الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
9 - كِتَاب مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ
1 - بَاب مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ وَفَضْلِهَا
وَقَوْلِهِ: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} مُوَقَّتًا، وَقَّتَهُ عَلَيْهِمْ
521 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا، فَدَخَلَ عَلَيْهِ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ أَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا وَهُوَ بِالْعِرَاقِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا مُغِيرَةُ؟ أَلَيْسَ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ فَصَلَّى، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ صَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ صَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ صَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ صَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: بِهَذَا أُمِرْتُ. فَقَالَ عُمَرُ، لِعُرْوَةَ: اعْلَمْ مَا تُحَدِّثُ، أَوَ إنَّ جِبْرِيلَ هُوَ أَقَامَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقْتَ الصَّلَاةِ؟ قَالَ عُرْوَةُ: كَذَلِكَ كَانَ بَشِيرُ بْنُ أَبِي مَسْعُودٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ.
[الحديث 521 - طرفاه في: 3221، 4007]
(بَابُ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) كَذَا لِلْمُسْتَمْلِي وَبَعْدَهُ الْبَسْمَلَةُ، وَلِرَفِيقَيْهِ الْبَسْمَلَةُ مُقَدَّمَةٌ وَبَعْدَهَا بَابُ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ وَفَضْلِهَا وَكَذَا فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ، وَكَذَا لِكَرِيمَةَ لَكِنْ بِلَا بَسْمَلَةٍ، وَكَذَا لِلْأَصِيلِيِّ لَكِنْ بِلَا بَابٍ. وَالْمَوَاقِيتُ جَمْعُ مِيقَاتٍ وَهُوَ مِفْعَالٌ مِنَ الْوَقْتِ، وَهُوَ الْقَدْرُ الْمُحَدَّدُ لِلْفِعْلِ مِنَ الزَّمَانِ أَوِ الْمَكَانِ.
قَوْله: {كِتَابًا مَوْقُوتًا} مُوَقَّتًا وَقَّتَهُ عَلَيْهِمْ) كَذَا وَقَعَ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، وَسَقَطَ فِي بَعْضِهَا لَفْظُ مُوَقَّتًا فَاسْتَشْكَلَ ابْنُ التِّينِ تَشْدِيدَ الْقَافِ مِنْ وَقَّتَهُ، وَقَالَ: الْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ التَّخْفِيفُ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ مُوَقَّتًا بَيَانَ أَنَّ قَوْلَهُ مَوْقُوتًا مِنَ التَّوْقِيتِ، فَقَدْ جَاءَ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ مَوْقُوتًا قَالَ: مَفْرُوضًا، وَعَنْ غَيْرِهِ مَحْدُودًا. وَقَالَ صَاحِبُ الْمُنْتَهَى: كُلُّ شَيْءٍ جُعِلَ لَهُ حِينٌ وَغَايَةٌ فَهُوَ مُوَقَّتٌ، يُقَالُ: وَقَّتَهَ لِيَوْمِ كَذَا، أَيْ أَجَّلَهُ.
قَوْله: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ) هُوَ الْقَعْنَبِيُّ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَوَّلُ شَيْءٍ فِي الْمُوَطَّأِ، وَرِجَالُهُ كُلُّهُمْ مَدَنِيُّونَ.
قَوْله: (أَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا) وَلِلْمُصَنِّفِ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بَيَانُ الصَّلَاةِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَفْظُهُ: أَخَّرَ الْعَصْرَ شَيْئًا. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: ظَاهِرُ سِيَاقِهِ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ يَوْمًا مَا، لَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَادَةً لَهُ، وَإِنْ كَانَ أَهْلُ بَيْتِهِ مَعْرُوفِينَ بِذَلِكَ اهـ.
وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ قَرِيبًا فِي بَابِ تَضْيِيعِ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا وَكَذَا فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخَّرَ الصَّلَاةَ مَرَّةً يَعْنِي الْعَصْرَ، وَلِلطَّبَرانِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، أَنَّ عُرْوَةَ حَدَّثَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ - وَهُوَ يَوْمَئِذٍ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ فِي زَمَانِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ - وَكَانَ ذَلِكَ زَمَانٌ يُؤَخِّرُونَ فِيهِ الصَّلَاةَ، يَعْنِي بَنِي أُمَيَّةَ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْمُرَادُ أَنَّهُ أَخَّرَهَا حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ الْمُسْتَحَبُّ، لَا أَنَّهُ أَخَّرَهَا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ اهـ. وَيُؤَيِّدُهُ سِيَاقُ رِوَايَةِ اللَّيْثِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ اللَّيْثِيِّ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ دَعَا الْمُؤَذِّنُ لِصَلَاةِ الْعَصْرِ فَأَمْسَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَهَا فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ
قَارَبَ الْمَسَاءَ لَا أَنَّهُ دَخَلَ فِيهِ. وَقَدْ رَجَعَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ ذَلِكَ، فَرَوَى الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ - يَعْنِي فِي خِلَافَتِهِ - كَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ فِي السَّاعَةِ الثَّامِنَةِ وَالْعَصْرَ فِي السَّاعَةِ الْعَاشِرَةِ حِينَ تَدْخُلُ.
قَوْله (أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ أَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا) بَيَّنَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ الصَّلَاةَ الْمَذْكُورَةَ الْعَصْرُ أَيْضًا، وَلَفْظُهُ أَمْسَى الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ بِصَلَاةِ الْعَصْرِ.
قَوْله (وَهُوَ بِالْعِرَاقِ) فِي الْمُوَطَّأِ رِوَايَةُ الْقَعْنَبِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ مَالِكٍ وَهُوَ بِالْكُوفَةِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنْ أَبِي خَلِيفَةَ، عَنِ الْقَعْنَبِيِّ. وَالْكُوفَةُ مِنْ جُمْلَةِ الْعِرَاقِ، فَالتَّعْبِيرُ بِهَا أَخَصُّ مِنَ التَّعْبِيرِ بِالْعِرَاقِ، وَكَانَ الْمُغِيرَةُ إِذْ ذَاكَ أَمِيرًا عَلَيْهَا مِنْ قِبَلِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ.
قَوْله (أَبُو مَسْعُودٍ) أَيْ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو الْبَدْرِيُّ.
قَوْله (مَا هَذَا) أَيِ التَّأْخِيرُ.
قَوْله (أَلَيْسَ) كَذَا الرِّوَايَةُ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ صَحِيحٌ، لَكِنَّ الْأَكْثَرَ فِي الِاسْتِعْمَالِ فِي مُخَاطَبَةِ الْحَاضِرِ أَلَسْتَ وَفِي مُخَاطَبَةِ الْغَائِبِ أَلَيْسَ.
قَوْله (قَدْ عَلِمْتَ) قَالَ عِيَاضٌ: يَدُلُّ ظَاهِرُهُ عَلَى عِلْمِ الْمُغِيرَةِ بِذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الظَّنِّ مِنْ أَبِي مَسْعُودٍ لِعِلْمِهِ بِصُحْبَةِ الْمُغِيرَةِ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلُ رِوَايَةُ شُعَيْبٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ بِلَفْظِ: فَقَالَ لَقَدْ عَلِمْتُ بِغَيْرِ أَدَاةِ اسْتِفْهَامٍ، وَنَحْوُهُ لِعَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ جَمِيعًا.
قَوْله (أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ) بَيَّنَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمُغَازِي أَنَّ ذَلِكَ كَانَ صَبِيحَةَ اللَّيْلَةِ الَّتِي فُرِضَتْ فِيهَا الصَّلَاةُ وَهِيَ لَيْلَةُ الْإِسْرَاءِ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عُتْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ وَغَيْرُهُ: لَمَّا أَصْبَحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ اللَّيْلَةِ الَّتِي أُسْرِيَ بِهِ لَمْ يَرُعْهُ إِلَّا جِبْرِيلُ نَزَلَ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الْأُولَى أَيْ صَلَاةُ الظُّهْرِ، فَأَمَرَ فَصِيحَ بِأَصْحَابِهِ: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ، فَاجْتَمَعُوا، فَصَلَّى بِهِ جِبْرِيلُ وَصَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالنَّاسِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ بَيَانَ الْأَوْقَاتِ إِنَّمَا وَقَعَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَالْحَقُّ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ قَبْلَهَا بِبَيَانِ جِبْرِيلَ، وَبَعْدَهَا بِبَيَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْله (نَزَلَ فَصَلَّى، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ عِيَاضٌ: ظَاهِرُهُ أَنَّ صَلَاتَهُ كَانَتْ بَعْدَ فَرَاغِ صَلَاةِ جِبْرِيلَ، لَكِنَّ الْمَنْصُوصَ فِي غَيْرِهِ أَنَّ جِبْرِيلَ أَمَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ صَلَّى فَصَلَّى عَلَى أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ كُلَّمَا فَعَلَ جُزْءًا مِنَ الصَّلَاةِ تَابَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِفِعْلِهِ اهـ. وَبِهَذَا جَزَمَ النَّوَوِيُّ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: الْفَاءُ بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَقَدَّمُ فِي بَعْضِ الْأَرْكَانِ عَلَى جِبْرِيلَ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ مُطْلَقُ الْجَمْعِ. وَأُجِيبَ بِمُرَاعَاةِ الْحَيْثِيَّةِ وَهِيَ التَّبْيِينُ، فَكَانَ لِأَجْلِ ذَلِكَ يَتَرَاخَى عَنْهُ. وَقِيلَ: الْفَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ كَقولِهِ تَعَالَى: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} وَفِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ: نَزَلَ جِبْرِيلُ فَأَمَّنِي فَصَلَّيْتُ مَعَهُ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ: نَزَلَ فَصَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى النَّاسُ مَعَهُ. وَهَذَا يُؤَيِّدُ رِوَايَةَ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ الْمُتَقَدِّمَةَ، وَإِنَّمَا دَعَاهُمْ إِلَى الصَّلَاةِ بِقَوْلِهِ الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ؛ لِأَنَّ الْأَذَانَ لَمْ يَكُنْ شُرِعَ حِينَئِذٍ، وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ الِائْتِمَامِ بِمَنْ يَأْتَمُّ بِغَيْرِهِ، وَيُجَابُ عَنْهُ بِمَا يُجَابُ بِهِ عَنْ قِصَّةِ أَبِي بَكْرٍ فِي صَلَاتِهِ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَصَلَاةُ النَّاسِ خَلْفَهُ، فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُبَلِّغًا فَقَطْ كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ فِي أَبْوَابِ الْإِمَامَةِ.
وَاسْتُدِلَّ بِهِ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ صَلَاةِ الْمُفْتَرِضِ خَلْفَ الْمُتَنَفِّلِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَيْسُوا مُكَلَّفِينَ بِمِثْلِ مَا كُلِّفَ بِهِ الْإِنْسُ. قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُ. وَأَجَابَ عِيَاضٌ بِاحْتِمَالِ أَنْ لَا تَكُونَ تِلْكَ الصَّلَاةُ كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَئِذٍ. وَتَعَقَّبَهُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهَا كَانَتْ صَبِيحَةَ لَيْلَةِ فَرْضِ الصَّلَاةِ، وَأَجَابَ بِاحْتِمَالِ أَنَّ الْوُجُوبَ عَلَيْهِ كَانَ مُعَلَّقًا بِالْبَيَانِ، فَلَمْ يَتَحَقَّقِ الْوُجُوبُ إِلَّا بَعْدَ تِلْكَ الصَّلَاةِ. قَالَ: وَأَيْضًا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ مُتَنَفِّلًا، بَلْ كَانَتْ تِلْكَ الصَّلَاةُ وَاجِبَةً عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ بِتَبْلِيغِهَا، فَهِيَ صَلَاةُ مُفْتَرِضٍ
خَلْفَ مُفْتَرِضٍ اهـ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: قَدْ يَتَعَلَّقُ بِهِ مَنْ يُجَوِّزُ صَلَاةَ مُفْتَرِضٍ بِفَرْضٍ خَلْفَ مُفْتَرِضٍ بِفَرْضٍ آخَرَ، كَذَا قَالَ، وَهُوَ مُسَلَّمٌ لَهُ فِي صُورَةِ الْمُؤَدَّاةِ مَثَلًا خَلْفَ الْمَقْضِيَّةِ لَا فِي صُورَةِ الظُّهْرِ خَلْفَ الْعَصْرِ مَثَلًا.
قَوْله (بِهَذَا أُمِرْتَ) بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَالْمَعْنَى هَذَا الَّذِي أُمِرْتَ بِهِ أَنْ تُصَلِّيَهُ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَرُوِيَ بِالضَّمِّ، أَيْ هَذَا الَّذِي أُمِرْتُ بِتَبْلِيغِهِ لَكَ.
قَوْله (اعْلَمْ) بِصِيغَةِ الْأَمْرِ.
قَوْله (أَوَ إِنَّ جِبْرِيلَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَهِيَ لِلِاسْتِفْهَامِ وَالْوَاوُ هِيَ الْعَاطِفَةُ، وَالْعَطْفُ عَلَى شَيْءٍ مُقَدَّرٍ وَبِكَسْرِ هَمْزَةِ إِنَّ وَيَجُوزُ الْفَتْحُ.
قَوْله (وُقُوتَ الصَّلَاةِ) كَذَا لِلْمُسْتَمْلِي بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَلِلْبَاقِينَ وَقْتَ الصَّلَاةِ بِالْإِفْرَادِ وَهُوَ لِلْجِنْسِ.
قَوْله (كَذَلِكَ كَانَ بَشِيرٌ) هُوَ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ بِوَزْنِ فَعِيلٍ. وَهُوَ تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ ذُكِرَ فِي الصَّحَابَةِ؛ لِكَوْنِهِ وُلِدَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرَآهُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا السِّيَاقُ مُنْقَطِعٌ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّ ابْنَ شِهَابٍ لَمْ يَقُلْ حَضَرْتُ مُرَاجَعَةَ عُرْوَةَ، لِعُمَرَ، وَعُرْوَةُ لَمْ يَقُلْ حَدَّثَنِي بَشِيرٌ، لَكِنَّ الِاعْتِبَارَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ بِثُبُوتِ اللِّقَاءِ وَالْمُجَالَسَةِ لَا بِالصِّيَغِ اهـ.
وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْحَدِيثَ بِهَذَا الطَّرِيقِ لَيْسَ مُتَّصِلَ الْإِسْنَادِ؛ إِذْ لَمْ يَقُلْ أَبُو مَسْعُودٍ: شَاهَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قُلْتُ: هَذَا لَا يُسَمَّى مُنْقَطِعًا اصْطِلَاحًا، وَإِنَّمَا هُوَ مُرْسَلُ صَحَابِيٍّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكِ الْقِصَّةَ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ بَلَغَهُ عَنْهُ بِتَبْلِيغِ مَنْ شَاهَدَهُ أَوْ سَمِعَهُ كَصَحَابِيٍّ آخَرَ. عَلَى أَنَّ رِوَايَةَ اللَّيْثِ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ تُزِيلُ الْإِشْكَالَ كُلَّهُ، وَلَفْظُهُ: فَقَالَ عُرْوَةُ: سَمِعْتُ بَشِيرَ بْنَ أَبِي مَسْعُودٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَكَذَا سِيَاقُ ابْنِ شِهَابٍ، وَلَيْسَ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِسَمَاعِهِ لَهُ مِنْ عُرْوَةَ، وَابْنُ شِهَابٍ قَدْ جُرِّبَ عَلَيْهِ التَّدْلِيسُ، لَكِنْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ؛ فَذَكَرَهُ. وَفِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: سَمِعْتُ عُرْوَةَ يُحَدِّثُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْحَدِيثَ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَوْلُ عُرْوَةَ: إِنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ لَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِذْ لَمْ يُعَيِّنْ لَهُ الْأَوْقَاتِ. قَالَ: وَغَايَةُ مَا يُتَوَهَّمُ عَلَيْهِ أَنَّهُ نَبَّهَهُ وَذَكَّرَهُ بِمَا كَانَ يَعْرِفُهُ مِنْ تَفَاصِيلِ الْأَوْقَاتِ. قَالَ: وَفِيهِ بُعْدٌ، لِإِنْكَارِ عُمَرَ عَلَى عُرْوَةَ حَيْثُ قَالَ لَهُ اعْلَمْ مَا تُحَدِّثُ يَا عُرْوَةَ قَالَ: وَظَاهِرُ هَذَا الْإِنْكَارِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ إِمَامَةِ جِبْرِيلَ.
قُلْتُ: لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِتَفَاصِيلِ الْأَوْقَاتِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ جِهَةِ الْعَمَلِ الْمُسْتَمِرِّ، لَكِنْ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ أَنَّ أَصْلَهُ بِتَبْيِينِ جِبْرِيلَ بِالْفِعْلِ، فَلِهَذَا اسْتَثْبَتَ فِيهِ، وَكَأَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنْ لَا مُفَاضَلَةَ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ الْوَاحِدِ، وَكَذَا يُحْمَلُ عَمَلُ الْمُغِيرَةِ وَغَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ عَلَى جَوَابِ الْمُغِيرَةِ، لِأَبِي مَسْعُودٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ رَجَعَ إِلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا مَا زَادَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُعَلِّمُ الصَّلَاةَ بِعَلَامَةٍ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا، وَرَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ فِي كِتَابِ الْمَوَاقِيتِ لَهُ مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: مَا زَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَتَعَلَّمُ مَوَاقِيتَ الصَّلَاةِ حَتَّى مَاتَ. وَمِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَكِيمٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ جَعَلَ سَاعَاتٍ يَنْقَضِينَ مَعَ غُرُوبِ الشَّمْسِ زَادَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فَمَا أَخَّرَهَا حَتَّى مَاتَ فَكُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عُمَرَ لَمْ يَكُنْ يَحْتَاطُ فِي الْأَوْقَاتِ كَثِيرَ احْتِيَاطٍ إِلَّا بَعْدَ أَنْ حَدَّثَهُ عُرْوَةُ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ.
(تَنْبِيهٌ): وَرَدَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ بَيَانُ أَبِي مَسْعُودٍ لِلْأَوْقَاتِ، وَفِي ذَلِكَ مَا يَرْفَعُ الْإِشْكَالَ، وَيُوَضِّحُ تَوْجِيهَ احْتِجَاجِ عُرْوَةَ بِهِ، فَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ كِلَاهُمَا عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ هَذَا الْحَدِيثَ بِإِسْنَادِهِ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ: فَرَأَيْت رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الظُّهْرَ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ تَفَرَّدَ بِتَفْسِيرِ الْأَوْقَاتِ فِيهِ، وَأَنَّ أَصْحَابَ الزُّهْرِيِّ لَمْ يَذْكُرُوا ذَلِكَ. قَالَ: وَكَذَا رَوَاهُ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، وَحَبِيبُ بْنُ أَبِي مَرْزُوقٍ، عَنْ عُرْوَةَ لَمْ يَذْكُرَا تَفْسِيرًا اهـ. وَرِوَايَةُ هِشَامٍ أَخْرَجَهَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ، وَرِوَايَةُ حَبِيبٍ أَخْرَجَهَا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ فِي مُسْنَدِهِ.
وَقَدْ وَجَدْتُ مَا يُعَضِّدُ رِوَايَةَ أُسَامَةَ، وَيَزِيدُ عَلَيْهَا أَنَّ الْبَيَانَ مِنْ فِعْلِ جِبْرِيلَ، وَذَلِكَ فِيمَا رَوَاهُ الْبَاغَنْدِيُّ فِي مُسْنَدِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، فَذَكَرَهُ مُنْقَطِعًا، لَكِنْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عُرْوَةَ، فَرَجَّعَ الْحَدِيثَ إِلَى عُرْوَةَ، وَوَضَّحَ أَنَّ لَهُ أَصْلًا، وَأَنَّ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ وَمَنْ تَابَعَهُ اخْتِصَارًا، وَبِذَلِكَ جَزَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَلَيْسَ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ وَمَنْ تَابَعَهُ مَا يَنْفِي الزِّيَادَةَ الْمَذْكُورَةَ فَلَا تُوصَفُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ بِالشُّذُوذِ. وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ: دُخُولُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْأُمَرَاءِ، وَإِنْكَارُهُمْ عَلَيْهِمْ مَا يُخَالِفُ السُّنَّةَ، وَاسْتِثْبَاتُ الْعَالِمِ فِيمَا يَسْتَغْرِبُهُ السَّامِعُ، وَالرُّجُوعُ عِنْدَ التَّنَازُعِ إِلَى السُّنَّةِ.
وَفِيهِ فَضِيلَةُ عُمَرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَفِيهِ فَضِيلَةُ الْمُبَادَرَةِ بِالصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ الْفَاضِلِ. وَقَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ الثَّبَتِ. وَاسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ الْحُجَّةَ بِالْمُتَّصِلِ دُونَ الْمُنْقَطِعِ؛ لِأَنَّ عُرْوَةَ أَجَابَ عَنِ اسْتِفْهَامِ عُمَرَ لَهُ لَمَّا أَنْ أَرْسَلَ الْحَدِيثَ بِذِكْرِ مَنْ حَدَّثَهُ بِهِ فَرَجَعَ إِلَيْهِ، فَكَأَنَّ عُمَرَ قَالَ لَهُ: تَأَمَّلْ مَا تَقُولُ، فَلَعَلَّهُ بَلَغَكَ عَنْ غَيْرِ ثَبْتٍ. فَكَأَنَّ عُرْوَةَ قَالَ لَهُ: بَلْ قَدْ سَمِعْتُهُ مِمَّنْ قَدْ سَمِعَ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالصَّاحِبُ قَدْ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَاسْتَدَلَّ بِهِ عِيَاضٌ عَلَى جَوَازِ الِاحْتِجَاجِ بِمُرْسَلِ الثِّقَةِ كَصَنِيعِ عُرْوَةَ حِينَ احْتَجَّ عَلَى عُمَرَ قَالَ: وَإِنَّمَا رَاجَعَهُ عُمَرُ لِتَثَبُّتِهِ فِيهِ لَا لِكَوْنِهِ لَمْ يَرْضَ بِهِ مُرْسَلًا. كَذَا قَالَ، وَظَاهِرُ السِّيَاقِ يَشْهَدُ لِمَا قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ أَيْضًا: فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى ضَعْفِ الْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي أَنَّ جِبْرِيلَ أَمَّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي يَوْمَيْنِ لِوَقْتَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لِكُلِّ صَلَاةٍ، قَالَ: لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَمْ يُنْكِرْ عُرْوَةُ عَلَى عُمَرَ صَلَاتَهُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ مُحْتَجًّا بِصَلَاةِ جِبْرِيلَ، مَعَ أَنَّ جِبْرِيلَ قَدْ صَلَّى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فِي آخِرِ الْوَقْتِ، وَقَالَ: الْوَقْتُ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ وَأُجِيبُ بِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ صَلَاةُ عُمَرَ كَانَتْ خَرَجَتْ عَنْ وَقْتِ الِاخْتِيَارِ وَهُوَ مَصِيرُ ظَلِّ الشَّيْءِ مَثْلَيْهِ، لَا عَنْ وَقْتِ الْجَوَازِ وَهُوَ مَغِيبُ الشَّمْسِ، فَيَتَّجِهُ إِنْكَارُ عُرْوَةَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ ضَعْفُ الْحَدِيثِ. أَوْ يَكُونُ عُرْوَةُ أَنْكَرَ مُخَالَفَةَ مَا وَاظَبَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الصَّلَاةُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَرَأَى أَنَّ الصَّلَاةَ بَعْدَ ذَلِكَ إِنَّمَا هِيَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ ضَعْفُ الْحَدِيثِ أَيْضًا.
وَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ مُرْسَلًا قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي الصَّلَاةَ وَمَا فَاتَتْهُ، وَلمَا فَاتَهُ مِنْ وَقْتِهَا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ قَوْلِهِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ احْتِجَاجُ عُرْوَةَ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي كَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ فِي حُجْرَتِهَا، وَهِيَ الصَّلَاةُ الَّتِي وَقَعَ الْإِنْكَارُ بِسَبَبِهَا، وَبِذَلِكَ تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ ذِكْرِهِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ بَعْدَ حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ يُشْعِرُ بِمُوَاظَبَتِهِ عَلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَحَدِيثُ أَبِي مَسْعُودٍ يُشْعِرُ بِأَنَّ أَصْلَ بَيَانِ الْأَوْقَاتِ كَانَ بِتَعْلِيمِ جِبْرِيلَ.
522 -
قَالَ عُرْوَةُ: وَلَقَدْ حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ فِي حُجْرَتِهَا قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ.
[الحديث 522 - أطرافه في: 3103، 546، 545، 544]
قَوْله (قَالَ عُرْوَةُ: وَلَقَدْ حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: هُوَ إِمَّا مَقُولُ ابْنِ شِهَابٍ أَوْ تَعْلِيقٌ مِنَ الْبُخَارِيِّ.
قُلْتُ: الِاحْتِمَالُ الثَّانِي - عَلَى بُعْدِهِ - مُغَايِرٌ لِلْوَاقِعِ، كَمَا سَيَظْهَرُ فِي بَابِ وَقْتِ الْعَصْرِ قَرِيبًا. فَقَدْ ذَكَرَهُ مُسْنَدًا عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، فَهُوَ مَقُولُهُ وَلَيْسَ بِتَعْلِيقٍ، وَسَنَذْكُرُ الْكَلَامَ عَلَى فَوَائِدِهِ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
2 - بَاب: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
523 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادٌ - هُوَ ابْنُ عَبَّادٍ -، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: إِنَّا مِنْ هَذَا الْحَيِّ مِنْ رَبِيعَةَ، وَلَسْنَا نَصِلُ إِلَيْكَ إِلَّا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَمُرْنَا بِشَيْءٍ نَأْخُذْهُ عَنْكَ وَنَدْعُو إِلَيْهِ مَنْ وَرَاءَنَا. فَقَالَ: آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: الْإِيمَانِ بِاللَّهِ - ثُمَّ فَسَّرَهَا لَهُمْ - شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَأَنْ تُؤَدُّوا إِلَيَّ خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ. وَأَنْهَى عَنْ الدُّبَّاءِ، وَالْحَنْتَمِ، وَالْمُقَيَّرِ، وَالنَّقِيرِ.
[انظر الحديث 53 وأطرافه]
قَوْلُهُ بَابُ {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} كَذَا عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ بِتَنْوِينِ بَابٍ، وَلِغَيْرِهِ: بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى بِالْإِضَافَةِ.
وَالْمُنِيبُ: التَّائِبُ، مِنَ الْإِنَابَةِ وَهِيَ الرُّجُوعُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ يَرَى تَكْفِيرَ تَارِكِ الصَّلَاةِ لِمَا يَقْتَضِيهِ مَفْهُومُهَا، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ مِنْ أَفْعَالِ الْمُشْرِكِينَ، فَوَرَدَ النَّهْيُ عَنِ التَّشَبُّهِ بِهِمْ، لَا أَنَّ مَنْ وَافَقَهُمْ فِي التَّرْكِ صَارَ مُشْرِكًا. وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ فِي فَضْلِ الصَّلَاةِ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِحَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ أَنَّ فِي الْآيَةِ اقْتِرَانُ نَفْيِ الشِّرْكِ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَفِي الْحَدِيثِ اقْتِرَانُ إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ بِإِقَامَتِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ.
وَقَوْله فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: حَدَّثَنَا عَبَّادٌ وَهُوَ ابْنُ عَبَّادٍ كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَقَطَتِ الْوَاوُ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ مِمَّنْ وَافَقَ اسْمُهُ اسْمَ أَبِيهِ، وَاسْمُ جَدِّهِ حَبِيبُ بْنُ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّا هَذَا الْحَيَّ هُوَ بِالنَّصْبِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
3 - بَاب الْبَيْعَةِ عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ
524 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَيْسٌ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ.
[انظر الحديث 57 وأطرافه]
قَوْلُهُ (بَابُ الْبَيْعَةِ عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ) وَفِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ إِقَامَةِ وَالْمُرَادُ بِالْبَيْعَةِ الْمُبَايَعَةُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوَّلُ مَا يَشْتَرِطُ بَعْدَ التَّوْحِيدِ إِقَامَةُ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا رَأْسُ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، ثُمَّ أَدَاءُ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهَا رَأْسُ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ، ثُمَّ يُعَلِّمُ كُلَّ قَوْمٍ مَا حَاجَتُهُمْ إِلَيْهِ أَمَسُّ، فَبَايَعَ جَرِيرًا عَلَى النَّصِيحَةِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ سَيِّدَ قَوْمِهِ، فَأَرْشَدَهُ إِلَى تَعْلِيمِهِمْ بِأَمْرِهِ بِالنَّصِيحَةِ لَهُمْ، وَبَايَعَ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى أَدَاءِ الْخُمْسِ لِكَوْنِهِمْ كَانُوا أَهْلَ مُحَارَبَةِ مع مَنْ يَلِيهِمْ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ جَرِيرٍ أَيْضًا مُسْتَوْفًى فِي آخِرِ كِتَابِ الْإِيمَانِ.
وَيَحْيَى فِي الْإِسْنَادِ أَيْضًا هُوَ الْقَطَّانُ، وَإِسْمَاعِيلُ هُوَ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ، وَقَيْسٌ هُوَ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ.
4 - باب الصَّلَاةُ كَفَّارَةٌ
525 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ الْأَعْمَشِ، قَالَ: حَدَّثَنِي شَقِيقٌ، قَالَ: سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ عُمَرَ رضي الله عنه فَقَالَ: أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْفِتْنَةِ؟ قُلْتُ: أَنَا، كَمَا قَالَهُ. قَالَ: إِنَّكَ عَلَيْهِ - أَوْ عَلَيْهَا - لَجَرِيءٌ. قُلْتُ: فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَالصَّدَقَةُ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ. قَالَ: لَيْسَ هَذَا أُرِيدُ، وَلَكِنْ الْفِتْنَةُ الَّتِي تَمُوجُ كَمَا يَمُوجُ الْبَحْرُ. قَالَ: لَيْسَ عَلَيْكَ مِنْهَا بَأْسٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا. قَالَ: أَيُكْسَرُ أَمْ يُفْتَحُ؟ قَالَ: يُكْسَرُ. قَالَ: إِذن لَا يُغْلَقَ أَبَدًا. قُلْنَا: أَكَانَ عُمَرُ يَعْلَمُ الْبَابَ؟ قَالَ: نَعَمْ. كَمَا أَنَّ دُونَ الْغَدِ اللَّيْلَةَ. إِنِّي حَدَّثْتُهُ بِحَدِيثٍ لَيْسَ بِالْأَغَالِيطِ. فَهِبْنَا أَنْ نَسْأَلَ حُذَيْفَةَ، فَأَمَرْنَا مَسْرُوقًا فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: الْبَابُ عُمَرُ.
[الحديث 525 - أطرافه في: 7096، 3586، 1895، 1435]
قَوْلُهُ (بَابُ الصَّلَاةِ كَفَّارَةٌ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْمُسْتَمْلِي بَابُ تَكْفِيرِ الصَّلَاةِ.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا يَحْيَى) هُوَ الْقَطَّانُ، وَشَقِيقٌ هُوَ ابْنُ سَلَمَةَ أَبُو وَائِلٍ.
قَوْلُهُ (سمعت حذيفة) لِلْمُسْتَمْلِي حَدَّثَنِي حُذَيْفَةُ.
قَوْلُهُ (فِي الْفِتْنَةِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ إِطْلَاقِ اللَّفْظِ الْعَامِّ وَإِرَادَةِ الْخَاصِّ. إِذْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْ إِلَّا عَنْ فِتْنَةٍ مَخْصُوصَةٍ. وَمَعْنَى الْفِتْنَةِ فِي الْأَصْلِ الِاخْتِبَارُ وَالِامْتِحَانُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَتْ فِي كُلِّ أَمْرٍ يَكْشِفُهُ الِامْتِحَانُ عَنْ سُوءٍ. وَتُطْلَقُ عَلَى الْكُفْرِ، وَالْغُلُوِّ فِي التَّأْوِيلِ الْبَعِيدِ، وَعَلَى الْفَضِيحَةِ وَالْبَلِيَّةِ وَالْعَذَابِ وَالْقِتَالِ وَالتَّحَوُّلِ مِنَ الْحَسَنِ إِلَى الْقَبِيحِ وَالْمَيْلِ إِلَى الشَّيْءِ وَالْإِعْجَابِ بِهِ، وَتَكُونُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}
قَوْلُهُ (أَنَا كَمَا قَالَهُ) أَيْ أَنَا أَحْفَظُ مَا قَالَهُ، وَالْكَافُ زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، أَوْ هِيَ بِمَعْنَى عَلَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْمِثْلِيَّةُ، أَيْ أَقُولُ مِثْلَ مَا قَالَهُ.
قَوْلُهُ (عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (أَوْ عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى الْمَقَالَةِ، وَالشَّكُّ مِنْ أَحَدِ رُوَاتِهِ.
قَوْلُهُ (الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ) أَيِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الزَّكَاةِ.
قَوْلُهُ (قُلْنَا) هُوَ مَقُولُ شَقِيقٍ. وَقَوْلُهُ (إِنِّي حَدَّثْتُهُ) هُوَ مَقُولُ حُذَيْفَةَ. وَ (الْأَغَالِيطُ) جَمْعُ أُغْلُوطَةٍ. وَقَوْلُهُ (فَهَبْنَا) أَيْ خِفْنَا، وَهُوَ مَقُولُ شَقِيقٍ أَيْضًا. وَقَوْلُهُ (الْبَابُ عُمَرُ) لَا يُغَايِرُ قَوْلَهُ قَبْلَ ذَلِكَ (إِنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفِتْنَةِ بَابًا)؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا، أَيْ بَيْنَ زَمَانِكَ وَبَيْنَ زَمَانِ الْفِتْنَةِ وُجُودُ حَيَاتِكَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
526 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِنْ امْرَأَةٍ قُبْلَةً، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ. أَلِي هَذَا؟ قَالَ: لِجَمِيعِ أُمَّتِي كُلِّهِمْ.
[الحديث 526 - طرفه في: 4687]
قَوْلُهُ (أَنَّ رَجُلًا) هُوَ أَبُو الْيَسَرِ - بِفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ وَالْمُهْمَلَةِ - الْأَنْصَارِيُّ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقِيلَ غَيْرُهُ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ الْمَرْأَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَكِنْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ أَنَّهَا مِنَ الْأَنْصَارِ.
قَوْلُهُ (لِجَمِيعِ أُمَّتِي كُلِّهِمْ) فِيهِ مُبَالَغَةٌ فِي التَّأْكِيدِ، وَسَقَطَ كُلِّهمْ مِنْ رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي آخِرِ تَفْسِيرِ سُورَةِ
هُودٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاحْتَجَّ الْمُرْجِئَةُ بِظَاهِرِهِ، وَظَاهِرِ الَّذِي قَبْلَهُ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْخَيْرِ مُكَفِّرَةٌ لِلْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ، وَحَمَلَهُ جُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى الصَّغَائِرِ، عَمَلًا بِحَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ كَمَا سَيَأْتِي بَسْطُهُ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
5 - بَاب فَضْلِ الصَّلَاةِ لِوَقْتِهَا
527 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: الْوَلِيدُ بْنُ الْعَيْزَارِ، أَخْبَرَنِي قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَمْرٍو الشَّيْبَانِيَّ يَقُولُ: حَدَّثَنَا صَاحِبُ هَذِهِ الدَّارِ - وَأَشَارَ إِلَى دَارِ عَبْدِ اللَّهِ - قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا. قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ. قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قَالَ: حَدَّثَنِي بِهِنَّ، وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي.
[الحديث 527 - أطرافه في: 7534، 5970، 2782]
قَوْلُهُ (بَابُ فَضْلِ الصَّلَاةِ لِوَقْتِهَا) كَذَا تَرْجَمَ، وَأَوْرَدَهُ بِلَفْظِ عَلَى وَقْتِهَا وَهِيَ رِوَايَةُ شُعْبَةَ وَأَكْثَرِ الرُّوَاةِ، نَعَمْ أَخْرَجَهُ فِي التَّوْحِيدِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِلَفْظِ التَّرْجَمَةِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِاللَّفْظَيْنِ.
قَوْلُهُ (قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْعَيْزَارِ أَخْبَرَنِي) هُوَ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا صَاحِبُ هَذِهِ الدَّارِ) كَذَا رَوَاهُ شُعْبَةُ مُبْهَمًا، وَرَوَاهُ مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الْجِهَادِ وَأَبُو إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ فِي التَّوْحِيدِ عَنِ الْوَلِيدِ فَصَرَّحَا بَاسِمِ عَبْدِ اللَّهِ، وَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ النَّخَعِيِّ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ، وَأَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ.
قَوْلُهُ (وَأَشَارَ بِيَدِهِ) فِيهِ الِاكْتِفَاءُ بِالْإِشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ عَنِ التَّصْرِيحِ، وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ.
قَوْلُهُ (أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ) فِي رِوَايَةِ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ وَكَذَا لِأَكْثَرِ الرُّوَاةِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ هُوَ الْمَسْئُولُ بِهِ فَلَفْظُ حَدِيثِ الْبَابِ مَلْزُومٌ عَنْهُ. وَمُحَصِّلُ مَا أَجَابَ بِهِ الْعُلَمَاءُ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ مِمَّا اخْتَلَفَتْ فِيهِ الْأَجْوِبَةُ بِأَنَّهُ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ أَنَّ الْجَوَابَ اخْتَلَفَ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ السَّائِلِينَ بِأَنْ أَعْلَمَ كُلَّ قَوْمٍ بِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، أَوْ بِمَا لَهُمْ فِيهِ رَغْبَةٌ، أَوْ بِمَا هُوَ لَائِقٌ بِهِمْ، أَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ بِأَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَفْضَلَ مِنْهُ فِي غَيْرِهِ، فَقَدْ كَانَ الْجِهَادُ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ؛ لِأَنَّهُ الْوَسِيلَةُ إِلَى الْقِيَامِ بِهَا وَالتَّمَكُّنِ مِنْ أَدَائِهَا، وَقَدْ تَضَافَرَتِ النُّصُوصُ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَفِي وَقْتِ مُوَاسَاةِ الْمُضْطَرِّ تَكُونُ الصَّدَقَةُ أَفْضَلَ، أَوْ أَنَّ أَفْضَلَ لَيْسَتْ عَلَى بَابِهَا، بَلِ الْمُرَادُ بِهَا الْفَضْلُ الْمُطْلَقُ، أَوِ الْمُرَادُ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ فَحُذِفَتْ مِنْ وَهِيَ مُرَادَةٌ.
وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الْأَعْمَالُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْبَدَنِيَّةِ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ الِاحْتِرَازَ عَنِ الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ، فَلَا تَعَارُضَ حِينَئِذٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ إِيمَانٌ بِاللَّهِ. الْحَدِيثَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمُرَادُ بِالْجِهَادِ هُنَا مَا لَيْسَ بِفَرْضِ عَيْنٍ؛ لِأَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِذْنِ الْوَالِدَيْنِ فَيَكُونُ بِرُّهُمَا مُقَدَّمًا عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ (الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ أَنَّ الْبِدَارَ إِلَى الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِهَا أَفْضَلُ مِنَ التَّرَاخِي فِيهَا؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا شَرَطَ فِيهَا أَنْ تَكُونَ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِذَا أُقِيمَتْ لِوَقْتِهَا الْمُسْتَحَبِّ.
قُلْتُ: وَفِي أَخْذِ ذَلِكَ مِنَ اللَّفْظِ الْمَذْكُورِ نَظَرٌ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَيْسَ فِي هَذَا اللَّفْظِ مَا يَقْتَضِي أَوَّلًا وَلَا آخِرًا، وَكَأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ الِاحْتِرَازُ عَمَّا إِذَا وَقَعَتْ قَضَاءً. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ إِخْرَاجَهَا عَنْ وَقْتِهَا مُحَرَّمٌ، وَلَفْظُ أَحَبَّ يَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ فِي الِاسْتِحْبَابِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ الِاحْتِرَازُ عَنْ إِيقَاعِهَا آخِرَ الْوَقْتِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُشَارَكَةَ إِنَّمَا هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَعْمَالِ، فَإِنْ وَقَعَتِ الصَّلَاةُ فِي وَقْتِهَا كَانَتْ
أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ غَيْرِهَا مِنَ الْأَعْمَالِ؛ فَوَقَعَ الِاحْتِرَازُ عَمَّا إِذَا وَقَعَتْ خَارِجَ وَقْتِهَا مِنْ مَعْذُورٍ كَالنَّائِمِ وَالنَّاسِي، فَإِنَّ إِخْرَاجَهُمَا لَهَا عَنْ وَقْتِهَا لَا يُوصَفُ بِالتَّحْرِيمِ وَلَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ مَعَ كَوْنِهِ مَحْبُوبًا، لَكِنَّ إِيقَاعَهَا فِي الْوَقْتِ أَحَبُّ.
(تَنْبِيهٌ) اتَّفَقَ أَصْحَابُ شُعْبَةَ عَلَى اللَّفْظِ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَنْ وَقْتِهَا وَخَالَفَهُمْ عَلِيُّ بْنُ حَفْصٍ وَهُوَ شَيْخٌ صَدُوقٌ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ، فَقَالَ: الصَّلَاةُ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا. أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، والدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: مَا أَحْسَبُهُ حَفِظَهُ؛ لِأَنَّهُ كَبُرَ وَتَغَيَّرَ حِفْظُهُ.
قُلْتُ: وَرَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْمَعْمَرِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ عَنْ أَبِي مُوسَى مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ كَذَلِكَ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ الْمَعْمَرِيُّ، فَقَدْ رَوَاهُ أَصْحَابُ أَبِي مُوسَى عَنْهُ بِلَفْظِ عَلَى وَقْتِهَا ثُمَّ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، عَنِ الْمَحَامِلِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى كَرِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ، وَهَكَذَا رَوَاهُ أَصْحَابُ غُنْدَرٍ عَنْهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْمَرِيَّ وَهِمَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ مِنْ حِفْظِهِ، وَقَدْ أَطْلَقَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ أَنَّ رِوَايَةَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا ضَعِيفَةٌ اهـ، لَكِنْ لَهَا طَرِيقٌ أُخْرَى أَخْرَجَهَا ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ، عَنْ عُمَرَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ، عَنِ الْوَلِيدِ، وَتَفَرَّدَ عُثْمَانُ بِذَلِكَ، وَالْمَعْرُوفُ عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ كَرِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ، كَذَا أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ، وَكَأَنَّ مَنْ رَوَاهَا كَذَلِكَ ظَنَّ أَنَّ الْمَعْنَى وَاحِد، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَخَذَهُ مِنْ لَفْظَةِ عَلَى؛ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي الِاسْتِعْلَاءَ عَلَى جَمِيعِ الْوَقْتِ فَيَتَعَيَّنُ أَوَّلُهُ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ: قَوْلُهُ لِوَقْتِهَا اللَّامُ لِلِاسْتِقْبَالِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أَيْ مُسْتَقْبِلَاتٍ عِدَّتَهُنَّ، وَقِيلَ لِلِابْتِدَاءِ؛ كَقولِهِ تَعَالَى:{أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} وَقِيلَ بِمَعْنَى فِي، أَيْ فِي وَقْتِهَا. وَقَوْلُهُ: عَلَى وَقْتِهَا قِيلَ عَلَى بِمَعْنَى اللَّامِ فَفِيهِ مَا تَقَدَّمَ، وَقِيلَ لِإِرَادَةِ الِاسْتِعْلَاءِ عَلَى الْوَقْتِ، وَفَائِدَتُهُ تَحَقُّقُ دُخُولِ الْوَقْتِ لِيَقَعَ الْأَدَاءُ فِيهِ.
قَوْلُهُ (ثُمَّ أَيُّ) قِيلَ: الصَّوَابُ أَنَّهُ غَيْرُ مُنَوَّنٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَوْقُوفٍ عَلَيْهِ فِي الْكَلَامِ، وَالسَّائِلُ يَنْتَظِرُ الْجَوَابَ، وَالتَّنْوِينُ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فَتَنْوِينُهُ وَوَصْلُهُ بِمَا بَعْدَهُ خَطَأٌ، فَيُوقَفُ عَلَيْهِ وَقْفَةً لَطِيفَةً، ثُمَّ يُؤْتَى بِمَا بَعْدَهُ قَالَهُ الْفَاكِهَانِيُّ. وَحَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ، عَنِ ابْنِ الْخَشَّابِ الْجَزْمَ بِتَنْوِينِهِ؛ لِأَنَّهُ مُعْرَبٌ غَيْرُ مُضَافٍ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ مُضَافٌ تَقْدِيرًا وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ مَحْذُوفٌ لَفْظًا، وَالتَّقْدِيرُ: ثُمَّ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ؟ فَيُوقَفُ عَلَيْهِ بِلَا تَنْوِينٍ. وَقَدْ نَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّهَا تُعْرَبُ وَلَكِنَّهَا تُبْنَى إِذَا أُضِيفَتْ، وَاسْتَشْكَلَهُ الزَّجَّاجُ.
قَوْلُهُ (قَالَ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْمُسْتَمْلِي قَالَ ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ بِزِيَادَةِ ثُمَّ، قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا الْحَدِيثُ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ تَفْسِيرِ ابْنِ عُيَيْنَةَ حَيْثُ قَالَ: مَنْ صَلَّى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فَقَدْ شَكَرَ اللَّهَ، وَمَنْ دَعَا لِوَالِدَيْهِ عَقِبَهَا فَقَدْ شَكَرَ لَهُمَا.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنِي بِهِنَّ) هُوَ مَقُولُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَفِيهِ تَقْرِيرٌ وَتَأْكِيدٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ بَاشَرَ السُّؤَالَ وَسَمِعَ الْجَوَابَ.
قَوْلُهُ (وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ) يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ وَهُوَ مَرَاتِبُ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ مِنْ مُطْلَقِ الْمَسَائِلِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا، وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْمَسْعُودِيِّ، عَنِ الْوَلِيدِ: فَسَكَتَ عَنِّي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي. فَكَأَنَّهُ اسْتَشْعَرَ مِنْهُ مَشَقَّةً، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: فَمَا تَرَكْتُ أَنْ أَسْتَزِيدَهُ إِلَّا إِرْعَاءً عَلَيْهِ. أَيْ شَفَقَةً عَلَيْهِ لِئَلَّا يَسْأَمَ.
وَفِي الْحَدِيثِ فَضْلُ تَعْظِيمِ الْوَالِدَيْنِ، وَأَنَّ أَعْمَالَ الْبِرِّ يُفَضَّلُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ. وَفِيهِ السُّؤَالُ عَنْ مَسَائِلَ شَتَّى فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَالرِّفْقُ بِالْعَالِمِ، وَالتَّوَقُّفُ عَنِ الْإِكْثَارِ عَلَيْهِ خَشْيَةَ مَلَالِهِ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ مِنْ تَعْظِيمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالشَّفَقَةِ عَلَيْهِ، وَمَا كَانَ هُوَ عَلَيْهِ مِنْ إِرْشَادِ الْمُسْتَرْشِدِينَ وَلَوْ شَقَّ عَلَيْهِ. وَفِيهِ أَنَّ الْإِشَارَةَ تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ التَّصْرِيحِ إِذَا كَانَتْ مُعَيَّنَةً لِلْمُشَارِ إِلَيْهِ مُمَيَّزَةً لَهُ عَنْ غَيْرِهِ. قَالَ ابْنُ بَزِيزَةَ: الَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ تَقَديمُ الْجِهَادِ عَلَى جَمِيعِ أَعْمَالِ الْبَدَنِ؛ لِأَنَّ
فِيهِ بَذْلَ النَّفْسِ، إِلَّا أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَأَدَائِهَا فِي أَوْقَاتِهَا وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى بِرِّ الْوَالِدَيْنِ أَمْرٌ لَازِمٌ مُتَكَرِّرٌ دَائِمٌ لَا يَصْبِرُ عَلَى مُرَاقَبَةِ أَمْرِ اللَّهِ فِيهِ إِلَّا الصِّدِّيقُونَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
6 - بَاب الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ كَفَّارَةٌ
528 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، وَالدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهَرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسًا مَا تَقُولُ ذَلِكَ يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ؟ قَالُوا: لَا يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ شَيْئًا. قَالَ: فَذَلِكَ مِثْلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا.
قَوْلُهُ (بَابٌ) بِالتَّنْوِينِ (الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ كَفَّارَةٌ) كَذَا ثَبَتَ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، وَهِيَ أَخَصُّ مِنَ التَّرْجَمَةِ السَّابِقَةِ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا. وَسَقَطَتِ التَّرْجَمَةُ مِنْ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَعَلَيْهِ مَشَى ابْنُ بَطَّالٍ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَزَادَ الْكُشْمِيهَنِيُّ بَعْدَ قَوْلِهِ كَفَّارَةٌ لِلْخَطَايَا إِذَا صَلَّاهُنَّ لِوَقْتِهِنَّ فِي الْجَمَاعَةِ وَغَيْرِهَا.
قَوْلُهُ (ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، وَالدَّرَاوَرْدِيُّ) كُلٌّ مِنْهُمَا يُسَمَّى عَبْدُ الْعَزِيزِ، وَهُمَا مَدَنِيَّانِ، وَكَذَا بَقِيَّةُ رِجَالِ الْإِسْنَادِ.
قَوْلُهُ (عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ ابْنِ أَبِي أُسَامَةَ بْنِ الْهَادِ اللَّيْثِيِّ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ، وَلَمْ أَرَ هَذَا الْحَدِيثَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ إِلَّا مِنْ طَرِيقِهِ. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَبَكْرِ بْنِ مُضَرَ كِلَاهُمَا عَنْهُ. نَعَمْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْهُ، لَكِنَّهُ شَاذٌّ؛ لِأَنَّ أَصْحَابَ الْأَعْمَشِ إِنَّمَا رَوَوْهُ عَنْهُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
قَوْلُهُ (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ) هُوَ التَّيْمِيُّ رَاوِي حَدِيثِ الْأَعْمَالِ، وَهُوَ مِنَ التَّابِعِينَ أَيْضًا، فَفِي الْإِسْنَادِ ثَلَاثَةٌ تَابِعِيُّونَ عَلَى نَسَقٍ
قَوْلُهُ (أَرَأَيْتُمْ) هُوَ اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ مُتَعَلِّقٍ بِالِاسْتِخْبَارِ، أَيْ أَخْبِرُونِي هَلْ يَبْقَى.
قَوْلُهُ (لَوْ أَنَّ نَهْرًا) قَالَ الطِّيبِيُّ: لَفْظُ لَوْ يَقْتَضِي أَنْ يَدْخُلَ عَلَى الْفِعْلِ وَأَنْ يُجَابَ، لَكِنَّهُ وَضَعَ الِاسْتِفْهَامَ مَوْضِعَهُ تَأْكِيدًا وَتَقْرِيرًا، وَالتَّقْدِيرُ لَوْ ثَبَتَ نَهْرٌ صِفَتُهُ كَذَا لَمَا بَقِيَ كَذَا، وَالنَّهْرُ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَسُكُونِهَا مَا بَيْنَ جَنْبَيِ الْوَادِي، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِسِعَتِهِ، وَكَذَلِكَ سُمِّيَ النَّهَارُ لِسِعَةِ ضَوْئِهِ.
قَوْلُهُ (مَا تَقُولُ) كَذَا فِي النُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ بِإِفْرَادِ الْمُخَاطَبِ، وَالْمَعْنَى مَا تَقُولُ يَا أَيُّهَا السَّامِعُ؟ وَلِأَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ عَلَى مُسْلِمٍ، وَكَذَا لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَالْجَوْزَقِيِّ مَا تَقُولُونَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَالْإِشَارَةُ فِي ذَلِكَ إِلَى الِاغْتِسَالِ، قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: فِيهِ شَاهِدٌ عَلَى إِجْرَاءِ فِعْلِ الْقَوْلِ مَجْرَى فِعْلِ الظَّنِّ، وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مُضَارِعًا مُسْنَدًا إِلَى الْمُخَاطَبِ مُتَّصِلًا بِاسْتِفْهَامٍ.
قَوْلُهُ (يُبْقِي) بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ.
قَوْلُهُ (مِنْ دَرَنِهِ) زَادَ مُسْلِمٌ شَيْئًا وَالدَّرَنُ الْوَسَخُ، وَقَدْ يُطْلَقُ الدَّرَنُ عَلَى الْحَبِّ الصِّغَارِ الَّتِي تَحْصُلُ فِي بَعْضِ الْأَجْسَادِ، وَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ.
قَوْلُهُ (قَالُوا لَا يُبْقِي) بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْضًا، وَ (شَيْئًا) مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ. وَلِمُسْلِمٍ لَا يَبْقَى بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَشَيْءٌ بِالرَّفْعِ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَذَلِكَ جَوَابُ شَيْءٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ إِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ عِنْدَكُمْ فَهُوَ مِثْلُ الصَّلَوَاتِ إِلَخْ. وَفَائِدَةُ التَّمْثِيلِ التَّأْكِيدُ، وَجَعْلُ الْمَعْقُولِ كَالْمَحْسُوسِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ مُبَالَغَةٌ فِي نَفْيِ الذُّنُوبِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْتَصِرُوا فِي الْجَوَابِ عَلَى لَا بل أَعَادُوا اللَّفْظَ تَأْكِيدًا. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَجْهُ التَّمْثِيلِ أَنَّ الْمَرْءَ كَمَا يَتَدَنَّسُ بِالْأَقْذَارِ الْمَحْسُوسَةِ فِي بَدَنِهِ وَثِيَابِهِ وَيُطَهِّرُهُ الْمَاءُ الْكَثِيرُ، فَكَذَلِكَ الصَّلَوَاتُ تُطَهِّرُ الْعَبْدَ عَنْ أَقْذَارِ
الذُّنُوبِ حَتَّى لَا تُبْقِي لَهُ ذَنْبًا إِلَّا أَسْقَطَتْهُ انْتَهَى. وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَطَايَا فِي الْحَدِيثِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ، لَكِنْ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: يُؤْخَذُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُرَادَ الصَّغَائِرُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ شَبَّهَ الْخَطَايَا بِالدَّرَنِ، وَالدَّرَنُ صَغِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ مِنَ الْقُرُوحِ وَالْخُرَاجَاتِ، انْتَهَى.
وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالدَّرَنِ فِي الْحَدِيثِ الْحَبُّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْوَسَخُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُنَاسِبُهُ الِاغْتِسَالُ وَالتَّنَظُّفُ. وَقَدْ جَاءَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ، وَهُوَ فِيمَا أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ بِهِ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا كَانَ لَهُ مُعْتَمَلٌ، وَبَيْنَ مُنْزِلِهِ وَمُعْتَمَلِهِ خَمْسَةُ أَنْهَارٍ، فَإِذَا انْطَلَقَ إِلَى مُعْتَمَلِهِ عَمِلَ مَا شَاءَ اللَّهُ فَأَصَابَهُ وَسَخٌ أَوْ عَرَقٍ، فَكُلَّمَا مَرَّ بِنَهْرٍ اغْتَسَلَ مِنْهُ. الْحَدِيثَ. وَلِهَذَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ تَسْتَقِلُّ بِتَكْفِيرِ جَمِيعِ الذُّنُوبِ، وَهُوَ مُشْكِلٌ، لَكِنْ رَوَى مُسْلِمٌ قَبْلَهُ حَدِيثَ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهَا مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ. فَعَلَى هَذَا الْمُقَيَّدِ يُحْمَلُ مَا أُطْلِقَ فِي غَيْرِهِ.
(فَائِدَةٌ): قَالَ ابْنُ بَزِيزَةَ فِي شَرْحِ الْأَحْكَامِ: يَتَوَجَّهُ عَلَى حَدِيثِ الْعَلَاءِ إِشْكَالٌ يَصْعُبُ التَّخَلُّصُ مِنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الصَّغَائِرَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ مُكَفَّرَةٌ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا الَّذِي تُكَفِّرُهُ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ؟ انْتَهَى. وَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ شَيْخُنَا الْإِمَامُ الْبُلْقِينِيُّ بِأَنَّ السُّؤَالَ غَيْرُ وَارِدٍ؛ لِأَنَّ مُرَادَ اللَّهِ {إِنْ تَجْتَنِبُوا} أَيْ فِي جَمِيعِ الْعُمُرِ، وَمَعْنَاهُ الْمُوَافَاةُ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ وَقْتِ الْإِيمَانِ أَوِ التَّكْلِيفِ إِلَى الْمَوْتِ، وَالَّذِي فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ تُكَفِّرُ مَا بَيْنَهَا - أَيْ فِي يَوْمِهَا - إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَعَلَى هَذَا لَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ، انْتَهَى. وَعَلَى تَقْدِيرِ وُرُودِ السُّؤَالِ فَالتَّخَلُّصُ مِنْهُ بِحَمْدِ اللَّهِ سَهْلٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَتِمُّ اجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ إِلَّا بِفِعْلِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْهَا لَمْ يَعُدْ مُجْتَنِبًا لِلْكَبَائِرِ؛ لِأَنَّ تَرْكَهَا مِنَ الْكَبَائِرِ فَوَقَفَ التَّكْفِيرُ عَلَى فِعْلِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ فَصَّلَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ الْبُلْقِينِيُّ أَحْوَالَ الْإِنْسَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَصْدُرُ مِنْهُ مِنْ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ، فَقَالَ: تَنْحَصِرُ فِي خَمْسَةٍ، أَحَدِهَا: أَنْ لَا يَصْدُرَ مِنْهُ شَيْءٌ الْبَتَّةَ، فَهَذَا يُعَاوَضُ بِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ. ثَانِيهَا: يَأْتِي بِصَغَائِرَ بِلَا إِصْرَارٍ، فَهَذَا تُكَفَّرُ عَنْهُ جَزْمًا. ثَالِثِهَا: مِثْلُهُ لَكِنْ مَعَ الْإِصْرَارِ فَلَا تُكَفَّرُ إِذَا قُلْنَا إِنَّ الْإِصْرَارَ عَلَى الصَّغَائِرِ كَبِيرَةٌ. رَابِعِهَا: أَنْ يَأْتِيَ بِكَبِيرَةٍ وَاحِدَةٍ وَصَغَائِرَ. خَامِسِهَا: أَنْ يَأْتِيَ بِكَبَائِرَ وَصَغَائِرَ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ يُحْتَمَلُ إِذَا لَمْ يَجْتَنِبِ الْكَبَائِرَ أَنْ لَا تُكَفِّرَ الْكَبَائِرَ بَلْ تُكَفِّرُ الصَّغَائِرَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا تُكَفِّرَ شَيْئًا أَصْلًا، وَالثَّانِي أَرْجَحُ؛ لِأَنَّ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ إِذَا لَمْ تَتَعَيَّنْ جِهَتُهُ لَا يُعْمَلُ بِهِ، فَهُنَا لَا تُكَفِّرُ شَيْئًا إِمَّا لِاخْتِلَاطِ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ أَوْ لِتَمَحُّضِ الْكَبَائِرِ أَوْ تُكَفِّرُ الصَّغَائِرَ، فَلَمْ تَتَعَيَّنْ جِهَةُ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ لِدَوَرَانِهِ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ فَلَا يُعْمَلُ بِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ مُقْتَضَى تَجَنُّبِ الْكَبَائِرِ أَنَّ هُنَاكَ كَبَائِرَ، وَمُقْتَضَى مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ أَنْ لَا كَبَائِرَ فَيُصَانُ الْحَدِيثُ عَنْهُ.
(تنبيه): لَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِهِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ السِّتَّةِ وَأَحْمَدَ بِلَفْظِ مَا تَقُولُ إِلَّا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَلَيْسَ هُوَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ أَصْلًا، وَهُوَ عِنْدُ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ لَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَفْظُ مُسْلِمٍ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ هَلْ كَانَ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ وَعَلَى لَفْظِهِ اقْتَصَرَ عَبْدُ الْحَقِّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ وَكَذَا الْحُمَيْدِيُّ، وَوَقَعَ فِي كَلَامِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ بَعْدَ أَنْ سَاقَهُ بِلَفْظِ مَا تَقُولُونَ أَنَّهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَصْلَ الْحَدِيثِ، لَكِنْ يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ أَصْلًا وَلَا ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُتَأَخِّرَةِ مِنَ الْبُخَارِيِّ بِالْيَاءِ التَّحْتَانِيَّةِ آخِرَ الْحُرُوفِ مَنْ يَقُولُ فَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَصْرِ أَنَّهُ غَلَطٌ، وَأَنَّهُ لَا
يَصِحُّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَاعْتَمَدَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ مَالِكٍ مِمَّا قَدَّمْتُهُ وَأَخْطَأَ فِي ذَلِكَ، بَلْ لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ، وَالتَّقْدِيرُ: مَا يَقُولُ أَحَدُكُمْ فِي ذَلِكَ. وَالشَّرْطُ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُ مِنَ النُّحَاةِ إِنَّمَا هُوَ لِإِجْرَاءِ فِعْلِ الْقَوْلِ مَجْرَى فِعْلِ الظَّنِّ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا إِذَا تُرِكَ الْقَوْلُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَلَا، وَهَذَا ظَاهِرٌ، وَإِنَّمَا نَبَّهْتُ عَلَيْهِ لِئَلَّا يُغْتَرَّ بِهِ.
7 - بَاب تَضْيِيعِ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا
529 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَهْدِيٌّ، عَنْ غَيْلَانَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: مَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قِيلَ: الصَّلَاةُ. قَالَ: أَلَيْسَ صَنَعْتُمْ مَا صَنَعْتُمْ فِيهَا؟
530 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ وَاصِلٍ أَبُو عُبَيْدَةَ الْحَدَّادُ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ أَخِي عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ: دَخَلْتُ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ بِدِمَشْقَ وَهُوَ يَبْكِي، فَقُلْتُ: مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ: لَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا أَدْرَكْتُ إِلَّا هَذِهِ الصَّلَاةَ، وَهَذِهِ الصَّلَاةُ قَدْ ضُيِّعَتْ. وَقَالَ بَكْرٌ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ الْبُرْسَانِيُّ، أَخْبَرَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي رَوَّادٍ نَحْوَهُ.
قَوْلُهُ (بَابٌ فِي تَضْيِيعِ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا) ثَبَتَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ فِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ، والْكُشْمِيهَنِيِّ وَسَقَطَتْ لِلْبَاقِينَ.
قَوْله (مَهْدِيُّ) هُوَ ابْنُ مَيْمُونٍ، وَغَيْلَانُ هُوَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.
قَوْله (قِيلَ الصَّلَاةُ) أَيْ قِيلِ لَهُ: الصَّلَاةُ، هِيَ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ عَلَى عَهْدِهِ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ بَاقِيَةٌ، فَكَيْفَ يَصِحُّ هَذَا السَّلْبُ الْعَامُّ؟ فَأَجَابَ بِأَنَّهُمْ غَيَّرُوهَا أَيْضًا بِأَنْ أَخْرَجُوهَا عَنِ الْوَقْتِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَ لِأَنَسٍ ذَلِكَ يُقَالُ لَهُ أَبُو رَافِعٍ، بَيَّنَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَتِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ رَوْحٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَنَسٍ فَذَكَرَ نَحْوَهُ، فَقَالَ أَبُو رَافِعٍ: يَا أَبَا حَمْزَةَ، وَلَا الصَّلَاةُ؟ فَقَالَ لَهُ أَنَسٌ: قَدْ عَلِمْتُمْ مَا صَنَعَ الْحَجَّاجُ فِي الصَّلَاةِ.
قَوْله (صَنَعْتُمْ) بِالْمُهْمَلَتَيْنِ وَالنُّونِ لِلْأَكْثَرِ، وَلِلكُشْمِيهَنِيِّ بِالْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَهُوَ أَوْضَحُ فِي مُطَابَقَةِ التَّرْجَمَةِ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلُ مَا ذَكَرْتُهُ آنِفًا مِنْ رِوَايَةِ عُثْمَانَ بن سعد، وَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، عَنْ أَنَسٍ فَذَكَرَ نَحْوَ هَذَا الْحَدِيثِ وَقَالَ فِي آخِرِهِ: أَوَ لَمْ يُضَيِّعُوا فِي الصَّلَاةِ مَا قَدْ عَلِمْتُمْ؟ وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ سَبَبَ قَوْلِ أَنَسٍ هَذَا الْقَوْلِ، فَأَخْرَجَ فِي تَرْجَمَةِ أَنَسٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْعُرْيَانِ الْحَارِثِيِّ سَمِعْتُ ثَابِتًا الْبُنَانِيَّ قَالَ: كُنَّا مَعَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فَأَخَّرَ الْحَجَّاجُ الصَّلَاةَ، فَقَامَ أَنَسٌ يُرِيدُ أَنْ يُكَلِّمَهُ، فَنَهَاهُ إِخْوَانُهُ شَفَقَةً عَلَيْهِ مِنْهُ، فَخَرَجَ فَرَكِبَ دَابَّتَهُ فَقَالَ فِي مَسِيرِهِ ذَلِكَ: وَاللَّهِ مَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا كُنَّا عَلَيْهِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَقَالَ رَجُلٌ: فَالصَّلَاةُ يَا أَبَا حَمْزَةَ؟ قَالَ: قَدْ جَعَلْتُمُ الظُّهْرَ عِنْدَ الْمَغْرِبِ، أَفَتِلْكَ كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي عُمَرَ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادٍ، عَنْ ثَابِتٍ مُخْتَصَرًا.
قَوْله (عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ) هُوَ خُرَاسَانِيٌّ سَكَنَ الْبَصْرَةَ وَاسْمُ أَبِيهِ مَيْمُونٌ.
قَوْله (أَخُو عَبْدِ الْعَزِيزِ) أَيْ هُوَ أَخُو عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَلِلكُشْمِيهَنِيِّ أَخِي عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ عُثْمَانَ.
قَوْله (بِدِمَشْقَ) كَانَ قُدُومُ أَنَسٍ دِمَشْقَ فِي إِمَارَةِ الْحَجَّاجِ عَلَى الْعِرَاقِ، قَدِمَهَا شَاكِيًا مِنَ الْحَجَّاجِ لِلْخَلِيفَةِ، وَهُوَ إِذْ ذَاكَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ.
قَوْله (مِمَّا أَدْرَكْتُ) أَيْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَوْله (إِلَّا هَذِهِ الصَّلَاةَ) بِالنَّصْبِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ شَيْئًا مَوْجُودًا مِنَ الطَّاعَاتِ مَعْمُولًا بِهِ
عَلَى وَجْهِهِ غَيْرَ الصَّلَاةِ.
قَوْله (وَهَذِهِ الصَّلَاةُ قَدْ ضُيِّعَتْ) قَالَ الْمُهَلَّبُ: وَالْمُرَادُ بِتَضْيِيعِهَا تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا الْمُسْتَحَبِّ لَا أَنَّهُمْ أَخْرَجُوهَا عَنِ الْوَقْتِ، كَذَا قَالَ، وَتَبِعَهُ جَمَاعَةٌ، وَهُوَ مَعَ عَدَمِ مُطَابَقَتِهِ لِلتَّرْجَمَةِ مُخَالِفٌ لِلْوَاقِعِ، فَقَدْ صَحَّ أَنَّ الْحَجَّاجَ وَأَمِيرَهُ الْوَلِيدَ وَغَيْرَهُمَا كَانُوا يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا، وَالْآثَارُ فِي ذَلِكَ مَشْهُورَةٌ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: أَخَّرَ الْوَلِيدُ الْجُمُعَةَ حَتَّى أَمْسَى فَجِئْتُ فَصَلَّيْتُ الظُّهْرَ قَبْلَ أَنْ أَجْلِسَ ثُمَّ صَلَّيْتُ الْعَصْرَ وَأَنَا جَالِسٌ إِيمَاءً وَهُوَ يَخْطُبُ. وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ عَطَاءٌ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْقَتْلِ. وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ إِلَى جَنْبِ أَبِي جُحَيْفَةَ فَمَسَّى الْحَجَّاجُ بِالصَّلَاةِ، فَقَامَ أَبُو جُحَيْفَةَ فَصَلَّى. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي مَعَ الْحَجَّاجِ، فَلَمَّا أَخَّرَ الصَّلَاةَ تَرَكَ أَنْ يَشْهَدَهَا مَعَهُ. وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي إِسْمَاعِيلَ قَالَ: كُنْتُ بِمِنًى وَصُحُفٌ تُقْرَأُ لِلْوَلِيدِ فَأَخَّرُوا الصَّلَاةَ، فَنَظَرْتُ إِلَى سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٍ يُومِئَانِ إِيمَاءً وَهُمَا قَاعِدَانِ.
قَوْله (وَقَالَ بَكْرُ بْنُ خَلَفٍ) هُوَ الْبَصْرِيُّ نَزِيلُ مَكَّةَ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْجَامِعِ إِلَّا هَذَا الْمَوْضِعُ. وَقَدْ وَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ بَكْرُ بْنُ خَلَفٍ.
قَوْله (نَحْوَهُ) سِيَاقُهُ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مُوَافِقٌ لِلَّذِي قَبْلَهُ، إِلَّا أَنَّهُ زَادَ فِيهِ وَهُوَ وَحْدَهُ وَقَالَ فِيهِ: لَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا كُنَّا عَلَيْهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْبَاقِي سَوَاءٌ.
(تَنْبِيهٌ): إِطْلَاقُ أَنَسٍ مَحْمُولٌ عَلَى مَا شَاهَدَهُ مِنْ أُمَرَاءِ الشَّامِ وَالْبَصْرَةِ خَاصَّةً، وإِلَّا فَسَيَأْتِي فِي هَذَا الْكِتَابِ أَنَّهُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَقَالَ: مَا أَنْكَرْتُ شَيْئًا إِلَّا أَنَّكُمْ لَا تُقِيمُونَ الصُّفُوفَ وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَعُمَرُ بنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَمِيرُهَا حِينَئِذٍ، وَكَانَ عَلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ بَيْتِهِ حَتَّى أَخْبَرَهُ عُرْوَةُ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ أَبِي مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ بِالنَّصِّ عَلَى الْأَوْقَاتِ، فَكَانَ يُحَافِظُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ إِخْرَاجِ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ. وَمَعَ ذَلِكَ فَكَانَ يُرَاعِي الْأَمْرَ مَعَهُمْ فَيُؤَخِّرُ الظّهْرَ إِلَى آخِرِ وَقْتِهَا. وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ أَنَسٌ أَيْضًا كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ عَنْهُ.
8 - بَاب الْمُصَلِّي يُنَاجِي رَبَّهُ عز وجل
531 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا صَلَّى يُنَاجِي رَبَّهُ، فَلَا يَتْفِلَنَّ عَنْ يَمِينِهِ، وَلَكِنْ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى.
وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: لَا يَتْفِلُ قُدَّامَهُ أَوْ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ.
وَقَالَ شُعْبَةُ: لَا يَبْزُقُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَا عَنْ يَمِينِهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ.
وَقَالَ حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَا يَبْزُقْ فِي الْقِبْلَةِ وَلَا عَنْ يَمِينِهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ. قَوْله (بَابُ الْمُصَلِّي يُنَاجِي رَبَّهُ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ هَذَا الْبَابِ فِي أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ، وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْأَحَادِيثَ السَّابِقَةَ دَلَّتْ عَلَى مَدْحِ مَنْ أَوْقَعَ الصَّلَاةَ فِي وَقْتِهَا وَذَمِّ مَنْ أَخْرَجَهَا عَنْ وَقْتِهَا، وَمُنَاجَاةُ الرَّبِّ جل جلاله أَرْفَعُ دَرَجَاتِ الْعَبْدِ، فَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِإِيرَادِ ذَلِكَ إِلَى التَّرْغِيبِ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْفَرَائِضِ فِي أَوْقَاتِهَا لِتَحْصِيلِ هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ السَّنِيَّةِ الَّتِي يُخْشَى فَوَاتُهَا عَلَى مَنْ قَصَّرَ فِي ذَلِكَ.
قَوْله (حَدَّثَنَا هِشَامٌ) هُوَ ابْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ
الدَّسْتُوَائِيُّ.
قَوْله (وَقَالَ سَعِيدٌ) أَيِ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ (عَنْ قَتَادَةَ) أَيْ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَطَرِيقُهُ مَوْصُولَةٌ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَابْنِ حِبَّانَ. وَقَوْلُهُ فِيهَا قُدَّامَهُ أَوْ بَيْنَ يَدَيْهِ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي.
قَوْله (وَقَالَ شُعْبَةُ) أَيْ عَنْ قَتَادَةَ بِالْإِسْنَادِ أَيْضًا، وَطَرِيقُهُ مَوْصُولَةٌ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِيمَا تَقَدَّمَ عَنْ آدَمَ عَنْهُ، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا فِي بَابِ حَكِّ الْمُخَاطِ مِنَ الْمَسْجِدِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ شُعْبَةَ، وَأَرَادَ بِهَذَيْنِ التَّعْلِيقَيْنِ بَيَانَ اخْتِلَافِ أَلْفَاظِ أَصْحَابِ قَتَادَةَ عَنْهُ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَرِوَايَةُ شُعْبَةَ أَتَمُّ الرِّوَايَاتِ، لَكِنْ لَيْسَ فِيهَا الْمُنَاجَاةُ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَيْسَ هَذَا التَّعْلِيقُ مَوْقُوفًا عَلَى قَتَادَةَ وَلَا عَلَى شُعْبَةَ، يَعْنِي بَلْ هِيَ مَرْفُوعَةٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ الدُّخُولُ تَحْتَ الْإِسْنَادِ السَّابِقِ بِأَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مَثَلًا: حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، وَحَدَّثَنَا مُسْلِمٌ قَالَ: قَالَ سَعِيدٌ، وَحَدَّثَنَا مُسْلِمٌ قَالَ: قَالَ شُعْبَةُ. انْتَهَى. وَهُوَ احْتِمَالٌ ضَعِيفٌ بِالنِّسْبَةِ لِشُعْبَةَ، فَإِنَّ مُسْلِمَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ سَمِعَ مِنْهُ، وَبَاطِلٌ بِالنِّسْبَةِ لِسَعِيدٍ، فَإِنَّهُ لَا رِوَايَةَ لَهُ عَنْهُ، وَالَّذِي ذَكَرْتُهُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ. وَكَذَا طَرِيقُ حُمَيْدٍ وَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي أَوَّلِ أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْهُ، لَكِنْ لَيْسَ فِيهَا قَوْلُهُ: وَلَا عَنْ يَمِينِهِ.
532 -
حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسِ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ، وَلَا يَبْسُطْ ذِرَاعَيْهِ كَالْكَلْبِ، وَإِذَا بَزَقَ فَلَا يَبْزُقَنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَا عَنْ يَمِينِهِ؛ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ.
قَوْله (اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ) يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَبْوَابِ صِفَةِ الصَّلَاةِ.
قَوْله (فَإِنَّمَا يُنَاجِي) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ مَا حَاصِلُهُ: تَقَدَّمَ أَنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ عَنِ الْبُزَاقِ عَنِ الْيَمِينِ بِأَنَّ عَنْ يَمِينِهِ مَلَكًا، وَهُنَا عَلَّلَ بِالْمُنَاجَاةِ، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْوَاحِدَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ عِلَّتَانِ سَوَاءٌ كَانَتَا مُجْتَمِعَتَيْنِ أَوْ مُنْفَرِدَتَيْنِ، وَالْمُنَاجِي تَارَةً يَكُونُ قُدَّامَ مَنْ يُنَاجِيهِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ وَتَارَةً يَكُونُ عَنْ يَمِينِهِ.
9 - بَاب الْإِبْرَادِ بِالظُّهْرِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ
533، 534 - حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ قَالَ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ:، حَدَّثَنَا الْأَعْرَجُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَغَيْرُهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَنَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا عَنْ الصَّلَاةِ؛ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ.
[الحديث 533 - طرفه في: 536]
قَوْله (بَابُ الْإِبْرَادِ بِالظُّهْرِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ) قَدَّمَ الْمُصَنِّفُ بَابَ الْإِبْرَادِ عَلَى بَابِ وَقْتِ الظُّهْرِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْإِبْرَادِ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الزَّوَالِ لَا قَبْلَهُ، إِذْ وَقْتُ الْإِبْرَادِ هُوَ مَا إِذَا انْحَطَّتْ قُوَّةُ الْوَهَجِ مِنْ حَرِّ الظَّهِيرَةِ، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَوَّلِ وَقْتِ الظُّهْرِ. أَوْ أَشَارَ إِلَى حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: كَانَ بِلَالٌ يُؤَذِّنُ الظُّهْرَ إِذَا دَحَضَتِ الشَّمْسُ أَيْ مَالَتْ.
قَوْله (حَدَّثَنَا أَيُّوبُ) هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ كَمَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَأَبُو بَكْرٍ هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ وَهُوَ مِنْ أَقْرَانِ أَيُّوبَ، وَسُلَيْمَانُ هُوَ ابْنُ بِلَالٍ وَالِدُ أَيُّوبَ، رَوَى أَيُّوبُ عَنْهُ تَارَةً بِوَاسِطَةٍ وَتَارَةً بِلَا وَاسِطَةٍ.
قَوْله (حَدَّثَنَا الْأَعْرَجُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَغَيْرُهُ) هُوَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِيمَا أَظُنُّ، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ وَجْهٍ
آخَرَ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ سُلَيْمَانَ فَلَمْ يَقُلْ فِيهِ وَغَيْرُهُ. وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ.
قَوْله (وَنَافِعٌ) هُوَ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى الْأَعْرَجِ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ نَافِعٍ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بَعْضَهُ أَبْرِدُوا بِالظُهْرِ وَرَوَى السَّرَّاجُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بَعْضَهُ شِدَّةُ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ.
قَوْله (أَنَّهُمَا) أَيْ أَبَا هُرَيْرَةَ، وَابْنَ عُمَرَ (حَدَّثَاهُ) أَيْ حَدَّثَا مَنْ حَدَّثَ صَالِحَ بْنَ كَيْسَانَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ أَنَّهُمَا يَعُودُ عَلَى الْأَعْرَجِ، وَنَافِعٍ، أَيْ أَنَّ الْأَعْرَجَ، وَنَافِعًا حَدَّثَاهُ أَيْ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ عَنْ شَيْخَيْهِمَا بِذَلِكَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ أَنَّهُمَا حَدَّثَا بِغَيْرِ ضَمِيرٍ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّقْدِيرِ الْمَذْكُورِ.
قَوْله (إِذَا اشْتَدَّ) أَصْلُهُ اشْتَدَدَ بِوَزْنِ افْتَعَلَ مِنَ الشِّدَّةِ، ثُمَّ أُدْغِمَتْ إِحْدَى الدَّالَيْنِ فِي الْأُخْرَى، وَمَفْهُومُهُ أَنَّ الْحَرَّ إِذَا لَمْ يَشْتَدَّ لَمْ يُشْرَعُ الْإِبْرَادُ، وَكَذَا لَا يُشْرَعُ فِي الْبَرْدِ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى. قَوْله (فَأَبْرِدُوا) بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، أَيْ أَخِّرُوا إِلَى أَنْ يَبْرُدَ الْوَقْتُ. يُقَالُ أَبْرَدَ إِذَا دَخَلَ فِي الْبَرْدِ، كَأَظْهَرَ إِذَا دَخَلَ فِي الظَّهِيرَةِ، وَمِثْلُهُ فِي الْمَكَانِ أَنْجَدَ إِذَا دَخَلَ نَجْدًا، وَأَتْهَمَ إِذَا دَخَلَ تِهَامَةَ. وَالْأَمْرُ بِالْإِبْرَادِ أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ، وَقِيلَ أَمْرُ إِرْشَادٍ، وَقِيلَ بَلْ هُوَ لِلْوُجُوبِ.
