُوهَا لِأَشْكَالِهَا وَهِيَ أَثَرُ عَمَلِهِمْ وَلَوْ عَمِلُوا نَفْسَ الْجَوَاهِرِ لَمَا طَابَقَ تَوْبِيخَهُمْ بِأَنَّ الْمَعْبُودَ مِنْ صَنْعَةِ الْعَابِدِ، قَالَ: وَالْمُخَالِفُونَ مُوَافِقُونَ أَنَّ جَوَاهِرَ الْأَصْنَامِ لَيْسَتْ عَمَلًا لَهُمْ فَلَوْ كَانَ كَمَا ادَّعَوْهُ لَاحْتَاجَ إِلَى حَذْفٍ أَيْ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ شَكْلَهُ وَصُورَتَهُ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّقْدِيرِ وَقَدْ جَاءَ التَّصْرِيحُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ بِمَعْنَى الَّذِي تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي بَابِ قَوْلِهِ:{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} عَنْ حُذَيْفَةَ رَفَعَهُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ كُلَّ صَانِعٍ وَصَنْعَتَهُ وَقَالَ غَيْرُهُ: قَوْلُ مَنِ ادَّعَى أَنَّ الْمُرَادَ

بِقَوْلِهِ وَمَا تَعْمَلُونَ نَفْسُ الْعِيدَانِ وَالْمَعَادِنِ الَّتِي تُعْمَلُ مِنْهَا الْأَوْثَانُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ لَا يَقُولُونَ: إِنَّ الْإِنْسَانَ يَعْمَلُ الْعُودَ أَوِ الْحَجَرَ بَلْ يُقَيِّدُونَ ذَلِكَ بِالصَّنْعَةِ، فَيَقُولُونَ: عَمِلَ الْعُودُ صَنَمًا وَالْحَجَرُ وَثَنًا، فَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَخَلَقَ شَكْلَ الصَّنَمِ، وَأَمَّا الَّذِي نَحَتَ أَوْ صَاغَ فَإِنَّمَا هُوَ عَمَلُ النَّحْتِ وَالصِّيَاغَةِ وَقَدْ صَرَّحَتِ الْآيَةُ بِذَلِكَ، وَالَّذِي عَمِلَهُ هُوَ الَّذِي وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي خَلَقَهُ. وَقَالَ التُّونِسِيُّ فِي مُخْتَصَرِ تَفْسِيرِ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ: احْتَجَّ

ص: 530

الْأَصْحَابُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ عَمَلَ الْعَبِيدِ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ عَلَى إِعْرَابِ مَا مَصْدَرِيَّةً، وَأَجَابَ الْمُعْتَزِلَةُ بِأَنَّ إِضَافَةَ الْعِبَادَةِ وَالنَّحْتِ لَهُمْ إِضَافَةُ الْفِعْلِ لِلْفَاعِلِ وَلِأَنَّهُ وَبَّخَهُمْ وَلَوْ لَمْ تَكُنِ الْأَفْعَالُ لِخَلْقِهِمْ لَمَا وَبَّخَهُمْ، قَالُوا: وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا مَصْدَرِيَّةٌ؛ لِأَنَّ الْأَخْفَشَ يَمْنَعُ أَعْجَبَنِي مَا قُمْتَ أَيْ قِيَامَكَ، وَقَالَ: إِنَّهُ خَاصٌّ بِالْمُتَعَدِّي سَلَّمْنَا جَوَازَهُ لَكِنْ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ تَقْدِيرِ مَا مَفْعُولًا لِلنَّحَّاتِينَ وَلِمُوَافَقَةِ مَا يَنْحِتُونَ؛ وَلِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي مَحَلَّ الْعَمَلِ عَمَلًا فَتَقُولُ فِي الْبَابِ: هُوَ عَمَلُ فُلَانٍ؛ وَلِأَنَّ الْقَصْدَ هُوَ تَزْيِيفُ عِبَادَتِهِمْ لَا بَيَانَ أَنَّهُمْ لَا يُوجِدُونَ أَعْمَالَ أَنْفُسِهِمْ.

قَالَ: وَهَذِهِ شُبْهَةٌ قَوِيَّةٌ فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِهَذَا الْمُرَادِ كَذَا قَالَ، وَجَرَى عَلَى عَادَتِهِ فِي إِيرَادِ شُبَهِ الْمُخَالِفِينَ وَتَرْكِ بَذْلِ الْوُسْعِ فِي أَجْوِبَتِهَا، وَقَدْ أَجَابَ الشَّمْسُ الْأَصْبَهَانِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ وَهُوَ مُلَخَّصٌ مِنْ تَفْسِيرِ الْفَخْرِ فَقَالَ: وَمَا تَعْمَلُونَ: أَيْ عَمَلَكُمْ، وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ وَعَلَى أَنَّهَا مُكْتَسَبَةٌ لِلْعِبَادِ حَيْثُ أَثْبَتَ لَهُمْ عَمَلًا فَأَبْطَلَتْ مَذْهَبَ الْقَدَرِيَّةِ وَالْجَبْرِيَّةِ مَعًا وَقَدْ رَجَّحَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ كَوْنَهَا مَصْدَرِيَّةً؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوا الْأَصْنَامَ إِلَّا لِعَمَلِهِمْ لَا لِجُرْمِ الصَّنَمِ وَإِلَّا لَكَانُوا يَعْبُدُونَهَا قَبْلَ الْعَمَلِ فَكَأَنَّهُمْ عَبَدُوا الْعَمَلَ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ عِبَادَةَ الْمَنْحُوتِ الَّذِي لَمْ يَنْفَكَّ عَنِ الْعَمَلِ الْمَخْلُوقِ.

وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ فِي الرَّدِّ عَلَى الرَّافِضِيِّ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا مَوْصُولَةٌ وَلَكِنْ لَا حُجَّةَ فِيهَا لِلْمُعْتَزِلَةِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ} يَدْخُلُ فِيهِ ذَاتُهُمْ وَصِفَاتُهُمْ، وَعَلَى هَذَا إِذَا كَانَ التَّقْدِيرُ: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ الَّذِي تَعْمَلُونَهُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ خَلْقَهُ لَهَا قَبْلَ النَّحْتِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْمُولُ غَيْرَ مَخْلُوقٍ وَهُوَ بَاطِلٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ خَلْقُهُ لَهَا قَبْلَ النَّحْتِ وَبَعْدَهُ وَأَنَّ اللَّهَ خَلَقَهَا بِمَا فِيهَا مِنَ التَّصْوِيرِ وَالنَّحْتِ فَثَبَتَ أَنَّهُ خَالِقُ مَا تَوَلَّدَ عَنْ فِعْلِهِمْ، فَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ أَفْعَالَهُمُ الْقَائِمَةَ بِهِمْ وَخَلَقَ مَا تَوَلَّدَ عَنْهَا وَوَافَقَ عَلَى تَرْجِيحِ أَنَّهَا مَوْصُولَةٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ السِّيَاقَ يَقْتَضِي أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ عِبَادَةَ الْمَنْحُوتِ فَنَاسَبَ أَنْ يُنْكِرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَنْحُوتِ وَأَنَّهُ مَخْلُوقٌ لَهُ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ اللَّهُ خَالِقُ الْعَابِدَ وَالْمَعْبُودَ وَتَقْدِيرُ: خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ أَعْمَالَكُمْ، يَعْنِي إِذَا أُعْرِبَتْ مَصْدَرِيَّةً لَيْسَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي ذَمَّهُمْ عَلَى تَرْكِ عِبَادَتِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدِ ارْتَضَى الشَّيْخُ سَعْدُ الدِّينِ التَّفْتَازَانِيُّ هَذِهِ الطَّرِيقَ وَأَوْضَحَهَا وَنَقَّحَهَا، فَقَالَ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ لَهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَصْلَ الْمَسْأَلَةِ وَأَدِلَّةَ الْفَرِيقَيْنِ وَمِنْهَا اسْتِدْلَالُ أَهْلِ السُّنَّةِ بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} قَالُوا: مَعْنَاهُ وَخَلَقَ عَمَلَكُمْ عَلَى إِعْرَابِ مَا مَصْدَرِيَّةً وَرَجَّحُوا ذَلِكَ لِعَدَمِ احْتِيَاجِهِ إِلَى حَذْفِ الضَّمِيرِ، قَالَ: فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَخَلَقَ مَعْمُولَكُمْ عَلَى إِعْرَابِهَا

مَوْصُولَةً وَيَشْمَلُ أَعْمَالَ الْعِبَادِ؛ لِأَنَّا إِذَا قُلْنَا: إِنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ أَوْ لِلْعَبْدِ لَمْ يُرِدْ بِالْفِعْلِ الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيَّ الَّذِي هُوَ الْإِيجَادُ بَلِ الْحَاصِلُ بِالْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقُ الْإِيجَادِ وَهُوَ مَا يُشَاهِدُهُ مِنَ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ، قَالَ: وَلِلذُّهُولِ عَنْ هَذِهِ النُّكْتَةِ تَوَهَّمَ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالْآيَةِ مَوْقُوفٌ عَلَى كَوْنِ مَا مَصْدَرِيَّةً وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ.

(تَكْمِلَةٌ):

جَوَّزَ مَنْ صَنَّفَ فِي إِعْرَابِ الْقُرْآنِ فِي إِعْرَابِ مَا تَعْمَلُونَ زِيَادَةً عَلَى مَا تَقَدَّمَ، قَالُوا، وَاللَّفْظُ لِلْمُنْتَخَبِ: فِي مَا أَوْجُهٌ أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً مَنْصُوبَةَ الْمَحَلِّ عَطْفًا عَلَى الْكَافِ وَالْمِيمِ فِي خَلَقَكُمْ، الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَيْضًا عَطْفًا عَلَى الْمَذْكُورِ آنِفًا، وَالتَّقْدِيرُ: خَلَقَكُمْ وَالَّذِي تَعْمَلُونَ أَيْ تَعْمَلُونَ مِنْهُ الْأَصْنَامَ يَعْنِي الْخَشَبَ وَالْحِجَارَةَ وَغَيْرَهَا، الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامِيَّةً مَنْصُوبَةَ الْمَحَلِّ بِقَوْلِهِ: تَعْمَلُونَ تَوْبِيخًا لَهُمْ وَتَحْقِيرًا لِعَمَلِهِمْ، الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً وَحُكْمُهَا حُكْمُ الْمَوْصُولَةِ، الْخَامِسُ: أَنْ تَكُونَ نَافِيَةً عَلَى مَعْنَى وَمَا تَعْمَلُونَ ذَلِكَ لَكِنَّ اللَّهَ هُوَ خَلَقَهُ، ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، فَامْتَدَحَ بِأَنَّهُ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَبِأَنَّهُ يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ فَكَمَا لَا يَخْرُجُ عَنْ عِلْمِهِ شَيْءٌ وَكَذَا لَا يَخْرُجُ عَنْ خَلْقِهِ شَيْءٌ، وَقَالَ تَعَالَى:{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} فَأَخْبَرَ أَنَّ قَوْلَهُمْ سِرًّا وَجَهْرًا خَلْقُهُ؛

ص: 531

لِأَنَّهُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ عَلِيمٌ، وَقَالَ تَعَالَى:{خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} وَقَالَ: {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ الْمُحْيِي الْمُمِيتُ وَأَنَّهُ خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ، فَثَبَتَ أَنَّ الْأَفْعَالَ كُلَّهَا خَيْرَهَا وَشَرَّهَا صَادِرَةٌ عَنْ خَلْقِهِ وَإِحْدَاثِهِ إِيَّاهَا، وَقَالَ تَعَالَى:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} وَقَالَ تَعَالَى: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} فَسَلَبَ عَنْهُمْ هَذِهِ الْأَفْعَالَ وَأَثْبَتَهَا

لِنَفْسِهِ لِيَدُلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِيهَا حَتَّى صَارَتْ مَوْجُودَةً بَعْدَ الْعَدَمِ هُوَ خَلْقُهُ، وَأَنَّ الَّذِي يَقَعُ مِنَ النَّاسِ إِنَّمَا هُوَ مُبَاشَرَةُ تِلْكَ الْأَفْعَالِ بِقُدْرَةٍ حَادِثَةٍ أَحْدَثَهَا عَلَى مَا أَرَادَ، فَهِيَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى خَلْقٌ بِمَعْنَى الِاخْتِرَاعِ بِقُدْرَتِهِ الْقَدِيمَةِ، وَمِنَ الْعِبَادِ كَسْبٌ عَلَى مَعْنَى تَعَلُّقِ قُدْرَةٍ حَادِثَةٍ بِمُبَاشَرَتِهِمُ الَّتِي هِيَ كَسْبُهُمْ وَوُقُوعُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ عَلَى وُجُودِهِ بِخِلَافِ فِعْلِ مُكْتَسِبِهَا أَحْيَانًا مِنْ أَعْظَمِ الدَّلَالَةِ عَلَى مُوقِعٍ أَوْقَعَهَا عَلَى مَا أَرَادَ، ثُمَّ سَاقَ حَدِيثَ حُذَيْفَةَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ دُعَاءِ الِافْتِتَاحِ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ: وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، فَمَعْنَاهُ كَمَا قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: وَالشَّرُّ لَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْكَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: أَرْشَدُ إِلَى اسْتِعْمَالِ الْأَدَبِ فِي الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ مَحَاسِنُ الْأُمُورِ دُونَ مَسَاوِيهَا، وَقَدْ وَقَعَ فِي نَفْسِ هَذَا الْحَدِيثِ: وَالْمُهْدَى مَنْ هَدَيْتَ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَهْدِي مَنْ شَاءَ كَمَا وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَقَالَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَاضِي فِي الْأَحْكَامِ الَّذِي فِي أَوَّلِهِ: أَنَّ كُلَّ وَالٍ لَهُ بِطَانَتَانِ وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَعْصِمُ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يَسْتَحِيلُ أَنْ يَصْلُحَ قُدْرَةَ الْعِبَادِ لِلْإِبْرَازِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالِاخْتِرَاعِ وَثُبُوتُهُ لِلَّهِ سبحانه وتعالى قَطْعِيٌّ؛ لِأَنَّ قُدْرَةَ الْإِبْرَازِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ تَتَوَجَّهُ إِلَى تَحْصِيلِ مَا لَيْسَ بِحَاصِلٍ فَحَالَ تَوْجِيهِهَا لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهَا لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَحْصُلَ الْعَدَمُ

شَيْئًا، فَقُدْرَتُهُ ثَابِتَةٌ وَقُدْرَةُ الْمَخْلُوقِينَ عَرَضٌ لَا بَقَاءَ لَهُ فَيَسْتَحِيلُ تَقَدُّمُهَا، وَقَدْ تَوَارَدَتِ النُّقُولُ السَّمْعِيَّةُ وَالْقُرْآنُ وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِانْفِرَادِ الرَّبِّ سبحانه وتعالى بِالِاخْتِرَاعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} ، {فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَحْكُمُ فِي خَلْقِهِ بِمَا يَشَاءُ وَلَا تَتَوَقَّفُ أَحْكَامُهُ فِي ثَوَابِهِمْ وَعِقَابِهِمْ عَلَى أَنْ يَكُونُوا خَالِقِينَ لِأَفْعَالِهِمْ أَنَّهُ نَصَبَ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ عَلَى مَا يَقَعُ مُبَايِنًا لِمَحَالِّ قُدْرَتِهِمْ، وَأَمَّا اكْتِسَابُ الْعِبَادِ فَلَا يَقَعُ إِلَّا فِي مَحَلِّ الْكَسْبِ، وَمِثَالُ ذَلِكَ السَّهْمُ الَّذِي يَرْمِيهِ الْعَبْدُ لَا تَصَرُّفُ لَهُ فِيهِ بِالرَّفْعِ، وَكَذَلِكَ لَا تَصَرُّفُ لَهُ فِيهِ بِالْوَضْعِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ إِرَادَةَ اللَّهِ سبحانه وتعالى تَتَعَلَّقُ بِمَا لَا نِهَايَةَ لَهُ عَلَى وَجْهِ النُّفُوذِ وَعَدَمِ التَّعَذُّرِ، وَإِرَادَةُ الْعَبْدِ لَا تَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مَعَ تَسْمِيَتِهَا إِرَادَةً، وَكَذَلِكَ عِلْمُهُ تَعَالَى لَا نِهَايَةَ لَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، وَعِلْمُ الْعَبْدِ لَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مَعَ تَسْمِيَتِهِ عِلْمًا.

فَصْلٌ: احْتَجَّ بَعْضُ الْمُبْتَدِعَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ؛ لِأَنَّهُ شَيْءٌ، وَتَعَقَّبَ ذَلِكَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَهُوَ صِفَتُهُ فَكَمَا أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَدْخُلْ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: كُلِّ شَيْءٍ اتِّفَاقًا فَكَذَلِكَ صِفَاتُهُ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} فَكَمَا لَمْ تَدْخُلْ نَفْسُ اللَّهِ فِي هَذَا الْعُمُومِ اتِّفَاقًا فَكَذَا لَا يَدْخُلُ الْقُرْآنُ.

قَوْلُهُ: (وَيُقَالُ لِلْمُصَوِّرِينَ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَهُوَ الْمَحْفُوظُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَيَقُولُ أَيِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَوِ الْمَلَكُ بِأَمْرِهِ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ لَفْظُ الْحَدِيثِ الْمَوْصُولِ فِي الْبَابِ وَيُقَالُ لَهُمْ فَأَظْهَرَ الْبُخَارِيُّ مَرْجِعَ الضَّمِيرِ انْتَهَى. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى نِسْبَةِ الْخَلْقِ إِلَيْهِمْ فِي آخِرِ الْبَابِ.

قَوْلُهُ: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} - إِلَى - {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} سَاقَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ الْآيَةَ كُلَّهَا، وَالْمُنَاسِبُ مِنْهَا لِمَا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} فَيَصِحُّ بِهِ قَوْلُ اللَّهِ: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: بَيَّنَ اللَّهُ الْخَلْقَ مِنَ الْأَمْرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} وَهَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ مِنْ طَرِيقِ بَشَّارِ بْنِ مُوسَى قَالَ: كُنَّا عِنْدَ سُفْيَانَ بْنِ

ص: 532

عُيَيْنَةَ فَقَالَ: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} فَالْخَلْقُ هُوَ الْمَخْلُوقَاتُ وَالْأَمْرُ هُوَ الْكَلَامُ، وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ نُعَيْمٍ سَمِعْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ وَسُئِلَ عَنِ الْقُرْآنِ أَمَخْلُوقٌ هُوَ؟ فَقَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} أَلَا تَرَى كَيْفَ فَرَّقَ بَيْنَ الْخَلْقَ وَالْأَمْرَ، فَالْأَمْرُ كَلَامُهُ فَلَوْ كَانَ كَلَامُهُ مَخْلُوقًا لَمْ يُفَرَّقْ.