حَكَاهُ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ، وَغَفَلَ الْكِرْمَانِيُّ فَنَقَلَ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ، نَعَمْ قَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ: يُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُ الظُهْرِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ إِلَى أَنْ يَبْرُدَ الْوَقْتُ وَيَنْكَسِرَ الْوَهَجُ، وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِالْجَمَاعَةِ، فَأَمَّا الْمُنْفَرِدُ فَالتَّعْجِيلُ فِي حَقِّهِ أَفْضَلُ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيِّ أَيْضًا، لَكِنْ خَصَّهُ بِالْبَلَدِ الْحَارِّ، وَقَيَّدَ الْجَمَاعَةَ بِمَا إِذَا كَانُوا يَنْتَابُونَ مَسْجِدًا مِنْ بُعْدٍ، فَلَوْ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ أَوْ كَانُوا يَمْشُونَ فِي كِنٍّ فَالْأَفْضَلُ فِي حَقِّهِمُ التَّعْجِيلُ، وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ التَّسْوِيَةُ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ وَلَا قَيْدٍ، وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ وَالْكُوفِيِّينَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَاسْتَدَلَّ لَهُ التِّرْمِذِيُّ بِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الْآتِي بَعْدَ هَذَا؛ لِأَنَّ فِي رِوَايَتِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي سَفَرٍ، وَهِيَ رِوَايَةٌ لِلْمُصَنِّفِ أَيْضًا سَتَأْتِي قَرِيبًا، قَالَ: فَلَوْ كَانَ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ لَمْ يَأْمُرْ بِالْإِبْرَادِ لِاجْتِمَاعِهِمْ فِي السَّفَرِ، وَكَانُوا لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى أَنْ يَنْتَابُوا مِنَ الْبُعْدِ.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِلِاتِّبَاعِ. وَتَعَقَّبَهُ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّ الْعَادَةَ فِي الْعَسْكَرِ الْكَثِيرِ تَفْرِقَتُهُمْ فِي أَطْرَافِ الْمَنْزِلِ لِلتَّخْفِيفِ وَطَلَبِ الرَّعْيِ فَلَا نُسَلِّمُ اجْتِمَاعَهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ. انْتَهَى. وَأَيْضًا فَلَمْ تَجْرِ عَادَتُهُمْ بِاتِّخَاذِ خِبَاءٍ كَبِيرٍ يَجْمَعُهُمْ، بَلْ كَانُوا يَتَفَرَّقُونَ فِي ظِلَالِ الشَّجَرِ، وَلَيْسَ هُنَاكَ كِنٌّ يَمْشُونَ فِيهِ، فَلَيْسَ فِي سِيَاقِ الْحَدِيثِ مَا يُخَالِفُ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ اسْتَنْبَطَ مِنَ النَّصِّ الْعَامِّ - وَهُوَ الْأَمْرُ بِالْإِبْرَادِ - مَعْنًى يُخَصِّصُهُ، وَذَلِكَ جَائِزٌ عَلَى الْأَصَحِّ فِي الْأُصُولِ، لَكِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي ذَلِكَ تَأَذِّيهِمْ بِالْحَرِّ فِي طَرِيقِهِمْ، وَلِلْمُتَمَسِّكِ بِعُمُومِهِ أَنْ يَقُولَ: الْعِلَّةُ فِيهِ تَأَذِّيهِمْ بِحَرِّ الرَّمْضَاءِ فِي جِبَاهِهِمْ حَالَةَ السُّجُودِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَنَسٍ كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالظَّهَائِرِ سَجَدْنَا عَلَى ثِيَابِنَا اتِّقَاءَ الْحَرِّ رَوَاهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ، وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ أَيْضًا فِي الصَّحِيحَيْنِ نَحْوَهُ وَسَيَأْتِي قَرِيبًا. وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ الْعِلَّةَ الْأُولَى أَظْهَرُ، فَإِنَّ الْإِبْرَادَ لَا يُزِيلُ الْحَرَّ عَنِ الْأَرْضِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ تَعْجِيلَ الظُهْرِ أَفْضَلُ مُطْلَقًا. وَقَالُوا: مَعْنَى أَبْرِدُوا: صَلُّوْا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ أَخْذًا مِنْ بَرْدِ النَّهَارِ وَهُوَ أَوَّلُهُ، وَهُوَ تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ، وَيَرُدُّهُ قَوْلُهُ: فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ إِذِ التَّعْلِيلُ بِذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ التَّأْخِيرُ، وَحَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ الْآتِي صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ: انْتَظِرِ. .
انْتَظِرْ وَالْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ خَبَّابٍ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَرَّ الرَّمْضَاءِ فِي جِبَاهِنَا وَأَكُفِّنَا فَلَمْ يُشْكِنَا؛ أَيْ: فَلَمْ يُزِلْ شَكْوَانَا، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَتَمَسَّكُوا أَيْضًا بِالْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى فَضِيلَةِ أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَبِأَنَّ الصَّلَاةَ حِينَئِذٍ أَكْثَرُ مَشَقَّةً فَتَكُونُ أَفْضَلَ، وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ خَبَّابٍ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمْ طَلَبُوا تَأْخِيرًا
زَائِدًا عَنْ وَقْتِ الْإِبْرَادِ وَهُوَ زَوَالُ حَرِّ الرَّمْضَاءِ، وَذَلِكَ قَدْ يَسْتَلْزِمُ خُرُوجَ الْوَقْتِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُجِبْهُمْ، أَوْ هُوَ مَنْسُوخٌ بِأَحَادِيثِ الْإِبْرَادِ فَإِنَّهَا مُتَأَخِّرَةٌ عَنْهُ وَاسْتَدَلَّ لَهُ الطَّحَاوِيُّ بِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الظُهْرَ بِالْهَاجِرَةِ، ثُمَّ قَالَ لَنَا: أَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ الْحَدِيثَ، وَهُوَ حَدِيثٌ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ. وَنَقَلَ الْخَلَّالُ، عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: هَذَا آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِأَنَّ الْإِبْرَادَ رُخْصَةٌ وَالتَّعْجِيلَ أَفْضَلُ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ أَمْرُ إِرْشَادٍ، وَعَكَسَهُ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: الْإِبْرَادُ أَفْضَلُ. وَحَدِيثُ خَبَّابٍ يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ وَهُوَ الصَّارِفُ لِلْأَمْرِ عَنِ الْوُجُوبِ. كَذَا قِيلَ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ الْمَنْعُ مِنَ التَّأْخِيرِ.
وَقِيلَ مَعْنَى قَوْلِ خَبَّابٍ: فَلَمْ يُشْكِنَا أَيْ فَلَمْ يُحْوِجْنَا إِلَى شَكْوَى، بَلْ أَذِنَ لَنَا فِي الْإِبْرَادِ، حُكِيَ عَنْ ثَعْلَبٍ، وَيَرُدُّهُ أَنَّ فِي الْخَبَرِ زِيَادَةً رَوَاهَا ابْنُ الْمُنْذِرِ بَعْدَ قَوْلِهِ فَلَمْ يُشْكِنَا وَقَالَ: إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ فَصَلُّوا وَأَحْسَنُ الْأَجْوِبَةِ كَمَا قَالَ الْمَازِرِيُّ الْأَوَّلُ، وَالْجَوَابُ عَنْ أَحَادِيثِ أَوَّلِ الْوَقْتِ أَنَّهَا عَامَّةٌ أَوْ مُطْلَقَةٌ، وَالْأَمْرُ بِالْإِبْرَادِ خَاصٌّ فَهُوَ مُقَدَّمٌ، وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى مَنْ قَالَ التَّعْجِيلُ أَكْثَرُ مَشَقَّةً فَيَكُونُ أَفْضَلَ؛ لِأَنَّ الْأَفْضَلِيَّةَ لَمْ تَنْحَصِرْ فِي الْأَشَقِّ، بَلْ قَدْ يَكُونُ الْأَخَفُّ أَفْضَلَ كَمَا فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ.
قَوْله (بِالصَّلَاةِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ وَقِيلَ زَائِدَةٌ. وَمَعْنَى أَبْرِدُوا: أَخِّرُوا عَلَى سَبِيلِ التَّضْمِينِ أَيْ أَخِّرُوا الصَّلَاةَ. وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ عَنِ الصَّلَاةِ فَقِيلَ زَائِدَةٌ أَيْضًا أَوْ عَنْ بِمَعْنَى الْبَاءِ، أَوْ هِيَ لِلْمُجَاوَزَةِ أَيْ تَجَاوَزُوا وَقْتَهَا الْمُعْتَادَ إِلَى أَنْ تَنْكَسِرَ شِدَّةُ الْحَرِّ، وَالْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ الظُهْرُ؛ لِأَنَّهَا الصَّلَاةُ الَّتِي يَشْتَدُّ الْحَرُّ غَالِبًا فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا، وَقَدْ جَاءَ صَرِيحًا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ كَمَا سَيَأْتِي آخِرَ الْبَابِ، فَلِهَذَا حَمَلَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّرْجَمَةِ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُهُمُ الصَّلَاةَ عَلَى عُمُومِهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُفْرَدَ الْمُعَرَّفَ يَعُمُّ، فَقَالَ بِهِ أَشْهَبُ فِي الْعَصْرِ، وَقَالَ بِهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ فِي الشِّتَاءِ حَيْثُ قَالَ: تُؤَخَّرُ فِي الصَّيْفِ دُونَ الشِّتَاءِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِهِ فِي الْمَغْرِبِ وَلَا فِي الصُّبْحِ لِضِيقِ وَقْتِهِمَا.
قَوْله (فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ) تَعْلِيلٌ لِمَشْرُوعِيَّةِ التَّأْخِيرِ الْمَذْكُورِ، وَهَلِ الْحِكْمَةُ فِيهِ دَفْعُ الْمَشَقَّةِ لِكَوْنِهَا قَدْ تَسْلُبُ الْخُشُوعَ؟ وَهَذَا أَظْهَرُ، أَوْ كَوْنِهَا الْحَالَةَ الَّتِي يَنْتَشِرُ فِيهَا الْعَذَابُ؟ وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ حَيْثُ قَالَ لَهُ: أَقْصِرْ عَنِ الصَّلَاةِ عِنْدَ اسْتِوَاءِ الشَّمْسِ؛ فَإِنَّهَا سَاعَةٌ تُسَجَّرُ فِيهَا جَهَنَّمُ، وَقَدِ اسْتُشْكِلَ هَذَا بِأَنَّ الصَّلَاةَ سَبَبُ الرَّحْمَةِ فَفِعْلَهَا مَظِنَّةٌ لِطَرْدِ الْعَذَابِ. فَكَيْفَ أَمَرَ بِتَرْكِهَا؟ وَأَجَابَ عَنْهُ أَبُو الْفَتْحِ الْيَعْمَرِيُّ بِأَنَّ التَّعْلِيلَ إِذَا جَاءَ مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ وَجَبَ قَبُولُهُ، وَإِنْ لَمْ يُفْهَمْ مَعْنَاهُ، وَاسْتَنْبَطَ لَهُ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ مَعْنًى يُنَاسِبُهُ فَقَالَ: وَقْتُ ظُهُورِ أَثَرِ الْغَضَبِ لَا يُنْجَعُ فِيهِ الطَّلَبُ إِلَّا مِمَّنْ أَذِنَ لَهُ فِيهِ، وَالصَّلَاةُ لَا تَنْفَكُّ عَنْ كَوْنِهَا طَلَبًا وَدُعَاءً فَنَاسَبَ الِاقْتِصَارَ عَنْهَا حِينَئِذٍ. وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ الشَّفَاعَةِ حَيْثُ اعْتَذَرَ الْأَنْبِيَاءُ كُلُّهُمْ لِلْأُمَمِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَضِبَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَا يَغْضَبُ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، سِوَى نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَعْتَذِرْ بَلْ طَلَبَ؛ لِكَوْنِهِ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: سَجْرُ جَهَنَّمَ سَبَبُ فَيْحِهَا، وَفَيْحُهَا سَبَبُ وُجُودِ شِدَّةِ الْحَرِّ وَهُوَ مَظِنَّةُ الْمَشَقَّةِ الَّتِي هِيَ مَظِنَّةُ سَلْبِ الْخُشُوعِ، فَنَاسَبَ أَنْ لَا يُصَلَّى فِيهَا. لَكِنْ يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ سَجْرَهَا مُسْتَمِرٌّ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ وَالْإِبْرَادُ مُخْتَصٌّ بِشِدَّةِ الْحَرِّ فَهُمَا مُتَغَايِرَانِ، فَحِكْمَةُ الْإِبْرَادِ دَفْعُ الْمَشَقَّةِ، وَحِكْمَةُ التَّرْكِ وَقْتَ سَجْرِهَا لِكَوْنِهِ وَقْتَ ظُهُورِ أَثَرِ الْغَضَبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْله (مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ) أَيْ مِنْ سَعَةِ انْتِشَارِهَا وَتَنَفُّسِهَا، وَمِنْهُ مَكَانٌ أَفْيَحُ أَيْ مُتَّسِعٌ، وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ اسْتِعَارِهَا، وَظَاهِرُهُ أَنَّ مَثَارَ وَهَجِ الْحَرِّ فِي الْأَرْضِ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ حَقِيقَةٌ، وَقِيلَ هُوَ مِنْ مَجَازِ التَّشْبِيهِ، أَيْ كَأَنَّهُ نَارُ جَهَنَّمَ فِي الْحَرِّ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ الْآتِي: اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ. وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ.
535 -
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْمُهَاجِرِ أَبِي الْحَسَنِ، سَمِعَ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: أَذَّنَ مُؤَذِّنُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ، فَقَالَ: أَبْرِدْ أَبْرِدْ - أَوْ قَالَ انْتَظِرْ انْتَظِرْ - وَقَالَ: شِدَّةُ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا عَنْ الصَّلَاةِ حَتَّى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ.
[الحديث 535 - أطرافه في 3258، 629، 539]
قَوْله (عَنِ الْمُهَاجِرِ أَبِي الْحَسَنِ) الْمُهَاجِرُ اسْمٌ وَلَيْسَ بِوَصْفٍ وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِيهِ لِلَمْحِ الصِّفَةِ كَمَا فِي الْعَبَّاسِ، وَسَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَلَامٍ.
قَوْله (عَنْ أَبِي ذَرٍّ) فِي رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ فِي صِفَةِ النَّارِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ شُعْبَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ.
قَوْلُهُ (أَذَّنَ مُؤَذِّنُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هُوَ بِلَالٌ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا.
قَوْله (الظُهْرَ) بِالنَّصْبِ، أَيْ أَذَّنَ وَقْتَ الظُّهْرِ وَرَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِلَفْظِ أَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ بِالظُّهْرِ وَسَيَأْتِي بِلَفْظٍ: لِلظُّهْرِ، وَهُمَا وَاضِحَانِ.
قَوْله (فَقَالَ أَبْرِدْ) ظَاهِرُهُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِبْرَادِ وَقَعَ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْأَذَانِ مِنْهُ، وَسَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ بِلَفْظٍ فَأَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ لِلظُهْرِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ قَبْلَ الْأَذَانِ، فَيُجْمِعُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَنَّهُ شَرَعَ فِي الْأَذَانِ فَقِيلَ لَهُ: أَبْرِدْ فَتَرَكَ، فَمَعْنَى أَذَّنَ: شَرَعَ فِي الْأَذَانِ، وَمَعْنَى أَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ: أَيْ يُتِمَّ الْأَذَانَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْله (حَتَّى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ) كَذَا وَقَعَ هُنَا مُؤَخَّرًا عَنْ قَوْلِهِ شِدَّةُ الْحَرِّ إِلَخْ، وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَقَعَ ذَلِكَ عَقِبَ قَوْلِهِ أَبْرِدُوا وَهُوَ أَوْضَحُ فِي السِّيَاقِ؛ لِأَنَّ الْغَايَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْإِبْرَادِ، وَسَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ بَقِيَّةُ مَبَاحِثِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
536 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَفِظْنَاهُ مِنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ؛ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ.
537 -
"وَاشْتَكَتْ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الْحَرِّ وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الزَّمْهَرِيرِ"
[الحديث 537 - طرفه في: 3260]
538 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ" تَابَعَهُ سُفْيَانُ وَيَحْيَى وَأَبُو عَوَانَةَ عَنْ الأَعْمَشِ
[الحديث 538 - طرفه في 3259]
قَوْله (حَفِظْنَاهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، عَنْ جَعْفَرٍ الْفِرْيَابِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ شَيْخِ الْمُصَنِّفِ فِيهِ بِلَفْظٍ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ.
قَوْله (عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ) كَذَا رَوَاهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِ سُفْيَانَ عَنْهُ، وَرَوَاهُ أَبُو الْعَبَّاسِ السَّرَّاجُ، عَنْ أَبِي قُدَامَةَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ أَوْ أَبِي سَلَمَةَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا، وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَلَمَةَ وَحْدَهُ، وَالطَّرِيقَانِ مَحْفُوظَانِ، فَقَدْ رَوَاهُ اللَّيْثُ، وَعَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَمَعْمَرٌ، وَابْنُ جُرَيْجٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ عِنْدَ السَّرَّاجِ، سِتَّتُهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، وَأَبِي سَلَمَةَ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قَوْله (وَاشْتَكَتِ النَّارُ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ قَالَ: وَاشْتَكَتِ النَّارُ
وَفَاعِلُ قَالَ هُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ قَبْلُ، وَوَهِمَ مَنْ جَعَلَهُ مَوْقُوفًا أَوْ مُعَلَّقًا. وَقَدْ أَفْرَدَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ سُفْيَانَ، وَكَذَلِكَ السَّرَّاجُ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ وَغَيْرِهِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الشَّكْوَى هَلْ هِيَ بِلِسَانِ الْمَقَالِ أَوْ بِلِسَانِ الْحَالِ؟ وَاخْتَارَ كُلًّا طَائِفَةٌ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لِكِلَا الْقَوْلَيْنِ وَجْهٌ وَنَظَائِرُ، وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ، وَقَالَ عِيَاضٌ: إِنَّهُ الْأَظْهَرُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَا إِحَالَةَ فِي حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ. قَالَ: وَإِذَا أَخْبَرَ الصَّادِقُ بِأَمْرٍ جَائِزٍ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَأْوِيلِهِ فَحَمْلُهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ أَوْلَى. وَقَالَ النَّوَوِيُّ نَحْوَ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ: حَمْلُهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ هُوَ الصَّوَابُ. وَقَالَ نَحْوَ ذَلِكَ التُّورِبِشْتِيُّ، وَرَجَّحَ الْبَيْضَاوِيُّ حَمْلَهُ عَلَى الْمَجَازِ فَقَالَ: شَكَوَاهَا مَجَازٌ عَنْ غَلَيَانِهَا، وَأَكْلُهَا بَعْضُهَا بَعْضًا مَجَازٌ عَنِ ازْدِحَامِ أَجْزَائِهَا، وَتَنَفُّسُهَا مَجَازٌ عَنْ خُرُوجِ مَا يَبْرُزُ مِنْهَا. وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: الْمُخْتَارُ حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِصَلَاحِيَّةِ الْقُدْرَةِ لِذَلِكَ، وَلِأَنَّ اسْتِعَارَةَ الْكَلَامِ لِلْحَالِ وَإِنْ عُهِدَتْ وَسُمِعَتْ، لَكِنَّ الشَّكْوَى وَتَفْسِيرَهَا وَالتَّعْلِيلَ لَهُ وَالْإِذْنَ وَالْقَبُولَ وَالتَّنَفُّسَ وَقَصْرَهُ عَلَى اثْنَيْنِ فَقَطْ بَعِيدٌ مِنَ الْمَجَازِ خَارِجٌ عَمَّا أُلِفَ مِنَ اسْتِعْمَالِهِ.
قَوْلُهُ (بِنَفَسَيْنِ) بِفَتْحِ الْفَاءِ، وَالنَّفَسُ مَعْرُوفٌ وَهُوَ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْجَوْفِ وَيَدْخُلُ فِيهِ مِنَ الْهَوَاءِ.
قَوْله (نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ) بِالْجَرِّ فِيهِمَا عَلَى الْبَدَلِ أَوِ الْبَيَانِ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ.
قَوْله (أَشُدُّ) يَجُوزُ الْكَسْرُ فِيهِ عَلَى الْبَدَلِ، لَكِنَّهُ فِي رِوَايَتِنَا بِالرَّفْعِ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: هُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: فَذَلِكَ أَشَدُّ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: جَعْلَ أَشَدَّ مُبْتَدَأً مَحْذُوفَ الْخَبَرِ أَوْلَى، وَالتَّقْدِيرُ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ مِنْ ذَلِكَ النَّفَسِ.
قُلْتُ: يُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ رِوَايَةُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظٍ فَهُوَ أَشَدُّ، وَيُؤَيِّدُ الثَّانِي رِوَايَةُ النَّسَائِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِلَفْظِ فَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ، وَفِي سِيَاقِ الْمُصَنِّفِ لَفٌّ وَنَشْرٌ غَيْرُ مُرَتَّبٍ، وَهُوَ مُرَتَّبٌ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ. وَالْمُرَادُ بِالزَّمْهَرِيرِ شِدَّةُ الْبَرْدِ، وَاسْتُشْكِلَ وُجُودُهُ فِي النَّارِ، وَلَا إِشْكَالَ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّارِ مَحَلُّهَا، وَفِيهَا طَبَقَةٌ زَمْهَرِيرِيَّةٌ: وَفِي الْحَدِيثِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ النَّارَ لَا تُخْلَقُ إِلَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
(تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: قَضِيَّةُ التَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ قَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْهَا مَشْرُوعِيَّةُ تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِ شِدَّةِ الْبَرْدِ، وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ غَالِبًا فِي وَقْتِ الصُّبْحِ فَلَا تَزُولُ إِلَّا بِطُلُوعِ الشَّمْسِ، فَلَوْ أُخِّرَتْ لَخَرَجَ الْوَقْتُ.
الثَّانِي: النَّفَسُ الْمَذْكُورُ يَنْشَأُ عَنْهُ أَشَدُّ الْحَرِّ فِي الصَّيْفِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقْتَصِرْ فِي الْأَمْرِ بِالْإِبْرَادِ عَلَى أَشَدِّهِ لِوُجُودِ الْمَشَقَّةِ عِنْدَ شَدِيدِهِ أَيْضًا، فَالْأَشَدِّيَّةُ تَحْصُلُ عِنْدَ التَّنَفُّسِ، وَالشِّدَّةُ مُسْتَمِرَّةٌ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَسْتَمِرُّ الْإِبْرَادُ إِلَى أَنْ تَذْهَبَ الشِّدَّةُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْله (بِالظُّهْرِ) قَدْ يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْإِبْرَادِ لِلْجُمُعَةِ، وَقَالَ بِهِ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ مُقْتَضَى صَنِيعِ الْمُصَنِّفِ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِهِ، لَكِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى خِلَافِهِ كَمَا سَيَأْتِي تَوْجِيهُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْله (تَابَعَهُ سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ. قَدْ وَصَلَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي صِفَةِ النَّارِ مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ وَلَفْظُهُ بِالصَّلَاةِ وَلَمْ أَرَهُ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بِلَفْظِ بِالظُّهْرِ وَفِي إِسْنَادِهِ اخْتِلَافٌ عَلَى الثَّوْرِيِّ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فَقَالَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بَدَلَ أَبِي سَعِيدٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْهُ، وَالْجَوْزَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَيْضًا، ثُمَّ رَوَى عَنِ الذُّهْلِيِّ قَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَصْحَابُ الْأَعْمَشِ عَنْهُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَهَذِهِ الطَّرِيقُ أَشْهَرُ. وَرَوَاهُ زَائِدَةُ وَهُوَ مُتْقِنٌ عَنْهُ، فَقَالَ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: وَالطَّرِيقَانِ عِنْدِي مَحْفُوظَانِ؛ لِأَنَّ الثَّوْرِيَّ رَوَاهُ عَنِ الْأَعْمَشِ بِالْوَجْهَيْنِ.
قَوْله (وَيَحْيَى) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ. وَقَدْ وَصَلَهُ أَحْمَدُ عَنْهُ بِلَفْظٍ بِالصَّلَاةِ وَرَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنْ أَبِي يَعْلَى، عَنِ الْمُقَدَّمِيِّ، عَنْ يَحْيَى بِلَفْظِ بِالظُّهْرِ.
قَوْله (وَأَبُو عَوَانَةَ) لَمْ أَقِفْ عَلَى مَنْ وَصَلَهُ عَنْهُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ السَّرَّاجُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، كِلَاهُمَا عَنِ الْأَعْمَشِ أَيْضًا بِلَفْظِ بِالظُّهْرِ.
(فَائِدَةٌ): رَتَّبَ الْمُصَنِّفُ أَحَادِيثَ هَذَا الْبَابِ تَرْتِيبًا حَسَنًا، فَبَدَأَ بِالْحَدِيثِ الْمُطْلَقِ، وَثَنَّى بِالْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ الْإِرْشَادُ إِلَى غَايَةِ الْوَقْتِ الَّتِي يَنْتَهِي إِلَيْهَا الْإِبْرَادُ وَهُوَ ظُهُورُ فَيْءِ التُّلُولِ، وَثَلَّثَ بِالْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ بَيَانُ الْعِلَّةِ فِي كَوْنِ ذَلِكَ الْمُطْلَقِ مَحْمُولًا عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَرَبَّعَ بِالْحَدِيثِ الْمُفْصِحِ بِالتَّقْيِيدِ. وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
10 - بَاب الْإِبْرَادِ بِالظُّهْرِ فِي السَّفَرِ
539 -
حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُهَاجِرٌ أَبُو الْحَسَنِ مَوْلَى لِبَنِي تَيْمِ اللَّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَأَرَادَ الْمُؤَذِّنُ أَنْ يُؤَذِّنَ لِلظُّهْرِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَبْرِدْ. ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ فَقَالَ لَهُ: أَبْرِدْ. حَتَّى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:{يَتَفَيَّأُ} يتَمَيَّلُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْإِبْرَادِ بِالظُّهْرِ فِي السَّفَرِ) أَرَادَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ أَنَّ الْإِبْرَادَ لَا يَخْتَصُّ بِالْحَضَرِ، لَكِنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ مَا إِذَا كَانَ الْمُسَافِرُ نَازِلًا، أَمَّا إِذَا كَانَ سَائِرًا أَوْ عَلَى سَيْرٍ فَفِيهِ جَمْعُ التَّقْدِيمِ أَوِ التَّأْخِيرِ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِهِ. وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي ذَرٍّ الْمَاضِيَ مُقَيَّدًا بِالسَّفَرِ، مُشِيرًا بِهِ إِلَى أَنَّ تِلْكَ الرِّوَايَةَ الْمُطْلَقَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى هَذِهِ الْمُقَيَّدَةِ.
قَوْلُهُ: (فَأَرَادَ الْمُؤَذِّنُ) فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ شَبَابَةَ، وَمُسَدَّدٍ، عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ خَالِدٍ، وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، وَأَبِي عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ، وَوَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ، وَالطَّحَاوِيِّ، وَالْجَوْزَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ وَهْبٍ أَيْضًا، كُلِّهُمْ عَنْ شُعْبَةَ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ بِلَالٌ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ فَقَالَ لَهُ أَبْرِدْ) زَادَ أَبُو دَاوُدَ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ، عَنْ شُعْبَةَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا وَجَزَمَ مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ شُعْبَةَ بِذِكْرِ الثَّالِثَةِ، وَهُوَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي بَابِ الْأَذَانِ لِلْمُسَافِرِينَ فَإِنْ قِيلَ: الْإِبْرَادُ لِلصَّلَاةِ فَكَيْفَ أَمَرَ الْمُؤَذِّنَ بِهِ لِلْأَذَانِ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْأَذَانَ هَلْ هُوَ لِلْوَقْتِ أَوْ لِلصَّلَاةِ؟ وَفِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ، وَالْأَمْرُ الْمَذْكُورُ يُقَوِّي الْقَوْلَ بِأَنَّهُ لِلصَّلَاةِ. وَأَجَابَ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّ عَادَتَهُمْ جَرَتْ بِأَنَّهُمْ لَا يَتَخَلَّفُونَ عِنْدَ سَمَاعِ الْأَذَانِ عَنِ الْحُضُورِ إِلَى الْجَمَاعَةِ، فَالْإِبْرَادُ بِالْأَذَانِ لِغَرَضِ الْإِبْرَادِ بِالْعِبَادَةِ، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّأْذِينِ هُنَا الْإِقَامَةُ.
قُلْتُ: وَيَشْهَدُ لَهُ رِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ: فَأَرَادَ بِلَالٌ أَنْ يُقِيمَ، لَكِنْ رَوَاهُ أَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ: فَأَرَادَ بِلَالٌ أَنْ يُؤَذِّنَ، وَفِيهِ: ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ إِقَامَتَهُ كَانَتْ لَا تَتَخَلَّفُ عَنِ الْأَذَانِ لِمُحَافَظَتِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، فَرِوَايَةُ: فَأَرَادَ بِلَالٌ أَنْ يُقِيمَ أَيْ أَنْ يُؤَذِّنَ ثُمَّ يُقِيمَ، وَرِوَايَةُ: فَأَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ؛ أَيْ: ثُمَّ يُقِيمَ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ) هَذِهِ الْغَايَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ فَقَالَ لَهُ أَبْرِدْ أَيْ كَانَ يَقُولُ لَهُ فِي الزَّمَانِ الَّذِي قَبْلَ الرُّؤْيَةِ أَبْرِدْ، أَوْ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَبْرِدْ أَيْ قَالَ لَهُ: أَ برِدْ إِلَى أَنْ تَرَى، أَوْ مُتَعَلِّقَةٌ بِمُقَدَّرٍ؛ أَيْ: قَالَ لَهُ: أَبْرِدْ، فَأَبْرَدَ إِلَى أَنْ رَأَيْنَا، وَالْفَيْءُ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْيَاءِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ: هُوَ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ مِنَ الظِّلِّ، وَالتُّلُولُ جَمْعُ تَلٍّ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ: كُلُّ مَا اجْتَمَعَ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ تُرَابٍ أَوْ رَمْلٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَهِيَ فِي الْغَالِبِ مُنْبَطِحَةٌ غَيْرُ شَاخِصَةٍ فَلَا يَظْهَرُ لَهَا ظِلٌّ إِلَّا إِذَا ذَهَبَ أَكْثَرُ وَقْتِ الظُّهْرِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي غَايَةِ الْإِبْرَادِ، فَقِيلَ: حَتَّى يَصِيرَ الظِّلُّ ذِرَاعًا بَعْدَ ظِلِّ الزَّوَالِ، وَقِيلَ: رُبُعَ قَامَةٍ، وَقِيلَ ثُلُثَهَا، وَقِيلَ نِصْفَهَا، وَقِيلَ غَيْرَ ذَلِكَ. وَنَزَّلَهَا الْمَازِرِيُّ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ، وَالْجَارِي عَلَى
الْقَوَاعِدِ أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَمْتَدَّ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الْأَذَانِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ: حَتَّى سَاوَى الظِّلُّ التُّلُولَ فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ أَخَّرَهَا إِلَى أَنْ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهَذِهِ الْمُسَاوَاةِ ظُهُورُ الظِّلِّ بِجَنْبِ التَّلِّ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا فَسَاوَاهُ فِي الظُّهُورِ لَا فِي الْمِقْدَارِ، أَوْ يُقَالُ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ فَلَعَلَّهُ أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى يَجْمَعَهَا مَعَ الْعَصْرِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَتَفَيَّأُ: يَتَمَيَّلُ) أَيْ قَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ} مَعْنَاهُ يَتَمَيَّلُ، كَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ الْفَيْءَ سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ ظِلٌّ مَائِلٌ مِنْ جِهَةٍ إِلَى أُخْرَى، وَتَتَفَيَّأُ فِي رِوَايَتِنَا بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقَانِيَّةِ أَيِ الظِّلَالُ، وَقُرِئَ أَيْضًا بِالتَّحْتَانِيَّةِ، أَيِ الشَّيْءُ، وَالْقِرَاءَتَانِ شَهِيرَتَانِ. وَهَذَا التَّعْلِيقُ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَكَرِيمَةَ، وَقَدْ وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ.
11 - بَاب وَقْتُ الظُّهْرِ عِنْدَ الزَّوَالِ
وَقَالَ جَابِرٌ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِالْهَاجِرَةِ
540 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ حِينَ زَاغَتْ الشَّمْسُ فَصَلَّى الظُّهْرَ، فَقَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَذَكَرَ السَّاعَةَ. فَذَكَرَ أَنَّ فِيهَا أُمُورًا عِظَامًا، ثُمَّ قَالَ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ فَلْيَسْأَلْ، فَلَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَخْبَرْتُكُمْ مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي هَذَا. فَأَكْثَرَ النَّاسُ فِي الْبُكَاءِ، وَأَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ: سَلُونِي. فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ السَّهْمِيُّ فَقَالَ: مَنْ أَبِي؟ قَالَ: أَبُوكَ حُذَافَةُ، ثُمَّ أَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ: سَلُونِي. فَبَرَكَ عُمَرُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، فَسَكَتَ. ثُمَّ قَالَ: عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ آنِفًا فِي عُرْضِ هَذَا الْحَائِطِ، فَلَمْ أَرَ كَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ.
قَوْلُهُ: (بَابٌ) بِالتَّنْوِينِ (وَقْتُ الظُّهْرِ) أَيِ ابْتِدَاؤُهُ (عِنْدَ الزَّوَالِ) أَيْ زَوَالِ الشَّمْسِ، وَهُوَ مَيْلُهَا إِلَى جِهَةِ الْمَغْرِبِ. وَأَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ مِنَ الْكُوفِيِّينَ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَجِبُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ كَمَا سَيَأْتِي. وَنَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ أَنَّ الْفُقَهَاءَ بِأَسْرِهِمْ عَلَى خِلَافِ مَا نُقِلَ عَنِ الْكَرْخِيِّ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ تَقَعُ نَفْلًا، انْتَهَى. وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَضْعِيفُ هَذَا الْقَوْلِ. وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ أَنَّ أَوَّلَ الظُّهْرِ إِذَا صَارَ الْفَيْءُ قَدْرَ الشِّرَاكِ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ جَابِرٌ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ بِلَفْظِ: كَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ، وَالْهَاجِرَةُ اشْتِدَادُ الْحَرِّ فِي نِصْفِ النَّهَارِ، قِيلَ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ مِنَ الْهَجْرِ وَهُوَ التَّرْكُ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَتْرُكُونَ التَّصَرُّفَ حِينَئِذٍ لِشِدَّةِ الْحَرِّ وَيَقِيلُونَ.
وحَدِيثُ أَنَسٍ تَقَدَّمَ فِي الْعِلْمِ فِي بَابِ مَنْ بَرَكَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ لَكِنْ بِاخْتِصَارٍ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى فَوَائِدِهِ مُسْتَوْعَبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ.
قَوْلُهُ: (زَاغَتْ) أَيْ مَالَتْ، وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ زَالَتْ وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا صَدْرُ الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: خَرَجَ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ فَصَلَّى الظُّهْرَ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ زَوَالَ الشَّمْسِ أَوَّلُ وَقْتِ الظُّهْرِ، إِذْ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ صَلَّى قَبْلَهُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ، وَكَانَ فِيهِ خِلَافٌ قَدِيمٌ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ جَوَّزَ صَلَاةَ الظُّهْرِ قَبْلَ الزَّوَالِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ مِثْلَهُ فِي الْجُمُعَةِ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِهِ.
قَوْلُهُ: (فِي عُرْضِ هَذَا الْحَائِطِ) بِضَمِّ الْعَيْنِ، أَيْ جَانِبِهِ أَوْ وَسَطِهِ.
قَوْلُهُ: (فَلَمْ أَرَ كَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ) أَيِ الْمَرْئِيِّ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ.
541 -
حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عن أبي، الْمِنْهَالِ، عَنْ أَبِي بَرْزَةَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الصُّبْحَ وَأَحَدُنَا يَعْرِفُ جَلِيسَهُ، وَيَقْرَأُ فِيهَا مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى الْمِائَةِ. وَيُصَلِّي الظُّهْرَ إِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ، وَالْعَصْرَ وَأَحَدُنَا يَذْهَبُ إِلَى أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجَعَ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ. وَنَسِيتُ مَا قَالَ فِي الْمَغْرِبِ. وَلَا يُبَالِي بِتَأْخِيرِ الْعِشَاءِ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ، ثُمَّ قَالَ: إِلَى شَطْرِ اللَّيْلِ. وَقَالَ مُعَاذٌ: قَالَ شُعْبَةُ: ثم لَقِيتُهُ مَرَّةً فَقَالَ: أَوْ ثُلُثِ اللَّيْلِ.
[الحديث 541 - أطرافه في 771، 599، 568، 547]
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ حَدَّثَنَا أَبُو الْمِنْهَالِ وَهُوَ سَيَّارُ بْنُ سَلَامَةَ الْآتِي ذِكْرُهُ فِي بَابِ وَقْتِ الْعَصْرِ مِنْ رِوَايَةِ عَوْفٍ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (يَعْرِفُ جَلِيسَهُ) أَيِ الَّذِي بِجَنْبِهِ، فَفِي رِوَايَةِ الْجَوْزَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ شُعْبَةَ: فَيَنْظُرُ الرَّجُلُ إِلَى جَلِيسِهِ إِلَى جَنْبِهِ فَيَعْرِفُ وَجْهَهُ وَلِأَحْمَدَ فَيَنْصَرِفُ الرَّجُلُ فَيَعْرِفُ وَجْهَ جَلِيسِهِ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ فَيَنْظُرُ إِلَى وَجْهِ جَلِيسِهِ الَّذِي يَعْرِفُ فَيَعْرِفُهُ. وَلَهُ فِي أُخْرَى وَنَنْصَرِفُ حِينَ يَعْرِفُ بَعْضُنَا وَجْهَ بَعْضٍ.
قَوْلُهُ: (وَالْعَصْرَ) بِالنَّصْبِ أَيْ وَيُصَلِّي الْعَصْرَ.
قَوْلُهُ: (وَأَحَدُنَا يَذْهَبُ إِلَى أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجَعَ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ) كَذَا وَقَعَ هُنَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَالْأَصِيلِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِهِمَا وَيَرْجِعُ بِزِيَادَةِ وَاوٍ وَبِصِيغَةِ الْمُضَارَعَةِ عَلَيْهَا شَرْحُ الْخَطَّابِيِّ، وَظَاهِرُهُ حُصُولُ الذَّهَابِ إِلَى أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَالرُّجُوعُ مِنْ ثَمَّ إِلَى الْمَسْجِدِ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ عَوْفٍ الْآتِيَةِ قَرِيبًا ثُمَّ يَرْجِعُ أَحَدُنَا إِلَى رَحْلِهِ فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا الذَّهَابُ فَقَطْ دُونَ الرُّجُوعِ، وَطَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ رِوَايَةِ الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: يُحْتَمَلُ أَنَّ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ وَأَحَدُنَا بِمَعْنَى ثُمَّ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّهَا تَرِدُ لِلتَّرْتِيبِ مِثْلُ ثُمَّ، وَفِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: ثُمَّ يَذْهَبُ أَحَدُنَا أَيْ مِمَّنْ صَلَّى مَعَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: رَجَعَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى يَرْجِعُ وَيَكُونُ بَيَانًا لِقَوْلِهِ يَذْهَبُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَجَعَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ يَذْهَبُ رَاجِعًا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ أَدَاةَ الشَّرْطِ سَقَطَتْ إِمَّا لَوْ أَوْ إِذَا، وَالتَّقْدِيرُ وَلَوْ يَذْهَبُ أَحَدُنَا إِلَخْ، وَجَوَّزَ الْكِرْمَانِيُّ أَنْ يَكُونَ رَجَعَ خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ أَحَدُنَا وَيَذْهَبُ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ لَكِنَّهُ يُغَايِرُ رِوَايَةَ عَوْفٍ، وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ وَالْعَصْرَ يَرْجِعُ الرَّجُلُ إِلَى أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ. وَلِمُسْلِمٍ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ شُعْبَةَ مِثْلُهُ لَكِنْ بِلَفْظِ يَذْهَبُ بَدَلَ يَرْجِعُ.
وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ أَيْضًا بَعْدَ أَنْ حَكَى احْتِمَالًا آخَرَ وَهُوَ أَيْ قَوْلُهُ رَجَعَ عَطْفٌ عَلَى يَذْهَبُ، وَالْوَاوُ مُقَدَّرَةٌ وَرَجَعَ بِمَعْنَى يَرْجِعُ. انْتَهَى.
وَهَذَا الِاحْتِمَالُ الْأَخِيرُ جَزَمَ بِهِ ابْنُ بَطَّالٍ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلرِّوَايَةِ الَّتِي حَكَيْنَاهَا. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ رِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ شَيْخِ الْمُصَنِّفِ فِيهِ بِلَفْظِ: وَإِنَّ أَحَدَنَا لَيَذْهَبُ إِلَى أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَيَرْجِعُ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا يَرِدُ عَلَيْهَا وَأَنَّ رِوَايَةَ عَوْفٍ أَوْضَحَتْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّجُوعِ الذَّهَابُ أَيْ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ رُجُوعًا؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْمَجِيءِ كَانَ مِنَ الْمَنْزِلِ إِلَى الْمَسْجِدِ فَكَانَ الذَّهَابُ مِنْهُ إِلَى الْمَنْزِلِ رُجُوعًا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ مَبَاحِثِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَابِ وَقْتِ الْعَصْرِ قَرِيبًا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُعَاذٌ) هُوَ ابْنُ مُعَاذٍ الْبَصْرِيُّ (عَنْ شُعْبَةَ) أَيْ بِإِسْنَادِهِ الْمَذْكُورِ. وَهَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ بِهِ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ، وَكَذَا الَّذِي قَبْلَهُ. وَجَزَمَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِقَوْلِهِ: إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ وَكَذَا لِأَحْمَدَ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنْ شُعْبَةَ.
542 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ - يَعْنِي ابْنَ مُقَاتِلٍ - قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنِي
غَالِبٌ الْقَطَّانُ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالظَّهَائِرِ سَجَدْنَا عَلَى ثِيَابِنَا اتِّقَاءَ الْحَرِّ.
قَوْلُهُ (حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ) كَذَا لِلْأَصِيلِيِّ وَغَيْرِهِ، وَلِأَبِي ذَرٍّ ابْنُ مُقَاتِلٍ.
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ.
قَوْلُهُ (أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) كَذَا وَقَعَ هُنَا مُهْمَلًا، وَهُوَ السُّلَمِيُّ، وَاسْمُ جَدِّهِ بُكَيْرٌ، وَثَبَتَ الْأَمْرَانِ فِي مُسْتَخْرَجِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ، وَفِي طَبَقَتِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْخُرَاسَانِيُّ نَزِيلُ دِمَشْقَ وَخَالِدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْكُوفِيُّ الْعَبْدِيُّ، وَلَمْ يُخَرِّجْ لَهُمَا الْبُخَارِيُّ شَيْئًا.
قَوْلُهُ (بِالظَّهَائِرِ) جَمْعُ ظَهِيرَةٍ وَهِيَ الْهَاجِرَةُ، وَالْمُرَادُ صَلَاةُ الظُّهْرِ.
قَوْلُهُ (سَجَدْنَا عَلَى ثِيَابِنَا) كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَالْأَكْثَرِينَ، وَفِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ فَسَجَدْنَا بِزِيَادَةِ فَاءٍ وَهِيَ عَاطِفَةٌ عَلَى شَيْءٍ مُقَدَّرٍ.
قَوْلُهُ (اتِّقَاءَ الْحَرِّ) أَيْ لِلْوِقَايَةِ مِنَ الْحَرِّ، وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، عَنْ غَالِبٍ كَمَا مَضَى، وَلَفْظُهُ مُغَايِرٌ لِلَفْظِهِ، لَكِنَّ الْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابِ السُّجُودِ عَلَى الثَّوْبِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ وَفِيهِ الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ مَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ السُّجُودِ عَلَى الثَّوْبِ وَلَوْ كَانَ يَتَحَرَّكُ بِحَرَكَتِهِ، وَفِيهِ الْمُبَادَرَةُ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ وَلَوْ كَانَ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ. وَلَا يُخَالِفُ ذَلِكَ الْأَمْرَ بِالْإِبْرَادِ، بَلْ هُوَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ وَإِنْ كَانَ الْإِبْرَادُ أَفْضَلَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
12 - بَاب تَأْخِيرِ الظُّهْرِ إِلَى الْعَصْرِ
543 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِالْمَدِينَةِ سَبْعًا وَثَمَانِيًا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، فَقَالَ أَيُّوبُ: لَعَلَّهُ فِي لَيْلَةٍ مَطِيرَةٍ؟ قَالَ: عَسَى.
[الحديث 543 - طرفاه في: 51174، 562]
قَوْلُهُ: (بَابُ تَأْخِيرِ الظُّهْرِ إِلَى الْعَصْرِ) أَيْ إِلَى أَوَّلِ وَقْتِ الْعَصْرِ. وَالْمُرَادُ أَنَّهُ عِنْدَ فَرَاغِهِ مِنْهَا دَخَلَ وَقْتُ صَلَاةِ الْعَصْرِ، كَمَا سَيَأْتِي عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ رَاوِي الْحَدِيثِ. وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: أَشَارَ الْبُخَارِيُّ إِلَى إِثْبَاتِ الْقَوْلِ بِاشْتِرَاكِ الْوَقْتَيْنِ، لَكِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِذَلِكَ عَلَى عَادَتِهِ فِي الْأُمُورِ الْمُحْتَمَلَةِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ يَحْتَمَلُ ذَلِكَ وَيَحْتَمَلُ غَيْرَهُ، قَالَ: وَالتَّرْجَمَةُ مُشْعِرَةٌ بِانْتِفَاءِ الْفَاصِلَةِ بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الشَّافِعِيِّ وَتَبِعَهُ غَيْرُهُ فَقَالُوا: قَالَ الشَّافِعِيُّ بَيْنَ وَقْتِ الظُّهْرِ وَبَيْنَ وَقْتِ الْعَصْرِ فَاصِلَةٌ لَا تَكُونُ وَقْتًا لِلظُّهْرِ وَلَا لِلْعَصْرِ اهـ. وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْمَذْهَبِ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَإِنَّمَا الْمَنْقُولُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ آخِرَ وَقْتِ الظُّهْرِ يَنْفَصِلُ مِنْ أَوَّلِ وَقْتِ الْعَصْرِ، وَمُرَادُهُ نَفْيُ الْقَوْلِ بِالِاشْتِرَاكِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ احْتَجَّ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقْتُ الظُّهْرِ إِلَى الْعَصْرِ وَالْعَصْرِ إِلَى الْمَغْرِبِ فَكَمَا أَنَّهُ لَا اشْتِرَاكَ بَيْنَ الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ، فَكَذَلِكَ لَا اشْتِرَاكَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ.
قَوْلُهُ (عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ) هُوَ أَبُو الشَّعْثَاءِ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.
قَوْلُهُ (سَبْعًا وَثَمَانِيًا) أَيْ سَبْعًا جَمِيعًا وَثَمَانِيًا جَمِيعًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي بَابِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ.
قَوْلُهُ (فَقَالَ أَيُّوبُ) هُوَ السَّخْتِيَانِيُّ، وَالْمَقُولُ لَهُ هُوَ أَبُو الشَّعْثَاءِ.
قَوْلُهُ (عَسَى) أَيْ أَنْ يَكُونَ كَمَا قُلْتَ، وَاحْتِمَالُ الْمَطَرِ قَالَ بِهِ أَيْضًا مَالِكٌ عَقِبَ إِخْرَاجِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
نَحْوَهُ، وَقَالَ بَدَلَ قَوْلِهِ بِالْمَدِينَةِ: مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ قَالَ مَالِكٌ: لَعَلَّهُ كَانَ فِي مَطَرٍ، لَكِنْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ طَرِيقِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ بِلَفْظِ: مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ، فَانْتَفَى أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ الْمَذْكُورُ لِلْخَوْفِ أَوِ السَّفَرِ أَوِ الْمَطَرِ، وَجَوَّزَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ الْمَذْكُورُ لِلْمَرَضِ، وَقَوَّاهُ النَّوَوِيُّ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جَمْعُهُ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لِعَارِضِ الْمَرَضِ لَمَا صَلَّى مَعَهُ إِلَّا مَنْ بِهِ نَحْوُ ذَلِكَ الْعُذْرِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ بِأَصْحَابِهِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَتِهِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي غَيْمٍ فَصَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ انْكَشَفَ الْغَيْمُ مَثَلًا، فَبَانَ أَنَّ وَقْتَ الْعَصْرِ دَخَلَ فَصَلَّاهَا، قَالَ: وَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ أَدْنَى احْتِمَالٍ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فَلَا احْتِمَالَ فِيهِ فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ اهـ.
وَكَأَنَّ نَفْيَهُ الِاحْتِمَالَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَغْرِبِ إِلَّا وَقْتٌ وَاحِدٌ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَهُ خِلَافُهُ، وَهُوَ أَنَّ وَقْتَهَا يَمْتَدُّ إِلَى الْعِشَاءِ، فَعَلَى هَذَا فَالِاحْتِمَالُ قَائِمٌ. قَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى أَنَّ الْجَمْعَ الْمَذْكُورَ صُورِيٌّ، بِأَنْ يَكُونَ أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى آخِرِ وَقْتِهَا وَعَجَّلَ الْعَصْرَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا. قَالَ: وَهُوَ احْتِمَالٌ ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ مُخَالَفَةً لَا تُحْتَمَلُ اهـ.
وَهَذَا الَّذِي ضَعَّفَهُ اسْتَحْسَنَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَرَجَّحَهُ قَبْلَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَجَزَمَ بِهِ مِنَ الْقُدَمَاءِ ابْنُ الْمَاجِشُونِ، وَالطَّحَاوِيُّ، وَقَوَّاهُ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ بِأَنَّ أَبَا الشَّعْثَاءِ وَهُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَدْ قَالَ بِهِ، وَذَلِكَ فِيمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، فَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ، وَزَادَ: قُلْتُ: يَا أَبَا الشَّعْثَاءِ أَظُنُّهُ أَخَّرَ الظُّهْرَ وَعَجَّلَ الْعَصْرَ وَأَخَّرَ الْمَغْرِبَ وَعَجَّلَ الْعِشَاءَ. قَالَ: وَأَنَا أَظُنُّهُ. قَالَ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ: وَرَاوِي الْحَدِيثِ أَدْرَى بِالْمُرَادِ مِنْ غَيْرِهِ.
قُلْتُ: لَكِنْ لَمْ يَجْزِمْ بِذَلِكَ، بَلْ لَمْ يَسْتَمِرَّ عَلَيْهِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ كَلَامُهُ لِأَيُّوبَ وَتَجْوِيزُهُ لِأَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ بِعُذْرِ الْمَطَرِ، لَكِنْ يُقَوِّي مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْجَمْعِ الصُّورِيِّ أَنَّ طُرُقَ الْحَدِيثِ كُلَّهَا لَيْسَ فِيهَا تَعَرُّضٌ لِوَقْتِ الْجَمْعِ. فَإِمَّا أَنْ تُحْمَلَ عَلَى مُطْلَقِهَا فَيَسْتَلْزِمُ إِخْرَاجَ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا الْمَحْدُودِ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَإِمَّا أَنْ تُحْمَلَ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ لَا تَسْتَلْزِمُ الْإِخْرَاجَ وَيُجْمَعُ بِهَا بَيْنَ مُفْتَرَقِ الْأَحَادِيثِ، وَالْجَمْعُ الصُّورِيُّ أَوْلَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(1)
.
وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ إِلَى الْأَخْذِ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ، فَجَوَّزُوا الْجَمْعَ فِي الْحَضَرِ لِلْحَاجَةِ مُطْلَقًا لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُتَّخَذَ ذَلِكَ عَادَةً، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ ابْنُ سِيرِينَ، وَرَبِيعَةُ، وَأَشْهَبُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْقَفَّالُ الْكَبِيرُ وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَاسْتَدَلَّ لَهُمْ بِمَا وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: فَقُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: لِمَ فَعَلَ ذَلِكَ؟ قَالَ: أَرَادَ أَنْ لَا يُحْرِجَ أَحَدًا مِنْ أُمَّتِهِ. وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو ابْنِ هَرَمٍ، عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ صَلَّى بِالْبَصْرَةِ الْأُولَى وَالْعَصْرَ لَيْسَ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ، وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ لَيْسَ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ، فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ شُغْلٍ، وَفِيهِ رَفْعُهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ أَنَّ شُغْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورَ كَانَ بِالْخُطْبَةِ، وَأَنَّهُ خَطَبَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى أَنْ بَدَتِ النُّجُومُ، ثُمَّ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ.
وَفِيهِ تَصْدِيقُ أَبِي هُرَيْرَةَ، لِابْنِ عَبَّاسٍ فِي رَفْعِهِ. وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنَ التَّعْلِيلِ بِنَفْيِ الْحَرَجِ ظَاهِرٌ فِي مُطْلَقِ الْجَمْعِ، وَقَدْ جَاءَ مِثْلُهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَلَفْظُهُ جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: صَنَعْتُ هَذَا، لِئَلَّا تُحْرَجَ أُمَّتِي. وَإِرَادَةُ نَفْيِ الْحَرَجِ يَقْدَحُ فِي حَمْلِهِ عَلَى الْجَمْعِ الصُّورِيِّ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ إِلَيْهِ لَا يَخْلُو عَنْ حَرَجٍ.
(1)
هذا الجمع ضعيف، والصواب حمل الحديث المذكور على أنه صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلوات المذكورة لمشقة عارضة ذلك اليوم من مرض غالب أو برد شديد أو وحل ونحو ذلك. ويدل على ذلك قول ابن عباس لما سئل عن عملة هذا الحجم قال:«لئلا يحرج أمته» ، وهو جواب عظيم سديد شاف. والله أعلم
13 - بَاب وَقْتِ الْعَصْرِ
وقال أبو أسامة عن هشام: من قعر حجرتها
544 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ حُجْرَتِهَا.
545 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ فِي حُجْرَتِهَا، لَمْ يَظْهَرْ الْفَيْءُ مِنْ حُجْرَتِهَا.
546 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي صَلَاةَ الْعَصْرِ وَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ فِي حُجْرَتِي، لَمْ يَظْهَرْ الْفَيْءُ بَعْدُ.
قوله (بَابُ وَقْتِ الْعَصْرِ. وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ مِنْ قَعْرِ حُجْرَتِهَا) كَذَا وَقَعَ هَذَا التَّعْلِيقُ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَالْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ. وَالصَّوَابُ تَأْخِيرُهُ عَنِ الْإِسْنَادِ الْمَوْصُولِ كَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْمُصَنِّفِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَنَسَ بْنَ عِيَاضٍ وَهُوَ أَبُو ضَمْرَةَ اللَّيْثِيُّ، وَأَبَا أُسَامَةَ رَوَيَا الْحَدِيثَ عَنْ هِشَامٍ وَهُوَ ابْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ، وَزَادَ أَبُو أُسَامَةَ التَّقْيِيدَ بِقَعْرِ الْحُجْرَةِ، وَهُوَ أَوْضَحُ فِي تَعْجِيلِ الْعَصْرِ مِنَ الرِّوَايَةِ الْمُطْلَقَةِ، وَقَدْ وَصَلَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ طَرِيقَ أَبِي أُسَامَةَ فِي مُسْتَخْرَجِهِ لَكِنْ بِلَفْظِ وَالشَّمْسُ وَاقِعَةٌ فِي حُجْرَتِي وَعُرِفَ بِذَلِكَ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ حُجْرَتِهَا لِعَائِشَةَ، وَفِيهِ نَوْعُ الْتِفَاتٍ. وَإِسْنَادُ أَبِي ضَمْرَةَ كُلُّهُمْ مَدَنِيُّونَ، وَالْمُرَادُ بِالْحُجْرَةِ - وَهِيَ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْجِيمِ - الْبَيْتُ، وَالْمُرَادُ بِالشَّمْسِ ضَوْؤُهَا.
وَقَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ (وَالشَّمْسُ فِي حُجْرَتِهَا) أَيْ بَاقِيَةٌ، وَقَوْلُهُ لَمْ يَظْهَرِ الْفَيْءُ؛ أَيْ: فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَتِ الشَّمْسُ فِيهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْمَوَاقِيتِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ: وَالشَّمْسُ فِي حُجْرَتِهَا قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ أَيْ تَرْتَفِعَ، فَهَذَا الظُّهُورُ غَيْرُ ذَلِكَ الظُّهُورِ. وَمُحَصِّلُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِظُهُورِ الشَّمْسِ خُرُوجُهَا مِنَ الْحُجْرَةِ، وَبِظُهُورِ الْفَيْءِ انْبِسَاطُهُ فِي الْحُجْرَةِ. وَلَيْسَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ اخْتِلَافٌ، لِأَنَّ انْبِسَاطَ الْفَيْءِ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ خُرُوجِ الشَّمْسِ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَشُعَيْبٌ وَابْنُ أَبِي حَفْصَةَ: وَالشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ.
قَوْلُهُ (ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ) فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ عَنْ سُفْيَانَ سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي مِنَ الزُّهْرِيِّ.
قَوْلُهُ (وَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ)، أَيْ ظَاهِرَةٌ.
قَوْلُهُ (بَعْدُ) بِالضَّمِّ بِلَا تَنْوِينٍ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ مَالِكٌ إِلَخْ) يَعْنِي أَنَّ الْأَرْبَعَةَ الْمَذْكُورِينَ رَوَوْهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فَجَعَلُوا الظُّهُورَ لِلشَّمْسِ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ جَعَلَهُ للْفَيْءِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا تَوْجِيهَ ذَلِكَ وَطَرِيقَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَأَنَّ طَرِيقَ مَالِكٍ وَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي أَوَّلِ الْمَوَاقِيتِ، وَأَمَّا طَرِيقُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَهُوَ الْأَنْصَارِيُّ فَوَصَلَهَا الذُّهْلِيُّ فِي الزُّهْرِيَّاتِ، وَأَمَّا طَرِيقُ شُعَيْبٍ، وَهُوَ ابْنُ أَبِي حَمْزَةَ فَوَصَلَهَا الطَّبَرَانِيُّ فِي مُسْنَدِ الشَّامِيِّينَ، وَأَمَّا طَرِيقُ ابْنِ أَبِي حَفْصَةَ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ مَيْسَرَةَ فَرَوَيْنَاهَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَدِيٍّ فِي نُسْخَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي حَفْصَةَ. وَالْمُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجِيلُ صَلَاةِ الْعَصْرِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي فَهِمَتْهُ عَائِشَةُ، وَكَذَا الرَّاوِي عَنْهَا عُرْوَةُ وَاحْتَجَّ بِهِ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي تَأْخِيرِهِ صَلَاةَ الْعَصْرِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَشَذَّ الطَّحَاوِيُّ فَقَالَ:
لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى التَّعْجِيلِ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْحُجْرَةَ كَانَتْ قَصِيرَةَ الْجِدَارِ، فَلَمْ تَكُنِ الشَّمْسُ تَحْتَجِبُ عَنْهَا إِلَّا بِقُرْبِ غُرُوبِهَا فَيَدُلُّ عَلَى التَّأْخِيرِ لَا عَلَى التَّعْجِيلِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ مِنَ الِاحْتِمَالِ إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ مَعَ اتِّسَاعِ الْحُجْرَةِ، وَقَدْ عُرِفَ بِالِاسْتِفَاضَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ أَنَّ حُجَرَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ تَكُنْ مُتَّسِعَةً، وَلَا يَكُونُ ضَوْءُ الشَّمْسِ بَاقِيًا فِي قَعْرِ الْحُجْرَةِ الصَّغِيرَةِ إِلَّا وَالشَّمْسُ قَائِمَةٌ مُرْتَفِعَةٌ، وَإِلَّا مَتَى مَالَتْ جِدًّا ارْتَفَعَ ضَوْؤُهَا عَنْ قَاعِ الْحُجْرَةِ، وَلَوْ كَانَتِ الْجُدُرُ قَصِيرَةً. قَالَ النَّوَوِيُّ: كَانَتِ الْحُجْرَةُ ضَيِّقَةَ الْعَرْصَةِ قَصِيرَةَ الْجِدَارِ، بِحَيْثُ كَانَ طُولُ جِدَارِهَا أَقَلَّ مِنْ مَسَافَةِ الْعَرْصَةِ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ، فَإِذَا صَارَ ظِلُّ الْجِدَارِ مِثْلَهُ كَانَتِ الشَّمْسُ بَعْدُ فِي أَوَاخِرِ الْعَرْصَةِ اهـ. وَكَأَنَّ الْمُؤَلِّفَ لَمَّا لَمْ يَقَعْ لَهُ حَدِيثٌ عَلَى شَرْطِهِ فِي تَعْيِينِ أَوَّلِ وَقْتِ الْعَصْرِ - وَهُوَ مَصِيرُ ظِلِّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ - اسْتَغْنَى بِهَذَا الْحَدِيثِ الدَّالِّ عَلَى ذَلِكَ بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ عِدَّةَ أَحَادِيثَ مُصَرَّحَةً بِالْمَقْصُودِ.
وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مُخَالَفَةٌ فِي ذَلِكَ، إِلَّا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، فَالْمَشْهُورُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ مَصِيرُ ظِلِّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ بِالتَّثْنِيَةِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: خَالَفَهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ فِي ذَلِكَ حَتَّى أَصْحَابُهُ - يَعْنِي الْآخِذِينَ عَنْهُ - وَإِلَّا فَقَدِ انْتَصَرَ لَهُ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ فَقَالُوا: ثَبَتَ الْأَمْرُ بِالْإِبْرَادِ، وَلَا يَحْصُلُ إِلَّا بَعْدَ ذَهَابِ اشْتِدَادِ الْحَرِّ، وَلَا يَذْهَبُ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ الشَّيْءِ مِثْلَيْهِ، فَيَكُونُ أَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ مَصِيرَ الظِّلِّ مِثْلَيْهِ، وَحِكَايَةُ مِثْلِ هَذَا تُغْنِي عَنْ رَدِّهِ.
547 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَوْفٌ، عَنْ سَيَّارِ بْنِ سَلَامَةَ، قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَأَبِي عَلَى أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ، فَقَالَ لَهُ أَبِي: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ؟ فَقَالَ: كَانَ يُصَلِّي الْهَجِيرَ - الَّتِي تَدْعُونَهَا الْأُولَى - حِينَ تَدْحَضُ الشَّمْسُ، وَيُصَلِّي الْعَصْرَ ثُمَّ يَرْجِعُ أَحَدُنَا إِلَى رَحْلِهِ فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ. وَنَسِيتُ مَا قَالَ فِي الْمَغْرِبِ. وَكَانَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ من الْعِشَاءَ الَّتِي تَدْعُونَهَا الْعَتَمَةَ. وَكَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا. وَكَانَ يَنْفَتِلُ مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ حِينَ يَعْرِفُ الرَّجُلُ جَلِيسَهُ، وَيَقْرَأُ بِالسِّتِّينَ إِلَى الْمِائَةِ.
548 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي الْعَصْرَ، ثُمَّ يَخْرُجُ الْإِنْسَانُ إِلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فَيجِدُهُمْ يُصَلُّونَ الْعَصْرَ.
[الحديث 548 - أطرافه في: 7329، 551، 550]
549 -
حَدَّثَنَا ابْنُ مُقَاتِلٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ يَقُولُ: صَلَّيْنَا مَعَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الظُّهْرَ، ثُمَّ خَرَجْنَا حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَوَجَدْنَاهُ يُصَلِّي الْعَصْرَ، فَقُلْتُ: يَا عَمِّ، مَا هَذِهِ الصَّلَاةُ الَّتِي صَلَّيْتَ؟ قَالَ: الْعَصْرُ. وَهَذِهِ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّتِي كُنَّا نُصَلِّي مَعَهُ.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَعَوْفٌ هُوَ الْأَعْرَابِيُّ.
قَوْلُهُ: (دَخَلْتُ أَنَا وَأَبِي) زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ زَمَنَ أُخْرِجَ ابْنُ زِيَادٍ مِنَ الْبَصْرَةِ قُلْتُ: وَكَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ كَمَا سَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْفِتَنِ، وَسَلَامَةُ وَالِدُ سَيَّارٍ حَكَى عَنْهُ وَلَدُهُ هُنَا، وَلَمْ أَجِدْ مَنْ تَرْجَمَهُ، وَقَدْ وَقَعَتْ لِابْنِهِ عَنْهُ رِوَايَةٌ فِي الطَّبَرَانِيِّ الْكَبِيرِ فِي ذِكْرِ الْحَوْضِ.
قَوْلُهُ: (الْمَكْتُوبَةَ) أَيِ الْمَفْرُوضَةَ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ لَيْسَ مِنَ الْمَكْتُوبَةِ؛ لِكَوْنِ أَبِي بَرْزَةَ لَمْ يَذْكُرْهُ، وَفِيهِ
بَحْثٌ.
قَوْلُهُ: (كَانَ يُصَلِّي الْهَجِيرَ) أَيْ صَلَاةَ الْهَجِيرِ، وَالْهَجِيرُ وَالْهَاجِرَةُ بِمَعْنًى، وَهُوَ وَقْتُ شِدَّةِ الْحَرِّ، وَسُمِّيَتِ الظُّهْرُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ وَقْتَهَا يَدْخُلُ حِينَئِذٍ.
قَوْلُهُ: (تَدْعُونَهَا الْأُولَى) قِيلَ سُمِّيَتِ الْأُولَى؛ لِأَنَّهَا أَوَّلُ صَلَاةِ النَّهَارِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهَا أَوَّلُ صَلَاةٍ صَلَّاهَا جِبْرِيلُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ بَيَّنَ لَهُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ.
قَوْلُهُ: (حِينَ تَدْحَضُ الشَّمْسُ) أَيْ تَزُولُ عَنْ وَسَطِ السَّمَاءِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الدَّحْضِ وَهُوَ الزَّلْقُ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا، وَلَا يُخَالِفُ ذَلِكَ الْأَمْرَ بِالْإِبْرَادِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ الْبَرْدِ، أَوْ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالْإِبْرَادِ، أَوْ عِنْدَ فَقْدِ شُرُوطِ الْإِبْرَادِ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِشِدَّةِ الْحَرِّ، أَوْ لِبَيَانِ الْجَوَازِ. وَقَدْ يَتَمَسَّكُ بِظَاهِرِهِ مَنْ قَالَ: إِنَّ فَضِيلَةَ أَوَّلِ الْوَقْتِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِتَقْدِيمِ مَا يُمْكِنُ تَقْدِيمُهُ مِنْ طَهَارَةٍ وَسَتْرٍ وَغَيْرِهِمَا قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ، وَلَكِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ التَّقْرِيبُ. فَتَحْصُلُ الْفَضِيلَةُ لِمَنْ لَمْ يَتَشَاغَلْ عِنْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ بِغَيْرِ أَسْبَابِ الصَّلَاةِ.
قَوْلُهُ: (إِلَى رَحْلِهِ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، أَيْ مَسْكَنِهِ.
قَوْلُهُ: (فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ) صِفَةٌ لِلرَّحْلِ.
قَوْلُهُ: (وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ) أَيْ بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ. قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: الْمُرَادُ بِحَيَاتِهَا قُوَّةُ أَثَرِهَا حَرَارَةً وَلَوْنًا وَشُعَاعًا وَإِنَارَةً، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ بَعْدَ مَصِيرِ الظِّلِّ مِثْلَيِ الشَّيْءِ اهـ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ خَيْثَمَةَ أَحَدِ التَّابِعِينَ قَالَ: حَيَاتُهَا أَنْ تَجِدَ حَرَّهَا.
قَوْلُهُ: (وَنَسِيتُ مَا قَالَ فِي الْمَغْرِبِ) قَائِلُ ذَلِكَ هُوَ سَيَّارٌ، بَيَّنَهُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ حَجَّاجٍ، عَنْ شُعْبَةَ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (أَنْ يُؤَخِّرَ مِنَ الْعِشَاءِ) أَيْ مِنْ وَقْتِ الْعِشَاءِ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّأْخِيرِ قَلِيلًا؛ لِأَنَّ التَّبْعِيضَ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ بَعْضٌ مُطْلَقٌ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى قِلَّةٍ وَلَا كَثْرَةٍ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ وَقْتِ الْعِشَاءِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ التَّأْخِيرَ إِنَّمَا كَانَ لِانْتِظَارِ مَنْ يَجِيءُ لِشُهُودِ الْجَمَاعَةِ.
قَوْلُهُ: (الَّتِي تَدْعُونَهَا الْعَتَمَةَ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَرْكِ تَسْمِيَتِهَا بِذَلِكَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّ تَقْيِيدَهُ الظُّهْرَ وَالْعِشَاءَ دُونَ غَيْرِهِمَا لِلِاهْتِمَامِ بِأَمْرِهِمَا، فَتَسْمِيَةُ الظُّهْرِ بِالْأُولَى يُشْعِرُ بِتَقْدِيمِهَا، وَتَسْمِيَةُ الْعِشَاءِ بِالْعَتَمَةِ يُشْعِرُ بِتَأْخِيرِهَا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى كَرَاهَةِ النَّوْمِ قَبْلَهَا فِي بَابٍ مُفْرَدٍ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ يَنْفَتِلُ) أَيْ يَنْصَرِفُ مِنَ الصَّلَاةِ، أَوْ يَلْتَفِتُ إِلَى الْمَأْمُومِينَ.
قَوْلُهُ: (مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ) أَيِ الصُّبْحِ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ فِي تَسْمِيَةِ الصُّبْحِ بِذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (حِينَ يَعْرِفُ الرَّجُلُ جَلِيسَهُ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى اخْتِلَافِ أَلْفَاظِ الرِّوَايَةِ فِيهِ، وَاسْتُدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى التَّعْجِيلِ بِصَلَاةِ الصُّبْحِ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ مَعْرِفَةِ الْإِنْسَانِ وَجْهَ جَلِيسِهِ يَكُونُ فِي أَوَاخِرِ الْغَلَسِ، وَقَدْ صَحَّ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ عِنْدَ فَرَاغِ الصَّلَاةِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ مِنْ عَادَتِهِ صلى الله عليه وسلم تَرْتِيلُ الْقِرَاءَةِ وَتَعْدِيلُ الْأَرْكَانِ، فَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَدْخُلُ فِيهَا مُغَلِّسًا، وَادَّعَى الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْآتِي حَيْثُ قَالَتْ فِيهِ: لَا يُعْرَفْنَ مِنَ الْغَلَسِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّ حَدِيثَ أَبِي بَرْزَةَ مُتَعَلِّقٌ بِمَعْرِفَةِ مَنْ هُوَ مُسْفِرٌ جَالِسٌ إِلَى جَنْبِ الْمُصَلِّي فَهُوَ مُمْكِنٌ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ مُتَعَلِّقٌ بِمَنْ هُوَ مُتَلَفِّفٌ مَعَ أَنَّهُ عَلَى بُعْدٍ فَهُوَ بَعِيدٌ.
قَوْلُهُ: (وَيَقْرَأُ) أَيْ فِي الصُّبْحِ (بِالسِّتِّينَ إِلَى الْمِائَةِ) يَعْنِي مِنَ الْآيِ. وَقَدَّرَهَا فِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ بِسُورَةِ الْحَاقَّةِ وَنَحْوِهَا، وَتَقَدَّمَ فِي بَابِ وَقْتِ الظُّهْرِ بِلَفْظِ مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى الْمِائَةِ وَأَشَارَ الْكِرْمَانِيُّ أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَقُولَ مَا بَيْنَ السِّتِّينَ وَالْمِائَةِ لِأَنَّ لَفْظَ بَيْنَ يَقْتَضِي الدُّخُولَ عَلَى مُتَعَدِّدٍ. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَيَقْرَأُ مَا بَيْنَ السِّتِّينَ وَفَوْقَهَا إِلَى الْمِائَةِ، فَحُذِفَ لَفْظُ فَوْقَهَا لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَفِي السِّيَاقِ تَأَدُّبُ الصَّغِيرِ مَعَ الْكَبِيرِ، وَمُسَارَعَةُ الْمَسْئُولِ بِالْجَوَابِ إِذَا كَانَ عَارِفًا بِهِ.
قَوْلُهُ: (إِلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ) أَيْ بِقُبَاءَ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَنَازِلَهُمْ. وَإِخْرَاجُ الْمُصَنِّفِ لِهَذَا الْحَدِيثِ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ: كُنَّا نَفْعَلُ كَذَا مُسْنَدٌ، وَلَوْ لَمْ يُصَرِّحْ بِإِضَافَتِهِ إِلَى زَمَنِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْحَاكِمِ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْخَطِيبُ وَغَيْرُهُمَا: هُوَ مَوْقُوفٌ. وَالْحَقُّ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ لَفْظًا مَرْفُوعٌ حُكْمًا؛ لِأَنَّ الصَّحَابِيَّ أَوْرَدَهُ فِي مَقَامِ الِاحْتِجَاجِ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ كَوْنَهُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ مَالِكٍ، فَقَالَ فِيهِ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الْعَصْرَ الْحَدِيثَ، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ. قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: كَانَتْ مَنَازِلُ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَلَى مِيلَيْنِ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَكَانُوا يُصَلُّونَ الْعَصْرَ فِي وَسَطِ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَشْتَغِلُونَ بِأَعْمَالِهِمْ وَحُرُوثِهِمْ، فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى تَعْجِيلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِصَلَاةِ الْعَصْرِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا، وَسَيَأْتِي فِي طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَأْتِيهِمْ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ.
قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ) هُوَ أَسْعَدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، وَهُوَ عَمُّ الرَّاوِي عَنْهُ. وَفِي الْقِصَّةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ يُصَلِّي الصَّلَاةَ فِي آخِرِ وَقْتِهَا تَبَعًا لِسَلَفِهِ، إِلَى أَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ عُرْوَةُ فَرَجَعَ إِلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ عُرْوَةُ فِي الْعَصْرِ دُونَ الظُّهْرِ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ بِخِلَافِ وَقْتِ الْعَصْرِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا أَيْضًا، وَهُوَ عِنْدَ انْتِهَاءِ وَقْتِ الظُّهْرِ، وَلِهَذَا تَشَكَّكَ أَبُو أُمَامَةَ فِي صَلَاةِ أَنَسٍ أَهِيَ الظُّهْرُ أَوِ الْعَصْرُ، فَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى عَدَمِ الْفَاصِلَةِ بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ. وَقَوْلُهُ لَهُ يَا عَمُّ هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْقِيرِ، وَلِكَوْنِهِ أَكْبَرَ سِنًّا مِنْهُ مَعَ أَنَّ نَسَبَهُمَا مُجْتَمِعٌ فِي الْأَنْصَارِ، لَكِنَّهُ لَيْسَ عَمَّهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ وَقْتِ الْعَصْرِ) كَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي دُونَ غَيْرَةِ، وَهُوَ خَطَأٌ لِأَنَّهُ تَكْرَارٌ بِلَا فَائِدَةٍ.
550 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ حَيَّةٌ، فَيَذْهَبُ الذَّاهِبُ إِلَى الْعَوَالِي فَيَأْتِيهِمْ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ، وَبَعْضُ الْعَوَالِي مِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ أَوْ نَحْوِهِ.
551 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي الْعَصْرَ، ثُمَّ يَذْهَبُ الذَّاهِبُ مِنَّا إِلَى قُبَاءٍ فَيَأْتِيهِمْ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ.
قَوْلُهُ (وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ حَيَّةٌ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى بَقَاءِ حَرِّهَا وَضَوْئِهَا كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ (فَيَأْتِيهِمْ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ) أَيْ دُونَ ذَلِكَ الِارْتِفَاعِ. لَكِنَّهَا لَمْ تَصِلْ إِلَى الْحَدِّ الَّذِي تُوصَفُ بِهِ بِأَنَّهَا مُنْخَفِضَةٌ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى تَعْجِيلِهِ صلى الله عليه وسلم لِصَلَاةِ الْعَصْرِ لِوَصْفِ الشَّمْسِ بِالِارْتِفَاعِ بَعْدَ أَنْ تَمْضِيَ مَسَافَةَ أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ، وَالطَّحَاوِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَبْيَضِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِنَا الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ مُحَلِّقَةٌ، ثُمَّ أَرْجِعُ إِلَى قَوْمِي فِي نَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ فَأَقُولُ لَهُمْ: قُومُوا فَصَلُّوا فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ صَلَّى. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ أُولَئِكَ - يَعْنِي قَوْمَ أَنَسٍ - لَمْ يَكُونُوا يُصَلُّونَهَا إِلَّا قَبْلَ اصْفِرَارِ الشَّمْسِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُعَجِّلُهَا.
قَوْلُهُ: (وَبَعْضُ الْعَوَالِي) كَذَا وَقَعَ هُنَا أَيْ بَيْنَ بَعْضِ الْعَوَالِي وَالْمَدِينَةِ الْمَسَافَةُ الْمَذْكُورَةُ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ حَدِيثَ الْبَابِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرٍ الصَّغَانِيِّ، عَنْ أَبِي الْيَمَانِيِّ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ وَقَالَ فِي آخِرِهِ: وَبُعْدُ الْعَوَالِي بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَبِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الِاعْتِصَامِ تَعْلِيقًا، وَوَصَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، لَكِنْ قَالَ أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ أَوْ ثَلَاثَةٍ، وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ وَأَبُو الْعَبَّاسِ السَّرَّاجُ جَمِيعًا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْفَرَجِ أَبِي عُتْبَةَ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حِمْيَرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبْلَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَلَفْظُهُ: وَالْعَوَالِي مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ، أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، عَنِ الْمَحَامِلِيِّ، عَنْ أَبِي عُتْبَةَ الْمَذْكُورِ بِسَنَدِهِ فَوَقَعَ عِنْدَهُ: عَلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فَقَالَ فِيهِ: عَلَى مِيلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ فَتَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَقْرَبَ الْعَوَالِي مِنَ الْمَدِينَةِ مَسَافَةُ مِيلَيْنِ وَأَبْعَدُهَا مَسَافَةُ سِتَّةِ أَمْيَالٍ إِنْ كَانَتْ رِوَايَةُ الْمَحَامِلِيِّ مَحْفُوظَةً. وَوَقَعَ فِي الْمُدَوَّنَةِ عَنْ مَالِكٍ: أَبْعَدُ الْعَوَالِي مَسَافَةُ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ قَالَ عِيَاضٌ: كَأَنَّهُ أَرَادَ مُعْظَمَ عِمَارَتِهَا، وَإِلَّا فَأَبْعَدُهَا ثَمَانِيَةُ أَمْيَالٍ. انْتَهَى.
وَبِذَلِكَ جَزَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ آخِرُهُمْ صَاحِبُ النِّهَايَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَنَّهُ أَبْعَدُ الْأَمْكِنَةِ الَّتِي كَانَ يَذْهَبُ إِلَيْهَا الذَّاهِبُ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ، وَالْعَوَالِي عِبَارَةٌ عَنِ الْقُرَى الْمُجْتَمِعَةِ حَوْلَ الْمَدِينَةِ مِنْ جِهَةِ نَجْدِهَا، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ جِهَةِ تِهَامَتِهَا فَيُقَالُ لَهَا السَّافِلَةُ.
(تَنْبِيهٌ): قَوْلُهُ (وَبَعْضُ الْعَوَالِي إِلَخْ) مُدْرَجٌ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، بَيَّنَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ فِيهِ - بَعْدَ قَوْلِهِ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ - قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَالْعَوَالِي مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى مِيلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، وَلَمْ يَقِفِ الْكِرْمَانِيُّ عَلَى هَذَا فَقَالَ: هُوَ إِمَّا كَلَامُ الْبُخَارِيِّ أَوْ أَنَسٍ أَوِ الزُّهْرِيِّ كَمَا هُوَ عَادَتُهُ.
قَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الْأُخْرَى: (كُنَّا نُصَلِّي الْعَصْرَ) أَيْ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا يَظْهَرُ ذَلِكَ مِنَ الطُّرُقِ الْأُخْرَى، وَقَدْ رَوَاهُ خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ مَالِكٍ كَذَلِكَ مُصَرَّحًا بِهِ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي غَرَائِبِهِ.
قَوْلُهُ (ثُمَّ يَذْهَبُ الذَّاهِبُ مِنَّا إِلَى قُبَاءٍ) كَأَنَّ أَنَسًا أَرَادَ بِالذَّاهِبِ نَفْسَهُ كَمَا تُشْعِرُ بِذَلِكَ رِوَايَةُ أَبِي الْأَبْيَضِ الْمُتَقَدِّمَةِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ يُخْتَلَفْ عَلَى مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِلَى قُبَاءٍ وَلَمْ يُتَابِعْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ، بَلْ كُلُّهُمْ يَقُولُونَ إِلَى الْعَوَالِي وَهُوَ الصَّوَابُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ. قَالَ: وَقَوْلُ مَالِكٍ: إِلَى قُبَاءٍ وَهْمٌ لَا شَكَّ فِيهِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ رُوِيَ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ إِلَى قُبَاءٍ كَمَا قَالَ مَالِكٌ، نَقَلَهُ الْبَاجِيُّ، عَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ، فَنِسْبَةُ الْوَهْمِ فِيهِ إِلَى مَالِكٍ مُنْتَقَدٌ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ وَهْمًا احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ وَأَنْ يَكُونَ مِنَ الزُّهْرِيِّ حِينَ حَدَّثَ بِهِ مَالِكًا، وَقَدْ رَوَاهُ خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ مَالِكٍ فَقَالَ فِيهِ إِلَى الْعَوَالِي كَمَا قَالَ الْجَمَاعَةُ، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى مَالِكٍ وَتُوبِعَ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِخِلَافِ مَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: الصَّوَابُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ الْعَوَالِي، فَصَحِيحٌ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ. وَمَعَ ذَلِكَ فَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، لَكِنَّ رِوَايَةَ مَالِكٍ أَخَصُّ لِأَنَّ قُبَاءً مِنَ الْعَوَالِي، وَلَيْسَتِ الْعَوَالِي كُلَّ قُبَاءٍ، وَلَعَلَّ مَالِكًا لَمَّا رَأَى أَنَّ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ إِجْمَالًا حَمَلَهَا عَلَى الرِّوَايَةِ الْمُفَسَّرَةِ وَهِيَ رِوَايَتُهُ الْمُتَقَدِّمَةُ عَنْ إِسْحَاقَ حَيْثُ قَالَ فِيهَا ثُمَّ يَخْرُجُ الْإِنْسَانُ إِلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ أَهْلُ قُبَاءٍ، فَبَنَى مَالِكٌ عَلَى أَنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا حَدَّثَاهُ عَنْ أَنَسٍ وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، فَهَذَا الْجَمْعُ أَوْلَى مِنَ الْجَزْمِ بِأَنَّ مَالِكًا وَهِمَ فِيهِ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ ابْنِ بَطَّالٍ عَلَى أَنَّ الْوَهْمَ فِيهِ مِمَّنْ دُونَ مَالِكٍ بِرِوَايَةِ خَالِدِ بْنِ مَخْلَدٍ الْمُتَقَدِّمَةِ الْمُوَافِقَةِ لِرِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ عَنِ الزُّهْرِيِّ فَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ مَالِكًا أَثْبَتَهُ فِي الْمُوَطَّأِ بِاللَّفْظِ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ كَافَّةُ أَصْحَابِهِ، فَرِوَايَةُ خَالِدِ بْنِ مَخْلَدٍ عَنْهُ شَاذَّةٌ. فَكَيْفَ تَكُونُ دَالَّةً عَلَى أَنَّ رِوَايَةَ الْجَمَاعَةِ وَهْمٌ؟ بَلْ إِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهَا وَهْمٌ فَهُوَ مِنْ مَالِكٍ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْبَزَّارُ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُمَا؟ أَوْ مِنَ الزُّهْرِيِّ حِينَ حَدَّثَهُ بِهِ؟ وَالْأَوْلَى سُلُوكُ طَرِيقِ الْجَمْعِ الَّتِي أَوْضَحْنَاهَا وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ. قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: قَضَى الْبُخَارِيُّ بِالصَّوَابِ لِمَالِكٍ بِأَحْسَنِ إِشَارَةٍ وَأَوْجَزِ عِبَارَةٍ؛ لِأَنَّهُ قَدَّمَ أَوَّلًا الْمُجْمَلَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِحَدِيثِ مَالِكٍ الْمُفَسَّرِ الْمُعَيِّنِ.
(تَنْبِيهٌ): قُبَاءٌ تَقَدَّمَ ضَبْطُهَا فِي بَابِ مَا جَاءَ فِي الْقِبْلَةِ.
قَوْلُهُ: (إِلَى قُبَاءٍ فَيَأْتِيهِمْ) أَيْ أَهْلَ قُبَاءٍ وَهُوَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِي الْحَدِيثِ الْمُبَادَرَةُ بِصَلَاةِ الْعَصْرِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَذْهَبَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ مِيلَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ وَالشَّمْسُ لَمْ تَتَغَيَّرْ، فَفِيهِ دَلِيلٌ لِلْجُمْهُورِ فِي أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْعَصْرِ مَصِيرُ ظِلِّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ. وَقَدْ
مَضَى ذَلِكَ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ.
14 - بَاب إِثْمِ مَنْ فَاتَتْهُ الْعَصْرُ
552 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الَّذِي تَفُوتُهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ كَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ.
قَوْلُهُ (بَابُ إِثْمِ مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ) أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِذِكْرِ الْإِثْمِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَوَاتِ تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِ الْجَوَازِ بِغَيْرِ عُذْرٍ؛ لِأَنَّ الْإِثْمَ إِنَّمَا يَتَرَتَبُ عَلَى ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ.
قَوْلُهُ (الَّذِي تَفُوتُهُ) قَالَ ابْنُ بَزِيزَةَ: فِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ كَرِهَ أَنْ يَقُولَ فَاتَتْنَا الصَّلَاةُ.
قُلْتُ: وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ.
قَوْلُهُ: (صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا) كَذَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ، وَسَقَطَ لِلْأَكْثَرِ لَفْظُ صَلَاةٍ وَالْفَاءُ مِنْ قَوْلِهِ فَكَأَنَّمَا.
قَوْلُهُ: (وُتِرَ أَهْلَهُ) هُوَ بِالنَّصْبِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِوُتِرَ، وَأُضْمِرَ فِي وُتِرَ مَفْعُولٌ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَهُوَ عَائِدٌ عَلَى الَّذِي فَاتَتْهُ، فَالْمَعْنَى أُصِيبَ بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ. وَهُوَ مُتَعَدٍّ إِلَى مَفْعُولَيْنِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْمُصَنِّفُ فِيمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَتِرَكُمْ. انْتَهَى. وَقِيلَ وُتِرَ هُنَا بِمَعْنَى نُقِصَ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ نَصْبُهُ وَرَفْعُهُ؛ لِأَنَّ مَنْ رَدَّ النَّقْصَ إِلَى الرَّجُلِ نَصَبَ وَأَضْمَرَ مَا يَقُومُ مَقَامَ الْفَاعِلِ، وَمَنْ رَدَّهُ إِلَى الْأَهْلِ رَفَعَ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يُرْوَى بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّ وُتِرَ بِمَعْنَى سُلِبَ، وَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَبِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ وُتِرَ بِمَعْنَى أُخِذَ فَيَكُونُ أَهْلُهُ هُوَ الْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي أَيْضًا: وَتَرْتُ الرَّجُلَ إِذَا قَتَلْتُ لَهُ قَتِيلًا أَوْ أَخَذْتُ مَالَهُ، وَحَقِيقَةُ الْوَتْرِ كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ هُوَ الظُّلْمُ فِي الدَّمِ، فَعَلَى هَذَا فَاسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَالِ مَجَازٌ، لَكِنْ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْمَوْتُورُ هُوَ الَّذِي قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَلَمْ يُدْرَكْ بِدَمِهِ، تَقُولُ مِنْهُ وُتِرَ وَتَقُولُ أَيْضًا وَتَرَهُ حَقَّهُ أَيْ نَقَصَهُ.
وَقِيلَ الْمَوْتُورُ مَنْ أُخِذَ أَهْلُهُ أَوْ مَالُهُ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ وَذَلِكَ أَشَدُّ لِغَمِّهِ، فَوَقَعَ التَّشْبِيهُ بِذَلِكَ لِمَنْ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ لِأَنَّهُ يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ غَمَّانِ: غَمُّ الْإِثْمِ وَغَمُّ فَقْدِ الثَّوَابِ. كَمَا يَجْتَمِعُ عَلَى الْمَوْتُورِ غَمَّانِ: غَمُّ السَّلْبِ، وَغَمُّ الطَّلَبِ بِالثَّأْرِ. وَقِيلَ: مَعْنَى وُتِرَ أُخِذَ أَهْلُهُ وَمَالُهُ فَصَارَ وَتْرًا أَيْ فَرْدًا، وَيُؤَيِّدُ الَّذِي قَبْلَهُ رِوَايَةُ أَبِي مُسْلِمٍ الْكَجِّيِّ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ فَذَكَرَ نَحْوَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ وَهُوَ قَاعِدٌ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ التَّغْلِيظُ عَلَى مَنْ تَفُوتُهُ الْعَصْرُ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَدِيثُ خَرَجَ جَوَابًا لِسَائِلٍ سَأَلَ عَنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ فَأُجِيبَ، فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ إِلْحَاقَ غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ بِهَا. وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يُلْحَقُ غَيْرُ الْمَنْصُوصِ بِالْمَنْصُوصِ إِذَا عُرِفَتِ الْعِلَّةُ وَاشْتَرَكَا فِيهَا. قَالَ: وَالْعِلَّةُ فِي هَذَا الْحُكْمِ لَمْ تَتَحَقَّقْ فَلَا يَلْتَحِقُ غَيْرُ الْعَصْرِ بِهَا. انْتَهَى. وَهَذَا لَا يَدْفَعُ الِاحْتِمَالَ. وَقَدِ احْتَجَّ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا: مَنْ تَرَكَ صَلَاةً مَكْتُوبَةً حَتَّى تَفُوتَهُ الْحَدِيثَ.
قُلْتُ: وَفِي إِسْنَادِهِ انْقِطَاعٌ؛ لِأَنَّ أَبَا قِلَابَةَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ. وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ بِلَفْظِ: مَنْ تَرَكَ الْعَصْرَ فَرَجَعَ حَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ إِلَى تَعْيِينِ الْعَصْرِ. وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ نَوْفَلِ بْنِ مُعَاوِيَةَ مَرْفُوعًا: مَنْ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ، وَهَذَا ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ فِي الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ. وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ نَوْفَلٍ بِلَفْظِ: لَأَنْ يُوتَرَ أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ وَمَالَهُ خَيْرٌ لَهُ
مِنْ أَنْ يَفُوتَهُ وَقْتُ صَلَاةٍ وَهَذَا أَيْضًا ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ. وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَيْضًا تَرْجِيحُ تَوْجِيهِ رِوَايَةِ النَّصْبِ الْمُصَدَّرِ بِهَا، لَكِنَّ الْمَحْفُوظَ مِنْ حَدِيثِ نَوْفَلٍ بِلَفْظِ مِنَ الصَّلَوَاتِ صَلَاةً مَنْ فَاتَتْهُ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ وَمُسْلِمٌ أَيْضًا وَالطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَزَادَ فِيهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ: قُلْتُ لِأَبِي بَكْرٍ - يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَهُوَ الَّذِي حَدَّثَهُ بِهِ - مَا هَذِهِ الصَّلَاةُ؟ قَالَ: الْعَصْرُ.
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَصَرَّحَ بِكَوْنِهَا الْعَصْرَ فِي نَفْسِ الْخَبَرِ، وَالْمَحْفُوظُ أَنَّ كَوْنَهَا الْعَصْرَ مِنْ تَفْسِيرِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَفِيهِ أَنَّ التَّفْسِيرَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ، فَالظَّاهِرُ اخْتِصَاصُ الْعَصْرِ بِذَلِكَ، وَسَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِتَفْوِيتِهَا إِخْرَاجُهَا عَنْ وَقْتِهَا مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فَإِنَّهُ أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ نَافِعٍ فَذَكَرَ نَحْوَهُ وَزَادَ: قُلْتُ لِنَافِعٍ: حِينَ تَغِيبُ الشَّمْسُ؟ قَالَ: نَعَمْ وَتَفْسِيرُ الرَّاوِي إِذَا كَانَ فَقِيهًا أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، لَكِنْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَفَوَاتُهَا أَنْ تَدْخُلَ الشَّمْسَ صُفْرَةٌ وَلَعَلَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي خُرُوجِ وَقْتِ الْعَصْرِ. وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ أَنَّ الْمُرَادَ إِخْرَاجُهَا عَنِ الْوَقْتِ الْمُخْتَارِ. وَقَالَ الْمُهَلَّبُ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنَ الشُّرَّاحِ: إِنَّمَا أَرَادَ فَوَاتَهَا فِي الْجَمَاعَةِ لَا فَوَاتَهَا بِاصْفِرَارِ الشَّمْسِ أَوْ بِمَغِيبِهَا.
قَالَ: وَلَوْ كَانَ لِفَوَاتِ وَقْتِهَا كُلِّهِ لَبَطَلَ اخْتِصَاصُ الْعَصْرِ؛ لِأَنَّ ذَهَابَ الْوَقْتِ مَوْجُودٌ فِي كُلِّ صَلَاةٍ وَنُوقِضَ بِعَيْنِ مَا ادَّعَاهُ؛ لِأَنَّ فَوَاتَ الْجَمَاعَةِ مَوْجُودٌ فِي كُلِّ صَلَاةٍ لَكِنْ فِي صَدْرِ كَلَامِهِ أَنَّ الْعَصْرَ اخْتَصَّتْ بِذَلِكَ لِاجْتِمَاعِ الْمُتَعَاقِبِينَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِيهَا، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ الْفَجْرَ أَيْضًا فِيهَا اجْتِمَاعُ الْمُتَعَاقِبِينَ فَلَا يَخْتَصُّ الْعَصْرُ بِذَلِكَ، قَالَ: وَالْحَقُّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْتَصُّ مَا شَاءَ مِنَ الصَّلَوَاتِ بِمَا شَاءَ مِنَ الْفَضِيلَةِ. انْتَهَى.
وَبَوَّبَ التِّرْمِذِيُّ عَلَى حَدِيثِ الْبَابِ مَا جَاءَ فِي السَّهْوِ عَنْ وَقْتِ الْعَصْرِ فَحَمَلَهُ عَلَى السَّاهِي، وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ أَنَّهُ يَلْحَقُهُ مِنَ الْأَسَفِ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الثَّوَابِ لِمَنْ صَلَّى مَا يَلْحَقُ مَنْ ذَهَبَ مِنْهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ، وَقَدْ رُوِيَ بِمَعْنَى ذَلِكَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ أَسَفَ الْعَامِدِ أَشَدُّ، لِاجْتِمَاعِ فَقْدِ الثَّوَابِ وَحُصُولِ الْإِثْمِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى تَحْقِيرِ الدُّنْيَا، وَأَنَّ قَلِيلَ الْعَمَلِ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ مِنْهَا. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَا يُوجَدُ حَدِيثٌ يَقُومُ مَقَامَ هَذَا الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} وَقَالَ: وَلَا يُوجَدُ حَدِيثٌ فِيهِ تَكْيِيفُ الْمُحَافَظَةِ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ.
15 - بَاب مَنْ تَرَكَ الْعَصْرَ
553 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، قَالَ: كُنَّا مَعَ بُرَيْدَةَ فِي غَزْوَةٍ فِي يَوْمٍ ذِي غَيْمٍ فَقَالَ: بَكِّرُوا بِصَلَاةِ الْعَصْرِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ.
[الحديث 553 - طرفه في: 594]
قَوْلُهُ (بَابُ مَنْ تَرَكَ الْعَصْرَ) أَيْ مَا يَكُونُ حُكْمُهُ؟ قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: أَجَادَ الْبُخَارِيُّ حَيْثُ اقْتَصَرَ عَلَى صَدْرِ الْحَدِيثِ، فَأَبْقَى فِيهِ مَحَلًّا لِلتَّأْوِيلِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ حَدِيثَ الْبَابِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى هَذِهِ التَّرْجَمَةِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ التَّرْكَ أَصْرَحُ بِإِرَادَةِ التَّعَمُّدِ مِنَ الْفَوَاتِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) سَقَطَ عِنْدَ الْأَصِيلِيِّ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا هِشَامٌ) وَقَعَ عِنْدَ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ أَنْبَأَنَا هِشَامٌ وَهُوَ ابْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ
الدَّسْتُوَائِيُّ.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا يَحْيَى) عِنْدَ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ حَدَّثَنَا.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي قِلَابَةَ) عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ يَحْيَى أَنَّ أَبَا قِلَابَةَ حَدَّثَهُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ) عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي بَابِ التَّبْكِيرِ بِالصَّلَاةِ فِي يَوْمِ الْغَيْمِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنْ هِشَامٍ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ أَنَّ أَبَا الْمَلِيحِ حَدَّثَهُ، وَأَبُو الْمَلِيحِ هُوَ ابْنُ أُسَامَةَ بْنِ عُمَيْرٍ الْهُذَلِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ اسْمَهُ عَامِرٌ وَأَبُوهُ صَحَابِيٌّ، وَفِي الْإِسْنَادِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ عَلَى نَسَقٍ. وَتَابَعَ هِشَامًا عَلَى هَذَا الْإِسْنَادِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ شَيْبَانُ، وَمَعْمَرٌ وَحَدِيثُهُمَا عِنْدَ أَحْمَدَ، وَخَالَفَهُمُ الْأَوْزَاعِيُّ فَرَوَاهُ عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي الْمُهَاجِرِ، عَنْ بُرَيْدَةَ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَحْفُوظُ، وَخَالَفَهُمْ أَيْضًا فِي سِيَاقِ الْمَتْنِ كَمَا سَيَأْتِي التَنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي بَابِ التَّبْكِيرِ الْمَذْكُورِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ (كُنَّا مَعَ بُرَيْدَةَ) هُوَ ابْنُ الْحُصَيْبِ الْأَسْلَمِيُّ.
قَوْلُهُ (ذِي غَيْمٍ) قِيلَ خَصَّ يَوْمَ الْغَيْمِ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ التَّأْخِيرِ إِمَّا لِمُتَنَطِّعٍ يَحْتَاطُ لِدُخُولِ الْوَقْتِ فَيُبَالِغُ فِي التَّأْخِيرِ حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ، أَوْ لِمُتَشَاغِلٍ بِأَمْرٍ آخَرَ فَيَظُنُّ بَقَاءَ الْوَقْتِ فَيَسْتَرْسِلُ فِي شُغْلِهِ إِلَى أَنْ يَخْرُجَ الْوَقْتُ.
قَوْلُهُ: (بَكِّرُوا) أَيْ عَجِّلُوا، وَالتَّبْكِيرُ يُطْلَقُ لِكُلِّ مَنْ بَادَرَ بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ، وَأَصْلُهُ الْمُبَادَرَةُ بِالشَّيْءِ أَوَّلَ النَّهَارِ.
قَوْلُهُ: (فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم الْفَاءُ لِلتَّعْلِيلِ، وَقَدِ اسْتُشْكِلَ مَعْرِفَةُ تَيَقُّنِ دُخُولِ أَوَّلِ الْوَقْتِ مَعَ وُجُودِ الْغَيْمِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْتَمِدُونَ فِيهِ إِلَّا عَلَى الشَّمْسِ، وَأُجِيبَ بِاحْتِمَالِ أَنَّ بُرَيْدَةَ قَالَ ذَلِكَ عِنْدَ مَعْرِفَةِ دُخُولِ الْوَقْتِ، لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ فِي يَوْمِ الْغَيْمِ مِنْ أَنْ تَظْهَرَ الشَّمْسُ أَحْيَانًا. ثُمَّ إِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ - إِذَا احْتَجَبَتِ الشَّمْسُ - الْيَقِينُ بَلْ يَكْفِي الِاجْتِهَادُ.
قَوْلُهُ (مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ) زَادَ مَعْمَرٌ فِي رِوَايَتِهِ: مُتَعَمِّدًا وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ. قَوْلُهُ (فَقَدْ حَبِطَ) سَقَطَ فَقَدْ مِنْ رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ أَحْبَطَ اللَّهُ عَمَلَهُ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ يَقُولُ بِتَكْفِيرِ أَهْلِ الْمَعَاصِي مِنَ الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ وَقَالُوا: هُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مَفْهُومُ الْآيَةِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ لَمْ يَحْبَطْ عَمَلُهُ فَيَتَعَارَضُ مَفْهُومُهَا وَمَنْطُوقُ الْحَدِيثِ، فَيَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ إِذَا أَمْكَنَ كَانَ أَوْلَى مِنَ التَّرْجِيحِ. وَتَمَسَّكَ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ أَيْضًا الْحَنَابِلَةُ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمْ مِنْ أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ يَكْفُرُ، وَجَوَابُهُمْ مَا تَقَدَّمَ. وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ لَمَا اخْتَصَّتِ الْعَصْرُ بِذَلِكَ.
وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَتَأَوَّلُوا الْحَدِيثَ، فَافْتَرَقُوا فِي تَأْوِيلِهِ فِرَقًا. فَمِنْهُمْ مَنْ أَوَّلَ سَبَبَ التَّرْكِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَوَّلَ الْحَبَطَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَوَّلَ الْعَمَلَ فَقِيلَ: الْمُرَادُ مَنْ تَرَكَهَا جَاحِدًا لِوُجُوبِهَا، أَوْ مُعْتَرِفًا لَكِنْ مُسْتَخِفًّا مُسْتَهْزِئًا بِمَنْ أَقَامَهَا. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الَّذِي فَهِمَهُ الصَّحَابِيُّ إِنَّمَا هُوَ التَّفْرِيطُ، وَلِهَذَا أُمِرَ بِالْمُبَادَرَةِ إِلَيْهَا، وَفَهْمُهُ أَوْلَى مِنْ فَهْمِ غَيْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقِيلَ الْمُرَادُ مَنْ تَرَكَهَا مُتَكَاسِلًا، لَكِنْ خَرَجَ الْوَعِيدُ مَخْرَجَ الزَّجْرِ الشَّدِيدِ، وَظَاهِرُهُ غَيْرُ مُرَادٍ كَقَوْلِهِ لَا يَزْنِي الزَّانِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَقِيلَ هُوَ مِنْ مَجَازِ التَّشْبِيهِ كَأَنَّ الْمَعْنَى: فَقَدْ أَشْبَهَ مَنْ حَبِطَ عَمَلُهُ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ كَادَ أَنْ يَحْبَطَ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْحَبَطِ نُقْصَانُ الْعَمَلِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى اللَّهِ، فَكَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَمَلِ الصَّلَاةُ خَاصَّةً، أَيْ لَا يَحْصُلُ عَلَى أَجْرِ مَنْ صَلَّى الْعَصْرَ وَلَا يَرْتَفِعُ لَهُ عَمَلُهَا حِينَئِذٍ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْحَبَطِ الْإِبْطَالُ أَيْ يَبْطُلُ انْتِفَاعُهُ بِعَمَلِهِ فِي وَقْتٍ مَا ثُمَّ يَنْتَفِعُ بِهِ، كَمَنْ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ فَإِنَّهُ مَوْقُوفٌ فِي الْمَشِيئَةِ، فَإِنْ غُفِرَ لَهُ فَمُجَرَّدُ الْوُقُوفِ إِبْطَالٌ لِنَفْعِ الْحَسَنَةِ إِذْ ذَاكَ وَإِنْ عُذِّبَ ثُمَّ غُفِرَ لَهُ فَكَذَلِكَ.
قَالَ مَعْنَى ذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَبْسُوطًا فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ فِي بَابِ خَوْفِ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ وَمُحَصِّلُ مَا قَالَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَبَطِ فِي الْآيَةِ غَيْرُ الْمُرَادِ بِالْحَبَطِ فِي الْحَدِيثِ، وَقَالَ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ: الْحَبَطُ عَلَى قِسْمَيْنِ، حَبَطُ إِسْقَاطٍ وَهُوَ إِحْبَاطُ الْكُفْرِ لِلْإِيمَانِ وَجَمِيعِ الْحَسَنَاتِ، وَحَبَطُ مُوَازَنَةٍ
وَهُوَ إِحْبَاطُ الْمَعَاصِي لِلِانْتِفَاعِ بِالْحَسَنَاتِ عِنْدَ رُجْحَانِهَا عَلَيْهَا إِلَى أَنْ تَحْصُلَ النَّجَاةُ فَيَرْجِعَ إِلَيْهِ جَزَاءُ حَسَنَاتِهِ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْعَمَلِ فِي الْحَدِيثِ عَمَلُ الدُّنْيَا الَّذِي يُسَبِّبُ الِاشْتِغَالُ بِهِ تَرْكَ الصَّلَاةِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ وَلَا يَتَمَتَّعُ، وَأَقْرَبُ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ خَرَجَ مَخْرَجَ الزَّجْرِ الشَّدِيدِ وَظَاهِرُهُ غَيْرُ مُرَادٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
16 - بَاب فَضْلِ صَلَاةِ الْعَصْرِ
554 -
حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةً - يَعْنِي الْبَدْرَ - فَقَالَ: إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ، لَا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا، ثُمَّ قَرَأَ:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} قَالَ إِسْمَاعِيلُ: افْعَلُوا، لَا تَفُوتَنَّكُمْ.
[الحديث 554 - أطرافه في: 573، 4851، 7434، 7435، 7436]
555 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ - وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ - كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ.
[الحديث 555 - أطرافه في: 3223، 7429، 7486]
قَوْلُهُ (بَابُ فَضْلِ صَلَاةِ الْعَصْرِ) أَيْ عَلَى جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ إِلَّا الصُّبْحَ، وَإِنَّمَا حَمَلْتُهُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَدِيثَيِ الْبَابِ لَا يَظْهَرُ مِنْهُمَا رُجْحَانُ الْعَصْرِ عَلَيْهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الْعَصْرَ ذَاتُ فَضِيلَةٍ لَا ذَاتُ أَفْضَلِيَّةٍ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ، وَقَيْسٌ هُوَ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ التَّصْرِيحُ بِسَمَاعِ إِسْمَاعِيلَ مِنْ قَيْسٍ وَسَمَاعِ قَيْسٍ مِنْ جَرِيرٍ.
قَوْلُهُ (فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةً) زَادَ مُسْلِمٌ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَكَذَا لِلْمُصَنِّفِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ خَالٍ مِنَ الْعَنْعَنَةِ أَيْضًا كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ فَضْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ.
قَوْلُهُ: (لَا تُضَامُونَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ مُخَفَّفًا، أَيْ لَا يَحْصُلُ لَكُمْ ضَيْمٌ حِينَئِذٍ، وَرُوِيَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَالتَّشْدِيدِ مِنَ الضَّمِّ، وَالْمُرَادُ نَفْيُ الِازْدِحَامِ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ.
قَوْلُهُ (فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى قَطْعِ أَسْبَابِ الْغَلَبَةِ الْمُنَافِيَةِ لِلِاسْتِطَاعَةِ كَالنَّوْمِ وَالشُّغْلِ وَمُقَاوَمَةِ ذَلِكَ بِالِاسْتِعْدَادِ لَهُ.
وَقَوْلُهُ (فَافْعَلُوا) أَيْ عَدَمَ الْغَلَبَةِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَمَّا ذُكِرَ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ الْمَذْكُورَةِ: فَلَا تَغْفُلُوا عَنْ صَلَاةٍ الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) زَادَ مُسْلِمٌ يَعْنِي الْعَصْرَ وَالْفَجْرَ وَلِابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ صَلَاةُ الصُّبْحِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا صَلَاةُ الْعَصْرِ وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: قَالَ الْمُهَلَّبُ: قَوْلُهُ: فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَنْ صَلَاةٍ أَيْ فِي الْجَمَاعَةِ. قَالَ: وَخَصَّ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ لِاجْتِمَاعِ الْمَلَائِكَةِ فِيهِمَا، وَرَفْعِهِمْ أَعْمَالَ الْعِبَادِ لِئَلَّا يَفُوتَهُمْ هَذَا الْفَضْلُ الْعَظِيمُ.
قُلْتُ: وَعُرِفَ بِهَذَا مُنَاسَبَةُ إِيرَادِ حَدِيثِ يَتَعَاقَبُونَ عَقِبَ هَذَا الْحَدِيثِ، لَكِنْ لَمْ يَظْهَرْ لِي وَجْهُ تَقْيِيدِ ذَلِكَ بِكَوْنِهِ
فِي جَمَاعَةٍ، وَإِنْ كَانَ فَضْلُ الْجَمَاعَةِ مَعْلُومًا مِنْ أَحَادِيثَ أُخَرَ، بَلْ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَتَنَاوَلُ مَنْ صَلَّاهُمَا وَلَوْ مُنْفَرِدًا، إِذْ مُقْتَضَاهُ التَّحْرِيضُ عَلَى فِعْلِهِمَا أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ جَمَاعَةً أَوْ لَا.
قَوْلُهُ (فَافْعَلُوا) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرُّؤْيَةَ قَدْ يُرْجَى نَيْلُهَا بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ اهـ. وَقَدْ يُسْتَشْهَدُ لِذَلِكَ بِمَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ، قَالَ: إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: وَأَكْرَمَهُمْ عَلَى اللَّهِ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِهِ غَدْوَةً وَعَشِيَّةً وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ.
قَوْلُهُ (ثُمَّ قَرَأَ) كَذَا فِي جَمِيعِ رِوَايَاتِ الْجَامِعِ، وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ فِي غَيْرِهِ بِإِبْهَامِ فَاعِلِ قَرَأَ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، لَكِنْ لَمْ أَرَ ذَلِكَ صَرِيحًا، وَحَمَلَهُ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الشُّرَّاحِ، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بِإِسْنَادِ حَدِيثِ الْبَابِ ثُمَّ قَرَأَ جَرِيرٌ أَيِ الصَّحَابِيُّ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ يَعْلَى بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، فَظَهَرَ أَنَّهُ وَقَعَ فِي سِيَاقِ حَدِيثِ الْبَابِ وَمَا وَافَقَهُ إِدْرَاجٌ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَوَجْهُ مُنَاسَبَةِ ذِكْرِ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ عِنْدَ ذِكْرِ الرُّؤْيَةِ أَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ الطَّاعَاتِ، وَقَدْ ثَبَتَ لِهَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ مِنَ الْفَضْلِ عَلَى غَيْرِهِمَا مَا ذُكِرَ مِنَ اجْتِمَاعِ الْمَلَائِكَةِ فِيهِمَا وَرَفْعِ الْأَعْمَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَهُمَا أَفْضَلُ الصَّلَوَاتِ، فَنَاسَبَ أَنْ يُجَازى الْمُحَافِظَ عَلَيْهِمَا بِأَفْضَلِ الْعَطَايَا وَهُوَ النَّظَرُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ لَمَّا حَقَّقَ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى بِرُؤْيَةِ الْقَمَرِ وَالشَّمْسِ - وَهُمَا آيَتَانِ عَظِيمَتَانِ شُرِعَتْ لِخُسُوفِهِمَا الصَّلَاةُ وَالذِّكْرُ - نَاسَبَ مَنْ يُحِبُّ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُحَافِظَ عَلَى الصَّلَاةِ عِنْدَ غُرُوبِهَا اهـ. وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ وَتَكَلُّفُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ (يَتَعَاقَبُونَ) أَيْ تَأْتِي طَائِفَةٌ عَقِبَ طَائِفَةٍ، ثُمَّ تَعُودُ الْأُولَى عَقِبَ الثَّانِيَةِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّعَاقُبُ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ أَوْ رَجُلَيْنِ بِأَنْ يَأْتِيَ هَذَا مَرَّةً وَيَعْقُبُهُ هَذَا، وَمِنْهُ تَعْقِيبُ الْجُيُوشِ أَنْ يُجَهِّزَ الْأَمِيرُ بَعْثًا إِلَى مُدَّةٍ ثُمَّ يَأْذَنُ لَهُمْ فِي الرُّجُوعِ بَعْدَ أَنْ يُجَهِّزَ غَيْرَهُمْ إِلَى مُدَّةٍ، ثُمَّ يَأْذَنُ لَهُمْ فِي الرُّجُوعِ بَعْدَ أَنْ يُجَهِّزَ الْأَوَّلِينَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ يَتَعَاقَبُونَ عَلَامَةُ الْفَاعِلِ الْمُذَكَّرِ الْمَجْمُوعِ عَلَى لُغَةِ بِلْحَارِثِ وَهُمُ الْقَائِلُونَ أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
بِحُورَانَ يَعْصِرْنَ السَّلِيطَ أَقَارِبُهُ
وَهِيَ لُغَةٌ فَاشِيَةٌ وَعَلَيْهَا حَمَلَ الْأَخْفَشُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} قَالَ: وَقَدْ تَعَسَّفَ بَعْضُ النُّحَاةِ فِي تَأْوِيلِهَا وَرَدِّهَا لِلْبَدَلِ، وَهُوَ تَكَلُّفٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ، فَإِنَّ تِلْكَ اللُّغَةَ مَشْهُورَةٌ وَلَهَا وَجْهٌ مِنَ الْقِيَاسِ وَاضِحٌ.
وَقَالَ غَيْرُهُ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ: قَوْلُهُ {وَأَسَرُّوا} عَائِدٌ عَلَى النَّاسِ الْمَذْكُورِينَ أَوَّلًا. وَ {الَّذِينَ ظَلَمُوا} بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ. وَقِيلَ التَّقْدِيرُ أَنَّهُ لَمَّا قِيلَ {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} قِيلَ: مَنْ هُمْ؟ قَالَ: {الَّذِينَ ظَلَمُوا} حَكَاهُ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ، وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ؛ إِذِ الْأَصْلُ عَدَمُ التَّقْدِيرِ. وَتَوَارَدَ جَمَاعَةٌ مِنَ الشُّرَّاحِ عَلَى أَنَّ حَدِيثَ الْبَابِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَوَافَقَهُمْ ابْنُ مَالِكٍ وَنَاقَشَهُ أَبُو حَيَّانَ زَاعِمًا أَنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَ اخْتَصَرَهَا الرَّاوِي، وَاحْتَجَّ لِذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ: مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ، وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ.
الْحَدِيثَ، وَقَدْ سُومِحَ فِي الْعَزْوِ إِلَى مُسْنَدِ الْبَزَّارِ، مَعَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي الصَّحِيحَيْنِ، فَالْعَزْوُ إِلَيْهِمَا أَوْلَى، وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ رَوَاهُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَلَمْ يُخْتَلَفْ عَلَيْهِ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ قَوْلُهُ يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْهُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ بِلَفْظِ: الْمَلَائِكَةُ يَتَعَاقَبُونَ: مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ، وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ بِلَفْظِ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ، فَاخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى أَبِي الزِّنَادِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ تَارَةً يَذْكُرُهُ هَكَذَا وَتَارَةً هَكَذَا، فَيُقَوِّي بَحْثَ أَبِي حَيَّانَ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ غَيْرَ الْأَعْرَجِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَدْ رَوَوْهُ
تَامًّا فَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلَ رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ لَكِنْ بِحَذْفِ إِنَّ مِنْ أَوَّلِهِ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالسَّرَّاجُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَتَعَاقَبُونَ وَهَذِهِ هِيَ الطَّرِيقَةُ الَّتِي أَخْرَجَهَا الْبَزَّارُ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ فِيكُمْ يَتَعَقَّبُونَ وَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَالْعَزْوُ إِلَى الطَّرِيقِ الَّتِي تَتَّحِدُ مَعَ الطَّرِيقِ الَّتِي وَقَعَ الْقَوْلُ فِيهَا أَوْلَى مِنْ طَرِيقٍ مُغَايِرَةٍ لَهَا، فَلْيُعْزَ ذَلِكَ إِلَى
تَخْرِيجِ الْبُخَارِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزِّنَادِ لِمَا أَوْضَحْتُهُ. وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ. قَوْله (فِيكُمْ) أَيِ الْمُصَلِّينَ أَوْ مُطْلَقِ الْمُؤْمِنِينَ.
قَوْله (مَلَائِكَةٌ) قِيلَ هُمُ الْحَفَظَةُ، نَقَلَهُ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ عَنِ الْجُمْهُورِ، وَتَرَدَّدَ ابْنُ بَزِيزَةَ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّهُمْ غَيْرُهُمْ، وَيُقَوِّيهِ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ الْحَفَظَةَ يُفَارِقُونَ الْعَبْدَ، وَلَا أَنَّ حَفَظَةَ اللَّيْلِ غَيْرُ حَفَظَةِ النَّهَارِ، وَبِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا هُمُ الْحَفَظَةُ لَمْ يَقَعِ الِاكْتِفَاءُ فِي السُّؤَالِ مِنْهُمْ عَنْ حَالَةِ التَّرْكِ دُونَ غَيْرِهَا فِي قَوْلِهِ كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي.
قَوْله (وَيَجْتَمِعُونَ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: التَّعَاقُبُ مُغَايِرٌ لِلِاجْتِمَاعِ، لَكِنَّ ذَلِكَ مُنَزَّلٌ عَلَى حَالَيْنِ.
قُلْتُ: وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ مَعَهُمُ الصَّلَاةَ فِي الْجَمَاعَةِ، وَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لِلْجَمَاعَةِ وَغَيْرِهَا، كَمَا يُحْتَمَلُ أَنَّ التَّعَاقُبَ يَقَعُ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَأَنْ يَقَعَ التَّعَاقُبُ بَيْنَهُمْ فِي النَّوْعِ لَا فِي الشَّخْصِ. قَالَ عِيَاضٌ: وَالْحِكْمَةُ فِي اجْتِمَاعِهِمْ فِي هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ مِنْ لُطْفِ اللَّهِ تَعَالَى بِعِبَادِهِ وَإِكْرَامِهِ لَهُمْ بِأَنْ جَعَلَ اجْتِمَاعَ مَلَائِكَتِهِ فِي حَالِ طَاعَةِ عِبَادِهِ لِتَكُونَ شَهَادَتُهُمْ لَهُمْ بِأَحْسَنِ الشَّهَادَةِ.
قُلْتُ: وَفِيهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ رَجَّحَ أَنَّهُمُ الْحَفَظَةُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِينَ يَصْعَدُونَ كَانُوا مُقِيمِينَ عِنْدَهُمْ مُشَاهِدِينَ لِأَعْمَالِهِمْ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: الْحِكْمَةُ فِي كَوْنِهِ تَعَالَى لَا يَسْأَلُهُمْ إِلَّا عَنِ الْحَالَةِ الَّتِي تَرَكُوهُمْ عَلَيْهَا مَا ذُكِرَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَسْتُرُ عَنْهُمْ مَا يَعْمَلُونَهُ فِيمَا بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ، لَكِنَّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ غَيْرُ الْحَفَظَةِ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْحَدِيثِ الْآخَرِ: إِنَّ الصَّلَاةَ إِلَى الصَّلَاةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا. فَمِنْ ثَمَّ وَقَعَ السُّؤَالُ مِنْ كُلِّ طَائِفَةٍ عَنْ آخِرِ شَيْءٍ فَارَقُوهُمْ عَلَيْهِ.
قَوْله (ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ) اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَأْخِيرِ صَلَاةِ الْعَصْرِ لِيَقَعَ عُرُوجُ الْمَلَائِكَةِ إِذَا فَرَغَ مِنْهَا آخِرَ النَّهَارِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ، إِذْ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَا يَصْعَدُونَ إِلَّا سَاعَةَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ، بَلْ جَائِزٌ أَنْ تَفْرُغَ الصَّلَاةُ وَيَتَأَخَّرُوا بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى آخِرِ النَّهَارِ، وَلَا مَانِعَ أَيْضًا مِنْ أَنْ تَصْعَدَ مَلَائِكَةُ النَّهَارِ وَبَعْضُ النَّهَارِ بَاقٍ وَتُقِيمُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ، وَلَا يَرُدُّ عَلَى ذَلِكَ وَصْفُهُمْ بِالْمَبِيتِ بِقَوْلِهِ بَاتُوا فِيكُمْ لِأَنَّ اسْمَ الْمَبِيتِ صَادِقٌ عَلَيْهِمْ وَلَوْ تَقَدَّمَتْ إِقَامَتَهُمْ بِاللَّيْلِ قِطْعَةٌ مِنَ النَّهَارِ.
قَوْلُهُ (الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ) اخْتُلِفَ فِي سَبَبِ الِاقْتِصَارِ عَلَى سُؤَالِ الَّذِينَ بَاتُوا دُونَ الَّذِينَ ظَلُّوا، فَقِيلَ: هُوَ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ بِذِكْرِ أَحَدِ الْمِثْلَيْنِ عَنِ الْآخَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} أَيْ وَإِنْ لَمْ تَنْفَعْ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} أَيْ وَالْبَرْدَ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ ابْنُ التِّينِ وَغَيْرُهُ، ثُمَّ قِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ حُكْمَ طَرَفَيِ النَّهَارِ يُعْلَمُ مِنْ حُكْمِ طَرَفَيِ اللَّيْلِ، فَلَوْ ذَكَرَهُ لَكَانَ تَكْرَارًا. ثُمَّ قِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى هَذَا الشِّقِّ دُونَ الْآخَرِ أَنَّ اللَّيْلَ مَظِنَّةُ الْمَعْصِيَةِ فَلَمَّا لَمْ يَقَعْ مِنْهُمْ عِصْيَانٌ - مَعَ إِمْكَانِ دَوَاعِي الْفِعْلِ مِنْ إِمْكَانِ الْإِخْفَاءِ وَنَحْوِهِ - وَاشْتَغَلُوا بِالطَّاعَةِ كَانَ النَّهَارُ أَوْلَى بِذَلِكَ، فَكَانَ السُّؤَالُ عَنِ اللَّيْلِ أَبْلَغَ مِنَ السُّؤَالِ عَنِ النَّهَارِ لِكَوْنِ النَّهَارِ مَحَلَّ الِاشْتِهَارِ. وَقِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَلَائِكَةَ اللَّيْلِ إِذَا صَلَّوْا الْفَجْرَ عَرَجُوا فِي الْحَالِ، وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ إِذَا صَلَّوْا الْعَصْرَ لَبِثُوا إِلَى آخِرِ النَّهَارِ لِضَبْطِ بَقِيَّةِ عَمَلِ النَّهَارِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ مَلَائِكَةَ النَّهَارِ لَا يُسْأَلُونَ عَنْ وَقْتِ الْعَصْرِ، وَهُوَ
خِلَافُ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ كَمَا سَيَأْتِي.
ثُمَّ هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُمُ الْحَفَظَةُ وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا سَنُبَيِّنُهُ، وَقِيلَ بَنَاهُ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُمُ الْحَفَظَةُ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةُ النَّهَارِ فَقَطْ، وَهُمْ لَا يَبْرَحُونَ عَنْ مُلَازَمَةِ بَنِي آدَمَ، وَمَلَائِكَةُ اللَّيْلِ هُمُ الَّذِينَ يَعْرُجُونَ وَيَتَعَاقَبُونَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ لَهُ مِنْ طَرِيقِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ النَّخَعِيِّ قَالَ: يَلْتَقِي الْحَارِسَانِ - أَيْ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ - عِنْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ فَيُسَلِّمُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فَتَصْعَدُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَتَلْبَثُ مَلَائِكَةُ النَّهَارِ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْعُرُوجُ إِنَّمَا يَقَعُ عِنْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ خَاصَّةً، وَأَمَّا النُّزُولُ فَيَقَعُ فِي الصَّلَاتَيْنِ مَعًا، وَفِيهِ التَّعَاقُبُ، وَصُورَتُهُ أَنْ تَنْزِلَ طَائِفَةٌ عِنْدَ الْعَصْرِ وَتَبِيتُ، ثُمَّ تَنْزِلُ طَائِفَةٌ ثَانِيَةٌ عِنْدَ الْفَجْرِ، فَيَجْتَمِعُ الطَّائِفَتَانِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فَقَطْ وَيَسْتَمِرُّ الَّذِينَ نَزَلُوا وَقْتَ الْفَجْرِ إِلَى الْعَصْرِ فَتَنْزِلُ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى فَيَحْصُلُ اجْتِمَاعُهُمْ عِنْدَ الْعَصْرِ أَيْضًا، وَلَا يَصْعَدُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، بَلْ تَبِيتُ الطَّائِفَتَانِ أَيْضًا ثُمَّ تَعْرُجُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ وَيَسْتَمِرُّ ذَلِكَ فَتَصِحُّ صُورَةُ التَّعَاقُبِ مَعَ اخْتِصَاصِ النُّزُولِ بِالْعَصْرِ وَالْعُرُوجُ بِالْفَجْرِ، فَلِهَذَا خَصَّ السُّؤَالَ بِالَّذِينَ بَاتُوا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ وَهْمٌ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي طُرُقٍ كَثِيرَةٍ أَنَّ الِاجْتِمَاعَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ صَلَاةِ الْعَصْرِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ قَالَ فِيهِ: وَتَجْتَمِعُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاقْرَؤوا إِنْ شِئْتُمْ: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} وَفِي التِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} قَالَ: تَشْهَدُهُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَيْسَ فِي هَذَا دَفْعٌ لِلرِّوَايَةِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْعَصْرِ، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ ذِكْرِ الْعَصْرِ فِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ الْآخَرِ عَدَمَ اجْتِمَاعِهِمْ فِي الْعَصْرِ؛ لِأَنَّ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ قَدْ يَكُونُ فِي حُكْمِ الْمَذْكُورِ بِدَلِيلٍ آخَرَ، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الِاقْتِصَارُ وَقَعَ فِي الْفَجْرِ لِكَوْنِهَا جَهْرِيَّةٌ، وَبَحْثُهُ الْأَوَّلُ مُتَّجَهٌ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى ادِّعَاءِ تَوْهِيمِ الرَّاوِي الثِّقَةِ مَعَ إِمْكَانِ التَّوْفِيقِ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ، وَلَا سِيَّمَا أَنَّ الزِّيَادَةَ مِنَ الْعَدْلِ الضَّابِطِ مَقْبُولَةٌ.
وَلِمَ لَا يُقَالُ: إِنَّ رِوَايَةَ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ سُؤَالَ الَّذِينَ أَقَامُوا فِي النَّهَارِ وَاقِعٌ مِنْ تَقْصِيرِ بَعْضِ الرُّوَاةِ، أَوْ يُحْمَلُ قَوْلُهُ ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْمَبِيتِ بِاللَّيْلِ وَالْإِقَامَةِ بِالنَّهَارِ، فَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِلَيْلٍ دُونَ نَهَارٍ وَلَا عَكْسِهِ، بَلْ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ إِذَا صَعِدَتْ سُئِلَتْ، وَغَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ لَفْظَ بَاتَ فِي أَقَامَ مَجَازًا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ فَيَسْأَلُهُمْ أَيْ كُلًّا مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَصْعَدُ فِيهِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْحَمْلِ رِوَايَةُ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عِنْدَ النَّسَائِيِّ وَلَفْظُهُ: ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ كَانُوا فِيكُمْ فَعَلَى هَذَا لَمْ يَقَعْ فِي الْمَتْنِ اخْتِصَارٌ وَلَا اقْتِصَارٌ، وَهَذَا أَقْرَبُ الْأَجْوِبَةِ. وَقَدْ وَقَعَ لَنَا هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى وَاضِحًا، وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِسُؤَالِ كُلٍّ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ، وَذَلِكَ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَأَبُو الْعَبَّاسِ السَّرَّاجُ جَمِيعًا عَنْ يُوسُفَ بْنِ مُوسَى، عَنْ جَرِيرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: تَجْتَمِعُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، فَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَتَصْعَدُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَتَبِيتُ مَلَائِكَةُ النَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ فَتَصْعَدُ مَلَائِكَةُ النَّهَارِ وَتَبِيتُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ، فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي الْحَدِيثَ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُزِيلُ الْإِشْكَالَ وَتُغْنِي عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الِاحْتِمَالَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَهِيَ الْمُعْتَمَدَةُ، وَيُحْمَلُ مَا نَقَصَ مِنْهَا عَلَى تَقْصِيرِ بَعْضِ الرُّوَاةِ.
قَوْله (فَيَسْأَلُهُمْ) قِيلَ الْحِكْمَةُ فِيهِ اسْتِدْعَاءُ شَهَادَتِهِمْ لِبَنِي آدَمَ بِالْخَيْرِ، وَاسْتِنْطَاقِهِمْ بِمَا يَقْتَضِي
التَّعَطُّفَ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ لِإِظْهَارِ الْحِكْمَةِ فِي خَلْقِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ فِي مُقَابَلَةِ مَنْ قَالَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} أَيْ وَقَدْ وُجِدَ فِيهِمْ مَنْ يُسَبِّحُ وَيُقَدِّسُ مِثْلَكُمْ بِنَصِّ شَهَادَتِكُمْ، وَقَالَ عِيَاضٌ: هَذَا السُّؤَالُ عَلَى سَبِيلِ التَّعَبُّدِ لِلْمَلَائِكَةِ كَمَا أُمِرُوا أَنْ يَكْتُبُوا أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ، وَهُوَ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ مِنَ الْجَمِيعِ بِالْجَمِيعِ.
قوله (كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي) قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْ آخِرِ الْأَعْمَالِ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ بِخَوَاتِيمِهَا.
قَالَ: وَالْعِبَادُ الْمَسْؤولُ عَنْهُمْ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}
قوله (تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ) لَمْ يُرَاعُوا التَّرْتِيبَ الْوُجُودِيَّ؛ لِأَنَّهُمْ بَدَؤوا بِالتَّرْكِ قَبْلَ الْإِتْيَانِ، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّهُمْ طَابَقُوا السُّؤَالَ لِأَنَّهُ قَالَ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ؟ وَلِأَنَّ الْمُخْبَرَ بِهِ صَلَاةُ الْعِبَادِ وَالْأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا، فَنَاسَبَ ذَلِكَ إِخْبَارَهُمْ عَنْ آخِرِ عَمَلِهِمْ قَبْلَ أَوَّلِهِ، وَقَوْلُهُ تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ ظَاهِرُهُ أَنَّهُمْ فَارَقُوهُمْ عِنْدَ شُرُوعِهِمْ فِي الْعَصْرِ سَوَاءٌ تَمَّتْ أَمْ مَنَعَ مَانِعٌ مِنْ إِتْمَامِهَا، وَسَوَاءٌ شَرَعَ الْجَمِيعُ فِيهَا أَمْ لَا؛ لِأَنَّ الْمُنْتَظِرَ فِي حُكْمِ الْمُصَلِّي، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ أَيْ يَنْتَظِرُونَ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَاوُ الْحَالِ أَيْ تَرَكْنَاهُمْ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، وَلَا يُقَالُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّهُمْ فَارَقُوهُمْ قَبْلَ انْقِضَاءِ الصَّلَاةِ فَلَمْ يَشْهَدُوهَا مَعَهُمْ، وَالْخَبَرُ نَاطِقٌ بِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَهَا لِأَنَّا نَقُولُ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمْ شَهِدُوا الصَّلَاةَ مَعَ مَنْ صَلَّاهَا فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا، وَشَهِدُوا مَنْ دَخَلَ فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَمَنْ شَرَعَ فِي أَسْبَابِ ذَلِكَ.
(تَنْبِيهٌ): اسْتَنْبَطَ مِنْهُ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يُفَارِقَ الشَّخْصُ شَيْئًا مِنْ أُمُورِهِ إِلَّا وَهُوَ عَلَى طَهَارَةٍ كَشَعْرِهِ إِذَا حَلَقَهُ وَظُفْرِهِ إِذَا قَلَّمَهُ وَثَوْبِهِ إِذَا أَبْدَلَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: أَجَابَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَكْثَرَ مِمَّا سُئِلُوا عَنْهُ، لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّهُ سُؤَالٌ يَسْتَدْعِي التَّعَطُّفَ عَلَى بَنِي آدَمَ فَزَادُوا فِي مُوجِبِ ذَلِكَ.
قُلْتُ: وَوَقَعَ فِي صَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ: فَاغْفِرْ لَهُمْ يَوْمَ الدِّينِ قَالَ: وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الصَّلَاةَ أَعْلَى الْعِبَادَاتِ؛ لِأَنَّهُ عَنْهَا وَقَعَ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ، وَفِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى عِظَمِ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ لِكَوْنِهِمَا تَجْتَمِعُ فِيهِمَا الطَّائِفَتَانِ وَفِي غَيْرِهِمَا طَائِفَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى شَرَفِ الْوَقْتَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الرِّزْقَ يُقَسَّمُ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَأَنَّ الْأَعْمَالَ تُرْفَعُ آخِرَ النَّهَارِ، فَمَنْ كَانَ حِينَئِذٍ فِي طَاعَةٍ بُورِكَ فِي رِزْقِهِ وَفِي عَمَلِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حِكْمَةُ الْأَمْرِ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِمَا وَالِاهْتِمَامِ بِهِمَا، وَفِيهِ تَشْرِيفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى غَيْرِهَا، وَيَسْتَلْزِمُ تَشْرِيفَ نَبِيِّهَا عَلَى غَيْرِهِ. وَفِيهِ الْإِخْبَارُ بِالْغُيُوبِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ زِيَادَةُ الْإِيمَانِ. وَفِيهِ الْإِخْبَارُ بِمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ ضَبْطِ أَحْوَالِنَا حَتَّى نَتَيَقَّظَ وَنَتَحَفَّظَ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَنَفْرَحَ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ بِقُدُومِ رُسُلِ رَبِّنَا وَسُؤَالِ رَبِّنَا عَنَّا. وَفِيهِ إِعْلَامُنَا بِحُبِّ مَلَائِكَةِ اللَّهِ لَنَا لِنَزْدَادَ فِيهِمْ حُبًّا وَنَتَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ بِذَلِكَ. وَفِيهِ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ مَلَائِكَتِهِ. وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْفَوَائِدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي بَابِ قَوْلِهِ ثُمَّ يَعْرُجُ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
17 - بَاب مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ قَبْلَ الْغُرُوبِ
556 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ، وَإِذَا أَدْرَكَ سَجْدَةً مِنْ
صَلَاةِ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ.
[الحديث 556 - طرفاه في: 580، 579]
557 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأُوَيْسِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ فِيمَا سَلَفَ قَبْلَكُمْ مِنْ الأُمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ أُوتِيَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ فَعَمِلُوا حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ النَّهَارُ عَجَزُوا فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا ثُمَّ أُوتِيَ أَهْلُ الإِنْجِيلِ الإِنْجِيلَ فَعَمِلُوا إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ ثُمَّ عَجَزُوا فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا ثُمَّ أُوتِينَا الْقُرْآنَ فَعَمِلْنَا إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ فَأُعْطِينَا قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ أَيْ رَبَّنَا أَعْطَيْتَ هَؤُلَاءِ قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ وَأَعْطَيْتَنَا قِيرَاطًا قِيرَاطًا وَنَحْنُ كُنَّا أَكْثَرَ عَمَلًا قَالَ قَالَ اللَّهُ عز وجل هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ أَجْرِكُمْ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَا قَالَ فَهُوَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ"
[الحديث 557 - أطرافه في: 7533، 7467، 5021، 3459، 2269، 2268]
558 -
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَثَلُ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ قَوْمًا يَعْمَلُونَ لَهُ عَمَلًا إِلَى اللَّيْلِ، فَعَمِلُوا إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ، فَقَالُوا: لَا حَاجَةَ لَنَا إِلَى أَجْرِكَ، فَاسْتَأْجَرَ آخَرِينَ، فَقَالَ: أَكْمِلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمْ وَلَكُمْ الَّذِي شَرَطْتُ. فَعَمِلُوا حَتَّى إِذَا كَانَ حِينَ صَلَاةِ الْعَصْرِ قَالُوا: لَكَ مَا عَمِلْنَا. فَاسْتَأْجَرَ قَوْمًا فَعَمِلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ، وَاسْتَكْمَلُوا أَجْرَ الْفَرِيقَيْنِ.
[الحديث 558 - طرفه في: 2271]
قَوْلُهُ (مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ الْغُرُوبِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِذَا أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ فَكَأَنَّهُ أَرَادَ تَفْسِيرَ الْحَدِيثِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فِيهِ سَجْدَةً أَيْ رَكْعَةً. وَقَدْ رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ حُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ شَيْبَانَ بِلَفْظِ: مَنْ أَدْرَكَ مِنْكُمْ رَكْعَةً فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الْأَلْفَاظِ وَقَعَ مِنَ الرُّوَاةِ، وَسَتَأْتِي رِوَايَةُ مَالِكٍ فِي أَبْوَابِ وَقْتِ الصُّبْحِ بِلَفْظِ مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً وَلَمْ يُخْتَلَفْ عَلَى رَاوِيهَا فِي ذَلِكَ فَكَانَ عَلَيْهَا الِاعْتِمَادُ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُرَادُ بِالسَّجْدَةِ الرَّكْعَةُ بِرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا، وَالرَّكْعَةُ إِنَّمَا يَكُونُ تَمَامُهَا بِسُجُودِهَا فَسُمِّيَتْ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى سَجْدَةً. انْتَهَى.
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْحُسَيْنِ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ دُكَيْنٍ وَهُوَ أَبُو نُعَيْمٍ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ بِلَفْظِ: إِذَا أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ أَوَّلَ سَجْدَةٍ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَإِنَّمَا لَمْ يَأْتِ الْمُصَنِّفُ في التَّرْجَمَةِ بِجَوَابِ الشَّرْطِ لِمَا فِي لَفْظِ الْمَتْنِ الَّذِي أَوْرَدَهُ مِنَ الِاحْتِمَالِ وَهُوَ قَوْلُهُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِتْمَامِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَا يُتِمُّهُ أَدَاءً أَوْ قَضَاءً، فَحُذِفَ جَوَابُ الشَّرْطِ لِذَلِكَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَنْ فِي التَّرْجَمَةِ مَوْصُولَةٌ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: بَابُ حُكْمِ مَنْ أَدْرَكَ إِلَخْ، لَكِنْ سَيَأْتِي مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ بِلَفْظِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ أَدَاءً، وَسَتَأْتِي مَبَاحِثُهُ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
صَلَاةِ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ".
قَوْله:
(إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ فِيمَا سَلَفَ قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ) ظَاهِرُهُ أَنَّ بَقَاءَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَقَعَ فِي زَمَانِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ الْمُرَادُ قَطْعًا، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّ نِسْبَةَ مُدَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَى مُدَّةِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأُمَمِ مِثْلُ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَغُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى بَقِيَّةِ النَّهَارِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا سَلَفَ إِلَخْ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ فِي بِمَعْنَى إِلَى، وَحُذِفَ الْمُضَافُ وَهُوَ لَفْظُ نِسْبَةٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْمُصَنِّفُ هَذَا الْحَدِيثَ وَكَذَا حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْآتِي بَعْدَهُ فِي أَبْوَابِ الْإِجَارَةِ، وَيَقَعُ اسْتِيفَاءُ الْكَلَامِ عَلَيْهِمَا هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْغَرَضُ هُنَا بَيَانُ مُطَابَقَتِهِمَا لِلتَّرْجَمَةِ وَالتَّوْفِيقُ بَيْنَ مَا ظَاهِرُهُ الِاخْتِلَافُ مِنْهُمَا.
قَوْلُهُ: (أُوتِيَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ) ظَاهِرُهُ أَنَّ هَذَا كَالشَّرْحِ وَالْبَيَانِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَقْدِيرِ مُدَّةِ الزَّمَانَيْنِ، وَقَدْ زَادَ الْمُصَنِّفُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ هُنَا وَأَنَّ مَثَلَكُمْ وَمَثَلَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إِلَخْ وَهُوَ يُشْعِرُ بِأَنَّهُمَا قَضِيَّتَانِ.
قَوْله: (قِيرَاطًا قِيرَاطًا) كَرَّرَ قِيرَاطًا لِيَدُلَّ عَلَى تَقْسِيمِ الْقَرَارِيطِ عَلَى الْعُمَّالِ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ إِذَا أَرَادَتْ تَقْسِيمَ الشَّيْءِ عَلَى مُتَعَدِّدٍ كَرَّرَتْهُ كَمَا يُقَالُ: اقْسِمْ هَذَا الْمَالَ عَلَى بَنِي فُلَانٍ دِرْهَمًا دِرْهَمًا، لِكُلِّ وَاحِدٍ دِرْهَمٌ.
قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ (عَجَزُوا) قَالَ الدَّاوُدِيُّ: هَذَا مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ مُسْلِمًا فَلَا يُوصَفُ بِالْعَجْزِ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ مَا أُمِرَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مَنْ مَاتَ بَعْدَ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ فَكَيْفَ يُعْطَى الْقِيرَاطُ مَنْ حَبِطَ عَمَلُهُ بِكُفْرِهِ؟ وَأَوْرَدَهُ ابْنُ التِّينِ قَائِلًا: قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلَمْ يَنْفَصِلْ عَنْهُ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ مُسْلِمًا قَبْلَ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ، وَعَبَّرَ بِالْعَجْزِ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَسْتَوْفُوا عَمَلَ النَّهَارِ كُلِّهِ وَإِنْ كَانُوا قَدِ اسْتَوْفَوْا عَمَلَ مَا قُدِّرَ لَهُمْ، فَقَوْلُهُ: عَجَزُوا أَيْ عَنْ إِحْرَازِ الْأَجْرِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، لَكِنْ مَنْ أَدْرَكَ مِنْهُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَآمَنَ بِهِ أُعْطِيَ الْأَجْرَ مَرَّتَيْنِ كَمَا سَبَقَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ. قَالَ الْمُهَلَّبُ مَا مَعْنَاهُ: أَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ وَحَدِيثَ أَبِي مُوسَى فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَسْتَحِقُّ بِعَمَلِ الْبَعْضِ أَجْرَ الْكُلِّ، مِثْلُ الَّذِي أُعْطِيَ مِنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ أَجْرَ النَّهَارِ كُلِّهِ، فَهُوَ نَظِيرُ مَنْ يُعْطَى أَجْرَ الصَّلَاةِ كُلِّهَا وَلَوْ لَمْ يُدْرِكْ إِلَّا رَكْعَةً، وَبِهَذَا تَظْهَرُ مُطَابَقَةُ الْحَدِيثَيْنِ لِلتَّرْجَمَةِ.
قُلْتُ: وَتَكْمِلَةُ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ فَضْلَ اللَّهِ الَّذِي أَقَامَ بِهِ عَمَلُ رُبْعِ النَّهَارِ مُقَامَ عَمَلِ النَّهَارِ كُلِّهِ هُوَ الَّذِي اقْتَضَى أَنْ يَقُومَ إِدْرَاكُ الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ الصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْعَصْرُ مَقَامَ إِدْرَاكِ الْأَرْبَعِ فِي الْوَقْتِ، فَاشْتَرَكَا فِي كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا رُبْعَ الْعَمَلِ، وَحَصَلَ بِهَذَا التَّقْرِيرِ الْجَوَابُ عَمَّنِ اسْتَشْكَلَ وُقُوعَ الْجَمِيعِ أَدَاءً مَعَ أَنَّ الْأَكْثَرَ إِنَّمَا وَقَعَ خَارِجَ الْوَقْتِ، فَيُقَالُ فِي هَذَا مَا أُجِيبَ بِهِ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ}
وَقَدِ اسْتَبْعَدَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ كَلَامَ الْمُهَلَّبِ ثُمَّ قَالَ: هُوَ مُنْفَكٌّ عَنْ مَحَلِّ الِاسْتِدْلَالِ، لِأَنَّ الْأُمَّةَ عَمِلَتْ آخِرَ النَّهَارِ فَكَانَ أَفْضَلَ مِنْ عَمَلِ الْمُتَقَدِّمِينَ قَبْلَهَا، وَلَا خِلَافَ أَنَّ تَقْدِيمَ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ تَأْخِيرِهَا. ثُمَّ هُوَ مِنَ الْخُصُوصِيَّاتِ الَّتِي لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ صِيَامَ آخِرِ النَّهَارِ لَا يُجْزِئُ عَنْ جُمْلَتِهِ، فَكَذَلِكَ سَائِرُ الْعِبَادَاتِ. قُلْتُ: فَاسْتَبْعَدَ غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْمُهَلَّبِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ إِيقَاعَ الْعِبَادَةِ فِي آخِرِ وَقْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ إِيقَاعِهَا فِي أَوَّلِهِ. وَأَمَّا إِجْزَاءُ عَمَلِ الْبَعْضِ عَنِ الْكُلِّ فَمِنْ قَبِيلِ الْفَضْلِ، فَهُوَ كَالْخُصُوصِيَّةِ سَوَاءٌ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: يُسْتَنْبَطُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ وَقْتَ الْعَمَلِ مُمْتَدٌّ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَأَقْرَبُ الْأَعْمَالِ الْمَشْهُورَةِ بِهَذَا الْوَقْتِ صَلَاةُ الْعَصْرِ، قَالَ: فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الْإِشَارَةِ لَا مِنْ صَرِيحِ الْعِبَارَةِ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ مِثَالٌ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْعَمَلُ الْخَاصُّ بِهَذَا الْوَقْتِ، بَلْ هُوَ شَامِلٌ لِسَائِرِ الْأَعْمَالِ مِنَ الطَّاعَاتِ فِي بَقِيَّةِ الْإِمْهَالِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ. وَقَدْ قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إِنَّ الْأَحْكَامَ لَا تُؤْخَذُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي تَأْتِي لِضَرْبِ الْأَمْثَالِ.
قُلْتُ: وَمَا أَبْدَاهُ مُنَاسِبٌ لِإِدْخَالِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي أَبْوَابِ أَوْقَاتِ الْعَصْرِ لَا لِخُصُوصِ التَّرْجَمَةِ وَهِيَ
مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ الْغُرُوبِ بِخِلَافِ مَا أَبْدَاهُ الْمُهَلَّبُ وَأَكْمَلْنَاهُ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ مِنَ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ سِيَاقِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَحَدِيثِ أَبِي مُوسَى فَظَاهِرُهُمَا أَنَّهُمَا قَضِيَّتَانِ، وَقَدْ حَاوَلَ بَعْضُهُمُ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فَتَعَسَّفَ. وَقَالَ ابْنُ رَشِيدٍ مَا حَاصِلُهُ: إِنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ ذُكِرَ مِثَالًا لِأَهْلِ الْأَعْذَارِ لِقَوْلِهِ فَعَجَزُوا فَأَشَارَ إِلَى أَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنِ اسْتِيفَاءِ الْعَمَلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ صَنِيعٌ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْأَجْرَ يَحْصُلُ لَهُ تَامًّا فَضْلًا مِنَ اللَّهِ. قَالَ: وَذُكِرَ حَدِيثُ أَبِي مُوسَى مِثَالًا لِمَنْ أَخَّرَ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَإِلَى ذَلِكَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ عَنْهُمْ (لَا حَاجَةَ لَنَا إِلَى أَجْرِكَ) فَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ مَنْ أَخَّرَ عَامِدًا لَا يَحْصُلُ لَهُ مَا حَصَلَ لِأَهْلِ الْأَعْذَارِ.
قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى (فَقَالَ أَكْمِلُوا) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ وَبِالْكَافِ وَكَذَا وَقَعَ فِي الْإِجَازَةِ. وَوَقَعَ هُنَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ اعْمَلُوا بِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَبِالْعَيْنِ.
قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ (وَنَحْنُ كُنَّا أَكْثَرَ عَمَلًا) تَمَسَّكَ بِهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ كَأَبِي زَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَسْرَارِ إِلَى أَنَّ وَقْتَ الْعَصْرِ مِنْ مَصِيرِ ظِلِّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ مَصِيرِ ظِلِّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ لَكَانَ مُسَاوِيًا لِوَقْتِ الظُّهْرِ، وَقَدْ قَالُوا (كُنَّا أَكْثَرَ عَمَلًا) فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ دُونَ وَقْتِ الظُّهْرِ، وَأُجِيبَ بِمَنْعِ الْمُسَاوَاةِ، وَذَلِكَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَذَا الْفَنِّ، وَهُوَ أَنَّ الْمُدَّةَ الَّتِي بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ أَطْوَلُ مِنَ الْمُدَّةِ الَّتِي بَيْنَ الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ، وَأَمَّا مَا نَقَلَهُ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ مِنَ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الْعَصْرِ رُبْعُ النَّهَارِ فَمَحْمُولٌ عَلَى التَّقْرِيبِ إِذَا فَرَغْنَا عَلَى أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْعَصْرِ مَصِيرُ الظِّلِّ مِثْلَهُ كَمَا قَالَ الْجُمْهُورُ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ فَالَّذِي مِنَ الظُّهْرِ إِلَى الْعَصْرِ أَطْوَلُ قَطْعًا، وَعَلَى التَّنَزُّلِ لَا يَلْزَمُ مِنَ التَّمْثِيلِ وَالتَّشْبِيهِ التَّسْوِيَةُ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَبِأَنَّ الْخَبَرَ إِذَا وَرَدَ فِي مَعْنًى مَقْصُودٍ لَا تُؤْخَذُ مِنْهُ الْمُعَارَضَةُ لِمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ مَقْصُودًا فِي أَمْرٍ آخَرَ، وَبِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْخَبَرِ نَصٌّ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ أَكْثَرُ عَمَلًا لِصِدْقِ أَنَّ كُلَّهُمْ مُجْتَمِعِينَ أَكْثَرُ عَمَلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَبِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أَطْلَقَ ذَلِكَ تَغْلِيبًا، وَبِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَوْلَ الْيَهُودِ خَاصَّةً فَيَنْدَفِعُ الِاعْتِرَاضُ مِنْ أَصْلِهِ كَمَا جَزَمَ بِهِ
بَعْضُهُمْ، وَتَكُونُ نِسْبَةُ ذَلِكَ لِلْجَمِيعِ فِي الظَّاهِرِ غَيْرَ مُرَادَةٍ بَلْ هُوَ عُمُومٌ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ أَطْلَقَ ذَلِكَ تَغْلِيبًا، وَبِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِمْ أَكْثَرَ عَمَلًا أَنْ يَكُونُوا أَكْثَرَ زَمَانًا لِاحْتِمَالِ كَوْنِ الْعَمَلِ فِي زَمَنِهِمْ كَانَ أَشَقَّ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}
وَمِمَّا يُؤَيِّدُ كَوْنَ الْمُرَادِ كَثْرَةَ الْعَمَلِ وَقِلَّتَهُ لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى طُولِ الزَّمَانِ وَقِصَرِهِ كَوْنُ أَهْلِ الْأَخْبَارِ مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّ الْمُدَّةَ الَّتِي بَيْنَ عِيسَى وَنَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم دُونَ الْمُدَّةِ الَّتِي بَيْنَ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم وَقِيَامِ السَّاعَةِ؛ لِأَنَّ جُمْهُورَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْأَخْبَارِ قَالُوا: إِنَّ مُدَّةَ الْفَتْرَةِ بَيْنَ عِيسَى وَنَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم سِتُّمِائَةِ سَنَةٍ، وَثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ سلمَانَ، وَقِيلَ إِنَّهَا دُونَ ذَلِكَ حَتَّى جَاءَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهَا مِائَةٌ وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَهَذِهِ مُدَّةُ الْمُسْلِمِينَ بِالْمُشَاهَدَةِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَلَوْ تَمَسَّكْنَا بِأَنَّ الْمُرَادَ التَّمْثِيلُ بِطُولِ الزَّمَانَيْنِ وَقِصَرِهِمَا لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ وَقْتُ الْعَصْرِ أَطْوَلَ مِنْ وَقْتِ الظُّهْرِ وَلَا قَائِلَ بِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ كَثْرَةُ الْعَمَلِ وَقِلَّتُهُ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
18 - بَاب وَقْتُ الْمَغْرِبِ
وَقَالَ عَطَاءٌ: يَجْمَعُ الْمَرِيضُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ
559 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّجَاشِيِّ هو عطاء بن صُهَيْب مَوْلَى رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ يَقُولُ: كُنَّا نُصَلِّي الْمَغْرِبَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَيَنْصَرِفُ أَحَدُنَا وَإِنَّهُ لَيُبْصِرُ مَوَاقِعَ نَبْلِهِ.
560 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: قَدِمَ الْحَجَّاجُ، فَسَأَلْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ، وَالْعَصْرَ وَالشَّمْسُ نَقِيَّةٌ، وَالْمَغْرِبَ إِذَا وَجَبَتْ، وَالْعِشَاءَ أَحْيَانًا وَأَحْيَانًا: إِذَا رَآهُمْ اجْتَمَعُوا عَجَّلَ، وَإِذَا رَآهُمْ أَبْطَئوا أَخَّرَ، وَالصُّبْحَ - كَانُوا أَوْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّيهَا بِغَلَسٍ.
[الحديث 560 - طرفه في 565]
561 -
حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ قَالَ "كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمَغْرِبَ إِذَا تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ"
562 -
حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ زَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَبْعًا جَمِيعًا وَثَمَانِيًا جَمِيعًا"
قَوْلُهُ: (بَابُ وَقْتِ الْمَغْرِبِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: يَجْمَعُ الْمَرِيضُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ) أَشَارَ بِهَذَا الْأَثَرِ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى أَنَّ وَقْتَ الْمَغْرِبِ يَمْتَدُّ إِلَى الْعِشَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُضَيَّقًا لَانْفَصَلَ عَنْ وَقْتِ الْعِشَاءِ، وَلَوْ كَانَ مُنْفَصِلًا لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا كَمَا فِي الصُّبْحِ وَالظُّهْرِ. وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ خُتِمَ الْبَابُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي وَقْتِ إِحْدَاهِمَا وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي وَقْتِ إِحْدَاهِمَا، وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الَّتِي أَوْرَدَهَا فِي الْبَابِ فَلَيْسَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَقْتَ مُضَيَّقٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا مُجَرَّدُ الْمُبَادَرَةِ إِلَى الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا، وَكَانَتْ تِلْكَ عَادَتَهُ صلى الله عليه وسلم فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ إِلَّا فِيمَا ثَبَتَ فِيهِ خِلَافُ ذَلِكَ كَالْإِبْرَادِ وَكَتَأْخِيرِ الْعِشَاءِ إِذَا أَبْطَئُوا كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا أَثَرُ عَطَاءٍ فَوَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْهُ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَرِيضِ هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ كَالْمُسَافِرِ لِمَا فِيهِ مِنَ الرِّفْقِ بِهِ أَوْ لَا؟ فَجَوَّزَهُ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ مُطْلَقًا، وَاخْتَارَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَجَوَّزَهُ مَالِكٌ بِشَرْطِهِ، وَالْمَشْهُورُ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ الْمَنْعُ، وَلَمْ أَرَ فِي الْمَسْأَلَةِ نَقْلًا عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ.
قَوْلُهُ: (الْوَلِيدُ) هُوَ ابْنُ مُسْلِمٍ.
قَوْله: (هُوَ عَطَاءُ بْنُ صُهَيْبٍ) هُوَ مَوْلَى رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ شَيْخِهِ، قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: صَحِبَهُ سِتَّ سِنِينَ.
قَوْله: (وَأَنَّهُ لَيُبْصِرُ مَوَاقِعَ نَبْلِهِ) بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ، أَيِ الْمَوَاضِعَ الَّتِي تَصِلُ إِلَيْهَا سِهَامُهُ إِذَا رَمَى بِهَا. وَرَوَى أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ بِلَالٍ عَنْ نَاسٍ مِنَ الْأَنْصَارِ قَالُوا: كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَغْرِبَ ثُمَّ نَرْجِعُ فَنَتَرَامَى حَتَّى نَأْتِيَ دِيَارَنَا، فَمَا يَخْفَى عَلَيْنَا مَوَاقِعُ سِهَامِنَا إِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَالنَّبْلُ هِيَ السِّهَامُ الْعَرَبِيَّةُ، وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ لَا وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهَا، قَالَهُ ابْنُ سِيدَهْ، وَقِيلَ وَاحِدُهَا نَبْلَةٌ مِثْلَ تَمْرٍ وَتَمْرَةٍ، وَمُقْتَضَاهُ الْمُبَادَرَةُ بِالْمَغْرِبِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا بِحَيْثُ إِنَّ الْفَرَاغَ مِنْهَا يَقَعُ وَالضَّوْءُ بَاقٍ.
قَوْله: (مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) هُوَ غُنْدَرٌ.
قَوْله: (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو) فِي مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُعَاذٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سَعْدٍ سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْحَسَنِ.
قَوْله: (قَدِمَ الْحَجَّاجُ) بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ وَآخِرُهُ جِيمٌ هُوَ ابْنُ يُوسُفَ الثَّقَفِيُّ، وَزَعَمَ الْكِرْمَانِيُّ أَنَّ الرِّوَايَةَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ قَالَ: وَهُوَ جَمْعُ حَاجٍّ. انْتَهَى. وَهُوَ تَحْرِيفٌ بِلَا خِلَافٍ، فَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طُرُقِ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ شُعْبَةَ: سَأَلْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ
فِي زَمَنِ الْحَجَّاجِ، وَكَانَ يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُعَاذٍ، عَنْ شُعْبَةَ: كَانَ الْحَجَّاجُ يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ.
(فَائِدَةٌ): كَانَ قُدُومُ الْحَجَّاجِ الْمَدِينَةَ أَمِيرًا عَلَيْهَا مِنْ قِبَلِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ وَذَلِكَ عَقِبَ قَتْلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَأَمَّرَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ عَلَى الْحَرَمَيْنِ وَمَا مَعَهُمَا، ثُمَّ نَقَلَهُ بَعْدَ هَذَا إِلَى الْعِرَاقِ.
قَوْله: (بِالْهَاجِرَةِ) ظَاهِرُهُ يُعَارِضُ حَدِيثَ الْإِبْرَادِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ كَانَ يَفْعَلُ يُشْعِرُ بِالْكَثْرَةِ وَالدَّوَامِ عُرْفًا قَالَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، وَيُجْمَعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِأَنْ يَكُونَ أَطْلَقَ الْهَاجِرَةَ عَلَى الْوَقْتِ بَعْدَ الزَّوَالِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ الْإِبْرَادَ كَمَا تَقَدَّمَ مُقَيَّدٌ بِحَالِ شِدَّةِ الْحَرِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِنْ وُجِدَتْ شُرُوطُ الْإِبْرَادِ أَبْرَدَ وَإِلَّا عَجَّلَ، فَالْمَعْنَى كَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ إِلَّا إِنِ احْتَاجَ إِلَى الْإِبْرَادِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مُرَادَهُ لَفَصَّلَ كَمَا فَصَّلَ فِي الْعِشَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْله: (نَقِيَّةٌ) بِالنُّونِ أَوَّلَهُ، أَيْ خَالِصَةً صَافِيَةً لَمْ تَدْخُلْهَا صُفْرَةٌ وَلَا تَغَيُّرٌ.
قَوْلُهُ: (إِذَا وَجَبَتْ) أَيْ غَابَتْ، وَأَصْلُ الْوُجُوبِ السُّقُوطُ، وَالْمُرَادُ سُقُوطُ قُرْصِ الشَّمْسِ، وَفَاعِلُ وَجَبَتْ مُسْتَتِرٌ وَهُوَ الشَّمْسُ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَالْمَغْرِبُ إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَلِأَبِي عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ شُعْبَةَ وَالْمَغْرِبُ حِينَ تَجِبُ الشَّمْسُ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ سُقُوطَ قُرْصِ الشَّمْسِ يَدْخُلُ بِهِ وَقْتُ الْمَغْرِبِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحَلَّهُ مَا إِذَا كَانَ لَا يَحُولُ بَيْنَ رُؤْيَتِهَا غَارِبَةً وَبَيْنَ الرَّائِي حَائِلٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْله:(وَالْعِشَاءُ أَحْيَانًا وَأَحْيَانًا) وَلِمُسْلِمٍ: أَحْيَانًا يُؤَخِّرُهَا وَأَحْيَانًا يُعَجِّلُ، كَانَ إِذَا رَآهُمْ قَدِ اجْتَمَعُوا إِلَخْ وَلِلْمُصَنِّفِ فِي بَابِ وَقْتِ الْعِشَاءِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ شُعْبَةَ إِذَا كَثُرَ النَّاسُ عَجَّلَ، وَإِذَا قَلُّوا أَخَّرَ وَنَحْوُهُ لِأَبِي عَوَانَةَ فِي رِوَايَةٍ. وَالْأَحْيَانُ جَمْعُ حِينٍ، وَهُوَ اسْمٌ مُبْهَمٌ يَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مِنَ الزَّمَانِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ الْحِينُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَقِيلَ أَرْبَعُونَ سَنَةً وَحَدِيثُ الْبَابِ يُقَوِّي الْمَشْهُورَ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى حُكْمِ وَقْتِ الْعِشَاءِ فِي بَابِهِ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: إِذَا تَعَارَضَ فِي شَخْصٍ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَدِّمَ الصَّلَاةَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ مُنْفَرِدًا أَوْ يُؤَخِّرَهَا فِي الْجَمَاعَةِ، أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ الْأَقْرَبُ عِنْدِي أَنَّ التَّأْخِيرَ لِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ، وَحَدِيثُ الْبَابِ يَدُلُّ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ: وَإِذَا رَآهُمْ أَبْطَئُوا أَخَّرَ فَيُؤَخِّرُ لِأَجْلِ الْجَمَاعَةِ مَعَ إِمْكَانِ التَّقْدِيمِ.