قُلْتُ: وَسَبَقَ ابْنَ عُيَيْنَةَ إِلَى ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ وَتَبِعَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَعَبْدُ السَّلَامِ بْنُ عَاصِمٍ وَطَائِفَةٌ، أَخْرَجَ كُلَّ ذَلِكَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُمْ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ: خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ بِأَمْرِهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} وَلِقَوْلِهِ: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وَلِقَوْلِهِ: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ} قَالَ: وَتَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَأَنَّ أَمْرَ اللَّهِ قَبْلَ مَخْلُوقَاتِهِ، قَالَ: وَلَمْ يُذْكَرْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ خِلَافُ ذَلِكَ وَهُمُ الَّذِينَ أَدَّوْا إِلَيْنَا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ إِلَى زَمَانِ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَحَمَّادٍ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَمَضَى عَلَى ذَلِكَ مَنْ أَدْرَكْنَا مِنْ عُلَمَاءِ الْحَرَمَيْنِ وَالْعِرَاقَيْنِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ وَخُرَاسَانَ، وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى الْمَكِّيُّ فِي مُنَاظَرَتِهِ لِبِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ بَعْدَ أَنْ تَلَا الْآيَةَ الْمَذْكُورَةَ: أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْخَلْقِ أَنَّهُ مُسَخَّرٌ بِأَمْرِهِ، فَالْأَمْرُ هُوَ الَّذِي كَانَ الْخَلْقُ مُسَخَّرًا بِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ الْأَمْرُ مَخْلُوقًا، وَقَالَ تَعَالَى:{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فَأَخْبَرَ أَنَّ الْأَمْرَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الشَّيْءِ الْمُكَوَّنِ، وَقَالَ:{لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} أَيْ مِنْ قَبْلِ خَلْقِ الْخَلْقِ وَمِنْ بَعْدِ خَلْقِهِمْ وَمَوْتِهِمْ،

بَدَأَهُمْ بِأَمْرِهِ وَيُعِيدُهُمْ بِأَمْرِهِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: لَفْظُ الْأَمْرِ يَرِدُ لِمَعَانٍ، مِنْهَا الطَّلَبُ وَمِنْهَا الْحُكْمُ وَمِنْهَا الْحَالُ وَالشَّأْنُ وَمِنْهَا الْمَأْمُورُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} أَيْ مَأْمُورُهُ وَهُوَ إِهْلَاكُهُمْ، وَاسْتِعْمَالُ الْمَأْمُورِ بِلَفْظِ الْأَمْرِ كَاسْتِعْمَالِ الْمَخْلُوقِ بِمَعْنَى الْخَلْقِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْأَمْرُ لَفْظٌ عَامٌّ لِلْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ كُلِّهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ} وَيُقَالُ لِلْإِبْدَاعِ أَمْرٌ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} وَعَلَى ذَلِكَ حَمَلَ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ تَعَالَى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} أَيْ هُوَ مِنْ إِبْدَاعِهِ، وَيَخْتَصُّ ذَلِكَ بِاللَّهِ تَعَالَى دُونَ الْخَلَائِقِ وَقَوْلُهُ:{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ} إِشَارَةٌ إِلَى إِبْدَاعِهِ وَعَبَّرَ عَنْهُ بِأَقْصَرِ لَفْظٍ وَأَبْلَغُ مَا نَتَقَدَّمَ بِهِ فِيمَا بَيْنَنَا بِفِعْلِ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ:{وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ} فَعَبَّرَ عَنْ سُرْعَةِ إِيجَادِهِ بِأَسْرَعِ مَا يُدْرِكُهُ وَهْمُنَا، وَالْأَمْرُ التَّقَدُّمُ بِالشَّيْءِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِقَوْلِ افْعَلْ أَوْ لِتَفْعَلْ أَوْ بِلَفْظِ خَبَرٍ نَحْوَ:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} أَوْ بِإِشَارَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ كَتَسْمِيَتِهِ مَا رَأَى إِبْرَاهِيمُ أَمْرًا حَيْثُ قَالَ ابْنُهُ: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} فَعَامٌّ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَقَوْلُهُ:{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} إِشَارَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَذَكَرَهُ بِأَعَمِّ الْأَلْفَاظِ، وَقَوْلُهُ:{بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} أَيْ مَا تَأْمُرُ بِهِ النَّفْسُ الْأَمَّارَةُ انْتَهَى.

وَفِي بَعْضِ مَا ذَكَرَهُ نَظَرٌ لَا سِيَّمَا فِي تَفْسِيرِ الْأَمْرِ فِي آيَةِ الْبَابِ بِالْإِبْدَاعِ، وَالْمَعْرُوفُ فِيهِ مَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَعَلَى مَا قَالَ الرَّاغِبُ: يَكُونُ الْأَمْرُ فِي الْآيَةِ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ بَعْدَ الْخَلْقِ تَصْرِيفُ الْأُمُورِ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْمُرَادُ بِالْخَلْقِ فِي الْآيَةِ: الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَبِالْأَمْرِ: الْآخِرَةُ وَمَا فِيهَا، فَهُوَ كَقَوْلِهِ:{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ}

قَوْلُهُ: (وَسَمَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْإِيمَانَ عَمَلًا) تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي بَابِ مَنْ قَالَ: الْإِيمَانُ هُوَ الْعَمَلُ، مِنْ كِتَابِ الْإِيمَانِ أَوَّلَ الْجَامِعِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا وَبَيَانُ مَنْ وَصَلَهُمَا وَشَوَاهِدُهُمَا فِي بَابِ: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا، قَبْلَ أَبْوَابٍ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أَيْ مِنَ الْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ وَسَائِرِ الطَّاعَاتِ،

ص: 533

فَسَمَّى الْإِيمَانَ عَمَلًا حَيْثُ أَدْخَلَهُ فِي جُمْلَةِ الْأَعْمَالِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ إِلَى أَنْ قَالَ فَجَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ عَمَلًا) سَيَأْتِي ذَلِكَ مَوْصُولًا بَعْدَ حَدِيثٍ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْبَابِ خَمْسَةَ أَحَادِيثَ مُسْنَدَةً.

الْأَوَّلُ: حَدِيثُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فِي قِصَّةِ الَّذِينَ طَلَبُوا الْحُمْلَانَ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: لَسْتُ أَنَا أَحْمِلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَمَلَكُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ فِي السَّنَدِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ، وَلَيْسَ هُوَ وَالِدُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْعَبْدَرِيِّ الْحَجَبِيِّ الرَّاوِي عَنْهُ هُنَا، والْقَاسِمُ التَّمِيمِيُّ هُوَ ابْنُ عَاصِمٍ، وَزَهْدَمُ هُوَ ابْنُ مُضَرَّبٍ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ، وَقَوْلُهُ: يَأْكُلُ فَقَذِرْتُهُ زَادَ الْكُشْمِيهَنِيُّ: يَأْكُلُ شَيْئًا، وَقَوْلُهُ: فَحَلَفْتُ لَا آكُلُهُ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: أَنْ لَا آكُلَهُ وَقَوْلُهُ: فَلَأُحَدِّثُكَ وَقَعَ لِغَيْرِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَلَأُحَدِّثَنَّكَ بِالنُّونِ الْمُؤَكَّدَةِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ نِسْبَةُ الْحَمْلِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ الَّذِي بَاشَرَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ قَرِيبًا.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ.

قَوْلُهُ: (أَبُو عَاصِمٍ) هُوَ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ الْبَصْرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالنَّبِيلِ بِنُونٍ وَمُوَحَّدَةٍ وَزْنُ عَظِيمِ، وَهُوَ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ أَخْرَجَ عَنْهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ وَغَيْرِهِ، وَهُنَا بِوَاسِطَةٍ وَكَذَلِكَ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ) قَالَ عِيَاضٌ سَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ وَثَبَتَ لِغَيْرِهِ وَأَلْحَقَهُ عَبْدُوسٌ فِي رِوَايَتِهِ يَعْنِي عَنِ الْمَرْوَزِيِّ وَنَقَلَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ أَنَّ أَبَا زَيْدٍ قَالَ لَمَّا حَدَّثَ بِهِ: أَظُنُّ بَيْنَهُمَا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَمَا هُوَ بِالظَّنِّ وَلَكِنَّهُ يَقِينٌ وَبِهِ يَتَّصِلُ الْإِسْنَادُ.

قَوْلُهُ: (قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ) كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَمْ يَذْكُرْ مَقُولَ قُلْتُ، وَبَيَّنَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَامِرٍ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَمْرٍو الْعَقَدِيِّ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْقَافِ عَنْ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ فَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو حَمْزَةَ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ لِي جَرَّةً أَنْتَبِذُ فِيهَا فَأَشْرَبُهُ حُلْوًا، لَوْ أَكْثَرْتُ مِنْهُ فَجَالَسْتُ الْقَوْمَ لَخَشِيتُ أَنْ أَفْتَضِحَ، فَقَالَ: قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ طَرِيقَ أَبِي عَامِرٍ لَكِنْ لَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ وَلَمْ يَقِفِ الْكِرْمَانِيُّ عَلَى هَذَا فَقَالَ: التَّقْدِيرُ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: حَدِّثْنَا إِمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا عَنْ قِصَّةِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ فَجَعَلَ مَقُولَ قُلْتُ طَلَبَ التَّحْدِيثِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذَا الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ وَمَا يَتَعَلَّقُ مِنْهُ بِالْأَشْرِبَةِ فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ وَتَقَدَّمَ جَوَابُ الْإِشْكَالِ عَنْ تَفْسِيرِ الْإِيمَانِ بِالْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ مَعَ أَنَّهُ فِعْلُ الْقَلْبِ، وَعَنِ الْحِكْمَةِ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْ تَعْطُوا الْخُمُسَ وَلَمْ يَقُلْ وَإِعْطَاءُ الْخُمُسِ عَلَى نَسَقِ مَا تَقَدَّمَ، وَعَنْ سُقُوطِ ذِكْرِ الصَّوْمِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَعَ كَوْنِهِ ثَابِتًا فِي غَيْرِهَا، وَالتَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ ذِكْرُ الْحَجِّ فِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ رِوَايَةِ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ وَالْخَامِسُ: عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي ذِكْرِ الْمُصَوِّرِينَ، وَالْأَوَّلُ مِنْ رِوَايَةِ اللَّيْثِ عَنْ عَائِشَةَ، وَالثَّانِي مِنْ رِوَايَةِ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَلَفْظُهُمَا وَاحِدٌ إِلَّا أَنَّهُ وَقَعَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: وَيُقَالُ لَهُمْ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ يُقَالُ لَهُمْ بِدُونِ وَاوٍ.

وَمُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ فِي أَوَّلِ سَنَدِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ هُوَ أَبُو كُرَيْبٍ وَهُوَ بِكُنْيَتِهِ أَشْهَرُ، وَابْنُ فُضَيْلٍ: هُوَ مُحَمَّدٌ وَعُمَارَةُ هُوَ ابْنُ الْقَعْقَاعِ بْنِ شُبْرُمَةَ، وَقَدْ مَضَى فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عُمَارَةَ وَفِيهِ قِصَّةٌ لِأَبِي هُرَيْرَةَ وَمَضَى شَرْحُهُ هُنَاكَ، وَقَوْلُهُ: وَمَنْ ذَهَبَ أَيْ قَصَدَ، وَقَوْلُهُ: يَخْلُقُ كَخَلْقِي نَسَبَ الْخَلْقَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ أَوِ التَّشْبِيهِ فِي الصُّورَةِ فَقَطْ، وَقَوْلُهُ: فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً أَوْ شَعِيرَةً أَمْرٌ بِمَعْنَى التَّعْجِيزِ وَهُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّرَقِّي فِي الْحَقَارَةِ أَوِ التَّنَزُّلِ فِي الْإِلْزَامِ، وَالْمُرَادُ بِالذَّرَّةِ إِنْ كَانَ النَّمْلَةُ فَهُوَ مِنْ تَعْذِيبِهِمْ وَتَعْجِيزِهِمْ بِخَلْقِ الْحَيَوَانِ تَارَةً وَبِخَلْقِ الْجَمَادِ أُخْرَى، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْهَبَاءِ فَهُوَ بِخَلْقِ مَا لَيْسَ لَهُ جِرْمٌ مَحْسُوسٌ تَارَةً وَبِمَا لَهُ جِرْمٌ أُخْرَى، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَوْ شَكًّا مِنَ الرَّاوِي.

ص: 534

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَغَيْرِهِ: يُقَالُ لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ إِنَّمَا نَسَبَ خَلْقَهَا إِلَيْهِمْ تَقْرِيعًا لَهُمْ بِمُضَاهَاتِهِمُ اللَّهَ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ فَبَكَّتَهُمْ بِأَنْ قَالَ: إِذَا شَابَهْتُمْ بِمَا صَوَّرْتُمْ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَحْيُوهَا كَمَا أَحْيَا هُوَ مَا خَلَقَ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: أَسْنَدَ الْخَلْقَ إِلَيْهِمْ صَرِيحًا وَهُوَ خِلَافُ التَّرْجَمَةِ لَكِنَّ الْمُرَادَ كَسْبُهُمْ، فَأَطْلَقَ لَفْظَ الْخَلْقِ عَلَيْهِمُ اسْتِهْزَاءً أَوْ ضَمَّنَ خَلَقْتُمْ مَعْنَى صَوَّرْتُمْ تَشْبِيهًا بِالْخَلْقِ، أَوْ أَطْلَقَ بِنَاءً عَلَى زَعْمِهِمْ فِيهِ. قُلْتُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مُنَاسَبَةَ ذِكْرِ حَدِيثِ الْمُصَوِّرِينَ لِتَرْجَمَةِ هَذَا الْبَابِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَخْلُقُ فِعْلَ نَفْسِهِ لَوْ صَحَّتْ دَعْوَاهُ لَمَا وَقَعَ الْإِنْكَارُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُصَوِّرِينَ، فَلَمَّا كَانَ أَمْرُهُمْ بِنَفْخِ الرُّوحِ فِيمَا صَوَّرُوهُ أَمْرَ تَعْجِيزٍ وَنِسْبَةُ الْخَلْقِ إِلَيْهِمْ إِنَّمَا هِيَ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ وَالِاسْتِهْزَاءِ دَلَّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ نَسَبَ خَلْقَ فِعْلِهِ إِلَيْهِ اسْتِقْلَالًا وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: هَذِهِ الْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ مَنْسُوبٌ إِلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَسْبِ اعْتِبَارُ الْجِهَتَيْنِ فَيُسْتَفَادُ الْمَطْلُوبُ مِنْهَا، وَلَعَلَّ غَرَضُ الْبُخَارِيِّ فِي تَكْثِيرِ هَذَا النَّوْعِ فِي الْبَابِ وَغَيْرِهِ بَيَانُ جَوَازِ مَا نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ إِنْ صَحَّ عَنْهُ.

قُلْتُ: قَدْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ تَبَرَّأَ مِنْ هَذَا الْإِطْلَاقِ فَقَالَ: كُلُّ مَنْ نَقَلَ عَنِّي أَنِّي قُلْتُ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ، فَقَدْ كَذَبَ عَلَيَّ، وَإِنَّمَا قُلْتُ: أَفْعَالُ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ أَخْرَجَ ذَلِكَ غُنْجَارٌ فِي تَرْجَمَةِ الْبُخَارِيِّ مِنْ تَارِيخِ بُخَارَى بِسَنَدٍ صَحِيحٍ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ الْإِمَامِ الْمَشْهُورِ أَنَّهُ سَمِعَ الْبُخَارِيَّ يَقُولُ ذَلِكَ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُمَرَ وَأَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ النَّيْسَابُورِيِّ الْخَفَّافِ أَنَّهُ سَمِعَ الْبُخَارِيَّ يَقُولُ ذَلِكَ.

‌57 - بَاب قِرَاءَةِ الْفَاجِرِ وَالْمُنَافِقِ، وَأَصْوَاتُهُمْ وَتِلَاوَتُهُمْ لَا تُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ

7560 -

حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، حَدَّثَنَا أَنَسٌ عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالْأُتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ، والَّذِي لَا يَقْرَأُ كَالتَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلَا رِيحَ لَهَا، وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ طَعْمُهَا مُرٌّ وَلَا رِيحَ لَهَا.

7561 -

حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ ح و حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنهما سَأَلَ أُنَاسٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْكُهَّانِ فَقَالَ إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِشَيْءٍ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ بِالشَّيْءِ يَكُونُ حَقًّا قَالَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنْ الْحَقِّ يَخْطَفُهَا الْجِنِّيُّ فَيُقَرْقِرُهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ كَقَرْقَرَةِ الدَّجَاجَةِ فَيَخْلِطُونَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كَذْبَةٍ

7562 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ يُحَدِّثُ عَنْ مَعْبَدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَخْرُجُ نَاسٌ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ

ص: 535

تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ ثُمَّ لَا يَعُودُونَ فِيهِ حَتَّى يَعُودَ السَّهْمُ إِلَى فُوقِهِ قِيلَ مَا سِيمَاهُمْ قَالَ سِيمَاهُمْ التَّحْلِيقُ أَوْ قَالَ التَّسْبِيدُ

قَوْلُهُ: (بَابُ قِرَاءَةِ الْفَاجِرِ وَالْمُنَافِقِ وَتِلَاوَتُهُمْ لَا تُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْمُرَادُ بِالْفَاجِرِ الْمُنَافِقُ بِقَرِينَةٍ جَعَلَهُ قَسِيمًا لِلْمُؤْمِنِ فِي الْحَدِيثِ - يَعْنِي الْأَوَّلَ - وَمُقَابِلًا لَهُ، فَعَطْفُ الْمُنَافِقِ عَلَيْهِ فِي التَّرْجَمَةِ مِنْ بَابِ الْعَطْفِ التَّفْسِيرِيِّ، قَالَ: وَقَوْلُهُ: وَتِلَاوَتُهُمْ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، وَإِنَّمَا جَمَعَ الضَّمِيرَ؛ لِأَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْ لَفْظِ الْحَدِيثِ قَالَ: وَزِيدَ فِي بَعْضِهَا وَأَصْوَاتُهُمْ. قُلْتُ: هِيَ ثَابِتَةٌ فِي جَمِيعِ مَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ مِنْ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ قِرَاءَةُ الْفَاجِرِ أَوِ الْمُنَافِقِ بِالشَّكِّ وَهُوَ يُؤَيِّدُ تَأْوِيلَ الْكِرْمَانِيِّ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّنْوِيعِ، وَالْفَاجِرُ أَعَمُّ مِنَ الْمُنَافِقِ فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ وَذَكَرَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ.

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: حَدِيثُ أَبِي مُوسَى وَهُوَ الْأَشْعَرِيُّ مَثَلُ الْمُؤْمِنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ، وَالسَّنَدُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ، وَمُطَابَقَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ ظَاهِرَةٌ وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الْأَبْوَابِ أَنَّ التِّلَاوَةَ مُتَفَاوِتَةٌ بِتَفَاوُتِ التَّالِي فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ عَمَلِهِ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: مَعْنَى هَذَا الْبَابِ أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاجِرِ وَالْمُنَافِقِ لَا تَرْتَفِعُ إِلَى اللَّهِ وَلَا تَزْكُو عِنْدَهُ، وَإِنَّمَا يَزْكُو عِنْدَهُ مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ وَكَانَ عَنْ نِيَّةِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، وَشَبَّهَهُ بِالرَّيْحَانَةِ حِينَ لَمْ يَنْتَفِعْ بِبَرَكَةِ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَفُزْ بِحَلَاوَةِ أَجْرِهِ فَلَمْ يُجَاوِزِ الطِّيبُ مَوْضِعَ الصَّوْتِ وَهُوَ الْحَلْقُ وَلَا اتَّصَلَ بِالْقَلْبِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: (عَلِيٌّ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَهِشَامٌ هُوَ ابْنُ يُوسُفَ الصَّنْعَانِيُّ وَيُونُسُ فِي السَّنَدِ الثَّانِي هُوَ ابْنُ يزَيْدٍ، وَابْنُ شِهَابٍ فِيهِ هُوَ الزُّهْرِيُّ الْمَذْكُورُ فِي الْأَوَّلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ طَرِيقُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَدِينِيِّ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الطِّبِّ فِي بَابِ الْكِهَانَةِ، وَنَسَبَهُ فِيهَا وَنَسَبَ شَيْخَهُ كَمَا ذَكَرْتُ وَسَاقَ الْمَتْنَ عَلَى لَفْظِهِ هُنَاكَ، وَوَقَعَ عِنْدَهُ أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ.