قُلْتُ: وَرِوَايَةُ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الَّتِي تَقَدَّمَتْ تَدُلُّ عَلَى أَخَصِّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ انْتِظَارَ مَنْ تَكْثُرُ بِهِمُ الْجَمَاعَةُ أَوْلَى مِنَ التَّقْدِيمِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ مَا إِذَا لَمْ يَفْحُشِ التَّأْخِيرُ وَلَمْ يَشُقَّ عَلَى الْحَاضِرِينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْله: (كَانُوا أَوْ كَانَ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الشَّكُّ مِنَ الرَّاوِي عَنْ جَابِرٍ، وَمَعْنَاهُمَا مُتَلَازِمَانِ لِأَنَّ أَيَّهُمَا كَانَ يَدْخُلُ فِيهِ الْآخَرُ، إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَالصَّحَابَةُ فِي ذَلِكَ كَانُوا مَعَهُ، وَإِنْ أَرَادَ الصَّحَابَةُ فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِمَامَهُمْ، أَيْ كَانَ شَأْنُهُ التَّعْجِيلُ لَهَا دَائِمًا لَا كَمَا كَانَ يَصْنَعُ فِي الْعِشَاءِ مِنْ تَعْجِيلِهَا أَوْ تَأْخِيرِهَا. وَخَبَرُ كَانُوا مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ يُصَلِّيهَا، أَيْ كَانُوا يُصَلُّونَ. وَالْغَلَسُ بِفَتْحِ اللَّامِ ظُلْمَةُ آخِرِ اللَّيْلِ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ مَا حَاصِلُهُ: فِيهِ حَذْفَانِ، حَذْفُ خَبَرِ كَانُوا وَهُوَ جَائِزٌ كَحَذْفِ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ فِي قَوْلِهِ:{وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} أَيْ فَعِدَّتُهُنَّ مِثْلُ ذَلِكَ، وَالْحَذْفُ الثَّانِي حَذْفُ الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَ أَوْ تَقْدِيرُهُ: أَوْ لَمْ يَكُونُوا مُجْتَمِعِينَ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ كَانُوا هُنَا تَامَّةً غَيْرَ نَاقِصَةٍ بِمَعْنَى الْحُضُورِ وَالْوُقُوعِ، فَيَكُونُ الْمَحْذُوفُ مَا بَعْدَ أَوْ خَاصَّةً. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ شَكًّا مِنَ الرَّاوِي هَلْ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، أَوْ كَانُوا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُهُ: وَالصُّبْحُ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ مَعَ النَّبِيِّ، أَوْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَحْدَهُ يُصَلِّيهَا بِالْغَلَسِ.
قُلْتُ: وَالتَّقْدِيرُ الْمُتَقَدِّمُ أَوْلَى. وَالْحَقُّ أَنَّهُ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، فَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَالصُّبْحُ كَانُوا أَوْ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَفِيهِ حَذْفٌ وَاحِدٌ تَقْدِيرُهُ: وَالصُّبْحُ كَانُوا يُصَلُّونَهَا - أَوْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّيهَا بِغَلَسٍ، فَقَوْلُهُ بِغَلَسٍ يَتَعَلَّقُ بِأَيِّ اللَّفْظَيْنِ كَانَ هُوَ الْوَاقِعُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ
قَوْلِهِ كَانُوا يُصَلُّونَهَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ، وَلَا مِنْ قَوْلِهِ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ وَحْدَهُ، بَلِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ كَانُوا يُصَلُّونَهَا أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَصْحَابِهِ، وَهَكَذَا قَوْلُهُ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّيهَا أَيْ بِأَصْحَابِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْله: (عَنْ سَلَمَةَ) هُوَ ابْنُ الْأَكْوَعِ، وَهَذَا مِنْ ثُلَاثِيَّاتِ الْبُخَارِيِّ.
قَوْله: (إِذَا تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ) أَيِ اسْتَتَرَتْ، وَالْمُرَادُ الشَّمْسُ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَمْ يَذْكُرْهَا اعْتِمَادًا عَلَى أَفْهَامِ السَّامِعِينَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ فِي الْقُرْآنِ:{حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} انْتَهَى. وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ حَاتِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ بِلَفْظِ إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَتَوَارَتْ بِالْحِجَابِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاخْتِصَارَ فِي الْمَتْنِ مِنْ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ صَحَّ بِذَلِكَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَرَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عِيسَى، وَأَبُو عَوَانَةَ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ صَفْوَانَ أَيْضًا عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ بِلَفْظِ: كَانَ يُصَلِّي الْمَغْرِبَ سَاعَةَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ حِينَ يَغِيبُ حَاجِبُهَا، وَالْمُرَادُ حَاجِبُهَا الَّذِي يَبْقَى بَعْدَ أَنْ يَغِيبَ أَكْثَرُهَا، وَالرِّوَايَةُ الَّتِي فِيهَا تَوَارَتْ أَصْرَحُ فِي الْمُرَادِ.
وقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى ضَعْفِ حَدِيثِ أَبِي بَصْرَةَ بِالْمُوَحَّدَةِ ثُمَّ الْمُهْمَلَةِ رَفَعَهُ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثِ: وَلَا صَلَاةَ بَعْدَهَا حَتَّى يُرَى الشَّاهِدُ. وَالشَّاهِدُ النَّجْمُ.
19 - بَاب مَنْ كَرِهَ أَنْ يُقَالَ لِلْمَغْرِبِ الْعِشَاءُ
563 -
حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا تَغْلِبَنَّكُمْ الْأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ الْمَغْرِبِ، قَالَ الْأَعْرَابُ وَتَقُولُ هِيَ الْعِشَاءُ.
قَوْله: (بَابُ مَنْ كَرِهَ أَنْ يُقَالَ لِلْمَغْرِبِ الْعِشَاءُ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: عَدَلَ الْمُصَنِّفُ عَنِ الْجَزْمِ كَأَنْ يَقُولَ بَابُ كَرَاهِيَةِ كَذَا لِأَنَّ لَفْظَ الْخَبَرِ لَا يَقْتَضِي نَهْيًا مُطْلَقًا، لَكِنْ فِيهِ النَّهْيُ عَنْ غَلَبَةِ الْأَعْرَابِ عَلَى ذَلِكَ، فَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ رَأَى أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَا يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْ إِطْلَاقِ الْعِشَاءِ عَلَيْهِ أَحْيَانًا، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى وَجْهٍ لَا يُتْرَكُ لَهُ التَّسْمِيَةُ الْأُخْرَى كَمَا تَرَكَ ذَلِكَ الْأَعْرَابُ وُقُوفًا مَعَ عَادَتِهِمْ، قَالَ: وَإِنَّمَا شُرِعَ لَهَا التَّسْمِيَةُ بِالْمَغْرِبِ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ يُشْعِرُ بِمُسَمَّاهَا أَوْ بِابْتِدَاءِ وَقْتِهَا، وَكُرِهَ إِطْلَاقُ اسْمِ الْعِشَاءِ عَلَيْهَا لِئَلَّا يَقَعَ الِالْتِبَاسُ بِالصَّلَاةِ الْأُخْرَى، وَعَلَى هَذَا لَا يُكْرَهُ أَيْضًا أَنْ تُسَمَّى الْعِشَاءَ بِقَيْدٍ كَأَنْ يَقُولَ الْعِشَاءُ الْأُولَى، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُمُ الْعِشَاءُ الْآخِرَةُ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، وَسَيَأْتِي مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، وَنَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ غَيْرِهِ أَنَّهُ لَا يُقَالُ لِلْمَغْرِبِ الْعِشَاءُ الْأُولَى وَيَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ خَاصٍّ، أَمَّا مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ فَلَا حُجَّةَ لَهُ.
قَوْله: (عَبْدُ الْوَارِثِ) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ التَّنُّورِيُّ، وَقَوْله:(عَنِ الْحُسَيْنِ) هُوَ الْمُعَلِّمُ.
قَوْله: (حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ أَبِيهِ، زَادَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ هُوَ ابْنُ مُغَفَّلٍ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالْفَاءِ الْمُشَدَّدَةِ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ مَنْسُوبًا بِذِكْرِ أَبِيهِ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ عَنْ أَبِيهِ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَغَيْرِهِ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.
قَوْله: (لَا تَغْلِبكُمْ) قَالَ الطِّيبِيُّ: يُقَالُ غَلَبَهُ عَلَى كَذَا غَصَبَهُ مِنْهُ أَوْ أَخَذَهُ مِنْهُ قَهْرًا، وَالْمَعْنَى لَا تَتَعَرَّضُوا لِمَا هُوَ مِنْ عَادَتِهِمْ مِنْ تَسْمِيَةِ الْمَغْرِبِ بِالْعِشَاءِ وَالْعِشَاءِ بِالْعَتَمَةِ فَيَغْصِبُ مِن كُمُ الْأَعْرَابُ اسْمَ الْعِشَاءِ الَّتِي سَمَّاهَا اللَّهُ بِهَا. قَالَ: فَالنَّهْيُ عَلَى الظَّاهِرِ لِلْأَعْرَابِ وَعَلَى الْحَقِيقَةِ لَهُمْ. وَقَالَ غَيْرُهُ: مَعْنَى الْغَلَبَةِ أَنَّكُمْ تُسَمُّونَهَا اسْمًا
وَهُمْ يُسَمُّونَهَا اسْمًا، فَإِنْ سَمَّيْتُمُوهَا بِالِاسْمِ الَّذِي يُسَمُّونَهَا بِهِ وَافَقْتُمُوهُمْ، وَإِذَا وَافَقَ الْخَصْمُ خَصْمَهُ صَارَ كَأَنَّهُ انْقَطَعَ لَهُ حَتَّى غَلَبَهُ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ غَصَبَ وَلَا أَخَذَ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْمَعْنَى لَا تُطْلِقُوا هَذَا الِاسْمَ عَلَى مَا هُوَ مُتَدَاوَلٌ بَيْنَهُمْ فَيَغْلِبُ مُصْطَلَحُهُمْ عَلَى الِاسْمِ الَّذِي شَرَعْتُهُ لَكُمْ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْأَعْرَابُ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَرَبِيًّا، وَالْعَرَبِيُّ مَنْ يَنْتَسِبُ إِلَى الْعَرَبِ وَلَوْ لَمْ يَسْكُنِ الْبَادِيَةَ.
قَوْله: (عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ) التَّعْبِيرُ بِالِاسْمِ يُبْعِدُ قَوْلَ الْأَزْهَرِيِّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ أَنْ لَا تُؤَخَّرَ صَلَاتُهَا عَنْ وَقْتِ الْغُرُوبِ، وَكَذَا قَوْلُ ابْنِ الْمُنِيرِ: السِّرُّ فِي النَّهْيِ سَدُّ الذَّرِيعَةِ لِئَلَّا تُسَمَّى عِشَاءً فَيُظَنَّ امْتِدَادُ وَقْتِهَا عَنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ أَخْذًا مِنْ لَفْظِ الْعِشَاءِ اهـ. وَكَأَنَّهُ أَرَادَ تَقْوِيَةَ مَذْهَبِهِ فِي أَنَّ وَقْتَ الْمَغْرِبِ مُضَيَّقٌ، وَفِيهِ نَظَرٌ، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَسْمِيَتِهَا الْمَغْرِبَ أَنْ يَكُونَ وَقْتُهَا مُضَيَّقًا، فَإِنَّ الظُّهْرَ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ وَقْتِهَا عِنْدَ الظَّهِيرَةِ وَلَيْسَ وَقْتُهَا مُضَيَّقًا بِلَا خِلَافٍ.
قَوْله: (قَالَ: وَتَقُولُ الْأَعْرَابُ: هِيَ الْعِشَاءُ) سِرُّ النَّهْي عَنْ مُوَافَقَتِهِمْ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ الْعِشَاءِ لُغَةً هُوَ أَوَّلُ ظَلَامِ اللَّيْلِ، وَذَلِكَ مِنْ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ، فَلَوْ قِيلَ لِلْمَغْرِبِ عِشَاءٌ لَأَدَّى إِلَى أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِهَا غَيْبُوبَةُ الشَّفَقِ، وَقَدْ جَزَمَ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّ فَاعِلَ قَالَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ رَاوِي الْحَدِيثِ، وَيَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ خَاصٍّ لِذَلِكَ وَإِلَّا فَظَاهِرُ إِيرَادِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ أَنَّهُ مِنْ تَتِمَّةِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ أَوْرَدَهُ بِلَفْظِ فَإِنَّ الْأَعْرَابَ تُسَمِّيهَا وَالْأَصْلُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يَكُونَ كَلَامًا وَاحِدًا حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى إِدْرَاجِهِ.
(فَائِدَةٌ): لَا يَتَنَاوَلُ النَّهْيُ تَسْمِيَةَ الْمَغْرِبِ عِشَاءً عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ كَمَنْ قَالَ مَثَلًا: صَلَّيْتُ الْعِشَاءَيْنِ، إِذَا قُلْنَا: إِنَّ حِكْمَةَ النَّهْي عَنْ تَسْمِيَتِهَا عِشَاءً خَوْفُ اللَّبْسِ لِزَوَالِ اللَّبْسِ فِي الصِّيغَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(تَنْبِيهٌ): أَوْرَدَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ حَدِيثَ الْبَابِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ عَنْ أَبِيهِ، وَاخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِي لَفْظِ الْمَتْنِ، فَقَالَ هَارُونُ الْحَمَّالُ عَنْهُ كَرِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ.
قُلْتُ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ وَأَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجِهِ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ عَنْ أَبِيهِ اهـ. وَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الرَّازِيُّ، عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ: لَا تَغْلِبَنَّكُمُ الْأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ؛ فَإِنَّ الْأَعْرَابَ تُسَمِّيهَا عَتَمَةً. قُلْتُ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيُّ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْهُ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجِهِ عَنِ الطَّبَرَانِيِّ كَذَلِكَ، وَجَنَحَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ إِلَى تَرْجِيحِ رِوَايَةِ أَبِي مَسْعُودٍ لِمُوَافَقَتِهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ - يَعْنِي الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ - كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِي صَدْرِ الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ. وَالَّذِي يَتَبَيَّنُ لِي أَنَّهُمَا حَدِيثَانِ: أَحَدُهُمَا فِي الْمَغْرِبِ، وَالْآخَرُ فِي الْعِشَاءِ، كَانَا جَمِيعًا عِنْدَ عَبْدِ الْوَارِثِ بِسَنَدٍ وَاحِدٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
20 - بَاب ذِكْرِ الْعِشَاءِ وَالْعَتَمَةِ، وَمَنْ رَآهُ وَاسِعًا
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَثْقَلُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ الْعِشَاءُ وَالْفَجْرُ. وَقَالَ: لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالْفَجْرِ. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَالِاخْتِيَارُ أَنْ يَقُولَ الْعِشَاءُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: كُنَّا نَتَنَاوَبُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، فَأَعْتَمَ بِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةُ: أَعْتَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْعِشَاءِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ، عَنْ عَائِشَةَ: أَعْتَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْعَتَمَةِ. وَقَالَ جَابِرٌ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الْعِشَاءَ. وَقَالَ أَبُو بَرْزَةَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُؤَخِّرُ الْعِشَاءَ. وَقَالَ أَنَسٌ: أَخَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ. وَقَالَ ابْنُ
عُمَرَ، وَأَبُو أَيُّوبَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم: صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ.
564 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ سَالِمٌ:، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً صَلَاةَ الْعِشَاءِ - وَهِيَ الَّتِي يَدْعُو النَّاسُ الْعَتَمَةَ - ثُمَّ انْصَرَفَ فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا فَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ.
قوله (بَابُ ذِكْرِ الْعِشَاءِ وَالْعَتَمَةِ وَمَنْ رَآهُ وَاسِعًا) غَايَرَ الْمُصَنِّفُ بَيْنَ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا، مَعَ أَنَّ سِيَاقَ الْحَدِيثَيْنِ الْوَارِدَيْنِ فِيهِمَا وَاحِدٌ، وَهُوَ النَّهْيُ عَنْ غَلَبَةِ الْأَعْرَابِ عَلَى التَّسْمِيَتَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِطْلَاقُ اسْمِ الْعِشَاءِ عَلَى الْمَغْرِبِ، وَثَبَتَ عَنْهُ إِطْلَاقُ اسْمِ الْعَتَمَةِ عَلَى الْعِشَاءِ، فَتَصَرَّفَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّرْجَمَتَيْنِ بِحَسَبِ ذَلِكَ. وَالْحَدِيثُ الَّذِي وَرَدَ فِي الْعِشَاءِ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: لَا تَغْلِبَنَّكُمُ الْأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ؛ فَإِنَّهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ الْعِشَاءُ، وَأَنَّهُمْ يُعْتِمُونَ بِحِلَابِ الْإِبِلِ. وَلِابْنِ مَاجَهْ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَلِأَبِي يَعْلَى، وَالْبَيْهَقِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ كَذَلِكَ، زَادَ الشَّافِعِيُّ فِي رِوَايَتِهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا سَمِعَهُمْ يَقُولُونَ الْعَتَمَةَ صَاحَ وَغَضِبَ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ هَذَا الْمَوْقُوفَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ: فَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَهُ كَابْنِ عُمَرَ رَاوِي الْحَدِيثِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ جَوَازَهُ، نَقَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَغَيْرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ خِلَافَ الْأَوْلَى وَهُوَ الرَّاجِحُ، وَسَيَأْتِي لِلْمُصَنِّفِ، وَكَذَلِكَ نَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ وَاخْتَارَهُ، وَنَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ غَيْرِهِ: إِنَّمَا نَهَى عَنْ ذَلِكَ تَنْزِيهًا لِهَذِهِ الْعِبَادَةِ الشَّرْعِيَّةِ الدِّينِيَّةِ عَنْ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهَا مَا هُوَ اسْمٌ لِفَعْلَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ وَهِيَ الْحَلْبَةُ الَّتِي كَانُوا يَجْلِبُونَهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَيُسَمُّونَهَا الْعَتَمَةَ. قُلْتُ: وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ تِلْكَ الْحَلْبَةَ إِنَّمَا كَانُوا يَعْتَمِدُونَهَا فِي زَمَانِ الْجَدْبِ خَوْفًا مِنَ السُّؤَالِ وَالصَّعَالِيكِ، فَعَلَى هَذَا فَهِيَ فَعْلَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ مَكْرُوهَةٌ لَا تُطْلَقُ عَلَى فَعْلَةٍ دِينِيَّةٍ مَحْبُوبَةٍ، وَمَعْنَى الْعَتْمِ فِي الْأَصْلِ تَأْخِيرٌ مَخْصُوصٌ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الْعَتَمَةُ بَقِيَّةُ اللَّبَنِ تَغْبِقُ بِهَا النَّاقَةُ بَعْدَ هَوًى مِنَ اللَّيْلِ، فَسُمِّيَتِ الصَّلَاةُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَهَا فِي تِلْكَ السَّاعَةِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: مَنْ أَوَّلُ مَنْ سَمَّى صَلَاةَ الْعِشَاءِ الْعَتَمَةَ؟ قَالَ: الشَّيْطَانُ.
قَوْله: (وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) شَرَعَ الْمُصَنِّفُ فِي إِيرَادِ أَطْرَافِ أَحَادِيثَ مَحْذُوفَةِ الْأَسَانِيدِ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ مُخَرَّجَةٌ فِي أَمْكِنَةٍ أُخْرَى، حَاصِلُهَا ثُبُوتُ تَسْمِيَةِ هَذِهِ الصَّلَاةِ تَارَةً عَتَمَةً وَتَارَةً عِشَاءً، وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الَّتِي لَا تَسْمِيَةَ فِيهَا بَلْ فِيهَا إِطْلَاقُ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ أَعْتَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَفَائِدَةُ إِيرَادِهِ لَهَا الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ لِإِطْلَاقِ الِاسْمِ، لَا لِمَنْعِ تَأْخِيرِ هَذِهِ الصَّلَاةِ عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ. وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورُ وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ فِي بَابِ فَضْلِ الْعِشَاءِ جَمَاعَةً، وَبِاللَّفْظِ الثَّانِي وَهُوَ الْعَتَمَةُ فِي بَابِ الِاسْتِهَامِ فِي الْأَذَانِ.
قَوْله: (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ الْمُصَنِّفُ.
قَوْله: (وَالِاخْتِيَارُ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: هَذَا لَا يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُ التَّرْجَمَةِ، فَإِنَّ لَفْظَ التَّرْجَمَةِ يُفْهِمُ التَّسْوِيَةَ وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي التَّرْجِيحِ. قُلْتُ: لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْجَوَازِ وَالْأَوْلَوِيَّةِ، فَالشَّيْئَانِ إِذَا كَانَا جَائِزَيِ الْفِعْلِ قَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، وَإِنَّمَا صَارَ عِنْدَهُ أَوْلَى لِمُوَافَقَتِهِ لَفْظَ الْقُرْآنِ، وَيَتَرَجَّحُ أَيْضًا بِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَبِأَنَّ تَسْمِيَتَهَا عِشَاءً يُشْعِرُ بِأَوَّلِ وَقْتِهَا بِخِلَافِ تَسْمِيَتِهَا عَتَمَةً؛ لِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَبِأَنَّ لَفْظَهُ فِي
التَّرْجَمَةِ لَا يُنَافِي مَا ذُكِرَ أَنَّهُ الِاخْتِيَارُ، وَهُوَ وَاضِحٌ لِمَنْ نَظَرَهُ، لِأَنَّهُ قَالَ مَنْ كَرِهَ فَأَشَارَ إِلَى الْخِلَافِ، وَمَنْ نَقَلَ الْخِلَافَ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ أَنْ يَخْتَارَ.
قَوْله: (وَيَذْكُرُ عَنْ أَبِي مُوسَى) سَيَأْتِي مَوْصُولًا عِنْدَ الْمُصَنِّفِ مُطَوَّلًا بَعْدَ بَابٍ وَاحِدٍ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَجْزِمْ بِهِ لِأَنَّهُ اخْتَصَرَ لَفْظَهُ، نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو الْفَضْلِ، وَأَجَابَ بِهِ مَنِ اعْتَرَضَ عَلَى ابْنِ الصَّلَاحِ، حَيْثُ فَرَّقَ بَيْنِ الصِّيغَتَيْنِ، وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ صِيغَةَ الْجَزْمِ تَدُلُّ عَلَى الْقُوَّةِ، وَصِيغَةُ التَّمْرِيضِ لَا تَدُلُّ. ثُمَّ بَيَّنَ مُنَاسَبَةَ الْعُدُولِ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى عَنِ الْجَزْمِ مَعَ صِحَّتِهِ إِلَى التَّمْرِيضِ بِأَنَّ الْبُخَارِيَّ قَدْ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِمَعْنًى غَيْرِ التَّضْعِيفِ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ إِيرَادِ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى، وَكَذَا الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِهِ لِوُجُودِ الِاخْتِلَافِ فِي جَوَازِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُصَنِّفُ يَرَى الْجَوَازَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةُ) أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَوَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ النَّوْمِ قَبْلَ الْعِشَاءِ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا، وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ بِلَفْظِ أَعْتَمَ بِالْعِشَاءِ فَوَصَلَهُ فِي بَابِ فَضْلِ الْعِشَاءِ مِنْ طَرِيقِ عَقِيلٍ، وَفِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ مِنْ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْهَا، وَأَمَّا حَدِيثُهَا بِلَفْظِ أَعْتَمَ بِالْعَتَمَةِ فَوَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ أَيْضًا فِي بَابِ خُرُوجِ النِّسَاءِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِاللَّيْلِ بَعْدَ بَابِ وُضُوءِ الصِّبْيَانِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَقِيلٍ أَيْضًا وَيُونُسَ، وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ وَغَيْرِهِمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ أَعْتَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً بِالْعِشَاءِ، وَهِيَ الَّتِي يَدْعُو النَّاسُ الْعَتَمَةَ وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ السِّيَاقَ الْمَذْكُورَ مِنْ تَصَرُّفِ الرَّاوِي.
(تَنْبِيهٌ): مَعْنَى أَعْتَمَ دَخَلَ فِي وَقْتِ الْعَتَمَةِ، وَيُطْلَقُ أَعْتَمَ بِمَعْنَى أَخَّرَ لَكِنَّ الْأَوَّلَ هُنَا أَظْهَرُ.
قَوْله: (وَقَالَ جَابِرٌ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الْعِشَاءَ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ وَصَلَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي بَابِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ وَفِي بَابِ وَقْتِ الْعِشَاءِ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ أَبُو بَرْزَةَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُؤَخِّرُ الْعِشَاءَ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ وَصَلَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي بَابِ وَقْتِ الْعَصْرِ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ أَنَسٌ: أَخَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْعِشَاءَ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ وَصَلَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي بَابِ وَقْتِ الْعِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ.
قَوْله: (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو أَيُّوبَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ: صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ) أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَأَسْنَدَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي الْحَجِّ بِلَفْظِ: صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِالْمُزْدَلِفَةِ جَمِيعًا. أَمَّا حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ فَوَصَلَهُ أَيْضًا بِلَفْظِ: جَمَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَوَصَلَهُ فِي بَابِ تَأْخِيرِ الظُّهْرِ إِلَى الْعَصْرِ كَمَا تَقَدَّمَ.
قَوْله: (قَالَ سَالِمٌ:، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَشَيْخُهُ عَبْدُ اللَّهِ هُوَ أَبُوهُ. قَوْله:(صَلَّى لَنَا) أَيْ لِأَجْلِنَا، أَوِ اللَّامُ بِمَعْنَى الْبَاءِ.
قَوْله: (وَهِيَ الَّتِي يَدْعُونَهَا النَّاسُ الْعَتَمَةَ) تَقَدَّمَ نَظِيرُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ فِي قَوْلِهِ وَكَانَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ مِنَ الْعِشَاءِ الَّتِي تَدْعُونَهَا الْعَتَمَةَ وَتَقَدَّمَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ إِشْعَارٌ بِغَلَبَةِ اسْتِعْمَالِهِمْ لَهَا بِهَذَا الِاسْمِ، فَصَارَ مَنْ عَرَفَ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ يَحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِهِ لِقَصْدِ التَّعْرِيفِ، قَالَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ: يُجْمَعُ بَيْنَ النَّهْيِ عَنْ تَسْمِيَتِهَا عَتَمَةً وَبَيْنَ مَا جَاءَ مِنْ تَسْمِيَتِهَا عَتَمَةً بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ ذَلِكَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ وَأَنَّ النَّهْيَ لِلتَّنْزِيهِ لَا لِلتَّحْرِيمِ، وَالثَّانِي بِأَنَّهُ خَاطَبَ بِالْعَتَمَةِ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْعِشَاءَ لِكَوْنِهِ أَشْهَرَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِشَاءِ، فَهُوَ لِقَصْدِ التَّعْرِيفِ لَا لِقَصْدِ التَّسْمِيَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ لَفْظَ الْعَتَمَةِ فِي الْعِشَاءِ لِأَنَّهُ كَانَ مُشْتَهِرًا عِنْدَهُمُ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الْعِشَاءِ لِلْمَغْرِبِ، فَلَوْ قَالَ: لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الصُّبْحِ وَالْعِشَاءِ، لَتَوَهَّمُوا أَنَّهَا الْمَغْرِبُ.
قُلْتُ: وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي نَفْسِ هَذَا الْحَدِيثِ: لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الصُّبْحِ وَالْعِشَاءِ. فَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّعْبِيرَ بِالْعِشَاءِ تَارَةً وَبِالْعَتَمَةِ تَارَةً مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ، وَقِيلَ: إِنَّ النَّهْيَ عَنْ تَسْمِيَةِ الْعِشَاءِ عَتَمَةً نَسَخَ الْجَوَازَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ نُزُولَ الْآيَةِ كَانَ قَبْلَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَفِي كُلٍّ
مِنَ الْقَوْلَيْنِ نَظَرٌ لِلِاحْتِيَاجِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ إِلَى التَّارِيخِ، وَلَا بُعْدَ فِي أَنَّ ذَلِكَ كَانَ جَائِزًا، فَلَمَّا كَثُرَ إِطْلَاقُهُمْ لَهُ نُهُوا عَنْهُ لِئَلَّا تَغْلِبَ السُّنَّةُ الْجَاهِلِيَّةُ عَلَى السُّنَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَحْرُمُ ذَلِكَ بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ رَوَوُا النَّهْيَ اسْتَعْمَلُوا التَّسْمِيَةَ الْمَذْكُورَةَ، وَأَمَّا اسْتِعْمَالُهَا فِي مِثْلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَلِرَفْعِ الِالْتِبَاسِ بِالْمَغْرِبِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْله: (وَهِيَ الَّتِي يَدْعُو النَّاسُ الْعَتَمَةَ) فِيهِ إِشْعَارٌ بِغَلَبَةِ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ النَّاسِ مِمَّنْ لَمْ يَبْلُغْهُمُ النَّهْيَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَتْنِ الْحَدِيثِ فِي بَابِ السَّمَرِ فِي الْعِلْمِ.
21 - بَاب وَقْتِ الْعِشَاءِ إِذَا اجْتَمَعَ النَّاسُ أَوْ تَأَخَّرُوا
565 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو هُوَ ابْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: سَأَلْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ صَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: كَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ، وَالْعَصْرَ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ، وَالْمَغْرِبَ إِذَا وَجَبَتْ، وَالْعِشَاءَ إِذَا كَثُرَ النَّاسُ عَجَّلَ، وَإِذَا قَلُّوا أَخَّرَ، وَالصُّبْحَ بِغَلَسٍ.
قَوْلُهُ: (بَابُ وَقْتِ الْعِشَاءِ إِذَا اجْتَمَعَ النَّاسُ أَوْ تَأَخَّرُوا) أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ إِنَّهَا تُسَمَّى الْعِشَاءَ إِذَا عُجِّلَتْ وَالْعَتَمَةَ إِذَا أُخِّرَتْ، أَخْذًا مِنَ اللَّفْظَيْنِ. وَأَرَادَ هَذَا الْقَائِلُ الْجَمْعَ بِوَجْهٍ غَيْرِ الْأَوْجُهِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَاحْتَجَّ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّهَا قَدْ سُمِّيَتْ فِي حَدِيثِ الْبَابِ فِي حَالِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ بِاسْمٍ وَاحِدٍ.
وقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ جَابِرٍ فِي بَابِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ.
22 - بَاب فَضْلِ الْعِشَاءِ
566 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ، قَالَتْ: أَعْتَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً بِالْعِشَاءِ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَفْشُوَ الْإِسْلَامُ، فَلَمْ يَخْرُجْ حَتَّى قَالَ عُمَرُ: نَامَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، فَخَرَجَ فَقَالَ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ: مَا يَنْتَظِرُهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ غَيْرَكُمْ.
[الحديث 566 - أطرافه في: 864، 862، 569،]
567 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَأَصْحَابِي الَّذِينَ قَدِمُوا مَعِي فِي السَّفِينَةِ نُزُولًا فِي بَقِيعِ بُطْحَانَ - وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ - فَكَانَ يَتَنَاوَبُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ كُلَّ لَيْلَةٍ نَفَرٌ مِنْهُمْ، فَوَافَقْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَأَصْحَابِي، وَلَهُ بَعْضُ الشُّغْلِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ، فَأَعْتَمَ بِالصَّلَاةِ حَتَّى ابْهَارَّ اللَّيْلُ، ثُمَّ خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى بِهِمْ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ قَالَ لِمَنْ حَضَرَهُ: عَلَى رِسْلِكُمْ أَبْشِرُوا، إِنَّ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ يُصَلِّي هَذِهِ السَّاعَةَ غَيْرُكُمْ. أَوْ قَالَ: مَا صَلَّى هَذِهِ السَّاعَةَ أَحَدٌ غَيْرُكُمْ. لَا يَدْرِي أَيَّ الْكَلِمَتَيْنِ قَالَ. قَالَ أَبُو مُوسَى: فَرَجَعْنَا، فَفَرِحْنَا بِمَا سَمِعْنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَوْله: (بَابُ فَضْلِ الْعِشَاءِ) لَمْ أَرَ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَى هَذِهِ التَّرْجَمَةِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْمُؤَلِّفُ فِي
هَذَا الْبَابِ مَا يَقْتَضِي اخْتِصَاصَ الْعِشَاءِ بِفَضِيلَةٍ ظَاهِرَةٍ، وَكَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ: مَا يَنْتَظِرُهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ غَيْرُكُمْ فَعَلَى هَذَا فِي التَّرْجَمَةِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: بَابُ فَضْلِ انْتِظَارِ الْعِشَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْله: (عَنْ عُرْوَةَ) عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ.
قَوْله: (وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَفْشُوَ الْإِسْلَامُ) أَيْ فِي غَيْرِ الْمَدِينَةِ، وَإِنَّمَا فَشَا الْإِسْلَامُ فِي غَيْرِهَا بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ.
قَوْله: (حَتَّى قَالَ عُمَرُ) زَادَ الْمُصَنِّفُ مِنْ رِوَايَةِ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فِي بَابِ النَّوْمِ قَبْلَ الْعِشَاءِ: حَتَّى نَادَاهُ عُمَرُ: الصَّلَاةَ. وَهِيَ بِالنَّصْبِ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ مَثَلًا صَلِّ الصَّلَاةَ، وَسَاغَ هَذَا الْحَذْفُ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ.
قَوْله: (نَامَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ) أَيِ الْحَاضِرُونَ فِي الْمَسْجِدِ، وَإِنَّمَا خَصَّهُمْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ مَظِنَّةُ قِلَّةِ الصَّبْرِ عَنِ النَّوْمِ، وَمَحَلُّ الشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ، بِخِلَافِ الرِّجَالِ. وَسَيَأْتِي قَرِيبًا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ حَتَّى رَقَدْنَا فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ اسْتَيْقَظْنَا وَنَحْوُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي رَقَدَ بَعْضُهُمْ لَا كُلُّهُمْ، وَنُسِبَ الرُّقَادُ إِلَى الْجَمِيعِ مَجَازًا. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَابِ النَّوْمِ قَبْلَ الْعِشَاءِ لِمَنْ غُلِبَ.
قَوْله: (عَنْ بُرَيْدٍ) هُوَ بِالْمُوَحَّدَةِ وَالرَّاءِ بِلَفْظِ التَّصْغِيرِ، وَشَيْخُهُ أَبُو بُرْدَةَ هُوَ جَدُّهُ. قَوْله:(فِي بَقِيعِ بُطْحَانَ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ مِنْ بَقِيعٍ وَضَمِّهَا مِنْ بُطْحَانَ.
قَوْله: (وَلَهُ بَعْضُ الشُّغْلِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ فَأَعْتَمَ بِالصَّلَاةِ) فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ تَأْخِيرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ لَمْ يَكُنْ قَصْدًا. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْآتِي قَرِيبًا شُغِلَ عَنْهَا لَيْلَةً وَكَذَا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ أَعْتَمَ بِالصَّلَاةِ لَيْلَةً يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِهِ، وَالْفَيْصَلُ فِي هَذَا حَدِيثُ جَابِرٍ كَانُوا إِذَا اجْتَمَعُوا عَجَّلَ، وَإِذَا أَبْطَئُوا أَخَّرَ.
(فَائِدَةٌ): الشُّغْلُ الْمَذْكُورُ كَانَ فِي تَجْهِيزِ جَيْشٍ، رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ.
قَوْله: (حَتَّى ابْهَارَّ اللَّيْلُ) بِالْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، أَيْ طَلَعَتْ نُجُومُهُ وَاشْتَبَكَتْ، وَالْبَاهِرُ الْمُمْتَلِئُ نُورًا، قَالَهُ أَبُو سَعِيدٍ الضَّرِيرُ. وَعَنْ سِيبَوَيْهِ: ابْهَارَّ اللَّيْلُ كَثُرَتْ ظُلْمَتُهُ وَابْهَارَّ الْقَمَرُ كَثُرَ ضَوْؤهُ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: ابْهَارَّ: انْتَصَفَ، مَأْخُوذٌ مِنْ بُهْرَةِ الشَّيْءِ وَهُوَ وَسَطُهُ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: حَتَّى إِذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ، وَهُوَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ كَمَا سَيَأْتِي، وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ: إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ. وَفِي الصِّحَاحِ: ابْهَارَّ اللَّيْلُ ذَهَبَ مُعْظَمُهُ وَأَكْثَرُهُ. وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أُمِّ كُلْثُومٍ عَنْ عَائِشَةَ: حَتَّى ذَهَبَ عَامَّةُ اللَّيْلِ.
قَوْله: (عَلَى رِسْلِكُمْ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا، الْمَعْنَى تَأَنَّوْا.
قَوْله: (إِنَّ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ) بِكَسْرِ هَمْزِ إِنَّ، وَوَهَمَ مَنْ ضَبَطَهُ بِالْفَتْحِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ فَهُوَ بِفَتْحِ أَنَّهُ لِلتَّعْلِيلِ، وَاسْتُدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى فَضْلِ تَأْخِيرِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ فَضِيلَةَ أَوَّلِ الْوَقْتِ لِمَا فِي الِانْتِظَارِ مِنَ الْفَضْلِ، لَكِنْ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَلَا يَصْلُحُ ذَلِكَ الْآنَ لِلْأَئِمَّةِ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِالتَّخْفِيفِ، وَقَالَ: إِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ فَتَرْكُ التَّطْوِيلِ عَلَيْهِمْ فِي الِانْتِظَارِ أَوْلَى.
قُلْتُ: وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْعَتَمَةِ، فَلَمْ يَخْرُجْ حَتَّى مَضَى نَحْوٌ مِنْ شَطْرِ اللَّيْلِ فَقَالَ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا وَأَخَذُوا مَضَاجِعَهُمْ، وَإِنَّكُمْ لَنْ تَزَالُوا فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرْتُمُ الصَّلَاةَ، وَلَوْلَا ضَعْفُ الضَّعِيفِ وَسَقَمُ السَّقِيمِ وَحَاجَةُ ذِي الْحَاجَةِ لَأَخَّرْتُ هَذِهِ الصَّلَاةَ إِلَى شَطْرِ اللَّيْلِ. وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَرِيبًا: لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ أَنْ يُصَلُّوهَا هَكَذَا. وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ أَنْ يُؤَخِّرُوا الْعِشَاءَ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ أَوْ نِصْفِهِ. فَعَلَى هَذَا مَنْ وَجَدَ بِهِ قُوَّةً عَلَى تَأْخِيرِهَا وَلَمْ يَغْلِبْهُ النَّوْمُ وَلَمْ يَشُقَّ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْمَأْمُومِينَ، فَالتَّأْخِيرُ فِي حَقِّهِ أَفْضَلُ، وَقَدْ قَرَّرَ النَّوَوِيُّ ذَلِكَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ اللَّيْثِ، وَإِسْحَاقَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ تَأْخِيرُ الْعِشَاءِ إِلَى قَبْلَ الثُّلُثِ، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: يُسْتَحَبُّ إِلَى الثُّلُثِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ وَأَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: التَّعْجِيلُ أَفْضَلُ، وَكَذَا قَالَ فِي الْإِمْلَاءِ وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ وَجَمَاعَةٌ وَقَالُوا: إِنَّهُ مِمَّا يُفْتَى بِهِ عَلَى الْقَدِيمِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ ذَكَرَهُ فِي الْإِمْلَاءِ وَهُوَ مِنْ كُتُبِهِ الْجَدِيدَةِ، وَالْمُخْتَارُ مِنْ حَيْثُ الدَّلِيلِ أَفْضَلِيَّةُ التَّأْخِيرِ، وَمِنْ حَيْثُ النَّظَرِ التَّفْصِيلُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْله:(فَرْحَى) جَمْعُ فَرْحَانٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَمِثْلُهُ: وَتَرَى النَّاسَ سَكْرَى فِي قِرَاءَةٍ، أَوْ تَأْنِيثُ فِرَاحٍ وَهُوَ نَحْوُ الرِّجَالُ فَعَلَتْ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فَرَجَعْنَا وَفَرِحْنَا، وَلِبَعْضِهِمْ: فَرَجَعْنَا فَرَحًا بِفَتْحِ الرَّاءِ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ كَالرِّوَايَةِ الْأُولَى، وَسَبَبُ فَرَحِهِمْ عِلْمُهُمْ بِاخْتِصَاصِهِمْ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ الَّتِي هِيَ نِعْمَةٌ عُظْمَى مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْمَثُوبَةِ الْحُسْنَى مع مَا انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ مِنْ تَجْمِيعِهِمْ فِيهَا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
23 - بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ النَّوْمِ قَبْلَ الْعِشَاءِ
568 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ، عَنْ أَبِي بَرْزَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَ الْعِشَاءِ وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ النَّوْمِ قَبْلَ الْعِشَاءِ) قَالَ التِّرْمِذِيُّ: كَرِهَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ النَّوْمَ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، وَرَخَّصَ بَعْضُهُمْ فِيهِ فِي رَمَضَانَ خَاصَّةً. انْتَهَى. وَمَنْ نُقِلَتْ عَنْهُ الرُّخْصَةُ قُيِّدَتْ عَنْهُ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ بِمَا إِذَا كَانَ لَهُ مَنْ يُوقِظُهُ أَوْ عُرِفَ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ لَا يَسْتَغْرِقُ وَقْتَ الِاخْتِيَارِ بِالنَّوْمِ، وَهَذَا جَيِّدٌ؛ حَيْثُ قُلْنَا: إِنَّ عِلَّةَ النَّهْي خَشْيَةَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، وَحَمَلَ الطَّحَاوِيُّ الرُّخْصَةَ عَلَى مَا قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الْعِشَاءِ، وَالْكَرَاهَةَ عَلَى مَا بَعْدَ دُخُولِهِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ) كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَوَافَقَهُ ابْنُ السَّكَنِ. وَفِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ غَيْرُ مَنْسُوبٍ، وَقَدْ تَعَيَّنَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَابْنِ السَّكَنِ وَحَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ الْمَذْكُورِ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِهِ الْآتِي فِي السَّمَرِ بَعْدَ الْعِشَاءِ.
قَوْلُهُ: (وَالْحَدِيثُ بَعْدَهَا) أَيِ الْمُحَادَثَةُ. وَسَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ أَنَّ هَذِهِ الْكَرَاهَةَ مَخْصُوصَةٌ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي أَمْرٍ مَطْلُوبٍ، وَقِيلَ: الْحِكْمَةُ فِيهِ لِئَلَّا يَكُونَ سَبَبًا فِي تَرْكِ قِيَامِ اللَّيْلِ، أَوْ لِلِاسْتِغْرَاقِ فِي الْحَدِيثِ ثُمَّ يَسْتَغْرِقُ فِي النَّوْمِ فَيَخْرُجُ وَقْتُ الصُّبْحِ، وَسَيَأْتِي الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَيْنَ حَدِيثِهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ.
24 - بَاب النَّوْمِ قَبْلَ الْعِشَاءِ لِمَنْ غُلِبَ
569 -
حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ، قَالَ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ:، أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَعْتَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْعِشَاءِ حَتَّى نَادَاهُ عُمَرُ: الصَّلَاةَ، نَامَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ. فَخَرَجَ فَقَالَ: مَا يَنْتَظِرُهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ غَيْرُكُمْ. قَالَ: وَلَا يُصَلَّى يَوْمَئِذٍ إِلَّا بِالْمَدِينَةِ، وَكَانُوا يُصَلُّونَ فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ الْأَوَّلِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ النَّوْمِ قَبْلَ الْعِشَاءِ لِمَنْ غُلِبَ) فِي التَّرْجَمَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْكَرَاهَةَ مُخْتَصَّةٌ بِمَنْ تَعَاطَى ذَلِكَ مُخْتَارًا، وَقِيلَ ذَلِكَ مُسْتَفَادٌ مِنْ تَرْكِ إِنْكَارِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَنْ رَقَدَ مِنَ الَّذِينَ كَانُوا يَنْتَظِرُونَ خُرُوجَهُ لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ، وَلَوْ قِيلَ بِالْفَرْقِ
بَيْنَ مَنْ غَلَبَهُ النَّوْمُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ وَبَيْنَ مَنْ غَلَبَهُ وَهُوَ فِي مَنْزِلِهِ مَثَلًا لَكَانَ مُتَّجَهًا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ) هُوَ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ أَخُو إِسْمَاعِيلَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ وَيُعْرَفُ بِالْأَعْشَى.
قَوْلُهُ: (وَلَا تُصَلَّى) بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقَانِيَّةِ وَفَتْحِ اللَّامِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ صَلَاةُ الْعِشَاءِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا لَا تُصَلَّى بِالْهَيْئَةِ الْمَخْصُوصَةِ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ إِلَّا بِالْمَدِينَةِ، وَبِهِ صَرَّحَ الدَّاوُدِيُّ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ لَمْ يَكُونُوا يُصَلُّونَ إِلَّا سِرًّا، وَأَمَّا غَيْرُ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ مِنَ الْبِلَادِ فَلَمْ يَكُنِ الْإِسْلَامُ دَخَلَهَا.
قَوْلُهُ: (وَكَانُوا) أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ، وَفِي هَذَا بَيَانُ الْوَقْتِ الْمُخْتَارِ لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ لِمَا يُشْعِرُ بِهِ السِّيَاقُ مِنَ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ وَرَدَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبْلَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَلَفْظُهُ: ثُمَّ قَالَ صَلُّوهَا فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ. وَلَيْسَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّهُ أَخَّرَ الصَّلَاةَ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ مُعَارَضَةٌ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَغْلَبِ مِنْ عَادَتِهِ صلى الله عليه وسلم.
(فَائِدَةٌ): زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَذَكَرَ لِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تَنْزُرُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلصَّلَاةِ وَذَلِكَ حِينَ صَاحَ عُمَرُ، وَقَوْلُهُ تَنْزُرُوا بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقَانِيَّةِ وَسُكُونِ النُّونِ وَضَمِّ الزَّايِ بَعْدَهَا رَاءٌ، أَيْ تُلِحُّوا عَلَيْهِ، وَرُوِيَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ ثُمَّ رَاءٌ مَكْسُورَةٌ ثُمَّ زَايٌ أَيْ تَخْرُجُوا.
570 -
حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شُغِلَ عَنْهَا لَيْلَةً فَأَخَّرَهَا حَتَّى رَقَدْنَا فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ اسْتَيْقَظْنَا، ثُمَّ رَقَدْنَا، ثُمَّ اسْتَيْقَظْنَا، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ غَيْرُكُمْ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يُبَالِي أَقَدَّمَهَا أَمْ أَخَّرَهَا، إِذَا كَانَ لَا يَخْشَى أَنْ يَغْلِبَهُ النَّوْمُ عَنْ وَقْتِهَا. وَكَانَ يَرْقُدُ قَبْلَهَا. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ
571 -
وَقَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ أَعْتَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً بِالْعِشَاءِ حَتَّى رَقَدَ النَّاسُ وَاسْتَيْقَظُوا وَرَقَدُوا وَاسْتَيْقَظُوا فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ الصَّلَاةَ قَالَ عَطَاءٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَخَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ الْآنَ يَقْطُرُ رَأْسُهُ مَاءً وَاضِعًا يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ فَقَالَ لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَامَرْتُهُمْ أَنْ يُصَلُّوهَا هَكَذَا فَاسْتَثْبَتُّ عَطَاءً كَيْفَ وَضَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَأْسِهِ يَدَهُ كَمَا أَنْبَأَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَبَدَّدَ لِي عَطَاءٌ بَيْنَ أَصَابِعِهِ شَيْئًا مِنْ تَبْدِيدٍ ثُمَّ وَضَعَ أَطْرَافَ أَصَابِعِهِ عَلَى قَرْنِ الرَّأْسِ ثُمَّ ضَمَّهَا يُمِرُّهَا كَذَلِكَ عَلَى الرَّأْسِ حَتَّى مَسَّتْ إِبْهَامُهُ طَرَفَ الأُذُنِ مِمَّا يَلِي الْوَجْهَ عَلَى الصُّدْغِ وَنَاحِيَةِ اللِّحْيَةِ لَا يُقَصِّرُ وَلَا يَبْطُشُ إِلاَّ كَذَلِكَ وَقَالَ لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَامَرْتُهُمْ أَنْ يُصَلُّوا هَكَذَا
[الحديث 571 - طرفه في: 7239]
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ) هُوَ ابْنُ غَيْلَانَ.
قَوْلُهُ: (شُغِلَ عَنْهَا لَيْلَةً فَأَخَّرَهَا) هَذَا التَّأْخِيرُ مُغَايِرٌ لِلتَّأْخِيرِ الْمَذْكُورِ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ وَغَيْرِهِ الْمُقَيَّدِ بِتَأْخِيرِ اجْتِمَاعِ الْمُصَلِّينَ، وَسِيَاقُهُ يُشْعِرُ بِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَادَتِهِ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى رَقَدْنَا فِي
الْمَسْجِدِ) اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ النَّوْمَ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الرَّاقِدُ مِنْهُمْ كَانَ قَاعِدًا مُتَمَكِّنًا، أَوْ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مُضْطَجِعًا لَكِنَّهُ تَوَضَّأَ وَإِنْ لَمْ يُنْقَلْ، اكْتِفَاءً بِمَا عُرِفَ مِنْ أَنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ) أَيِ ابْنُ عُمَرَ (يَرْقُدُ قَبْلَهَا) أَيْ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَخْشَ أَنْ يَغْلِبَهُ النَّوْمُ عَنْ وَقْتِهَا، كَمَا صَرَّحَ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ: وَكَانَ لَا يُبَالِي أَقَدَّمَهَا أَمْ أَخَّرَهَا وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ رُبَّمَا رَقَدَ عَنِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ وَيَأْمُرُ أَنْ يُوقِظُوهُ، وَالْمُصَنِّفُ حَمَلَ ذَلِكَ فِي التَّرْجَمَةِ عَلَى مَا إِذَا غَلَبَهُ النَّوْمُ، وَهُوَ اللَّائِقُ بِحَالِ ابْنِ عُمَرَ.
قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ) هُوَ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي قَبْلَهُ - وَهُوَ مَحْمُودٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ - وَوَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُعَلَّقٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ بِالْإِسْنَادَيْنِ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِهِ الطَّبَرَانِيُّ، وَعَنْهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجِهِ.
قَوْلُهُ: (فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: الصَّلَاةَ)، زَادَ فِي التَّمَنِّي رَقَدَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ وَهُوَ مُطَابِقٌ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْمَاضِي.
قَوْلُهُ: (وَاضِعًا يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ عَلَى رَأْسِي وَهُوَ وَهْمٌ لِمَا ذُكِرَ بَعْدَهُ مِنْ هَيْئَةِ عَصْرِهِ صلى الله عليه وسلم شَعْرَهُ مِنَ الْمَاءِ، وَكَأَنَّهُ كَانَ اغْتَسَلَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ.
قَوْلُهُ: (فَاسْتَثْبَتَ) هُوَ مَقُولُ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَعَطَاءٌ هُوَ ابْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَوَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ ابْنُ يَسَارٍ.
قَوْلُهُ: (فَبَدَّدَ) أَيْ فَرَّقَ. وَقَرْنُ الرَّأْسِ جَانِبُهُ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ ضَمَّهَا) كَذَا لَهُ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمِيمِ، وَلِمُسْلِمٍ وَصَبَّهَا بِالْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ، وَصَوَّبَهُ عِيَاضٌ قَالَ: لِأَنَّهُ يَصِفُ عَصْرَ الْمَاءِ مِنَ الشَّعْرِ بِالْيَدِ. قُلْتُ: وَرِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ مُوَجَّهَةٌ، لِأَنَّ ضَمَّ الْيَدِ صِفَةٌ لِلْعَاصِرِ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى مَسَّتْ إِبْهَامَهُ) كَذَا بِالْإِفْرَادِ لِلْكُشْمِيهَنِيِّ، وَلِغَيْرِهِ إِبْهَامَيْهِ وَهُوَ مَنْصُوبٌ بِالْمَفْعُولِيَّةِ وَفَاعِلُهُ طَرَفُ الْأُذُنِ، وَعَلَى هَذَا فَهُوَ مَرْفُوعٌ. وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى طَرَفَ مَنْصُوبٌ وَفَاعِلُهُ إِبْهَامُهُ وَهُوَ مَرْفُوعٌ، وَيُؤَيِّدُ رِوَايَةَ الْأَكْثَرِ رِوَايَةُ حَجَّاجٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَأَبِي نُعَيْمٍ حَتَّى مَسَّتْ إِبْهَامَاهُ طَرَفَ الْأُذُنِ.
قَوْلُهُ: (لَا يُقَصِّرُ وَلَا يَبْطِشُ) أَيْ لَا يُبْطِئُ وَلَا يَسْتَعْجِلُ، وَيُقَصِّرُ بِالْقَافِ لِلْأَكْثَرِ وَوَقَعَ عِنْدَ الْكُشْمِيهَنِيِّ لَا يَعْصِرُ بِالْعَيْنِ، وَالْأُولَى أَصْوَبُ.
قَوْلُهُ: (لَأَمَرْتُهُمْ أَنْ يُصَلُّوهَا) كَذَا بَيَّنَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ التَّمَنِّي عِنْدَ الْمُصَنِّفِ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَغَيْرِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَقَالَ إِنَّهُ لَلْوَقْتِ لَوْلَا أَنَّ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي.
(فَائِدَةٌ): وَقَعَ فِي الطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِمَعْنَاهُ قَالَ: وَذَهَبَ النَّاسُ إِلَّا عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ فِي سِتَّةِ عَشَرَ رَجُلًا، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا صَلَّى هَذِهِ الصَّلَاةَ أُمَّةٌ قَبْلَكُمْ.
25 - بَاب وَقْتِ الْعِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ
وَقَالَ أَبُو بَرْزَةَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَحِبُّ تَأْخِيرَهَا
572 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ الْمُحَارِبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَائِدَةُ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسِ قَالَ: أَخَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْعِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ، ثُمَّ صَلَّى ثُمَّ قَالَ: قَدْ صَلَّى النَّاسُ وَنَامُوا، أَمَا إِنَّكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرْتُمُوهَا. وَزَادَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ سَمِعَ أنها: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ خَاتَمِهِ لَيْلَتَئِذٍ.
[الحديث 572 أطرافه -: 5869، 847، 661، 600]
قَوْلُهُ: (بَابُ وَقْتِ الْعِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ) فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ حَدِيثٌ صَرِيحٌ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فِي بَيَانِ أَوَّلِ الْأَوْقَاتِ وَآخِرِهَا، وَفِيهِ: فَإِذَا صَلَّيْتُمُ الْعِشَاءَ فَإِنَّهُ وَقَّتَ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ وَقَّتَ لِأَدَائِهَا اخْتِيَارًا، وَأَمَّا وَقْتُ الْجَوَازِ فَيَمْتَدُّ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: إِنَّمَا التَّفْرِيطُ
عَلَى مَنْ لَمْ يُصَلِّ الصَّلَاةَ حَتَّى يَجِيءَ وَقْتُ الصَّلَاةِ الْأُخْرَى. وَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: إِذَا ذَهَبَ نِصْفُ اللَّيْلِ صَارَتْ قَضَاءً. قَالَ: وَدَلِيلُ الْجُمْهُورِ حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ الْمَذْكُورُ.
قُلْتُ: وَعُمُومُ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ مَخْصُوصٌ بِالْإِجْمَاعِ فِي الصُّبْحِ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ الْجَدِيدِ فِي الْمَغْرِبِ فَلِلْإِصْطَخْرِيِّ أَنْ يَقُولَ إِنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي الْعِشَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو بَرْزَةَ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِهِ الْمُتَقَدِّمِ فِي بَابِ وَقْتِ الْعَصْرِ وَلَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِقَيْدِ نِصْفِ اللَّيْلِ، لَكِنَّ أَحَادِيثَ التَّأْخِيرِ وَالتَّوْقِيتِ لَمَّا جَاءَتْ مَرَّةً مُقَيَّدَةً بِالثُّلُثِ وَأُخْرَى بِالنِّصْفِ كَانَ النِّصْفُ غَايَةَ التَّأْخِيرِ، وَلَمْ أَرَ فِي امْتِدَادِ وَقْتِ الْعِشَاءِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ حَدِيثًا صَرِيحًا يَثْبُتُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ الْمُحَارِبِيُّ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، ووَقَعَ لِأَبِي الْوَقْتُ وَغَيَّرَهُ عَبْدُ الرَّحِيمِ بِغَيْرِ صِيغَةِ أَدَاءٍ، وَهُوَ عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ الْكُوفِيُّ، يُكَنَّى أَبَا زِيَادٍ، وَهُوَ مِنْ قُدَمَاءِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ.
قَوْلُهُ: (صَلَاةُ الْعِشَاءِ) زَادَ مُسْلِمٌ لَيْلَةً وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُوَاظِبُ عَلَى ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (قَدْ صَلَّى النَّاسُ) أَيِ الْمَعْهُودُونَ مِمَّنْ صَلَّى مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِذْ ذَاكَ.
قَوْلُهُ: (وَزَادَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ) يَعْنِي سَعِيدَ بْنَ الْحَكَمِ الْمِصْرِيَّ، وَمُرَادُهُ بِهَذَا التَّعْلِيقِ بَيَانُ سَمَاعِ حُمَيْدٍ لِلْحَدِيثِ مِنْ أَنَسٍ.
قَوْلُهُ: (كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَخْ) الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ لِقَوْلِهِ زَادَ. وَقَدْ وَقَعَ لَنَا هَذَا التَّعْلِيقُ مَوْصُولًا عَالِيًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي طَاهِرٍ الْمُخْلِصِ فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ فَوَائِدِهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ بِسَنَدِهِ وَأَوَّلُهُ: سَأَلَ أَنَسٌ: هَلِ اتَّخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَاتَمًا؟ قَالَ: نَعَمْ، أَخَّرَ الْعِشَاءَ فَذَكَرَهُ، وَفِي آخِرِهِ: وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ خَاتَمِهِ لَيْلَتَئِذٍ الْوَبِيصُ بِالْمُوَحَّدَةِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ: الْبَرِيقُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى فَضْلِ انْتِظَارِ الصَّلَاةِ فِي أَبْوَابِ الْجَمَاعَةِ، وَعَلَى الْخَاتَمِ وَلُبْسِهِ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
26 - بَاب فَضْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ
573 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا قَيْسٌ، قَالَ لِي جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ نَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، فَقَالَ: أَمَا إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا لَا تُضَامُّونَ - أَوْ لَا تُضَاهُونَ - فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا. ثُمَّ قَالَ:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا}
574 -
حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنِي أَبُو جَمْرَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ.
وَقَالَ ابْنُ رَجَاءٍ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ أَخْبَرَهُ بِهَذَا.
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، عن، حَبَّانُ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا أَبُو جَمْرَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. . . مِثْلَهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ بَعْدَ هَذَا وَالْحَدِيثُ وَلَمْ يَظْهَرْ لِقَوْلِهِ وَالْحَدِيثُ تَوْجِيهٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَوَجَّهَهُ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ بَابُ كَذَا وَبَابُ الْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي فَضْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ. قُلْتُ: وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ، وَلَمْ أَرَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمُسْتَخْرَجَاتِ، وَلَا عَرَّجَ عَلَيْهَا أَحَدٌ مِنَ الشُّرَّاحِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا وَهْمٌ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّهُ تَرْجَمَ لِحَدِيثِ جَرِيرٍ أَيْضًا بَابُ فَضْلِ صَلَاةِ الْعَصْرِ بِغَيْرِ زِيَادَةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ فِيهِ بَابُ فَضْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ فَتَحَرَّفَتِ الْكَلِمَةُ الْأَخِيرَةُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (يَحْيَى) هُوَ الْقَطَّانُ، وَإِسْمَاعِيلُ هُوَ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ، وَقَيْسٌ هُوَ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ جَرِيرٍ فِي بَابِ فَضْلِ صَلَاةِ الْعَصْرِ.
قَوْلُهُ: (أَبُو جَمْرَةَ) بِالْجِيمِ وَالرَّاءِ وَهُوَ الضُّبَعِيُّ، وَشَيْخُهُ أَبُو بَكْرٍ هُوَ ابْنُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ بِدَلِيلِ الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَهُ حَيْثُ وَقَعَ فِيهَا أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ هُوَ أَبُو مُوسَى، وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ عُمَارَةَ بْنِ رُوَيْبَةَ وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ كَمَا سَيَأْتِي آخِرَ الْبَابِ.
قَوْلُهُ: (مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ تَثْنِيَةُ بَرْدٍ، وَالْمُرَادُ صَلَاةُ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ جَرِيرٍ صَلَاةٌ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا زَادَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ يَعْنِي الْعَصْرَ وَالْفَجْرَ: سُمِّيَتَا بَرْدَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا تُصَلَّيَانِ فِي بَرْدَيِ النَّهَارِ، وَهُمَا طَرَفَاهُ حِينَ يَطِيبُ الْهَوَاءُ وَتَذْهَبُ سُورَةُ الْحَرِّ، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ تَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا. وَقَالَ الْبَزَّارُ فِي تَوْجِيهِ اخْتِصَاصِ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ دُونَ غَيْرِهِمَا مِنَ الصَّلَوَاتِ مَا مُحَصِّلُهُ: إِنَّ مَنْ مَوْصُولَةٌ لَا شَرْطِيَّةٌ، وَالْمُرَادُ الَّذِينَ صَلَّوْهُمَا أَوَّلَ مَا فُرِضَتِ الصَّلَاةُ ثُمَّ مَاتُوا قَبْلَ فَرْضِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، لِأَنَّهَا فُرِضَتْ أَوَّلًا رَكْعَتَيْنِ بِالْغَدَاةِ وَرَكْعَتَيْنِ بِالْعَشِيِّ، ثُمَّ فُرِضَتِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، فَهُوَ خَبَرٌ عَنْ نَاسٍ مَخْصُوصِينَ لَا عُمُومَ فِيهِ.
قُلْتُ: وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ، وَالْأَوْجَهُ أَنَّ مَنْ فِي الْحَدِيثِ شَرْطِيَّةٌ. وَقَوْلُهُ دَخَلَ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَعَدَلَ عَنِ الْأَصْلِ وَهُوَ فِعْلُ الْمُضَارِعِ كَأَنْ يَقُولَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِرَادَةً لِلتَّأْكِيدِ فِي وُقُوعِهِ بِجَعْلِ مَا سَيَقَعُ كَالْوَاقِعِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ رَجَاءٍ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ الْغُدَّانِيُّ، وَهُوَ أَحَدُ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ وَصَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ وَرَوَيْنَاهُ عَالِيًا مِنْ طَرِيقِهِ فِي الْجُزْءِ الْمَشْهُورِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ السَّلَفِيِّ وَلَفْظُ الْمَتْنِ وَاحِدٌ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ) هُوَ ابْنُ مَنْصُورٍ، وَلَمْ يَقَعْ مَنْسُوبًا فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ وَالرِّوَايَاتِ، وَاسْتَدَلَّ أَبُو عَلِيٍّ الْغَسَّانِيُّ عَلَى أَنَّهُ ابْنُ مَنْصُورٍ بِأَنَّ مُسْلِمًا رَوَى عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ حَبَّانَ بْنِ هِلَالٍ حَدِيثًا غَيْرَ هَذَا.
قُلْتُ: رَأَيْتُ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَلِيٍّ الشَّبُّوِيِّ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ فِي بَابِ الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا حَبَّانُ بْنُ هِلَالٍ فَذَكَرَ حَدِيثًا، فَهَذِهِ الْقَرِينَةُ أَقْوَى مِنَ الْقَرِينَةِ الَّتِي فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا حَبَّانُ) هُوَ ابْنُ هِلَالٍ وَهُوَ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، فَاجْتَمَعَتِ الرِّوَايَاتُ عَنْ هَمَّامٍ بِأَنَّ شَيْخَ أَبِي جَمْرَةَ هُوَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ ابْنُ عُمَارَةَ بْنِ رُوَيْبَةَ، وَحَدِيثُ عُمَارَةَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ طُرُقٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عُمَارَةَ عَنْ أَبِيهِ لَكِنَّ لَفْظَهُ: لَنْ يَلِجَ النَّارَ أَحَدٌ صَلَّى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا. وَهَذَا اللَّفْظُ مُغَايِرٌ لِلَفْظِ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُمَا وَاحِدًا، فَالصَّوَابُ أَنَّهُمَا حَدِيثَانِ.
27 - بَاب وَقْتِ الْفَجْرِ
575 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ، أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ حَدَّثَهُ، أَنَّهُمْ تَسَحَّرُوا
مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ، قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: قَدْرُ خَمْسِينَ أَوْ سِتِّينَ يَعْنِي آيَةً.
[الحديث 575 - طرفه في 1921]
576 -
حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ صَبَّاحٍ سَمِعَ رَوْحَ بْنَ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ تَسَحَّرَا فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ سَحُورِهِمَا قَامَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الصَّلَاةِ فَصَلَّى قُلْنَا لِأَنَسٍ كَمْ كَانَ بَيْنَ فَرَاغِهِمَا مِنْ سَحُورِهِمَا وَدُخُولِهِمَا فِي الصَّلَاةِ قَالَ قَدْرُ مَا يَقْرَأُ الرَّجُلُ خَمْسِينَ آيَةً
[الحديث 576 - طرفه في: 1134]
577 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ عَنْ أَخِيهِ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ أَنَّهُ سَمِعَ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ يَقُولُ كُنْتُ أَتَسَحَّرُ فِي أَهْلِي ثُمَّ يَكُونُ سُرْعَةٌ بِي أَنْ أُدْرِكَ صَلَاةَ الْفَجْرِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
578 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ قَالَتْ كُنَّ نِسَاءُ الْمُؤْمِنَاتِ يَشْهَدْنَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْفَجْرِ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ ثُمَّ يَنْقَلِبْنَ إِلَى بُيُوتِهِنَّ حِينَ يَقْضِينَ الصَّلَاةَ لَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ مِنْ الْغَلَسِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ وَقْتِ الْفَجْرِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ تَسَحَّرَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ وَجْهَيْنِ عَنْ أَنَسٍ، فَأَمَّا رِوَايَةُ هَمَّامٍ، عَنْ قَتَادَةَ فَهِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ حَدَّثَهُ، فَجَعَلَهُ مِنْ مُسْنَدِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَوَافَقَهُ هِشَامٌ، عَنْ قَتَادَةَ كَمَا سَيَأْتِي فِي الصِّيَامِ. وَأَمَّا رِوَايَةُ سَعِيدٍ - وَهُوَ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ - عَنْ قَتَادَةَ فَهِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ تَسَحَّرَا، وَفِي رِوَايَةِ السَّرَخْسِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي تَسَحَّرُوا فَجَعَلَهُ مِنْ مُسْنَدِ أَنَسٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَسَحَّرُوا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فَشَاذَّةٌ، وَتَرَجَّحَ عِنْدَ مُسْلِمٍ رِوَايَةُ هَمَّامٍ فَإِنَّهُ أَخْرَجَهَا وَأَعْرَضَ عَنْ رِوَايَةِ سَعِيدٍ، وَيَدُلُّ عَلَى رُجْحَانِهَا أَيْضًا أَنَّ الْإِسْمَاعِيلِيَّ أَخْرَجَ رِوَايَةَ سَعِيدٍ مِنْ طَرِيقِ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ سَعِيدٍ فَقَالَ عَنْ أَنَسٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّ أَنَسًا حَضَرَ ذَلِكَ لَكِنَّهُ لَمْ يَتَسَحَّرْ مَعَهُمَا، وَلِأَجْلِ هَذَا سَأَلَ زَيْدًا عَنْ مِقْدَارِ وَقْتِ السُّحُورِ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدُ، ثُمَّ وَجَدْتُ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ، وَابْنِ حِبَّانَ وَلَفْظُهُمَا عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا أَنَسُ إِنِّي أُرِيدُ الصِّيَامَ، أَطْعِمْنِي شَيْئًا.
فَجِئْتُهُ بِتَمْرٍ وَإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ، وَذَلِكَ بَعْدَمَا أَذَّنَ بِلَالٌ. قَالَ: يَا أَنَسُ انْظُرْ رَجُلًا يَأْكُلُ مَعِي، فَدَعَوْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، فَجَاءَ فَتَسَحَّرَ مَعَهُ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ. فَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ كَمْ كَانَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالسُّحُورِ أَيْ أَذَانِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، لِأَنَّ بِلَالًا كَانَ يُؤَذِّنُ قَبْلَ الْفَجْرِ. وَالْآخَرُ يُؤَذِّنُ إِذَا طَلَعَ.
قَوْلُهُ: (قُلْتُ كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟) سَقَطَ لَفْظُ كَانَ مِنْ رِوَايَةِ السَّرَخْسِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي، وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ رِوَايَةِ عَفَّانَ، عَنْ هَمَّامٍ قُلْنَا لِزَيْدٍ، وَمِنْ رِوَايَةِ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ سَعِيدٍ قَالَ خَالِدٌ: أَنَسٌ الْقَائِلُ كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا. وَوَقَعَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ مِنْ رِوَايَةِ رَوْحٍ، عَنْ سَعِيدٍ: قُلْتُ لِأَنَسٍ، فَهُوَ مَقُولُ قَتَادَةَ. قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: وَالرِّوَايَتَانِ صَحِيحَتَانِ بِأَنْ يَكُونَ أَنَسٌ سَأَلَ زَيْدًا، وَقَتَادَةُ سَأَلَ أَنَسًا.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (قَامَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الصَّلَاةِ فَصَلَّيَا) كَذَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ، وَلِغَيْرِهِ فَصَلَّيْنَا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِهِ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الصُّبْحِ طُلُوعُ الْفَجْرِ لِأَنَّهُ الْوَقْتُ الَّذِي يَحْرُمُ فِيهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ، وَالْمُدَّةُ الَّتِي بَيْنَ الْفَرَاغِ مِنَ السُّحُورِ وَالدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ - وَهِيَ قِرَاءَةُ الْخَمْسِينَ آيَةً أَوْ نَحْوِهَا - قَدْرُ ثُلُثِ خُمُسِ سَاعَةٍ، وَلَعَلَّهَا مِقْدَارُ مَا يَتَوَضَّأُ. فَأَشْعَرَ ذَلِكَ بِأَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الصُّبْحِ أَوَّلُ مَا يَطْلُعُ الْفَجْرُ.
وَفِيهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْخُلُ فِيهَا بِغَلَسٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَخِيهِ) هُوَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْحَمِيدِ، وَسُلَيْمَانُ هُوَ ابْنُ بِلَالٍ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي الصِّيَامِ. وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا الْإِشَارَةُ إِلَى مُبَادَرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِصَلَاةِ الصُّبْحِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَحَدِيثِ عَائِشَةَ تَقَدَّمَ فِي أَبْوَابِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَلَفْظُهُ أَصْرَحُ فِي مُرَادِهِ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ جِهَةِ التَّغْلِيسِ بِالصُّبْحِ، وَأَنَّ سِيَاقَهُ يَقْتَضِي الْمُوَاظَبَةَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَصْرَحُ مِنْهُ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَسْفَرَ بِالصُّبْحِ مَرَّةً ثُمَّ كَانَتْ صَلَاتُهُ بَعْدُ بِالْغَلَسِ حَتَّى مَاتَ لَمْ يَعُدْ إِلَى أَنْ يُسْفِرَ، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ فَقَدْ حَمَلَهُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ تَحَقُّقُ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَحَمَلَهُ الطَّحَاوِيُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْأَمْرُ بِتَطْوِيلِ الْقِرَاءَةِ فِيهَا حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الصَّلَاةِ مُسْفِرًا، وَأَبْعَدَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ نَاسِخٌ لِلصَّلَاةِ فِي الْغَلَسِ. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ قَالَ مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صلى صلاة فِي غَيْرِ وَقْتِهَا ذَلِكَ الْيَوْمِ يَعْنِي فِي الْفَجْرِ يَوْمَ الْمُزْدَلِفَةِ، فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ دَخَلَ فِيهَا مَعَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ، فَإِنَّ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ مَا يُشْعِرُ بِتَأْخِيرٍ يَسِيرٍ، لَا أَنَّهُ صَلَّاهَا، قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ.
وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ (كُنَّ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: هُوَ مِثْلُ أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ لِأَنَّ قِيَاسَهُ الْإِفْرَادُ وَقَدْ جُمِعَ.
قَوْلُهُ: (نِسَاءُ الْمُؤْمِنَاتِ) تَقْدِيرُهُ نِسَاءُ الْأَنْفُسِ الْمُؤْمِنَاتِ أَوْ نَحْوِهَا ذَلِكَ حَتَّى لَا يَكُونَ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ، وَقِيلَ: إِنَّ نِسَاءَ هُنَا بِمَعْنَى الْفَاضِلَاتِ أَيْ فَاضِلَاتُ الْمُؤْمِنَاتِ كَمَا يُقَالُ رِجَالُ الْقَوْمِ أَيْ فُضَلَاؤُهُمْ.
قَوْلُهُ: (يَشْهَدْنَ) أَيْ يَحْضُرْنَ، وَقَوْلُهُ:(لَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ) قَالَ الدَّاوُدِيُّ: مَعْنَاهُ لَا يُعْرَفْنَ أَنِسَاءٌ أَمْ رِجَالٌ، أَيْ لَا يَظْهَرُ لِلرَّائِي إِلَّا الْأَشْبَاحُ خَاصَّةً، وَقِيلَ لَا يُعْرَفُ أَعْيَانُهُنَّ فَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ خَدِيجَةَ وَزَيْنَبَ، وَضَعَّفَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ الْمُتَلَفِّعَةَ فِي النَّهَارِ لَا تُعْرَفُ عَيْنُهَا فَلَا يَبْقَى فِي الْكَلَامِ فَائِدَةٌ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْأَعْيَانِ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْأَوَّلُ لَعَبَّرَ بِنَفْيِ الْعِلْمِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْمُتَلَفِّعَةَ بِالنَّهَارِ لَا تُعْرَفُ عَيْنُهَا فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ لِكُلِّ امْرَأَةٍ هَيْئَةٌ غَيْرُ هَيْئَةِ الْأُخْرَى فِي الْغَالِبِ وَلَوْ كَانَ بَدَنُهَا مُغَطًّى. وَقَالَ الْبَاجِيُّ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُنَّ كُنَّ سَافِرَاتٍ إِذْ لَوْ كُنَّ مُتَنَقِّبَاتٍ لَمَنَعَ تَغْطِيَةُ الْوَجْهِ مِنْ مَعْرِفَتِهِنَّ لَا الْغَلَسُ.
قُلْتُ: وَفِيهِ مَا فِيهِ، لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاشْتِبَاهِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ النَّوَوِيُّ، وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا: إِنَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ هَيْئَةً غَالِبًا فَلَا يَلْزَمُ مَا ذُكِرَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (مُتَلَفِّعَاتٍ) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ، (وَالْمُرُوطُ) جَمْعُ مِرْطٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَهُوَ كِسَاءٌ مُعَلَّمٌ مِنْ خَزٍّ أَوْ صُوفٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَقِيلَ لَا يُسَمَّى مِرْطًا إِلَّا إِذَا كَانَ أَخْضَرَ وَلَا يَلْبَسُهُ إِلَّا النِّسَاءُ، وَهُوَ مَرْدُودٌ بِقَوْلِهِ مِرْطٌ مِنْ شَعْرٍ أَسْوَدَ.
قَوْلُهُ: (يَنْقَلِبْنَ) أَيْ يَرْجِعْنَ.
قَوْلُهُ: (مِنَ الْغَلَسِ) مِنِ ابْتِدَائِيَّةٌ أَوْ تَعْلِيلِيَّةٌ، وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ حَدِيثِ أبي بَرْزَةَ السَّابِقِ أَنَّهُ كَانَ يَنْصَرِفُ مِنَ الصَّلَاةِ حِينَ يَعْرِفُ الرَّجُلُ جَلِيسَهُ، لِأَنَّ هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ رُؤْيَةِ الْمُتَلَفِّعَةِ عَلَى بُعْدٍ، وَذَاكَ إِخْبَارٌ عَنْ رُؤْيَةِ الْجَلِيسِ.
وَفِي الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُ الْمُبَادَرَةِ بِصَلَاةِ الصُّبْحِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَجَوَازُ خُرُوجِ النِّسَاءِ إِلَى الْمَسَاجِدِ لِشُهُودِ الصَّلَاةِ فِي اللَّيْلِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُهُ
فِي النَّهَارِ مِنْ بَابِ أَوْلَى لِأَنَّ اللَّيْلَ مَظِنَّةُ الرِّيبَةِ أَكْثَرُ مِنَ النَّهَارِ، وَمَحَلُّ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يُخْشَ عَلَيْهِنَّ أَوْ بِهِنَّ فِتْنَةٌ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى جَوَازِ صَلَاةِ الْمَرْأَةِ مُخْتَمِرَةَ الْأَنْفِ وَالْفَمِ، فَكَأَنَّهُ جَعَلَ التَّلَفُّعَ صِفَةً لِشُهُودِ الصَّلَاةِ. وَتَعَقَّبَهُ عِيَاضٌ بِأَنَّهَا إِنَّمَا أَخْبَرَتْ عَنْ هَيْئَةِ الِانْصِرَافِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
28 - بَاب مَنْ أَدْرَكَ مِنْ الْفَجْرِ رَكْعَةً
579 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ. وَعَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، وَعَنْ الْأَعْرَجِ يُحَدِّثُونَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ أَدْرَكَ مِنْ الصُّبْحِ رَكْعَةً قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الْفَجْرِ رَكْعَةً) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْحِكْمَةِ فِي حَذْفِ جَوَابِ الشَّرْطِ مِنَ التَّرْجَمَةِ فِي بَابِ مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الْعَصْرِ رَكْعَةً.
قَوْلُهُ: (يُحَدِّثُونَهُ) أَيْ يُحَدِّثُونَ زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ. وَرِجَالُ الْإِسْنَادِ كُلُّهُمْ مَدَنِيُّونَ.
قَوْلُهُ: (فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ) الْإِدْرَاكُ الْوُصُولُ إِلَى الشَّيْءِ، فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَكْتَفِي بِذَلِكَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُرَادًا بِالْإِجْمَاعِ، فَقِيلَ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ أَدْرَكَ الْوَقْتَ، فَإِذَا صَلَّى رَكْعَةً أُخْرَى فَقَدْ كَمُلَتْ صَلَاتُهُ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَجْهَيْنِ وَلَفْظُهُ مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الصُّبْحِ رَكْعَةً قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَرَكْعَةً بَعْدَمَا تَطْلُعُ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ وَأَصْرَحُ مِنْهُ رِوَايَةُ أَبِي غَسَّانَ مُحَمَّدِ بْنِ مُطَرِّفٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءٍ - وَهُوَ ابْنُ يَسَارٍ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: مَنْ صَلَّى رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى مَا بَقِيَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَلَمْ يَفُتْهُ الْعَصْرُ. وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الصُّبْحِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ رِوَايَةُ الْمُصَنِّفِ فِي بَابِ مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الْعَصْرِ رَكْعَةً مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَالَ فِيهَا: فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ، وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ كُلَّهَا، إِلَّا أَنَّهُ يَقْضِي مَا فَاتَهُ، وَلِلْبَيْهَقِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَلْيُصَلِّ إِلَيْهَا أُخْرَى.
وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا الرَّدُّ عَلَى الطَّحَاوِيِّ حَيْثُ خَصَّ الْإِدْرَاكَ بِاحْتِلَامِ الصَّبِيِّ وَطُهْرِ الْحَائِضِ وَإِسْلَامِ الْكَافِرِ وَنَحْوِهَا، وَأَرَادَ بِذَلِكَ نُصْرَةَ مَذْهَبِهِ فِي أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الصُّبْحِ رَكْعَةً تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُكْمِلُهَا إِلَّا فِي وَقْتِ الْكَرَاهَةِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْكَرَاهَةَ تَتَنَاوَلُ الْفَرْضَ وَالنَّفْلَ وَهِيَ خِلَافِيَّةٌ مَشْهُورَةٌ.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَبِهَذَا يَقُولُ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ: مَنْ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَهُوَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَاحْتَجَّ لِذَلِكَ بِالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي النَّهْي عَنِ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ أَحَادِيثَ النَّهْيِ نَاسِخَةٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَهِيَ دَعْوَى تَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، فَإِنَّهُ لَا يُصَارُ إِلَى النَّسْخِ بِالِاحْتِمَالِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ مُمْكِنٌ بِأَنْ تُحْمَلَ أَحَادِيثُ النَّهْيِ عَلَى مَا لَا سَبَبَ لَهُ مِنَ النَّوَافِلِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّخْصِيصَ، أَوْلَى مِنَ ادِّعَاءِ النَّسْخِ، وَمَفْهُومُ الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْوَقْتِ، وَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ تَفَاصِيلُ بَيْنَ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ وَغَيْرِهِمْ، وَبَيْنَ مُدْرِكِ الْجَمَاعَةِ وَمُدْرِكِ الْوَقْتِ، وَكَذَا مُدْرِكُ الْجُمُعَةِ، وَمِقْدَارُ هَذِهِ الرَّكْعَةِ قَدْرُ مَا يُكَبِّرُ لِلْإِحْرَامِ وَيَقْرَأُ أُمَّ الْقُرْآنِ وَيَرْكَعُ وَيَرْفَعُ وَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ بِشُرُوطِ كُلِّ ذَلِكَ، وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: الْمُعْتَبَرُ فِيهَا أَخَفُّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَهَذَا فِي حَقِّ غَيْرِ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ، أَمَّا أَصْحَابُ الْأَعْذَارِ - كَمَنْ أَفَاقَ مِنْ إِغْمَاءٍ، أَوْ طَهُرَتْ مِنْ حَيْضٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ - فَإِنْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ هَذَا الْقَدْرُ كَانَتِ الصَّلَاةُ فِي حَقِّهِمْ أَدَاءً. وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: يَكُونُ مَا أَدْرَكَ
فِي الْوَقْتِ أَدَاءً وَبَعْدَهُ قَضَاءً، وَقِيلَ يَكُونُ كَذَلِكَ لَكِنَّهُ يَلْتَحِقُ بِالْأَدَاءِ حُكْمًا، وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْكُلَّ أَدَاءٌ وَذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَنَقَلَ بَعْضُهُمُ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَنْ لَيْسَ لَهُ عُذْرٌ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهَا إِلَّا هَذَا الْقَدْرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(لَطِيفَةٌ): أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الْعَصْرِ طَرِيقَ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي هَذَا الْبَابِ طَرِيقَ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ وَمَنْ مَعَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، لِأَنَّهُ قَدَّمَ فِي طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ ذِكْرَ الْعَصْرِ، وَقَدَّمَ فِي هَذَا ذِكْرَ الصُّبْحِ فَنَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مَا قَدَّمَ لِمَا يُشْعِرُ بِهِ التَّقْدِيمُ مِنِ اهْتِمَامٍ. وَاللَّهُ الْهَادِي لِلصَّوَابِ.
29 - بَاب مَنْ أَدْرَكَ مِنْ الصَّلَاةِ رَكْعَةً
580 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الصَّلَاةِ رَكْعَةً) هَكَذَا تَرْجَمَ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِلَفْظِ مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعُمَرِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَأَحَالَ بِهِ عَلَى حَدِيثِ مَالِكٍ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مِنْهُ مُسْلِمٌ وَلَفْظُهُ كَلَفْظِ تَرْجَمَةِ هَذَا الْبَابِ، قَدَّمَ قَوْلَهُ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى قَوْلِهِ رَكْعَةً وَقَدْ وَضَحَ لَنَا بِالِاسْتِقْرَاءِ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَقَعُ فِي تَرَاجِمِ الْبُخَارِيِّ مِمَّا يُتَرْجَمُ بِلَفْظِ الْحَدِيثِ لَا يَقَعُ فِيهِ شَيْءٌ مُغَايِرٌ لِلَفْظِ الْحَدِيثِ الَّذِي يُورِدُهُ إِلَّا وَقَدْ وَرَدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِذَلِكَ اللَّفْظِ الْمُغَايِرِ، فَلِلَّهِ دَرُّهُ مَا أَكْثَرَ اطِّلَاعَهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا أَعَمُّ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ الْمَاضِي قَبْلَ عَشَرَةِ أَبْوَابٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ عَهْدِيَّةً فَيَتَّحِدَا، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهَذَا مُطْلَقٌ وَذَاكَ مُقَيَّدٌ فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ.
وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَوَّلَ فِيمَنْ أَدْرَكَ مِنَ الْوَقْتِ قَدْرَ رَكْعَةٍ، وَهَذَا فِيمَنْ أَدْرَكَ مِنَ الصَّلَاةِ رَكْعَةً، كَذَا قَالَ. وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ فَصَلَّى رَكْعَةً وَخَرَجَ الْوَقْتُ كَانَ مُدْرِكًا لِجَمِيعِهَا، وَتَكُونُ كُلُّهَا أَدَاءً، وَهُوَ الصَّحِيحُ. انْتَهَى. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اتِّحَادِ الْحَدِيثَيْنِ عِنْدَهُ لِجَعْلِهِمَا مُتَعَلِّقَيْنِ بِالْوَقْتِ، بِخِلَافِ مَا قَالَ أَوَّلًا. وَقَالَ التَّيْمِيُّ: مَعْنَاهُ مَنْ أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً فَقَدْ أَدْرَكَ فَضْلَ الْجَمَاعَةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: (فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ) لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ بِالْإِجْمَاعِ، لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَكُونُ بِالرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ مُدْرِكًا لِجَمِيعِ الصَّلَاةِ بِحَيْثُ تَحْصُلُ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهُ مِنَ الصَّلَاةِ، فَإِذًا فِيهِ إِضْمَارٌ تَقْدِيرُهُ: فَقَدْ أَدْرَكَ وَقْتَ الصَّلَاةِ، أَوْ حُكْمَ الصَّلَاةِ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، وَيَلْزَمُهُ إِتْمَامُ بَقِيَّتِهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَقِيَّةُ مَبَاحِثِهِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَمَفْهُومُ التَّقْيِيدِ بِالرَّكْعَةِ أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ دُونَ الرَّكْعَةِ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لَهَا، وَهُوَ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ، وَكَانَ فِيهِ شُذُوذٌ قَدِيمٌ مِنْهَا إِدْرَاكُ الْإِمَامِ رَاكِعًا يُجْزِئُ وَلَوْ لَمْ يُدْرِكْ مَعَهُ الرُّكُوعَ، وَقِيلَ يُدْرِكُ الرَّكْعَةَ وَلَوْ رَفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ مَا لَمْ يَرْفَعْ بَقِيَّةُ مَنِ ائْتَمَّ بِهِ رُءُوسَهُمْ وَلَوْ بَقِيَ وَاحِدٌ، وَعَنِ الثَّوْرِيِّ، وَزُفَرَ: إِذَا كَبَّرَ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ أَدْرَكَ إِنْ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ رَفْعِ الْإِمَامِ، وَقِيلَ: مَنْ أَدْرَكَ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ وَتَكْبِيرَةَ الرُّكُوعِ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ، وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: إِذَا أَدْرَكَ السُّجُودَ أَكْمَلَ بَقِيَّةَ الرَّكْعَةِ مَعَهُمْ ثُمَّ يَقُومُ فَيَرْكَعُ فَقَطْ وَتُجْزِيهِ.
30 - بَاب الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ
581 -
حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: شَهِدَ عِنْدِي رِجَالٌ مَرْضِيُّونَ وَأَرْضَاهُمْ عِنْدِي عُمَرُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَشْرُقَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ.
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ سَمِعْتُ أَبَا الْعَالِيَةِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي نَاسٌ بِهَذَا
582 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ هِشَامٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ عُمَرَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا تَحَرَّوْا بِصَلَاتِكُمْ طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلَا غُرُوبَهَا"
[الحديث 582 - أطرافه في: 3272]
583 -
وَقَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ عُمَرَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا طَلَعَ حَاجِبُ الشَّمْسِ فَأَخِّرُوا الصَّلَاةَ حَتَّى تَرْتَفِعَ وَإِذَا غَابَ حَاجِبُ الشَّمْسِ فَأَخِّرُوا الصَّلَاةَ حَتَّى تَغِيبَ تَابَعَهُ عَبْدَةُ
[الحديث 583 - طرفه في: 3272]
584 -
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعَتَيْنِ وَعَنْ لِبْسَتَيْنِ وَعَنْ صَلَاتَيْنِ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَعَنْ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ وَعَنْ الِاحْتِبَاءِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ يُفْضِي بِفَرْجِهِ إِلَى السَّمَاءِ وَعَنْ الْمُنَابَذَةِ وَالْمُلَامَسَةِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ) يَعْنِي مَا حُكْمُهَا؟ قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُ النَّهْيِ، لِأَنَّ تَعَيُّنَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي هَذَا الْبَابِ مِمَّا كَثُرَ فِيهِ الِاخْتِلَافُ، وَخَصَّ التَّرْجَمَةَ بِالْفَجْرِ مِنِ اشْتِمَالِ الْأَحَادِيثِ عَلَى الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ، لِأَنَّ الصُّبْحَ هِيَ الْمَذْكُورَةُ أَوَّلًا فِي سَائِرِ أَحَادِيثِ الْبَابِ.
قُلْتُ: أَوْ لِأَنَّ الْعَصْرَ وَرَدَ فِيهَا كَوْنُهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بَعْدَهَا، بِخِلَافِ الْفَجْرِ.
قَوْلُهُ: (هِشَامٌ) هُوَ ابْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الدَّسْتُوَائِيُّ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ) هُوَ الرِّيَاحِيُّ بِالْيَاءِ التَّحْتَانِيَّةِ، وَاسْمُهُ رُفَيْعٌ بِالتَّصْغِيرِ، وَوَقَعَ مُصَرَّحًا بِهِ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ رِوَايَةِ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، وَأَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ طَرِيقَ يَحْيَى وَهُوَ الْقَطَّانُ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ سَمِعْتُ أَبَا الْعَالِيَةِ. وَالسِّرُّ فِيهَا التَّصْرِيحُ بِسَمَاعِ قَتَادَةَ لَهُ مِنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَإِنْ كَانَتْ طَرِيقُ هِشَامٍ أَعْلَى مِنْهَا.
قَوْلُهُ: (شَهِدَ عِنْدِي) أَيْ أَعْلَمَنِي أَوْ أَخْبَرَنِي، وَلَمْ يُرِدْ شَهَادَةَ الْحُكْمِ.
قَوْلُهُ: (مَرْضِيُّونَ) أَيْ لَا شَكَّ فِي صِدْقِهِمْ وَدِينِهِمْ، وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ هَمَّامٍ شَهِدَ عِنْدِي رِجَالٌ مَرْضِيُّونَ فِيهِمْ عُمَرُ وَلَهُ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ حَدَّثَنِي رِجَالٌ أَحَبُّهُمْ إِلَيَّ عُمَرُ.
قَوْلُهُ: (نَاسٌ بِهَذَا) أَيْ بِهَذَا الْحَدِيثِ بِمَعْنَاهُ، فَإِنَّ مُسَدَّدًا رَوَاهُ وَمِنْ طَرِيقِهِ الْبَيْهَقِيُّ وَلَفْظُهُ حَدَّثَنِي نَاسٌ أَعْجَبُهُمْ إِلَيَّ عُمَرُ وَقَالَ فِيهِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَوَقَعَ فِي التِّرْمِذِيِّ عَنْهُ سَمِعْتُ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ عُمَرُ، وَكَانَ مِنْ أَحَبِّهِمْ
إِلَيَّ.
قَوْلُهُ: (بَعْدَ الصُّبْحِ) أَيْ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ لِأَنَّهُ لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيهِ مُعَلَّقًا بِالْوَقْتِ، إِذْ لَا بُدَّ مِنْ أَدَاءِ الصُّبْحِ، فَتَعَيَّنَ التَّقْدِيرُ الْمَذْكُورُ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: هَذَا الْحَدِيثُ مَعْمُولٌ بِهِ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، وَخَالَفَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ وَبَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى تُشْرِقَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ مِنْ أَشْرَقَ، يُقَالُ أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ ارْتَفَعَتْ وَأَضَاءَتْ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْآتِي فِي الْبَابِ بَعْدَهُ بِلَفْظِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ وَيُرْوَى بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ ثَالِثِهِ بِوَزْنِ تَغْرُبُ يُقَالُ شَرَقَتِ الشَّمْسُ أَيْ طَلَعَتْ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ الْبَيْهَقِيِّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ ابْنِ عُمَرَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ بِلَفْظِ حَتَّى تُشْرِقَ الشَّمْسُ أَوْ تَطْلُعَ عَلَى الشَّكِّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ فِي رِوَايَةِ مُسَدَّدٍ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ بِغَيْرِ شَكٍّ، وَكَذَا هُوَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْآتِي آخِرَ الْبَابِ بِلَفْظِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ بِالْجَزْمِ، وَيُجْمَعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالطُّلُوعِ طُلُوعٌ مَخْصُوصٌ، أَيْ حَتَّى تَطْلُعَ مُرْتَفِعَةً.
قَالَ النَّوَوِيُّ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى كَرَاهَةِ صَلَاةٍ لَا سَبَبَ لَهَا فِي الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ الْفَرَائِضِ الْمُؤَدَّاةِ فِيهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي النَّوَافِلِ الَّتِي لَهَا سَبَبٌ كَصَلَاةِ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَسُجُودِ التِّلَاوَةِ وَالشُّكْرِ وَصَلَاةِ الْعِيدِ وَالْكُسُوفِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَقَضَاءِ الْفَائِتَةِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَطَائِفَةٌ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ كُلِّهِ بِلَا كَرَاهَةٍ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَآخَرُونَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ النَّهْيِ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَضَى سُنَّةَ الظُّهْرِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي قَضَاءِ السُّنَّةِ الْفَائِتَةِ فَالْحَاضِرَةُ أَوْلَى وَالْفَرِيضَةُ الْمَقْضِيَّةُ أَوْلَى، وَيَلْتَحِقُ مَا لَهُ سَبَبٌ.
قُلْتُ: وَمَا نَقَلَهُ مِنَ الْإِجْمَاعِ وَالِاتِّفَاقِ مُتَعَقَّبٌ فَقَدْ حَكَى غَيْرُهُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ السَّلَفِ الْإِبَاحَةُ مُطْلَقًا وَأَنَّ أَحَادِيثَ النَّهْيِ مَنْسُوخَةٌ، وَبِهِ قَالَ دَاوُدُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ ابْنُ حَزْمٍ، وَعَنْ طَائِفَةٍ أُخْرَى الْمَنْعُ مُطْلَقًا فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ، وَصَحَّ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، وَكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ الْمَنْعُ مِنْ صَلَاةِ الْفَرْضِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، وَحَكَى آخَرُونَ الْإِجْمَاعَ عَلَى جَوَازِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ، وَهُوَ مُتَعَقَّبٌ بِمَا سَيَأْتِي فِي بَابِهِ، وَمَا ادَّعَاهُ ابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ مِنَ النَّسْخِ مُسْتَنِدًا إِلَى حَدِيثِ مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الصُّبْحِ رَكْعَةً قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَلْيُصَلِّ إِلَيْهَا أُخْرَى فَدَلَّ عَلَى إِبَاحَةِ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيَّةِ. انْتَهَى.
وَقَالَ غَيْرُهُمْ: ادِّعَاءُ التَّخْصِيصِ أَوْلَى مِنَ ادِّعَاءِ النَّسْخِ فَيُحْمَلُ النَّهْيُ عَلَى مَا لَا سَبَبَ لَهُ، وَيَخُصُّ مِنْهُ مَا لَهُ سَبَبٌ
(1)
، جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ وَعِنْدَ الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ وَعِنْدَ الِاسْتِوَاءِ، فَذَهَبَ دَاوُدُ إِلَى الْجَوَازِ مُطْلَقًا وَكَأَنَّهُ حَمَلَ النَّهْيَ عَلَى التَّنْزِيهِ.
قُلْتُ: بَلِ الْمَحْكِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ ادَّعَى النَّسْخَ كَمَا تَقَدَّمَ، قَالَ: وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَجُوزُ الْفَرَائِضُ وَمَا لَهُ سَبَبٌ مِنَ النَّوَافِلِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَحْرُمُ الْجَمِيعُ سِوَى عَصْرَ يَوْمِهِ، وَتَحْرُمُ الْمَنْذُورَةُ أَيْضًا. وَقَالَ مَالِكٌ: تَحْرُمُ النَّوَافِلُ دُونَ الْفَرَائِضِ، وَوَافَقَهُ أَحْمَدُ، لَكِنَّهُ اسْتَثْنَى رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ.
(تَنْبِيهٌ) لَمْ يَقَعْ لَنَا تَسْمِيَةُ الرِّجَالِ الْمَرْضِيِّينَ الَّذِينَ حَدَّثُوا ابْنَ عَبَّاسٍ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَبَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَى الْعُمْدَةِ تَجَاسَرَ وَزَعَمَ أَنَّهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِيهَا عِنْدَ قَوْلِ مُصَنِّفِهَا: وَفِي الْبَابِ عَنْ فُلَانٍ وَفُلَانٍ. وَلَقَدْ أَخْطَأَ هَذَا الْمُتَجَاسِرُ خَطَأً بَيِّنًا فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ هِشَامٍ) هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ.
قَوْلُهُ: (لَا تَحَرَّوْا) أَصْلُهُ لَا تَتَحَرَّوْا، فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَالْمَعْنَى لَا تَقْصِدُوا. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمُرَادِ بِذَلِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ تَفْسِيرًا لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ وَمُبَيِّنًا لِلْمُرَادِ بِهِ فَقَالَ: لَا
(1)
هذا القول هو أصح الأقوال، وهو مذهب الشافعي وإحدى عن أحمد، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم، وبه تجتمع الأخبار. والله أعلم
تُكْرَهُ الصَّلَاةُ بَعْدَ الصُّبْحِ وَلَا بَعْدَ الْعَصْرِ إِلَّا لِمَنْ قَصَدَ بِصَلَاتِهِ طُلُوعَ الشَّمْسِ وَغُرُوبَهَا وَإِلَى ذَلِكَ جَنَحَ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَقَوَّاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَاحْتَجَّ لَهُ. وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: وَهِمَ عُمَرُ، إِنَّمَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ يُتَحَرَّى طُلُوعُ الشَّمْسِ وَغُرُوبُهَا. انْتَهَى. وَسَيَأْتِي مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَرِيبًا بَعْدَ بَابَيْنِ، وَرُبَّمَا قَوَّى ذَلِكَ بَعْضُهُمْ بِحَدِيثِ مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَلْيُضِفْ إِلَيْهَا الْأُخْرَى، فَأَمَرَ بِالصَّلَاةِ حِينَئِذٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْكَرَاهَةَ مُخْتَصَّةٌ بِمَنْ قَصَدَ الصَّلَاةَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا مَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ اتِّفَاقًا، وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيدُ بَيَانٍ فِي آخِرِ الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ نَهْيًا مُسْتَقِلًّا، وَكَرِهَ الصَّلَاةَ فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ سَوَاءٌ قَصَدَ لَهَا أَمْ لَمْ يَقْصِدْ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إِنَّمَا قَالَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ لِأَنَّهَا رَأَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بَعْدَ الْعَصْرِ، فَحَمَلَتْ نَهْيَهُ عَلَى مَنْ قَصَدَ ذَلِكَ لَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَقَدْ أُجِيبَ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا صَلَّى حِينَئِذٍ قَضَاءً كَمَا سَيَأْتِي، وَأَمَّا النَّهْيُ فَهُوَ ثَابِتٌ مِنْ طَرِيقِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ غَيْرِ عُمَرَ رضي الله عنه، فَلَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِالْوَهْمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ عُمَرَ) هُوَ مَقُولُ عُرْوَةَ أَيْضًا، وَهُوَ حَدِيثٌ آخَرُ، وَقَدْ أَفْرَدَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَذَكَرَ أَنَّهُ وَقَعَ لَهُ الْحَدِيثَانِ مَعًا مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، وَعِيسَى بْنِ يُونُسَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ، وَوَكِيعٍ، وَمَالِكِ بْنِ سُعَيْرٍ، وَمُحَاضِرٍ كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامٍ، وَأَنَّهُ وَقَعَ لَهُ الْحَدِيثُ الثَّانِي فَقَطْ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامٍ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى تَرْتَفِعَ) جَعَلَ ارْتِفَاعَهَا غَايَةَ النَّهْيِ، وَهُوَ يُقَوِّي رِوَايَةَ مَنْ رَوَى الْحَدِيثَ الْمَاضِيَ بِلَفْظِ حَتَّى تُشْرِقَ مِنَ الْإِشْرَاقِ وَهُوَ الِارْتِفَاعُ كَمَا تَقَدَّمَ.
قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ عَبْدَةُ) يَعْنِي ابْنَ سُلَيْمَانَ، وَالضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَهُوَ الْقَطَّانُ، يَعْنِي تَابَعَ يَحْيَى الْقَطَّانَ عَلَى رِوَايَتِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ هِشَامٍ، وَرِوَايَةُ عَبْدَةَ هَذِهِ مَوْصُولَةٌ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ، وَفِيهِ الْحَدِيثَانِ مَعًا وَقَالَ فِيهِ: حَتَّى تَبْرُزَ بَدَلَ تَرْتَفِعَ. وَقَالَ فِيهِ: لَا تَحَيَّنُوا، بِالْيَاءِ التَّحْتَانِيَّةِ وَالنُّونِ وَزَادَ فِيهِ: فَإِنَّهَا تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى عِلَّةِ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَزَادَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ فَالنَّهْيُ حِينَئِذٍ لِتَرْكِ مُشَابَهَةِ الْكُفَّارِ، وَقَدِ اعْتَبَرَ ذَلِكَ الشَّرْعُ فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ وَفِي هَذَا تَعَقُّبٌ عَلَى أَبِي مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيِّ حَيْثُ قَالَ: إِنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ لَا يُدْرَكُ مَعْنَاهُ، وَجَعَلَهُ مِنْ قَبِيلِ التَّعَبُّدِ الَّذِي يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْمُرَادِ بِقَوْلِهُ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ فِي أَوَائِلِ بَدْءِ الْخَلْقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (حَاجِبُ الشَّمْسِ) أَيْ طَرَفُ قُرْصِهَا، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: حَوَاجِبُ الشَّمْسِ نَوَاحِيهَا.
قَوْلُهُ: (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ.
قَوْلُهُ: (حَفْصُ بْنُ عَاصِمٍ) أَيِ ابْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَهُوَ جَدُّ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ.
قَوْلُهُ: (وَعَنْ صَلَاتَيْنِ) مُحَصِّلُ مَا فِي الْبَابِ أَرْبَعَةُ أَحَادِيثَ: الْأَوَّلُ وَالْأَخِيرُ يَتَعَلَّقَانِ بِالْفِعْلِ، وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ يَتَعَلَّقَانِ بِالْوَقْتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَقْلُ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْبَيْعَتَيْنِ فِي كِتَابِ الْبَيْعِ، وَعَلَى اللُّبْسَتَيْنِ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ.
قَوْلُهُ: (بَعْدَ الْفَجْرِ) أَيْ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ كَمَا تَقَدَّمَ.
31 - بَاب لَا يتحَرَّى الصَّلَاةُ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ
585 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَتَحَرَّى أَحَدُكُمْ فَيُصَلِّي عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلَا عِنْدَ غُرُوبِهَا.
586 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ الْجُنْدَعِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا صَلَاةَ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ.
[الحديث 586 - أطرافه في 1995، 1993، 1864، 1197، 1188]
587 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانَ قَالَ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ قَالَ سَمِعْتُ حُمْرَانَ بْنَ أَبَانَ يُحَدِّثُ عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ إِنَّكُمْ لَتُصَلُّونَ صَلَاةً لَقَدْ صَحِبْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَا رَأَيْنَاهُ يُصَلِّيهَا وَلَقَدْ نَهَى عَنْهُمَا يَعْنِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ
[الحديث 587 - طرفه في: 3766]
588 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ خُبَيْبٍ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَلَاتَيْنِ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ"
قَوْلُهُ: (بَابٌ لَا تُتَحَرَّى) بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقَانِيَّةِ، وَالصَّلَاةُ بِالرَّفْعِ لِأَنَّهَا فِي مَقَامِ الْفَاعِلِ، أَوْ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتَانِيَّةِ، وَالصَّلَاةَ بِالنَّصْبِ وَالْفَاعِلُ مَحْذُوفٌ أَيِ الْمُصَلِّي، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ قَوْلِهِ فِي التَّرْجَمَةِ قَبْلَ الْغُرُوبِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ عِنْدَ الْغُرُوبَ لِمَا نَذْكُرُهُ قَرِيبًا.
قَوْلُهُ: (لَا يُتَحَرَّى) كَذَا وَقَعَ بِلَفْظِ الْخَبَرِ، قَالَ السُّهَيْلِيُّ: يَجُوزُ الْخَبَرُ عَنْ مُسْتَقَرِّ أَمْرِ الشَّرْعِ، أَيْ لَا يَكُونُ إِلَّا هَذَا.
قَوْلُهُ: (فَيُصَلِّيَ) بِالنَّصْبِ، وَالْمُرَادُ نَفْيُ التَّحَرِّي وَالصَّلَاةِ مَعًا، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ أَيْ لَا يَتَحَرَّى أَحَدُكُمُ الصَّلَاةَ فِي وَقْتِ كَذَا فَهُوَ يُصَلِّي فِيهِ، وَقَالَ ابْنُ خَرُوفٍ: يَجُوزُ فِي فَيُصَلِّي ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الْجَزْمُ عَلَى الْعَطْفِ أَيْ لَا يَتَحَرَّى وَلَا يُصَلِّي، وَالرَّفْعُ عَلَى الْقَطْعِ أَيْ لَا يَتَحَرَّى فَهُوَ يُصَلِّي، وَالنَّصْبُ عَلَى جَوَابِ النَّهْيِ وَالْمَعْنَى لَا يَتَحَرَّى مُصَلِّيًا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ لَا يَتَحَرَّى نَفْيٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ، وَيُصَلِّيَ بِالنَّصْبِ لِأَنَّهُ جَوَابُهُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا يَتَحَرَّى، فَقِيلَ: لِمَ؟ فَأُجِيبَ: خِيفَةَ أَنْ يُصَلِّيَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَدَّرَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْقَعْنَبِيِّ فِي الْمُوَطَّأِ لَا يَتَحَرَّى أَحَدُكُمْ أَنْ يُصَلِّيَ وَمَعْنَاهُ لَا يَتَحَرَّى الصَّلَاةَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ صَالِحٍ) هُوَ ابْنُ كَيْسَانَ وَلَمْ يُخَرِّجِ الْبُخَارِيُّ، لِصَالِحِ بْنِ أَبِي الْأَخْضَرِ شَيْئًا.
قَوْلُهُ: (لَا صَلَاةَ) قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَصِيغَةُ النَّفْي فِي أَلْفَاظِ الشَّارِعِ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى فِعْلٍ كَانَ الْأَوْلَى حَمْلُهَا عَلَى نَفِي الْفِعْلِ الشَّرْعِيِّ لَا الْحِسِّيِّ، لِأَنَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى نَفْيِ الْفِعْلِ الْحِسِّيِّ لَاحْتَجْنَا فِي تَصْحِيحِهِ إِلَى إِضْمَارٍ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ. وَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الشَّرْعِيِّ لَمْ نَحْتَجْ إِلَى إِضْمَارٍ، فَهَذَا وَجْهُ الْأَوْلَوِيَّةِ. وَعَلَى هَذَا فَهُوَ نَفْيٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ، وَالتَّقْدِيرُ لَا تُصَلُّوا. وَحَكَى أَبُو الْفَتْحِ الْيَعْمُرِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ النَّهْيَ عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَبَعْدَ الْعَصْرِ إِنَّمَا هُوَ إِعْلَامٌ بِأَنَّهُمَا لَا يُتَطَوَّعُ بَعْدَهُمَا، وَلَمْ يُقْصَدِ الْوَقْتُ بِالنَّهْيِ كَمَا قُصِدَ بِهِ وَقْتُ الطُّلُوعِ وَوَقْتُ الْغُرُوبِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا تُصَلُّوا بَعْدَ الصُّبْحِ وَلَا بَعْدَ الْعَصْرِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ الشَّمْسُ نَقِيَّةً، وَفِي
رِوَايَةٍ مُرْتَفِعَةً، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَعْدِيَّةِ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ وَقْتُ الطُّلُوعِ وَوَقْتُ الْغُرُوبِ مَا قَارَبَهُمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمُطَابَقَةُ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الصَّلَاةَ الْمَنْهِيَّةَ غَيْرُ صَحِيحَةٍ، فَلَازَمَهُ أَنْ لَا يَقْصِدَ لَهَا الْمُكَلَّفُ، إِذِ الْعَاقِلُ لَا يَشْتَغِلُ بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (لَا صَلَاةَ بَعْدَ الصُّبْحِ) أَيْ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَصَرَّحَ بِهِ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانَ) هُوَ الْبَلْخِيُّ، وَقِيلَ: الْوَاسِطِيُّ، وَلِكُلٍّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ مُرَجِّحٌ، وَكِلَاهُمَا ثِقَةٌ.
قَوْلُهُ: (عَنْ مُعَاوِيَةَ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُعَاذٍ وَغَيْرِهِ عَنْ شُعْبَةَ خَطَبَنَا مُعَاوِيَةُ وَاتَّفَقَ أَصْحَابُ شُعْبَةَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ حُمْرَانَ، وَخَالَفَهُمْ عثمان بْنِ عُمَرَ، وَأَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فَقَالَا: عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ مَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ وَالطَّرِيقُ الَّتِي اخْتَارَهَا الْبُخَارِيُّ أَرْجَحُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِأَبِي التَّيَّاحِ فِيهِ شَيْخَانِ.
قَوْلُهُ: (يُصَلِّيهِمَا) أَيِ الرَّكْعَتَيْنِ، وَلِلْحَمَوِيِّ يُصَلِّيهَا أَيِ الصَّلَاةَ. وَكَذَا وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَ الرُّوَاةِ فِي قَوْلِهِ عَنْهَا أَوْ عَنْهُمَا، وَكَلَامُ مُعَاوِيَةَ مُشْعِرٌ بِأَنَّ مَنْ خَاطَبَهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ بَعْدَ الْعَصْرِ رَكْعَتَيْنِ عَلَى سَبِيلِ التَّطَوُّعِ الرَّاتِبِ لَهَا كَمَا يُصَلِّي بَعْدَ الظُّهْرِ، وَمَا نَفَاهُ مِنْ رُؤْيَةِ صَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُمَا قَدْ أَثْبَتَهُ غَيْرُهُ، وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي. وَسَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ قَوْلُ عَائِشَةَ كَانَ لَا يُصَلِّيهِمَا فِي الْمَسْجِدِ لَكِنْ لَيْسَ فِي رِوَايَةِ الْإِثْبَاتِ مُعَارَضَةٌ لِلْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي النَّهْيِ، لِأَنَّ رِوَايَةَ الْإِثْبَاتِ لَهَا سَبَبٌ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، فَأُلْحِقَ بِهَا مَا لَهُ سَبَبٌ وَبَقِيَ مَا عَدَا ذَلِكَ عَلَى عُمُومِهِ، وَالنَّهْيُ فِيهِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا لَا سَبَبَ لَهُ. وَأَمَّا مَنْ يَرَى عُمُومَ النَّهْيِ وَلَا يَخُصُّهُ بِمَا لَهُ سَبَبٌ فَيَحْمِلُ إِنْكَارَ مُعَاوِيَةَ عَلَى مَنْ يَتَطَوَّعُ وَيَحْمِلُ الْفِعْلَ عَلَى الْخُصُوصِيَّةِ، وَلَا يَخْفَى رُجْحَانَ الْأَوَّلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدَةُ) هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ، وَبَقِيَّةُ الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ تَقَدَّمَ بِأَتَمِّ سِيَاقٍ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ.
32 - بَاب مَنْ لَمْ يَكْرَهْ الصَّلَاةَ إِلَّا بَعْدَ الْعَصْرِ وَالْفَجْرِ
رَوَاهُ عُمَرُ، وَابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو سَعِيدٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ
589 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: أُصَلِّي كَمَا رَأَيْتُ أَصْحَابِي يُصَلُّونَ لَا أَنْهَى أَحَدًا يُصَلِّي بِلَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ مَا شَاءَ غَيْرَ أَنْ لَا تَحَرَّوْا طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلَا غُرُوبَهَا.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ لَمْ يَكْرَهِ الصَّلَاةَ إِلَّا بَعْدَ الْعَصْرِ وَالْفَجْرِ) قِيلَ: آثَرَ الْبُخَارِيُّ التَّرْجَمَةَ بِذِكْرِ الْمَذَاهِبِ عَلَى ذِكْرِ الْحُكْمِ لِلْبَرَاءَةِ مِنْ عُهْدَةِ بَتِّ الْقَوْلِ فِي مَوْضِعٍ كَثُرَ فِيهِ الِاخْتِلَافُ، وَمُحَصِّلُ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَخْبَارِ فِي تَعْيِينِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي تُكْرَهُ فِيهَا الصَّلَاةُ أَنَّهَا خَمْسَةٌ: عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ. وَعِنْدَ غُرُوبِهَا، وَبَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَبَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَعِنْدَ الِاسْتِوَاءِ. وَتَرْجِعُ بِالتَّحْقِيقِ إِلَى ثَلَاثَةٍ: مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الصُّبْحِ إِلَى أَنْ تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الصَّلَاةُ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَكَذَا مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَلَا يُعَكِّرُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مَنْ لَمْ يُصَلِّ الصُّبْحَ مَثَلًا حَتَّى بَزَغَتِ الشَّمْسُ يُكْرَهُ لَهُ التَّنَفُّلُ حِينَئِذٍ لِأَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا هُوَ جَارٍ عَلَى الْغَالِبِ الْمُعْتَادِ، وَأَمَّا هَذِهِ الصُّورَةُ النَّادِرَةُ فَلَيْسَتْ مَقْصُودَةً.
وَفِي الْجُمْلَةِ عَدُّهَا أَرْبَعَةً أَجْوَدُ، وَبَقِيَ خَامِسٌ وَهُوَ الصَّلَاةُ وَقْتَ اسْتِوَاءِ الشَّمْسِ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَ الْمُؤَلِّفِ عَلَى شَرْطِهِ فَتَرْجَمَ عَلَى نَفْيِهِ، وَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَحَادِيثَ: حَدِيثُ عَقَبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَلَفْظُهُ وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ عَبْسَةَ وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا، وَلَفْظُهُ حَتَّى يَسْتَقِلَّ الظِّلُّ بِالرُّمْحِ، فَإِذَا أَقْبَلَ
الْفَيْءُ فَصَلِّ، وَفِي لَفْظٍ لِأَبِي دَاوُدَ: حَتَّى يَعْدِلَ الرُّمْحَ ظِلُّهُ، وحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيِّ وَلَفْظُهُ: حَتَّى تَسْتَوِيَ الشَّمْسُ عَلَى رَأْسِكَ كَالرُّمْحِ، فَإِذَا زَالَتْ فَصَلِّ، وَحَدِيثُ الصُّنَابِحِيِّ وَهُوَ فِي الْمُوَطَّأِ وَلَفْظُهُ ثُمَّ إِذَا اسْتَوَتْ قَارَنَهَا، فَإِذَا زَالَتْ فَارَقَهَا وَفِي آخِرِهِ وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الصَّلَاةِ فِي تِلْكَ السَّاعَاتِ وَهُوَ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ مَعَ قُوَّةِ رِجَالِهِ. وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ أُخَرُ ضَعِيفَةٌ، وَبِقَضِيَّةِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: فَنَهَى عَنِ الصَّلَاةِ نِصْفَ النَّهَارِ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا نُنْهَى عَنْ ذَلِكَ وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ قَالَ: أَدْرَكْتُ النَّاسَ وَهُمْ يَتَّقُونَ ذَلِكَ وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ وَالْجُمْهُورِ، وَخَالَفَ مَالِكٌ فَقَالَ: مَا أَدْرَكْتُ أَهْلَ الْفَضْلِ إِلَّا وَهُمْ يَجْتَهِدُونَ وَيُصَلُّونَ نِصْفَ النَّهَارِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ حَدِيثَ الصُّنَابِحِيِّ، فَإِمَّا أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ وَإِمَّا أَنَّهُ رَدَّهُ بِالْعَمَلِ الَّذِي ذَكَرَهُ. انْتَهَى.
وَقَدِ اسْتَثْنَى الشَّافِعِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ ذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَحُجَّتُهُمْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَدَبَ النَّاسَ إِلَى التَّبْكِيرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَرَغَّبَ فِي الصَّلَاةِ إِلَى خُرُوجِ الْإِمَامِ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِهِ، وَجَعَلَ الْغَايَةَ خُرُوجَ الْإِمَامِ، وَهُوَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ، فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ الْكَرَاهَةِ. وَجَاءَ فِيهِ حَدِيثٌ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ مَرْفُوعًا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَرِهَ الصَّلَاةَ نِصْفَ النَّهَارِ إِلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي إِسْنَادِهِ انْقِطَاعٌ. وَقَدْ ذَكَرَ لَهُ الْبَيْهَقِيُّ شَوَاهِدَ ضَعِيفَةً إِذَا ضُمَّتْ قَوِيَ الْخَبَرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَائِدَةٌ): فَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ حِكْمَةِ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ، وَعَنِ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا فَقَالَ: يُكْرَهُ فِي الْحَالَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، وَيَحْرُمُ فِي الْحَالَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ. وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَاحْتَجَّ بِمَا ثبُتُ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ صَلَّى بَعْدَ الْعَصْرِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ، وَكَأَنَّهُ يَحْمِلُ فِعْلَهُ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ. وَسَيَأْتِي مَا فِيهِ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ تَحْرِيمُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَإِبَاحَتُهَا بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَصْفَرَّ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ إِلَّا وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ قَوِيٍّ، وَالْمَشْهُورُ إِطْلَاقُ الْكَرَاهَةِ فِي الْجَمِيعِ فَقِيلَ: هِيَ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ وَقِيلَ: كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (رَوَاهُ عُمَرُ إِلَخْ) يُرِيدُ أَنَّ أَحَادِيثَ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَهِيَ الَّتِي تَقَدَّمَ إِيرَادُهَا فِي الْبَابَيْنِ السَّابِقَيْنِ لَيْسَ فِيهَا تَعَرُّضٌ لِلِاسْتِوَاءِ، لَكِنْ لِمَنْ قَالَ بِهِ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ زِيَادَةٌ مِنْ حَافِظٍ ثِقَةٍ فَيَجِبُ قَبُولُهَا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا حَمَّادٌ) هُوَ ابْنُ زَيْدٍ.
قَوْلُهُ: (أُصَلِّي) زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي أَوَّلِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ كَانَ لَا يُصَلِّي مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ وَيَقُولُ: أُصَلِّي إِلَخْ.
قَوْلُهُ: (أَنْ لَا تَحَرَّوْا) أَصْلُهُ تَتَحَرَّوْا أَيْ تَقْصِدُوا، وَزَادَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ نَافِعٍ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: إِنَّهُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ مَعَ طُلُوعِ الشَّمْسِ.
(تَنْبِيهٌ): قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِحَصْرِ الْكَرَاهَةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْخَمْسَةِ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَوْقَاتِ الْأَصْلِيَّةِ وَإِلَّا فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُ يُكْرَهُ التَّنَفُّلُ وَقْتَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَوَقْتَ صُعُودِ الْإِمَامِ لِخُطْبَةِ الْجُمُعَةِ، وَفِي حَالَةِ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ جَمَاعَةً لِمَنْ لَمْ يُصَلِّهَا. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ كَرَاهَةُ التَّنَفُّلِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ حَتَّى يَنْصَرِفَ النَّاسُ وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَرَاهَةُ التَّنَفُّلِ قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ، وَسَيَأْتِي ثُبُوتُ الْأَمْرِ بِهِ فِي هَذَا الْجَامِعِ الصَّحِيحِ.
33 - بَاب مَا يُصَلَّى بَعْدَ الْعَصْرِ مِنْ الْفَوَائِتِ وَنَحْوِهَا
وَقَالَ كُرَيْبٌ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الْعَصْرِ رَكْعَتَيْنِ وَقَالَ: شَغَلَنِي نَاسٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ
590 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ قَالَتْ: وَالَّذِي ذَهَبَ بِهِ مَا تَرَكَهُمَا حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ، وَمَا لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى حَتَّى ثَقُلَ عَنْ الصَّلَاةِ، وَكَانَ يُصَلِّي كَثِيرًا مِنْ صَلَاتِهِ قَاعِدًا تَعْنِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّيهِمَا وَلَا يُصَلِّيهِمَا فِي الْمَسْجِدِ مَخَافَةَ أَنْ يُثَقِّلَ عَلَى أُمَّتِهِ، وَكَانَ يُحِبُّ مَا يُخَفِّفُ عَنْهُمْ.
[الحديث 590 - أطرافه في: 1631، 593، 592، 591]
591 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي قَالَتْ عَائِشَةُ "ابْنَ أُخْتِي مَا تَرَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم السَّجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ عِنْدِي قَطُّ"
592 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ رَكْعَتَانِ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَعُهُمَا سِرًّا وَلَا عَلَانِيَةً رَكْعَتَانِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْعَصْرِ"
593 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ رَأَيْتُ الأَسْوَدَ وَمَسْرُوقًا شَهِدَا عَلَى عَائِشَةَ قَالَتْ: "مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَأْتِينِي فِي يَوْمٍ بَعْدَ الْعَصْرِ إِلاَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ"
قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُصَلَّى بَعْدَ الْعَصْرِ مِنَ الْفَوَائِتِ وَنَحْوِهَا) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: ظَاهِرُ التَّرْجَمَةِ إِخْرَاجُ النَّافِلَةِ الْمَحْضَةِ الَّتِي لَا سَبَبَ لَهَا. وَقَالَ أَيْضًا: إِنَّ السِّرَّ فِي قَوْلِهِ وَنَحْوِهَا لِيُدْخِلَ فِيهِ رَوَاتِبَ النَّوَافِلِ وَغَيْرَهَا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ كُرَيْبٌ) يَعْنِي مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ (عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ إِلَخْ) وَهُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ أَوْرَدَهُ الْمُؤَلِّفُ مُطَوَّلًا فِي بَابِ إِذَا كَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي فَأَشَارَ بِيَدِهِ قُبَيْلَ كِتَابِ الْجَنَائِزِ وَقَالَ فِي آخِرِهِ: أَتَانِي نَاسٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ فَشَغَلُونِي عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ فَهُمَا هَاتَانِ.
قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: (وَالَّذِي ذَهَبَ بِهِ مَا تَرَكَهُمَا حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ) وَقَوْلُهَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: (مَا تَرَكَ السَّجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ عِنْدِي قَطُّ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: (لَمْ يَكُنْ يَدَعُهُمَا سِرًّا وَلَا عَلَانِيَةً) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأَخِيرَةِ: (مَا كَانَ يَأْتِينِي فِي يَوْمٍ بَعْدَ الْعَصْرِ إِلَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ) تَمَسَّكَ بِهَذِهِ الرِّوَايَاتِ مَنْ أَجَازَ التَّنَفُّلَ بَعْدَ الْعَصْرِ مُطْلَقًا مَا لَمْ يَقْصِدِ الصَّلَاةَ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَقْلُ الْمَذَاهِبِ فِي ذَلِكَ، وَأَجَابَ عَنْهُ مَنْ أَطْلَقَ الْكَرَاهَةَ بِأَنَّ فِعْلَهُ هَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ اسْتِدْرَاكِ مَا فَاتَ مِنَ الرَّوَاتِبِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَأَمَّا مُوَاظَبَتُهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ خَصَائِصِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ ذَكْوَانَ مَوْلَى عَائِشَةَ أَنَّهَا حَدَّثَتْهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْعَصْرِ وَيَنْهَى عَنْهَا، وَيُوَاصِلُ وَيَنْهَى عَنِ الْوِصَالِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَرِوَايَةُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ فِي نَحْوِ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَفِي آخِرِهِ: وَكَانَ إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَثْبَتَهَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ صلى الله عليه وسلم الْمُدَاوَمَةُ عَلَى ذَلِكَ لَا أَصْلُ الْقَضَاءِ، وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ ذَكْوَانَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّهَا قَالَتْ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَنَقْضِيهِمَا إِذَا فَاتَتَا؟ فَقَالَ: لَا. فَهِيَ
رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ لَا تَقُومُ بِهَا حُجَّةٌ
(1)
.
قُلْتُ: أَخْرَجَهَا الطَّحَاوِيُّ وَاحْتَجَّ بِهَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ خَصَائِصِهِ صلى الله عليه وسلم وَفِيهِ مَا فِيهِ.
(فَائِدَةٌ): رَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ جَرِيرٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ لِأَنَّهُ أَتَاهُ مَالٌ فَشَغَلَهُ عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ فَصَلَّاهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ، ثُمَّ لَمْ يَعُدْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
قُلْتُ: وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ جَرِيرٍ، عَنْ عَطَاءٍ، وَقَدْ سَمِعَ مِنْهُ بَعْدَ اخْتِلَاطِهِ، وَإِنْ صَحَّ فَهُوَ شَاهِدٌ لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ، لَكِنْ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: ثُمَّ لَمْ يَعُدْ مُعَارِضٌ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْبَابِ، فَيُحْمَلُ النَّفْيُ عَلَى عِلْمِ الرَّاوِي فَإِنَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ، وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي. وَكَذَا مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِي بَيْتِهَا بَعْدَ الْعَصْرِ رَكْعَتَيْنِ مَرَّةً وَاحِدَةً الْحَدِيثَ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْهَا: لَمْ أَرَهُ يُصَلِّيهِمَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ فَيُجْمَعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يُصَلِّيهِمَا إِلَّا فِي بَيْتِهِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَلَا أُمِّ سَلَمَةَ، وَيُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُ عَائِشَةَ فِي رِوَايَةِ الْأُولَى وَكَانَ لَا يُصَلِّيهِمَا فِي الْمَسْجِدِ مَخَافَةَ أَنْ يُثْقِلَ عَلَى أُمَّتِهِ.
قَوْلُهُ: (أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ قَالَتْ: وَالَّذِي ذَهَبَ بِهِ) فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ الْحَسَنِ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي زُرْعَةَ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهَا فَسَأَلَهَا عَنْ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ فَقَالَتْ: وَالَّذِي ذَهَبَ بِنَفْسِهِ تَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَزَادَ فِيهِ أَيْضًا: فَقَالَ لَهَا أَيْمَنُ: إِنَّ عُمَرَ كَانَ يَنْهَى عَنْهُمَا وَيَضْرِبُ عَلَيْهِمَا فَقَالَتْ: صَدَقْتَ، وَلَكِنْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّيهِمَا فَذَكَرَهُ. وَالْخَبَرُ بِذَلِكَ عَنْ عُمَرَ أَيْضًا ثَابِتٌ فِي رِوَايَةِ كُرَيْبٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي بَابِ إِذَا كَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي فَفِي أَوَّلِ الْخَبَرِ عَنْ كُرَيْبٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَزْهَرَ أَرْسَلُوهُ إِلَى عَائِشَةَ فَقَالُوا: اقْرَأْ عليها السلام مِنَّا جَمِيعًا وَسَلْهَا عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَقُلْ لَهَا: إِنَّا أُخْبِرْنَا أَنَّكِ تُصَلِّينَهُمَا، وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهُمَا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَقَدْ كُنْتُ أَضْرِبُ النَّاسَ مَعَ عُمَرَ عَلَيْهِمَا، الْحَدِيثَ.
(تَنْبِيهٌ): رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ سَبَبَ ضَرْبِ عُمَرَ النَّاسَ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ: إِنَّ عُمَرَ رَآهُ وَهُوَ خَلِيفَةٌ رَكَعَ بَعْدَ الْعَصْرِ فَضَرَبَهُ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ فَقَالَ عُمَرُ: يَا زَيْدُ لَوْلَا أَنِّي أَخْشَى أَنْ يَتَّخِذَهُمَا النَّاسُ سُلَّمًا إِلَى الصَّلَاةِ حَتَّى اللَّيْلِ لَمْ أَضْرِبْ فِيهِمَا فَلَعَلَّ عُمَرَ كَانَ يَرَى أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ إِنَّمَا هُوَ خَشْيَةَ إِيقَاعِ الصَّلَاةِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَهَذَا يُوَافِقُ قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ الْمَاضِيَ وَمَا نَقَلْنَاهُ عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ رَوَى يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ نَحْوَ رِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ وَجَوَابِ عُمَرَ لَهُ وَفِيهِ: وَلَكِنِّي أَخَافُ أَنْ يَأْتِيَ بَعْدَكُمْ قَوْمٌ يُصَلُّونَ مَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى الْمَغْرِبِ حَتَّى يَمُرُّوا بِالسَّاعَةِ الَّتِي نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُصَلَّى فِيهَا وَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ لِمَا قُلْنَاهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (مَا خُفِّفَ عَنْهُمْ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي مَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
591 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي قَالَتْ عَائِشَةُ: ابْنَ أُخْتِي مَا تَرَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم السَّجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ عِنْدِي قَطُّ.
قَوْلُهُ: (هِشَامٌ) هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ.
قَوْلُهُ: (ابْنَ أُخْتِي) بِالنَّصْبِ عَلَى النِّدَاءِ، وَحَرْفُ النِّدَاءِ مَحْذُوفٌ، وَأَثْبَتَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي رِوَايَتِهِ.
592 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ: حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: رَكْعَتَانِ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَعُهُمَا سِرًّا وَلَا عَلَانِيَةً: رَكْعَتَانِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْعَصْرِ. 593 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: رَأَيْتُ الْأَسْوَدَ، وَمَسْرُوقًا شَهِدَا عَلَى عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَأْتِينِي فِي يَوْمٍ بَعْدَ الْعَصْرِ إِلَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ.
قَوْلُهُ: (عَبْدُ الْوَاحِدِ) هُوَ ابْنُ زِيَادٍ، وَالشَّيْبَانِيُّ: هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ الَّذِي بَعْدَهُ هُوَ السَّبِيعِيُّ.
قَوْلُهُ: (يَدَعُهُمَا) زَادَ النَّسَائِيُّ فِي بَيْتِي. (فَائِدَةٌ): فَهِمَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها مِنْ مُوَاظَبَتِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ أَنَّ نَهْيَهُ صلى الله عليه وسلم عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ مُخْتَصٌّ بِمَنْ قَصَدَ الصَّلَاةَ عَنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ لَا إِطْلَاقَهُ، فَلِهَذَا قَالَتْ
(1)
ليس الأمر كما قال البيهقي، بل حديث أم سلمة المذكور حديث حسن أخرجه احمد يف المسند بإسناد جيد، وهو حكة على أن قضاء سنة الظهر بعد العصر من خصائصه عليه السلام كما قال الطحاوي. والله أعلم.
مَا تَقَدَّمَ نَقْلُهُ عَنْهَا، وَكَانَتْ تَتَنَفَّلُ بَعْدَ الْعَصْرِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْحَجِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَيُخْبِرُ أَنَّ عَائِشَةَ حَدَّثَتْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَدْخُلْ بَيْتَهَا إِلَّا صَلَّاهُمَا. وَكَأَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ فَهِمَ مِنْ ذَلِكَ مَا فَهِمَتْهُ خَالَتُهُ عَائِشَةُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ أَنَّ مُعَاوِيَةَ سَأَلَ ابْنَ الزُّبَيْرِ عَنْ ذَلِكَ فَرَدَّ الْحَدِيثَ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَذَكَرَتْ أُمُّ سَلَمَةَ قِصَّةَ الرَّكْعَتَيْنِ حَيْثُ شُغِلَ عَنْهُمَا فَرَجَعَ الْأَمْرُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ.
(تَنْبِيهٌ): قَوْلُ عَائِشَةَ: مَا تَرَكَهُمَا حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ عز وجل وَقَوْلُهَا: لَمْ يَكُنْ يَدَعُهُمَا وَقَوْلُهَا: مَا كَانَ يَأْتِينِي فِي يَوْمٍ بَعْدَ الْعَصْرِ إِلَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ مُرَادُهَا مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي شُغِلَ عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ فَصَلَّاهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ، وَلَمْ تُرِدْ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْعَصْرِ رَكْعَتَيْنِ مِنْ أَوَّلِ مَا فُرِضَتِ الصَّلَوَاتُ مَثَلًا إِلَى آخِرِ عُمُرِهِ، بَلْ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَفْعَلْهُمَا قَبْلَ الْوَقْتِ الَّذِي ذَكَرَتْ أَنَّهُ قَضَاهُمَا فِيهِ.
34 - بَاب التَّبْكِيرِ بِالصَّلَاةِ فِي يَوْمِ غَيْمٍ
594 -
حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّ أَبَا الْمَلِيحِ حَدَّثَهُ قَالَ: كُنَّا مَعَ بُرَيْدَةَ فِي يَوْمٍ ذِي غَيْمٍ فَقَالَ: بَكِّرُوا بِالصَّلَاةِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ حَبِطَ عَمَلُهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ التَّبْكِيرِ بِالصَّلَاةِ فِي يَوْمِ غَيْمٍ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ بُرَيْدَةَ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي أَوْقَاتِ الْعَصْرِ فِي بَابِ مَنْ تَرَكَ الْعَصْرَ قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: جَعَلَ الْبُخَارِيُّ التَّرْجَمَةَ لِقَوْلِ بُرَيْدَةَ لَا لِلْحَدِيثِ، وَكَانَ حَقُّ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ أَنْ يُورِدَ فِيهَا الْحَدِيثَ الْمُطَابِقَ لَهَا، ثُمَّ أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ بِلَفْظِ بَكِّرُوا بِالصَّلَاةِ فِي يَوْمِ الْغَيْمِ، فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ حَبِطَ عَمَلُهُ.
قُلْتُ: مِنْ عَادَةِ الْبُخَارِيِّ أَنْ يُتَرْجِمَ بِبَعْضِ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ أَلْفَاظُ الْحَدِيثِ وَلَوْ لَمْ يُورِدْهَا بَلْ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى شَرْطِهِ، فَلَا إِيرَادَ عَلَيْهِ. وَرُوِّينَا فِي سُنَنِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ عَجِّلُوا صَلَاةَ الْعَصْرِ فِي يَوْمِ الْغَيْمِ، إِسْنَادُهُ قَوِيٌّ مَعَ إِرْسَالِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْمَتْنِ فِي بَابِ مَنْ تَرَكَ الْعَصْرَ.
(فَائِدَةٌ): الْمُرَادُ بِالتَّبْكِيرِ الْمُبَادَرَةُ إِلَى الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَأَصْلُ التَّبْكِيرِ فِعْلُ الشَّيْءِ بُكْرَةً وَالْبُكْرَةُ أَوَّلُ النَّهَارِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي فِعْلِ الشَّيْءِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ تَعْجِيلُ الْعَصْرِ وَجَمْعُهَا مَعَ الظُّهْرِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ قَالَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ غَيْمٍ فَأَخِّرُوا الظُّهْرَ، وَعَجِّلُوا الْعَصْرَ.
35 - بَاب الْأَذَانِ بَعْدَ ذَهَابِ الْوَقْتِ
595 -
حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سِرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: لَوْ عَرَّسْتَ بِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: أَخَافُ أَنْ تَنَامُوا عَنْ الصَّلَاةِ قَالَ بِلَالٌ: أَنَا أُوقِظُكُمْ فَاضْطَجَعُوا وَأَسْنَدَ بِلَالٌ ظَهْرَهُ إِلَى رَاحِلَتِهِ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ فَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ طَلَعَ حَاجِبُ الشَّمْسِ فَقَالَ: يَا بِلَالُ أَيْنَ مَا قُلْتَ؟ قَالَ: مَا أُلْقِيَتْ عَلَيَّ نَوْمَةٌ مِثْلُهَا قَطُّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَكُمْ حِينَ شَاءَ وَرَدَّهَا عَلَيْكُمْ حِينَ شَاءَ يَا بِلَالُ قُمْ فَأَذِّنْ بِالنَّاسِ بِالصَّلَاةِ فَتَوَضَّأَ فَلَمَّا
ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ وَابْيَاضَّتْ قَامَ فَصَلَّى.
[الحديث 595 - طرفه في: 7471]
قَوْلُهُ: (بَابُ الْأَذَانِ بَعْدَ ذَهَابِ الْوَقْتِ) سَقَطَ لَفْظُ ذَهَابٍ مِنْ رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: إِنَّمَا صَرَّحَ الْمُؤَلِّفُ بِالْحُكْمِ عَلَى خِلَافِ عَادَتِهِ فِي الْمُخْتَلَفِ فِيهِ لِقُوَّةِ الِاسْتِدْلَالِ مِنَ الْخَبَرِ عَلَى الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْوَاسِطِيُّ.
قَوْلُهُ: (سِرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً) كَانَ ذَلِكَ فِي رُجُوعِهِ مِنْ خَيْبَرَ، كَذَا جَزَمَ بِهِ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مُعْتَمِدًا عَلَى مَا وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِمَا بَيَّنْتُهُ فِي بَابِ الصَّعِيدِ الطَّيِّبِ مِنْ كِتَابِ التَّيَمُّمِ. وَلِأَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فِي أَوَّلِهِ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَسِيرُ بِنَا وَزَادَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ قِصَّةً لَهُ فِي مَسِيرِهِ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَعَسَ حَتَّى مَالَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، وَأَنَّ أَبَا قَتَادَةَ دَعَّمَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأَنَّهُ فِي الْأَخِيرَةِ مَالَ عَنِ الطَّرِيقِ فَنَزَلَ فِي سَبْعَةِ أَنْفُسٍ فَوَضَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ قَالَ: احْفَظُوا عَلَيْنَا صَلَاتَنَا، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا وَقَعَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ الْقَوْمِ: لَوْ عَرَّسْتَ بِنَا وَلَا قَوْلِ بِلَالٍ: أَنَا أُوقِظُكُمْ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَةِ هَذَا السَّائِلِ.
وَالتَّعْرِيسُ نُزُولُ الْمُسَافِرِ لِغَيْرِ إِقَامَةٍ، وَأَصْلُهُ نُزُولٌ آخِرَ اللَّيْلِ. وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: لَكَانَ أَسْهَلَ عَلَيْنَا.
قَوْلُهُ: (أَنَا أُوقِظُكُمْ) زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةِ: فَمَنْ يُوقِظُنَا؟ قَالَ بِلَالٌ: أَنَا.
قَوْلُهُ: (فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ) فِي رِوَايَةِ السَّرَخْسِيِّ فَغَلَبَتْ بِغَيْرِ ضَمِيرٍ.
قَوْلُهُ: (فَاسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ طَلَعَ حَاجِبُ الشَّمْسِ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالشَّمْسُ فِي ظَهْرِهِ.
قَوْلُهُ: (يَا بِلَالُ أَيْنَ مَا قُلْتَ؟) أَيْ: أَيْنَ الْوَفَاءُ بِقَوْلِكَ أَنَا أُوقِظُكُمْ.
قَوْلُهُ: (مِثْلُهَا) أَيْ مِثْلُ النَّوْمَةِ الَّتِي وَقَعَتْ لَهُ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَكُمْ) هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} وَلَا يَلْزَمُ مِنْ قَبْضِ الرُّوحِ الْمَوْتُ، فَالْمَوْتُ انْقِطَاعُ تَعَلُّقِ الرُّوحِ بِالْبَدَنِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَالنَّوْمُ انْقِطَاعُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ فَقَطْ. زَادَ مُسْلِمٌ: أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ. الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: (حِينَ شَاءَ) حِينَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لَيْسَ لِوَقْتٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ نَوْمَ الْقَوْمِ لَا يَتَّفِقُ غَالِبًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بَلْ يَتَتَابَعُونَ، فَيَكُونُ حِينَ الْأُولَى خَبَرًا عَنْ أَحْيَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ.
قَوْلُهُ: (قُمْ فَأَذِّنْ بِالنَّاسِ بِالصَّلَاةِ) كَذَا هُوَ بِتَشْدِيدِ ذَالِ أَذِّنْ وَبِالْمُوَحَّدَةِ فِيهِمَا، وَلِلكُشْمِيهَنِيِّ فَآذِنْ بِالْمَدِّ وَحَذْفِ الْمُوَحَّدَةِ مِنْ بِالنَّاسِ. وَآذِنْ مَعْنَاهُ أَعْلِمْ وَسَيَأْتِي مَا فِيهِ بَعْدُ.
قَوْلُهُ: (فَتَوَضَّأَ) زَادَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ: فَتَوَضَّأَ النَّاسُ، فَلَمَّا ارْتَفَعَتْ، فِي رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ فِي التَّوْحِيدِ مِنْ طَرِيقِ هُشَيْمٍ، عَنْ حُصَيْنٍ: فَقَضَوْا حَوَائِجَهُمْ فَتَوَضَّئُوا إِلَى أَنْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَهُوَ أَبْيَنُ سِيَاقًا، وَنَحْوُهُ لِأَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ خَالِدٍ، عَنْ حُصَيْنٍ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ تَأْخِيرَهُ الصَّلَاةَ إِلَى أَنْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَارْتَفَعَتْ كَانَ بِسَبَبِ الشُّغْلِ بِقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ، لَا لِخُرُوجِ وَقْتِ الْكَرَاهَةِ.
قَوْلُهُ: (وَابْيَاضَّتْ) وَزْنُهُ افْعَالَّ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ مِثْلُ: احْمَارَّ وَابْهَارَّ، أَيْ صَفَتْ. وَقِيلَ: إِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي كُلِّ لَوْنٍ بَيْنَ لَوْنَيْنِ، فَأَمَّا الْخَالِصُ مِنَ الْبَيَاضِ مَثَلًا فَإِنَّمَا يُقَالُ لَهُ: أَبْيَضُ.
قَوْلُهُ: (فَصَلَّى) زَادَ أَبُو دَاوُدَ بِالنَّاسِ. وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ: جَوَازُ الْتِمَاسِ الْأَتْبَاعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ وَغَيْرِهَا وَلَكِنْ بِصِيغَةِ الْعَرْضِ لَا بِصِيغَةِ الِاعْتِرَاضِ، وَأَنَّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُرَاعِيَ الْمَصَالِحَ الدِّينِيَّةَ وَالِاحْتِرَازُ عَمَّا يُحْتَمَلُ فَوَاتُ الْعِبَادَةِ عَنْ وَقْتِهَا بِسَبَبِهِ، وَجَوَازُ الْتِزَامِ الْخَادِمِ الْقِيَامَ بِمُرَاقَبَةِ ذَلِكَ وَالِاكْتِفَاءُ فِي الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ بِالْوَاحِدِ، وَقَبُولُ الْعُذْرِ مِمَّنِ اعْتَذَرَ بِأَمْرٍ سَائِغٍ، وَتَسْوِيغُ الْمُطَالَبَةِ بِالْوَفَاءِ بِالِالْتِزَامِ، وَتَوَجَّهَتِ الْمُطَالَبَةُ عَلَى بِلَالٍ بِذَلِكَ تَنْبِيهًا لَهُ عَلَى اجْتِنَابِ الدَّعْوَى وَالثِّقَةِ بِالنَّفْسِ وَحُسْنِ الظَّنِّ بِهَا لَا سِيَّمَا فِي مَظَانِّ
الْغَلَبَةِ وَسَلْبِ الِاخْتِيَارِ، وَإِنَّمَا بَادَرَ بِلَالٌ إِلَى قَوْلِهُ: أَنَا أُوقِظُكُمْ اتِّبَاعًا لِعَادَتِهِ فِي الِاسْتِيقَاظِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ لِأَجْلِ الْأَذَانِ، وَفِيهِ خُرُوجُ الْإِمَامِ بِنَفْسِهِ فِي الْغَزَوَاتِ وَالسَّرَايَا، وَفِيهِ الرَّدُّ عَلَى مُنْكِرِي الْقَدَرِ وَأَنَّهُ لَا وَاقِعَ فِي الْكَوْنِ إِلَّا بِقَدَرٍ.
وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا مَا تَرْجَمَ لَهُ وَهُوَ الْأَذَانُ لِلْفَائِتَةِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ: لَا يُؤَذَّنُ لَهَا، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنْ يُؤَذَّنَ لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ. وَحَمْلُ الْأَذَانِ هُنَا عَلَى الْإِقَامَةِ مُتَعَقَّبٌ، لِأَنَّهُ عَقَّبَ الْأَذَانَ بِالْوُضُوءِ ثُمَّ بِارْتِفَاعِ الشَّمْسِ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْإِقَامَةُ لَمَا أَخَّرَ الصَّلَاةَ عَنْهَا. نَعَمْ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَهُوَ مَحْضُ الْإِعْلَامِ، وَلَا سِيَّمَا عَلَى رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي نَحْوِ هَذِهِ الْقِصَّةِ فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ فَصَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَمَرَهُ. فَأَقَامَ فَصَلَّى الْغَدَاةَ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْحَدِيثِ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ مَنْ لَمْ يَرَ التَّأْذِينَ فِي الْبَابِ بَعْدَ هَذَا.
وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الْجَمَاعَةِ فِي الْفَوَائِتِ وَسَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ أَيْضًا، وَاسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى عَدَمِ قَضَاءِ السُّنَّةِ الرَّاتِبَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أَنَّهُمْ صَلَّوْا رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الذِّكْرِ عَدَمُ الْوُقُوعِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ رَكَعَهُمَا فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ هَذَا عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَسَيَأْتِي فِي بَابٍ مُفْرَدٍ لِذَلِكَ فِي أَبْوَابِ التَّطَوُّعِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْمُهَلَّبُ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى هِيَ الصُّبْحُ قَالَ: لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا بِمُرَاقَبَةِ وَقْتِ صَلَاةٍ غَيْرَهَا، وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ لَا يَخْفَى، قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا هِيَ الْمَأْمُورُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ تَفُتْهُ صَلَاةٌ غَيْرُهَا لِغَيْرِ عُذْرٍ شَغَلَهُ عَنْهَا اهـ. وَهُوَ كَلَامٌ مُتَدَافِعٌ، فَأَيُّ عُذْرٍ أَبْيَنُ مِنَ النَّوْمِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ، قَالَ ابْنُ بَزِيزَةَ وَلَيْسَ هُوَ بِقَاطِعٍ فِيهِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَرْجِعْ إِلَى قَوْلِ بِلَالٍ بِمُجَرَّدِهِ، بَلْ بَعْدَ النَّظَرِ إِلَى الْفَجْرِ لَوِ اسْتَيْقَظَ مَثَلًا، وَفِيهِ جَوَازُ تَأْخِيرِ قَضَاءِ الْفَائِتَةِ عَنْ وَقْتِ الِانْتِبَاهِ مَثَلًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ مَعَ بَقِيَّةِ فَوَائِدِهِ فِي بَابِ الصَّعِيدِ الطَّيِّبِ مِنْ كِتَابِ التَّيَمُّمِ.
36 - بَاب مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ جَمَاعَةً بَعْدَ ذَهَابِ الْوَقْتِ
596 -
حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ جَاءَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ بَعْدَ مَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كِدْتُ أُصَلِّي الْعَصْرَ حَتَّى كَادَتْ الشَّمْسُ تَغْرُبُ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا فَقُمْنَا إِلَى بُطْحَانَ فَتَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ وَتَوَضَّأْنَا لَهَا فَصَلَّى الْعَصْرَ بَعْدَ مَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا الْمَغْرِبَ.
[الحديث 596 - أطرافه في: 4112، 945، 641، 598]
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ جَمَاعَةً بَعْدَ ذَهَابِ الْوَقْتِ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: إِنَّمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ بَعْدَ ذَهَابِ الْوَقْتِ وَلَمْ يَقُلْ مَثَلًا لِمَنْ صَلَّى صَلَاةً فَائِتَةً لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ إِيقَاعَهَا كَانَ قُرْبَ خُرُوجِ وَقْتِهَا، لَا كَالْفَوَائِتِ الَّتِي جُهِلَ يَوْمُهَا أَوْ شَهْرُهَا.
قَوْلُهُ: (هِشَامٌ) هُوَ ابْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الدَّسْتُوَائِيُّ، وَيَحْيَى هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ، وَأَبُو سَلَمَةَ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ.
قَوْلُهُ: (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ) قَدِ اتَّفَقَ الرُّوَاةُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا حَجَّاجَ بْنَ نُصَيْرٍ فَإِنَّهُ رَوَاهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ فَقَالَ فِيهِ: عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عُمَرَ فَجَعَلَهُ مِنْ مُسْنَدِ عُمَرَ، تَفَرَّدَ بِذَلِكَ حَجَّاجٌ، وَهُوَ ضَعِيفٌ.
قَوْلُهُ: (يَوْمَ الْخَنْدَقِ) سَيَأْتِي شَرْحُ أَمْرِهِ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي.
قَوْلُهُ: (بَعْدَمَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ)
فِي رِوَايَةِ شَيْبَانَ، عَنْ يَحْيَى عِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَذَلِكَ بَعْدَمَا أَفْطَرَ الصَّائِمُ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ.
قَوْلُهُ: (يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ) لِأَنَّهُمْ كَانُوا السَّبَبَ فِي تَأْخِيرِهِمُ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا، إِمَّا الْمُخْتَارُ كَمَا وَقَعَ لِعُمَرَ، وَإِمَّا مُطْلَقًا كَمَا وَقَعَ لِغَيْرِهِ.
قَوْلُهُ: (مَا كِدْتُ) قَالَ الْيَعْمُرِيُّ: لَفْظَةُ كَادَ مِنْ أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ، فَإِذَا قُلْتُ: كَادَ زَيْدٌ يَقُومُ فُهِمَ مِنْهَا أَنَّهُ قَارَبَ الْقِيَامَ وَلَمْ يَقُمْ، قَالَ: وَالرَّاجِحُ فِيهَا أَنْ لَا تُقْرَنَ بِأَنْ، بِخِلَافِ عَسَى فَإِنَّ الرَّاجِحَ فِيهَا أَنْ تُقْرَنَ. قَالَ: وَقَدْ وَقَعَ فِي مُسْلِمٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ أَنْ تَغْرُبَ.
قُلْتُ: وَفِي الْبُخَارِيِّ فِي بَابِ غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ أَيْضًا وَهُوَ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ، وَهَلْ تَسُوغُ الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى فِي مِثْلِ هَذَا أَوْ لَا؟ الظَّاهِرُ الْجَوَازُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِخْبَارُ عَنْ صَلَاتِهِ الْعَصْرَ كَيْفَ وَقَعَتْ، لَا الْإِخْبَارُ عَنْ عُمَرَ هَلْ تَكَلَّمَ بِالرَّاجِحَةِ أَوِ الْمَرْجُوحَةِ. قَالَ: وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ مَعْنَى كَادَ الْمُقَارَبَةُ فَقَوْلُ عُمَرَ: مَا كِدْتُ أُصَلِّي الْعَصْرَ حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ صَلَّى الْعَصْرَ قُرْبَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، لِأَنَّ نَفْيَ الصَّلَاةِ يَقْتَضِي إِثْبَاتَهَا، وَإِثْبَاتُ الْغُرُوبِ يَقْتَضِي نَفْيَهُ، فَتَحَصَّلَ مِنْ ذَلِكَ لِعُمَرَ ثُبُوتُ الصَّلَاةِ وَلَمْ يَثْبُتِ الْغُرُوبُ اهـ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ وُقُوعُ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ، بَلْ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا تَقَعَ الصَّلَاةُ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ كَيْدُودَتَهُ كَانَتْ كَيْدُودَتَهَا، قَالَ: وَحَاصِلُهُ عُرْفًا مَا صَلَّيْتُ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ اهـ. وَلَا يَخْفَى مَا بَيْنَ التَّقْرِيرَيْنِ مِنَ الْفَرْقِ، وَمَا ادَّعَاهُ مِنَ الْعُرْفِ مَمْنُوعٌ وَكَذَا الْعِنْدِيَّةُ، لِلْفَرْقِ الَّذِي أَوْضَحَهُ الْيَعْمُرِيُّ مِنَ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ لِأَنَّ كَادَ إِذَا أُثْبِتَتْ نَفَتْ وَإِذَا نَفَتْ أُثْبِتَتْ كَمَا قَالَ فِيهَا الْمَعَرِّيُّ مُلْغِزًا:
إِذَا نُفِيَتْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَثْبَتَتْ
…
وَإِنْ أُثْبِتَتْ قَامَتْ مَقَامَ جُحُودِ
هَذَا إِلَى مَا فِي تَعْبِيرِهِ بِلَفْظِ كَيْدُودَةٍ مِنَ الثِّقَلِ وَاللَّهُ الْهَادِي إِلَى الصَّوَابِ.
فَإِنْ قِيلَ: الظَّاهِرُ أَنَّ عُمَرَ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَيْفَ اخْتُصَّ بِأَنْ أَدْرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ بِخِلَافِ بَقِيَّةِ الصَّحَابَةِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعَهُمْ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الشُّغْلُ وَقَعَ بِالْمُشْرِكِينَ إِلَى قُرْبِ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَكَانَ عُمَرُ حِينَئِذٍ مُتَوَضِّئًا فَبَادَرَ فَأَوْقَعَ الصَّلَاةَ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَعْلَمَهُ بِذَلِكَ فِي الْحَالِ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا قَدْ شَرَعَ يَتَهَيَّأُ لِلصَّلَاةِ، وَلِهَذَا قَامَ عِنْدَ الْإِخْبَارِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ إِلَى الْوُضُوءِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي سَبَبِ تَأْخِيرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَقِيلَ كَانَ ذَلِكَ نِسْيَانًا، وَاسْتُبْعِدَ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ مِنَ الْجَمِيعِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ لَهُ بِمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي جُمْعَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الْمَغْرِبَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: هَلْ عَلِمَ رَجُلٌ مِنْكُمْ أَنِّي صَلَّيْتُ الْعَصْرَ؟ قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَصَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ اهـ. وَفِي صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ قَوْلِهُ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ وَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِتَكَلُّفٍ.
وَقِيلَ: كَانَ عَمْدًا لِكَوْنِهِمْ شَغَلُوهُ فَلَمْ يُمَكِّنُوهُ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ أَقْرَبُ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُنْزِلَ اللَّهُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ {فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا} وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذَا الْحُكْمِ هَلْ نُسِخَ أَمْ لَا؟ كَمَا سَيَأْتِي فِي كِتَابِ صَلَاةِ الْخَوْفِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (بُطْحَانَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ: وَادٍ بِالْمَدِينَةِ، وَقِيلَ: هُوَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ ثَانِيهِ حَكَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْبَكْرِيُّ.
قَوْلُهُ: (فَصَلَّى الْعَصْرَ) وَقَعَ فِي الْمُوَطَّأِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى أَنَّ الَّذِي فَاتَهُمُ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَالْمَغْرِبُ، وَأَنَّهُمْ صَلَّوْا بَعْدَ هَوًى مِنَ اللَّيْلِ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ شَغَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ حَتَّى ذَهَبَ مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ وَفِي قَوْلِهِ: أَرْبَعٍ تَجَوُّزٌ لِأَنَّ الْعِشَاءَ لَمْ تَكُنْ فَاتَتْ. قَالَ الْيَعْمُرِيُّ: مِنَ النَّاسِ مَنْ رَجَّحَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فَقَالَ:
إِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ الصَّلَاةَ الَّتِي شُغِلَ عَنْهَا وَاحِدَةٌ وَهِيَ الْعَصْرُ.
قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ عَلِيٍّ فِي مُسْلِمٍ شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ قَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ جَمَعَ بِأَنَّ الْخَنْدَقَ كَانَتْ وَقْعَتُهُ أَيَّامًا فَكَانَ ذَلِكَ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ، قَالَ: وَهَذَا أَوْلَى. قُلْتُ: وَيُقَرِّبُهُ أَنَّ رِوَايَتَيْ أَبِي سَعِيدٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ لَيْسَ فِيهِمَا تَعَرُّضٌ لِقِصَّةِ عُمَرَ، بَلْ فِيهِمَا أَنَّ قَضَاءَهُ لِلصَّلَاةِ وَقَعَ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ. وَأَمَّا رِوَايَةُ حَدِيثِ الْبَابِ فَفِيهَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَقِبَ غُرُوبِ الشَّمْسِ. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى الْجَمَاعَةِ؟ قُلْتُ: إِمَّا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ فِي السِّيَاقِ اخْتِصَارًا، وَإِمَّا مِنْ إِجْرَاءِ الرَّاوِي الْفَائِتَةَ الَّتِي هِيَ الْعَصْرُ وَالْحَاضِرَةُ الَّتِي هِيَ الْمَغْرِبُ مَجْرًى وَاحِدًا. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَغْرِبَ كَانَتْ بِالْجَمَاعَةِ لِمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ عَادَتِهِ اهـ. وَبِالِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ جَزَمَ ابْنُ الْمُنِيرِ زَيْنُ الدِّينِ فَقَالَ: فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ، أُجِيبَ بِأَنَّ مَقْصُودَ التَّرْجَمَةِ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ: فَقَامَ وَقُمْنَا وَتَوَضَّأَ وَتَوَضَّأْنَا.
قُلْتُ: الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ هُوَ الْوَاقِعُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهِمْ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ هِشَامٍ بِلَفْظِ فَصَلَّى بِنَا الْعَصْرَ، وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ: تَرْتِيبُ الْفَوَائِتِ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى وُجُوبِهِ مَعَ الذِّكْرِ لَا مَعَ النِّسْيَانِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِيهَا، وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ تَذَكَّرَ فَائِتَةً فِي وَقْتِ حَاضِرَةٍ ضَيِّقٍ هَلْ يَبْدَأُ بِالْفَائِتَةِ - وَإِنْ خَرَجَ وَقْتُ الْحَاضِرَةِ - أَوْ يَبْدَأُ بِالْحَاضِرَةِ، أَوْ يَتَخَيَّرُ؟ فَقَالَ بِالْأَوَّلِ مَالِكٌ، وَقَالَ بِالثَّانِي الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَقَالَ بِالثَّالِثِ أَشْهَبُ. وَقَالَ عِيَاضٌ: مَحَلُّ الْخِلَافِ إِذَا لَمْ تَكْثُرِ الصَّلَوَاتُ الْفَوَائِتُ، فَأَمَّا إِذَا كَثُرَتْ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يَبْدَأُ بِالْحَاضِرَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ الْقَلِيلِ، فَقِيلَ: صَلَاةُ يَوْمٍ، وَقِيلَ أَرْبَعُ صَلَوَاتٍ. وَفِيهِ جَوَازُ الْيَمِينِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْلَافٍ إِذَا اقْتَضَتْ مَصْلَحَةٌ مِنْ زِيَادَةِ طُمَأْنِينَةٍ أَوْ نَفْيِ تَوَهُّمٍ.
وَفِيهِ مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَحُسْنِ التَّأَنِّي مَعَ أَصْحَابِهِ وَتَأَلُّفِهِمْ وَمَا يَنْبَغِي الِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي ذَلِكَ، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ قَضَاءِ الْفَوَائِتِ فِي الْجَمَاعَةِ وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَّا اللَّيْثَ مَعَ أَنَّهُ أَجَازَ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ جَمَاعَةً إِذَا فَاتَتْ، وَالْإِقَامَةُ لِلصَّلَاةِ الْفَائِتَةِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى عَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ الْأَذَانِ لِلْفَائِتَةِ، وَأَجَابَ مَنِ اعْتَبَرَهُ بِأَنَّ الْمَغْرِبَ كَانَتْ حَاضِرَةً وَلَمْ يَذْكُرِ الرَّاوِي الْأَذَانَ لَهَا، وَقَدْ عُرِفَ مِنْ عَادَتِهِ صلى الله عليه وسلم الْأَذَانُ لِلْحَاضِرَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الرَّاوِيَ تَرَكَ ذِكْرَ ذَلِكَ لَا أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَتُعُقِّبَ بِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ الْمَغْرِبُ لَمْ يَتَهَيَّأْ إِيقَاعُهَا إِلَّا بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا عَلَى رَأْيِ مَنْ يَذْهَبُ إِلَى الْقَوْلِ بِتَضْيِيقِهِ.
وَعَكَسَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ فَاسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الْمَغْرِبِ مُتَّسِعٌ، لِأَنَّهُ قَدَّمَ الْعَصْرَ عَلَيْهَا فَلَوْ كَانَ ضَيِّقًا لَبَدَأَ بِالْمَغْرِبِ، وَلَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ بِتَقَديمِ الْحَاضِرَةِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ بِأَنَّ وَقْتَ الْمَغْرِبِ ضَيِّقٌ فَيَحْتَاجُ إِلَى الْجَوَابِ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، وَهَذَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فَلَا يَتَأَتَّى فِيهِ هَذَا لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ فِيهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بَعْدَ مُضِيِّ هَوًى مِنَ اللَّيْلِ.