قَوْلُهُ: (سَأَلَ أُنَاسٌ) فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ نَاسٌ وَهُمَا بِمَعْنًى؛ وَقَوْلُهُ هُنَا: يُحَدِّثُونَ بِالشَّيْءِ يَكُونُ حَقًّا، فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ: إِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَنَا أَحْيَانًا بِشَيْءٍ فَيَكُونُ حَقًّا.

قَوْلُهُ: (يَخْطَفُهَا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ يَحْفَظُهَا بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَظَاءٍ مُشَالَةٍ وَالْفَاءُ قَبْلَهَا مِنَ الْحِفْظِ.

قَوْلُهُ: (فَيُقَرْقِرُهَا) فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ فَيُقِرُّهَا بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ.

قَوْلُهُ: (كَقَرْقَرَةِ الدَّجَاجَةِ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي الزُّجَاجَةِ بِضَمِّ الزَّايِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ وَمُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ تَعَرَّضَ لَهُ ابْنُ بَطَّالٍ وَلَخَصَّهُ الْكِرْمَانِيُّ فَقَالَ: لِمُشَابَهَةِ الْكَاهِنِ بِالْمُنَافِقِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِالْكَلِمَةِ الصَّادِقَةِ لِغَلَبَةِ الْكَذِبِ عَلَيْهِ وَلِفَسَادِ حَالِهِ، كَمَا أَنَّ الْمُنَافِقَ لَا يَنْتَفِعُ بِقِرَاءَتِهِ لِفَسَادِ عَقِيدَتِهِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي مِنْ مُرَادِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ تَلَفُّظَ الْمُنَافِقِ بِالْقُرْآنِ كَمَا يَتَلَفَّظُ بِهِ الْمُؤْمِنُ فَتَخْتَلِفُ تِلَاوَتُهُمَا وَالْمَتْلُوُّ وَاحِدٌ، فَلَوْ كَانَ الْمَتْلُوُّ عَيْنَ التِّلَاوَةِ لَمْ يَقَعْ فِيهِ تَخَالُفٌ، وَكَذَلِكَ الْكَاهِنُ فِي تَلَفُّظِهِ بِالْكَلِمَةِ مِنَ الْوَحْيِ الَّتِي يُخْبِرُهُ بِهَا الْجِنِّيُّ مِمَّا يَخْتَطِفُهُ مِنَ الْمَلَكِ تَلَفُّظُهُ بِهَا، وَتَلَفُّظُ الْجِنِّيِّ مُغَايِرٌ لِتَلَفُّظِ الْمَلَكِ فَتَفَاوَتَا.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: (عَنْ مَعْبَدِ بْنِ سِيرِينَ) هُوَ أَخُو مُحَمَّدٍ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ وَالسَّنَدُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ إِلَّا الصَّحَابِيَّ وَقَدْ دَخَلَ الْبَصْرَةَ.

قَوْلُهُ: (يَخْرُجُ نَاسٌ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ) تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ أَنَّهُمْ الْخَوَارِجُ وَبَيَانُ مَبْدَأِ أَمْرِهِمْ وَمَا وَرَدَ فِيهِمْ، وَكَانَ ابْتِدَاءُ خُرُوجِهِمْ فِي الْعِرَاقِ وَهِيَ مِنْ جِهَةِ الْمَشْرِقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَكَّةَ الْمُشَرَّفَةِ.

قَوْلُهُ: (لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ) جَمْعُ تَرْقُوَةٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَضَمِّ الْقَافِ وَفَتْحِ الْوَاوِ، وَهِيَ الْعَظْمُ الَّذِي بَيْنَ نَقْرَةِ النَّحْرِ وَالْعَاتِقِ، وَذَكَرَهُ فِي التَّرْجَمَةِ بِلَفْظِ حَنَاجِرَهُمْ جَمْعُ حَنْجَرَةٍ وَهِيَ الْحُلْقُومُ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ الْحُلْقُومِ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْعِلْمِ وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ

ص: 536

بْنُ أَبِي نُعْمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ بِلَفْظِ حَنَاجِرَهُمْ، وَتَقَدَّمَ فِي بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} مِنْ كِتَابِ التَّوْحِيدِ.

قَوْلُهُ: (قِيلَ: مَا سِيمَاهُمْ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ أَيْ عَلَامَتُهُمْ، وَالسَّائِلُ عَنْ ذَلِكَ لَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِهِ.

قَوْلُهُ: (التَّحْلِيقُ أَوْ قَالَ التَّسْبِيدُ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي وَهُوَ بِالْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ بِمَعْنَى التَّحْلِيقِ، وَقِيلَ: أَبْلَغُ مِنْهُ وَهُوَ بِمَعْنَى الِاسْتِئْصَالِ وَقِيلَ: إِنْ نَبَتَ بَعْدَ أَيَّامٍ وَقِيلَ هُوَ تَرْكُ دَهْنِ الشَّعْرِ وَغَسْلُهُ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: فِيهِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الْعَلَامَةِ وُجُودُ ذِي الْعَلَامَةِ فَيَسْتَلْزِمُ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مَحْلُوقُ الرَّأْسِ فَهُوَ مِنَ الْخَوَارِجِ، وَالْأَمْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ اتِّفَاقًا، ثُمَّ أَجَابَ بِأَنَّ السَّلَفَ كَانُوا لَا يَحْلِقُونَ رُءُوسَهُمْ إِلَّا لِلنُّسُكِ أَوْ فِي الْحَاجَةِ، وَالْخَوَارِجُ اتَّخَذُوهُ دَيْدَنًا فَصَارَ شِعَارًا لَهُمْ وَعُرِفُوا بِهِ قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ حَلْقُ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ وَجَمِيعُ شُعُورِهِمْ وَأَنْ يُرَادَ بِهِ الْإِفْرَاطُ فِي الْقَتْلِ وَالْمُبَالَغَةُ فِي الْمُخَالَفَةِ فِي أَمْرِ الدِّيَانَةِ. قُلْتُ: الْأَوَّلُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ مِنَ الْخَوَارِجِ، وَالثَّانِي مُحْتَمَلٌ لَكِنَّ طُرُقَ الْحَدِيثِ الْمُتَكَاثِرَةِ كَالصَّرِيحَةِ فِي إِرَادَةِ حَلْقِ الرَّأْسِ، وَالثَّالِثُ كَالثَّانِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (تَنْبِيهٌ):

وَقَعَ لِابْنِ بَطَّالٍ فِي وَصْفِ الْخَوَارِجِ خَبْطٌ أَرَدْتُ التَّنْبِيهَ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَغْتَرَّ بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي قَوْمٍ عَرَفَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْوَحْيِ، أَنَّهُمْ خَرَجُوا بِبِدْعَتِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ إِلَى الْكُفْرِ، وَهُمُ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ عَلِيٌّ بِالنَّهْرَوَانِ حِينَ قَالُوا: إِنَّكَ رَبُّنَا، فَاغْتَاظَ عَلَيْهِمْ وَأَمَرَ بِهِمْ فَحُرِّقُوا بِالنَّارِ، فَزَادَهُمْ ذَلِكَ فِتْنَةً وَقَالُوا: الْآنَ تَيَقَّنَّا أَنَّكَ رَبُّنَا؛ إِذْ لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلَّا اللَّهُ، انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ لِعَلِيٍّ فِي الْفِتَنِ وَلَيْسَتْ لِلْخَوَارِجِ وَإِنَّمَا هِيَ لِلزَّنَادِقَةِ كَمَا وَقَعَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ، وَوَقَعَ فِي شَرْحِ الْوَجِيزِ لِلرَّافِعِيِّ عِنْدَ ذِكْرِ الْخَوَارِجِ قَالَ: هُمْ فِرْقَةٌ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ خَرَجُوا عَلَى عَلِيٍّ حَيْثُ اعْتَقَدُوا أَنَّهُ يَعْرِفُ قَتَلَةَ عُثْمَانَ وَيَقْدِرُ عَلَيْهِمْ وَلَا يَقْتَصُّ مِنْهُمْ لِرِضَاهُ بِقَتْلِهِ وَمُوَاطَأَتِهِ إِيَّاهُمْ، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَنْ أَتَى كَبِيرَةً فَقَدْ كَفَرَ وَاسْتَحَقَّ الْخُلُودَ فِي النَّارِ وَيَطْعَنُونَ لِذَلِكَ فِي الْأَئِمَّةِ انْتَهَى. وَلَيْسَ الْوَصْفُ الْأَوَّلُ فِي كَلَامِهِ وَصْفَ الْخَوَارِجِ الْمُبْتَدِعَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ وَصْفُ النَّوَاصِبِ أَتْبَاعِ مُعَاوِيَةَ بِصِفِّينَ، وَأَمَّا الْخَوَارِجُ فَمِنْ مُعْتَقَدِهِمْ تَكْفِيرُ عُثْمَانَ وَأَنَّهُ قُتِلَ بِحَقٍّ، وَلَمْ يَزَالُوا مَعَ عَلِيٍّ حَتَّى وَقَعَ التَّحْكِيمُ بِصِفِّينَ فَأَنْكَرُوا التَّحْكِيمَ وَخَرَجُوا عَلَى عَلِيٍّ وَكَفَّرُوهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِمْ مَبْسُوطًا فِي كِتَابِ الْفِتَنِ.

‌58 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} وَأَنَّ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ وَقَوْلَهُمْ يُوزَنُ،

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْقُسْطَاسُ الْعَدْلُ بِالرُّومِيَّةِ، وَيُقَالُ: الْقِسْطُ مَصْدَرُ الْمُقْسِطِ وَهُوَ الْعَادِلُ، وَأَمَّا الْقَاسِطُ فَهُوَ الْجَائِرُ

7563 -

حَدَّثَنا أَحْمَدُ بْنُ إِشْكَابٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَسَقَطَ لِأَكْثَرِهِمْ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْمَوَازِينُ جَمْعُ مِيزَانٍ وَأَصْلُهُ مِوْزَانٌ فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِكِسْرَةِ مَا قَبْلَهَا، وَاخْتُلِفَ فِي ذِكْرِهِ هُنَا بِلَفْظِ الْجَمْعِ، هَلِ الْمُرَادُ أَنَّ لِكُلِّ شَخْصٍ مِيزَانًا أَوْ لِكُلِّ عَمَلٍ مِيزَانٌ؟ فَيَكُونُ الْجَمْعُ حَقِيقَةً، أَوْ لَيْسَ هُنَاكَ إِلَّا مِيزَانٌ وَاحِدٌ؟ وَالْجَمْعُ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الْأَعْمَالِ أَوِ الْأَشْخَاصِ؟ وَيَدُلُّ عَلَى تَعَدُّدِ الْأَعْمَالِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ

ص: 537

لِلتَّفْخِيمِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُرْسَلْ إِلَيْهِمْ إِلَّا وَاحِدٌ، وَالَّذِي يَتَرَجَّحُ أَنَّهُ مِيزَانٌ وَاحِدٌ وَلَا يُشْكِلُ بِكَثْرَةِ مَنْ يُوزَنُ عَمَلُهُ؛ لِأَنَّ أَحْوَالَ الْقِيَامَةِ لَا تُكَيَّفُ بِأَحْوَالِ الدُّنْيَا، وَالْقِسْطُ الْعَدْلُ وَهُوَ نَعْتُ الْمَوَازِينِ وَإِنْ كَانَ مُفْرَدًا وَهِيَ جَمْعٌ؛ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: الْقِسْطُ الْعَدْلُ، وَجُعِلَ وَهُوَ مُفْرَدٌ مِنْ نَعْتِ الْمَوَازِينِ وَهِيَ جَمْعٌ؛ لِأَنَّهُ كَقَوْلِكَ عَدْلٌ وَرِضًا. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ ذَوَاتَ الْقِسْطِ، وَالْقِسْطُ الْعَدْلُ وَهُوَ مَصْدَرٌ يُوصَفُ بِهِ، يُقَالُ مِيزَانُ قِسْطٍ وَمِيزَانَانِ قِسْطٍ وَمَوَازِينُ قِسْطٍ، وَقِيلَ هُوَ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ أَيْ لِأَجْلِ الْقِسْطِ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ لِلتَّعْلِيلِ مَعَ حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ لِحِسَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ هِيَ بِمَعْنَى فِي كَذَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَاخْتَارَهُ ابْنُ مَالِكٍ، وَقِيلَ لِلتَّوْقِيتِ كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:

تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا

لِسِتَّةِ أَعْوَامٍ وَذَا الْعَامِ سَابِعٌ

وَحَكَى حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ قَالَ رَدًّا عَلَى مَنْ أَنْكَرَ الْمِيزَانَ مَا مَعْنَاهُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} وَذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمِيزَانُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ رَدَّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ رَدَّ عَلَى اللَّهِ عز وجل.

قَوْلُهُ: (وَإِنَّ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ وَقَوْلَهُمْ يُوزَنُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَلِلْقَابِسِيِّ وَطَائِفَةٍ، وَأَقْوَالَهُمْ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِلْأَعْمَالِ وَظَاهِرُهُ التَّعْمِيمُ لَكِنْ خَصَّ مِنْهُ طَائِفَتَانِ فَمِنَ الْكُفَّارِ مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ إِلَّا الْكُفْرَ، وَلَمْ يَعْمَلْ حَسَنَةً فَإِنَّهُ يَقَعُ فِي النَّارِ مِنْ غَيْرِ حِسَابٍ وَلَا مِيزَانٍ، وَمِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ لَا سَيِّئَةَ لَهُ وَلَهُ حَسَنَاتٌ كَثِيرَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى مَحْضِ الْإِيمَانِ فَهَذَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ كَمَا فِي قِصَّةِ السَّبْعِينَ أَلْفًا، وَمَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُلْحِقَهُ بِهِمْ، وَهُمُ الَّذِينَ يَمُرُّونَ عَلَى الصِّرَاطِ كَالْبَرْقِ الْخَاطِفِ وَكَالرِّيحِ وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ، وَمَنْ عَدَا هَذَيْنِ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُؤْمِنِينَ يُحَاسَبُونَ وَتُعْرَضُ أَعْمَالُهُمْ عَلَى الْمَوَازِينِ، وَيَدُلُّ عَلَى مُحَاسَبَةِ الْكُفَّارِ وَوَزْنِ أَعْمَالِهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ:{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} - إِلَى قَوْلِهِ - {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} وَنَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ قَالَ: الْكَافِرُ لَا ثَوَابَ لَهُ وَعَمَلُهُ مُقَابَلٌ بِالْعَذَابِ فَلَا حَسَنَةَ لَهُ تُوزَنُ فِي مَوَازِينِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَا حَسَنَةَ لَهُ فَهُوَ فِي النَّارِ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} وَبِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ فِي الْكَافِرِ: لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، وَتُعُقِّبَ أَنَّهُ مَجَازٌ عَنْ حَقَارَةِ قَدْرِهِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ عَدَمُ الْوَزْنِ، وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ فِي صِفَةِ وَزْنِ عَمَلِ الْكَافِرِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ

كُفْرَهُ يُوضَعُ فِي الْكِفَّةِ وَلَا يَجِدُ لَهُ حَسَنَةً يَضَعُهَا فِي الْأُخْرَى فَتَطِيشُ الَّتِي لَا شَيْءَ فِيهَا، قَالَ: وَهَذَا ظَاهِرُ الْآيَةِ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَ الْمِيزَانَ بِالْخِفَّةِ لَا الْمَوْزُونَ. ثَانِيهُمَا: قَدْ يَقَعُ مِنْهُ الْعِتْقُ وَالْبِرُّ وَالصِّلَةُ وَسَائِرُ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ الْمَالِيَّةِ مِمَّا لَوْ فَعَلَهَا الْمُسْلِمُ لَكَانَتْ حَسَنَاتٍ، فَمَنْ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٌ جُمِعَتْ وَوُضِعَتْ، غَيْرَ أَنَّ الْكُفْرَ إِذَا قَابَلَهَا رَجَحَ بِهَا. قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجَازَى بِهَا عَمَّا يَقَعُ مِنْهُ مِنْ ظُلْمِ الْعِبَادِ مَثَلًا، فَإِنِ اسْتَوَتْ عُذِّبَ بِكُفْرِهِ مَثَلًا فَقَطْ، وَإِلَّا زِيدَ عَذَابُهُ بِكُفْرِهِ أَوْ خُفِّفَ عَنْهُ كَمَا فِي قِصَّةِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ: أَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْمِيزَانِ، وَأَنَّ أَعْمَالَ الْعِبَادِ تُوزَنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ الْمِيزَانَ لَهُ لِسَانٌ وَكِفَّتَانِ وَيَمِيلُ بِالْأَعْمَالِ، وَأَنْكَرَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الْمِيزَانَ وَقَالُوا: هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْعَدْلِ فَخَالَفُوا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ يَضَعُ الْمَوَازِينَ لِوَزْنِ الْأَعْمَالِ لِيَرَى الْعِبَادُ أَعْمَالَهُمْ مُمَثَّلَةً لِيَكُونُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ شَاهِدِينَ، وَقَالَ ابْنُ فَوْرَكٍ: أَنْكَرَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الْمِيزَانَ بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْأَعْرَاضَ يَسْتَحِيلُ وَزْنُهَا إِذْ لَا تَقُومُ بِأَنْفُسِهَا، قَالَ: وَقَدْ رَوَى بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْلِبُ الْأَعْرَاضَ أَجْسَامًا فَيَزِنُهَا انْتَهَى.

وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ السَّلَفِ إِلَى أَنَّ الْمِيزَانَ بِمَعْنَى الْعَدْلِ

ص: 538

وَالْقَضَاءِ، فَأَسْنَدَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} قَالَ: إِنَّمَا هُوَ مَثَلٌ كَمَا يَجُوزُ وَزْنُ الْأَعْمَالِ كَذَلِكَ يَجُوزُ الْحَطُّ، وَمِنْ طَرِيقِ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْمَوَازِينُ الْعَدْلُ، وَالرَّاجِحُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَأَخْرَجَ أَبُو الْقَاسِمِ اللَّالَكَائِيُّ فِي السُّنَّةِ عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: يُوضَعُ الْمِيزَانُ وَلَهُ كِفَتَّانِ، لَوْ وُضِعَ فِي إِحْدَاهُمَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ لَوَسِعَتْهُ، وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ ذُكِرَ الْمِيزَانُ عِنْدَ الْحَسَنِ فَقَالَ: لَهُ لِسَانٌ وَكِفَّتَانِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قِيلَ: إِنَّمَا تُوزَنُ الصُّحُفُ، وَأَمَّا الْأَعْمَالُ فَإِنَّهَا أَعْرَاضٌ فَلَا تُوصَفُ بِثِقَلٍ وَلَا خِفَّةٍ، وَالْحَقُّ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْأَعْمَالَ حِينَئِذٍ تُجَسَّدُ أَوْ تُجْعَلُ فِي أَجْسَامٍ فَتَصِيرُ أَعْمَالُ الطَّائِعِينَ فِي صُورَةٍ حَسَنَةٍ وَأَعْمَالُ الْمُسِيئِينَ فِي صُورَةٍ قَبِيحَةٍ ثُمَّ تُوزَنُ، ورَجَّحَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ الَّذِي يُوزَنُ الصَّحَائِفُ الَّتِي تُكْتَبُ فِيهَا الْأَعْمَالُ، وَنَقَلَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: تُوزَنُ صَحَائِفُ الْأَعْمَالِ، قَالَ: فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالصُّحُفُ أَجْسَامٌ فَيَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ، وَيُقَوِّيهِ حَدِيثُ الْبِطَاقَةِ الَّذِي أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَفِيهِ فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كِفَّةٍ وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ انْتَهَى.

وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْأَعْمَالَ هِيَ الَّتِي تُوزَنُ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَثْقَلُ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ رَفَعَهُ تُوضَعُ الْمَوَازِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَتُوزَنُ الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ فَمَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ مِثْقَالَ حَبَّةٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ مِثْقَالَ حَبَّةٍ دَخَلَ النَّارَ، قِيلَ: فَمَنِ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ؟ قَالَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ. أَخْرَجَهُ خَيْثَمَةُ فِي فَوَائِدِهِ، وَعِنْدَ ابْنِ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوُهُ مَوْقُوفًا، وَأَخْرَجَ أَبُو الْقَاسِمِ اللَّالَكَائِيُّ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ عَنْ حُذَيْفَةَ مَوْقُوفًا أَنَّ صَاحِبَ الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جِبْرِيلُ عليه السلام.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْقِسْطَاسُ الْعَدْلُ بِالرُّومِيَّةِ) وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ رَجُلٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعَنْ وَرْقَاءَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} قَالَ: هُوَ الْعَدْلُ بِالرُّومِيَّةِ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ} بِالْمِيزَانِ، وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ مِثْلَهُ وَزَادَ: وَهُوَ رُومِيٌّ عُرِّبَ، وَيُقَالُ: قِسْطَارٌ بِالرَّاءِ آخِرَهُ بَدَلَ السِّينِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْمَشَارِقِ: الْقِسْطَاسُ أَعْدَلُ الْمَوَازِينِ وَهُوَ بِكَسْرِ الْقَافِ وَبِضَمِّهَا وَقُرِئَ بِهِمَا فِي الْمَشْهُورِ.

قَوْلُهُ: (وَيُقَالُ: الْقِسْطُ مَصْدَرُ الْمُقْسِطِ وَهُوَ الْعَادِلُ، وَأَمَّا الْقَاسِطُ فَهُوَ الْجَائِرُ) قَالَ الْفَرَّاءُ: الْقَاسِطُونَ الْجَائِرُونَ، وَالْمُقْسِطُونَ الْعَادِلُونَ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْقِسْطُ النَّصِيبُ بِالْعَدْلِ كَالنِّصْفِ وَالنَّصَفَةِ وَالْقَسْطُ بِفَتْحِ الْقَافِ أَنْ يَأْخُذَ قِسْطَ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ جَوْرٌ، وَالْإِقْسَاطُ أَنْ يُعْطِيَ غَيْرَهُ قِسْطَهُ وَذَلِكَ إِنْصَافٌ، وَلِذَلِكَ قِيلَ قَسَطَ إِذَا جَارَ وَأَقْسَطَ إِذَا عَدَلَ، وَقَالَ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ: الْقِسْطُ النَّصِيبُ إِذَا تَقَاسَمُوهُ بِالسَّوِيَّةِ، وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مُتَعَقِّبًا عَلَى قَوْلِ الْبُخَارِيِّ: الْقِسْطُ مَصْدَرُ الْمُقْسِطِ مَا نَصُّهُ: الْقِسْطُ الْعَدْلُ وَمَصْدَرُ الْمُقْسِطِ الْإِقْسَاطُ، يُقَالُ: أَقْسَطَ إِذَا عَدَلَ وَقَسَطَ إِذَا جَارَ وَيَرْجِعَانِ إِلَى مَعْنًى مُتَقَارِبٍ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ: عَدَلَ عَنْ كَذَا إِذَا مَالَ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ قَسَطَ إِذْا عَدَلَ عَنِ الْحَقِّ، وَأَقْسَطَ كَأَنَّهُ لَزِمَ الْقِسْطَ وَهُوَ الْعَدْلُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الْمُقْسِطُونَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، انْتَهَى.

وَكَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَسْتَشْهِدَ لِلْمَعْنَى بِالْآيَةِ الْأُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} وَهِيَ فِي الْمَائِدَةِ وَفِي الْحُجُرَاتِ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ فِي ذِكْرِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ يَنْزِلُ حَكَمًا مُقْسِطًا وَفِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى الْمُقْسِطُ، قَالَ الْحَلِيمِيُّ هُوَ الْمُعْطِي عِبَادَهُ الْقِسْطَ وَهُوَ الْعَدْلُ مِنْ نَفْسِهِ، وَقَدْ يَكُونُ مَعْنَاهُ الْمُعْطِي لِكُلٍّ مِنْهُمْ قِسْطًا مِنْ خَيْرِهِ، وَقَوْلُهُ: كَأَنَّهُ لَزِمَ الْقِسْطَ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْهَمْزَةَ فِيهِ لِلسَّلْبِ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ، وَذَكَرَ ابْنُ الْقَطَّاعِ أَنَّ قَسَطَ مِنَ الْأَضْدَادِ، وَقَدْ أَجَابَ ابْنُ بَطَّالٍ

ص: 539

عَنِ اعْتِرَاضِ مَنِ اعْتَرَضَ عَلَى قَوْلِ الْبُخَارِيِّ مَصْدَرُ الْمُقْسِطِ فَقَالَ: أَرَادَ بِالْمَصْدَرِ مَا حُذِفَتْ زَوَائِدُهُ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

وَإِنْ أَهْلِكْ فَذَلِكَ حِينَ قَدْرِي أَيْ تَقْدِيرِي فَرَدَّهُ إِلَى أَصْلِهِ، وَإِنَّمَا تَحْذِفُ الْعَرَبُ الزَّوَائِدَ لِتَرُدَّ الْكَلِمَةَ إِلَى أَصْلِهَا، وَأَمَّا الْمَصْدَرُ الْمُقْسِطُ الْجَارِي عَلَى فِعْلِهِ فَهُوَ الْإِقْسَاطُ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ الْمُرَادُ بِالْمَصْدَرِ الْمَحْذُوفُ الزَّوَائِدِ نَظَرًا إِلَى أَصْلِهِ، فَهُوَ مَصْدَرُ مَصْدَرِهِ إِذْ لَا خَفَاءَ أَنَّ الْمَصْدَرَ الْجَارِيَ عَلَى فِعْلِهِ هُوَ الْإِقْسَاطُ، فَإِنْ قِيلَ: الْمَزِيدُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ؟ قُلْتُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْقِسْطِ بِالْكَسْرِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْقَسْطِ بِالْفَتْحِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْجَوْرِ وَالْهَمْزَةُ لِلسَّلْبِ وَالْإِزَالَةِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِشْكَابٍ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَآخِرُهُ مُوَحَّدَةٌ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ؛ لِأَنَّهُ أَعْجَمِيٌّ وَقِيلَ: بَلْ عَرَبِيٌّ فَيَنْصَرِفُ وَهُوَ لَقَبٌ، وَاسْمُهُ مَجْمَعٌ، وَقِيلَ مَعْمَرٌ، وَقِيلَ عُبَيْدُ اللَّهِ، وَكُنْيَةُ أَحْمَدَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ الصَّفَّارُ الْحَضْرَمِيُّ نَزِيلُ مِصْرَ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: آخِرُ مَا لَقِيتُهُ بِمِصْرَ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَأَرَّخَ ابْنُ حِبَّانَ وَفَاتَهُ فِيهَا، وَقَالَ ابْنُ يُونُسَ: مَاتَ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ أَوْ ثَمَانَ عَشْرَةَ. قُلْتُ: وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَلِيِّ بْنِ إِشْكَابٍ وَلَا مُحَمَّدِ بْنِ إِشْكَابٍ قَرَابَةٌ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ) أَيِ ابْنِ غَزْوَانَ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الزَّايِ وَلَمْ أَرَ هَذَا الْحَدِيثَ إِلَّا مِنْ طَرِيقِهِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الدَّعَوَاتِ وَفِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِهِ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. قُلْتُ: وَجْهُ الْغَرَابَةِ فِيهِ مَا ذَكَرْتُهُ مِنْ تَفَرُّدِ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ وَشَيْخِهِ وَشَيْخِ شَيْخِهِ وَصَاحِبَيْهِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عُمَارَةَ) فِي رِوَايَةِ قُتَيْبَةَ عَنِ ابْنِ فُضَيْلٍ حَدَّثَنَا عُمَارَةُ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ.

قَوْلُهُ: (كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ) كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِتَقْدِيمِ حَبِيبَتَانِ وَتَأْخِيرِ ثَقِيلَتَانِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الدَّعَوَاتِ وَفِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ بِتَقْدِيمِ خَفِيفَتَانِ وَتَأْخِيرِ حَبِيبَتَانِ وَهِيَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ وَأَبِي كُرَيْبٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ طَرِيفٍ وَكَذَا عِنْدَ الْبَاقِينَ مِمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَمَنْ سَيَأْتِي عَنْ شُيُوخِهِمْ، وَفِي قَوْلِهِ كَلِمَتَانِ إِطْلَاقُ كَلِمَةٍ عَلَى الْكَلَامِ وَهُوَ مِثْلُ كَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ وَكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ، وَقَوْلُهُ كَلِمَتَانِ هُوَ الْخَبَرُ وَحَبِيبَتَانِ وَمَا بَعْدَهَا صِفَةٌ وَالْمُبْتَدَأُ سُبْحَانَ اللَّهِ إِلَى آخِرِهِ، وَالنُّكْتَةُ فِي تَقْدِيمِ الْخَبَرِ تَشْوِيقُ السَّامِعِ إِلَى الْمُبْتَدَأِ وَكُلَّمَا طَالَ الْكَلَامُ فِي وَصْفِ الْخَبَرِ حَسُنَ تَقْدِيمُهُ؛ لِأَنَّ كَثْرَةَ الْأَوْصَافِ الْجَمِيلَةِ تَزِيدُ السَّامِعَ شَوْقًا، وَقَوْلُهُ حَبِيبَتَانِ أَيْ مَحْبُوبَتَانِ، وَالْمَعْنَى: مَحْبُوبٌ قَائِلُهُمَا، وَمَحَبَّةُ اللَّهِ لِلْعَبْدِ تَقَدَّمَ مَعْنَاهَا فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ وَقَوْلُهُ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ هُوَ مَوْضِعُ التَّرْجَمَةِ؛ لِأَنَّهُ مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ: وَأَنَّ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ تُوزَنُ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: فَإِنْ قِيلَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مَوْصُوفُهُ مَعَهُ، فَلِمَ عَدَلَ عَنِ التَّذْكِيرِ إِلَى التَّأْنِيثِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَا وَاجِبٌ وَأَيْضًا فَهُوَ فِي الْمُفْرَدِ لَا الْمُثَنَّى سَلَّمْنَا لَكِنْ أَنَّثَ لِمُنَاسَبَةِ الثَّقِيلَتَيْنِ وَالْخَفِيفَتَيْنِ، أَوْ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الْفَاعِلِ لَا الْمَفْعُولِ وَالتَّاءُ لِنَقْلِ اللَّفْظَةِ مِنَ الْوَصْفِيَّةِ إِلَى الِاسْمِيَّةِ وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَا لَمْ يَقَعْ لَكِنَّهُ مُتَوَقَّعٌ كَمَنْ يَقُولُ: خُذْ ذَبِيحَتَكَ لِلشَّاةِ الَّتِي لَمْ تُذْبَحْ، فَإِذَا وَقَعَ عَلَيْهَا الْفِعْلُ فَهِيَ ذَبِيحٌ حَقِيقَةً، وَخَصَّ لَفْظَ الرَّحْمَنِ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْحَدِيثِ بَيَانُ سَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ حَيْثُ يُجَازِي عَلَى الْعَمَلِ الْقَلِيلِ بِالثَّوَابِ الْكَثِيرِ.

قَوْلُهُ: (خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ) وَصَفَهُمَا بِالْخِفَّةِ وَالثِّقَلِ لِبَيَانِ قِلَّةِ الْعَمَلِ وَكَثْرَةِ الثَّوَابِ، وَفِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ سَجْعٌ مُسْتَعْذَبٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الدَّعَوَاتِ بَيَانُ الْجَائِزِ مِنْهُ وَالْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَكَذَا فِي الْحُدُودِ فِي حَدِيثِ سَجْعٌ كَسَجْعِ الْكُهَّانِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ مَا كَانَ مُتَكَلَّفًا أَوْ مُتَضَمِّنًا لِبَاطِلٍ لَا مَا جَاءَ عَفْوًا عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ إِلَيْهِ، وَقَوْلُهُ خَفِيفَتَانِ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى قِلَّةِ كَلَامِهِمَا وَأَحْرُفِهِمَا وَرَشَاقَتِهِمَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْخِفَّةُ مُسْتَعَارَةٌ لِلسُّهُولَةِ وَشَبَّهَ سُهُولَةَ جَرَيَانِهَا عَلَى اللِّسَانِ بِمَا خَفَّ عَلَى الْحَامِلِ مِنْ

ص: 540

بَعْضِ الْأَمْتِعَةِ فَلَا تُتْعِبُهُ كَالشَّيْءِ الثَّقِيلِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ سَائِرَ التَّكَالِيفِ صَعْبَةٌ شَاقَّةٌ عَلَى النَّفْسِ ثَقِيلَةٌ وَهَذِهِ سَهْلَةٌ عَلَيْهَا مَعَ أَنَّهَا تُثْقِلُ الْمِيزَانَ كَثِقَلِ الشَّاقِّ مِنَ التَّكَالِيفِ، وَقَدْ سُئِلَ بَعْضُ السَّلَفِ عَنْ سَبَبِ ثِقَلِ الْحَسَنَةِ وَخِفَّةِ السَّيِّئَةِ؟ فَقَالَ: لِأَنَّ الْحَسَنَةَ حَضَرَتْ مَرَارَتُهَا وَغَابَتْ حَلَاوَتُهَا فَثَقُلَتْ فَلَا يَحْمِلَنَّكَ ثِقَلُهَا عَلَى تَرْكِهَا، وَالسَّيِّئَةُ حَضَرَتْ حَلَاوَتُهَا وَغَابَتْ مَرَارَتُهَا فَلِذَلِكَ خَفَّتْ فَلَا يَحْمِلَنَّكَ خِفَّتُهَا عَلَى ارْتِكَابِهَا.

قَوْلُهُ: (سُبْحَانَ اللَّهِ) تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فِي بَابِ فَضْلِ التَّسْبِيحِ مِنْ كِتَابِ الدَّعَوَاتِ.

قَوْلُهُ: (وَبِحَمْدِهِ) قِيلَ: الْوَاوُ لِلْحَالِ، وَالتَّقْدِيرُ: أُسَبِّحُ اللَّهَ مُتَلَبِّسًا بِحَمْدِي لَهُ مِنْ أَجْلِ تَوْفِيقِهِ، وَقِيلَ: عَاطِفَةٌ وَالتَّقْدِيرُ أُسَبِّحُ اللَّهَ وَأَتَلَبَّسُ بِحَمْدِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْحَمْدُ مُضَافًا لِلْفَاعِلِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْحَمْدِ لَازِمُهُ أَوْ مَا يُوجِبُ الْحَمْدَ مِنَ التَّوْفِيقِ وَنَحْوِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ مُتَعَلِّقَةً بِمَحْذُوفٍ مُتَقَدِّمٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وَأُثْنِي عَلَيْهِ بِحَمْدِهِ فَيَكُونُ سُبْحَانَ اللَّهِ جُمْلَةً مُسْتَقِلَّةً وَبِحَمْدِهِ جُمْلَةً أُخْرَى، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي حَدِيثِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، أَيْ بِقُوَّتِكَ الَّتِي هِيَ نِعْمَةٌ تُوجِبُ عَلَيَّ حَمْدَكَ سَبَّحْتُكَ لَا بِحَوْلِي وَبِقُوَّتِي، كَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا أُقِيمَ فِيهِ السَّبَبُ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ، وَاتَّفَقَتِ الرِّوَايَاتُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ عَلَى ثُبُوتِ وَبِحَمْدِهِ، إِلَّا أَنَّ الْإِسْمَاعِيلِيَّ قَالَ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَةِ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ، وَأَحْمَدَ بْنِ عَبْدَةَ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْهُ لَمْ يَقُلْ أَكْثَرُهُمْ وَبِحَمْدِهِ.

قُلْتُ: وَقَدْ ثَبَتَ مِنْ رِوَايَةِ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ وَعِنْدَ مُسْلِمٍ عَنْ بَقِيَّةِ مَنْ سَمَّيْتُ مِنْ شُيُوخِهِ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ يُوسُفَ بْنِ عِيسَى وَالنَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ آدَمَ وَأَحْمَدَ بْنِ حَرْبٍ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ وَعَلِيِّ بْنِ الْمُنْذِرِ وَأَبُو عَوَانَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَمُرَةَ الْأَحْمَسِيِّ، وَابْنُ حِبَّانَ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ كُلُّهُمْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ كَأَنَّهَا سَقَطَتْ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ وَأَحْمَدَ بْنِ عَبْدَةَ وَالْحُسَيْنِ.