37 - بَاب مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّ إِذَا ذَكَرَها، وَلَا يُعِيدُ إِلَّا تِلْكَ الصَّلَاةَ
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: مَنْ تَرَكَ صَلَاةً وَاحِدَةً عِشْرِينَ سَنَةً لَمْ يُعِدْ إِلَّا تِلْكَ الصَّلَاةَ الْوَاحِدَةَ
597 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، وَمُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَا: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّ إِذَا ذَكَرَهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ، {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} قَالَ مُوسَى: قَالَ هَمَّامٌ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: بَعْدُ وَأَقِمْ الصَّلَاةَ للذِّكْرَى وَقَالَ حَبَّانُ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، حَدَّثَنَا أَنَسٌ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّ إِذَا ذَكَرَ، وَلَا يُعِيدُ إِلَّا تِلْكَ الصَّلَاةَ) قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمُنِيرِ: صَرَّحَ الْبُخَارِيُّ بِإِثْبَاتِ هَذَا الْحُكْمِ مَعَ كَوْنِهِ مِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ لِقُوَّةِ دَلِيلِهِ، وَلِكَوْنِهِ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ، إِذِ الْوَاجِبُ خَمْسُ صَلَوَاتٍ لَا أَكْثَرُ فَمَنْ قَضَى الْفَائِتَةَ كَمَّلَ الْعَدَدَ الْمَأْمُورَ بِهِ، وَلِكَوْنِهِ عَلَى مُقْتَضَى ظَاهِرِ الْخِطَابِ لِقَوْلِ الشَّارِعِ فَلْيُصَلِّهَا وَلَمْ يَذْكُرْ زِيَادَةً، وَقَالَ أَيْضًا: لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ فَاسْتُفِيدَ مِنْ هَذَا الْحَصْرِ أَنْ لَا يَجِبَ غَيْرُ إِعَادَتِهَا. وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ مَنْ ذَكَرَ بَعْدَ أَنْ صَلَّى صَلَاةً أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ الَّتِي قَبْلَهَا فَإِنَّهُ يُصَلِّي الَّتِي ذَكَرَ ثُمَّ يُصَلِّي الَّتِي كَانَ صَلَّاهَا مُرَاعَاةً لِلتَّرْتِيبِ. انْتَهَى.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْبُخَارِيُّ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: وَلَا يُعِيدُ إِلَّا تِلْكَ الصَّلَاةَ إِلَى تَضْعِيفِ مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي قِصَّةِ النَّوْمِ عَنِ الصَّلَاةِ حَيْثُ قَالَ: فَإِذَا كَانَ الْغَدُ فَلْيُصَلِّهَا عِنْدَ وَقْتِهَا فَإِنَّ بَعْضَهُمْ زَعَمَ أَنَّ ظَاهِرَهُ إِعَادَةُ الْمَقْضِيَّةِ مَرَّتَيْنِ عِنْدَ ذِكْرِهَا، وَعِنْدَ حُضُورِ مِثْلِهَا مِنَ الْوَقْتِ الْآتِي، وَلَكِنَّ اللَّفْظَ الْمَذْكُورَ لَيْسَ نَصًّا فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: فَلْيُصَلِّهَا عِنْدَ وَقْتِهَا أَيِ الصَّلَاةَ الَّتِي تَحْضُرُ لَا أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُعِيدَ الَّتِي صَلَّاهَا بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مَنْ أَدْرَكَ مِنْكُمْ صَلَاةَ الْغَدَاةِ مِنْ غَدٍ صَالِحًا فَلْيَقْضِ مَعَهَا مِثْلَهَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِظَاهِرِهِ وُجُوبًا. قَالَ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِيهِ لِلِاسْتِحْبَابِ لِيَحُوزَ فَضِيلَةَ الْوَقْتِ فِي الْقَضَاءِ. انْتَهَى. وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ بِاسْتِحْبَابِ ذَلِكَ أَيْضًا، بَلْ عَدُّوا الْحَدِيثَ غَلَطًا مِنْ رَاوِيهِ. وَحَكَى ذَلِكَ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ الْبُخَارِيِّ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَيْضًا أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَقْضِيهَا لِوَقْتِهَا مِنَ الْغَدِ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الرِّبَا وَيَأْخُذُهُ مِنْكُمْ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ) أَيِ النَّخَعِيُّ: وَأَثَرُهُ هَذَا مَوْصُولٌ عِنْدَ الثَّوْرِيِّ فِي جَامِعِهِ عَنْ مَنْصُورٍ، وَغَيْرِهِ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ هَمَّامٍ) هُوَ ابْنُ يَحْيَى، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.
قَوْلُهُ: (مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّ) كَذَا وَقَعَ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ بِحَذْفِ الْمَفْعُولِ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ هَدَّابِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ هَمَّامٍ بِلَفْظِ فَلْيُصَلِّهَا وَهُوَ أَبْيَنُ لِلْمُرَادِ. وَزَادَ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ أَوْ نَامَ عَنْهَا وَلَهُ مِنْ رِوَايَةِ الْمُثَنَّى بْنِ سَعِيدٍ الضُّبَعِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ نَحْوُهُ، وَسَيَأْتِي لَفْظُهُ، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ مِنْهُ الْقَائِلُ إِنَّ الْعَامِدَ لَا يَقْضِي الصَّلَاةَ لِأَنَّ انْتِفَاءَ الشَّرْطِ يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ الْمَشْرُوطِ فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَنْسَ لَا يُصَلِّي، وَقَالَ: مَنْ قَالَ يَقْضِي الْعَامِدُ بِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَفَادٌ مِنْ مَفْهُومِ الْخِطَابِ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ التَنْبِيهِ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى، لِأَنَّهُ إِذَا وَجَبَ الْقَضَاءُ عَلَى النَّاسِي - مَعَ سُقُوطِ الْإِثْمِ وَرَفْعِ الْحَرَجِ عَنْهُ - فَالْعَامِدُ أَوْلَى. وَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ عَلَى الْعَامِدِ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ نَسِيَ لِأَنَّ النِّسْيَانَ يُطْلَقُ عَلَى التَّرْكِ سَوَاءٌ كَانَ عَنْ ذُهُولٍ أَمْ لَا، وَمِنْهُ قُوْلُهُ تَعَالَى:{نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} ، {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} قَالَ: وَيُقَوِّي ذَلِكَ قَوْلُهُ لَا كَفَّارَةَ لَهَا وَالنَّائِمُ وَالنَّاسِي لَا إِثْمَ عَلَيْهِ. قَلت: وَهُوَ بَحْثٌ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْخَبَرَ بِذِكْرِ النَّائِمِ ثَابِتٌ، وَقَدْ قَالَ فِيهِ: لَا كَفَّارَةَ لَهَا وَالْكَفَّارَةُ قَدْ تَكُونُ عَنِ الْخَطَأِ كَمَا تَكُونُ عَنِ الْعَمْدِ.
وَالْقَائِلُ بِأَنَّ الْعَامِدَ لَا يَقْضِي لَمْ يَرِدْ أَنَّهُ أَخَفُّ حَالًا مِنَ النَّاسِي، بَلْ يَقُولُ: إِنَّهُ لَوْ شُرِعَ لَهُ الْقَضَاءُ لَكَانَ هُوَ وَالنَّاسِي سَوَاءً، وَالنَّاسِي غَيْرُ مَأْثُومٍ بِخِلَافِ الْعَامِدِ فَالْعَامِدُ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ النَّاسِي فَكَيْفَ يَسْتَوِيَانِ؟ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ إِثْمَ الْعَامِدِ بِإِخْرَاجِهِ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا بَاقٍ عَلَيْهِ وَلَوْ قَضَاهَا، بِخِلَافِ النَّاسِي فَإِنَّهُ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ مُطْلَقًا، وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَى الْعَامِدِ بِالْخِطَابِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ قَدْ خُوطِبَ بِالصَّلَاةِ وَتَرَتَّبَتْ فِي ذِمَّتِهِ فَصَارَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَالدَّيْنُ لَا يَسْقُطُ إِلَّا بِأَدَائِهِ فَيَأْثَمُ بِإِخْرَاجِهِ لَهَا عَنِ الْوَقْتِ الْمَحْدُودِ لَهَا وَيَسْقُطُ عَنْهُ الطَّلَبُ بِأَدَائِهَا، فَمَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ عَامِدًا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَهُ مَعَ
بَقَاءِ إِثْمِ الْإِفْطَارِ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ مُوسَى) أَيْ دُونَ أَبِي نُعَيْمٍ (قَالَ هَمَّامٌ سَمِعْتُهُ) يَعْنِي قَتَادَةَ (يَقُولُ بَعْدُ) أَيْ فِي وَقْتٍ آخَرَ (لِلذِّكْرَى) يَعْنِي أَنَّ هَمَّامَ سَمِعَهُ مِنْ قَتَادَةَ مَرَّةً بِلَفْظِ (لِلذِّكْرَى) بِلَامَيْنِ وَفَتْحِ الرَّاءِ بَعْدَهَا أَلْفٌ مَقْصُورَةٌ - وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ أَنَّ الزُّهْرِيَّ كَانَ يَقْرَأُهَا كَذَلِكَ - وَمَرَّةً كَانَ يَقُولُهَا قَتَادَةُ بِلَفْظِ: لِذِكْرِي بِلَامٍ وَاحِدَةٍ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَهِيَ الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي ذِكْرِ الْآيَةِ هَلْ هِيَ مِنْ كَلَامِ قَتَادَةَ أَوْ هِيَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، عَنْ هَدَّابٍ قَالَ قَتَادَةُ:{وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} وَفِي رِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقِ الْمُثَنَّى، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا رَقَدَ أَحَدُكُمْ عَنِ الصَّلَاةِ أَوْ غَفَلَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} وَهَذَا ظَاهِرٌ أَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا، لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ مُوسَى عليه الصلاة والسلام، وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي الْأُصُولِ مَا لَمْ يَرِدْ نَاسِخٌ، وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ لِذِكْرِي فَقِيلَ الْمَعْنَى لِتَذْكُرَنِي فِيهَا. وَقِيلَ: لِأَذْكُرَكَ بِالْمَدْحِ، وَقِيلَ: إِذَا ذَكَرْتَهَا، أَيْ لِتَذْكِيرِي لَكَ إِيَّاهَا، وَهَذَا يُعَضِّدُ قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ لِلذِّكْرَى. وَقَالَ النَّخَعِيُّ.
اللَّامُ لِلظَّرْفِ، أَيْ إِذَا ذَكَرْتَنِي أَيْ إِذَا ذَكَرْتَ أَمْرِي بَعْدَمَا نَسِيتَ، وَقِيلَ: لَا تَذْكُرْ فِيهَا غَيْرِي، وَقِيلَ: شُكْرًا لِذِكْرِي، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ ذِكْرِي ذِكْرُ أَمْرِي، وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِذَا ذَكَرْتَ الصَّلَاةَ فَقَدْ ذَكَرْتَنِي فَإِنَّ الصَّلَاةَ عِبَادَةٌ لِلَّهِ فَمَتَى ذَكَرَهَا ذَكَرَ الْمَعْبُودَ فَكَأَنَّهُ أَرَادَ لِذِكْرِ الصَّلَاةِ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْأَوْلَى أَنْ يَقْصِدَ إِلَى وَجْهٍ يُوَافِقُ الْآيَةَ وَالْحَدِيثَ، وَكَأَنَّ الْمَعْنَى أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِهَا، لِأَنَّهُ إِذَا ذَكَرَهَا ذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى، أَوْ يَقدر مُضَافَ أَيْ: لِذِكْرِ صَلَاتِي أَوْ ذِكْرِ الضَّمِيرِ فِيهِ مَوْضِعُ الصَّلَاةِ لِشَرَفِهَا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ حَبَّانُ) هُوَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَهُوَ ابْنُ هِلَالٍ، وَأَرَادَ بِهَذَا التَّعْلِيقِ بَيَانَ سَمَاعِ قَتَادَةَ لَهُ مِنْ أَنَسٍ لِتَصْرِيحِهِ فِيهَا بِالتَّحْدِيثِ، وَقَدْ وَصَلَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَمَّارِ بْنِ رَجَاءٍ، عَنْ حَبَّانَ بْنِ هِلَالٍ، وَفِيهِ أَنَّ هَمَّامًا سَمِعَهُ مِنْ قَتَادَةَ مَرَّتَيْنِ كَمَا فِي رِوَايَةِ مُوسَى.
38 - بَاب قَضَاءِ الصَّلَوات الْأُولَى فَالْأُولَى
598 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عن هِشَامٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرِ قَالَ: جَعَلَ عُمَرُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ يَسُبُّ كُفَّارَهُمْ وَقَالَ: مَا كِدْتُ أُصَلِّي الْعَصْرَ حَتَّى غَرَبَتْ، قَالَ: فَنَزَلْنَا بُطْحَانَ فَصَلَّى بَعْدَ مَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَضَاءِ الصَّلَاةِ) وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ الصَّلَوَاتُ (الْأُولَى فَالْأُولَى) وَهَذِهِ التَّرْجَمَةُ عَبَّرَ عَنْهَا بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ: بَابُ تَرْتِيبِ الْفَوَائِتِ وَقَدْ تَقَدَّمَ نَقْلُ الْخِلَافِ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
(ويَحْيَى) الْمَذْكُورُ فِيهِ هُوَ (الْقَطَّانُ)، وَبَقِيَّةُ الْإِسْنَادِ تَقَدَّمَ قَبْلُ. وَأَوْرَدَ الْمَتْنَ هُنَا مُخْتَصَرًا، وَلَا يَنْهَضُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ لِمَنْ يَقُولُ بِوُجُوبِ تَرْتِيبِ الْفَوَائِتِ إِلَّا إِذَا قُلْنَا: إِنَّ أَفْعَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمُجَرَّدَةَ لِلْوُجُوبِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُسْتَدَلَّ لَهُ بِعُمُومِ قَوْلِهِ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي فَيَقْوَى، وَقَدِ اعْتَبَرَ ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ فِي أَشْيَاءَ غَيْرِ هَذِهِ.
39 - بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ السَّمَرِ بَعْدَ الْعِشَاءِ
599 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَوْفٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْمِنْهَالِ قَالَ: انْطَلَقْتُ مَعَ أَبِي إِلَى
أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ فَقَالَ لَهُ أَبِي: حَدِّثْنَا كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ؟ قَالَ: كَانَ يُصَلِّي الْهَجِيرَ وَهِيَ الَّتِي تَدْعُونَهَا الْأُولَى حِينَ تَدْحَضُ الشَّمْسُ وَيُصَلِّي الْعَصْرَ ثُمَّ يَرْجِعُ أَحَدُنَا إِلَى أَهْلِهِ فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ، وَنَسِيتُ مَا قَالَ فِي الْمَغْرِبِ قَالَ: وَكَانَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ الْعِشَاءَ قَالَ: وَكَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا، وَكَانَ يَنْفَتِلُ مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ حِينَ يَعْرِفُ أَحَدُنَا جَلِيسَهُ وَيَقْرَأُ مِنْ السِّتِّينَ إِلَى الْمِائَةِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ السَّمَرِ بَعْدَ الْعِشَاءِ) أَيْ بَعْدَ صَلَاتِهَا، قَالَ عِيَاضٌ: السَّمَرُ رَوَيْنَاهُ بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَقَالَ أَبُو مَرْوَانَ بْنُ سِرَاجٍ: الصَّوَابُ سُكُونُهَا لِأَنَّهُ اسْمُ الْفِعْلِ، وَأَمَّا بِالْفَتْحِ فَهُوَ اعْتِمَادُ السَّمَرِ لِلْمُحَادَثَةِ، وَأَصْلُهُ مِنْ لَوْنِ ضَوْءِ الْقَمَرِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَحَدَّثُونَ فِيهِ، وَالْمُرَادُ بِالسَّمَرِ فِي التَّرْجَمَةِ مَا يَكُونُ فِي أَمْرٍ مُبَاحٍ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ لَا اخْتِصَاصَ لِكَرَاهَتِهِ بِمَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، بَلْ هُوَ حَرَامٌ فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا، وَأَمَّا مَا يَكُونُ مُسْتَحَبًّا فَسَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.
قَوْلُهُ: (السَّامِرُ مِنَ السَّمَرِ إِلَخْ) هَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَحْدَهُ، وَاسْتُشْكِلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ لِلسَّامِرِ ذِكْرٌ فِي التَّرْجَمَةِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْمُصَنِّفَ أَرَادَ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{سَامِرًا تَهْجُرُونَ} وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلُهُ هَاهُنَا: أَيْ فِي الْآيَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْحَدِيثُ بَعْدَ الْعِشَاءِ يُسَمَّى السَّمَرُ، وَالسَّمَرُ وَالسَّامِرُ مُشْتَقَّانِ مِنَ السَّمَرِ وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى الْجَمْعِ وَالْوَاحِدِ ظَهَرَ وَجْهُ مُنَاسَبَةِ ذِكْرِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ هُنَا، وَقَدْ أَكْثَرَ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ إِذَا وَقَعَ فِي الْحَدِيثِ لَفْظَةٌ تُوَافِقُ لَفْظَةً فِي الْقُرْآنِ يُسْتَغْنَى بِتَفْسِيرِ تِلْكَ اللَّفْظَةِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَقَدِ اسْتُقْرِئَ لِلْبُخَارِيِّ أَنَّهُ إِذَا مَرَّ لَهُ لَفْظٌ مِنَ الْقُرْآنِ يَتَكَلَّمُ عَلَى غَرِيبِهِ.
وقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْبَابِ فِي بَابِ وَقْتِ الْعَصْرِ. وَمَوْضِعُ الْحَاجَةِ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ: وَكَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا لِأَنَّ النَّوْمَ قَبْلَهَا قَدْ يُؤَدِّي إِلَى إِخْرَاجِهَا عَنْ وَقْتِهَا مُطْلَقًا أَوْ عَنِ الْوَقْتِ الْمُخْتَارِ، وَالسَّمَرُ بَعْدَهَا قَدْ يُؤَدِّي إِلَى النَّوْمِ عَنِ الصُّبْحِ أَوْ عَنْ وَقْتِهَا الْمُخْتَارِ أَوْ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَضْرِبُ النَّاسَ عَلَى ذَلِكَ وَيَقُولُ: أَسَمَروا أَوَّلَ اللَّيْلِ وَنَوْمًا آخِرَهُ؟ وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ ذَلِكَ فَقَدْ يُفَرِّقُ فَارِقٌ بَيْنَ اللَّيَالِي الطِّوَالِ وَالْقِصَارِ، وَيُمْكِنُ أَنْ تُحْمَلَ الْكَرَاهَةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ حَسْمًا لِلْمَادَّةِ، لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا شُرِعَ لِكَوْنِهِ مَظِنَّةً قَدْ يَسْتَمِرُّ فَيَصِيرُ مَئنَّةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
40 - بَاب السَّمَرِ فِي الْفِقْهِ وَالْخَيْرِ بَعْدَ الْعِشَاءِ
600 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصَّبَّاحِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنَا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ: انْتَظَرْنَا الْحَسَنَ وَرَاثَ عَلَيْنَا حَتَّى قَرُبْنَا مِنْ وَقْتِ قِيَامِهِ فَجَاءَ فَقَالَ: دَعَانَا جِيرَانُنَا هَؤُلَاءِ ثُمَّ قَالَ: قَالَ أَنَسُ: نظَرْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ حَتَّى كَانَ شَطْرُ اللَّيْلِ يَبْلُغُهُ فَجَاءَ فَصَلَّى لَنَا ثُمَّ خَطَبَنَا فَقَالَ: أَلَا إِنَّ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا ثُمَّ رَقَدُوا وَإِنَّكُمْ لَمْ تَزَالُوا فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرْتُمْ الصَّلَاةَ، قَالَ الْحَسَنُ: وَإِنَّ الْقَوْمَ لَا يَزَالُونَ بِخَيْرٍ مَا انْتَظَرُوا الْخَيْرَ، قَالَ قُرَّةُ: هُوَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
601 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَأَبُو بَكْرٍ
ابْنُ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْعِشَاءِ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةٍ لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ فَوَهِلَ النَّاسُ فِي مَقَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى مَا يَتَحَدَّثُونَ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَنْ مِائَةِ سَنَةٍ، وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهَا تَخْرِمُ ذَلِكَ الْقَرْنَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ السَّمَرِ فِي الْفِقْهِ وَالْخَيْرِ بَعْدَ الْعِشَاءِ) قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمُنِيرِ: الْفِقْهُ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْخَيْرِ، لَكِنَّهُ خَصَّهُ بِالذِّكْرِ تَنْوِيهًا بِذِكْرِهِ وَتَنْبِيهًا عَلَى قَدْرِهِ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ مُحَسِّنًا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْمُرُ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ فِي الْأَمْرِ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ وَأَنَا مَعَهُمَا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صُبَاحٍ) هُوَ الْعَطَّارُ وَهُوَ بَصْرِيٌّ وَكَذَا بَقِيَّةُ رِجَالِ هَذَا الْإِسْنَادِ.
قَوْلُهُ: (انْتَظَرْنَا الْحَسَنَ) أَيِ ابْنَ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ.
قَوْلُهُ: (وَرَاثَ عَلَيْنَا) الْوَاوُ لِلْحَالِ وَرَاثَ بِمُثَلَّثَةٍ غَيْرُ مَهْمُوزٍ أَيْ أَبْطَأَ.
قَوْلُهُ: (مِنْ وَقْتِ قِيَامِهِ) أَيِ الَّذِي جَرَتْ عَادَتُهُ بِالْقُعُودِ مَعَهُمْ فِيهِ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي الْمَسْجِدِ لِأَخْذِ الْعِلْمِ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (دَعَانَا جِيرَانُنَا) بِكَسْرِ الْجِيمِ، كَأَنَّ الْحَسَنَ أَوْرَدَ هَذَا مَوْرِدَ الِاعْتِذَارِ عَنْ تَخَلُّفِهِ عَنِ الْقُعُودِ عَلَى عَادَتِهِ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَالَ) أَيِ الْحَسَنُ (قَالَ أَنَسٌ نَظَرْنَا) وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: انْتَظَرْنَا وَهُمَا بِمَعْنًى.
قَوْلُهُ: (حَتَّى كَانَ شَطْرُ اللَّيْلِ) بِرَفْعِ شَطْرٍ، وَكَانَ تَامَّةٌ، وَقَوْلُهُ:(يَبْلُغُهُ) أَيْ يَقْرُبُ مِنْهُ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ خَطَبَنَا) هُوَ مَوْضِعُ التَّرْجَمَةِ لِمَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ بَعْدَهَا أَيْ بَعْدَ صَلَاتِهَا. وَأَوْرَدَ الْحَسَنُ ذَلِكَ لِأَصْحَابِهِ مُؤْنِسًا لَهُمْ وَمُعَرِّفًا أَنَّهُمْ وَإِنْ كَانَ فَاتَهُمُ الْأَجْرُ عَلَى مَا يَتَعَلَّمُونَهُ مِنْهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ عَلَى ظَنِّهِمْ فَلَمْ يَفُتْهُمُ الْأَجْرُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ مُنْتَظِرَ الْخَيْرِ فِي خَيْرٍ فَيَحْصُلُ لَهُ الْأَجْرُ بِذَلِكَ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُمُ الْخَيْرُ فِي الْجُمْلَةِ لَا مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ، وَبِهَذَا يُجَابُ عَمَّنِ اسْتَشْكَلَ قَوْلَهُ: أَنَّهُمْ فِي صَلَاةٍ مَعَ أَنَّهُمْ جَائِزٌ لَهُمُ الْأَكْلُ وَالْحَدِيثُ وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَاسْتَدَلَّ الْحَسَنُ عَلَى ذَلِكَ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ آنَسَ أَصْحَابَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ بَعْدُ: وَأَنَّ الْقَوْمَ لَا يَزَالُونَ بِخَيْرٍ مَا انْتَظَرُوا الْخَيْرَ.
قَوْلُهُ: (قَالَ قُرَّةُ: هُوَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ) يَعْنِي الْكَلَامَ الْأَخِيرَ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَظْهَرُ لِي، لِأَنَّ الْكَلَامَ الْأَوَّلَ ظَاهِرٌ فِي كَوْنِهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْأَخِيرُ هُوَ الَّذِي لَمْ يُصَرِّحِ الْحَسَنُ بِرَفْعِهِ وَلَا بِوَصْلِهِ فَأَرَادَ قُرَّةُ الَّذِي اطَّلَعَ عَلَى كَوْنِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مَوْصُولًا مَرْفُوعًا أَنْ يَعْلَمَ مَنْ رَوَاهُ عَنْهُ بِذَلِكَ.
(تَنْبِيهٌ): أَخْرَجَ مُسْلِمٌ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصُّبَاحِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ بِإِسْنَادِهِ هَذَا حَدِيثًا خَال فَا الْبُخَارِيَّ فِيهِ فِي بَعْضِ الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ فَقَالَا: عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْحَنَفِيِّ، عَنْ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: نَظَرْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً حَتَّى كَانَ قَرِيبًا مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ، قَالَ فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى. قَالَ: فَكَأَنَّمَا أَنْظُرُ إِلى وَبِيصُ خَاتَمِهِ حَلْقَةٌ فِضَّةٌ. انْتَهَى. وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي مُسْتَخْرَجِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصُّبَاحِ كَذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ قُرَّةَ، عَنْ قَتَادَةَ، وَلَمْ يُصِبْ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ حَدِيثٌ آخَرُ كَانَ عِنْدَ أَبِي عَلِيٍّ الْحَنَفِيِّ، عَنْ قُرَّةَ أَيْضًا، وَسَمِعَهُ مِنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصُّبَاحِ كَمَا سَمِعَ مِنْهُ الْحَدِيثَ الْآخَرَ عَنْ قُرَّةَ، عَنِ الْحَسَنِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ فِي كُلٍّ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ مَا لَيْسَ فِي الْآخَرِ، وَقَدْ أَوْرَدَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجِهِ الْحَدِيثَيْنِ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ:
فَأَوْرَدَ حَدِيثَ قُرَّةَ، عَنْ قَتَادَةَ مِنْ طُرُقٍ مِنْهَا عَنْ يَزِيدَ بْنِ عُمَرَ
(1)
، عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْحَنَفِيِّ، وَحَدِيثِ قُرَّةَ، عَنِ الْحَسَنِ مِنْ رِوَايَةِ حَجَّاجِ بْنِ نُصَيْرٍ، عَنْ قُرَّةَ، وَهُوَ فِي التَّحْقِيقِ حَدِيثٌ وَاحِدٌ عَنْ أَنَسٍ اشْتَرَكَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ فِي سَمَاعِهِ مِنْهُ فَاقْتَصَرَ الْحَسَنُ عَلَى مَوْضِعِ حَاجَتِهِ مِنْهُ فَلَمْ يَذْكُرْ قِصَّةَ الْخَاتَمِ وَزَادَ مَعَ ذَلِكَ عَلَى قَتَادَةَ مَا لَمْ يَذْكُرْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَأَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ) نِسْبَةً إِلَى جَدِّهِ، وَهُوَ أَبُو بَكْرِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ كَذَلِكَ فِي بَابِ السَّمَرِ بِالْعِلْمِ مِنْ كِتَابِ الْعِلْمِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ هُنَاكَ.
قَوْلُهُ: (فَوَهِلَ النَّاسُ) أَيْ غَلِطُوا أَوْ تَوَهَّمُوا أَوْ فَزِعُوا أَوْ نَسَوْا، وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ هُنَا، وَقِيلَ: وَهَلَ بِالْفَتْحِ بِمَعْنَى وَهِمَ بِالْكَسْرِ وَوَهِلَ بِالْكَسْرِ مِثْلُهُ، وَقِيلَ بِالْفَتْحِ غَلِطَ، وَبِالْكَسْرِ فَزِعَ.
قَوْلُهُ: (فِي مَقَالَةٍ) وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، والْكُشْمِيهَنِيِّ مِنْ مَقَالَةٍ.
قَوْلُهُ: (إِلَى مَا يَتَحَدَّثُونَ فِي هَذِهِ) وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مِنْ هَذِهِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ مِائَةِ سَنَةٍ) لِأَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ السَّاعَةَ تَقُومُ عِنْدَ تَقَضِّي مِائَةِ سَنَةٍ كَمَا رَوَى ذَلِكَ الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ، وَرَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَقَدْ بَيَّنَ ابْنُ عُمَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مُرَادَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّ مُرَادَهُ أَنَّ عِنْدَ انْقِضَاءِ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْ مَقَالَتِهِ تِلْكَ يَنْخَرِمُ ذَلِكَ الْقَرْنُ فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ مِمَّنْ كَانَ مَوْجُودًا حَالَ تِلْكَ الْمَقَالَةِ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ بِالِاسْتِقْرَاءِ فَكَانَ آخِرَ مَنْ ضُبِطَ أَمْرُهُ مِمَّنْ كَانَ مَوْجُودًا حِينَئِذٍ أَبُو الطُّفَيْلِ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ، وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ آخِرَ الصَّحَابَةِ مَوْتًا، وَغَايَةُ مَا قِيلَ فِيهِ إِنَّهُ بَقِيَ إِلَى سَنَةِ عَشْرٍ وَمِائَةٍ وَهِيَ رَأْسُ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْ مَقَالَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ: احْتَجَّ الْبُخَارِيُّ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَوْتِ الْخَضِرِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ، وَأَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّ الْخَضِرَ كَانَ حِينَئِذٍ مِنْ سَاكِنِي الْبَحْرِ فَلَمْ يَدْخُلْ فِي الْحَدِيثِ، قَالُوا: وَمَعْنَى الْحَدِيثِ لَا يَبْقَى مِمَّنْ تَرَوْنَهُ أَوْ تَعْرِفُونَهُ، فَهُوَ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ.
وَقِيلَ: احْتَرَزَ بِالْأَرْضِ عَنِ الْمَلَائِكَةِ، وَقَالُوا: خَرَجَ عِيسَى مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ حَيٌّ لِأَنَّهُ فِي السَّمَاءِ لَا فِي الْأَرْضِ، وَخَرَجَ إِبْلِيسُ لِأَنَّهُ عَلَى الْمَاءِ أَوْ فِي الْهَوَاءِ، وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ: إِنَّ اللَّامَ فِي الْأَرْضِ عَهْدِيَّةٌ وَالْمُرَادُ أَرْضُ الْمَدِينَةِ، وَالْحَقُّ أَنَّهَا لِلْعُمُومِ وَتَتَنَاوَلُ جَميْعَ بَنِي آدَمَ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ سَوَاءٌ أُمَّةُ الْإِجَابَةِ وَأُمَّةُ الدَّعْوَةِ، وَخَرَجَ عِيسَى وَالْخَضِرُ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أُمَّتِهِ، فَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ عِيسَى يَحْكُمُ بِشَرِيعَتِهِ فَيَكُونُ مِنْ أُمَّتِهِ، وَالْقَوْلُ فِي الْخَضِرِ إِنْ كَانَ حَيًّا كَالْقَوْلِ فِي عِيسَى
(2)
، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
41 - بَاب السَّمَرِ مَعَ الضَّيْفِ وَالْأَهْلِ
602 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ أَصْحَابَ الصُّفَّةِ كَانُوا أُنَاسًا فُقَرَاءَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ بِثَالِثٍ، وَإِنْ أَرْبَعٌ فَخَامِسٌ أَوْ سَادِسٌ، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ جَاءَ بِثَلَاثَةٍ فَانْطَلَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَشَرَةٍ قَالَ: فَهُوَ أَنَا وَأَبِي وَأُمِّي - فَلَا أَدْرِي قَالَ: وَامْرَأَتِي - وَخَادِمٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَ بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ تَعَشَّى عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ
(1)
في مخطوطة الرياض " زيد بن عمر "
(2)
الذي عليه أهل التحقيق أن الخضر قد مات قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم لأدلة كثيرة معروفة في محلها، ولو كان حيا في حياة النبي عليه الصلاة والسلام لدخل في هذا الحديث وكان ممن أتى عليه الموت قبل رأس المائة كما أشار إليه الشارح هنا. فتنبه والله أعلم.
لَبِثَ حَيْثُ صُلِّيَتْ الْعِشَاءُ ثُمَّ رَجَعَ فَلَبِثَ حَتَّى تَعَشَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَ بَعْدَ مَا مَضَى مِنْ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ. قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: وَمَا حَبَسَكَ عَنْ أَضْيَافِكَ - أَوْ قَالَتْ ضَيْفِكَ - قَالَ: أَوَمَا عَشَّيْتِيهِمْ؟ قَالَتْ: أَبَوْا حَتَّى تَجِيءَ قَدْ عُرِضُوا فَأَبَوْا، قَالَ: فَذَهَبْتُ أَنَا فَاخْتَبَأْتُ فَقَالَ: يَا غُنْثَرُ - فَجَدَّعَ وَسَبَّ - وَقَالَ: كُلُوا لَا هَنِيئًا.
فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَطْعَمُهُ أَبَدًا وَأيْمُ اللَّهِ مَا كُنَّا نَأْخُذُ مِنْ لُقْمَةٍ إِلَّا رَبَا مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرُ مِنْهَا، قَالَ: يَعْنِي حَتَّى شَبِعُوا وَصَارَتْ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ فَإِذَا هِيَ كَمَا هِيَ أَوْ أَكْثَرُ مِنْهَا فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: يَا أُخْتَ بَنِي فِرَاسٍ مَا هَذَا؟ قَالَتْ: لَا وَقُرَّةِ عَيْنِي، لَهِيَ الْآنَ أَكْثَرُ مِنْهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِثَلَاثِ مَرَّاتٍ فَأَكَلَ مِنْهَا أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ الشَّيْطَانِ - يَعْنِي يَمِينَهُ - ثُمَّ أَكَلَ مِنْهَا لُقْمَةً ثُمَّ حَمَلَهَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَصْبَحَتْ عِنْدَهُ وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ عَقْدٌ فَمَضَى الْأَجَلُ فَفَرَّقَنَا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أُنَاسٌ اللَّهُ أَعْلَمُ كَمْ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ، فَأَكَلُوا مِنْهَا أَجْمَعُونَ أَوْ كَمَا قَالَ.
[الحديث 602 - أطرافه في: 6141، 6140، 3581]
قَوْلُهُ: (بَابُ السَّمَرِ مَعَ الْأَهْلِ وَالضَّيْفِ) قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمُنِيرِ مَا مُحَصِّلُهُ: اقْتَطَعَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْبَابَ مِنْ بَابِ السَّمَرِ فِي الْفِقْهِ وَالْخَيْرِ لِانْحِطَاطِ رُتْبَتِهِ عَنْ مُسَمَّى الْخَيْرِ، لِأَنَّ الْخَيْرَ مُتَمَحِّضٌ لِلطَّاعَةِ لَا يَقَعُ عَلَى غَيْرِهَا، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ السَّمَرِ خَارِجٌ عَنْ أَصْلِ الضِّيَافَةِ وَالصِّلَةِ الْمَأْمُورِ بِهِمَا، فَقَدْ يَكُونُ مُسْتَغْنًى عَنْهُ فِي حَقِّهِمَا فَيَلْتَحِقُ بِالسَّمَرِ الْجَائِزِ أَوِ الْمُتَرَدِّدِ بَيْنَ الْإِبَاحَةِ وَالنَّدْبِ. وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ أَبِي بَكْرٍ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ اشْتِغَالُ أَبِي بَكْرٍ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ بِمَجِيئِهِ إِلَى بَيْتِهِ وَمُرَاجَعَتِهِ لِخَبَرِ الْأَضْيَافِ وَاشْتِغَالِهِ بِمَا دَارَ بَيْنَهُمْ، وَذَلِكَ كُلُّهُ فِي مَعْنَى السَّمَرِ، لِأَنَّهُ سَمَرٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى مُخَاطَبَةٍ وَمُلَاطَفَةٍ وَمُعَاتَبَةٍ. انْتَهَى.
قَوْله: (كَانُوا أُنَاسًا) لِلْكُشْمِيهَنِيِّ كَانُوا نَاسًا.
قَوْله: (فَهُوَ أَنَا وَأَبِي) زَادَ الْكُشْمِيهَنِيُّ وَأُمِّي وَلِلْمُسْتَمْلِي فَهُوَ وَأَنَا وَأُمِّي.
قَوْله: (ثُمَّ لَبِثَ حَيْثُ صَلَّيْتُ الْعِشَاءَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ حَتَّى بَدَلَ حَيْثُ.
قَوْله: (فَفَرَّقَنَا) أَيْ جَعَلَنَا فِرَقًا، وَسَنَذْكُرُ فَوَائِدَ هَذَا الْحَدِيثِ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَغَيْرِهَا فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ مُفَصَّلًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَ كِتَابُ الْمَوَاقِيتِ عَلَى مِائَةِ حَدِيثٍ وَسَبْعَةَ عَشَرَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْ ذَلِكَ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ حَدِيثًا وَالْبَاقِي مَوْصُولٌ، الْخَالِصُ مِنْهَا ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ حَدِيثًا وَالْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا تَقَدَّمَ تِسْعَةٌ وَسِتُّونَ حَدِيثًا، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى جَمِيعِهَا سِوَى ثَلَاثَةِ عَشَرَ حَدِيثًا، وَهِيَ حَدِيثُ أَنَسٍ فِي السُّجُودِ عَلَى الظَّهَائِرِ وَقَدْ أَخْرَجَ مَعْنَاهُ، وَحَدِيثُهُ مَا أَعْرِفُ شَيْئًا وَحَدِيثُهُ فِي الْمَعْنَى هَذِهِ الصَّلَاةُ قَدْ ضُيِّعَتْ وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَبْرِدُوا وَكَذَا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ إِنَّمَا بَقَاؤُكُم فِيمَا سَلَفَ قَبْلَكُمْ وَحَدِيثُ أَبِي مُوسَى مَثَلُ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَحَدِيثُ أَنَسٍ كُنَّا نُصَلِّي الْعَصْرَ وَقَدِ اتَّفَقَا عَلَى أَصْلِهِ، وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ لَا يَغْلِبَنَّكُمُ الْأَعْرَابُ وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ وَحَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ كُنْتُ أَتَسَحَّرُ وَحَدِيثُ مُعَاوِيَةَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَحَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ فِي النَّوْمِ عَنِ الصُّبْحِ، عَلَى أَنَّ مُسْلِمًا أَخْرَجَ أَصْلَ الْحَدِيثِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ لَكِنْ بَيَّنَّا فِي الشَّرْحِ أَنَّهُمَا حَدِيثَانِ لِقِصَّتَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ الْمَوْقُوفَةِ ثَلَاثَةُ آثَارٍ وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
بسم الله الرحمن الرحيم
10 - كِتَاب الْأَذَانِ
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - كِتَابُ أَبْوَابِ الْأَذَانِ) الْأَذَانُ لُغَةً الْإِعْلَامُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْأَذَنِ بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ الِاسْتِمَاعُ. وَشَرْعًا الْإِعْلَامُ بِوَقْتِ الصَّلَاةِ بِأَلْفَاظٍ مَخْصُوصَةٍ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ: الْأَذَانُ عَلَى قِلَّةِ أَلْفَاظِهِ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَسَائِلِ الْعَقِيدَةِ لِأَنَّهُ بَدَأَ بِالْأَكْبَرِيَّةِ وَهِيَ تَتَضَمَّنُ وُجُودَ اللَّهِ وَكَمَالَهُ، ثُمَّ ثَنَّى بِالتَّوْحِيدِ وَنَفْيِ الشَّرِيكِ، ثُمَّ بِإِثْبَاتِ الرِّسَالَةِ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ دَعَا إِلَى الطَّاعَةِ الْمَخْصُوصَةِ عَقِبَ الشَّهَادَةِ بِالرِّسَالَةِ لِأَنَّهَا لَا تُعْرَفُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ، ثُمَّ دَعَا إِلَى الْفَلَاحِ وَهُوَ الْبَقَاءُ الدَّائِمُ وَفِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْمَعَادِ، ثُمَّ أَعَادَ مَا أَعَادَ تَوْكِيدًا. وَيَحْصُلُ مِنَ الْأَذَانِ الْإِعْلَامُ بِدُخُولِ الْوَقْتِ، وَالدُّعَاءُ إِلَى الْجَمَاعَةِ، وَإِظْهَارُ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ. وَالْحِكْمَةُ فِي اخْتِيَارِ الْقَوْلِ لَهُ دُونَ الْفِعْلِ سُهُولَةُ الْقَوْلِ وَتَيَسُّرُهُ لِكُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَاخْتُلِفَ أَيُّمَا أَفْضَلُ الْأَذَانُ أَوِ الْإِمَامَةُ؟ ثَالِثُهَا إِنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ الْقِيَامَ بِحُقُوقِ الْإِمَامَةِ فَهِيَ أَفْضَلُ وَإِلَّا فَالْأَذَانُ، وَفِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ مَا يُومِئُ إِلَيْهِ.
وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فَقِيلَ: يُكْرَهُ، وَفِي الْبَيْهَقِيِّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ لَكِنَّ سَنَدَهُ ضَعِيفٌ، وَصَحَّ عَنْ عُمَرَ لَوْ أُطِيقُ الْأَذَانَ مَعَ الْخِلَافَةِ لَأَذَّنْتُ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ هُوَ خِلَافُ الْأَوْلَى، وَقِيلَ: يُسْتَحَبُّ وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ.
1 - بَاب بَدْءُ الْأَذَانِ
وَقَوْلُهُ عز وجل {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} وَقَوْلُهُ {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ}
603 -
حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسِ قَالَ: ذَكَرُوا النَّارَ وَالنَّاقُوسَ فَذَكَرُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فَأُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ وَأَنْ يُوتِرَ الْإِقَامَةَ.
[الحديث 603 - أطرافه 3457، 607، 606، 605]
604 -
حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَجْتَمِعُونَ فَيَتَحَيَّنُونَ الصَّلَاةَ لَيْسَ يُنَادَى لَهَا فَتَكَلَّمُوا يَوْمًا فِي ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ اتَّخِذُوا نَاقُوسًا مِثْلَ نَاقُوسِ النَّصَارَى وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ بُوقًا مِثْلَ قَرْنِ الْيَهُودِ فَقَالَ عُمَرُ أَوَلَا تَبْعَثُونَ رَجُلًا يُنَادِي بِالصَّلَاةِ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَا بِلَالُ قُمْ فَنَادِ بِالصَّلَاةِ"
قوله: (بَابُ بَدْءِ الْأَذَانِ) أَيِ ابْتِدَائِهِ. وَسَقَطَ لَفْظُ بَابُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَكَذَلِكَ سَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ مِنْ رِوَايَةِ الْقَابِسِيِّ وَغَيْرِهِ.
قَوْله: (وَقَوْلُ اللَّهِ عز وجل: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} الْآيَةَ يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ الْأَذَانِ كَانَ بِالْمَدِينَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا سَمِعُوا الْأَذَانَ قَالُوا: لَقَدِ ابْتَدَعْتَ يَا مُحَمَّدُ شَيْئًا لَمْ
يَكُنْ فِيمَا مَضَى، فَنَزَلَتْ {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} الْآيَةَ.
قَوْله: (وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} يُشِيرُ بِذَلِكَ أَيْضًا إِلَى الِابْتِدَاءِ، لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْجُمُعَةِ إِنَّمَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِهِ. وَاخْتُلِفَ فِي السَّنَةِ الَّتِي فُرِضَ فِيهَا: فَالرَّاجِحُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي السَّنَةِ الْأُولَى، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ فَرْضَ الْأَذَانِ نَزَلَ مَعَ هَذِهِ الْآيَةِ. أَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخِ.
(تَنْبِيهٌ): الْفَرْقُ بَيْنَ مَا فِي الْآيَتَيْنِ مِنَ التَّعْدِيَةِ بِإِلَى وَاللَّامِ أَنَّ صِلَاتِ الْأَفْعَالِ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ مَقَاصِدِ الْكَلَامِ، فَقَصَدَ فِي الْأُولَى مَعْنَى الِانْتِهَاءِ وَفِي الثَّانِيَةِ مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ قَالَهُ الْكِرْمَانِيُّ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ بِمَعْنَى إِلَى أَوِ الْعَكْسُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْبَابِ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْأَذَانَ إِنَّمَا شُرِعَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، فَإِنَّهُ نَفَى النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ ذَلِكَ مُطْلَقًا. وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: يَا بِلَالُ قُمْ فَنَادِ بِالصَّلَاةِ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ رُؤْيَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، وَسِيَاقُ حَدِيثهِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ، فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَفِي آخِرِهِ: فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ أُرِيَ عَبْدُ اللَّهِ النِّدَاءَ فَذَكَرَ الرُّؤْيَا وَفِيهَا صِفَةُ الْأَذَانِ لَكِنْ بِغَيْرِ تَرْجِيعٍ، وَفِيهِ تَرْبِيعُ التَّكْبِيرِ وَإِفْرَادُ الْإِقَامَةِ وَتَثْنِيَةُ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ وَفِي آخِرِهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: إِنَّهَا لَرُؤْيَا حَقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَقُمْ مَعَ بِلَالٍ فَأَلْقِهَا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ وَفِيهِ مَجِيءُ عُمَرَ وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ رَأَى مِثْلَ ذَلِكَ، وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ فِي تَرْجَمَةِ بَدْءِ الْأَذَانِ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ مَعَ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَإِنَّمَا لَمْ يُخَرِّجْهُ الْبُخَارِيُّ لِأَنَّهُ عَلَى غَيْرِ شَرْطِهِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ مِنْ طُرُقٍ، وَحَكَى ابْنُ خُزَيْمَةَ، عَنِ الذُّهْلِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ فِي طُرُقِهِ أَصَحُّ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ، وَشَاهِدُهُ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مُرْسَلًا - وَمِنْهُمْ مَنْ وَصَلَهُ عَنْ سَعِيدٍ - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، وَالْمُرْسَلُ أَقْوَى إِسْنَادًا. وَوَقَعَ فِي الْأَوْسَطِ لِلطَّبَرَانِيِّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَيْضًا رَأَى الْأَذَانَ، وَوَقَعَ فِي الْوَسِيطِ لِلْغَزَالِيِّ أَنَّهُ رَآهُ بِضْعَةُ عَشَرَ رَجُلًا، وَعِبَارَةُ الْجِيلِيِّ فِي شَرْحِ التَنْبِيهِ أَرْبَعَةُ عَشَرَ رَجُلًا، وَأَنْكَرَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ ثُمَّ النَّوَوِيُّ، وَنَقَلَ مُغْلَطَايْ أَنَّ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ رَآهُ سَبْعَةٌ، وَلَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، وَقِصَّةُ عُمَرَ جَاءَتْ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ وَفِي مُسْنَدِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ بِسَنَدٍ وَاهٍ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَذَّنَ بِالصَّلَاةِ جِبْرِيلُ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا، فَسَمِعَهُ عُمَرُ وَبِلَالٌ، فَسَبَقَ عُمَرُ بِلَالًا فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ جَاءَ بِلَالٌ فَقَالَ لَهُ: سَبَقَكَ بِهَا عُمَرُ.
(فَائِدَتَانِ): الْأُولَى: وَرَدَتْ أَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَذَانَ شُرِعَ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، مِنْهَا لِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ الْأَذَانَ فَنَزَلَ بِهِ فَعَلَّمَهُ بِلَالًا. وَفِي إِسْنَادِهِ طَلْحَةُ بْنُ زَيْدٍ وَهُوَ مَتْرُوكٌ. وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ فِي الْأَطْرَافِ
(1)
مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ جِبْرِيلَ أَمَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِالْأَذَانِ حِينَ فُرِضَتِ الصَّلَاةُ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ أَيْضًا. وَلِابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: لَمَّا أُسْرِيَ بِي أَذَّنَ جِبْرِيلُ فَظَنَّتِ الْمَلَائِكَةُ أَنَّهُ يُصَلِّي بِهِمْ فَقَدَّمَنِي فَصَلَّيْتُ، وَفِيهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ. وَلِلْبَزَّارِ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ قَالَ: لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُعَلِّمَ رَسُولَهُ الْأَذَانَ أَتَاهُ جِبْرِيلُ بِدَابَّةٍ يُقَالُ لَهَا الْبُرَاقُ فَرَكِبَهَا. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: إِذْ خَرَجَ مَلَكٌ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، وَفِي آخِرِهِ: ثُمَّ أَخَذَ الْمَلَكُ بِيَدِهِ فَأَمَّ بِأَهْلِ السَّمَاءِ. وَفِي إِسْنَادِهِ زِيَادُ بْنُ الْمُنْذِرِ أَبُو الْجَارُودِ وَهُوَ مَتْرُوكٌ أَيْضًا.
وَيُمْكِنُ عَلَى تَقْدِيرِ الصِّحَّةِ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى تَعَدُّدِ
(1)
في مخطوطة الرياض"الافراد"
الْإِسْرَاءِ فَيَكُونُ ذَلِكَ وَقَعَ بِالْمَدِينَةِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْقُرْطُبِيِّ: لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ سَمِعَهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا فِي حَقِّهِ، فَفِيهِ نَظَرٌ لِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِهِ: لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُعَلِّمَ رَسُولَهُ الْأَذَانَ، وَكَذَا قَوْلُ الْمُحِبِّ الطَّبَرِيِّ يُحْمَلُ الْأَذَانُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَهُوَ الْإِعْلَامُ فَفِيهِ نَظَرٌ أَيْضًا لِتَصْرِيحِهِ بِكَيْفِيَّتِهِ الْمَشْرُوعَةِ فِيهِ. وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ. وَقَدْ جَزَمَ ابْنُ الْمُنْذِرِ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي بِغَيْرِ أَذَانٍ مُنْذُ فُرِضَتِ الصَّلَاةُ بِمَكَّةَ إِلَى أَنْ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَإِلَى أَنْ وَقَعَ التَّشَاوُرُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ثُمَّ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ. انْتَهَى.
وَقَدْ حَاوَلَ السُّهَيْلِيُّ
(1)
الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فَتَكَلَّفَ وَتَعَسَّفَ، وَالْأَخْذُ بِمَا صَحَّ أَوْلَى، فَقَالَ بَانِيًا عَلَى صِحَّةِ
(2)
الْحِكْمَةُ فِي مَجِيءِ الْأَذَانِ عَلَى لِسَانِ الصَّحَابِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَهُ فَوْقَ سَبْعِ سَمَوَاتٍ وَهُوَ أَقْوَى مِنَ الْوَحْيِ، فَلَمَّا تَأَخَّرَ الْأَمْرُ بِالْأَذَانِ عَنْ فَرْضِ الصَّلَاةِ وَأَرَادَ إِعْلَامَهُمْ بِالْوَقْتِ فَرَأَى الصَّحَابِيُّ الْمَنَامَ فَقَصَّهَا فَوَافَقَتْ مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَهُ فَقَالَ: إِنَّهَا لَرُؤْيَا حَقٌّ، وَعَلِمَ حِينَئِذٍ أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ بِمَا أَرَاهُ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَكُونَ سُنَّةً فِي الْأَرْضِ، وَتَقَوَّى ذَلِكَ بِمُوَافَقَةِ عُمَرَ لِأَنَّ السَّكِينَةَ تَنْطِقُ عَلَى لِسَانِهِ، وَالْحِكْمَةُ أَيْضًا فِي إِعْلَامِ النَّاسِ بِهِ عَلَى غَيْرِ لِسَانِهِ صلى الله عليه وسلم التَّنْوِيهُ بِقَدْرِهِ وَالرَّفْعِ لِذِكْرِهِ بِلِسَانِ غَيْرِهِ لِيَكُونَ أَقْوَى لِأَمْرِهِ وَأَفْحَمَ لِشَأْنِهِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.
وَالثَّانِي: حَسَنٌ بَدِيعٌ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ عَدَمُ الِاكْتِفَاءِ بِرُؤْيَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ حَتَّى أُضِيفَ عُمَرُ لِلتَّقْوِيَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا. لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: فَلِمَ لَا أَقْتَصِرُ عَلَى عُمَرَ؟ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ لِيَصِيرَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ، وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ ضَعِيفَةٍ سَبَقَتْ مَا ظَاهِرُهُ أَنَّ بِلَالًا أَيْضًا رَأَى لَكِنَّهَا مُؤَوَّلَةٌ فَإِنَّ لَفْظَهَا سَبَقَكَ بِهَا بِلَالٌ فَيُحْمَلُ الْمُرَادُ بِالسَّبْقِ عَلَى مُبَاشَرَةِ التَّأْذِينِ بِرُؤْيَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ. وَمِمَّا كَثُرَ السُّؤَالُ عَنْهُ هَلْ بَاشَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْأَذَانَ بِنَفْسِهِ؟ وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ السُّهَيْلِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَذَّنَ فِي سَفَرٍ وَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ وَهُمْ عَلَى رَوَاحِلِهِمُ السَّمَاءُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَالْبِلَّةُ مِنْ أَسْفَلِهِمْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقٍ تَدُورُ عَلَى عُمَرَ بْنِ الرَّمَّاحِ يَرْفَعُهُ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ اهـ.
وَلَيْسَ هُوَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ حَدِيثِ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ، وَكَذَا جَزَمَ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَذَّنَ مَرَّةً فِي السَّفَرِ وَعَزَاهُ لِلتِّرْمِذِيِّ وَقَوَّاهُ، وَلَكِنْ وَجَدْنَاهُ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَلَفْظُهُ فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ فَعَرَفَ أَنَّ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ اخْتِصَارًا وَأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: أَذَّنَ أَمَرَ بِلَالًا بِهِ كَمَا يُقَالُ: أَعْطَى الْخَلِيفَةُ الْعَالِمَ الْفُلَانِيَّ أَلْفًا، وَإِنَّمَا بَاشَرَ الْعَطَاءَ غَيْرُهُ وَنُسِبَ لِلْخَلِيفَةِ لِكَوْنِهِ آمِرًا بِهِ. وَمِنْ أَغْرَبِ مَا وَقَعَ فِي بَدْءِ الْأَذَانِ مَا رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ بِسَنَدٍ فِيهِ مَجْهُولٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: أُخِذَ الْأَذَانُ مِنْ أَذَانِ إِبْرَاهِيمَ {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} الْآيَةَ. قَالَ: فَأَذَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَا رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ بِسَنَدٍ فِيهِ مَجَاهِيلُ أَنَّ جِبْرِيلَ نَادَى بِالْأَذَانِ لِآدَمَ حِينَ أُهْبِطَ مِنَ الْجَنَّةِ.
(الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ): قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: أَعْرَضَ الْبُخَارِيُّ عَنِ التَّصْرِيحِ بِحُكْمِ الْأَذَانِ لِعَدَمِ إِفْصَاحِ الْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِيهِ عَنْ حُكْمٍ مُعَيَّنٍ، فَأَثْبَتَ مَشْرُوعِيَّتَهُ وَسَلِمَ مِنَ الِاعْتِرَاضِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ، وَمَنْشَأُ الِاخْتِلَافِ أَنَّ مَبْدَأَ الْأَذَانِ لَمَّا كَانَ عَنْ مَشُورَةٍ أَوْقَعَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَصْحَابِهِ حَتَّى اسْتَقَرَّ بِرُؤْيَا بَعْضِهِمْ فَأَقَرَّهُ كَانَ ذَلِكَ بِالْمَنْدُوبَاتِ أَشْبَهَ، ثُمَّ لَمَّا وَاظَبَ عَلَى تَقْرِيرِهِ وَلَمْ يُنْقَلُ أَنَّهُ تَرَكَهُ وَلَا أَمَرَ بِتَرْكِهِ وَلَا رَخَّصَ فِي تَرْكِهِ كَانَ ذَلِكَ بِالْوَاجِبَاتِ أَشْبَهَ. انْتَهَى. وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْله: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ، وَخَالِدُ هُوَ الْحَذَّاءُ كَمَا ثَبَتَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.
قَوْله: (ذَكَرُوا النَّارَ وَالنَّاقُوسَ
(1)
في الروض الانف 2: 19
(2)
كذا. وفيه سقط، ولعل الصواب " بانيا على صحة ماورد في ذلك.
فَذَكَرُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى) كَذَا سَاقَهُ عَبْدُ الْوَارِثِ مُخْتَصَرًا، وَرِوَايَةُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْآتِيَةُ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ أَوْضَحُ قَلِيلًا حَيْثُ قَالَ: لَمَّا كَثُرَ النَّاسُ ذَكَرُوا أَنْ يَعْلَمُوا وَقْتَ الصَّلَاةِ بِشَيْءٍ يَعْرِفُونَهُ، فَذَكَرُوا أَنْ يُورُوا نَارًا أَوْ يَضْرِبُوا نَاقُوسًا وَأَوْضَحُ مِنْ ذَلِكَ رِوَايَةُ رَوْحِ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ خَالِدٍ عِنْدَ أَبِي الشَّيْخِ وَلَفْظُهُ فَقَالُوا: لَوِ اتَّخَذْنَا نَاقُوسًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاكَ لِلنَّصَارَى. فَقَالُوا: لَوِ اتَّخَذْنَا بُوقًا، فَقَالَ: ذَاكَ لِلْيَهُودِ. فَقَالُوا: لَوْ رَفَعْنَا نَارًا، فَقَالَ: ذَاكَ لِلْمَجُوسِ فَعَلَى هَذَا فَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَارِثِ اخْتِصَارٌ كَأَنَّهُ كَانَ فِيهِ: ذَكَرُوا النَّارَ وَالنَّاقُوسَ وَالْبُوقَ فَذَكَرُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَاللَّفُّ وَالنَّشْرُ فِيهِ مَعْكُوسٌ، فَالنَّارُ لِلْمَجُوسِ وَالنَّاقُوسُ لِلنَّصَارَى وَالْبُوقُ لِلْيَهُودِ. وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ التَّنْصِيصُ عَلَى أَنَّ الْبُوقَ لِلْيَهُودِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ النَّارُ وَالْبُوقُ جَمِيعًا لِلْيَهُودِ جَمْعًا بَيْنَ حَدِيثَيْ أَنَسٍ، وَابْنِ عُمَرَ. انْتَهَى. وَرِوَايَةُ رَوْحٍ تُغْنِي عَنْ هَذَا الِاحْتِمَالِ.
قَوْله:: (فَأُمِرَ بِلَالٌ) هَكَذَا فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَأَهْلُ الْأُصُولِ فِي اقْتِضَاءِ هَذِهِ الصِّيغَةِ لِلرَّفْعِ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ مُحَقِّقِي الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا تَقْتَضِيهِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمْرِ مَنْ لَهُ الْأَمْرُ الشَّرْعِيُّ الَّذِي يَلْزَمُ اتِّبَاعُهُ وَهُوَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ هُنَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَنَّ التَّقْرِيرَ فِي الْعِبَادَةِ إِنَّمَا يُؤْخَذُ عَنْ تَوْقِيفٍ فَيَقْوَى جَانِبُ الرَّفْعِ جِدًّا. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ رَوْحِ بْنِ عَطَاءٍ الْمَذْكُورَةِ فَأَمَرَ بِلَالًا بِالنَّصْبِ وَفَاعِلُ أَمَرَ هُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ بَيِّنٌ فِي سِيَاقِهِ. وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ رِوَايَةُ النَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بِلَفْظِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِلَالًا قَالَ الْحَاكِمُ: صَرَّحَ بِرَفْعِهِ إِمَامُ الْحَدِيثِ بِلَا مُدَافَعَةٍ قُتَيْبَةُ. قُلْتُ: وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ مَرْوَانَ الْمَرْوَزِيِّ، عَنْ قُتَيْبَةَ، وَيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ، وَطَرِيقُ يَحْيَى عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ أَيْضًا، وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ عَبْدُ الْوَهَّابِ. وَقَدْ رَوَاهُ الْبَلَاذُرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ الْحَنَّاطِ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ: وَقَضِيَّةُ وُقُوعِ ذَلِكَ عَقِبَ الْمُشَاوَرَةِ فِي أَمْرِ النِّدَاءِ إِلَى الصَّلَاةِ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْآمِرَ بِذَلِكَ هُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا غَيْرُهُ كَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَاسْتَدَلَّ بِوُرُودِ الْأَمْرِ بِهِ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الْأَذَانِ.
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْأَمْرَ إِنما وَرَدَ بِصِفَةِ الْأَذَانِ لَا بِنَفْسِهِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ الْأَمْرُ بِالصِّفَةِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ مَأْمُورًا بِهِ، قَالَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ. وَمِمَّنْ قَالَ بِوُجُوبِهِ مُطْلَقًا: الْأَوْزَاعِيُّ، وَدَاوُدُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ، وَحَكَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَقِيلَ: وَاجِبٌ فِي الْجُمُعَةِ فَقَطْ، وَقِيلَ: فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ مِنَ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مُنْشَأِ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ، وَأَخْطَأَ مَنِ اسْتَدَلَّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ بِالْإِجْمَاعِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْله: (إِنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ.
قَوْله: (حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ) أَيْ مِنْ مَكَّةَ فِي الْهِجْرَةِ.
قَوْله: (فَيَتَحَيَّنُونَ) بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ تَحْتَانِيَّةٌ ثُمَّ نُونٌ، أَيْ يُقَدِّرُونَ أَحْيَانَهَا لِيَأْتُوا إِلَيْهَا، وَالْحِينُ الْوَقْتُ وَالزَّمَانُ.
قَوْله: (لَيْسَ يُنَادَى لَهَا) بِفَتْحِ الدَّالِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: فِيهِ جَوَازُ اسْتِعْمَالِ لَيْسَ حَرْفًا لَا اسْمٌ لَهَا وَلَا خَبَرٌ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ سِيبَوَيْهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْمُهَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا خَبَرٌ.
قُلْتُ: وَرِوَايَةُ مُسْلِمٍ تُؤَيِّدُ ذَلِكَ، فَإِنَّ لَفْظَهُ لَيْسَ يُنَادِي بِهَا أَحَدٌ.
قَوْله: (فَتَكَلَّمُوا يَوْمًا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمُ اتَّخِذُوا) لَمْ يَقَعْ لِي تَعَيُّنُ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي ذَلِكَ، وَاخْتَصَرَ الْجَوَابَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَوَقَعَ لِابْنِ مَاجَهْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَشَارَ النَّاسَ لِمَا يَجْمَعُهُمْ إِلَى الصَّلَاةِ، فَذَكَرُوا الْبُوقَ، فَكَرِهَهُ مِنْ أَجْلِ الْيَهُودِ. ثُمَّ ذَكَرُوا النَّاقُوسَ، فَكَرِهَهُ مِنْ أَجْلِ النَّصَارَى، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ رِوَايَةُ رَوْحِ بْنِ عَطَاءٍ نَحْوَهُ. وَفِي الْبَابِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ عِنْدَ أَبِي الشَّيْخِ، وَعِنْدَ أَبِي عُمَيْرِ بْنِ أَنَسٍ
عَنْ عُمُومَتِهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ.
قَوْله: (بَلْ بُوقًا) أَيْ بَلِ اتَّخِذُوا بُوقًا، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بَلْ قَرْنًا وَهِيَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ، وَالنَّسَائِيِّ. وَالْبُوقُ وَالْقَرْنُ مَعْرُوفَانِ، وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ يُنْفَخُ فِيهِ فَيَجْتَمِعُونَ عِنْدَ سَمَاعِ صَوْتِهِ، وَهُوَ مِنْ شِعَارِ الْيَهُودِ، وَيُسَمَّى أَيْضًا الشَّبُّورُ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ الْمَفْتُوحَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ الْمَضْمُومَةِ الثَّقِيلَةِ.
قَوْله: (فَقَالَ عُمَرُ أَوَلَا) الْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ كَمَا فِي نَظَائِرِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْهَمْزَةُ إِنْكَارٌ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى، أَيِ الْمُقَدَّرَةِ وَتَقْرِيرٌ لِلْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ.
قَوْلُهُ: (رَجُلًا) زَادَ الْكُشْمِيهَنِيُّ مِنْكُمْ.
قَوْله: (يُنَادَى) قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ لَمَّا أَخْبَرَ بِرُؤْيَاهُ وَصَدَّقَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَادَرَ عُمَرُ فَقَالَ: أَوَلَا تَبْعَثُونَ رَجُلًا يُنَادِي - أَيْ يُؤَذِّنُ - لِلرُّؤْيَا الْمَذْكُورَةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قُمْ يَا بِلَالُ فَعَلَى هَذَا فَالْفَاءُ فِي سِيَاقِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ هِيَ الْفَصِيحَةُ، وَالتَّقْدِيرُ فَافْتَرَقُوا فَرَأَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ، فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَصَّ عَلَيْهِ فَصَدَّقَهُ فَقَالَ عُمَرُ. قُلْتُ: وَسِيَاقُ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ يُخَالِفُ ذَلِكَ، فَإِنَّ فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا قَصَّ رُؤْيَاهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ أَلْقِهَا عَلَى بِلَالٍ فَلْيُؤَذِّنْ بِهَا، قَالَ فَسَمِعَ عُمَرُ الصَّوْتَ فَخَرَجَ فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ مِثْلَ الَّذِي رَأَى، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ عُمَرَ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا لَمَّا قَصَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ رُؤْيَاهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ إِشَارَةَ عُمَرَ بِإِرْسَالِ رَجُلٍ يُنَادِي لِلصَّلَاةِ كَانَتْ عَقِبَ الْمُشَاوَرَةِ فِيمَا يَفْعَلُونَهُ، وَأَنَّ رُؤْيَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ كَانَتْ بَعْدَ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ إِلَى أَبِي عُمَيْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ عُمُومَتِهِ مِنَ الْأَنْصَارِ. قَالُوا: اهْتَمَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلصَّلَاةِ كَيْفَ يَجْمَعُ النَّاسَ لَهَا، فَقَالَ: انْصِبْ رَايَةً عِنْدَ حُضُورِ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَإِذَا رَأَوْهَا آذَنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَلَمْ يُعْجِبْهُ الْحَدِيثَ.
وَفِيهِ ذَكَرُوا الْقُنْعَ - بِضَمِّ الْقَافِ وَسُكُونِ النُّونِ يَعْنِي الْبُوقَ - وَذَكَرُوا النَّاقُوسَ، فَانْصَرَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ وَهُوَ مُهْتَمٌّ فَأُرِيَ الْأَذَانَ، فَغَدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: وَكَانَ عُمَرُ رَآهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَكَتَمَهُ عِشْرِينَ يَوْمًا ثُمَّ أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تُخْبِرَنَا؟ قَالَ: سَبَقَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ فَاسْتَحْيَيْتُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا بِلَالُ قُمْ فَانْظُرْ مَا يَأْمُرُكَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ فَافْعَلْهُ تَرْجَمَ لَهُ أَبُو دَاوُدَ بَدْءُ الْأَذَانِ وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: رَوَى قِصَّةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ وَمَعَانٍ مُتَقَارِبَةٍ وَهِيَ مِنْ وُجُوهٍ حِسَانٍ وَهَذَا أَحْسَنُهَا.
قُلْتُ: وَهَذَا لَا يُخَالِفُهُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ لَمَّا قَصَّ مَنَامَهُ فَسَمِعَ عُمَرُ الْأَذَانَ فَجَاءَ فَقَالَ: قَدْ رَأَيْتُ، لِأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُخْبِرْ بِذَلِكَ عَقِبَ إِخْبَارِ عَبْدِ اللَّهِ بَلْ مُتَرَاخِيًا عَنْهُ لِقَوْلِهِ مَا مَنَعَكَ أَنْ تُخْبِرَنَا أَيْ عَقِبَ إِخْبَارِ عَبْدِ اللَّهِ فَاعْتَذَرَ بِالِاسْتِحْيَاءِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُخْبِرْ بِذَلِكَ عَلَى الْفَوْرِ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ أَبِي عُمَيْرٍ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ عُمَرَ كَانَ حَاضِرًا عِنْدَ قَصِّ عَبْدِ اللَّهِ رُؤْيَاهُ، بِخِلَافِ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَتِهِ الَّتِي ذَكَرَ بِهَا فَسَمِعَ عُمَرُ الصَّوْتَ فَخَرَجَ فَقَالَ: فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا عِنْدَ قَصِّ عَبْدِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْله: (فَنَادِ بِالصَّلَاةِ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فَأَذِّنْ بِالصَّلَاةِ قَالَ عِيَاضٌ: الْمُرَادُ الْإِعْلَامُ الْمَحْضُ بِحُضُورِ وَقْتِهَا لَا خُصُوصُ الْأَذَانِ الْمَشْرُوعِ. وَأَغْرَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ فَحَمَلَ قَوْلَهُ: أَذِّنْ عَلَى الْأَذَانِ الْمَشْرُوعِ، وَطَعَنَ فِي صِحَّةِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَقَالَ: عَجَبًا لِأَبِي عِيسَى كَيْفَ صَحَّحَهُ. وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ شَرْعَ الْأَذَانِ إِنَّمَا كَانَ بِرُؤْيَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ. انْتَهَى. وَلَا تُدْفَعُ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِمِثْلِ هَذَا مَعَ إِمْكَانِ الْجَمْعِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَنْدَهْ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: إِنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَى صِحَّتِهِ.
قَوْله: (يَا بِلَالُ قُمْ) قَالَ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ: فِيهِ حُجَّةٌ لِشَرْعِ الْأَذَانِ قَائِمًا.
قُلْتُ: وَكَذَا احْتَجَّ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ قُمْ أَيِ اذْهَبْ إِلَى مَوْضِعٍ بَارِزٍ فَنَادِ فِيهِ بِالصَّلَاةِ لِيَسْمَعَكَ النَّاسُ، قَالَ: وَلَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِلْقِيَامِ فِي حَالِ الْأَذَانِ. انْتَهَى. وَمَا نَفَاهُ لَيْسَ بِبَعِيدٍ مِنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ، فَإِنَّ الصِّيغَةَ مُحْتَمِلَةٌ لِلْأَمْرَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مَا قَالَهُ أَرْجَحَ. وَنَقَلَ عِيَاضٌ أَنَّ مَذْهَبَ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً أَنَّ الْأَذَانَ قَاعِدًا لَا يَجُوزُ، إِلَّا أَبَا ثَوْرٍ وَوَافَقَهُ أَبُو الْفَرَجِ الْمَالِكِيِّ.
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْخِلَافَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَبِأَنَّ الْمَشْهُورَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كُلِّهِمْ أَنَّ الْقِيَامَ سُنَّةٌ، وَأَنَّهُ لَوْ أَذَّنَ قَاعِدًا صَحَّ، وَالصَّوَابُ مَا قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ مِنَ السُّنَّةِ.
(فَائِدَةٌ): كَانَ اللَّفْظُ الَّذِي يُنَادِي بِهِ بِلَالٌ لِلصَّلَاةِ قَوْلُهُ: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ مِنْ مَرَاسِيلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ. وَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ بِلَالًا حِينَئِذٍ إِنَّمَا أُمِرَ بِالْأَذَانِ الْمَعْهُودِ فَذَكَرَ مُنَاسَبَةَ اخْتِصَاصِ بِلَالٍ بِذَاكَ دُونَ غَيْرِهِ لِكَوْنِهِ كَانَ لَمَّا عُذِّبَ لِيَرْجِعَ عَنِ الْإِسْلَامِ فَيَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ، فَجُوزِيَ بِوِلَايَةِ الْأَذَانِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى التَّوْحِيدِ فِي ابْتِدَائِهِ وَانْتِهَائِهِ، وَهِيَ مُنَاسَبَةٌ حَسَنَةٌ فِي اخْتِصَاصِ بِلَالٍ بِالْأَذَانِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ لَيْسَ هُوَ مَحَلَّهَا. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ طَلَبِ الْأَحْكَامِ مِنَ الْمَعَانِي الْمُسْتَنْبَطَةِ دُونَ الِاقْتِصَارِ عَلَى الظَّوَاهِرِ. قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَعَلَى مُرَاعَاةِ الْمَصَالِحِ وَالْعَمَلِ بِهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا شَقَّ عَلَيْهِمُ التَّبْكِيرُ إِلَى الصَّلَاةِ فَتَفُوتُهُمْ أَشْغَالُهُمْ، أَوِ التَّأْخِيرُ فَيَفُوتُهُمْ وَقْتُ الصَّلَاةِ، نَظَرُوا فِي ذَلِكَ. وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ التَّشَاوُرِ فِي الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ وَأَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُتَشَاوِرِينَ إِذَا أَخْبَرَ بِمَا أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَفِيهِ مَنْقَبَةٌ ظَاهِرَةٌ لِعُمَرَ.
وَقَدِ اسْتُشْكِلَ إِثْبَاتُ حُكْمِ الْأَذَانِ بِرُؤْيَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ لِأَنَّ رُؤْيَا غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَأُجِيبَ بِاحْتِمَالِ مُقَارَنَةِ الْوَحْيِ لِذَلِكَ، أَوْ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِمُقْتَضَاهَا لِيَنْظُرَ أَيُقَرُّ عَلَى ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَلَا سِيَّمَا لَمَّا رَأَى نَظْمَهَا يَبْعُدُ دُخُولُ الْوَسْوَاسِ فِيهِ، وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ اجْتِهَادِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْأَحْكَامِ وَهُوَ الْمَنْصُورُ فِي الْأُصُولِ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيِّ أَحَدِ كِبَارِ التَّابِعِينَ أَنَّ عُمَرَ لَمَّا رَأَى الْأَذَانَ جَاءَ لِيُخْبِرَ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَوَجَدَ الْوَحْيَ قَدْ وَرَدَ بِذَلِكَ فَمَا رَاعَهُ إِلَّا أَذَانُ بِلَالٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: سَبَقَكَ بِذَلِكَ الْوَحْيُ، وَهَذَا أَصَحُّ مِمَّا حَكَى الدَّاوُدِيُّ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِالْأَذَانِ قَبْلَ أَنْ يُخْبِرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ، وَعُمَرُ بِثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ، وَأَشَارَ السُّهَيْلِيُّ إِلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي ابْتِدَاءِ شَرْعِ الْأَذَانِ عَلَى لِسَانِ غَيْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم التَّنْوِيهُ بِعُلُوِّ قَدْرِهِ عَلَى لِسَانِ غَيْرِهِ لِيَكُونَ أَفْخَمَ لِشَأْنِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
2 - بَاب الْأَذَانُ مَثْنَى مَثْنَى
605 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ وَأَنْ يُوتِرَ الْإِقَامَةَ إِلَّا الْإِقَامَةَ.
606 -
حَدَّثَنَي مُحَمَّدٌ وهُوَ ابْنُ سَلَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ: أَخْبَرَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا كَثُرَ النَّاسُ قَالَ: ذَكَرُوا أَنْ يَعْلَمُوا وَقْتَ الصَّلَاةِ بِشَيْءٍ يَعْرِفُونَهُ فَذَكَرُوا أَنْ يُورُوا نَارًا أَوْ يَضْرِبُوا نَاقُوسًا فَأُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ وَأَنْ يُوتِرَ الْإِقَامَةَ.
قَوْله: (بَابُ الْأَذَانِ مَثْنَى) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مَثْنَى مَثْنَى أَيْ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وَمَثْنَى مَعْدُولٌ عَنِ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ وَهُوَ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، فَتُحْمَلُ رِوَايَةُ الْكُشْمِيهَنِيِّ عَلَى التَّوْكِيدِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يُفِيدُ تَثْنِيَةَ كُلِّ لَفْظٍ مِنْ أَلْفَاظِ الْأَذَانِ وَالثَّانِي يُؤَكِّدُ ذَلِكَ.
(فَائِدَةٌ): ثَبَتَ لَفْظُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ فِي حَدِيثٍ لِابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ فَقَالَ فِيهِ: مَثْنَى مَثْنَى وَهُوَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَكِنْ بِلَفْظِ: مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ. قَوْله: (عَنْ سِمَاكِ بْنِ عَطِيَّةَ) هُوَ بَصْرِيٌّ ثِقَةٌ، رَوَى عَنْ أَيُّوبَ وَهُوَ مِنْ أَقْرَانِهِ، وَقَدْ رَوَى حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْهُمَا جَمِيعًا وَقَالَ: مَاتَ سِمَاكٌ قَبْلَ أَيُّوبَ، وَرِجَالُ إِسْنَادِهِ كُلُّهُمْ بَصْرِيُّونَ.
قَوْله: (أَنْ يَشْفَعَ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْفَاءِ
أَيْ يَأْتِيَ بِأَلْفَاظِهِ شَفْعًا. قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: وَصْفُ الْأَذَانِ بِأَنَّهُ شَفْعٌ يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ: مَثْنَى مَثْنَى أَيْ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ تَسْتَوِيَ جَمِيعُ أَلْفَاظِهِ فِي ذَلِكَ، لَكِنْ لَمْ يُخْتَلَفْ فِي أَنَّ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ الَّتِي فِي آخِرِهِ مُفْرَدَةٌ فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ مَثْنَى عَلَى مَا سِوَاهَا، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ تَأْكِيدَ مَذْهَبِهِ فِي تَرْكِ تَرْبِيعِ التَّكْبِيرِ فِي أَوَّلِهِ، لَكِنْ لِمَنْ قَالَ بِالتَّرْبِيعِ أَنْ يَدَّعِيَ نَظِيرَ مَا ادَّعَاهُ لِثُبُوتِ الْخَبَرِ بِذَلِكَ، وَسَيَأْتِي فِي الْإِقَامَةِ تَوْجِيهٌ يَقْتَضِي أَنَّ الْقَائِلَ بِهِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى دَعْوَى التَّخْصِيصِ.
قَوْله: (وَأَنْ يُوتِرَ الْإِقَامَةَ إِلَّا الْإِقَامَةَ) الْمُرَادُ بِالْمَنْفِيِّ غَيْرُ الْمُرَادِ بِالْمُثْبَتِ، فَالْمُرَادُ بِالْمُثْبَتِ جَمِيعُ الْأَلْفَاظِ الْمَشْرُوعَةِ عِنْدَ الْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَنْفِيِّ خُصُوصُ قَوْلِهِ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ كَمَا سَيَأْتِي ذَلِكَ صَرِيحًا. وَحَصَلَ مِنْ ذَلِكَ جِنَاسٌ تَامٌّ.
(تَنْبِيهٌ): ادَّعَى ابْنُ مَنْدَهْ أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا الْإِقَامَةَ مِنْ قَوْلِ أَيُّوبَ غَيْرَ مُسْنَدٍ كَمَا فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ فِي رِوَايَةِ سِمَاكِ بْنِ عَطِيَّةَ هَذِهِ إِدْرَاجًا، وَكَذَا قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْأَصِيلِيُّ: قَوْلُهُ إِلَّا الْإِقَامَةَ هُوَ مِنْ قَوْلِ أَيُّوبَ وَلَيْسَ مِنَ الْحَدِيثِ. وَفِيمَا قَالَاهُ نَظَرٌ، لِأَنَّ عَبْدَ الرَّزَّاقِ رَوَاهُ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ بِسَنَدِهِ مُتَّصِلًا بِالْخَبَرِ مُفَسَّرًا وَلَفْظُهُ: كَانَ بِلَالٌ يُثَنِّي الْأَذَانَ وَيُوتِرُ الْإِقَامَةَ، إِلَّا قَوْلَهُ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ وَالسَّرَّاجُ فِي مُسْنَدِهِ وَكَذَا هُوَ فِي مُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَيَقُولُ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ مَرَّتَيْنِ وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا كَانَ فِي الْخَبَرِ فَهُوَ مِنْهُ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِهِ، وَلَا دَلِيلَ فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَتَحَصَّلُ مِنْهَا أَنَّ خَالِدًا كَانَ لَا يَذْكُرُ الزِّيَادَةَ وَكَانَ أَيُّوبُ يَذْكُرُهَا، وَكُلٌّ مِنْهُمَا رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ، فَكَانَ فِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ زِيَادَةٌ مِنْ حَافِظٍ فَتُقْبَلُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدِ اسْتُشْكِلَ عَدَمُ اسْتِثْنَاءِ التَّكْبِيرِ فِي الْإِقَامَةِ، وَأَجَابَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ التَّثْنِيَةَ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِقَامَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَذَانِ إِفْرَادٌ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ الْمُؤَذِّنُ كُلَّ تَكْبِيرَتَيْنِ بِنَفَسٍ وَاحِدٍ. قُلْتُ: وَهَذَا إِنَّمَا يَتَأَتَّى فِي أَوَّلِ الْأَذَانِ لَا فِي التَّكْبِيرِ الَّذِي فِي آخِرِهِ. وَعَلَى مَا قَالَ النَّوَوِيُّ يَنْبَغِي لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يُفْرِدَ كُلَّ تَكْبِيرَةٍ مِنَ اللَّتَيْنِ فِي آخِرِهِ بِنَفَسٍ، وَيَظْهَرُ بِهَذَا التَّقْرِيرِ تَرْجِيحُ قَوْلِ مَنْ قَالَ بِتَرْبِيعِ التَّكْبِيرِ فِي أَوَّلِهِ عَلَى مَنْ قَالَ بِتَثْنِيَتِهِ، مَعَ أَنَّ لَفْظَ الشَّفْعِ يَتَنَاوَلُ التَّثْنِيَةَ وَالتَّرْبِيعَ، فَلَيْسَ فِي لَفْظِ حَدِيثِ الْبَابِ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا يُوهِمُهُ كَلَ مُ ابْنِ بَطَّالٍ. وَأَمَّا التَّرْجِيحُ فِي التَّشَهُّدَيْنِ فَالْأَصَحُّ فِي صُورَتِهِ أَنْ يَشْهَدَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ ثِنْتَيْنِ ثُمَّ بِالرِّسَالَةِ ثِنْتَيْنِ ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَشْهَدُ كَذَلِكَ، فَهُوَ وَإِنْ كَانَ فِي الْعَدَدِ مُرَبِّعًا فَهُوَ فِي الصُّورَةِ مَثْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْله: (حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ وَهُوَ ابْنُ سَلَّامٍ) كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَأَهْمَلَهُ الْبَاقُونَ.