قَوْلُهُ: (سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ) هَكَذَا عِنْدَ الْأَكْثَرِ بِتَقْدِيمِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ عَلَى سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ وَتَقَدَّمَ فِي الدَّعَوَاتِ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ بِتَقْدِيمِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ عَلَى سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، وَكَذَا هُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ وَكَذَا عِنْدَ جَمِيعِ مَنْ سَمَّيْتُهُ قَبْلُ، وَقَدْ وَقَعَ لِي بِعُلُوٍّ فِي كِتَابِ الدُّعَاءِ لِمُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ الْمُنْذِرِ عَنْهُ بِثُبُوتِ وَبِحَمْدِهِ وَتَقْدِيمِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذِهِ الْفَضَائِلُ الْوَارِدَةُ فِي فَضْلِ الذِّكْرِ إِنَّمَا هِيَ لِأَهْلِ الشَّرَفِ فِي الدِّينِ وَالْكَمَالِ كَالطَّهَارَةِ مِنَ الْحَرَامِ وَالْمَعَاصِي الْعِظَامِ، فَلَا تَظُنَّ أَنَّ مَنْ أَدْمَنَ الذِّكْرَ وَأَصَرَّ عَلَى مَا شَاءَهُ مِنْ شَهَوَاتِهِ وَانْتَهَكَ دِينَ اللَّهِ وَحُرُمَاتِهِ أَنَّهُ يَلْتَحِقُ بِالْمُطَهَّرِينَ الْمُقَدَّسِينَ وَيَبْلُغُ مَنَازِلَهُمْ بِكَلَامٍ أَجْرَاهُ عَلَى لِسَانِهِ لَيْسَ مَعَهُ تَقْوَى وَلَا عَمَلٌ صَالِحٌ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: صِفَاتُ اللَّهِ وُجُودِيَّةٌ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَهِيَ صِفَاتُ الْإِكْرَامِ، وَعَدَمِيَّةٌ كَلَا شَرِيكَ لَهُ وَلَا مِثْلَ لَهُ وَهِيَ صِفَاتُ الْجَلَالِ، فَالتَّسْبِيحُ إِشَارَةٌ إِلَى صِفَاتِ الْجَلَالِ، وَالتَّحْمِيدُ إِشَارَةٌ إِلَى صِفَاتِ الْإِكْرَامِ، وَتَرْكُ التَّقْيِيدِ مُشْعِرٌ بِالتَّعْمِيمِ، وَالْمَعْنَى أُنَزِّهُهُ عَنْ جَمِيعِ النَّقَائِصِ وَأَحْمَدُهُ بِجَمِيعِ الْكَمَالَاتِ، قَالَ: وَالنَّظْمُ الطَّبِيعِيُّ يَقْتَضِي تَقْدِيمَ التَّحْلِيَةِ عَلَى التَّخْلِيَةِ، فَقَدَّمَ التَّسْبِيحَ الدَّالَّ عَلَى التَّخَلِّي عَلَى التَّحْمِيدِ الدَّالِّ عَلَى التَّحَلِّي، وَقَدَّمَ لَفْظَ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ اسْمُ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ الْجَامِعُ لِجَمِيعِ الصِّفَاتِ وَالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَوَصَفَهُ بِالْعَظِيمِ؛ لِأَنَّهُ الشَّامِلُ لِسَلْبِ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ وَإِثْبَاتِ مَا يَلِيقُ بِهِ إِذِ الْعَظَمَةُ الْكَامِلَةُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِعَدَمِ النَّظِيرِ وَالْمَثِيلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكَذَا الْعِلْمُ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى جَمِيعِ الْمَقْدُورَاتِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَذَكَرَ التَّسْبِيحَ مُتَلَبِّسًا بِالْحَمْدِ لِيُعْلَمَ ثُبُوتُ الْكَمَالِ لَهُ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا وَكَرَّرَهُ تَأْكِيدًا وَلِأَنَّ الِاعْتِنَاءَ بِشَأْنِ التَّنْزِيهِ أَكْثَرُ مِنْ جِهَةِ كَثْرَةِ الْمُخَالِفِينَ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ نَحْوِ سُبْحَانَ، وسَبِّحْ بِلَفْظِ الْأَمْرِ، وسَبَّحَ بِلَفْظِ الْمَاضِي، ويُسَبِّحُ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ، وَلِأَنَّ التَّنْزِيهَاتِ تُدْرَكُ بِالْعَقْلِ بِخِلَافِ الْكَمَالَاتِ فَإِنَّهَا تَقْصُرُ عَنْ إِدْرَاكِ حَقَائِقِهَا كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: الْحَقَائِقُ الْإِلَهِيَّةُ لَا تُعْرَفُ إِلَّا بِطَرِيقِ

ص: 541

السَّلْبِ كَمَا فِي الْعِلْمِ لَا يُدْرَكُ مِنْهُ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِجَاهِلٍ، وَأَمَّا مَعْرِفَةُ حَقِيقَةِ عِلْمِهِ فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، وَقَالَ شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ سِرَاجُ الدِّينِ الْبُلْقِينِيُّ فِي كَلَامِهِ عَلَى مُنَاسَبَةِ أَبْوَابِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ الَّذِي نَقَلْتُهُ عَنْهُ فِي أَوَاخِرِ الْمُقَدَّمَةِ: لَمَّا كَانَ أَصْلُ الْعِصْمَةِ أَوَّلًا وَآخِرًا هُوَ تَوْحِيدُ اللَّهِ فَخَتَمَ بِكِتَابِ التَّوْحِيدِ، وَكَانَ آخِرُ الْأُمُورِ الَّتِي يَظْهَرُ بِهَا الْمُفْلِحُ مِنَ الْخَاسِرِ ثِقَلَ الْمَوَازِينِ وَخِفَّتَهَا فَجَعَلَهُ آخِرَ تَرَاجِمِ الْكِتَابِ، فَبَدَأَ بِحَدِيثِ الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، وَخَتَمَ بِأَنَّ الْأَعْمَالَ تُوزَنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَثْقُلُ مِنْهَا مَا كَانَ بِالنِّيَّةِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ تَرْغِيبٌ وَتَخْفِيفٌ وَحَثٌّ عَلَى الذِّكْرِ الْمَذْكُورِ لِمَحَبَّةِ الرَّحْمَنِ لَهُ وَالْخِفَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَمَلِ وَالثِّقَلِ بِالنِّسْبَةِ لِإِظْهَارِ الثَّوَابِ، وَجَاءَ تَرْتِيبُ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أُسْلُوبٍ عَظِيمٍ وَهُوَ أَنَّ حُبَّ الرَّبِّ سَابِقٌ وَذِكْرَ الْعَبْدِ وَخِفَّةَ الذِّكْرِ عَلَى لِسَانِهِ تَالٍ، ثُمَّ بَيَّنَ مَا فِيهِمَا مِنَ الثَّوَابِ الْعَظِيمِ النَّافِعِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ التَّوْحِيدِ بَيَانُ تَرْتِيبِ أَبْوَابِ الْكِتَابِ وَأَنَّ الْخَتْمَ بِمَبَاحِثِ كَلَامِ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ مَدَارُ الْوَحْيِ، وَبِهِ تَثْبُتُ الشَّرَائِعُ وَلِهَذَا افْتَتَحَ بِبَدْءِ الْوَحْيِ وَالِانْتِهَاءُ إِلَى مَا مِنْهُ الِابْتِدَاءُ وَنِعْمَ الْخَتْمُ بِهَا، وَلَكِنَّ ذِكْرَ هَذَا الْبَابِ لَيْسَ مَقْصُودًا بِالذَّاتِ بَلْ هُوَ لِإِرَادَةِ أَنْ يَكُونَ آخِرُ الْكَلَامِ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ، كَمَا أَنَّهُ ذَكَرَ حَدِيثَ الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ لِإِرَادَةِ بَيَانِ إِخْلَاصِهِ فِيهِ كَذَا قَالَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ قَصَدَ خَتْمَ كِتَابِهِ بِمَا دَلَّ عَلَى وَزْنِ الْأَعْمَالِ؛ لِأَنَّهُ آخِرُ آثَارِ التَّكْلِيفِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ الْوَزْنِ إِلَّا الِاسْتِقْرَارُ فِي أَحَدِ الدَّارَيْنِ إِلَى أَنْ يُرِيدَ اللَّهُ إِخْرَاجَ مَنْ قَضَى بِتَعْذِيبِهِ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ فَيَخْرُجُونَ مِن النَّارِ بِالشَّفَاعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَأَشَارَ أَيْضًا إِلَى أَنَّهُ وَضَعَ كِتَابَهُ قِسْطَاسًا وَمِيزَانًا يُرْجَعُ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ سَهْلٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُؤَلِّفُ فِي حَالَتَيْهِ أَوَّلًا وَآخِرًا، تَقَبَّلَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ وَجَزَاهُ أَفْضَلَ الْجَزَاءِ.

قُلْتُ: وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ: الْحَثُّ عَلَى إِدَامَةِ هَذَا الذِّكْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ فَضْلِ التَّسْبِيحِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ حَدِيثٌ آخَرُ لَفْظُهُ: مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فِي يَوْمِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي قَوْلِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ وَحْدَهَا فَإِذَا انْضَمَّتْ إِلَيْهَا الْكَلِمَةُ الْأُخْرَى فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهَا تُفِيدُ تَحْصِيلَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ الْمُنَاسِبِ لَهَا، كَمَا أَنَّ مَنْ قَالَ الْكَلِمَةَ الْأُولَى وَلَيْسَتْ لَهُ خَطَايَا مَثَلًا فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الثَّوَابِ مَا يُوَازِنُ ذَلِكَ، وَفِيهِ إِيرَادُ الْحُكْمِ الْمُرَغَّبِ فِي فِعْلِهِ بِلَفْظِ الْخَبَرِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ سِيَاقِ هَذَا الْحَدِيثِ الْأَمْرُ بِمُلَازَمَةِ الذِّكْرِ الْمَذْكُورِ، وَفِيهِ تَقْدِيمُ الْمُبْتَدَأِ عَلَى الْخَبَرِ كَمَا مَضَى فِي قَوْلِهِ كَلِمَتَانِ وَفِيهِ مِنَ الْبَدِيعِ: الْمُقَابَلَةُ وَالْمُنَاسَبَةُ وَالْمُوَازَنَةُ فِي السَّجْعِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ وَلَمْ يَقُلْ: لِلرَّحْمَنِ؛ لِمُوَازَنَةِ قَوْلِهِ: عَلَى اللِّسَانِ وَعَدَّى كُلًّا مِنَ الثَّلَاثَةِ بِمَا يَلِيقُ بِهِ، وَفِيهِ إِشَارَةُ امْتِثَالِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْمَلَائِكَةِ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ أَنَّهُمْ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي أَيُّ الْكَلَامِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ، قَالَ: مَا اصْطَفَى اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ سُبْحَانَ رَبِّي وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ رَبِّي وَبِحَمْدِهِ، وَفِي لَفْظٍ لَهُ أَنَّ أَحَبَّ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ.

خاتمة:

اشتمل كتاب التوحيد من الأحاديث المرفوعة على مائتي حديث وخمسة وأربعين حديثا، المعلق منها وما في معناه من المتابعة خمسة وخمسون طريقا والباقي موصول، المكرر منها فيه وفيما مضى معظمها، والخالص منها أحد عشر حديثا انفرد عن مسلم بأكثرها، وأخرج مسلم منها حديث عائشة: في أمر السرية في ذكر قل هو الله أحد، وحديث أبي هريرة: أذنب عبد من عبادي ذنبا، وحديثه إذا تقرب العبد مني شبرا، وحديثه يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم ستة وثلاثون أثرا، فجميع

ص: 542

ما في الجامع من الأحاديث بالمكرر موصولا ومعلقا وما في معناه من المتابعة تسعة آلاف واثنان وثمانون حديثا، وجميع ما فيه موصولا ومعلقا بغير تكرار ألفا حديث وخمسمائة حديث وثلاثة عشر حديثا، فمن ذلك المعلق وما في معناه من المتابعة مائة وستون حديثا، والباقي موصول، وافقه مسلم على تخريجها سوى ثمانمائة وعشرين حديثا، وقد بينت ذلك مفصلا في آخر كل كتاب من كتب هذا الجامع، وجمعت ذلك هنا تنبيها على وهم من زعم أن عدده بالمكرر سبعة آلاف ومائتان وخمسة وسبعون حديثا، وأن عدده بغير المكرر أربعة آلاف أو نحو أربعة آلاف، وقد أوضحت ذلك مفصلا في أواخر المقدمة وذلك كله خارج عما أودعه في تراجم الأبواب من ألفاظ الحديث من غير تصريح بما يدل على أنه حديث مرفوع كما نبهت على كل موضع من ذلك في بابه كقوله: باب اثنان فما فوقهما جماعة، فإنه لفظ حديث أخرجه ابن ماجه، وفيه من الآثار الموقوفة على الصحابة فمن بعدهم ألف وستمائة وثمانية آثار، وقد ذكرت تفاصيلها أيضا عقب كل كتاب ولله الحمد، وفي الكتاب آثار كثيرة لم يصرح بنسبتها لقائل مسمى ولا مبهم خصوصا في التفسير وفي التراجم فلم يدخل في هذه العدة، وقد نبهت عليها أيضا في أماكنها.

ومما اتفق له من المناسبات التي لم أر من نبه عليها أنه يعتني غالبا بأن يكون في الحديث الأخير من كل كتاب من كتب هذا الجامع مناسبة لختمه ولو كانت الكلمة في أثناء الحديث الأخير أو من الكلام عليه، كقوله في آخر حديث بدء الوحي: فكان ذلك آخر شأن هرقل، وقوله في آخر كتاب الإيمان: ثم استغفر ونزل، وفي آخر كتاب العلم وليقطعهما حتى يكونا تحت الكعبين، وفي آخر كتاب الوضوء واجعلهن آخر ما تكلم به، وفي آخر كتاب الغسل وذلك الأخير إنما بيناه لاختلافهم، وفي آخر كتاب التيمم عليك بالصعيد فإنه يكفيك، وفي آخر كتاب الصلاة استئذان المرأة زوجها في الخروج، وفي آخر كتاب الجمعة ثم تكون القائلة، وفي آخر كتاب العيدين لم يصل قبلها ولا بعدها، وفي آخر الاستسقاء بأي أرض تموت، وفي آخر تقصير الصلاة وإن كنت نائمة اضطجعي، وفي آخر التهجد والتطوع وبعد العصر حتى تغرب، وفي آخر العمل في الصلاة فأشار إليهم أن اجلسوا فلما انصرف، وفي آخر كتاب الجنائز فنزلت: تبت يدا أبي لهب وتب، وهو من التباب ومعناه الهلاك، وفي آخر الزكاة صدقة الفطر ولها دخول في الآخرية من جهة كونها تقع في آخر رمضان مكفرة لما مضى، وفي آخر الحج واجعل موتي في بلد رسولك، وفي آخر الصيام ومن لم يكن أكل فليصم، وفي آخر الاعتكاف ما أنا بمعتكف فرجع، وفي آخر البيع والإجارة حتى أجلاهم عمر، وفي آخر الحوالة فصلى عليه، وفي آخر الكفالة من ترك مالا فلورثته، وفي آخر المزارعة ما نسيت من مقالتي تلك إلى يومي هذا شيئا، وفي آخر الملازمة حتى أموت ثم أبعث، وفي آخر الشرب فشرب حتى رضيت، وفي آخر المظالم فكسروا صومعته وأنزلوه، وفي آخر الشركة أفنذبح بالقصب، وفي آخر الرهن أولئك لا خلاق لهم في الآخرة، وفي آخر العتق الولاء لمن أعتق، وفي آخر الهبة ولا تعد في صدقتك، وفي آخر الشهادات لأتوهما ولو حبوا، وفي آخر الصلح قم فاقضه، وفي آخر الشروط لا تباع ولا توهب ولا تورث، وفي آخر الجهاد قدمت فقال: صل ركعتين، وفي آخر فرض الخمس حرمها البتة، وفي آخر الجزية والموادعة فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وفي آخر بدء الخلق وأحاديث الأنبياء قدم معاوية المدينة آخر قدمة قدمها، وفي آخر المناقب توفيت

خديجة رضي الله عنها قبل مخرج النبي صلى الله عليه وسلم، وفي آخر الهجرة فترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وفي آخر

ص: 543

المغازي الوفاة النبوية وما يتعلق بها، وفي آخر التفسير تفسير المعوذتين، وفي آخر فضائل القرآن اختلفوا فأهلكوا، وفي آخر النكاح فلا يمنعني من التحرك، وفي آخر الطلاق وتعفو أثره، وفي آخر اللعان أبعد لك منها، وفي آخر النفقات أعتقها أبو لهب، وفي آخر الأطعمة وأنزل الحجاب، وفي آخر الذبائح والأضاحي حتى تنفر من منى، وفي آخر الأشربة وتابعه سعيد بن المسيب عن جابر، وفي آخر المرضى وانقل حماها، وفي آخر الطب ثم ليطرحه، وفي آخر اللباس إحدى رجليه على الأخرى، وفي آخر الأدب فليرده ما استطاع، وفي آخر الاستئذان منذ قبض النبي صلى الله عليه وسلم، وفي آخر الدعوات كراهية السآمة علينا، وفي آخر الرقاق أن نرجع على أعقابنا، وفي آخر القدر إذا أرادوا فتنة أبينا، وفي آخر الأيمان والنذور إذا سهم غابر فقتله، وفي آخر الكفارة وكفر عن يمينك، وفي آخر الحدود إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، وفي آخر المحاربين اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة، وفي آخر الإكراه يحجزه عن الظلم، وفي آخر تعبير الرؤيا تجاوز الله عنهم، وفي آخر الفتن أنهلك وفينا الصالحون، وفي آخر الأحكام فاعتمرت بعد أيام الحج، وفي آخر الاعتصام سبحانك هذا بهتان عظيم، والتسبيح مشروع في الختام، فلذلك ختم به كتاب التوحيد والحمد لله بعد التسبيح آخر دعوى أهل الجنة، قال الله تعالى: دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين، وقد ورد في حديث أبي هريرة في ختم المجلس ما أخرجه الترمذي في الجامع والنسائي في اليوم والليلة وابن حبان في صحيحه والطبراني في الدعاء والحاكم في المستدرك كلهم من رواية حجاج بن محمد عن ابن جريج عن موسى بن عقبة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من جلس في مجلس وكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك، هذا لفظ الترمذي وقال: حسن صحيح غريب لا

نعرفه من حديث سهيل إلا من هذا الوجه، وفي الباب عن أبي برزة وعائشة، وقال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط مسلم إلا أن البخاري أعله برواية وهيب عن موسى بن عقبة عن سهيل عن أبيه عن كعب الأحبار كذا قال في المستدرك ووهم في ذلك، فليس في هذا السند ذكر لوالد سهيل ولا كعب، والصواب عن سهيل عن عون وكذا ذكره على الصواب في علوم الحديث فإنه ساقه فيه من طريق البخاري عن محمد بن سلام عن مخلد بن يزيد عن ابن جريج بسنده، ثم قال: قال البخاري: هذا حديث مليح، ولا أعلم في الدنيا في هذا الباب غير هذا الحديث إلا أنه معلول: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا وهيب، حدثنا موسى بن عقبة عن عون بن عبد الله، قوله: قال البخاري هذا أولى فإنا لا نذكر لموسى بن عقبة سماعا من سهيل انتهى، وأخرجه البيهقي في المدخل عن الحاكم بسنده المذكور في علوم الحديث عن البخاري، فقال عن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين كلاهما عن حجاج بن محمد وساق كلام البخاري لكن قال: لا أعلم بهذا الإسناد في الدنيا غير هذا الحديث إلا أنه معلول، وقوله: لا أعلم بهذا الإسناد في الدنيا هو المنقول عن البخاري لا قوله لا أعلم في الدنيا في هذا الباب، فإن في الباب عدة أحاديث لا تخفى على البخاري، وقد ساق الخليل في الإرشاد هذه القصة عن غير الحاكم وذكر فيها أن مسلما قال للبخاري: أتعرف بهذا الإسناد في الدنيا حديثا غير هذا، فقال: لا إلا أنه معلول، ثم ذكره عن موسى بن إسماعيل عن وهيب عن موسى بن عقبة عن عون بن عبد الله، قوله: وهو موافق لما في علوم الحديث في سند التعليل لا في قوله في هذا الباب فهو موافق لرواية البيهقي في قوله بهذا الإسناد، وكأن الحاكم وهم في هذه اللفظة، وهي قوله في هذا الباب: وإنما هي بهذا الإسناد

ص: 544

وهو كما قال لأن هذا الإسناد وهو: ابن جريج عن موسى بن عقبة عن سهيل لا يوجد إلا في هذا المتن، ولهذا قال البخاري: لا أعلم لموسى سماعا من سهيل يعني أنه إذا لم يكن معروفا بالأخذ عنه وجاءت عنه رواية خالف راويها وهو ابن جريج من هو أكثر ملازمة لموسى بن عقبة منه رجحت رواية الملازم فهذا يوجبه تعليل البخاري، وأما من صححه فإنه لا يرى هذا الاختلاف علة قادحة بل يجوز أنه عند موسى

بن عقبة على الوجهين، وقد سبق البخاري إلى تعليل هذه الرواية أحمد بن حنبل فذكر الدارقطني في العلل عنه أنه قال: حديث ابن جريج وهم، والصحيح قول وهيب عن سهيل عن عون بن عبد الله قال الدارقطني والقول قول أحمد، وعلى ذلك جرى أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان قال ابن أبي حاتم في العلل سألت أبي وأبا زرعة عن هذا الحديث فقالا: هذا خطأ، رواه وهيب عن سهيل عن عون بن عبد الله موقوفا وهذا أصح، قال أبو حاتم يحتمل أن يكون الوهم من ابن جريج ويحتمل أن يكون من سهيل انتهى، وقد وجدناه من رواية أربعة عن سهيل غير موسى بن عقبة ففي الأفراد للدارقطني من طريق عاصم بن عمرو وسليمان بن بلال، وفي الذكر لجعفر الفريابي من طريق إسماعيل بن عياش، وفي الدعاء للطبراني من طريق محمد بن أبي حميد أربعتهم عن سهيل والراوي عن عاصم وسليمان هو الواقدي وهو ضعيف وكذا محمد بن أبي حميد، وأما إسماعيل فإن روايته عن غير الشاميين ضعيفة وهذا منها، وقد قال أبو حاتم: هذه الرواية ما أدري ما هي ولا أعلم روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من طريق أبي هريرة إلا من رواية موسى عن سهيل، انتهى. وقد أخرجه أبو داود في السنن وابن حبان في صحيحه والطبراني في الدعاء من طريق ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن عبد الرحمن بن أبي عمرو عن سعيد المقبري عن أبي هريرة مرفوعا، وعن عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن سعيد المقبري عن عبد الله بن عمرو موقوفا، وذكر شيخنا شيخ الإسلام أبو الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقي الحافظ في النكت التي جمعها على علوم الحديث لابن الصلاح أن هذا الحديث ورد من رواية جماعة من الصحابة عدتهم سبعة زائدة على من ذكر الترمذي، وأحال ببيان ذلك على تخريجه لأحاديث الإحياء، وقد تتبعت طرقه فوجدته من رواية خمسة آخرين فكملوا خمسة عشر نفسا ومعهم صحابي لم يسم فلم أضفه إلى العدد لاحتمال أن يكون أحدهم، وقد خرجت طرقه فيما كتبته على علوم الحديث وأذكره هنا ملخصا، وهم عبد الله بن عمرو بن العاص، وحديثه عند الطبراني في المعجم الكبير أخرجه موقوفا، وعند أبي داود أخرجه موقوفا كما تقدم التنبيه عليه.