قَوْله: (حَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ) فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ أَخْبَرَنَا، وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ حَدَّثَنَا وَلَيْسَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ الثَّقَفِيُّ.
قَوْله: (حَدَّثَنَا خَالِدٌ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَالْأَصِيلِيِّ، وَلِغَيْرِهِمَا أَخْبَرَنَا.
قَوْله: (قَالَ لَمَّا كَثُرَ النَّاسُ، قَالَ ذَكَرُوا) قَالَ: الثَّانِيَةُ زَائِدَةٌ، ذُكِرَتْ تَأْكِيدًا. قَوْله:(أَنْ يُعْلَمُوا) بِضَمِّ أَوَّلِهِ مِنَ الْإِعْلَامِ، وَفِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مِنَ الْعِلْمِ.
قَوْله: (أَنْ يُورُوا نَارًا) أَيْ يُوقِدُوهَا، يُقَالُ: وَرَى الزَّنْدُ إِذَا خَرَجَتْ نَارُهُ، وَأَوْرَيْتُهُ إِذَا أَخْرَجْتُهُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: أَنْ يُنَوِّرُوا نَارًا أَيْ يُظْهِرُوا نُورَهَا، وَالنَّاقُوسُ خَشَبَةٌ تُضْرَبُ بِخَشَبَةٍ أَصْغَرَ مِنْهَا فَيَخْرُجُ مِنْهَا صَوْتٌ وَهُوَ مِنْ شِعَارِ النَّصَارَى.
قَوْله: (وَأَنْ يُوتِرَ الْإِقَامَةَ) احْتَجَّ بِهِ مَنْ قَالَ بِإِفْرَادِ قَوْلِهِ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ وَالْحَدِيثُ الَّذِي قَبْلَهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ، فَإِنَّ احْتَجَّ بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عُورِضَ بِعَمَلِ أَهْلِ مَكَّةَ وَمَعَهُمُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ.
3 - بَاب الْإِقَامَةُ وَاحِدَةٌ إِلَّا قَوْلَهُ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ
607 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسِ قَالَ: أُمِرَ
بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ وَأَنْ يُوتِرَ الْإِقَامَةَ قَالَ إِسْمَاعِيلُ: فَذَكَرْتُ لِأَيُّوبَ فَقَالَ: إِلَّا الْإِقَامَةَ.
قَوْله: (بَابُ الْإِقَامَةُ وَاحِدَةٌ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: خَالَفَ الْبُخَارِيُّ لَفْظَ الْحَدِيثِ فِي التَّرْجَمَةِ فَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى قَوْلِهِ: وَاحِدَةٌ لِأَنَّ لَفْظَ الْوِتْرِ غَيْرَ مُنْحَصِرٍ فِي الْمَرَّةِ فَعَدَلَ عَنْ لَفْظٍ فِيهِ الِاشْتِرَاكُ إِلَى مَا لَا اشْتِرَاكَ فِيهِ.
قُلْتُ: وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ وَاحِدَةً وَاحِدَةً مُرَاعَاةً لِلَفْظِ الْخَبَرِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ فِي الْبَابِ الْمَاضِي وَلَفْظُهُ: الْأَذَانُ مَثْنَى وَالْإِقَامَةُ وَاحِدَةٌ وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ وَحَسَّنَهُ فِي حَدِيثٍ لِأَبِي مَحْذُورَةَ وَأَمَرَهُ أَنْ يُقِيمَ وَاحِدَةً وَاحِدَةً.
قَوْله: (إِلَّا قَوْلَهُ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ) هُوَ لَفْظُ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ كَمَا تَقَدَّمَ، قِيلَ: وَاعْتَرَضَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِأَنَّ إِيرَادَ حَدِيثِ سِمَاكِ بْنِ عَطِيَّةَ فِي هَذَا الْبَابِ أَوْلَى مِنْ إِيرَادِ حَدِيثِ ابْنِ عُلَيَّةَ، وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمُصَنِّفَ قَصَدَ رَفْعَ تَوَهُّمِ مَنْ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى أَيُّوبَ لِأَنَّهُ أَوْرَدَهُ فِي مَقَامِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ، وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ مَقْطُوعًا لَمْ يُحْتَجَّ بِهِ.
قَوْله: (حَدَّثَنَا خَالِدٌ) هُوَ الْحَذَّاءُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.
قَوْله: (قَالَ إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَذْكُورُ فِي أَوَّلِ الْإِسْنَادِ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ عُلَيَّةَ، وَلَيْسَ هُوَ مُعَلَّقًا.
قَوْله: (فَذَكَرْتُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِحَذْفِ الْمَفْعُولِ، وَلِلكُشْمِيهَنِيِّ، وَالْأَصِيلِيِّ فَذَكَرْتُهُ أَيْ حَدِيثَ خَالِدٍ، وَهَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْإِقَامَةَ مَثْنَى مِثْلَ الْأَذَانِ. وَأَجَابَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِدَعْوَى النَّسْخِ، وَأَنَّ إِفْرَادَ الْإِقَامَةِ كَانَ أَوَّلًا ثُمَّ نُسِخَ بِحَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَةَ، يَعْنِي الَّذِي رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ، وَفِيهِ تَثْنِيَةُ الْإِقَامَةِ، وَهُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ حَدِيثِ أَنَسٍ فَيَكُونُ نَاسِخًا. وَعُورِضَ بِأَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَةَ الْمُحَسَّنَةِ التَّرْبِيعُ وَالتَّرْجِيعُ فَكَانَ يَلْزَمُهُمُ الْقَوْلُ بِهِ، وَقَدْ أَنْكَرَ أَحْمَدُ عَلَى مَنِ ادَّعَى النَّسْخَ بِحَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَةَ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجَعَ بَعْدَ الْفَتْحِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَأَقَرَّ بِلَالًا عَلَى إِفْرَادِ الْإِقَامَةِ وَعَلِمَهُ سَعْدٌ الْقَرَظُ فَأَذَّنَ بِهِ بَعْدَهُ كَمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: ذَهَبَ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَدَاوُدُ، وَابْنُ جَرِيرٍ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الِاخْتِلَافِ الْمُبَاحِ، فَإِنْ رَبَّعَ التَّكْبِيرَ الْأَوَّلَ فِي الْأَذَانِ، أَوْ ثَنَّاهُ، أَوْ رَجَّعَ فِي التَّشَهُّدِ أَوْ لَمْ يُرَجِّعْ، أَوْ ثَنَّى الْإِقَامَةَ أَوْ أَفْرَدَهَا كُلَّهَا أَوْ إِلَّا قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ فَالْجَمِيعُ جَائِزٌ. وَعَنِ ابْنِ خُزَيْمَةَ إِنْ رَبَّعَ الْأَذَانَ وَرَجَّعَ فِيهِ ثَنَّى الْإِقَامَةَ وَإِلَّا أَفْرَدَهَا، وَقِيلَ: لَمْ يَقُلْ بِهَذَا التَّفْصِيلِ أَحَدٌ قَبْلَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَائِدَةٌ): قِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي تَثْنِيَةِ الْأَذَانِ وَإِفْرَادِ الْإِقَامَةِ أَنَّ الْأَذَانَ لِإِعْلَامِ الْغَائِبِينَ فَيُكَرَّرُ لِيَكُونَ أَوْصَلَ إِلَيْهِمْ، بِخِلَافِ الْإِقَامَةِ فَإِنَّهَا لِلْحَاضِرِينِ، وَمِنْ ثَمَّ اسْتُحِبَّ أَنْ يَكُونَ الْأَذَانُ فِي مَكَانٍ عَالٍ بِخِلَافِ الْإِقَامَةِ، وَأَنْ يَكُونَ الصَّوْتُ فِي الْأَذَانِ أَرْفَعَ مِنْهُ فِي الْإِقَامَةِ، وَأَنْ يَكُونَ الْأَذَانُ مُرَتَّلًا وَالْإِقَامَةُ مُسَرَّعَةً، وَكُرِّرَ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ لِأَنَّهَا الْمَقْصُودَةُ مِنَ الْإِقَامَةِ بِالذَّاتِ.
قُلْتُ: تَوْجِيهُهُ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا قَوْلُ الْخَطَّابِيِّ: لَوْ سَوَّى بَيْنَهُمَا لَاشْتَبَهَ الْأَمْرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَصَارَ لِأَنْ يَفُوتَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ، فَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْأَذَانَ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَكَانٍ عَالٍ لِتَشْتَرِكَ الْأَسْمَاعُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى تَثْنِيَةِ التَّكْبِيرِ، وَتُؤْخَذُ حِكْمَةُ التَّرْجِيعِ مِمَّا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا اخْتُصَّ بِالتَّشَهُّدِ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ أَلْفَاظِ الْأَذَانِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
4 - بَاب فَضْلِ التَّأْذِينِ
608 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ فَإِذَا قَضَى النِّدَاءَ أَقْبَلَ حَتَّى إِذَا
ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ حَتَّى إِذَا قَضَى التَّثْوِيبَ أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ يَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا اذْكُرْ كَذَا لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ لَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى.
[الحديث 608 - أطرافه في: 3285، 1233، 1231، 1222]
قَوْله: (بَابُ فَضْلِ التَّأْذِينِ) رَاعَى الْمُصَنِّفُ لَفْظَ التَّأْذِينِ لِوُرُودِهِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ، وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: التَّأْذِينُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ مَا يَصْدُرُ عَنِ الْمُؤَذِّنِ مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ وَهَيْئَةٍ، وَحَقِيقَةُ الْأَذَانِ تُعْقَلُ بِدُونِ ذَلِكَ، كَذَا قَالَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّأْذِينَ هُنَا أُطْلِقَ بِمَعْنَى الْأَذَانِ لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: حَتَّى لَا يَسْمَعَ صَوْتَهُ فَالتَّقْيِيدُ بِالسَّمَاعِ لَا يَدُلُّ عَلَى فِعْلٍ وَلَا عَلَى هَيْئَةٍ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْمَصْدَرِ.
قَوْله: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ) وَلِلنَّسَائِيِّ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ مَالِكٍ: بِالصَّلَاةِ وَهِيَ رِوَايَةٌ لِمُسْلِمٍ أَيْضًا، وَيُمْكِنُ حَمْلُهُمَا عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ.
قَوْله: (لَهُ ضُرَاطٌ) جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ وَقَعَتْ حَالًا بِدُونِ وَاوٍ لِحُصُولِ الِارْتِبَاطِ بِالضَّمِيرِ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ: وَلَهُ ضُرَاطٌ وَهِيَ لِلْمُصَنِّفِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ، قَالَ عِيَاضٌ: يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ لِأَنَّهُ جِسْمٌ مُتَغَذٍّ يَصِحُّ مِنْهُ خُرُوجُ الرِّيحِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ شِدَّةِ نِفَارِهِ، وَيُقَوِّيهِ رِوَايَةٌ لِمُسْلِمٍ: لَهُ حُصَاصٌ بِمُهْمَلَاتٍ مَضْمُومُ الْأَوَّلِ فَقَدْ فَسَّرَهُ الْأَصْمَعِيُّ وَغَيْرُهُ بِشِدَّةِ الْعَدْوِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: شَبَّهَ شُغْلَ الشَّيْطَانِ نَفْسَهُ عَنْ سَمَاعِ الْأَذَانِ بِالصَّوْتِ الَّذِي يَمْلَأُ السَّمْعَ وَيَمْنَعُهُ عَنْ سَمَاعِ غَيْرِهِ، ثُمَّ سَمَّاهُ ضُرَاطًا تَقْبِيحًا لَهُ. (تَنْبِيهٌ) الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّيْطَانِ إِبْلِيسُ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ كَلَامُ كَثِيرٍ مِنَ الشُّرَّاحِ كَمَا سَيَأْتِي، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ جِنْسُ الشَّيْطَانِ وَهُوَ كُلُّ مُتَمَرِّدٍ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، لَكِنَّ الْمُرَادَ هُنَا شَيْطَانُ الْجِنِّ خَاصَّةً.
قَوْله: (حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَتَعَمَّدُ إِخْرَاجَ ذَلِكَ إِمَّا لِيَشْتَغِلَ بِسَمَاعِ الصَّوْتِ الَّذِي يُخْرِجُهُ عَنْ سَمَاعِ الْمُؤَذِّنِ، أَوْ يَصْنَعُ ذَلِكَ اسْتِخْفَافًا كَمَا يَفْعَلُهُ السُّفَهَاءُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَتَعَمَّدَ ذَلِكَ بَلْ يَحْصُلُ لَهُ عِنْدَ سَمَاعِ الْأَذَانِ شِدَّةُ خَوْفٍ يُحْدِثُ لَهُ ذَلِكَ الصَّوْتَ بِسَبَبِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَتَعَمَّدَ ذَلِكَ لِيُقَابِلَ مَا يُنَاسِبُ الصَّلَاةَ مِنَ الطَّهَارَةِ بِالْحَدَثِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى اسْتِحْبَابِ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْأَذَانِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: حَتَّى لَا يَسْمَعَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ يَبْعُدُ إِلَى غَايَةٍ يَنْتَفِي فِيهَا سَمَاعُهُ لِلصَّوْتِ، وَقَدْ وَقَعَ بَيَانُ الْغَايَةِ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فَقَالَ: حَتَّى يَكُونَ مَكَانَ الرَّوْحَاءِ وَحَكَى الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ رَاوِيهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَالرَّوْحَاءِ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ مِيلًا، هَذِهِ رِوَايَةُ قُتَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَخْرَجَهُ عَنْ إِسْحَاقَ، عَنْ جَرِيرٍ، وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ، وَلَفْظُ إِسْحَاقَ فِي مُسْنَدِهِ: حَتَّى يَكُونَ بِالرَّوْحَاءِ، وَهِيَ ثَلَاثُونَ مِيلًا مِنَ الْمَدِينَةِ فَأَدْرَجَهُ فِي الْخَبَرِ، وَالْمُعْتَمَدُ رِوَايَةُ قُتَيْبَةَ، وَسَيَأْتِي حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فِي فَضْلِ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْأَذَانِ بَعْدَهُ.
قَوْله (قُضِيَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْقَضَاءِ الْفَرَاغُ أَوِ الِانْتِهَاءُ، وَيُرْوَى بِفَتْحِ أَوَّلِهِ عَلَى حَذْفِ الْفَاعِلِ، وَالْمُرَادُ الْمُنَادَى، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فَصْلٌ، خِلَافًا لِمَنْ شَرَطَ فِي إِدْرَاكِ فَضِيلَةِ أَوَّلِ الْوَقْتِ أَنْ يَنْطَبِقَ أَوَّلُ التَّكْبِيرِ عَلَى أَوَّلِ الْوَقْتِ.
قَوْله: (إِذَا ثُوِّبَ) بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ الْمَكْسُورَةِ قِيلَ: هُوَ مِنْ ثَابَ إِذَا رَجَعَ، وَقِيلَ: مِنْ ثَوَّبَ إِذَا أَشَارَ بِثَوْبِهِ عِنْدَ الْفَرَاغِ لِإِعْلَامِ غَيْرِهِ، قَالَ الْجُمْهُورُ: الْمُرَادُ بِالتَّثْوِيبِ هُنَا الْإِقَامَةُ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ وَالْخَطَّابِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ إِذَا أُقِيمَتْ، وَأَصْلُهُ: أَنَّهُ رَجَعَ إِلَى مَا يُشْبِهُ الْأَذَانَ، وَكُلُّ مَنْ رَدَّدَ صَوْتًا فَهُوَ مُثَوِّبٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَإِذَا سَمِعَ الْإِقَامَةَ ذَهَبَ وَزَعَمَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّثْوِيبِ قَوْلُ الْمُؤَذِّنِ
بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ وَحَكَى ذَلِكَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَبِي يُوسُفَ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَزَعَمَ أَنَّهُ تَفَرَّدَ بِهِ، لَكِنْ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَ التَّثْوِيبَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ سَلَفًا فِي الْجُمْلَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي تَفَرَّدَ بِهِ الْقَوْلُ الْخَاصُّ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَا يَعْرِفُ الْعَامَّةُ التَّثْوِيبَ إِلَّا قَوْلَ الْمُؤَذِّنِ فِي الْأَذَانِ الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ لَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْإِقَامَةُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْله: (أَقْبَلَ) زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَوَسْوَسَ.
قَوْله: (أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطُرَ) بِضَمِّ الطَّاءِ، قَالَ عِيَاضٌ: كَذَا سَمِعْنَاهُ مِنْ أَكْثَرِ الرُّوَاةِ، وَضَبَطْنَاهُ عَنِ الْمُتْقِنِينَ بِالْكَسْرِ، وَهُوَ الْوَجْهُ، وَمَعْنَاهُ يُوَسْوِسُ، وَأَصْلُهُ مِنْ خَطَرَ الْبَعِيرُ بِذَنَبِهِ إِذَا حَرَّكَهُ فَضَرَبَ بِهِ فَخِذَيْهِ، وَأَمَّا بِالضَّمِّ فَمِنَ الْمُرُورِ أَيْ يَدْنُو مِنْهُ فَيَمُرُّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَلْبِهِ فَيُشْغِلُهُ، وَضَعَّفَ الْحَجَرِيُّ فِي نَوَادِرِهِ الضَّمَّ مُطْلَقًا وَقَالَ: هُوَ يَخْطِرُ بِالْكَسْرِ فِي كُلِّ شَيْءٍ.
قَوْله: (بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ) أَيْ قَلْبِهِ، وَكَذَا هُوَ لِلْمُصَنِّفِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ، قَالَ الْبَاجِيُّ: الْمَعْنَى أَنَّهُ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَبَيْنَ مَا يُرِيدُهُ مِنْ إِقْبَالِهِ عَلَى صَلَاتِهِ وَإِخْلَاصِهِ فِيهَا. قَوْله: (يَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا اذْكُرْ كَذَا)) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ بِوَاوِ الْعَطْفِ وَاذْكُرْ كَذَا وَهِيَ لِمُسْلِمٍ، وَلِلْمُصَنِّفِ فِي صَلَاةِ السَّهْوِ اذْكُرْ كَذَا وَكَذَا زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ رَبِّهِ، عَنِ الْأَعْرَجِ فَهَنَّاهُ وَمَنَّاهُ وَذَكَّرَهُ مِنْ حَاجَاتِهِ مَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ.
قَوْله: (لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ) أَيْ لِشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ عَلَى ذِكْرِهِ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ مِنْ قَبْلُ، وَمِنْ ثَمَّ اسْتَنْبَطَ أَبُو حَنِيفَةَ لِلَّذِي شَكَا إِلَيْهِ أَنَّهُ دَفَنَ مَالًا ثُمَّ لَمْ يَهْتَدِ لِمَكَانِهِ أَنْ يُصَلِّيَ وَيَحْرِصَ أَنْ لَا يُحَدِّثَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، فَفَعَلَ، فَذَكَرَ مَكَانَ الْمَالِ فِي الْحَالِ. قِيلَ: خَصَّهُ بِمَا يُعْلَمُ دُونَ مَا لَا يُعْلَمُ لِأَنَّهُ يَمِيلُ لِمَا يُعْلَمُ أَكْثَرَ لِتَحَقُّقِ وُجُودِهِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ لَأَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ فَيُذَكِّرُهُ بِمَا سَبَقَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ لِيَشْتَغِلَ بَالُهُ بِهِ وَبِمَا لَمْ يَكُنْ سَبَقَ لَهُ لِيُوقِعَهُ فِي الْفِكْرَةِ فِيهِ، وَهَذَا أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا أَوْ فِي أُمُورِ الدِّينِ كَالْعِلْمِ، لَكِنْ هَلْ يَشْمَلُ ذَلِكَ التَّفَكُّرُ فِي مَعَانِي الْآيَاتِ الَّتِي يَتْلُوهَا؟ لَا يَبْعُدُ ذَلِكَ، لِأَنَّ غَرَضَهُ نَقْصُ خُشُوعِهِ وَإِخْلَاصِهِ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ.
قَوْله: (حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ) كَذَا لِلْجُمْهُورِ بِالظَّاءِ الْمُشَالَةِ الْمَفْتُوحَةِ، وَمَعْنَى يَظَلُّ فِي الْأَصْلِ اتِّصَافُ الْمُخْبَرِ عَنْهُ بِالْخَبَرِ نَهَارًا لَكِنَّهَا هُنَا بِمَعْنَى يَصِيرُ أَوْ يَبْقَى، وَوَقَعَ عِنْدَ الْأَصِيلِيِّ يَضِلُّ بِكَسْرِ السَّاقِطَةِ أَيْ يَنْسَى، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} أَوْ بِفَتْحِهَا، أَيْ يُخْطِئُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ.
قَوْله: (لَا يُدْرَي) وَفِي رِوَايَةٍ فِي صَلَاةِ السَّهْوِ إِنْ يَدْرِي بِكَسْرِ هَمْزَةِ إِنْ وَهِيَ نَافِيَةٌ بِمَعْنَى لَا، وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنِ الْأَكْثَرِ فِي الْمُوَطَّأِ فَتْحَ الْهَمْزَةِ وَوَجَّهَهُ بِمَا تَعَقَّبَهُ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَيْسَتْ رِوَايَةُ الْفَتْحِ لِشَيْءٍ إِلَّا مَعَ رِوَايَةِ الضَّادِ السَّاقِطَةِ فَتَكُونُ أَنْ مَعَ الْفِعْلِ بِتَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ وَمَفْعُولُ ضَلَّ أَنْ بِإِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ أَيْ يَضِلَّ عَنْ دِرَايَتِهِ.
قَوْله: (كَمْ صَلَّى) وَلِلْمُصَنِّفِ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ حَتَّى لَا يَدْرِيَ أَثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَبْوَابِ السَّهْوِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْحِكْمَةِ فِي هُرُوبِ الشَّيْطَانِ عِنْدَ سَمَاعِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ دُونَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ فِي الصَّلَاةِ، فَقِيلَ: يَهْرُبُ حَتَّى لَا يَشْهَدَ لِلْمُؤَذِّنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذّ نِ جِنٌّ وَلَا إِنْسٌ إِلَّا شَهِدَ لَهُ كَمَا يَأْتِي بَعْدُ، وَلَعَلَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ بِإِيرَادِهِ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ عَقِبَ هَذَا الْحَدِيثِ. وَنَقَلَ عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ وَالْمُرَادُ بِهِ خَاصٌّ، وَأَنَّ الَّذِي يَشْهَدُ مَنْ تَصِحُّ مِنْهُ الشَّهَادَةُ كَمَا سَيَأْتِي الْقَوْلُ فِيهِ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ. وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ فَأَمَّا الْكُفَّارُ فَلَا تُقْبَلُ لَهُمْ شَهَادَةٌ، وَرَدَّهُ لِمَا جَاءَ مِنَ الْآثَارِ بِخِلَافِهِ، وَبَالَغَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ فِي تَقْرِيرِ الْأَوَّلِ وَهُوَ مَقَامُ
احْتِمَالٍ، وَقِيلَ: يَهْرُبُ نُفُورًا عَنْ سَمَاعِ الْأَذَانِ ثُمَّ يَرْجِعُ مُوَسْوِسًا لِيُفْسِدَ عَلَى الْمُصَلِّي صَلَاتَهُ، فَصَارَ رُجُوعُهُ مِنْ جِنْسِ فِرَارِهِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا الِاسْتِخْفَافُ.
وَقِيلَ: لِأَنَّ الْأَذَانَ دُعَاءٌ إِلَى الصَّلَاةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى السُّجُودِ الَّذِي أَبَاهُ وَعَصَى بِسَبَبِهِ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ يَعُودُ قَبْلَ السُّجُودِ، فَلَوْ كَانَ هَرَبُهُ لِأَجْلِهِ لَمْ يَعُدْ إِلَّا عِنْدَ فَرَاغِهِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ يَهْرُبُ عِنْدَ سَمَاعِ الدُّعَاءِ بِذَلِكَ لِيُغَالِطَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ أَمْرًا ثُمَّ يَرْجِعُ لِيُفْسِدَ عَلَى الْمُصَلِّي سَجْودَهُ الَّذِي أَبَاهُ، وَقِيلَ: إِنَّمَا يَهْرُبُ لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى الْإِعْلَانِ بِشَهَادَةِ الْحَقِّ وَإِقَامَةِ الشَّرِيعَةِ وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى ذَلِكَ حَاصِلٌ قَبْلَ الْأَذَانِ وَبَعْدَهُ مِنْ جَمِيعِ مَنْ يُصَلِّي، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْإِعْلَانَ أَخَصُّ مِنَ الِاتِّفَاقِ فَإِنَّ الْإِعْلَانَ الْمُخْتَصَّ بِالْأَذَانِ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنَ الْجَهْرِ بِالتَّكْبِيرِ وَالتِّلَاوَةِ مَثَلًا، وَلِهَذَا قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: أَلْقِهِ عَلَى بِلَالٍ فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ أَيْ: أَقْعَدُ فِي الْمَدِّ وَالْإِطَالَةِ وَالْإِسْمَاعِ لِيَعُمَّ الصَّوْتُ وَيَطُولَ أَمَدُ التَّأْذِينِ فَيَكْثُرُ الْجَمْعُ وَيَفُوتُ عَلَى الشَّيْطَانِ مَقْصُودُهُ مِنْ إِلْهَاءِ الْآدَمِيِّ عَنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ أَوْ إِخْرَاجِهَا عَنْ وَقْتِهَا أَوْ وَقْتِ فَضِيلَتِهَا فَيَفِرُّ حِينَئِذٍ، وَقَدْ يَيْأَسُ عَنْ أَنْ يَرُدَّهُمْ عَمَّا أَعْلَنُوا بِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ لِمَا طُبِعَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَذَى وَالْوَسْوَسَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: عَلَى الْأَذَانِ هَيْبَةٌ يَشْتَدُّ انْزِعَاجُ الشَّيْطَانِ بِسَبَبِهَا، لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يَقَعُ فِي الْأَذَانِ رِيَاءٌ وَلَا غَفْلَةٌ عِنْدَ النُّطْقِ بِهِ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ النَّفْسَ تَحْضُرُ فِيهَا فَيَفْتَحُ لَهَا الشَّيْطَانُ أَبْوَابَ الْوَسْوَسَةِ.
وَقَدْ تَرْجَمَ عَلَيْهِ أَبُو عَوَانَةَ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ الْمُؤَذِّنَ فِي أَذَانِهِ وَإِقَامَتِهِ مَنْفِيٌّ عَنْهُ الْوَسْوَسَةُ وَالرِّيَاءُ لِتَبَاعُدِ الشَّيْطَانِ مِنْهُ وَقِيلَ: لِأَنَّ الْأَذَانَ إِعْلَامٌ بِالصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ بِأَلْفَاظٍ هِيَ مِنْ أَفْضَلِ الذِّكْرِ لَا يُزَادُ فِيهَا وَلَا يُنْقَصُ مِنْهَا، بَلْ تَقَعُ عَلَى وَفْقِ الْأَمْرِ، فَيَفِرُّ مِنْ سَمَاعِهَا. وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَلِمَا يَقَعُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فِيهَا مِنَ التَّفْرِيطِ فَيَتَمَكَّنُ الْخَبِيثُ مِنَ الْمُفَرِّطِ، فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْمُصَلِّيَ وَفَّى بِجَمِيعِ مَا أُمِرَ بِهِ فِيهَا لَمْ يُقَرَّبِهِ إِذَا كَانَ وَحْدَهُ وَهُوَ نَادِرٌ، وَكَذَا إِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ أَنْدَرَ، أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ نَفَعَ اللَّهُ بِبَرَكَتِهِ.
(فَائِدَةٌ): قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الزَّجْرُ عَنْ خُرُوجِ الْمَرْءِ مِنَ الْمَسْجِدِ بَعْدَ أَنْ يُؤَذِّنَ الْمُؤَذِّنُ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى، لِئَلَّا يَكُونَ مُتَشَبَّهًا بِالشَّيْطَانِ الَّذِي يَفِرُّ عِنْدَ سَمَاعِ الْأَذَانِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(تَنْبِيهَانِ): (الْأَوَّلُ) فَهِمَ بَعْضُ السَّلَفِ مِنَ الْأَذَانِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْإِتْيَانُ بِصُورَةِ الْأَذَانِ وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ فِيهِ شَرَائِطُ الْأَذَانِ مِنْ وُقُوعِهِ فِي الْوَقْتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا سَمِعْتَ صَوْتًا فَنَادِ بِالصَّلَاةِ وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَرَوَى مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ نَحْوَهُ.
(الثَّانِي) وَرَدَتْ فِي فَضْلِ الْأَذَانِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ بَعْضَهَا فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى، وَاقْتَصَرَ عَلَى هَذَا هُنَا، لِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ تَضَمَّنَ فَضْلًا لَا يُنَالُ بِغَيْرِ الْأَذَانِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَخْبَارِ فَإِنَّ الثَّوَابَ الْمَذْكُورَ فِيهَا يُدْرَكُ بِأَنْوَاعٍ أُخْرَى مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
5 - بَاب رَفْعِ الصَّوْتِ بِالنِّدَاءِ.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَذِّنْ أَذَانًا سَمْحًا وَإِلَّا فَاعْتَزِلْنَا
609 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ الْأَنْصَارِيِّ ثُمَّ الْمَازِنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ لَهُ: إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ أَوْ بَادِيَتِكَ فَأَذَّنْتَ بِالصَّلَاةِ فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ
جِنٌّ وَلَا إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
[الحديث 609 - طرفاه في: 7548، 3296]
قَوْله: (بَابُ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالنِّدَاءِ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: لَمْ يَنُصَّ عَلَى حُكْمِ رَفْعِ الصَّوْتِ لِأَنَّهُ مِنْ صِفَةِ الْأَذَانِ، وَهُوَ لَمْ يَنُصَّ فِي أَصْلِ الْأَذَانِ عَلَى حُكْمٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ تَرْجَمَ عَلَيْهِ النَّسَائِيُّ بَابُ الثَّوَابِ عَلَى رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْأَذَانِ.
قَوْله: (وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ أَنَّ مُؤَذِّنًا أَذَّنَ فَطَرِبَ فِي أَذَانِهِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. . فَذَكَرَهُ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ هَذَا الْمُؤَذِّنِ وَأَظُنُّهُ مِنْ بَنِي سَعْدِ الْقَرَظِ لِأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ حَيْثُ كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَمِيرًا عَلَى الْمَدِينَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خَافَ عَلَيْهِ مِنَ التَّطْرِيبِ الْخُرُوجَ عَنِ الْخُشُوعِ، لَا أَنَّهُ نَهَاهُ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَفِيهِ إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي يَحْيَى الْكَعْبِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَابْنِ عَدِيٍّ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: لَا تَحِلُّ الرِّوَايَةُ عَنْهُ، ثُمَّ غَفَلَ فَذَكَرَهُ فِي الثِّقَاتِ.
قَوْله: (عَنْ أَبِيهِ) زَادَ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَكَانَ يَتِيمًا فِي حِجْرِ أَبِي سَعِيدٍ وَكَانَتْ أُمُّهُ عِنْدَ أَبِي سَعِيدٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِهِ، لَكِنْ قَلَبَهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ فَقَالَ: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ مَالِكٍ وَوَافَقَهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْمَاجِشُونُ. وَزَعَمَ أَبُو مَسْعُودٍ فِي الْأَطْرَافِ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَ رِوَايَتَهُ، لَكِنْ لَمْ نَجِدْ ذَلِكَ وَلَا ذَكَرَهَا خَلَفٌ قَالَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ. وَاسْمُ أَبِي صَعْصَعَةَ عَمْرُو بْنُ زَيْدِ بْنِ عَوْفِ بْنِ مَبْدُولِ بْنِ عَمْرِو بْنِ غُنْمِ بْنِ مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ، مَاتَ أَبُو صَعْصَعَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ صَحَابِيٌّ، رَوَى ابْنُ شَاهِينَ فِي الصَّحَابَةِ مِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ حَدِيثًا سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَفِي سِيَاقِهِ أَنَّ جَدَّهُ كَانَ بَدْرِيًّا، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ أَصْحَابَ الْمَغَازِي لَمْ يَذْكُرُوهُ فِيهِمْ وَإِنَّمَا ذَكَرُوا أَخَاهُ قَيْسَ بْنَ أَبِي صَعْصَعَةَ.
قَوْله: (أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ لَهُ) أَيْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ.
قَوْله: (تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ) أَيْ لِأَجْلِ الْغَنَمِ؛ لِأَنَّ مُحِبَّهَا يَحْتَاجُ إِلَى إِصْلَاحِهَا بِالْمَرْعَى، وَهُوَ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ فِي الْبَادِيَةِ وَهِيَ الصَّحْرَاءُ الَّتِي لَا عِمَارَةَ فِيهَا.
قَوْله: (فِي غَنَمِكَ أَوْ بَادِيَتِكَ) يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَوْ شَكًّا مِنَ الرَّاوِي، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّنْوِيعِ؛ لِأَنَّ الْغَنَمَ قَدْ لَا تَكُونُ فِي الْبَادِيَةِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْبَادِيَةِ حَيْثُ لَا غَنَمَ.
قَوْله: (فَأَذَّنْتُ لِلصَّلَاةِ) أَيْ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ، وَلِلْمُصَنَّفِ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ بِالصَّلَاةِ أَيْ أَعْلَمْتُ بِوَقْتِهَا.
قَوْله: (فَارْفَعْ) فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ أَذَانَ مَنْ أَرَادَ الصَّلَاةَ كَانَ مُقَرَّرًا عِنْدَهُمْ لِاقْتِصَارِهِ عَلَى الْأَمْرِ بِالرَّفْعِ دُونَ أَصْلِ التَّأْذِينِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الرَّافِعِيُّ لِلْقَوْلِ الصَّائِرِ إِلَى اسْتِحْبَابِ أَذَانِ الْمُنْفَرِدِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَذَانَ حَقُّ الْوَقْتِ، وَقِيلَ: لَا يُسْتَحَبُّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَذَانَ لِاسْتِدْعَاءِ الْجَمَاعَةِ لِلصَّلَاةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ مَنْ يَرْجُو جَمَاعَةً أَوْ لَا.
قَوْلُهُ: (بِالنِّدَاءِ) أَيْ بِالْأَذَانِ.
قَوْلُهُ: (لَا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ) أَيْ غَايَةَ صَوْتِهِ، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: غَايَةُ الصَّوْتِ تَكُونُ أَخْفَى مِنِ ابْتِدَائِهِ، فَإِذَا شَهِدَ لَهُ مَنْ بَعُدَ عَنْهُ وَوَصَلَ إِلَيْهِ مُنْتَهَى صَوْتِهِ فَلَأَنْ يَشْهَدُ لَهُ مَنْ دَنَا مِنْهُ وَسَمِعَ مُبَادِيَ صَوْتِهِ أَوْلَى.
قَوْله (جِنٌّ وَلَا إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ) ظَاهِرُهُ يَشْمَلُ الْحَيَوَانَاتِ وَالْجَمَادَاتِ، فَهُوَ مِنَ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ خُزَيْمَةَ لَا يَسْمَعُ صَوْتَهُ شَجَرٌ وَلَا مَدَرٌ وَلَا حَجَرٌ وَلَا جِنٌّ وَلَا إِنْسٌ، وَلِأَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي يَحْيَى، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ الْمُؤَذِّنُ يُغْفَرُ لَهُ مَدَى صَوْتِهِ، وَيَشْهَدُ لَهُ كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ وَنَحْوُهُ لِلنَّسَائِيِّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ السَّكَنِ، فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تُبَيِّنُ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ وَلَا شَيْءَ وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ مَنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا فِي تَأْوِيلِهِ عَلَى غَيْرِ مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُهُ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَوْلُهُ وَلَا شَيْءَ
الْمُرَادُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُمْ دَخَلُوا فِي قَوْلِهِ جِنٌّ لِأَنَّهُمْ يَسْتَخْفُونَ عَنِ الْأَبْصَارِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمُرَادُ كُلُّ مَا يَسْمَعُ الْمُؤَذِّنَ مِنَ الْحَيَوَانِ حَتَّى مَا لَا يَعْقِلُ دُونَ الْجَمَادَاتِ. وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ عَقْلًا وَلَا شَرْعًا. قَالَ ابْنُ بَزِيزَةَ، تَقَرَّرَ فِي الْعَادَةِ أَنَّ السَّمَاعَ وَالشَّهَادَةَ وَالتَّسْبِيحَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ حَيٍّ، فَهَلْ ذَلِكَ حِكَايَةٌ عَنْ لِسَانِ الْحَالِ لِأَنَّ الْمَوْجُودَاتِ نَاطِقَةٌ بِلِسَانِ حَالِهَا بِجَلَالِ بَارِيهَا، أَوْ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ؟ وَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ عَقْلًا أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ فِيهَا الْحَيَاةَ وَالْكَلَامَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي قَوْلِ النَّارِ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا وَسَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ أَنَّ الْبَقَرَةَ قَالَتْ: إِنَّمَا خُلِقْتُ لِلْحَرْثِ وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ اهـ.
وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الْمَلِكِ: إِنَّ قَوْلَهُ هُنَا وَلَا شَيْءَ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّ الْآيَةَ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، وَمَا عَرَفْتُ وَجْهَ هَذَا التَّعَقُّبِ فَإِنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي الِاحْتِمَالِ، وَنَقْلِ الِاخْتِلَافِ، إِلَّا أَنْ يَقُولَ إِنَّ الْآيَةَ لَمْ يُخْتَلَفْ فِي كَوْنِهَا عَلَى عُمُومِهَا، وَإِنَّمَا اخْتُلِفَ فِي تَسْبِيحِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ هَلْ هُوَ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوِ الْمَجَازِ بِخِلَافِ الْحَدِيثِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَائِدَةٌ): السِّرُّ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ مَعَ أَنَّهَا تَقَعُ عِنْدَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنَّ أَحْكَامَ الْآخِرَةِ جَرَتْ عَلَى نَعْتِ أَحْكَامِ الْخَلْقِ فِي الدُّنْيَا مِنْ تَوْجِيهِ الدَّعْوَى وَالْجَوَابِ وَالشَّهَادَةِ، قَالَهُ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الشَّهَادَةِ اشْتِهَارُ الْمَشْهُودِ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْفَضْلِ وَعُلُوِّ الدَّرَجَةِ، وَكَمَا أَنَّ اللَّهَ يَفْضَحُ بِالشَّهَادَةِ قَوْمًا فَكَذَلِكَ يُكْرِمُ بِالشَّهَادَةِ آخَرِينَ.
قَوْله: (إِلَّا شَهِدَ لَهُ) لِلْكُشْمِيهَنِيِّ إِلَّا يَشْهَدُ لَهُ، وَتَوْجِيهُهُمَا وَاضِحٌ.
قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو سَعِيدٍ سَمِعْتُهُ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: أَيْ هَذَا الْكَلَامَ الْأَخِيرَ وَهُوَ قَوْلُهُ إِنَّهُ لَا يَسْمَعُ إِلَخْ. قُلْتُ: وَقَدْ أَوْرَدَ الرَّافِعِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الشَّرْحِ بِلَفْظِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَبِي سَعِيدٍ: إِنَّكَ رَجُلٌ تُحِبُّ الْغَنَمَ وَسَاقَهُ إِلَى آخِرِهِ، وَسَبَقَهُ إِلَى ذَلِكَ الْغَزَالِيُّ وَإِمَامُهُ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَابْنُ دَاوُدَ شَارِحُ الْمُخْتَصَرِ وَغَيْرُهُمْ، وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ، وَأَجَابَ ابْنُ الرِّفْعَةِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ فَهِمُوا أَنَّ قَوْلَ أَبِي سَعِيدٍ: سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَائِدٌ عَلَى كُلِّ مَا ذُكِرَ اهـ. وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَلَفْظُهُ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: إِذَا كُنْتَ فِي الْبَوَادِي فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا يَسْمَعُ فَذَكَرَهُ، وَرَوَاهُ يَحْيَى الْقَطَّانُ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ بِلَفْظِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا أَذَّنْتَ فَارْفَعْ صَوْتَكَ، فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ فَذَكَرَهُ. فَالظَّاهِرُ أَنَّ ذِكْرَ الْغَنَمِ وَالْبَادِيَةِ مَوْقُوفٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْأَذَانِ لِيَكْثُرَ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ مَا لَمْ يُجْهِدْهُ أَوْ يَتَأَذَّى بِهِ، وَفِيهِ أَنَّ حُبَّ الْغَنَمِ وَالْبَادِيَةِ وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ نُزُولِ الْفِتْنَةِ مِنْ عَمَلِ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَفِيهِ جَوَازُ التَّبَدِّي وَمُسَاكَنَةِ الْأَعْرَابِ وَمُشَارَكَتِهِمْ فِي الْأَسْبَابِ بِشَرْطِ حَظٍّ مِنَ الْعِلْمِ وَأَمْنٍ مِنْ غَلَبَةِ الْجَفَاءِ.
وَفِيهِ أَنَّ أَذَانَ الْفَذِّ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ وَلَوْ كَانَ فِي قَفْرٍ وَلَوْ لَمْ يُرْتَجَ حُضُورُ مَنْ يُصَلِّي مَعَهُ، لِأَنَّهُ إِنْ فَاتَهُ دُعَاءُ الْمُصَلِّينَ فَلَمْ يَفُتْهُ اسْتِشْهَادُ مَنْ سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِهِمْ.
6 - بَاب مَا يُحْقَنُ بِالْأَذَانِ مِنْ الدِّمَاءِ
610 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا غَزَا بِنَا قَوْمًا لَمْ يَكُنْ يَغْزُو بِنَا حَتَّى يُصْبِحَ وَيَنْظُرَ فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا كَفَّ عَنْهُمْ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا أَغَارَ عَلَيْهِمْ قَالَ: فَخَرَجْنَا إِلَى خَيْبَرَ فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِمْ لَيْلًا فَلَمَّا أَصْبَحَ وَلَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا رَكِبَ وَرَكِبْتُ خَلْفَ أَبِي طَلْحَةَ
وَإِنَّ قَدَمِي لَتَمَسُّ قَدَمَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَخَرَجُوا إِلَيْنَا بِمَكَاتِلِهِمْ وَمَسَاحِيهِمْ فَلَمَّا رَأَوْا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: مُحَمَّدٌ وَاللَّهِ مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ قَالَ: فَلَمَّا رَآهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ {فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ}
قَوْله: (بَابُ مَا يُحْقَنُ بِالْأَذَانِ مِنَ الدِّمَاءِ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: قَصَدَ الْبُخَارِيُّ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ وَاللَّتَيْنِ قَبْلَهَا اسْتِيفَاءَ ثَمَرَاتِ الْأَذَانِ، فَالْأُولَى فِيهَا فَضْلُ التَّأْذِينِ لِقَصْدِ الِاجْتِمَاعِ لِلصَّلَاةِ، وَالثَّانِيَةُ فِيهَا فَضْلُ أَذَانِ الْمُنْفَرِدِ لِإِيدَاعِ الشَّهَادَةِ لَهُ بِذَلِكَ، وَالثَّالِثَةُ فِيهَا حَقْنُ الدِّمَاءِ عِنْدَ وُجُودِ الْأَذَانِ. قَالَ: وَإِذَا انْتَفَتْ عَنِ الْأَذَانِ فَائِدَةٌ مِنْ هَذِهِ الْفَوَائِدِ لَمْ يُشْرَعْ إِلَّا فِي حِكَايَتِهِ عِنْدَ سَمَاعِهِ، وَلِهَذَا عَقَّبَهُ بِتَرْجَمَةِ مَا يَقُولُ إِذَا سَمِعَ الْمُنَادِي اهـ. كَلَامُهُ مُلَخَّصًا. وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ ظَاهِرٌ، وَبَاقِي الْمَتْنِ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ الْجِهَادِ.
وقَدْ أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ هناك بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَسِيَاقُهُ أَتَمُّ مِمَّا هُنَا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى فَوَائِدِهِ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ طَرَفَهُ الْمُتَعَلِّقَ بِالْأَذَانِ وَسِيَاقُهُ أَوْضَحُ، أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلِمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُغِيرُ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرَ، وَكَانَ يَسْتَمِعُ الْأَذَانَ، فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا أَمْسَكَ وَإِلَّا أَغَارَ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِيهِ أَنَّ الْأَذَانَ شِعَارُ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ بَلَدٍ اجْتَمَعُوا عَلَى تَرْكِهِ كَانَ لِلسُّلْطَانِ قِتَالُهُمْ عَلَيْهِ اهـ. وَهَذَا أَحَدُ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَوْجُهِ فِي الْمَذْهَبِ. وَأَغْرَبَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فَقَالَ: لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، وَأَنَّ قَوْلَ أَصْحَابِنَا مَنْ نَطَقَ بِالتَّشَهُّدِ فِي الْأَذَانِ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ إِلَّا إِذَا كَانَ عِيسَوِيًّا فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ مُطْلَقُ حَدِيثِ الْبَابِ، لِأَنَّ الْعِيسَوِيَّةَ طَائِفَةٌ مِنَ الْيَهُودِ حَدَثَتْ فِي آخِرِ دَوْلَةِ بَنِي أُمَيَّةَ فَاعْتَرَفُوا بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَكِنْ إِلَى الْعَرَبِ فَقَطْ، وَهُمْ مَنْسُوبُونَ إِلَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: أَبُو عِيسَى أَحْدَثَ لَهُمْ ذَلِكَ.
(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي سِيَاقِ حَدِيثِ الْبَابِ لَمْ يَكُنْ يُغِرْ بِنَا وَاخْتُلِفَ فِي ضَبْطِهِ، فَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي يُغِرْ مِنَ الْإِغَارَةِ مَجْزُومٌ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ يَكُنْ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ يَغْدُ بِإِسْكَانِ الْغَيْنِ وَبِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ مِنَ الْغُدُوِّ، وَفِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ يَغْزُو بِزَايٍ بَعْدَهَا وَاوٌ مِنَ الْغَزْوِ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ يُغِيرُ كَالْأَوَّلِ لَكِنْ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ، وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِهِمْ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَإِسْكَانِ الْغَيْنِ مِنَ الْإِغْرَاءِ، وَرِوَايَةِ مُسْلِمٍ تَشْهَدُ لِرِوَايَةِ مَنْ رَوَاهُ مِنَ الْإِغَارَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
7 - بَاب مَا يَقُولُ إِذَا سَمِعَ الْمُنَادِي
611 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا سَمِعْتُمْ النِّدَاءَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ"
612 -
حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ حَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ يَوْمًا فَقَالَ مِثْلَهُ إِلَى قَوْلِهِ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ.
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ قَالَ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى نَحْوَهُ
613 -
قَالَ يَحْيَى وَحَدَّثَنِي بَعْضُ إِخْوَانِنَا أَنَّهُ قَالَ لَمَّا قَالَ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ قَالَ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَقَالَ هَكَذَا سَمِعْنَا نَبِيَّكُمْ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ"
قَوْله: (بَابُ مَا يَقُولُ إِذَا سَمِعَ الْمُنَادِيَ) هَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي حَدِيثِ الْبَابِ، وَآثَرَ الْمُصَنِّفُ عَدَمَ الْجَزْمِ بِحُكْمِ ذَلِكَ لِقُوَّةِ الْخِلَافِ فِيهِ كَمَا سَيَأْتِي. ثُمَّ ظَاهِرُ صَنِيعِهِ يَقْتَضِي تَرْجِيحَ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ مَا يَقُولُ مِنَ الْأَذَانِ إِلَّا الْحَيْعَلَتَيْنِ، لِأَنَّ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ الَّذِي بَدَأَ بِهِ عَامٌّ، وَحَدِيثَ مُعَاوِيَةَ الَّذِي تَلَاهُ بِهِ يُخَصِّصُهُ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ.
قَوْله: (عَنْ عَطَاءِ بْنِ زَيْدٍ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ، وَيُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَزِيدَ أَخْبَرَهُ، أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ.
(فَائِدَةٌ): اخْتُلِفَ عَلَى الزُّهْرِيِّ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَعَلَى مَالِكٍ أَيْضًا، لَكِنَّهُ اخْتِلَافٌ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّتِهِ، فَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، وَأَبُو حَاتِمٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ: حَدِيثُ مَالِكٍ وَمَنْ تَابَعَهُ أَصَحُّ، وَرَوَاهُ يَحْيَى الْقَطَّانُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، أَخْرَجَهُ مُسَدَّدٌ فِي مُسْنَدِهِ عَنْهُ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: إِنَّهُ خَطَأٌ وَالصَّوَابُ الرِّوَايَةُ الْأُولَى، وَفِيهِ اخْتِلَافٌ آخَرُ دُونَ مَا ذُكِرَ لَا نُطِيلُ بِهِ.
قَوْلُهُ: (إِذَا سَمِعْتُمْ) ظَاهِرُهُ اخْتِصَاصُ الْإِجَابَةِ بِمَنْ يَسْمَعُ حَتَّى لَوْ رَأَى الْمُؤَذِّنَ عَلَى الْمَنَارَةِ مَثَلًا فِي الْوَقْتِ وَعَلِمَ أَنَّهُ يُؤَذِّنُ لَكِنْ لَمْ يَسْمَعَ أَذَانَهُ لِبُعْدٍ أَوْ صَمَمٍ لَا تُشْرَعُ لَهُ الْمُتَابَعَةُ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ. قَوْله:(فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ) ادَّعَى ابْنُ وَضَّاحٍ أَنَّ قَوْلَ: الْمُؤَذِّنِ مَدْرَجٌ، وَأَنَّ الْحَدِيثَ انْتَهَى عِنْدَ قَوْلِهِ: مِثْلَ مَا يَقُولُ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْإِدْرَاجَ لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، وَقَدِ اتَّفَقَتِ الرِّوَايَاتُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالْمُوَطَّأِ عَلَى إِثْبَاتِهَا، وَلَمْ يُصِبْ صَاحِبُ الْعُمْدَةِ فِي حَذْفِهَا.
قَوْلُهُ: (مَا يَقُولُ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: قَالَ مَا يَقُولُ وَلَمْ يَقُلْ مِثْلَ مَا قَالَ لِيُشْعِرَ بِأَنَّهُ يُجِيبُهُ بَعْدَ كُلِّ كَلِمَةٍ مِثْلَ كَلِمَتِهَا. قُلْتُ: وَالصَّرِيحُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ حَبِيبَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ كَمَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ حَتَّى يَسْكُتَ وَأَمَّا أَبُو الْفَتْحِ الْيَعْمُرِيُّ فَقَالَ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَقُولُ مِثْلَ مَا يَقُولُ عَقِبَ فَرَاغِ الْمُؤَذِّنِ، لَكِنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي تَضَمَّنَتْ إِجَابَةَ كُلِّ كَلِمَةٍ عَقِبَهَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْمُسَاوَقَةُ، يُشِيرُ إِلَى حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الَّذِي عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، فَلَوْ لَمْ يُجَاوِبْهُ حَتَّى فَرَغَ اسْتُحِبَّ لَهُ التَّدَارُكُ إِنْ لَمْ يَطُلِ الْفَصْلُ. قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ بَحْثًا. وَقَدْ قَالُوهُ فِيمَا إِذَا كَانَ لَهُ عُذْرٌ كَالصَّلَاةِ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ مِثْلَ أَنَّهُ يَقُولُ مِثْلَ قَوْلِهِ فِي جَمِيعِ الْكَلِمَاتِ، لَكِنَّ حَدِيثَ عُمَرَ أَيْضًا وَحَدِيثَ مُعَاوِيَةَ الْآتِي يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ وَحَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ فَيَقُولُ بَدَلَهُمَا لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ كَذَلِكَ اسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنَ الِاخْتِلَافِ الْمُبَاحِ فَيَقُولُ تَارَةً كَذَا وَتَارَةً كَذَا، وَحَكَى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْأُصُولِ أَنَّ الْخَاصَّ وَالْعَامَّ إِذَا أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَجَبَ إِعْمَالُهُمَا، قَالَ: فَلِمَ لَا يُقَالُ يُسْتَحَبُّ لِلسَّامِعِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْحَيْعَلَةِ وَالْحَوْقَلَةِ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وأُجِيبَ عَنِ الْمَشْهُورِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى بِأَنَّ الْأَذْكَارَ الزَّائِدَةَ عَلَى الْحَيْعَلَةِ يَشْتَرِكُ السَّامِعُ وَالْمُؤَذِّنُ فِي ثَوَابِهَا، وَأَمَّا الْحَيْعَلَةُ فَمَقْصُودُهَا الدُّعَاءُ إِلَى الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ مِنَ الْمُؤَذِّنِ، فَعُوِّضَ السَّامِعُ عَمَّا يَفُوتُهُ مِنْ ثَوَابِ الْحَيْعَلَةِ بِثَوَابِ الْحَوْقَلَةِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: يَحْصُلُ لِلْمُجِيبِ الثَّوَابُ لِامْتِثَالِهِ الْأَمْرَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَزْدَادَ اسْتِيقَاظًا وَإِسْرَاعًا إِلَى الْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ إِذَا تَكَرَّرَ عَلَى سَمْعِهِ الدُّعَاءُ إِلَيْهَا مِنَ الْمُؤَذِّنِ وَمِنْ
نَفْسِهِ. وَيَقْرُبُ مِنْ ذَلِكَ الْخِلَافُ فِي قَوْلِ الْمَأْمُومِ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ كَمَا سَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: مَعْنَى الْحَيْعَلَتَيْنِ هَلُمَّ بِوَجْهِكَ وَسَرِيرَتِكَ إِلَى الْهُدَى عَاجِلًا وَالْفَوْزِ بِالنَّعِيمِ آجِلًا، فَنَاسَبَ أَنْ يَقُولَ: هَذَا أَمْرٌ عَظِيمٌ لَا أَسْتَطِيعُ مَعَ ضَعْفِي الْقِيَامَ بِهِ إِلَّا إِذَا وَفَّقَنِي اللَّهُ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ. وَمِمَّا لُوحِظَتْ فِيهِ الْمُنَاسَبَةُ مَا نَقَلَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: حَدَّثْتُ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يُنْصِتُونَ لِلْمُؤَذِّنِ إِنْصَاتَهُمْ لِلْقِرَاءَةِ فَلَا يَقُولُ شَيْئًا إِلَّا قَالُوا مِثْلَهُ، حَتَّى إِذَا قَالَ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ قَالُوا: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ وَإِذَا قَالَ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ قَالُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ. انْتَهَى. وَإِلَى هَذَا صَارَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِثْلَهُ عَنْ عُثْمَانَ، وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: يَقُولُ فِي جَوَابِ الْحَيْعَلَةِ: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا. وَوَرَاءَ ذَلِكَ وُجُوهٌ مِنَ الِاخْتِلَافِ أُخْرَى، قِيلَ: لَا يُجِيبُهُ إِلَّا فِي التَّشَهُّدَيْنِ فَقَطْ، وَقِيلَ: هُمَا وَالتَّكْبِيرُ، وَقِيلَ: يُضِيفُ إِلَى ذَلِكَ الْحَوْقَلَةَ دُونَ مَا فِي آخِرِهِ، وَقِيلَ: مَهْمَا أَتَى بِهِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ كَفَاهُ وَهُوَ اخْتِيَارُ الطَّحَاوِيِّ، وَحَكَوْا أَيْضًا خِلَافًا: هَلْ يُجِيبُ فِي التَّرْجِيعِ أَوْ لَا، وَفِيمَا إِذَا أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ آخَرُ هَلْ يُجِيبُهُ بَعْدَ إِجَابَتِهِ لِلْأَوَّلِ أَوْ لَا. قَالَ النَّوَوِيُّ: لَمْ أَرَ فِيهِ شَيْئًا لِأَصْحَابِنَا. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: يُجِيبُ كُلَّ وَاحِدٍ بِإِجَابَةٍ لِتَعَدُّدِ السَّبَبِ، وَإِجَابَةُ الْأَوَّلِ أَفْضَلُ، إِلَّا فِي الصُّبْحِ وَالْجُمُعَةِ فَإِنَّهُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّهُمَا مَشْرُوعَانِ. وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْمِثْلِ لَا يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، لِأَنَّ قَوْلَهُ مِثْلَ مَا يَقُولُ لَا يُقْصَدُ بِهِ رَفْعُ الصَّوْتِ الْمَطْلُوبِ مِنَ الْمُؤَذِّنِ، كَذَا قِيلَ وَفِيهِ بَحْثٌ، لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ وَقَعَتْ فِي الْقَوْلِ لَا فِي صِفَتِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُؤَذِّنِ وَالْمُجِيبِ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُؤَذِّنَ مَقْصُودُهُ الْإِعْلَامُ فَاحْتَاجَ إِلَى رَفْعِ الصَّوْتِ، وَالسَّامِعَ مَقْصُودُهُ ذِكْرُ اللَّهِ فَيَكْتَفِي بِالسِّرِّ أَوِ الْجَهْرِ لَا مَعَ الرَّفْعِ. نَعَمْ لَا يَكْفِيهِ أَنْ يُجْرِيَهُ عَلَى خَاطِرِهِ مِنْ غَيْرِ تَلَفُّظٍ لِظَاهِرِ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ. وَأَغْرَبَ ابْنُ الْمُنِيرِ فَقَالَ: حَقِيقَةُ الْأَذَانِ جَمِيعُ مَا يَصْدُرُ عَنِ الْمُؤَذِّنِ مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ وَهَيْئَةٍ.
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْأَذَانَ مَعْنَاهُ الْإِعْلَامُ لُغَةً، وَخَصَّهُ الشَّرْعُ بِأَلْفَاظٍ مَخْصُوصَةٍ فِي أَوْقَاتٍ مَخْصُوصَةٍ فَإِذَا وُجِدَتِ الْأَذَانُ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ هَيْئَةٍ يَكُونُ مِنْ مُكَمِّلَاتِهِ
(1)
وَيُوجَدُ الْأَذَانُ مِنْ دُونِهَا. وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا أَطْلَقَ لَكَانَ مَا أَحْدَثَ مِنَ التَّسْبِيحِ قَبْلَ الصُّبْحِ وَقَبْلَ الْجُمُعَةِ وَمِنَ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ جُمْلَةِ الْأَذَانِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لَا لُغَةً وَلَا شَرْعًا. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ إِجَابَةِ الْمُؤَذِّنِ فِي الصَّلَاةِ عَمَلًا بِظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَلِأَنَّ الْمُجِيبَ لَا يَقْصِدُ الْمُخَاطَبَةَ، وَقِيلَ: يُؤَخِّرُ الْإِجَابَةَ حَتَّى يَفْرُغَ لِأَنَّ فِي الصَّلَاةِ شُغْلًا، وَقِيلَ: يُجِيبُ إِلَّا فِي الْحَيْعَلَتَيْنِ لِأَنَّهُمَا كَالْخِطَابِ لِلْآدَمِيِّينَ وَالْبَاقِي مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَلَا يَمْنَعُ. لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: مَنْ يُبَدِّلُ الْحَيْعَلَةَ بِالْحَوْقَلَةِ لَا يَمْنَعُ، لِأَنَّهَا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، قَالَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ.
وَفَرَّقَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي فَتَاوِيهِ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ فَلَا يُجِيبُ بِنَاءً عَلَى وُجُوبِ مُوَالَاتِهَا وَإِلَّا فَيُجِيبُ، وَعَلَى هَذَا إِنْ أَجَابَ فِي الْفَاتِحَةِ اسْتَأْنَفَ، وَهَذَا قَالَهُ بَحْثًا، وَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ كَرَاهَةُ الْإِجَابَةِ فِي الصَّلَاةِ بَلْ يُؤَخِّرُهَا حَتَّى يَفْرُغَ، وَكَذَا فِي حَالِ الْجِمَاعِ وَالْخَلَاءِ، لَكِنْ إِنْ أَجَابَ بِالْحَيْعَلَةِ بَطَلَتْ كَذَا أَطْلَقَهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ عَلَى عَدَمِ فَسَادِ الصَّلَاةِ بِذَلِكَ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ إِجَابَةِ الْمُؤَذِّنِ فِي الْإِقَامَةِ، قَالُوا: إِلَّا فِي كَلِمَتَيِ الْإِقَامَةِ فَيَقُولُ أَقَامَهَا اللَّهُ وَأَدَامَهَا وَقِيَاسُ إِبْدَالِ الْحَيْعَلَةِ بِالْحَوْقَلَةِ فِي الْأَذَانِ أَنْ يَجِيءَ هُنَا، لَكِنْ قَدْ يُفَرَّقُ بِأَنَّ الْأَذَانَ إِعْلَامٌ عَامٌّ فَيَعْسُرُ عَلَى الْجَمِيعِ أَنْ يَكُونُوا دُعَاةً إِلَى الصَّلَاةِ، وَالْإِقَامَةَ إِعْلَامٌ
(1)
هذا فيه نظر: والصواب أن ما أحدثه الناس من رفع الصوت بالتسبيح قبل الأذان والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعده - كما أشار إليه الشارح - بدعة يجب على ولاة الأمر إنكارها حتى لايدخل في الأذان ماليس منه، وفيما شرعه الله غنية وكفاية عن المحدثات، فتنبه
خَاصٌّ وَعَدَدُ مَنْ يَسْمَعُهَا مَحْصُورٌ فَلَا يَعْسُرُ أَنْ يَدْعُوَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ إِجَابَةِ الْمُؤَذِّنِ، حَكَاهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْ قَوْمٍ مِنَ السَّلَفِ وَبِهِ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَأَهْلُ الظَّاهِرِ وَابْنُ وَهْبٍ، وَاسْتُدِلَّ لِلْجُمْهُورِ بِحَدِيثٍ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ إِنَّهُ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ مُؤَذِّنًا فَلَمَّا كَبَّرَ قَالَ: عَلَى الْفِطْرَةِ، فَلَمَّا تَشَهَّدَ قَالَ: خَرَجَ مِنَ النَّارِ قَالَ: فَلَمَّا قَالَ عليه الصلاة والسلام غَيْرَ مَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ عَلِمْنَا أَنَّ الْأَمْرَ بِذَلِكَ لِلِاسْتِحْبَابِ.
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ مِثْلَ مَا قَالَ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ وَلَمْ يَنْقُلْهُ الرَّاوِي اكْتِفَاءً بِالْعَادَةِ وَنَقَلَ الْقَوْلَ الزَّائِدَ، وَبِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَقَعَ قَبْلَ صُدُورِ الْأَمْرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ لَمَّا أَمَرَ لَمْ يُرِدْ أَنْ يُدْخِلَ نَفْسَهُ فِي عُمُومِ مَنْ خُوطِبَ بِذَلِكَ، قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ لَمْ يَقْصِدِ الْأَذَانَ لَكِنْ يَرُدُّ هَذَا الْأَخِيرَ أَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَنَّهُ حَضَرَتْهُ الصَّلَاةُ
قَوْله: (حَدَّثَنَا هِشَامٌ) هُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ وَيَحْيَى هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ.
قَوْله: (أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ يَوْمًا فَقَالَ مِثْلَهُ - إِلَى قَوْلِهِ - وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ) هَكَذَا أَوْرَدَ الْمَتْنَ هُنَا مُخْتَصَرًا، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ هِشَامٍ وَلَفْظُهُ: كُنَّا عِنْدَ مُعَاوِيَةَ فَنَادَى الْمُنَادِي بِالصَّلَاةِ فَقَالَ مِثْلَ مَا قَالَ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَنْبَأَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى نَحْوَهُ. قَالَ يَحْيَى: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ إِخْوَانِنَا أَنَّهُ لَمَّا قَالَ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَقَالَ: هَكَذَا سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ يَقُولُ. انْتَهَى. فَأَحَالَ بِقَوْلِهِ نَحْوَهُ عَلَى الَّذِي قَبْلَهُ، وَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّهُ لَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ كُلَّهُ، وَقَدْ وَقَعَ لَنَا هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طُرُقٍ عَنْ هِشَامٍ الْمَذْكُورِ تَامًّا، مِنْهَا لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُعَاذِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ يَحْيَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ طَلْحَةَ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَنَادَى مُنَادٍ بِالصَّلَاةِ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ. فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ مُعَاوِيَة: وَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ.
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى نَحْوَهُ.
قَالَ يَحْيَى: فَحَدَّثَنِي صَاحِبٌ لَنَا أَنَّهُ لَمَّا قَالَ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. ثُمَّ قَالَ هَكَذَا سَمِعْنَا نَبِيَّكُمْ). انْتَهَى. فَاشْتَمَلَ هَذَا السِّيَاقُ عَلَى فَوَائِدَ: أَحَدُهَا تَصْرِيحُ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ بِالسَّمَاعِ لَهُ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ فَأُمِنَ مَا يُخْشَى مِنْ تَدْلِيسِهِ، ثَانِيهَا: بَيَانُ مَا اخْتُصِرَ مِنْ رِوَايَتَيِ الْبُخَارِيِّ، ثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى: أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ يَوْمًا فَقَالَ مِثْلَهُ فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ يَسْمَعُ الْمُؤَذِّنَ يَوْمًا فَقَالَ مِثْلَهُ، رَابِعُهَا: أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي رِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ لَمْ يَنْفَرِدْ بِهَا لِمُتَابَعَةِ مُعَاذِ بْنِ هِشَامٍ لَهُ، خَامِسُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: قَالَ يَحْيَى لَيْسَ تَعْلِيقًا مِنَ الْبُخَارِيِّ كَمَا زَعَمَهُ بَعْضُهُمْ، بَلْ هُوَ عِنْدَهُ بِإِسْنَادِ إِسْحَاقَ. وَأَبْدَى الْحَافِظُ قُطْبُ الدِّينِ احْتِمَالًا أَنَّهُ عِنْدَهُ بِإِسْنَادَيْنِ، ثُمَّ إِنَّ إِسْحَاقَ هَذَا لَمْ يُنْسَبْ وَهُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ، كَذَلِكَ صَرَّحَ بِهِ أَبُو نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجِهِ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شِيرَوَيْهِ عَنْهُ.
وَأَمَّا الْمُبْهَمُ الَّذِي حَدَّثَ يَحْيَى بِهِ عَنْ مُعَاوِيَةَ فَلَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ عَلَى تَعْيِينِهِ، وَحَكَى الْكِرْمَانِيُّ عَنْ غَيْرِهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْأَوْزَاعِيُّ، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ لِيَحْيَى حَدَّثَهُ بِهِ عَنْ مُعَاوِيَةَ، وَأَيْنَ عَصْرُ الْأَوْزَاعِيِّ مِنْ عَصْرِ مُعَاوِيَةَ؟ وَقَدْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّي أَنَّهُ عَلْقَمَةُ بْنُ وَقَّاصٍ إِنْ كَانَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ أَدْرَكَهُ، وَإِلَّا فَأَحَدُ ابْنَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلْقَمَةَ أَوْ عَمْرُو بْنُ عَلْقَمَةَ، وَإِنَّمَا قُلْتُ ذَلِكَ لِأَنَّنِي جَمَعْتُ طُرُقَهُ عَنْ مُعَاوِيَةَ فَلَمْ أَجِدْ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي ذِكْرِ الْحَوْقَلَةِ إِلَّا مِنْ طَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَنْ نَهْشَلٍ التَّمِيمِيِّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ فِي الطَّبَرَانِيِّ بِإِسْنَادٍ وَاهٍ، وَالْآخَرُ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنُ وَقَّاصٍ عَنْهُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ يَحْيَى أَنَّ عِيسَى بْنَ عَمْرٍو أَخْبَرَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ إِنِّي لَعِنْدَ مُعَاوِيَةَ إِذْ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ
كَمَا قَالَ، حَتَّى إِذَا قَالَ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، فَلَمَّا قَالَ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ ذَلِكَ وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ فَذَكَرَ مِثْلَهُ، وَأَوْضَحَ سِيَاقًا مِنْهُ، وَتَبَيَّنَ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ ذِكْرَ
الْحَوْقَلَةِ فِي جَوَابِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ اخْتُصِرَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ، بِخِلَافِ مَا تَمَسَّكَ بِهِ بَعْضُ مَنْ وَقَفَ مَعَ ظَاهِرِهِ، وَأَنَّ إِلَى فِي قَوْلِهِ فِي الطَّرِيقِ الْأُولَى فَقَالَ مِثْلَ قَوْلِهِ إِلَى أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ بِمَعْنَى مَعَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ}
(تَنْبِيهٌ) أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ نَحْوَ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ، وَإِنَّمَا لَمْ يُخَرِّجْهُ الْبُخَارِيُّ لِاخْتِلَافٍ وَقَعَ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَلَمْ يُخَرِّجْ مُسْلِمٌ حَدِيثَ مُعَاوِيَةَ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ الْمَقْصُودَةَ مِنْهُ لَيْسَتْ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ لِلْمُبْهَمِ الَّذِي فِيهَا، لَكِنْ إِذَا انْضَمَّ أَحَدُ الْحَدِيثَيْنِ إِلَى الْآخَرِ قَوِيَ جِدًّا. وَفِي الْبَابِ أَيْضًا عَنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ الْهَاشِمِيِّ، وَأَبِي رَافِعٍ - وَهُمَا فِي الطَّبَرَانِيِّ وَغَيْرِهِ - وَعَنْ أَنَسٍ فِي الْبَزَّارِ وَغَيْرِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
8 - بَاب الدُّعَاءِ عِنْدَ النِّدَاءِ
614 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
[الحديث 614 - طرفه في: 4719]
قَوْلُهُ: (بَابُ الدُّعَاءِ عِنْدَ النِّدَاءِ) أَيْ عِنْدَ تَمَامِ النِّدَاءِ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِذَلِكَ اتِّبَاعًا لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ كَمَا سَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ) بِالْيَاءِ الْأَخِيرَةِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ الْحِمْصِيُّ مِنْ كِبَارِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ وَلَمْ يَلْقَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ السِّتَّةِ غَيْرُهُ، وَقَدْ حَدَّثَ عَنْهُ الْقُدَمَاءُ بِهَذَا الْحَدِيثِ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْهُ، وَرَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ مَعَ تَقَدُّمِهِ عَلَى أَحْمَدَ عَنْهُ، أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ) ذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ أَنَّ شُعَيْبًا تَفَرَّدَ بِهِ عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ فَهُوَ غَرِيبٌ مَعَ صِحَّتِهِ، وَقَدْ تُوبِعَ ابْنُ الْمُنْكَدِرِ عَلَيْهِ عَنْ جَابِرٍ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ نَحْوَهُ، وَوَقَعَ فِي زَوَائِدِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: أَخْبَرَنِي ابْنُ الْمُنْكَدِرِ.
قَوْلُهُ: (مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ) أَيِ الْأَذَانَ، وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ نِدَاءَ الْمُؤَذِّنِ. وَظَاهِرُهُ: أَنَّهُ يَقُولُ الذِّكْرَ الْمَذْكُورَ حَالَ سَمَاعِ الْأَذَانِ وَلَا يَتَقَيَّدُ بِفَرَاغِهِ، لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ النِّدَاءِ تَمَامَهُ، إِذِ الْمُطْلَقُ يُحْمَلُ عَلَى الْكَامِلِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ: قُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ، ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَفِي هَذَا أَنَّ ذَلِكَ يُقَالُ عِنْدَ فَرَاغِ الْأَذَانِ. وَاسْتَدَلَّ الطَّحَاوِيُّ بِظَاهِرِ حَدِيثِ جَابِرٍ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ إِجَابَةُ الْمُؤَذِّنِ بِمِثْلِ مَا يَقُولُ، بَلْ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الذِّكْرِ الْمَذْكُورِ كَفَاهُ. وَقَدْ بَيَّنَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو الْمُرَادَ، وَأَنَّ الْحِينَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا بَعْدَ الْفَرَاغِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ بَزِيزَةَ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ ذَلِكَ لِظَاهِرِ إِيرَادِهِ، لَكِنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ قَدْ يَتَمَسَّكُ بِهِ مَنْ يَدَّعِي الْوُجُوبَ، وَبِهِ
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَابْنُ وَهْبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَخَالَفَ الطَّحَاوِيُّ أَصْحَابَهُ فَوَافَقَ الْجُمْهُورَ.
قَوْلُهُ: (رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ) بِفَتْحِ الدَّالِ، زَادَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَوْنٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَيَّاشٍ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِحَقِّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالْمُرَادُ بِهَا دَعْوَةُ التَّوْحِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} وَقِيلَ: لِدَعْوَةِ التَّوْحِيدِ تَامَّةٌ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ نَقْصٌ. أَوِ التَّامَّةُ الَّتِي لَا يَدْخُلُهَا تَغْيِيرٌ وَلَا تَبْدِيلٌ، بَلْ هِيَ بَاقِيَةٌ إِلَى يَوْمِ النُّشُورِ، أَوْ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَسْتَحِقُّ صِفَةَ التَّمَامِ وَمَا سِوَاهَا فَمُعَرَّضٌ لِلْفَسَادِ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: وُصِفَتْ بِالتَّامَّةِ لِأَنَّ فِيهَا أَتَمَّ الْقَوْلِ وَهُوَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى قَوْلِهِ: مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ هِيَ الدَّعْوَةُ التَّامَّةِ، وَالْحَيْعَلَةُ هِيَ الصَّلَاةُ الْقَائِمَةِ فِي قَوْلِهِ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ الدُّعَاءُ وَبِالْقَائِمَةِ الدَّائِمَةُ مِنْ قَامَ عَلَى الشَّيْءِ إِذَا دَاوَمَ عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ بَيَانٌ لِلدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ الْمَدْعُوِّ إِلَيْهَا حِينَئِذٍ وَهُوَ أَظْهَرُ.
قَوْلُهُ: (الْوَسِيلَةَ) هِيَ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى الْكَبِيرِ، يُقَالُ: تَوَسَّلْتُ أَيْ: تَقَرَّبْتُ، وَتُطْلَقُ عَلَى الْمَنْزِلَةِ الْعَلِيَّةِ، وَوَقَعَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الْحَدِيثَ، وَنَحْوُهُ لِلْبَزَّارِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَيُمْكِنُ رَدُّهَا إِلَى الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْوَاصِلَ إِلَى تِلْكَ الْمَنْزِلَةِ قَرِيبٌ مِنَ اللَّهِ فَتَكُونُ كَالْقُرْبَةِ الَّتِي يُتَوَسَّلُ بِهَا.
قَوْلُهُ: (وَالْفَضِيلَةَ) أَيِ الْمَرْتَبَةَ الزَّائِدَةَ عَلَى سَائِرِ الْخَلَائِقِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَنْزِلَةً أُخْرَى أَوْ تَفْسِيرًا لِلْوَسِيلَةِ.
قَوْلُهُ: (مَقَامًا مَحْمُودًا) أَيْ يُحْمَدُ الْقَائِمُ فِيهِ، وَهُوَ مُطْلَقٌ فِي كُلِّ مَا يَجْلِبُ الْحَمْدَ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَرَامَاتِ، وَنُصِبَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، أَيِ ابْعَثْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَقِمْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا، أَوْ ضَمَّنَ ابْعَثْهُ مَعْنَى أَقِمْهُ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ وَمَعْنَى ابْعَثْهُ أَعْطِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا أَيِ ابْعَثْهُ ذَا مَقَامٍ مَحْمُودٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: ثَبَتَتِ الرِّوَايَةُ بِالتَّنْكِيرِ وَكَأَنَّهُ حِكَايَةٌ لِلَفْظِ الْقُرْآنِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: إِنَّمَا نَكَّرَهُ لِأَنَّهُ أَفْخَمُ وَأَجْزَلُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَقَامًا أَيْ: مَقَامًا مَحْمُودًا بِكُلِّ لِسَانٍ.
قُلْتُ: وَقَدْ جَاءَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِعَيْنِهَا مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ عَيَّاشٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ بِالتَّعْرِيفِ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَهِيَ فِي صَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَابْنِ حِبَّانَ أَيْضًا، وَفِي الطَّحَاوِيِّ، وَالطَّبَرَانِيِّ فِي الدُّعَاءِ وَالْبَيْهَقِيِّ، وَفِيهِ تَعَقُّبٌ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ كَالنَّوَوِيِّ.
قَوْلُهُ: (الَّذِي وَعَدْتَهُ) زَادَ فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ {إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} وَأُطْلِقَ عَلَيْهِ الْوَعْدُ لِأَنَّ عَسَى مِنَ اللَّهِ وَاقِعٌ كَمَا صَحَّ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَغَيْرِهِ، وَالْمَوْصُولُ إِمَّا بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَلَيْسَ صِفَةً لِلنَّكِرَةِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ وَغَيْرِهِمَا: الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ فَيَصِحُّ وَصْفُهُ بِالْمَوْصُولِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ الشَّفَاعَةُ، وَقِيلَ: إِجْلَاسُهُ عَلَى الْعَرْشِ، وَقِيلَ: عَلَى الْكُرْسِيِّ، وَحَكَى كُلًّا مِنَ الْقَوْلَيْنِ عَنْ جَمَاعَةٍ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الصِّحَّةِ لَا يُنَافِي الْأَوَّلَ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْإِجْلَاسُ عَلَامَةَ الْإِذْنِ فِي الشَّفَاعَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ الشَّفَاعَةُ كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ، وَأَنْ يَكُونَ الْإِجْلَاسُ هِيَ الْمَنْزِلَةُ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْوَسِيلَةِ أَوِ الْفَضِيلَةِ. وَوَقَعَ فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوعًا يَبْعَثُ اللَّهُ النَّاسَ، فَيَكْسُونِي رَبِّي حُلَّةً خَضْرَاءَ، فَأَقُولُ: مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَقُولَ فَذَلِكَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ، وَيَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَوْلِ الْمَذْكُورِ هُوَ الثَّنَاءُ الَّذِي يُقَدِّمُهُ بَيْنَ يَدَيِ الشَّفَاعَةِ. وَيَظْهَرُ أَنَّ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ هُوَ مَجْمُوعُ مَا يَحْصُلُ لَهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَيُشْعِرُ قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي بِأَنَّ الْأَمْرَ الْمَطْلُوبَ لَهُ الشَّفَاعَةُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (حَلَّتْ لَهُ) أَيِ اسْتَحَقَّتْ وَوَجَبَتْ أَوْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ، يُقَالُ: حَلَّ يَحُلُّ بِالضَّمِّ إِذَا نَزَلَ، وَاللَّامُ بِمَعْنَى عَلَى، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ حَلَّتْ عَلَيْهِ. وَوَقَعَ فِي الطَّحَاوِيِّ من حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَبَتْ لَهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَلَّتْ مِنَ
الْحِلِّ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحَرَّمَةً.