وأبو برزة الأسلمي وحديثه عند أبي داود والنسائي والدارمي وسنده قوي. وجبير بن مطعم، وحديثه عند النسائي. وابن أبي عاصم ورجاله ثقات. والزبير بن العوام، وحديثه عند الطبراني في المعجم الصغير وسنده ضعيف. وعبد الله بن مسعود، وحديثه عند ابن عدي في الكامل وسنده ضعيف، والسائب بن يزيد وحديثه عند الطحاوي في مشكل الآثار والطبراني في الكبير وسنده صحيح، وأنس بن مالك وحديثه عند الطحاوي والطبراني وسنده ضعيف، وعائشة وحديثها عند النسائي وسنده قوي، وأبو سعيد الخدري وحديثه في كتاب الذكر لجعفر الفريابي وسنده صحيح إلا أنه لم يصرح برفعه، وأبو أمامة وحديثه عند أبي يعلى وابن السني وسنده ضعيف، ورافع بن خديج وحديثه عند الحاكم والطبراني في الصغير ورجاله موثقون إلا أنه اختلف على راويه في سنده، وأبي بن كعب ذكره أبو موسى المديني ولم أقف على سنده، ومعاوية ذكره أبو موسى أيضا وأشار إلى أنه وقع في بعض رواته تصحيف، وأبو أيوب الأنصاري وحديثه في الذكر للفريابي أيضا وفي سنده ضعف يسير، وعلي بن أبي طالب وحديثه عند أبي علي بن الأشعث في السنن المروية عن أهل البيت وسنده

ص: 545

واه، وعبد الله بن عمر وحديثه في الدعوات من مستدرك الحاكم، وحديث رجل من الصحابة لم يسم أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه من طريق أبي معشر زياد بن كليب قال: حدثنا رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه ورجاله ثقات، ووقع لي مع ذلك من مراسيل جماعة من التابعين منهم الشعبي وروايته عند جعفر الفريابي في الذكر، ويزيد الفقير وروايته في الكنى لأبي بشر الدولابي، وجعفر أبو سلمة وروايته في الكنى للنسائي، ومجاهد وعطاء ويحيى بن جعدة ورواياتهم في زيادات البر والصلة للحسين بن الحسن المروزي، وحسان بن عطية وحديثه في ترجمته في الحلية لأبي نعيم وأسانيد هذه المراسيل جياد، وفي بعض هذا ما يدل على أن للحديث أصلا، وقد استوعبت طرقها وبينت اختلاف أسانيدها وألفاظ متونها فيما علقته على علوم الحديث لابن الصلاح في الكلام على الحديث المعلول، ورأيت ختم هذا الفتح بطريق من طرق هذا الحديث مناسبة للختم أسوقها بالسند المتصل العالي بالسماع والإجازة إلى منتهاه، قرأت على الشيخ الإمام العدل المسند المكثر الفقيه شهاب الدين أبي العباس أحمد بن الحسن بن محمد بن محمد بن زكريا القدسي الزينبي بمنزله ظاهر القاهرة، أخبرنا محمد بن إسماعيل بن عبد العزيز بن عيسى بن أبي بكر الأيوبي، أنبأنا إسماعيل بن عبد المنعم بن الخيمي، أنبأنا أبو بكر بن عبد العزيز بن أحمد بن باقا، أنبأنا أبو زرعة طاهر بن محمد بن طاهر، أنبأنا عبد الرحمن بن حمد، ح، وقرأته عاليا على الشيخ الإمام المقرئ المفتي العلامة أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد بن عبد الواحد بن عبد المؤمن بن كامل عن أيوب بن نعمة النابلسي سماعا عليه، أنبأنا إسماعيل بن أحمد العراقي عن عبد الرزاق بن إسماعيل القومسي، أنبأنا عبد الرحمن بن حمد الدوني، أنبأنا أبو نصر أحمد بن الحسين الكسار، أنبأنا أبو بكر أحمد بن محمد بن إسحاق الحافظ المعروف بابن السني، أنبأنا أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، أنبأنا محمد بن إسحاق هو الصغاني، حدثنا أبو مسلم منصور بن سلمة الخزاعي، حدثنا خلاد بن سليمان هو الحضرمي عن خالد بن أبي عمران عن عروة عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس مجلسا أو صلى تكلم بكلمات فسألته عن ذلك فقال: إن تكلم بكلام خير كان طابعا عليه - يعني خاتما عليه - إلى يوم القيامة، وإن تكلم بغير ذلك كانت كفارة له سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، والله أعلم.

والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه وأزواجه وذريته والتابعين لهم بإحسان، وسلم تسلميا كثيرا

قال مؤلفه حافظ العصر إمام السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام فرغ منه جامعه أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي بن أحمد بن حجر الكناني النسب العسقلاني الأصل المصري المولد والمنشأ نزيل القاهرة، في أول يوم من رجب سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة، سوى ما ألحقه في هذا الكراس في ثاني عشر رجب منها، وكان جمعه للمقدمة في سنة ثلاث عشرة، وشروعه في الشرح في أوائل سنة سبع عشرة، ولله الحمد باطناً وظاهراً أولاً وآخراً.

ص: 546

صورة ما كتبه المؤلف على نسخة الشيخ الإمام العالم العلامة برهان الدين إبراهيم بن زين الدين الخضر رحمهم الله ورضي عنهم الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.

أما بعد.

فقد قرأ علي هذا الكتاب المسمى فتح الباري إلا يسيراً منه فسمعه وفاته القليل منه، وذلك ظاهر في التبليغ في الهوامش بخط صاحبه وكاتبه الإمام العالم العلامة الفاضل الماهر الباهر المعين برهان الدين مفيد الطالبين جمال المدرسين ابن زين الدين الخضر حفظ الله عليه ما وهبه، وختم له بالخيرات حتى يفوز بالمرغبة ويأمن المرهبة، وأجزت له أن يرويه عني كله وأن يفيده لمن أراد وأن يروي عني جميع ما تجوز عني روايته.

قاله وكتبه أحمد بن علي بن حجر حامداً مصلياً مسلماً وذلك في الثامن عشر من شعبان سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة.

وعلى نسخته أيضاً ما ملخصه: بلغ السماع لجميع المجلس الأخير من هذا الشرح، وأوله خاتمة على مؤلفه حافظ العصر أستاذ أهل الدهر شيخ الإسلام والمسلمين بقية المجتهدين بن قاضي القضاة الشافعية بالديار المصرية أبي الفضل أحمد العسقلاني الأصل المصري المولد والمنشأ أدام الله بهجته وحرس للأنام مهجته، بقراءة كاتبه إبراهيم بن خضر الأئمة الأعلام قاضي القضاة سعد الدين القدسي الحنفي الشهير بابن الديري، وأخوه الإمام برهان الدين إبرهيم، وقاضي القضاة محب الدين أحمد بن نصر الله البغدادي الحنبلي، وقاضي القضاة الشافعية بالبلاد الشامية وكاتب الأسرار الشريفة بالديار المصرية كمال الدين محمد الحموي الشهير بابن البارزي، والمقر الناصري محمد بن السلطان الظاهر جمقمق بفوت يسير، والمقر الزيني عبد الباسط ناظر الجيوش المنصورة، والعلامة تقي الدين أحمد بن علي المقريزي، والصاحب كريم الدين عبد الكريم الشهير بابن كاتب المناخات، والجمال يوسف بن كريم الدين ناظر الخواص الشريفة، والمقر محب الدين بن الأشقر كاتب السركان، والشيخ ولي الدين محمد السفطي، والعلامة القاضي بدر الدين التنيسي المالكي، والقاضي غرس الدين السخاوي، والشيخ محب الدين محمد بن أبي بكر القمني، والشيخ زين الدين عبد الرحمن بن عبد الوهاب السديسي، وكتب جميع الشرح إلا مواضع يسيرة معلمة في نسخته، والشيخ رضوان العقبي وكتب منه وسمع كثيراً، والشيخ شمس الدين محمد بن علي بن جعفر الشهير بابن قمر وكتب غالبه وسمع منه الكثير، والشيخ بهاء الدين أحمد بن العماد عبد الرحمن بن حرمي، والشيخ زين الدين عبد الغني بن محمد القمني، والشريف سعيد بن علي بن عبد الجليل المغربي التونسي، وكتبه كل من الثلاثة وسمع منه كثيراً، والإمام شمس الدين محمد بن محمد بن محمد بن حسان المقدسي، والشيخ زين الدين قاسم بن محمد الزبيري، والشيخ تقي الدين المنوفي القاضي، والشيخ شمس الدين محمد بن نور الدين على المحبري الخطيب والده بالصلاحية، والشيخ عز الدين عبد العزيز السنباطي، والشيخ محب الدين محمد بن عز الدين محمد البكري إمام المؤيدية، والشيخ محب الدين عبد الله بن بهاء الدين عبد اللطيف الشهير بابن الإمام المحلي، والشيخ محيي الدين بن محمد الطوخي، وبهاء الدين محمد بن أبي بكر المشهدي، والشيخ شهاب الدين أحمد بن أسد المقرئ ونور الدين علي بن أحمد المنوفي، والشيخ

ص: 547

شهاب الدين أحمد الرشي، والسيد الإمام العالم بدر الدين حسن النسابة، والشيخ العلامة جلال الدين محمد بن أحمد المحلي الشافعي، والشريف العلامة صلاح الدين محمد الأسيوطي، والإمام شهاب الدين أحمد بن موسى المنوفي الإمام بجامع أصلم، والشريف عبد اللطيف بن علي الحسني، والشهاب أحمد بن الجمال عبد الباقي الشهير بابن أبي غالب، وأبو الفضل بن أبي المكارم بن أبي البركات بن ظهيرة القرشي المكي، وأبو الفتح محمد بن محمد الطيبي القادري، والسراج عمر بن عبد الله بن علي الأقفهسي، والإمام شهاب الدين أحمد بن أبي السعود المنوفي ومدح الشارح بقصيدة تتعلق بالختم أنشدها عبد القادر الواعظ بمجلس الختم، والشريف يونس القادري، والشيخ شرف الدين عيسى الطنوبي ومدح الشارح بقصيدة تتعلق بالختم، والشيخ تقي الدين ابن القطب القرقشندي، وشمس الدين محمد بن علي الفالاتي، وعز الدين البغوي، وشمس الدين محمد بن تاج الدين عبد الله بن صلاح الدين أبي الحجاج يوسف بن عبد الله بن إسماعيل بن قريش، والشيخ شمس الدين محمد بن أحمد الشطنوبي، وولي الدين أحمد بن أحمد الأسيوطي، والعالم برهان الدين إبراهيم الكركي القاضي، والشيخ شهاب الدين بن علي بن زكريا الجديدي وولده شهاب الدين أحمد، والشيخ شمس الدين محمد بن أحمد الجديدي، وشمس الدين محمد ابن الشيخ يوسف بن أحمد الصفي، و نور الدين علي بن خليل بن البصال، ونور الدين المقري الشهير بابن الركاب، والشيخ شمس الدين محمد بن يوسف المنوفي الشهير بابن الخطيب، وناصر الدين محمد بن إبراهيم الطويلي، والشيخ شهاب الدين أحمد بن أحمد بن أبي بكر بن تمريه الخطيب وابنه عبد القادر والشيخ محب الدين محمد بن محمد القطان المصري، وعبد الرحيم بن الشهاب أحمد بن يعقوب الأزهري، والإمام المحدث برهان الدين إبراهيم بن عمر البقاعي، والشيخ الدين محمد أبو الخير بن عمر بن عبد الرحمن الزفتاوي، ونور الدين علي بن سليمان التلواني، وبدر الدين محمد بن إبراهيم المليجي الخطيب والده بجامع الأقمر، والشيخ شمس الدين محمد بن حسين بن محمد الشهير بابن سعيرات التاجر بالجملون، والشهاب أحمد بن محمد السخاوي المالكي، والشيخ شمس الدين محمد بن أحمد الدجوي، ومدح الشارح بقصيدة تتعلق بالختم قرأها من لفظه بالمجلس المذكور، وشمس الدين محمد ابن الشيخ يونس الواحي، وأبو بكر محمد الواحي التاجر بسوق الحاجب، والتاج محمد بن أبي بكر بن محمد الدميري، وأبو الميامن محمد بن قاسم الصوفي بالمدرسة الأشرفية، والإمام أبو الجود داود بن سليمان البني المالكي وعمه نور الدين علي البني المالكي، والشهاب أحمد بن محمد الأنصاري وخلق كثيرون لا يستطاع حصرهم ولا يقدر قدرهم، وممن حضر المجلس لكن لم يسمع القراءة لعبده عن القارئ المشايخ الأئمة شمس الدين محمد القاياتي، وشمس الدين محمد الونائي وأمين الدين الأقصرائي الحنفي شيخ الأشرفية، ومحب الدين محمد الاقصرائي الحنفي في جماعة كثيرين، من رام حصرهم فقد رام شططاً، وكان يوماً مشهوداً لم بعهد مثله فيما تقدم، وكان الختم المذكور بالتاج والسبع وجوه بين كوم الريش ومنية الشيرج خارج القاهرة، في يوم السبت ثامن شعبان سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة.

والحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم الذي بنعمته تتم الصالحات وتثمر.

وقد نظم شعراء العصر في مدح الشرح ومؤلفه قصائد، منها ما أنشد في مجلس الختم ومنها ما أنشد بعد ذلك، فكتب العلامة الشريف صلاح الدين الأسيوطي رقعة وقدمها للمؤلف، ونصها ما يقول شيخ المحدثين الأقدمين والمحدثين فائق الكمال والأكمال بتهذيبه وتقريبه غنية الطلب كفاية الطلبة نهاية الأرب في فنون الأدب علامة ذوي الألمعية قاضي الشافعية، أدام الله مسراته في قول القائل وإن لم يكن بطائل:

ص: 548

لك الهناء بفضل منك يشملنا

معنى وحساً بموجود ومعدوم

كم للبخاري من شرح وليس كما

قد جاء شرحك في فضل وتتميم

شروحه الذهب الإبريز ما حكيت

بمثل ذا الختم في جمع وتكريم

وشرحك الرائج المصري بهجتها

وهل يوازن إبريز بمختوم

وفي هذا الثاني العاني بما اشتمل عليه من المعاني:

أقاضي قضاة الدين حقاً بليغهم

ومن هو في أوج المعاني كلامه

شروح البخاري مذ سقينا رحيقها

أتى شرحها الوافي ومسك ختامه

هل بينهما تواخي أم لأحدهما عن الآخر تراخي، وهل صاحب هذه البيوت في قصور أم حام حول حمى من عليه الحسن مقصور؟ وهل له في مجازي الأدب أدنى ينبوع وما يحكم به الذوق السليم المطبوع، فإن تفضلتم الآن بجواب فغير بدع أنه يوم الإجابة، وإن عدلتم بالاسترواح إلى غد فذاك عين الإصابة، ورأيكم العالي أعلى، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

فكتب المؤلف ما نصه أسأل الله حسن الخاتمة، ذقت حلاوة هذا الممالحة، وشرحت صدري بلطافة هذه المطارحة، وتبين أن ناظمهما واحد حساً ومعنى، بل أوحد في حسن التلطف وزيادة الحسنى وهنا يتجاذبان الجودة من هنا وهنا: كالفرقدين إذا تأمل ناظر إلى آخر ما قال.

وكتب الشيخ زيد الدين عبد الرحمن ابن قاضي شمس الدين الديري الحنفي بعد أن رأى الرقعة المذكورة في المجلس ما نصه:

أيا سيداً حاز العلوم بأسرها

وأبدع في شرح البخاري نظامه

لئن راج إبريز البيوت بختمها

فقال غداً حقاً ومسكاً ختامه

وأنشد لصاحبنا الشيخ الفاضل شهاب الدين احمد بن أبي السعود المنوفي بالمجلس المذكور:

تمنعت بدموع الصب في حجب

فانظر لشمس في حلة السحب

حلت بقلبي المعنى وهي جنته

يا من يرى جنة الرضوان في لهب

أشكو سهادي ودمعي وهي لاهية

فالثغر يضحك والأصداغ في لعب

يا من رنت وانثنت طوع الصبا هيفاً

تفديك روح قتيل القضب والقضب

الله في مهجة لولاك ما رهبت

سود الجفون وحد السيف لم تهب

فيا رعى الله أعطافاً بنا فتكت

وهن من نسمات الروض في رهب

والله يعفو عن الألحاظ كم قتلت

بسحرها من كليم القلب مكتئب

فمن يبلغ ذات الحسن أن دمي

حل لها ولقتلي فيه واطربي

يا رب لا تجز عينيها بما فعلت

في مهجتي من فظيع الفتك والعطب

واحفظ على حسنها خداً أضاع دمي

وراح يومي بكف غير مختضب

ص: 549

واجعل سويداء قلبي في صحيفته

يرب من حسنات القرب والقرب

وحالل الجفن من روح به قتلت

فليس عند الهوى قتل بمحتسب

وفي سبيل البكا ليل أكابده

يا فجر قلبي وفجري غير مقترب

لم أدر أن كؤوس الدمع تسهرني

حتى رأيت محيا النجم كالحبب

يا من أطال علي يوم اللقا أسفي

هلا جعلت لهذا الهجر من سبب

لا تسألن عن دموع فيك سائلة

وقلب صب لصبر غير منقلب

في ذمة البين ليل بات يجمعنا

والنجم يلحظنا شزراً كمرتقب

والثغر يرفع أذيال الدجى عبثاً

والشعر يخفي محيا الصبح في نقب

وبعد رشف الثنايا رحت ملتثماً

خالاً وكان ختام المسك مطلبي

فجاء حسن ختام منه يسند عن

قاضي القضاة ختام العلم والأدب

حبر الهدى حافظ الإسلام أحمد من له من الفتح ذكرى فتح خير نبي

يا عالماً شرح الله الصدور به

وباسط العلم والآمال للطلب

شرحت صدر البخاري مثل جامعه فراح ينشد هذا منتهى الطلب

هذا المنار الذي للعلم مرتفع

الله أكبر كل الفضل في العرب

فجذا جامع بالشرح صار له

وقفاً كبحر جرى باق مدى الحقب

أضاء فيه مصابيح مسلسلة

من الأحاديث أو من لفظك الضرب

شرح حكى الشمس فالدنيا به امتلأت

تغيب زهر الداري وهو لم يغب

فلا تحرك لساناً يا سراج فقد

لاح النهار وهذي الشمس فاحتجب

نسيج وحد يقول ابن المنير وما

حاكت يداي له مثلاً فيا بأبي

والزركشي البدر لما أن تكلف لم

يصل إلى ذلك النوال بالذهب

وقد غدا لابن بطال به شغل

لما رأى منه ما أربى على الأرب

وبات في روضة ابن التين مرتشفاً

كأساً من الذوق يزري بابنة العنب

فلم يجز مسلم ما حزت من شرف

يا أحمد الناس في علم وفي نسب

هذا وحقك عام الفتح حج به

لبيت فضلك وفد العلم عن رغب

فيه بدا الظاهر السلطان واستترت

أعداؤه بذيول الأرض في حجب

فيا لهم والقنا تهتز في يدهم

رعباً وإن نسلت ردت على العقب

فجاءه الفتح بالسيوف وقد

تبت يدا خصمه حمالة الحطب

فالدهر في دعة والزهر مبتسم

والقضب ترقص بالأكمام والعذب

والجو قهقه والأعداء تحسبه

رعداً لما نابها من قبضة النوب

أفديه عاماً كأن الدهر أسنده

عن حافظ العصر عن آبائه النجب

ص: 550

لله حبر أبي ماجد شهم

علي أصل على الحالين خير أب

يغنيك عن طلب الأسفار مقوله

والسيف أصدق أنباء من الكتب

وإن رقى شرف الإملاء تحسبه

مع التواضع بحراً سح من حبب

وكم له من تصانيف حلت وعلت

كالنجم يكثر من قطر الحيا السرب

يا من يقول لقيت الناس في رجل

دع من أردت ويمم نعته تصب

ذو همة في الندى والعلم إن رفلت

في برده سبحت ذيلاً على السحب

وسيف حلم بأيدي الصفح تجذبه

دقت لديه رقاب الحقد والغضب

ترنحت قضب الأقلام في يده

فأثمرت زهرات العلم والنشب

تنشي فتنسي شفاه الكاس باسمة

يا حسن جمع خلال الراح والقضب

من كل أسمر خمري الرضاب فما

يفوته حيث يحكي الكاس من سبب

وأعجب لمحبرة كم شيبت غسقاً

سهداً ومفرقها المسود لم يشب

نعم وأعجب من ذا دمع مرملة

بوجنة الطرس ألفت حسن منقلب

وأوقدت رملها في نهره وشدت

جل المؤلف بين الماء واللهب

وانظر إلى طود علم شامخ نسباً

يهتز جوداً وبالآمال منجذب

طلق المحيا إلى الدينار مبتذلاً

مجعد الوجه يبدي رنة الصخب

فيبذل التبر من مال ومن كلم

ما بين منسبك منه ومنسكب

عم البرية بالجدوى فما لخبا

أمواله غير أيدي الناس من طنب

فلو أريحت معاذ الله راحته

شكت لداعي الندى من وحشة التعب

فيها الدنانير عشاق العفاة فإن

تفقدوا الرفد ترأمهم على حدب

فضائل علمت شعري مدائحه

وأنجم الليل تهدي كل مرتقب

يا مهجة الفضل يا عين العلوم ويا

روح العلا وحياة المجد والحسب

عذراً فإنسان شعري جاء ذا عجل

ووسع قولي وضيق الوقت في حرب

وهذه بنت فكر حثها شغف

تجرجر الذيل من صحف على كتب

ويا ولي اليتامى قد خطبت لها

بكراً إن افتخرت للعرب تنتسب

نسيبها جاء في أبياته نسباً

يا عز ذاك اليتيم الشامخ النسب

تزفها الشهب في الأفلاك منشدة

يا أخت خير أخ يا بنت خير أب

مدت لعلياك باآت الروى خطاً

فقد طوت مهمة الأوراق عن كثب

ترنو بعين قوافيها التي نشطت

وزانها الكسر يا للخرد العرب

كأنها الراح في كاسات أسطرها

تحلو بتكرار حرف الباء في الحبب

لحسنها شخص الحساد فاستترت

عن عينهم برداء الحظ والأدب

ص: 551

فإن تعارض مع مدحي مديحهم

فيكم فهل ترتقي الحصباء للشهب

وإن تساوى كلانا في المقال فيا

بعد المسافة بين الصدق والكذب

أما وأوصافك المنظوم جوهرها

لولاك ما امتد لي في الشعر من سبب

بقيت يا سيد الدنيا صحيح علا

وعشيت يا بحر علم غير مضطرب

ولا برحت مدى الأيام تكسبها

حسن الختام وترقى أشرف الرتب

وقال الشيخ برهان الدين البقاعي، وأنشدت في المجلس أيضاً:

إن كنت لا تصبو لوصف عذاري

دع عنك تهيامي وخلع عذاري

إن الغرام له رجال دينهم

تلف النفوس على هوى الأقمار

خاضوا بحار العشق وقت هياجها

إذ موجها كالجحفل الجرار

فاستوسقوا درراً تجل نعوتها

صاروا بها في العاشقين دراري

لله أيام الوصال وطيبها

لو لم تكن ككواكب الأسحار

ليلات أرتشف الرحيق من الثغو

رفأنتشي من دون شرب عقار

وأدير في روض الوجوه محاجري

عجباً فتعييني عن الأنوار

بأبي الخدود نواضراً حسناتها

كنواظر الغزلان في الدينار

قصدت يكون المسك حسن ختامها

فتعلمت من ختم فتح الباري

شرح البخاري الذي في ضمنه

نظمت علوم الشرع مثل بحار

في كل طرس منه روض مزهر

وبكل سطر منه نهر جاري

وبه زوائد من فوائد جمة

وفرائد أعيت على النظار

شرح الحديث به فكم من مشكل

فيه انجلى للعين بالآثار

يأتي إلى طرق الحديث يضمها

إن العيان مصدق الأخبار

وتزاحمت أفديه في تحصيله

زمر الملوك فسل من السفار

من فيض أحمد نبعه وله منا

سبة به اشتهرت لدى الأفكار

إن قلت نهر فهو للحجر انتمى

ومن الحجارة منبع الأنهار

أو قلت بحر عسقلان أصله

فالناس عالة بحرها الزخار

كم قد رحلت وكم جمعت مصنفاً

فالدين قد أحييت بالأسفار

وسكنت في العليا تقى وفضائلاً

أنت الشهاب بك اهتداء الساري

رحلت إليك الطالبون ليقتدوا

وتتابعوا سبقاً من الأقطار

وتراكضوا خيل الشبيبة حين لم

تركس بوهن أو بوصف عذارى

فارقت في أرض البقاع عشائري

أطوى إليك فيافياً وصحاري

ص: 552

فارقت منهم كل أروع ماجد

حامي الذمار بسيفه والجار

فمصنفاتك سهلت وتنزهت

من طاعن يرجو قذى أو عار

تربو على مائة ونصف أودعت

درراً تضيء والليل وقت سرار

وتضوع بالمسك الذكي لناشق

حسناً فيخجل أن يضوع الداري

ماذا أقول ولو أطلت مدائحي

وجعلت أهل الأرض من أنصاري

لم تبلغ المقصود من أوصافكم

كلا ولم تقرب من المعشار

فاسلم على كر الليالي واقياً

رتب العلا تهنأ بفتح الباري

وأنشد الشيخ شمس الدين الدجوي من لفظه لنفسه بالمجلس المذكور:

بحمد الله نبدأ مادحينا

حديث المصطفى والشارحينا

فإن المصطفى صلوا عليه

بطيب حديثه يتمسكونا

وأعلام النبوة خافقات

بها في الخافقين محدثونا

وشمس علومه منحتك نوراً

تبعت به سبيل المؤمنينا

به تسمو على درج المعالي

سيادتك الليالي والسنينا

أدره على المسامع فهو ينشي

قلوب الأولياء السامعينا

وحضرته الغنيمة فاغنموها

وعنها لا تكونوا غائبينا

به العلماء جلوا واستدلوا

على طرق الهدى مستبصرينا

بمعترك الدروس لنصر فقه

به فرسانه يستنجدونا

على الخصما سطوا بالرد منه

على غيظ الخلاف مؤيدينا

يذبون الليالي عن حماه

وفيه على اللآلي يسهرونا

تجافوا عن مضاجعهم وقاموا

إليه بما دروه يخدمونا

فمن أدب إذا تليت عليهم

أحاديث النبوة يسمعونا

وهم قوم تراهم في علو

على تحصيله يتنافسونا

وفي سربال فضلهم تساموا

على الأيام فخراً يرفلونا

علوا شرفاً وقدراً واتضاعاً

وأضحوا بالوقار متوجينا

سماعاً يا لبيب فهم رجال

بخدمته الشريفة يشرفونا

فهم في الحشر لا خوف عليهم

ولا هم في القيامة يحزنونا

وهم بالشكر أولى والتهاني

وهم لله أولى يحمدونا

فخذ في حفظه واصرف عليه

زمانك يا رفيق الصالحينا

فتقوى حجة وتجل قدراً

وتعظم في عيون الناظرينا

ويكفي مسلماً علم البخاري

يرد به اعتقاد الكافرينا

ص: 553

إذا ما جئته تلقاه بحراً

جواهره تفوق الحاصرينا

وفيه من العوالم فاتحات

على طلابه نوراً مبيناً

فكم فرض علمت به ونفل

وكم حكم أعز الحاكمينا

وذروة فقهه يرقون فيها

على حسب الأدلة ينظرونا

مصابيح الهدى انبثت عليه

فأصبح وهو كهف المهتدينا

فحصل ما قدرت عليه منه

يكون ذخيرة دنيا ودينا

وكيف لا وخادمه إمام

شهاب الدين قاضي المسلمينا

بفتح الباري اتضحت وبانت

مناهل علمه للواردينا

صحيح سد باب الطعن فيه

وفتح من مسائله العيونا

جلا صور المسائل فاستبانت

بألفاظ عرائس يمهرونا

فكم قول يقول به فلان

تراه عنده للقائلينا

وفيه الواضحات وغامضات

فلا يبعد به متفقهونا

وأحكام بسعدك قد أضاءت

شوارعها طريق السالكينا

سعدت بما ظفرت الدهر منه

فإن به كنوز الطالبينا

معانيه يحررها احترازاً

بميزان البيان لتستبينا

فأصبح روضة تسبيك علماً

وآثار رياض الصالحينا

وتصبح إن عرفت السر منه

كما قد قيل تاج العارفينا

وحسبك عالماً قطب الأماني

وحسبك قدوة للمقتدينا

تسائله الصحيح وعنه ينبي

فتلقى عنده الخبر اليقينا

فكم داع أتى وله سؤال

أجاب سؤاله في السائلينا

وعند لقيه تلقى مليئاً

مفيد المبتدئ والمنتهينا

يفهمك الذي قد تهت فيه

ببرهان الذين يرجعونا

وكم قطر بعيد منه جاؤا

إلى أسماعه متوجهينا

وكم شيء يكون عليك صعباً

فيجعله عليك أشد لينا

إذا السند اكتسى ثوب اضطراب

أتوا عن حاله يتنسمونا

وكم من سنة أنباك عنها

بإسناد علا في المسندينا

ومن أرمازوحي حيث يرمي

بها أحلامهم يتنبهونا

ومن يدري الحديث ومسنديه

ويمليه الكرام الكاتبينا

سما بسماعه سطح الثريا

إليه بوصله يتوصلونا

وكم صاد الشريد من المعاني

وذلله على من يألفونا

وكم مجد علا فيه مناراً

وله بالفاضلات يؤذنونا

ص: 554

وحسبك والمحابر حين تملي

ترى أقلامها في الساجدينا

ومهد في الحديث مصنفات

شريفات فنعم الماهدونا

علا سنداً ترى الأشياخ فيه

إلى عليائه يترجلونا

وما في العسقلاني من كلام

كفاه الله شر الحاسدينا

سوى حفظ فشا شرقاً وغرباً

وأعلى ذكره في الحافظينا

ومجلسه المهابة فيه يزهو

بأخبار الثقات المصلحينا

على ما لا سؤال لهم عليه

ينبئهم وعما يسألونا

وكم علامة يقرأ عليه

وأستاذ ومثل البارعينا

له في محضر الفصحا فنون

بتمليك البلاغة يشهدونا

بدوحة مدحه ثمرات نظم

بها أحبابه يتفكهونا

نشدت له القوافي بادرتني

بوافرها وفيما ينشدونا

نراك الشافعي تكون علماً

وأحمد في الرواية أن تكون

وتقصير امتداحي فيه يرجو

يزاحم في غمار المادحينا

ونختم بالصلاة على نبي

ختام الأنبيا والمرسلينا

وعترته الكرام وصاحبيه

وأرضاهم وأرضى التابعينا

إلى يوم يقوم الناس فيه

على ساق لرب العالمينا

وكتب الدجوي المذكور بعد ذلك حين فرق المؤلف على كتاب الشرح صرر فضة ومجامع حلوى ما نصه:

بفتح الباري انشرح البخاري

وأحمد ختمه بالفضل جامع

أدار دراهماً صرراً فأنشى

وحلوى فيه تأخذ بالمجامع

وأنشد الخطيب برهان الدين المليجي من لفظه لنفسه بحضرة مؤلفه بالمدرسة المنكوتمرية:

كم نعمة قاضي القضاة أنالها

ويقول إذ دنت الخطوب أنا لها

وهو الإمام وشيخ الإسلام الذي

لما تقاصرت العلوم أطالها

شرح البخاري آية وفي بها

فتح من الباري أطاب مقالها

وشهابها فضح الدراري جهرة

فينا وأخفى بدرها وهلالها

هو حافظ العصر الذي في مصره

أهل النهى ضربت به أمثالها

شهدت له أن لا سواه معلناً

إيضاحها ومبيناً إشكالها

وحلالها كلماته اللاتي هي الس

بب المبين حرامها وحلالها

وسعت إليه لاكتساب فضيلة

أفضي لها فتحققوا أفضالها

من رام يحصر فضل ما أوتيه من

غرر الهبات مفصلاً إجمالها

ص: 555

أعياه حصر هباته وبحقه

آلى وأقسم لا يرى أمثالها

كم عبرة هملت بمجلس ذكره

ونفوس قوم تشتكي إهمالها

فأنالهم حسن الرجاء مقاله

ونفوسهم حمدت لديه مآلها

خفضت مناقب أحنف أخلاقه

كم عثرة رفعت إليه أقالها

وعن الجفاة الحلم منه عادة

دهراً يرى أفعالها أفعى لها

أعيان مملكة المليك ومن به

رفع الإله عن الورى أثقالها

الظاهر الحسن الذي من عدله

عنهم أكف المعتدين أزالها

منحته صدق محبة ومودة

ونفوسها وقفت عليه ومالها

تالله ما هذا سدى لكنها

منن أراد الله فيه كمالها

يا سيداً منح العفاة نواله

ومحا بهدى المكرمات ضلالها

أنت الوفي بهمة في أمة

ركناً عظيماً ما حيا ما اغتالها

أبداً لها بسطت أكف دعائها

لله تشكر فضل ما أبدى لها

من سيرة أتممتها بسريرة

لما رفعت عن الورى أقفالها

يا حاوياً مقدار فضل قد وفى

بكفاية جمعت لديه خصالها

يا واحداً يملي ارتجالاً ديمة

منه أحاديث الورى ورجالها

أهنأ بيوم حاز أسباب الهنا

وتحققت بقدومه إقبالها

فتح من الباري فمسك ختامه

بلغت به كل الورى آمالها

يوم هو المشهود في الأيام قد

بسطت يدا جدواك فيه نوالها

أبداً فيالك من كريم محسن

صدقاته تحكي السحاب وبالها

كمل السرور بسادة منحوا الورى

بالحل والعقد السديد ظلالها

هم زينة الدنيا وزهرة أهلها

قد أذهبت آراؤهم أهوالها

لما رأوا ختم الكتاب تمسكوا

بمقالة أوسعت فيه مجالها

شرح به كتب الحديث تألفت

فهو الجديد وغيره مانالها

خذها عروساً قد زهت في ليلة

وافتك تسحب في الهنا أذيالها

شهدت بأنك كفء كل كريمة

فاجعل قبول المدح منك وصالها

فالملتجي بك لا يخيب جنابه ال

مغطى إذا دهت الهموم وهالها

لا زلت في دعة بأوفى نعمة

الله يحفظها وينعم بالها

وقال الشيخ محب الدين البكري، وأنشدت بالخانقاه البيبرسية:

حديثك لي أحلى من المن والسلوى

إذا حل سمعي حرم اللوم والسلوى

أيسلو محب حسن أوصاف مالك

غدا شافعي نعمان أحمد ذا تقوى

ص: 556

فمن لي ومثوى حبه بين أضلعي

يهيمني والعين تشتاق من تهوى

ترنحني ورق الدياجي بشجوها

تذكرني عهداً وتشفعني شجوا

تهيج أشواقي بفيضي لعبرتي

أموت وأحيا لا قرار ولا مثوى

سقام بجسمي قد براه نحوله

تراه على فرط المحبة لا يقوى

أيقوى على جمر الغضى قلب عاشق

يقل كما العصفور بين يدي شوا

تملكني رقا وألبسني ضنى

شكوت له وجدي فلم يضع للشكوى

فيا مالكاً رقي وقلبي ومهجتي

تعطف وجد فضلاً على قلب من يهوى

وجودك لي راح وجودك راحة

وقربك أنس والبعاد هو البلوى

أصور معنى حسنه فيلذ لي

تعلل قلبي بالخيال وبالنجوى

وتالله لا يشفي الخيال لعاشق

ولم يغنه طب الدواء عن الأدوا

لأني ظمآن على البحر وارد

ألا اعجب لظمآن ببحر ولا يروى

يعفني العذال عنك لأرعوي

وبغية قلبي أنت لامى لا علوى

لأنك فرد حافظ العصر جامع

معاني أولي العرفان بالفهم والفحوى

أبو الفضل بل قاضي القضاة وخيرهم

ترى السنة الغراء من حفظه تروى

أماليه تأني عسجداً وجواهراً

علت وغلت خذها بإسناده الأقوى

يرى درجات الخلد فيها مع الرضا

فيسري برضوان يبلغنا عفوا

أيا شيخ إسلام عليه مهابة

ومجد له يعلو على الغاية القصوى

تصانيفه لا حصر في ذكر عدها

ففي كل فن في العلوم له الجدوى

فكم سهرت عيناه والناس نوم

وكم كتبت يمناه من خبر يروى

وكم من شروح للبخاري عدة

طواها بفتح البارئ اعجب لما يطوى

كساه جمالاً من عذوبة لفظه

ففازت به الدنيا وسلمت الدعوى

وتوجه الأسماء من كل مبهم

خفي على النقاد يا ويح من سوى

شهاباً على أفق السماء بدوره

تبارك من أنشا وسبحان من سوى

وأبدع خلقاً ذاك للوزن لا يفي

وهذا صحيح الوزن ليس به أقوى

ولا غرو أن الشافعي إمامنا

يباهي بك الأصحاب بالنقل والفتوى

إذا فاح نشر المسك كنت ختامه

فكم حكم أظهرت فاحت لها الشذوى

لأصحابك الطلاب فضلاً أنلته بلا

منة فالله يصحبك التقوى

ويبقى لك البدر المنير ونسله

ويوسف حسن سالمين من الأسوا

ويحفظ إخواني وأهل مودتي

مشايخ علم من برؤيتهم أروى

ص: 557

ويجعل مثوانا حظيرة قدسه

وأحمده دنيا إلى جنة المأوى

محب وبكري ومنشأ بابكم

وناشر فضل ذلك النشر لا يطوى

وكتب أيضاً:

يا جابراً بالمكرمات كسيرا

وصنيعه جعل العسير يسيرا

يا شيخ الإسلام الذي أضحى بما

أوتيه من فضل الإله جديرا

لي حق سبق قد مننت بنيله

وفككت من قيد الهموم أسيرا

والأمر أمرك لم تزل متفضلاً

تولى الجميل وهادياً ونصيراً

إن قل عندك أن جعلت بديهة

مدحي صفاتك في الأنام كثيرا

فاجعل لوجه الله ما يغدو به

راجي علاك لأهله مسرورا

واسلم وعش فلقد حباك الله من

إحسانه فضلاً عليك كبيرا

وكتب أيضاً:

يا عالم العصر يا ذا الحكم والحكم

والعلم والحلم والتقوى مع الكرم

يا سالكاً سبل الخير التي وردت

عن سيد العرب والعرباء والعجم

شرحت صدر البخاري مذ شرحت له

جمعاً هو النعمة العظمى لمغتنم

حللت منه رموزاً وانفردت به

عن الذين مضوا في سالف الأمم

فجاء شرحاً عظيماً رائقاً بهجاً

ختامه المسك منشوراً على الخدم

وفاح من فتح هذا الختم رائحة

طارت بها الريح في البلدان والأطم

ماذا أقول وما أثنى عليه وقد

كل اللسان عن الإحصا مع القلم

والعبد يسأل بسط العذر منك لما

أتى به من قليل المدح والخدم

لأنه لم يجد مدحاً يقوم بما

حويتموه من الأفضال والشيم

ونسأل الله خيراً دائماً لكم

قاضي القضاة بعون الله لا تضم

وقال الشيخ شرف الدين عيسى الطنوبي، وأنشدت بالبيبرسية أيضاً:

سمحتم بشرح جاء أعلى من العين

فحصنتكم بالله وهو من العين

تحلى بتاج العلم فخراً وعندما

تجلى أبان الجهل عنا من البين

وأضحت سطور العلم فيه جواهراً

تعد على الطلاب سمطين سمطين

وماس بقرط من وجوه نقولكم

فمن تاجها فزنا بعلوين علوين

فنقح شرحاً للبخاري بلا مين

به فتح الباري عن الكاف والنون

وأجزل جيم الجواد إذ جاء بالمنى

وأظهر عين العدل من سر ياسين

غدا جنة للعلم فيه حدائق

تنزه فيها ناظر العين في العين

فطبت بلميا حوره متمسكاً

وأقلع غين كان في الفكر يلهيني

ص: 558

فأعظم به شرحاً مفيداً منقحاً

إذا صد جهل عنه بالعلم يغريني

وإن صرت منه في ضلال أضاء لي

شهاب سناً منه إلى الحق يهديني

فدونك تأليفاً أتى عن مؤلف

تحرى صحيح النقل لم يرض بالدون

أقول وما زال التفاتي لمدحه

وتنزيهه فرضي وتعظيمه ديني

إليك انتهت يا حافظ العصر رحلة ال

حديث مع الاملاء حقاً بلا مين

وأنت الذي أحييت سنة أحمد

وأبرزت من أسرارها كل مكنون

وأنت الذي صنفت كهلاً ويافعاً

وأفتيت في فرض علينا ومسنون

وأنت الذي في الشعر مالك رقه

رقيت على حسانه وابن زيدون

وأنت الذي دونت شرحاً سما به

إمام بخارى فانثنى خير ميمون

وألبسته تاج العلوم مكللاً

فها هو في قرط يميس ببردين

ولم يأت شرح للبخاري مثله

وهيهات ما البشنين فضلاً كنسرين

فذق علمه واهجر مقالة غيره

ففي الشهد معنى ليس يوجد في التين

يزيدك علماً أن تزده تأملاً

ويشكل تارات ويأتي بتبيين

حوى كل ما قال الأولى في مؤلف

بأبدع تقرير وأبرع تدوين

وزاد من التنقيح ما فضله به

تأكد عند الخصم بالنفس والعين

له فضلاء العصر صلوا وسلموا

لما قلت طوعاً ليس بالكره والهون

ولو كان في عصر البخاري مؤلفاً

لكان له ألفاً وقيل ألفين

وخر إلى الأذقان لله ساجداً

قال نعم هذا الذي كان يرضيني

أو ابن معين قال في الحفظ زادني

وزال به عني الذي كان ينسيني

له الله من شرح أزال شهابه

عن السنة الغرا جموع الشياطين

قررت به عيناً وصرت به زيناً

وأحيا به حيناً إلى منتهى حين

ولم لا به أحيا وفيه فوائد

من العلم تكفيني إلى يوم تكفيني

وحجة دعوى الخصم مخصومة بما

يسجله القاضي بنص وتعيين

عن ابن علي صرت أروي العلا فإن

عطشت فمن علم همي منه يرويني

ويملي على سمعي فأكتب جوهراً

وأمدحه من بعض ما هو يمليني

هو الحبر بحر العلم عين زمانه

فما جعفر في فضله وابن هارون

على شرحه أثنوا وآلوا بأنه

هو الفرد في التحقيق لا ثاني اثنين

ففقت به الأصلين والفخر شاهد

له وابن برهان بتلك البراهين

وبينت في التفسير حكم مسائل ال

خلاف بما أظهرت من كنز مدفون

كرأي ابن عباس ورأي مجاهد

ورأي عطاء ثم رأي ابن سيرين

وقررت للقراء ما كان نافعاً

أتى عن أبي عمرو وورش وقالون

ص: 559

وحققت حكم الروم فيه وغنة

ومدّ مع الاشمام والوصل واللين

وأعربته عن سيبويه وشيخه

وأبديت فرقاً بين نون وتنوين

وأسندت فيه عن شيوخ كثيرة

لهم طرق تعلو ففزت بأجرين

نتيجة علم النقل والعقل فاعجبوا

له وهو طفل حار فيه ابن سبعين

وما مسلم إلا وقال كجوهر

فمن ليس يحويه غداً بئس مغبون

ولا عجب فاليم من حجر بدا

عيوناً لموسى حين قر على الطين

فعشر عيون منه عشر أصابع

تفيض ومنشأ جودها الدهر يغنيني

سما بتآليف علت في حياته

نعم وعلت فوق السماك وتنين

تناهز عشر الألف عداً وكم سعى

لباب علاها وافد من سلاطين

وزادوا اشتياقاً بالسماع وربما

تعشق قبل العين سمعك في الحين

فجهزها سلطان مصر هدية

إليهم فأغنت عن خيول ونقدين

إلى الغرب سارت ثم للنبك سافرت

وفي يمن حلت وصارت إلى الصين

فعش آمناً با حافظ العصر وابتهج

بفتح له ختم على غير ذي رين

وباكر لبكر في حماك تنزهت

بمدحك عن إبطاء مدح وتضمين

ودع أيما أضحت لها قبل ضرة

فالفرق بان الصبح منها لذي عين

فلا زلت ذا جاه وجود وسودد

وحكم وتأليف وعز وتمكين

وأختم مدحي بالصلاة مسلماً

على خير مبعوث من الحوض يسقيني

صلاة تريني بعد جسمي من لظى

ومن جنة الفردوس في الحشر تدنيني

وقال العلامة شمس الدين النواجي، وأنشدت بالمنكوتمرية:

خذوا حديث الغرام مسند

عن مستهام الفوائد مبعد

وسلسلوه بدر دمعي

فابن معين به تفرد

يا خده الواقدي رفقاً

بخاطر منك قد توقد

وثغره الجوهري كم ذا

تمنعني ريقك المبرد

بالله يا راحلاً بقلبي

هل لفؤادي المشوق من رد

الله الله في محب

بنظرة منك ما تزود

يكفكف الدمع من جفون

خوف وشاة له وحسد

لو سمته قبلة ولو في ال

منام بالروح ما تردد

لله ساجي اللحاظ ألمي

أغن لدن القوام أغيد

ألثغ حلو الكلام كادت

حلاوة الثغر منه تعقد

البدر قد لاح من سناه

والغصن من عطفة تأود

ص: 560

لو هفوات النسيم مرت

عليه من لطفه تجعد

جامع حسن إذا تبدى

خرت عيون الأنام سجد

وقبلة العشق ان بعيني

أبصرت في الحالتين معبد

صيرت دمعي عليه وقفاً

مسبلاً جارياً مؤبد

وعاذل بات قبل هذا

يطعن في حسنه ويجحد

ومذ بدا وجهه هلالاً

يفوق بدر السما تشهد

وفوق خديه حسن خال

بكعبة الحسن قد تعبد

حماه ربي فكيف أضحى

في وسط نيرانه مخلد

لم أنس أن زارني بليل

كأنه كوكب توقد

وابتسم الثغر عن لآل

فهمت في عقدها المنضد

واستعبر الجفن من دموع

لما رأى صدره تنهد

أرشفني من رحيق ثغر

كأساً وحيا بوردة الخد

شممت منه عبير خال

يعبق من نشره شذا الند

فيا له عنبر ذكي

وعاذلي فيه قد تبلد

يا مالك الحسن جد بنعما

ن وجنتي خدك المورد

وإن تكن شافعي فإني

أشكر رب السما وأحمد

قاضي القضاة الأنام كنز ال

غنى حليف الندى المؤيد

حامي ذرى المجد والعلا من

فاق الورى في حلى وسودد

بنى له الفضل بيت عليا

له بساط النجوم مقعد

وأعربت عن علاه خيم

بالعطف مرفوعها تأكد

مولى به الله في الورى قد

أعز أحكامه وأيد

أعف في الحكم من مشينا

تحت لواعد له وأزهد

له مع الله حسن حال

مظهر غيب له ومشهد

ما مثله في وفا وحلم

إن وعد المرء أو توعد

ولم يقل في ندا وعلم

لمن أتى سائلاً إلى الغد

ذو راحة أتعبت حسوداً

قصر عن مثلها وفند

كم قلت لما سما فحاذى

رأس سماك وفرق فرقد

يا هل ترى غاية لعليا

منفرد في الأنام أوحد

وليت شعري أنال ذا عن

أب علي المقام أمجد

في مصره كم أغاث حياً

أتهم في غوره وأنجد

وكم وكم قد أمات خصماً

عاند في شرعه وألحد

ص: 561

يا عمرك الله أم حبراً

عنه حديث الكرام يسند

وارو ندى راحتيه بحراً

من الطريقين عنه يورد

فبابه للوفود ملجا

وماله للعفات مرصد

واعجب لذي باطل وحق

كلاهما في حماه يعضد

هذاك بالقطع ليس يرفا

وذا بكلتا اليدين يرفد

لا عيب في جوده سوى أن

شمل أمواله مبدد

يسبيك من كفه يراع

أسمر لدن القوام أملد

أحوى غضيض الجفون ألمى

مكحل الطرف لا بمرود

مواظب الخمس ورده في

وقت صلاة الصلاة يشهد

إذا هوى للركوع خرت

له وجوه الطروس سجد

سبحان من قد براه غصناً

ثماره فضة وعسجد

محبراً في العلوم زاكي الأ

صول سامي الذرى مسود

في قصب السبق ما رأينا

مثاله في الجياد جود

تهز أصوات سائليه

أعطافه للندى فيمتد

وينبري للعطا فيزري

بالبحر في جزره وفي المد

يسعى على رأسه لأم

طرافها للخبا ممدد

ترضعه يومها وعند ال

مغيب في بطنها يمهد

واستجل ما شئت من معاني

مرملة طرفها مسهد

يحكي سني وجهها الثريا

حسناً إذا سعدها تجدد

في بيت أفراحها اجتماع

بالرمل من شكلها تولد

تنظم الدر فوق طرس

نثراً فنظمي لها ينضد

وتنثر التبر في لجين

نثراً فتثرى به وتسعد

تذيب قلب النضار لا ما

حصله باخل وجمد

إن أنكرت قتل حاسديها

هادمهم في الطروس يشهد

وشم حلى مدية عليها

خناصر للعلوم تعقد

تقطع وصل الجفا وتبري

قلب عداة بغوا وحسد

وتثبت الجرح في وجوه

تجاوزوا في لقائها الحد

ما طال منها اللسان إلا

قصر من كلمت عن الرد

قوامها اللدن سمهري

وإنما طرفها مهند

تملك الحسن في نصاب

ما مثله في القرون يعهد

قتيلها المحل ليس يودى

شرعاً وإن كان بالمحدد

ص: 562

يا شيخ الإسلام يا إماما

دعا لطرق الهدى وأرشد

يا ذا التصانيف ليس يلفى

نظيرها في الورى ويوجد

لو رام تعدادها حسود

بكى على نفسه وعدد

شرحت صدر الحديث لما

قصدت للشرح أي مقصد

ورحت تمليه في نجوم

شهابها في العلا توقد

أخجل في أفقه الدراري

أما ترى الجو احمر الخد

واستخدم الكنس الجواري

تدأب في بابه وتجهد

أنعم أذواق طالبيه

بمشتهى لفظه المسرهد

وسار في شرقها وغرب

تتلى أحاديثه وتسرد

وكم طوى نشره كتاباً

على ممر الدهور سرمد

ومن يكن علمه عطاء

من فتح باريه كيف ينفد

خذها ابنة الفكر ذات شجو

بلطف معناك قد تجسد

تختال في طرسها ومعنى

علاك في صرحها الممرد

جمالها مطلق وحرف ال

روى في حبكم مقيد

وبحرها من بسيط كفي

نداكم بالوفا معود

ومن رام يقفو سني علاها

لمطلع الشمس كيف يصعد

رقيقة النظم ذات لفظ

حر ومعنى بكم مولد

حررها في علاك مولى

عتاقة بالولا تعبد

أمسك فضل العنان لما

زادت معانيكم على العد

ولو أطال المديح جاءت

وحق علياك في مجلد

طوقته بالندى فقل في

مطوق في الرياض غرد

ورشت منه الجناح حتى

حلق نحو العلا وصعد

وحق رب السما ومولى

يخشى لكل الورى ويعبد

مالي إلى غيرك التفات

كلا ولا عن حماك مقصد

قيدتني بالندى فتمم

واكتب على قيدي المخلد

وكم يد قد أنلت حتى

سلبت مني الفؤاد باليد

هذا هو الفضل بل أبوه

أنت وهذا لعمرك الجد

لا زلت مستعصماً أميناً

مستنصراً هادياً لمهتد

مستظهراً واثقاً رشيداً

موفقاً طاهراً مؤيد

يحفك البدر في كمال

بخير ما طالع وأسعد

ص: 563

هذا آخر ما وقفنا عليه من المدائح، وقد أحببت أن أختم هذه الكتابة بدعاء شريف نقلته من طهارة القلوب لسيدي الولي العارف بالله عبد العزيز الديريني نفعنا الله ببركته وبركة علومه:

إلهي لو أردت إهانتنا لم تهدنا، ولو أردت فضيحتنا لم تسترنا، فتمم اللهم ما به بدأتنا، ولا تسلبنا ما به أكرمتنا، إلهي عرفتنا بربوبيتك وغرقتنا في بحار نعمتك ودعوتنا إلى دار قدسك ونعمتنا بذكر وأنسك، إلهي إن ظلمة لأنفسنا قد عمت وبحار الغفلة على قلوبنا قد طمت، فالعجز شامل والحصر حاصل والتسليم أسلم وأنت بالحال أعلم، إلهي ما عصيناك جهلاً بعقابك ولا تعراضاً لعذابك ولا استخفافاً بنظرك، ولكن سولت لنا أنفسنا وأعانتنا شقوتنا وغرنا سترك علينا وأطعمنا في عفوك برك بنا، فالآن من عذابك من يستنقذنا؟ وبحبل من نعتصم إن أنت قطعت حبلك عنا وأخجلتنا من الوقوف غداً بين يديك؟ وافضيحتنا إذا عرضت أعمالنا القبيحة عليك! اللهم اغفر ما عملت ولا تهتك ما سترت، إلهي إن كنا قد عصيناك بجهل فقد دعوناك بعقل حيث علمنا أن لنا رباً يغفر ولا يبالي، إلهي أنت أعلم بالحال والشكوى وأنت قادر على كشف البلوى، اللهم يا من سترت الزلات وغفرت السيآت أجرنا من مكرك ووفقنا لشكرك، إلهي أتحرق بالنار وجهاً كان لك مصلياً ولساناً كان لك ذاكراً أو داعياً لا بالذي دلنا عليك ورغبنا فيما لديك وأمرنا بالخضوع بين يديك، وهو محمد خاتم أنبيائك وسيد أصفياتك فإن حقه علينا أعظم الحقوق بعد حقك، كما أن منزلته أشرف منازل خلقك، وصل وسلم يا رب على سيدنا محمد وآله وصحبه وجميع الأنبياء والمرسلين، وارحم عباداً غرهم طول إمهالك وأطمعهم كثرة أفضالك وذلوا لعزك وجلالك ومدوا أكفهم لطلب نوالك، ولولا هدايتك لم يصلوا إلى ذلك.

ص: 564

‌خاتمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الهادي الأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الداعي إلى الحق والخير وعلى آله وصحبه وسلم

أما بعد، فقد أتم الله علينا نعمه، ولله الحمد، بإكمال طباعة هذا السفر العظيم «فتح الباري بشرح صحيح البخاري» مع مقدمة هدي الساري للإمام الحافظ أحمد بن على بن حجر العسقلاني (773 - 852 هـ) وكان ذلك في شهر رمضان المبارك سنة ألف وثلاثمائة وتسعين من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم

وكان والدى السيد المحقق الأستاذ محب الدين الخطيب رحمه الله (1303 - 1389 هـ) قد بذل جهدا موفوراً لإتمام هذا الفتح فى أصح صورة وعلى أكمل وجه: تحقيقا وتبويبا وتصحيحا لتجاربه، كما استقصى أطراف أحاديثه ونبه على أرقامها في كل حديث الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقى رحمه الله

وكان السيد الوالد قد كرس كل وقته وإلى آخر دقيقة من حياته لإخراج هذا المصنف النفيس ليكون أصبح الطبعات وأتقنها وأيسرها في المراجعة والدراسة

ثم من الله على بما كان يتمناه، رحمة الله عليه، بإكمال هذا الفتح الكبير الذي أرجو من الله تعالى أن ينفع به المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وأن يجعله حسنة من حسنات جهاده المشهود، ومثوبة لمن قاموا على خدمته وساهموا في إعادة طبعة، وفي مقدمتهم فضيلة العالم الجليل الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز نفعنا الله بعلمه

والله الموفق لما فيه رضاه

روضة الفسطاط: في شهر رمضان المبارك 1390 هجرية

قصى محب الدين الخطيب

ص: 565