قَوْلُهُ: (شَفَاعَتِي) اسْتَشْكَلَ بَعْضُهُمْ جَعْلَ ذَلِكَ ثَوَابًا لِقَائِلِ ذَلِكَ مَعَ مَا ثَبَتَ مِنْ أَنَّ الشَّفَاعَةَ لِلْمُذْنِبِينَ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ لَهُ صلى الله عليه وسلم شَفَاعَاتٌ أُخْرَى: كَإِدْخَالِ الْجَنَّةِ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَكَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ فَيُعْطَى كُلُّ أَحَدٍ مَا يُنَاسِبُهُ. وَنَقَلَ عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ أَنَّهُ كَانَ يَرَى اخْتِصَاصَ ذَلِكَ بِمَنْ قَالَهُ مُخْلِصًا مُسْتَحْضِرًا إِجْلَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا مَنْ قَصَدَ بِذَلِكَ مُجَرَّدَ الثَّوَابِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَهُوَ تَحَكُّمٌ غَيْرُ مَرْضِيٍّ، وَلَوْ كَانَ أَخْرَجَ الْغَافِلَ اللَّاهِيَ لَكَانَ أَشْبَهَ. وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: فِي الْحَدِيثِ الْحَضُّ عَلَى الدُّعَاءِ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ لِأَنَّهُ حَالُ رَجَاءِ الْإِجَابَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
9 - بَاب الِاسْتِهَامِ فِي الْأَذَانِ
وَيُذْكَرُ أَنَّ أَقْوَامًا اخْتَلَفُوا فِي الْأَذَانِ فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ سَعْدٌ
615 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا.
قَوْلُهُ: (بَابُ الِاسْتِهَامِ فِي الْأَذَانِ)) أَيِ الِاقْتِرَاعُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ: قِيلَ: لَهُ الِاسْتِهَامُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْتُبُونَ أَسْمَاءَهُمْ عَلَى سِهَامٍ إِذَا اخْتَلَفُوا فِي الشَّيْءِ فَمَنْ خَرَجَ سَهْمُهُ غَلَبَ.
قَوْلُهُ: (وَيَذْكُرُ أَنَّ قَوْمًا اخْتَلَفُوا) أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ كِلَاهُمَا عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شُبْرُمَةَ قَالَ: تَشَاحَّ النَّاسُ فِي الْأَذَانِ بِالْقَادِسِيَّةِ فَاخْتَصَمُوا إِلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ. وَهَذَا مُنْقَطِعٌ. وَقَدْ وَصَلَهُ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ فِي الْفُتُوحِ وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ عَنْهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شُبْرُمَةَ، عَنْ شَقِيقٍ - وَهُوَ أَبُو وَائِلٍ - قَالَ: افْتَتَحْنَا الْقَادِسِيَّةَ صَدْرَ النَّهَارِ، فَتَرَاجَعْنَا وَقَدْ أُصِيبَ الْمُؤَذِّنُ فَذَكَرَهُ وَزَادَ: فَخَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لِرَجُلٍ مِنْهُمْ فَأَذَّنَ.
(فَائِدَةٌ): الْقَادِسِيَّةُ مَكَانٌ بِالْعِرَاقِ مَعْرُوفٌ، نُسِبَ إِلَى قَادِسٍ رَجُلٍ نَزَلَ بِهِ، وَحَكَى الْجَوْهَرِيُّ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام قَدَّسَ عَلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ فَلِذَلِكَ صَارَ مَنْزِلًا لِلْحَاجِّ، وَكَانَتْ بِهِ وَقْعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ مَشْهُورَةٌ مَعَ الْفُرْسِ وَذَلِكَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَكَانَ سَعْدٌ يَوْمَئِذٍ الْأَمِيرَ عَلَى النَّاسِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ سُمَيٍّ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ بِلَفْظِ التَّصْغِيرِ.
قَوْلُهُ: (مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ) أَيِ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ.
قَوْلُهُ: (لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ) قَالَ الطِّيبِيُّ: وَضَعَ الْمُضَارِعَ مَوْضِعَ الْمَاضِي لِيُفِيدَ اسْتِمْرَارَ الْعِلْمِ.
قَوْلُهُ: (مَا فِي النِّدَاءِ) أَيِ الْأَذَانِ، وَهِيَ رِوَايَةُ بِشْرِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ مَالِكٍ عِنْدَ السَّرَّاجِ.
قَوْلُهُ: (وَالصَّفُّ الْأَوَّلُ) زَادَ أَبُو الشَّيْخِ فِي رِوَايَةٍ لَهُ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنَ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَطْلَقَ مَفْعُولَ يَعْلَمُ وَهُوَ مَا وَلَمْ يُبَيِّنِ الْفَضِيلَةَ مَا هِيَ لِيُفِيدَ ضَرْبًا مِنَ الْمُبَالَغَةِ وَأَنَّهُ مِمَّا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَصْفِ، وَالْإِطْلَاقُ إِنَّمَا هُوَ فِي قَدْرِ الْفَضِيلَةِ وَإِلَّا فَقَدْ بَيَّنْتُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى بِالْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْحَمَوِيِّ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَحَكَى الْكِرْمَانِيُّ أَنَّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ ثُمَّ لَا يَجِدُوا وَوَجَّهَهُ بِجَوَازِ حَذْفِ النُّونِ تَخْفِيفًا، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا) أَيْ لَمْ يَجِدُوا شَيْئًا مِنْ وُجُوهِ الْأَوْلَوِيَّةِ، أَمَّا فِي الْأَذَانِ فَبِأَنْ يَسْتَوُوا فِي مَعْرِفَةِ الْوَقْتِ وَحُسْنِ الصَّوْتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ شَرَائِطِ الْمُؤَذِّنِ
وَتَكْمِلَاتِهِ، وَأَمَّا فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ فَبِأَنْ يُصَلُّوا دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَيَسْتَوُوا فِي الْفَضْلِ فَيُقْرَعُ بَيْنَهُمْ، إِذَا لَمْ يَتَرَاضَوْا فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي الْحَالَيْنِ. وَاسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ لِمَنْ قَالَ: بِالِاقْتِصَارِ عَلَى مُؤَذِّنٍ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ لِصِحَّةِ اسْتِهَامِ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ فِي مُقَابَلَةِ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ، وَلِأَنَّ الِاسْتِهَامَ عَلَى الْأَذَانِ يَتَوَجَّهُ مِنْ جِهَةِ التَّوْلِيَةِ مِنَ الْإِمَامِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَزِيَّةِ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْتِهَامِ هُنَا التَّرَامِي بِالسِّهَامِ، وَأَنَّهُ أُخْرِجَ مَخْرَجَ الْمُبَالَغَةِ. وَاسْتَأْنَسَ بِحَدِيثٍ لَفْظُهُ لَتَجَالَدُوا عَلَيْهِ بِالسُّيُوفِ لَكِنِ الَّذِي فَهِمَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْهُ أَوْلَى، وَلِذَلِكَ اسْتَشْهَدَ لَهُ بِقِصَّةِ سَعْدٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةٌ لِمُسْلِمٍ لَكَانَتْ قُرْعَةً.
قَوْلُهُ: (عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى مَا ذُكِرَ لِيَشْمَلَ الْأَمْرَيْنِ الْأَذَانَ وَالصَّفَّ الْأَوَّلَ، وَبِذَلِكَ يَصِحُّ تَبْوِيبُ الْمُصَنِّفِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْهَاءُ عَائِدَةٌ عَلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ لَا عَلَى النِّدَاءِ، وَهُوَ حَقُّ الْكَلَامِ، لِأَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ لِأَقْرَبِ مَذْكُورٍ. وَنَازَعَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَقَالَ: إِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَبْقَى النِّدَاءُ ضَائِعًا لَا فَائِدَةَ لَهُ، قَالَ: وَالضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى مَعْنَى الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} أَيْ جَمِيعَ ذَلِكَ.
قُلْتُ: وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَالِكٍ بِلَفْظِ لَاسْتَهَمُوا عَلَيْهِمَا فَهَذَا مُفْصِحٌ بِالْمُرَادِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ.
قَوْلُهُ: (التَّهْجِيرُ) أَيِ التَّبْكِيرُ إِلَى الصَّلَاةِ، قَالَ الْهَرَوِيُّ: وَحَمَلَهُ الْخَلِيلُ وَغَيْرُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَقَالُوا: الْمُرَادُ الْإِتْيَانُ إِلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، لِأَنَّ التَّهْجِيرَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْهَاجِرَةِ وَهِيَ شِدَّةُ الْحَرِّ نِصْفَ النَّهَارِ وَهُوَ أَوَّلُ وَقْتِ الظُّهْرِ، وَإِلَى ذَلِكَ مَالَ الْمُصَنِّفُ كَمَا سَيَأْتِي، وَلَا يَرِدُ عَلَى ذَلِكَ مَشْرُوعِيَّةُ الْإِبْرَادِ لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الرِّفْقُ، وَأَمَّا مَنْ تَرَكَ قَائِلَتَهُ وَقَصَدَ إِلَى الْمَسْجِدِ لِيَنْتَظِرَ الصَّلَاةَ فَلَا يَخْفَى مَا لَهُ مِنَ الْفَضْلِ.
قَوْلُهُ: (لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ) قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: الْمُرَادُ بِالِاسْتِبَاقِ مَعْنًى لَا حِسًّا، لِأَنَّ الْمُسَابَقَةَ عَلَى الْأَقْدَامِ حِسًّا تَقْتَضِي السُّرْعَةَ فِي الْمَشْيِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ. انْتَهَى. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ فِي بَابِ فَضْلِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ فِي الْجَمَاعَةِ قَرِيبًا، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْمُرَادِ بِالصَّفِّ الْأَوَّلِ فِي أَوَاخِرِ أَبْوَابِ الْإِمَامَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
10 - بَاب الْكَلَامِ فِي الْأَذَانِ
وَتَكَلَّمَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ فِي أَذَانِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا بَأْسَ أَنْ يَضْحَكَ وَهُوَ يُؤَذِّنُ أَوْ يُقِيمُ
616 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، وَعَبْدِ الْحَمِيدِ صَاحِبِ الزِّيَادِيِّ، وَعَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: خَطَبَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ فِي يَوْمٍ رَدْغٍ فَلَمَّا بَلَغَ الْمُؤَذِّنُ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ فَأَمَرَهُ أَنْ يُنَادِيَ الصَّلَاةُ فِي الرِّحَالِ فَنَظَرَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فَقَالَ: فَعَلَ هَذَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ وَإِنَّهَا عَزْمَةٌ.
[الحديث 615 - أطرافه في 2689، 721، 654]
قَوْلُهُ: (بَابُ الْكَلَامِ فِي الْأَذَانِ) أَيْ فِي أَثْنَائِهِ بِغَيْرِ أَلْفَاظِهِ. وَجَرَى الْمُصَنِّفُ عَلَى عَادَتِهِ فِي عَدَمِ الْجَزْمِ بِالْحُكْمِ الَّذِي دَلَالَتُهُ غَيْرُ صَرِيحَةٍ، لَكِنَّ الَّذِي أَوْرَدَهُ فِيهِ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ يَخْتَارُ الْجَوَازَ، وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ الْجَوَازَ مُطْلَقًا عَنْ عُرْوَةَ، وَعَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَعَنِ النَّخَعِيِّ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالْأَوْزَاعِيِّ الْكَرَاهَةُ، وَعَنِ الثَّوْرِيِّ الْمَنْعُ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ أَنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ كَلَامُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ يُكْرَهُ، إِلَّا إِنْ كَانَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّلَاةِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ لِظَاهِرِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ، وَقَدْ نَازَعَ فِي ذَلِكَ الدَّاوُدِيُّ فَقَالَ: لَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى جَوَازِ الْكَلَامِ فِي الْأَذَانِ، بَلِ الْقَوْلُ الْمَذْكُورُ مَشْرُوعٌ مِنْ جُمْلَةِ الْأَذَانِ فِي
ذَلِكَ الْمَحَلِّ.
قَوْلُهُ: (وَتَكَلَّمَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ فِي أَذَانِهِ) وَصَلَهُ أَبُو نُعَيْمٍ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ لَهُ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ عَنْهُ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَلَفْظُهُ: أَنَّهُ كَانَ يُؤَذِّنُ فِي الْعَسْكَرِ فَيَأْمُرُ غُلَامَهُ بِالْحَاجَةِ فِي أَذَانِهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَسَنُ) لَمْ أَرَهُ مَوْصُولًا، وَالَّذِي أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ طُرُقٍ عَنْهُ جَوَازَ الْكَلَامِ بِغَيْرِ قَيْدِ الضَّحِكِ، قِيلَ: مُطَابَقَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الضَّحِكَ إِذَا كَانَ بِصَوْتٍ قَدْ يَظْهَرُ مِنْهُ حَرْفٌ مُفْهِمٌ أَوْ أَكْثَرُ فَتَفْسُدُ الصَّلَاةُ، وَمَنْ مَنَعَ الْكَلَامَ فِي الْأَذَانِ أَرَادَ أَنْ يُسَاوِيَهُ بِالصَّلَاةِ، وَقَدْ ذَهَبَ الْأَكْثَرُ إِلَى أَنَّ تَعَمُّدَ الضَّحِكِ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَلَوْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ حَرْفٌ، فَاسْتَوَى مَعَ الْكَلَامِ فِي بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِعَمْدِهِ.
قَوْلُهُ: (حَمَّادٌ) هُوَ ابْنُ زَيْدٍ، وَعَبْدُ الْحَمِيدِ هُوَ ابْنُ دِينَارٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ هُوَ الْبَصْرِيُّ ابْنُ عَمِّ ابْنِ سِيرِينَ وَزَوْجُ ابْنَتِهِ وَهُوَ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ، وَرِوَايَةُ الثَّلَاثَةِ عَنْهُ مِنْ بَابِ رِوَايَةِ الْأَقْرَانِ لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ، وَرِجَالُ الْإِسْنَادِ كُلُّهُمْ بَصْرِيُّونَ، وَقَدْ جَمَعَهُمْ حَمَّادٌ، كَمُسَدَّدٍ كَمَا هُنَا، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ عَنْهُ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ، وَأَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ، وَكَانَ حَمَّادُ رُبَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِهِمْ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا فِي بَابِ هَلْ يُصَلِّي الْإِمَامُ بِمَنْ حَضَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْحَجْبِيِّ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَعَنْ عَاصِمٍ فَرَّقَهُمَا، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ أَيُّوبَ، وَعَاصِمٍ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى مِنْهَا وُهَيْبٌ، عَنْ أَيُّوبَ، وَحُكِيَ عَنْ وُهَيْبٍ أَنَّ أَيُّوبَ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ حَمَّادٍ عَنْ أَيُّوبَ، وَعَبْدِ الْحَمِيدِ قَالَا: سَمِعْنَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ كَذَلِكَ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَغَيْرُهُ، وَلِمُسَدَّدٍ فِيهِ شَيْخٌ آخَرُ وَهُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ كَمَا سَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
قَوْلُهُ: (خَطَبَنَا) اسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ الْمَذْكُورَةَ كَانَتِ الْجُمُعَةَ، وَفِيهِ نَظَرٌ. نَعَمْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُلَيَّةَ وَلَفْظُهُ: أَنَّ الْجُمُعَةَ عَزْمَةٌ.
قَوْلُهُ: (فِي يَوْمِ رَزْغٍ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الزَّايِ بَعْدَهَا غَيْنٌ مُعْجَمَةٌ كَذَا لِلْأَكْثَرِ هُنَا، وَلِابْنِ السَّكَنِ، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ، وَأَبِي الْوَقْتِ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ بَدَلَ الزَّايِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّهَا أَشْهَرُ، وَقَالَ: وَالصَّوَابُ الْفَتْحُ فَإِنَّهُ الِاسْمُ، وَبِالسُّكُونِ الْمَصْدَرُ. انْتَهَى. وَبِالْفَتْحِ رِوَايَةُ الْقَابِسِيِّ، قَالَ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ: الرَّزْغُ الْمَاءُ الْقَلِيلُ فِي الثِّمَادِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ طِينُ وَحْلٍ، وَفِي الْعَيْنِ: الرَّدْغَةُ الْوَحْلُ وَالرَّزْغَةُ أَشَدُّ مِنْهَا. وَفِي الْجَمْهَرَةِ وَالرَّدْغَةُ وَالرَّزْغَةُ الطِّينُ الْقَلِيلُ مِنْ مَطَرٍ أَوْ غَيْرِهِ.
(تَنْبِيهٌ) وَقَعَ هُنَا يَوْمَ رَزْغٍ بِالْإِضَافَةِ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَجْبِيِّ الْآتِيَةِ فِي يَوْمٍ ذِي رَزْغٍ وَهِيَ أَوْضَحُ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُلَيَّةَ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا بَلَغَ الْمُؤَذِّنُ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ فَأَمَرَهُ) كَذَا فِيهِ، وَكَأَنَّ هُنَا حَذْفًا تَقْدِيرُهُ أَرَادَ أَنْ يَقُولَهَا فَأَمَرَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ ابْنِ عُلَيَّةَ إِذَا قُلْتُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَلَا تَقُلْ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ وَبَوَّبَ عَلَيْهِ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَتَبِعَهُ ابْنُ حِبَّانَ ثُمَّ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ حَذَفَ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ فِي يَوْمِ الْمَطَرِ وَكَأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى الْمَعْنَى لِأَنَّ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ وَالصَّلَاةَ فِي الرِّحَالِ وَصَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ يُنَاقِضُ ذَلِكَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَجْهٌ أَنَّهُ يَقُولُ: ذَلِكَ بَعْدَ الْأَذَانِ، وَآخَرُ أَنَّهُ يَقُولُهُ بَعْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ، وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ الْحَدِيثُ مَا تَقَدَّمَ. وَقَوْلُهُ: الصَّلَاةَ فِي الرِّحَالِ بِنَصْبِ الصَّلَاةِ وَالتَّقْدِيرُ صَلُّوا الصَّلَاةَ، وَالرِّحَالُ جَمْعُ رَحْلٍ وَهُوَ مَسْكَنُ الرَّجُلِ وَمَا فِيهِ مِنْ أَثَاثِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ تُقَالُ فِي نَفْسِ الْأَذَانِ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ يَعْنِي الْآتِي فِي بَابِ الْأَذَانِ لِلْمُسَافِرِ أَنَّهَا تُقَالُ بَعْدَهُ، قَالَ: وَالْأَمْرَانِ جَائِزَانِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، لَكِنْ بَعْدَهُ أَحْسَنُ لِيَتِمَّ نَظْمُ الْأَذَانِ. قَالَ: وَمِنْ أَصْحَابنَا مَنْ يَقُولُ: لَا يَقُولُهُ إِلَّا بَعْدَ الْفَرَاغِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِصَرِيحِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. انْتَهَى.
وَكَلَامُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تُزَادُ مُطْلَقًا إِمَّا فِي أَثْنَائِهِ وَإِمَّا بَعْدَهُ، لَا أَنَّهَا بَدَلٌ مِنْ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ خُزَيْمَةَ مَا يُخَالِفُهُ، وَقَدْ وَرَدَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي حَدِيثٍ آخَرَ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ
وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ النَّحَّامِ قَالَ: أَذَّنَ مُؤَذِّنُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلصُّبْحِ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ، فَتَمَنَّيْتُ لَوْ قَالَ: وَمَنْ قَعَدَ فَلَا حَرَجَ. فَلَمَّا قَالَ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ قَالَهَا
قَوْلُهُ (فَقَالَ فَعَلَ هَذَا) كَأَنَّهُ فَهِمَ مِنْ نَظَرِهِمُ الْإِنْكَارَ. وَفِي رِوَايَةِ الْحَجْبِيِّ كَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا ذَلِكَ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُلَيَّةَ فَكَأَنَّ النَّاسَ اسْتَنْكَرُوا ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ) وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ مِنْهُمْ وَلِلْحَجْبِيِّ مِنِّي يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كَذَا فِي أَصْلِ الرِّوَايَةِ، وَمَعْنَى رِوَايَةِ الْبَابِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنَ الْمُؤَذِّنِ، يَعْنِي فَعَلَهُ مُؤَذِّنُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ خَيْرٌ مِنْ هَذَا الْمُؤَذِّنِ، وَأَمَّا رِوَايَةُ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَفِيهَا نَظَرٌ، وَلَعَلَّ مَنْ أَذَّنَ كَانُوا جَمَاعَةً إِنْ كَانَتْ مَحْفُوظَةً، أَوْ أَرَادَ جِنْسَ الْمُؤَذِّنِينَ، أَوْ أَرَادَ خَيْرٌ مِنَ الْمُنْكِرِينَ.
قَوْلُهُ: (وَإِنَّهَا) أَيِ الْجُمُعَةَ كَمَا تَقَدَّمَ (عَزْمَةٌ) بِسُكُونِ الزَّايِ ضِدُّ الرُّخْصَةِ، زَادَ ابْنُ عُلَيَّةَ وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُخْرِجَكُمْ فَتَمْشُونَ فِي الطِّينِ وَفِي رِوَايَةِ الْحَجْبِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمٍ إِنِّي أُؤَثِّمُكُمْ وَهِيَ تُرَجِّحُ رِوَايَةَ مَنْ رَوَى أُحْرِجُكُمْ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَفِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ، عَنْ عَاصِمٍ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ أَنْ أُخْرِجَ النَّاسَ وَأُكَلِّفَهُمْ أَنْ يَحْمِلُوا الْخَبَثَ مِنْ طُرُقِهِمْ إِلَى مَسْجِدِكُمْ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِسُقُوطِ الْجُمُعَةِ بِعُذْرِ الْمَطَرِ فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمُطَابَقَةُ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ أَنْكَرَهَا الدَّاوُدِيُّ فَقَالَ: لَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى جَوَازِ الْكَلَامِ فِي الْأَذَانِ، بَلِ الْقَوْلُ الْمَذْكُورُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَذَانِ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ وَإِنْ سَاغَ ذِكْرُهُ فِي هَذَا الْمَحَلِّ لَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَلْفَاظِ الْأَذَانِ الْمَعْهُودِ، وَطَرِيقُ بَيَانِ الْمُطَابَقَةِ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَمَّا جَازَتْ زِيَادَتُهُ فِي الْأَذَانِ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ دَلَّ عَلَى جَوَازِ الْكَلَامِ فِي الْأَذَانِ لِمَنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ.
11 - بَاب أَذَانِ الْأَعْمَى إِذَا كَانَ لَهُ مَنْ يُخْبِرُهُ
617 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ ثُمَّ قَالَ: وَكَانَ رَجُلًا أَعْمَى لَا يُنَادِي حَتَّى يُقَالَ لَهُ أَصْبَحْتَ أَصْبَحْتَ.
[الحديث 617 - أطرافه في 7248، 2656، 1918، 623، 620]
قَوْلُهُ: (بَابُ أَذَانِ الْأَعْمَى) أَيْ جَوَازُهُ.
قَوْلُهُ: (إِذَا كَانَ لَهُ مَنْ يُخْبِرُهُ) أَيْ بِالْوَقْتِ، لِأَنَّ الْوَقْتَ فِي الْأَصْلِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُشَاهَدَةِ، وَعَلَى هَذَا الْقَيْدِ يُحْمَلُ مَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ كَرِهُوا أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ أَعْمَى، وَأَمَّا مَا نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَدَاوُدَ أَنَّ أَذَانَ الْأَعْمَى لَا يَصِحُّ فَقَدْ تَعَقَّبَهُ السُّرُوجِيُّ بِأَنَّهُ غَلِطَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ، نَعَمْ فِي الْمُحِيطِ لِلْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ) هُوَ الْقَعْنَبِيُّ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: تَفَرَّدَ الْقَعْنَبِيُّ بِرِوَايَتِهِ إِيَّاهُ فِي الْمُوَطَّأِ مَوْصُولًا عَنْ مَالِكٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرُهُ مِنْ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ فِيهِ ابْنَ عُمَرَ، وَوَافَقَهُ عَلَى وَصْلِهِ عَنْ مَالِكٍ - خَارِجَ الْمُوَطَّأِ - عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَرَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، وَأَبُو قُرَّةَ، وَكَامِلُ بْنُ طَلْحَةَ وَآخَرُونَ، وَوَصَلَهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ جَمَاعَةٌ مِنْ حُفَّاظِ أَصْحَابِهِ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ) فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ عَادَتِهِ الْمُسْتَمِرَّةِ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ ابْتِدَاءَ ذَلِكَ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ فَقَدْ أَقَرَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ فَصَارَ فِي حُكْمِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى تَعْيِينِ الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ يُؤَذِّنُ فِيهِ مِنَ اللَّيْلِ بَعْدَ بَابٍ.
قَوْلُهُ: (فَكُلُوا) فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْأَذَانَ كَانَ عَلَامَةً عِنْدَهُمْ عَلَى دُخُولِ الْوَقْتِ فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ أَذَانَ بِلَالٍ بِخِلَافِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ) اسْمُهُ عَمْرٌو كَمَا سَيَأْتِي مَوْصُولًا فِي الصِّيَامِ وَفَضَائِلِ الْقُرْآنِ، وَقِيلَ: كَانَ اسْمُهُ الْحُصَيْنُ فَسَمَّاهُ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ اللَّهِ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنَّهُ كَانَ لَهُ اسْمَانِ، وَهُوَ قُرَشِيٌّ عَامِرِيٌّ، أَسْلَمَ قَدِيمًا، وَالْأَشْهَرُ فِي اسْمِ أَبِيهِ قَيْسُ بْنُ زَائِدَةَ. وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُكْرِمُهُ وَيَسْتَخْلِفُهُ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَشَهِدَ الْقَادِسِيَّةَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ فَاسْتُشْهِدَ بِهَا، وَقِيلَ: رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَمَاتَ، وَهُوَ الْأَعْمَى الْمَذْكُورُ فِي سُورَةِ عَبَسَ، وَاسْمُ أُمِّهِ عَاتِكَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَخْزُومِيَّةُ. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ وُلِدَ أَعْمَى فَكُنِّيَتْ أُمُّهُ أُمَّ مَكْتُومٍ لِانْكِتَامِ نُورِ بَصَرِهِ، وَالْمَعْرُوفُ أَنَّهُ عَمِيَ بَعْدَ بَدْرٍ بِسَنَتَيْنِ
(1)
.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ رَجُلًا أَعْمَى) ظَاهِرُهُ أَنَّ فَاعِلَ قَالَ هُوَ ابْنُ عُمَرَ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ الشَّيْخُ الْمُوَفَّقُ فِي الْمُغْنِي لَكِنْ رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنْ أَبِي خَلِيفَةَ، وَالطَّحَاوِيُّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ سِنَانٍ كِلَاهُمَا عَنِ الْقَعْنَبِيِّ فَعَيَّنَا أَنَّهُ ابْنُ شِهَابٍ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَمُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَأَبُو مُسْلِمٍ الْكَجِّيُّ الثَّلَاثَةُ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَالْخُزَاعِيُّ عِنْدَ أَبِي الشَّيْخِ، وَتَمَّامٌ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ، وَعُثْمَانُ الدَّارِمِيُّ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ، كُلُّهُمْ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ. وَعَلَى هَذَا فَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ إِدْرَاجٌ. وَيُجَابُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ كَوْنُ ابْنِ شِهَابٍ قَالَهُ أَنْ يَكُونَ شَيْخُهُ قَالَهُ، وَكَذَا شَيْخُ شَيْخِهِ، وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، وَاللَّيْثِ جَمِيعًا عَنِ ابْنِ شِهَابٍ وَفِيهِ قَالَ سَالِمٌ: وَكَانَ رَجُلًا ضَرِيرَ الْبَصَرِ فَفِي هَذَا أَنَّ شَيْخَ ابْنِ شِهَابٍ قَالَهُ أَيْضًا، وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الصِّيَامِ عَنِ الْمُصَنِّفِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ، وَسَنَذْكُرُ لَفْظَهُ قَرِيبًا، فَثَبَتَتْ صِحَّةُ وَصْلِهِ. وَلِابْنِ شِهَابٍ فِيهِ شَيْخٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَفِيهِ الزِّيَادَةُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هُوَ حَدِيثٌ آخَرُ لِابْنِ شِهَابٍ، وَقَدْ وَافَقَ ابْنُ إِسْحَاقَ، مَعْمَرًا فِيهِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ.
قَوْلُهُ: (أَصْبَحْتَ أَصْبَحْتَ) أَيْ دَخَلْتَ فِي الصَّبَاحِ، هَذَا ظَاهِرُهُ، وَاسْتُشْكِلَ لِأَنَّهُ جَعَلَ أَذَانَهُ غَايَةً لِلْأَكْلِ، فَلَوْ لَمْ يُؤَذِّنْ حَتَّى يَدْخُلَ فِي الصَّبَاحِ لَلَزِمَ مِنْهُ جَوَازُ الْأَكْلِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِهِ إِلَّا مَنْ شَذَّ كَالْأَعْمَشِ.
وَأَجَابَ ابْنُ حَبِيبٍ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَالْأَصِيلِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الشُّرَّاحِ بِأَنَّ الْمُرَادَ قَارَبْتَ الصَّبَاحَ وَيُعَكِّرُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ أَنَّ فِي رِوَايَةِ الرَّبِيعِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا وَلَمْ يَكُنْ يُؤَذِّنُ حَتَّى يَقُولَ لَهُ النَّاسُ حِينَ يَنْظُرُونَ إِلَى بُزُوغِ الْفَجْرِ: أَذِّنْ وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ الَّتِي فِي الصِّيَامِ حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَإِنَّهُ لَا يُؤَذِّنُ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ وَإِنَّمَا قُلْتُ: إِنَّهُ أَبْلَغُ لِكَوْنِ جَمِيعِهِ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ يُشْعِرُ أَنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ بِخِلَافِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَبْلَ الصُّبْحِ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بِلَالٍ فَرْقٌ لِصِدْقِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أَذَّنَ قَبْلَ الْوَقْتِ، وَهَذَا الْمَوْضِعُ عِنْدِي فِي غَايَةِ الْإِشْكَالِ، وَأَقْرَبُ مَا يُقَالُ فِيهِ إِنَّ أَذَانَهُ جُعِلَ عَلَامَةً لِتَحْرِيمِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَكَأَنَّهُ كَانَ لَهُ مَنْ يُرَاعِي الْوَقْتَ بِحَيْثُ يَكُونُ أَذَانُهُ مُقَارِنًا لِابْتِدَاءِ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْبُزُوغِ، وَعِنْدَ أَخْذِهِ فِي الْأَذَانِ يَعْتَرِضُ الْفَجْرُ فِي الْأُفُقِ، ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِمْ: أَصْبَحْتَ أَيْ قَارَبْتَ الصَّبَاحَ وُقُوعُ أَذَانِهِ قَبْلَ الْفَجْرِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ ذَلِكَ يَقَعُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ وَأَذَانُهُ يَقَعُ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُسْتَبْعَدًا فِي الْعَادَةِ فَلَيْسَ بِمُسْتَبْعَدٍ مِنْ مُؤَذِّنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمُؤَيَّدِ بِالْمَلَائِكَةِ، فَلَا يُشَارِكُهُ فِيهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ بِتِلْكَ الصِّفَةِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو قُرَّةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ
عَنِ ابْنِ عُمَرَ حَدِيثًا فِيهِ وَكَانَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ يَتَوَخَّى الْفَجْرَ فَلَا يُخْطِئُهُ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ الْأَذَانِ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ، وَاسْتِحْبَابُ أَذَانِ وَاحِدٍ بَعْدَ وَاحِدٍ. وَأَمَّا
(1)
هذا فيه نظر. لأن ظاهر القرآن يدل على أنه عمى قبل الهجرة، لأن سورة عبس، النازله فيه مكية، وقد وصفه الله بأنه أعمى. فتنبه
أَذَانُ اثْنَيْنِ مَعًا فَمَنَعَ مِنْهُ قَوْمٌ، وَيُقَالُ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ أَحْدَثَهُ بَنُو أُمَيَّةَ، وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا يُكْرَهُ إِلَّا إِنْ حَصَلَ مِنْ ذَلِكَ تَهْوِيشٌ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ مُؤَذِّنَيْنِ فِي الْمَسْجِدِ الْوَاحِدِ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى الِاثْنَيْنِ فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ تَعَرُّضٌ لَهُ. انْتَهَى. وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى جَوَازِهِ وَلَفْظُهُ: وَلَا يَتَضَيَّقُ
(1)
إِنْ أَذَّنَ أَكْثَرُ مِنَ اثْنَيْنِ، وَعَلَى جَوَازِ تَقْلِيدِ الْأَعْمَى لِلْبَصِيرِ فِي دُخُولِ الْوَقْتِ وَفِيهِ أَوْجُهٌ، وَاخْتُلِفَ فِيهِ التَّرْجِيحُ، وَصَحَّحَ النَّوَوِيُّ فِي كُتُبِهِ أَنَّ لِلْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ اعْتِمَادَ الْمُؤَذِّنِ الثِّقَةِ، وَعَلَى جَوَازِ شَهَادَةِ الْأَعْمَى، وَسَيَأْتِي مَا فِيهِ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ. وَعَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَعَلَى أَنَّ مَا بَعْدَ الْفَجْرِ مِنْ حُكْمِ النَّهَارِ، وَعَلَى جَوَازِ الْأَكْلِ مَعَ الشَّكِّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ اللَّيْلِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ مَالِكٌ فَقَالَ: يَجِبُ الْقَضَاءُ. وَعَلَى جَوَازِ الِاعْتِمَادِ عَلَى الصَّوْتِ فِي الرِّوَايَةِ إِذَا كَانَ عَارِفًا بِهِ وَإِنْ لَمْ يُشَاهِدِ الرَّاوِي، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ شُعْبَةُ لِاحْتِمَالِ الِاشْتِبَاهِ. وَعَلَى جَوَازِ ذِكْرِ الرَّجُلِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْعَاهَةِ إِذَا كَانَ يَقْصِدُ التَّعْرِيفَ وَنَحْوَهُ، وَجَوَازُ نِسْبَةِ الرَّجُلِ إِلَى أُمِّهِ إِذَا اشْتُهِرَ بِذَلِكَ وَاحْتِيجَ إِلَيْهِ.
12 - بَاب الْأَذَانِ بَعْدَ الْفَجْرِ
618 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: أَخْبَرَتْنِي حَفْصَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا اعْتَكَفَ الْمُؤَذِّنُ لِلصُّبْحِ وَبَدَا الصُّبْحُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ تُقَامَ الصَّلَاةُ.
[الحديث 618 - طرفاه في: 1181، 1173]
619 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ بَيْنَ النِّدَاءِ وَالإِقَامَةِ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ"
620 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ بِلَالًا يُنَادِي بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ"
قَوْلُهُ: (بَابُ الْأَذَانِ فِي الْفَجْرِ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: قَدَّمَ الْمُصَنِّفُ تَرْجَمَةَ الْأَذَانِ بَعْدَ الْفَجْرِ عَلَى تَرْجَمَةِ الْأَذَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ فَخَالَفَ التَّرْتِيبَ الْوُجُودِيَّ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّرْعِ أَنْ لَا يُؤَذَّنَ إِلَّا بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ، فَقَدَّمَ تَرْجَمَةَ الْأَصْلِ عَلَى مَا نَدَرَ عَنْهُ. وَأَشَارَ ابْنُ بَطَّالٍ إِلَى الِاعْتِرَاضِ عَلَى التَّرْجَمَةِ بِأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي جَوَازِهِ قَبْلَ الْفَجْرِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِالتَّرْجَمَتَيْنِ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي كَانَ يُؤَذِّنُ لِأَجْلِهِ قَبْلَ الْفَجْرِ غَيْرُ الْمَعْنَى الَّذِي كَانَ يُؤَذِّنُ لِأَجْلِهِ بَعْدَ الْفَجْرِ، وَأَنَّ الْأَذَانَ قَبْلَ الْفَجْرِ لَا يُكْتَفَى بِهِ عَنِ الْأَذَانِ بَعْدَهُ، وَأَنَّ أَذَانَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ لَمْ يَكُنْ يَقَعُ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (كَانَ إِذَا اعْتَكَفَ الْمُؤَذِّنُ لِلصُّبْحِ) هَكَذَا وَقَعَ عِنْدَ جُمْهُورِ رُوَاةِ الْبُخَارِيِّ وَفِيهِ نَظَرٌ، وَقَدِ اسْتَشْكَلَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَوَجَّهَهُ بَعْضُهُمْ كَمَا سَيَأْتِي، وَالْحَدِيثُ فِي الْمُوَطَّأِ عِنْدَ جَمِيعِ رُوَاتِهِ بِلَفْظِ
(1)
في مخطوطة الرياض " ولا يضر"
كَانَ إِذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُ مِنَ الْأَذَانِ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَقَدْ أَصْلَحَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ شَبُّوَيْهِ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ كَذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةِ الْهَمْدَانِيِّ كَانَ إِذَا أَذَّنَ بَدَلَ اعْتَكَفَ، وَهِيَ أَشْبَهُ بِالرِّوَايَةِ الْمُصَوَّبَةِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، عَنِ الْبُخَارِيِّ بِلَفْظِ كَانَ إِذَا اعْتَكَفَ وَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ صَنِيعَهُ ذَلِكَ كَانَ مُخْتَصًّا بِحَالِ اعْتِكَافِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ إِصْلَاحِهِ.
وَقَدْ أَطْلَقَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْوَهْمَ فِيهِ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ، وَوَجْهُ ابْنِ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ مَعْنَى اعْتَكَفَ الْمُؤَذِّنُ أَيْ لَازَمَ ارْتِقَابَهُ وَنَظَرَهُ إِلَى أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ لِيُؤَذِّنَ عِنْدَ أَوَّلِ إِدْرَاكِهِ. قَالُوا: وَأَصْلُ الْعُكُوفِ لُزُومُ الْإِقَامَةِ بِمَكَانٍ وَاحِدٍ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يُصَلِّيهِمَا إِلَّا إِذَا وَقَعَ ذَلِكَ مِنَ الْمُؤَذِّنِ لِمَا يَقْتَضِيهِ مَفْهُومُ الشَّرْطِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمُوَاظَبَتِهِ عَلَيْهِمَا مُطْلَقًا، وَالْحَقُّ أَنَّ لَفْظَ اعْتَكَفَ مُحَرَّفٌ مِنْ لَفْظِ سَكَتَ وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي بَابِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ كَانَ إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ وَطَلَعَ الْفَجْرُ.
قَوْلُهُ: (وَبَدَا الصُّبْحُ) بِغَيْرِ هَمْزٍ أَيْ ظَهَرَ، وَأَغْرَبَ الْكِرْمَانِيُّ فَصَحَّحَ أَنَّهُ بِالنُّونِ الْمَكْسُورَةِ وَالْهَمْزَةِ بَعْدَ الْمَدِّ، وَكَأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لِلصُّبْحِ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ وَاعْتَكَفَ لِنِدَاءِ الصُّبْحِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْحَدِيثَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ مِنَ الْمُوَطَّأِ وَالْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهَا بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ الْمَفْتُوحَةِ وَبَعْدَ الدَّالِ أَلِفٌ مَقْصُورَةٌ وَالْوَاوُ فِيهِ وَاوُ الْحَالِ لَا وَاوُ الْعَطْفِ، وَبِذَلِكَ تَتِمُّ مُطَابَقَةُ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي أَبْوَابِ التَّطَوُّعِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (عَنْ يَحْيَى) هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ.
قَوْلُهُ: (بَيْنَ النِّدَاءِ وَالْإِقَامَةِ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: حَدِيثُ عَائِشَةَ أَبْعَدُ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ حَدِيثِ حَفْصَةَ، لِأَنَّ قَوْلَهَا: بَيْنَ النِّدَاءِ وَالْإِقَامَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ الْأَذَانِ بَعْدَ الْفَجْرِ. ثُمَّ أَجَابَ عَنْ ذَلِكَ بِمَا مُحَصِّلُهُ: إِنَّهَا بِالرَّكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، وَهُمَا لَا يُصَلَّيَانِ إِلَّا بَعْدَ الْفَجْرِ، فَإِذَا صَلَّاهُمَا بَعْدَ الْأَذَانِ اسْتَلْزَمَ أَنْ يَكُونَ الْأَذَانُ وَقَعَ بَعْدَ الْفَجْرِ. انْتَهَى. وَهُوَ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ غَيْرُ سَالِمٍ مِنَ الِانْتِقَادِ. وَالَّذِي عِنْدِي أَنَّ الْمُصَنِّفَ جَرَى عَلَى عَادَتِهِ فِي الْإِيمَاءِ إِلَى بَعْضِ مَا وَرَدَ فِي طُرُقِ الْحَدِيثِ الَّذِي يُسْتَدَلُّ بِهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا أَوْرَدَهُ بَعْدَ بَابَيْنِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ وَلَفْظُهُ: كَانَ إِذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ بَعْدَ أَنْ يَسْتَبِينَ الْفَجْرُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ) هَذَا إِسْنَادٌ آخَرُ لِمَالِكٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ يُخْتَلَفْ عَلَيْهِ فِيهِ، وَاعْتَرَضَ ابْنُ التَّيْمِيِّ فَقَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّرْجَمَةِ، لِجَعْلِهِ غَايَةَ الْأَكْلِ ابْتِدَاءَ أَذَانِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَذَانَهُ كَانَ يَقَعُ قَبْلَ الْفَجْرِ بِقَلِيلٍ. وَجَوَابُهُ مَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: الِاسْتِدْلَالُ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَوْجَهُ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ يَقْتَضِي أَنَّهُ يُنَادِي حِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ يُنَادِي قَبْلَهُ لَكَانَ كَبِلَالٍ يُنَادِي بِلَيْلٍ.
(تَنْبِيهٌ) قَالَ ابْنُ مَنْدَهْ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ مُجْمَعٌ عَلَى صِحَّتِهِ، رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ عَنْهُ، وَرَوَاهُ عَنْهُ شُعْبَةُ فَاخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِيهِ: رَوَاهُ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْهُ عَلَى الشَّكِّ أَنَّ بِلَالًا كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ، أَوْ أَنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ يُنَادِي بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ بِلَالٌ. قَالَ: وَلِشُعْبَةَ فِيهِ إِسْنَادٌ آخَرُ، فَإِنَّهُ رَوَاهُ أَيْضًا عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَمَّتِهِ أُنَيْسَةَ فَذَكَرَهُ عَلَى الشَّكِّ أَيْضًا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ غُنْدَرٍ عَنْهُ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ عَنْهُ جَازِمًا بِالْأَوَّلِ، وَرَوَاهُ أَبُو الْوَلِيدِ عَنْهُ جَازِمًا بِالثَّانِي، وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طُرُقٍ عَنْ شُعْبَةَ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ، عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَادَّعَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ بِأَنَّهُ مَقْلُوبٌ وَأَنَّ الصَّوَابَ
حَدِيثُ الْبَابِ، وَقَدْ كُنْتُ أَمِيلُ إ لَى ذَلِكَ إِلَى أَنْ رَأَيْتُ الْحَدِيثَ فِي صَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقَيْنِ آخَرَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ، وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ مَا يُبْعِدُ وُقُوعَ الْوَهْمِ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُهُ إِذَا أَذَّنَ عَمْرٌو فَإِنَّهُ ضَرِيرُ الْبَصَرِ فَلَا يَغُرَّنَّكُمْ، وَإِذَا أَذَّنَ بِلَالٌ فَلَا يَطْعَمَنَّ أَحَدٌ وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَجَاءَ عَنْ عَائِشَةَ أَيْضًا أَنَّهَا كَانَتْ تُنْكِرُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ وَتَقُولُ إِنَّهُ غَلَطٌ، أَخْرَجَ ذَلِكَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الدَّرَاوَرْدِيِّ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْهَا فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَزَادَ قَالَتْ عَائِشَةُ: وَكَانَ بِلَالٌ يُبْصِرُ الْفَجْرَ قَالَ: وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ: غَلِطَ ابْنُ عُمَرَ. انْتَهَى.
وَقَدْ جَمَعَ خُزَيْمَةُ، وَالضُّبَعِيُّ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِمَا حَاصِلُهُ: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْأَذَانُ كَانَ نُوَبًا بَيْنَ بِلَالٍ، وَابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْلِمُ النَّاسَ أَنَّ أَذَانَ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا لَا يُحَرِّمُ عَلَى الصَّائِمِ شَيْئًا وَلَا يَدُلُّ عَلَى دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ الثَّانِي.
وَجَزَمَ ابْنُ حِبَّانَ بِذَلِكَ وَلَمْ يُبْدِهِ احْتِمَالًا، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ الضِّيَاءُ وَغَيْرُهُ، وَقِيلَ: لَمْ يَكُنْ نُوَبًا، وَإِنَّمَا كَانَتْ لَهُمَا حَالَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ: فَإِنَّ بِلَالًا كَانَ فِي أَوَّلِ مَا شُرِعَ الْأَذَانُ يُؤَذِّنُ وَحْدَهُ وَلَا يُؤَذِّنُ لِلصُّبْحِ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ، وَعَلَى ذَلِكَ تُحْمَلُ رِوَايَةُ عُرْوَةَ عَنِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ قَالَتْ: كَانَ بِلَالٌ يَجْلِسُ عَلَى بَيْتِي وَهُوَ أَعْلَى بَيْتٍ فِي الْمَدِينَةِ، فَإِذَا رَأَى الْفَجْرَ تَمَطَّأَ ثُمَّ أَذَّنَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَرِوَايَةُ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ سَائِلًا سَأَلَ عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِلَالًا فَأَذَّنَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، ثُمَّ أَرْدَفَ بِابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وَكَانَ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ وَاسْتَمَرَّ بِلَالٌ عَلَى حَالَتِهِ الْأُولَى، وَعَلَى ذَلِكَ تَنْزِلُ رِوَايَةُ أُنَيْسَةَ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ فِي آخِرِ الْأَمْرِ أَخَّرَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ لِضَعْفِهِ وَوَكَّلَ بِهِ مَنْ يُرَاعِي لَهُ الْفَجْرَ، وَاسْتَقَرَّ أَذَانُ بِلَالٍ بِلَيْلٍ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ أَخْطَأَ الْفَجْرَ فَأَذَّنَ قَبْلَ طُلُوعِهِ، وَأَنَّهُ أَخْطَأَ مَرَّةً فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْجِعَ فَيَقُولُ: أَلَا إِنَّ الْعَبْدَ نَامَ يَعْنِي أَنَّ غَلَبَةَ النَّوْمِ عَلَى عَيْنَيْهِ مَنَعَتْهُ مِنْ تَبَيُّنِ الْفَجْرِ، وَهُوَ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَوْصُولًا مَرْفُوعًا وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ حُفَّاظٌ، لَكِنِ اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ عَلِيُّ ابْنُ الْمَدِينِيِّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَالْبُخَارِيُّ، وَالذُّهْلِيُّ،
وَأَبُو حَاتِمٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالْأَثْرَمُ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَلَى أَنَّ حَمَّادًا أَخْطَأَ فِي رَفْعِهِ، وَأَنَّ الصَّوَابَ وَقْفُهُ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ مَعَ مُؤَذِّنِهِ وَأَنَّ حَمَّادًا انْفَرَدَ بِرَفْعِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ وُجِدَ لَهُ مُتَابِعٌ، أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ زَرْبِيٍّ وَهُوَ بِفَتْحِ الزَّايِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ ثُمَّ يَاءٌ كَيَاءِ النَّسَبِ فَرَوَاهُ عَنْ أَيُّوبَ مَوْصُولًا لَكِنْ سَعِيدٌ ضَعِيفٌ. وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ أَيْضًا، لَكِنَّهُ أَعْضَلَهُ فَلَمْ يَذْكُرْ نَافِعًا وَلَا ابْنَ عُمَرَ. وَلَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْ نَافِعٍ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ وَغَيْرِهِ اخْتُلِفَ فِي رَفْعِهَا وَوَقْفِهَا أَيْضًا، وَأُخْرَى مُرْسَلَةٌ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ وَأُخْرَى مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ مُرْسَلَةٌ وَوَصَلَهَا يُونُسُ، عَنْ سَعِيدٍ بِذِكْرِ أَنَسٍ، وَهَذِهِ طُرُقٌ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا قُوَّةً ظَاهِرَةً، فَلِهَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ اسْتَقَرَّ أَنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ الْأَذَانَ الْأَوَّلَ، وَسَنَذْكُرُ اخْتِلَافَهُمْ فِي تَعْيِينِ الْوَقْتِ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا.
13 - بَاب الْأَذَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ
621 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ أَوْ أَحَدًا مِنْكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ مِنْ سَحُورِهِ فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ أَوْ يُنَادِي بِلَيْلٍ لِيَرْجِعَ قَائِمَكُمْ وَلِيُنَبِّهَ نَائِمَكُمْ وَلَيْسَ أَنْ يَقُولَ الْفَجْرُ أَوْ الصُّبْحُ وَقَالَ بِأَصَابِعِهِ وَرَفَعَهَا
إِلَى فَوْقُ وَطَأْطَأَ إِلَى أَسْفَلُ حَتَّى يَقُولَ هَكَذَا. وَقَالَ زُهَيْرٌ بِسَبَّابَتَيْهِ إِحْدَاهُمَا فَوْقَ الْأُخْرَى ثُمَّ مَدَّهَا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ.
[الحديث 621 - طرفاه في: 7247، 5298]
622 و 623 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ حَدَّثَنَا عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "ح و حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ عِيسَى الْمَرْوَزِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ"
[الحديث 622 - طرفه في: 1919]
قَوْلُهُ: (بَابُ الْأَذَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ) أَيْ مَا حُكْمُهُ؟ هَلْ يَشْرَعُ أَوْ لَا؟ وَإِذَا شُرِعَ هَلْ يُكْتَفَى بِهِ عَنْ إِعَادَةِ الْأَذَانِ بَعْدَ الْفَجْرِ أَوْ لَا؟ وَإِلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ مُطْلَقًا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. وَخَالَفَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ، وَإِلَى الِاكْتِفَاءِ مُطْلَقًا ذَهَبَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ وَأَصْحَابُهُمْ، وَخَالَفَ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَقَالَ بِهِ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ، وَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى الِاكْتِفَاءِ، وَتُعُقِّبَ بِحَدِيثِ الْبَابِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مَسْكُوتٌ عَنْهُ فَلَا يَدُلُّ، عَلَى التَّنَزُّلِ فَمَحَلُّهُ فِيمَا إِذَا لَمْ يَرِدْ نُطْقٌ بِخِلَافِهِ، وَهُنَا قَدْ وَرَدَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ بِمَا يُشْعِرُ بِعَدَمِ الِاكْتِفَاءِ، وَكَأَنَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي إِيرَادِ الْبُخَارِيِّ لِحَدِيثِهِمَا فِي هَذَا الْبَابِ عَقِبَ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، نَعَمْ حَدِيثُ زِيَادِ بْنِ الْحَارِثِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ يَدُلُّ عَلَى الِاكْتِفَاءِ، فَإِنَّ فِيهِ أَنَّهُ أَذَّنَ قَبْلَ الْفَجْرِ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّهُ اسْتَأْذَنَهُ فِي الْإِقَامَةِ فَمَنَعَهُ، إِلَى أَنْ طَلَعَ الْفَجْرُ فَأَمَرَهُ فَأَقَامَ، لَكِنْ فِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ. وَأَيْضًا فَهِيَ وَاقِعَةُ عَيْنٍ وَكَانَتْ فِي سَفَرٍ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّهُ مَذْهَبٌ وَاضِحٌ، غَيْرَ أَنَّ الْعَمَلَ الْمَنْقُولَ بِالْمَدِينَةِ عَلَى خِلَافِهِ. انْتَهَى. فَلَمْ يُرِدْهُ إِلَّا بِالْعَمَلِ عَلَى قَاعِدَةِ الْمَالِكِيَّةِ.
وَادَّعَى بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ - كَمَا حَكَاهُ السُّرُوجِيُّ مِنْهُمْ - أَنَّ النِّدَاءَ قَبْلَ الْفَجْرِ لَمْ يَكُنْ بِأَلْفَاظِ الْأَذَانِ، وَإِنَّمَا كَانَ تَذْكِيرًا أَوْ تَسْحِيرًا كَمَا يَقَعُ لِلنَّاسِ الْيَوْمَ، وَهَذَا مَرْدُودٌ، لَكِنَّ الَّذِي يَصْنَعُهُ النَّاسُ الْيَوْمَ مُحْدَثٌ قَطْعًا وَقَدْ تَضَافَرَتِ الطُّرُقُ عَلَى التَّعْبِيرِ بِلَفْظِ الْأَذَانِ، فَحَمْلُهُ عَلَى مَعْنَاهُ الشَّرْعِيِّ مُقَدَّمٌ، وَلِأَنَّ الْأَذَانَ الْأَوَّلَ لَوْ كَانَ بِأَلْفَاظٍ مَخْصُوصَةٍ لَمَا الْتَبَسَ عَلَى السَّامِعِينَ. وَسِيَاقُ الْخَبَرِ يَقْتَضِي أَنَّهُ خَشِيَ عَلَيْهِمُ الِالْتِبَاسَ. وَادَّعَى ابْنُ الْقَطَّانِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي رَمَضَانَ خَاصَّةً وَفِيهِ نَظَرٌ.
قَوْلُهُ: (زُهَيْرٌ) هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ الْجُعْفِيُّ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي عُثْمَانَ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ وَلَمْ أَرَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عُثْمَانَ عَنْهُ، وَلَا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عُثْمَانَ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْهُ. وَاشْتُهِرَ عَنْ سُلَيْمَانَ، وَلَهُ شَاهِدٌ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ.
قَوْلُهُ: (أَحَدُكُمْ أَوْ أُحُدٌ مِنْكُمْ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي وَكِلَاهُمَا يُفِيدُ الْعُمُومَ وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْحَيْثِيَّةُ.
قَوْلُهُ: (مِنْ سَحُورِهِ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ اسْمٌ لِمَا يُؤْكَلُ فِي السَّحَرِ، وَيَجُوزُ الضَّمُّ وَهُوَ اسْمُ الْفِعْلِ.
قَوْلُهُ: (لِيَرْجِعَ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ الْمُخَفَّفَةِ يُسْتَعْمَلُ هَذَا لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا، يُقَالُ رَجَعَ زَيْدٌ وَرَجَعَتُ زَيْدًا وَلَا يُقَالُ فِي الْمُتَعَدِّي بِالتَّثْقِيلِ. فَعَلَى هَذَا مَنْ رَوَاهُ بِالضَّمِّ وَالتَّثْقِيلِ أَخْطَأَ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مِنَ التَّرْجِيعِ وَهُوَ التَّرْدِيدُ، وَلَيْسَ مُرَادَنَا هُنَا، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ يَرِدُ الْقَائِمُ - أَيِ الْمُتَهَجِّدُ - إِلَى رَاحَتِهِ لِيَقُومَ إِلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ نَشِيطًا، أَوْ
يَكُونَ لَهُ حَاجَةٌ إِلَى الصِّيَامِ فَيَتَسَحَّرُ، وَيُوقِظُ النَّائِمَ لِيَتَأَهَّبَ لَهَا بِالْغُسْلِ وَنَحْوِهِ، وَتَمَسَّكَ الطَّحَاوِيُّ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ هَذَا لِمَذْهَبِهِ فَقَالَ: فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ النِّدَاءَ كَانَ لِمَا ذُكِرَ لَا لِلصَّلَاةِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا لِلصَّلَاةِ زِيَادَةٌ فِي الْخَبَرِ، وَلَيْسَ فِيهِ حَصْرٌ فِيمَا ذُكِرَ، فَإِنْ قِيلَ: تَقَدَّمَ فِي تَعْرِيفِ الْأَذَانِ الشَّرْعِيِّ أَنَّهُ إِعْلَامٌ بِدُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ بِأَلْفَاظٍ مَخْصُوصَةٍ وَالْأَذَانُ قَبْلَ الْوَقْتِ، لَيْسَ إِعْلَامًا بِالْوَقْتِ، فَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِعْلَامَ بِالْوَقْتِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ إِعْلَامًا بِأَنَّهُ دَخَلَ أَوْ قَارَبَ أَنْ يَدْخُلَ، وَإِنَّمَا اخْتَصَّتِ الصُّبْحُ بِذَلِكَ مِنْ بَيْنِ الصَّلَوَاتِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا مُرَغَّبٌ فِيهِ، وَالصُّبْحُ يَأْتِي غَالِبًا عَقِبَ نَوْمٍ فَنَاسَبَ أَنْ يُنَصَّبَ مَنْ يُوقِظُ النَّاسَ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا لِيَتَأَهَّبُوا وَيُدْرِكُوا فَضِيلَةَ أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَلَيْسَ أَنْ يَقُولَ الْفَجْرُ) فِيهِ إِطْلَاقُ الْقَوْلِ عَلَى الْفِعْلِ أَيْ يَظْهَرُ، وَكَذَا قَوْلُهُ:(وَقَالَ بِأَصَابِعِهِ وَرَفَعَهَا) أَيْ أَشَارَ. وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ. بِإِصْبَعَيْهِ وَرَفَعَهُمَا.
قَوْلُهُ: (إِلَى فَوْقُ) بِالضَّمِّ عَلَى الْبِنَاءِ، وَكَذَا (أَسْفَلُ) لِنِيَّةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ دُونَ لَفْظِهِ نَحْوُ {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} .
قَوْلُهُ: (وَقَالَ زُهَيْرٌ) أَيِ الرَّاوِي، وَهِيَ أَيْضًا بِمَعْنَى أَشَارَ، وَكَأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ ثُمَّ فَرَّقَهُمَا لِيَحْكِيَ صِفَةَ الْفَجْرِ الصَّادِقِ لِأَنَّهُ يَطْلُعُ مُعْتَرِضًا ثُمَّ يَعُمُّ الْأُفُقَ ذَاهِبًا يَمِينًا وَشِمَالًا، بِخِلَافِ الْفَجْرِ الْكَاذِبِ وَهُوَ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ ذَنَبُ السِّرْحَانِ فَإِنَّهُ يَظْهَرُ فِي أَعْلَى السَّمَاءِ ثُمَّ يَنْخَفِضُ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ رَفَعَ وَطَأْطَأَ رَأْسَهُ، وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، عَنْ سُلَيْمَانَ فَإِنَّ الْفَجْرَ لَيْسَ هَكَذَا وَلَا هَكَذَا، وَلَكِنَّ الْفَجْرَ هَكَذَا فَكَأَنَّ أَصْلَ الْحَدِيثِ كَانَ بِهَذَا اللَّفْظِ مَقْرُونًا بِالْإِشَارَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمُرَادِ، وَبِهَذَا اخْتَلَفَتْ عِبَارَةُ الرُّوَاةِ، وَأَخْصَرُ مَا وَقَعَ فِيهَا رِوَايَةُ جَرِيرٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَلَيْسَ الْفَجْرَ الْمُعْتَرِضَ وَلَكِنِ الْمُسْتَطِيلَ.
وَحَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ عِيسَى الْمَرْوَزِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ) لَمْ أَرَهُ مَنْسُوبًا، وَتَرَدَّدَ فِيهِ الْجَيَّانِيُّ، وَهُوَ عِنْدِي ابْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ رَاهْوَيْهِ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْمِزِّيُّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ تَعْبِيرُهُ بِقَوْلِهِ: أَخْبَرَنَا فَإِنَّهُ لَا يَقُولُ قَطُّ حَدَّثَنَا بِخِلَافِ إِسْحَاقَ ابْنِ مَنْصُورٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ نَصْرٍ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ بِخَطِّ الدِّمْيَاطِيِّ أَنَّهُ الْوَاسِطِيُّ ثُمَّ فَسَّرَهُ بِأَنَّهُ ابْنُ شَاهِينَ فَلَيْسَ بِصَوَابٍ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ لَهُ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ شَيْءٌ، لِأَنَّ أَبَا أُسَامَةَ كُوفِيٌّ وَلَيْسَ فِي شُيُوخِ ابْنِ شَاهِينَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ حَدَّثَنَا) فَاعِلُ قَالَ أَبُو أُسَامَةَ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ قَائِلُ حَدَّثَنَا، فَالتَّقْدِيرُ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ نَافِعٍ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ ذَكَرَ لَهُ فِيهِ إِسْنَادَين نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَالْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ، وَأَمَّا الثَّانِي فَاقْتَصَرَ فِيهِ عَلَى الْإِسْنَادِ الثَّانِي.
قَوْلُهُ: (حَتَّى يُؤَذِّنَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ حَتَّى يُنَادِيَ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ فِي الصِّيَامِ بِلَفْظِ: يُؤَذِّنَ وَزَادَ فِي آخِرِهِ فَإِنَّهُ لَا يُؤَذِّنُ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ قَالَ الْقَاسِمُ: لَمْ يَكُنْ بَيْنَ أَذَانَيْهِمَا إِلَّا أَنْ يَرْقَى ذَا وَيَنْزِلُ ذَا، وَفِي هَذَا تَقْيِيدٌ لِمَا أُطْلِقَ فِي الرِّوَايَاتِ الْأُخْرَى مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّهُ مُرْسَلٌ لِأَنَّ الْقَاسِمَ تَابِعِيٌّ فَلَمْ يُدْرِكِ الْقِصَّةَ الْمَذْكُورَةَ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ رِوَايَةِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، وَعِنْدَ الطَّحَاوِيِّ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ كِلَاهُمَا عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَتْ: وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا إِلَّا أَنْ يَنْزِلَ هَذَا وَيَصْعَدَ هَذَا وَعَلَى هَذَا فَمَعْنَى قَوْلِهِ فِيِ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ قَالَ الْقَاسِمُ أَيْ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ عَائِشَةَ.
وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَفِيهَا نَظَرٌ أَوْضَحْتُهُ فِي كِتَابِ الْمُدْرَجِ وَثَبَتَتِ الزِّيَادَةُ أَيْضًا فِي حَدِيثِ أُنَيْسَةَ الَّذِي تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ، وَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْوَقْتَ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ الْأَذَانُ قَبْلَ الْفَجْرِ هُوَ وَقْتُ السُّحُورِ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَوْجُهِ فِي الْمَذْهَبِ وَاخْتَارَهُ السُّبْكِيُّ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ وَحَكَى تَصْحِيحَهُ عَنِ
الْقَاضِي حُسَيْنٍ، وَالْمُتَوَلِّي وَقَطَعَ بِهِ الْبَغَوِيُّ، وَكَلَامُ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ يُشْعِرُ بِهِ، فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ أَنْ حَكَاهُ: يُرَجَّحُ هَذَا بِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ بِلَالًا يُنَادِي بِلَيْلٍ خَبَرٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ فَائِدَةٌ لِلسَّامِعِينَ قَطْعًا، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ وَقْتُ الْأَذَانِ مُشْتَبَهًا مُحْتَمَلًا لِأَنْ يَكُونَ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَبَيَّنَ صلى الله عليه وسلم أَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ بَلِ الَّذِي يَمْنَعُهُ طُلُوعُ الْفَجْرِ الصَّادِقِ، قَالَ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَقَارُبِ وَقْتِ أَذَانِ بِلَالٍ مِنَ الْفَجْرِ. انْتَهَى. وَيُقَوِّيهِ أَيْضًا مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي مَشْرُوعِيَّتِهِ التَّأَهُّبُ لِإِدْرَاكِ الصُّبْحِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا، وَصَحَّحَ النَّوَوِيُّ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ أَنَّ مَبْدَأَهُ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ الثَّانِي، وَأَجَابَ عَنِ الْحَدِيثِ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فَقَالَ: قَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَاهُ أَنَّ بِلَالًا كَانَ يُؤَذِّنُ وَيَتَرَبَّصُ بَعْدَ أَذَانِهِ لِلدُّعَاءِ وَنَحْوِهِ، فَإِذَا قَارَبَ طُلُوعَ الْفَجْرِ نَزَلَ فَأَخْبَرَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ فَيَتَأَهَّبُ بِالطَّهَارَةِ وَغَيْرِهَا ثُمَّ يَرْقَى وَيَشْرَعُ فِي الْأَذَانِ مَعَ أَوَّلِ طُلُوعِ الْفَجْرِ.
وَهَذَا - مَعَ وُضُوحِ مُخَالَفَتِهِ لِسِيَاقِ الْحَدِيثِ - يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ خَاصٍّ لِمَا صَحَّحَهُ حَتَّى يَسُوغَ لَهُ التَّأْوِيلُ. وَوَرَاءَ ذَلِكَ أَقْوَالٌ أُخْرَى مَعْرُوفَةٌ فِي الْفِقْهِيَّاتِ. وَاحْتَجَّ الطَّحَاوِيُّ لِعَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ الْأَذَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ بِقَوْلِهِ: لَمَّا كَانَ بَيْنَ أَذَانَيْهِمَا مِنَ الْقُرْبِ مَا ذُكِرَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ ثَبَتَ أَنَّهُمَا كَانَا يَقْصِدَانِ وَقْتًا وَاحِدًا وَهُوَ طُلُوعُ الْفَجْرِ فَيُخْطِئُهُ بِلَالٌ وَيُصِيبُهُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا أَقَرَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُؤَذِّنًا وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ كَمَا ادَّعَى لَكَانَ وُقُوعُ ذَلِكَ مِنْهُ نَادِرًا. وَظَاهِرُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ شَأْنُهُ وَعَادَتُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
14 - بَاب كَمْ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَمَنْ يَنْتَظِرُ الْإِقَامَةَ
624 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْوَاسِطِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ ثَلَاثًا لِمَنْ شَاءَ.
[الحديث 624 - طرفه في: 627]
625 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ الأَنْصَارِيَّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ الْمُؤَذِّنُ إِذَا أَذَّنَ قَامَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَبْتَدِرُونَ السَّوَارِيَ حَتَّى يَخْرُجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ كَذَلِكَ يُصَلُّونَ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ شَيْءٌ قَالَ عُثْمَانُ بْنُ جَبَلَةَ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ شُعْبَةَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا إِلاَّ قَلِيلٌ"
قَوْلُهُ: (بَابُ كَمْ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ) أَمَّا بَابٌ فَهُوَ فِي رِوَايَتِنَا بِلَا تَنْوِينٍ وَكَمْ اسْتِفْهَامِيَّةٌ وَمُمَيِّزُهَا مَحْذُوفٌ وَتَقْدِيرُهُ سَاعَةٌ أَوْ صَلَاةٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، وَلَعَلَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِبِلَالٍ: اجْعَلْ بَيْنَ أَذَانِكَ وَإِقَامَتِكَ قَدْرَ مَا يَفْرُغُ الْآكِلُ مِنْ أَكْلِهِ وَالشَّارِبُ مِنْ شُرْبِهِ وَالْمُعْتَصِرُ إِذَا دَخَلَ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ لَكِنْ إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ أَخْرَجَهُمَا أَبُو الشَّيْخِ وَمِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَخْرَجَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زِيَادَاتِ الْمُسْنَدِ وَكُلُّهَا وَاهِيَةٌ، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ التَّقْدِيرَ بِذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَا حَدَّ لِذَلِكَ غَيْرَ تَمَكُّنِ دُخُولِ الْوَقْتِ وَاجْتِمَاعِ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ فِي التَّطَوُّعِ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ إِلَّا فِي الْمَغْرِبِ كَمَا سَيَأْتِي.
وَوَقَعَ هُنَا فِي رِوَايَةٍ نُسِبَتْ لِلْكُشْمِيهَنِيِّ وَمَنِ انْتَظَرَ الْإِقَامَةَ وَهُوَ خَطَأٌ فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ تَرْجَمَةٌ تَلِي هَذِهِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْوَاسِطِيُّ) هُوَ ابْنُ شَاهِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي
عَنَاهُ الدِّمْيَاطِيُّ وَنَقَلْنَاهُ عَنْهُ فِي الَّذِي مَضَى، لَكِنِّي رَأَيْتُهُ كَمَا نَقَلْتُهُ أَوَّلًا بِخَطِّ الْقُطْبِ الْحَلَبِيِّ، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ وَهْبٍ الْعَلَّافِ وَهُوَ وَاسِطِيٌّ أَيْضًا لَكِنْ لَيْسَتْ لَهُ رِوَايَةٌ عَنْ خَالِدٍ وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّحَّانُ، وَالْجُرَيْرِيُّ سَعِيدُ بْنُ إِيَاسٍ وَهُوَ بِضَمِّ الْجِيمِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ، وَوَقَعَ مُسَمًّى فِي رِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ بَقِيَّةَ، عَنْ خَالِدٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَهِيَ إِحْدَى فَوَائِدِ الْمُسْتَخْرَجَاتِ، وَهُوَ مَعْدُودٌ فِيمَنِ اخْتَلَطَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ سَمَاعَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُ كَانَ بَعْدَ اخْتِلَاطِهِ وَخَالِدٌ مِنْهُمْ، لَكِنْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، وَعَبْدِ الْأَعْلَى، وَابْنِ عُلَيَّةَ وَهُمْ مِمَّنْ سَمِعَ مِنْهُ قَبْلَ اخْتِلَاطِهِ، وَهِيَ إِحْدَى فَوَائِدِ الْمُسْتَخْرَجَاتِ أَيْضًا، وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْأَعْلَى أَيْضًا، وَقَدْ قَالَ الْعِجْلِيُّ: إِنَّهُ مِنْ أَصَحِّهِمْ سَمَاعًا مِنَ الْج رَيْرِيِّ، فَإِنَّهُ سَمِعَ مِنْهُ قَبْلَ اخْتِلَاطِهِ بِثَمَانِ سِنِينَ، وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ مَعَ ذَلِكَ الْجُرَيْرِيُّ بَلْ تَابَعَهُ عَلَيْهِ كَهَمْسُ بْنِ الْحَسَنِ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، وَسَيَأْتِي عِنْدَ الْمُصَنِّفِ بَعْدَ بَابٍ، وَفِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ مِنَ الْفَوَائِدِ أَيْضًا تَسْمِيَةُ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَبْدَ اللَّهِ وَالتَّصْرِيحُ بِتَحْدِيثِهِ لِلْجُرَيْرِيِّ.
قَوْلُهُ: (بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ) أَيْ أَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، وَلَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ بَيْنَ الْأَذَانَيْنِ مَفْرُوضَةٌ، وَالْخَيْرُ نَاطِقٌ بِالتَّخْيِيرِ لِقَوْلِهِ لِمَنْ شَاءَ، وَأَجْرَى الْمُصَنِّفُ التَّرْجَمَةَ مَجْرَى الْبَيَانِ لِلْخَبَرِ لِجَزْمِهِ بِأَنَّ ذَلِكَ الْمُرَادُ، وَتَوَارَدَ الشُّرَّاحُ عَلَى أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ التَّغْلِيبِ كَقَوْلِهِمُ الْقَمَرَيْنِ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أُطْلِقَ عَلَى الْإِقَامَةِ أَذَانٌ لِأَنَّهَا إِعْلَامٌ بِحُضُورِ فِعْلِ الصَّلَاةِ، كَمَا أَنَّ الْأَذَانَ إِعْلَامٌ بِدُخُولِ الْوَقْتِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِ قَوْلِهِ أَذَانَيْنِ عَلَى ظَاهِرِهِ لِأَنَّهُ يَكُونُ التَّقْدِيرُ بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ نَافِلَةٌ غَيْرُ الْمَفْرُوضَةِ.
قَوْلُهُ: (صَلَاةٌ) أَيْ وَقْتُ صَلَاةٍ، أَوِ الْمُرَادُ صَلَاةٌ نَافِلَةٌ، أَوْ نُكِّرَتْ لِكَوْنِهَا تَتَنَاوَلُ كُلَّ عَدَدٍ نَوَاهُ الْمُصَلِّي مِنَ النَّافِلَةِ كَرَكْعَتَيْنِ أَوْ أَرْبَعٍ أَوْ أَكْثَرَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْحَثُّ عَلَى الْمُبَادَرَةِ إِلَى الْمَسْجِدِ عِنْدَ سَمَاعِ الْأَذَانِ لِانْتِظَارِ الْإِقَامَةِ، لِأَنَّ مُنْتَظِرَ الصَّلَاةِ فِي صَلَاةٍ، قَالَهُ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ.
قَوْلُهُ: (ثَلَاثًا) أَيْ قَالَهَا ثَلَاثًا، وَسَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ بِلَفْظِ بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ، بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ لِمَنْ شَاءَ وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ لِمَنْ شَاءَ إِلَّا فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ، بِخِلَافِ مَا يُشْعِرُ بِهِ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى مِنْ أَنَّهُ قَيَّدَ كُلَّ مَرَّةٍ بِقَوْلِهِ لِمَنْ شَاءَ. وَلِمُسْلِمٍ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ قَالَ فِي الرَّابِعَةِ لِمَنْ شَاءَ وَكَأَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّابِعَةِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ الْمَرَّةُ الرَّابِعَةُ، أَيْ أَنَّهُ اقْتَصَرَ فِيهَا عَلَى قَوْلِهِ لِمَنْ شَاءَ فَأَطْلَقَ عَلَيْهَا بَعْضُهُمْ رَابِعَةً بِاعْتِبَارِ مُطْلَقِ الْقَوْلِ، وَبِهَذَا تُوَافِقُ رِوَايَةَ الْبُخَارِيِّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْعِلْمِ حَدِيثُ أَنَسٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلَاثًا وَكَأَنَّهُ قَالَ بَعْدَ الثَّلَاثِ لِمَنْ شَاءَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ التَّكْرَارَ لِتَأْكِيدِ الِاسْتِحْبَابِ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فَائِدَةُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْأَذَانَ لِلصَّلَاةِ يَمْنَعُ أَنْ يُفْعَلَ سِوَى الصَّلَاةِ الَّتِي أُذِّنَ لَهَا، فَبَيَّنَ أَنَّ التَّطَوُّعَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ جَائِزٌ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، وَقَدْ صَحَّ ذَلِكَ فِي الْإِقَامَةِ كَمَا سَيَأْتِي. وَوَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الَّتِي أُقِيمَتْ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ.
قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ (كَانَ الْمُؤَذِّنُ إِذَا أَذَّنَ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ إِذَا أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ فِي أَذَانِ الْمَغْرِبِ.
قَوْلُهُ: (قَامَ نَاسٌ) فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ قَامَ كِبَارُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَذَا تَقَدَّمَ لِلْمُؤَلِّفِ فِي أَبْوَابِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ.
قَوْلُهُ: (يَبْتَدِرُونَ) أَيْ يَسْتَبِقُونَ.
وَ (السَّوَارِيَ) جَمْعُ سَارِيَةٍ، وَكَأَنَّ غَرَضَهُمْ بِالِاسْتِبَاقِ إِلَيْهَا الِاسْتِتَارُ بِهَا مِمَّنْ يَمُرُّ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ لِكَوْنِهِمْ يُصَلُّونَ فُرَادَى.
قَوْلُهُ: (وَهُمْ كَذَلِكَ) أَيْ فِي تِلْكَ الْحَالِ. وَزَادَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ: فَيَجِيءُ الْغَرِيبُ فَيَحْسِبُ أَنَّ الصَّلَاةَ قَدْ صُلِّيَتْ مِنْ كَثْرَةِ مَنْ يُصَلِّيهِمَا.
قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا) أَيِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ.
قَوْلُهُ: (شَيْءٌ) التَّنْوِينُ فِيهِ لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ
قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الرِّوَايَةَ الْمُعَلَّقَةَ مُعَارِضَةٌ لِلرِّوَايَةِ الْمَوْصُولَةِ، بَلْ هِيَ مُبَيِّنَةٌ لَهَا، وَنَفْيُ الْكَثِيرِ يَقْتَضِي إِثْبَاتُ الْقَلِيلِ، وَقَدْ أَخْرَجَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ مَوْصُولَةً مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ، عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ وَكَانَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ قَرِيبٌ وَلِمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَامِرٍ، عَنْ شُعْبَةَ نَحْوُهُ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: يُجْمَعُ بَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ بِحَمْلِ النَّفْيِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ مَجَازًا، وَالْإِثْبَاتُ لِلْقَلِيلِ عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَحَمَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ حَدِيثَ الْبَابِ عَلَى ظَاهِرِهِ فَقَالَ: دَلَّ قَوْلُهُ: وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ عَلَى أَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ: بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ مَخْصُوصٌ بِغَيْرِ الْمَغْرِبِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يُصَلُّونَ بَيْنَهُمَا بَلْ كَانُوا يَشْرَعُونَ فِي الصَّلَاةِ فِي أَثْنَاءِ الْأَذَانِ وَيَفْرُغُونَ مَعَ فَرَاغِهِ. قَالَ: وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ حَيَّانَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ مِثْلَ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: إِلَّا الْمَغْرِبَ اهـ.
وَفِي قَوْلِهِ وَيَفْرُغُونَ مَعَ فَرَاغِهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَقْتَضِيهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ شُرُوعِهِمْ فِي أَثْنَاءِ الْأَذَانِ ذَلِكَ، وَأَمَّا رِوَايَةُ حَيَّانَ وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالتَّحْتَانِيَّةِ فَشَاذَّةٌ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ صَدُوقًا عِنْدَ الْبَزَّارِ وَغَيْرِهِ لَكِنَّهُ خَالَفَ الْحُفَّاظَ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ فِي إِسْنَادِ الْحَدِيثِ وَمَتْنِهِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: وَكَانَ بُرَيْدَةُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ فَلَوْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مَحْفُوظًا لَمْ يُخَالِفْ بُرَيْدَةُ رِوَايَتَهُ. وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ عَنِ الْفَلَّاسِ أَنَّهُ كَذَّبَ حَيَّانَ الْمَذْكُورَ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ: ظَاهِرُ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَقَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ كَانَ أَمْرًا أَقَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ عَلَيْهِ وَعَمِلُوا بِهِ حَتَّى كَانُوا يَسْتَبِقُونَ إِلَيْهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَكَأَنَّ أَصْلَهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ. وَأَمَّا كَوْنُهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُصَلِّهِمَا فَلَا يَنْفِي الِاسْتِحْبَابَ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا لَيْسَتَا مِنَ الرَّوَاتِبِ.
وَإِلَى اسْتِحْبَابِهِمَا ذَهَبَ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا يُصَلِّيهِمَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَعَنِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُصَلُّونَهُمَا. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَادَّعَى بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ نَسْخَهُمَا فَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ حَيْثُ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَبَيَّنَ لَهُمْ بِذَلِكَ وَقْتَ الْجَوَازِ، ثُمَّ نَدَبَ إِلَى الْمُبَادَرَةِ إِلَى الْمَغْرِبِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا، فَلَوِ اسْتَمَرَّتِ الْمُوَاظَبَةُ عَلَى الِاشْتِغَالِ بِغَيْرِهَا لَكَانَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى مُخَالَفَةِ إِدْرَاكِ أَوَّلِ وَقْتِهَا. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ دَعْوَى النَّسْخِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، وَالْمَنْقُولُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ عَنْهُ، وَرِوَايَةُ أَنَسٍ الْمُثْبِتَةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى نَفْيِهِ، وَالْمَنْقُولُ عَنِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ عَنْهُمْ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ، وَلَوْ ثَبَتَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى النَّسْخِ وَلَا الْكَرَاهَةِ. وَسَيَأْتِي فِي أَبْوَابِ التَّطَوُّعِ أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ سُئِلَ عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ فَقَالَ: كُنَّا نَفْعَلُهُمَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قِيلَ لَهُ: فَمَا يَمْنَعُكَ الْآنَ؟ قَالَ: الشُّغْلُ. فَلَعَلَّ غَيْرَهُ أَيْضًا مَنَعَهُ الشُّغْلُ. وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ وَغَيْرُهُ مِنْ طُرُقٍ قَوِيَّةٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَأَبِي مُوسَى وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُوَاظِبُونَ عَلَيْهِمَا.
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ: اخْتَلَفَ فِيهَا الصَّحَابَةُ وَلَمْ يَفْعَلْهَا أَحَدٌ بَعْدَهُمْ، فَمَرْدُودٌ بِقَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ، وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ، ثُمَّ أَخْرَجَ ذَلِكَ بِأَسَانِيدَ مُتَعَدِّدَةٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، وَيَحْيَى بْنِ عَقِيلٍ، وَالْأَعْرَجِ، وَعَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَعِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، وَمِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ سَئلَ عَنْهُمَا فَقَالَ: حَسَنَتَيْنِ وَاللَّهِ لِمَنْ أَرَادَ اللَّهَ بِهِمَا. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ أَنْ يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ. وَعَنْ مَالِكٍ قَوْلٌ آخَرُ بِاسْتِحْبَابِهِمَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَجْهٌ رَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَقَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: قَوْلُ مَنْ قَالَ
إِنَّ فِعْلَهُمَا يُؤَدِّي إِلَى تَأْخِيرِ الْمَغْرِبِ عَنْ أَوَّلِ وَقْتِهَا خَيَالٌ فَاسِدٌ مُنَابِذٌ لِلسُّنَّةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَزَمَنُهُمَا زَمَنٌ يَسِيرٌ لَا تَتَأَخَّرُ بِهِ الصَّلَاةُ عَنْ أَوَّلِ وَقْتِهَا.
قُلْتُ: وَمَجْمُوعُ الْأَدِلَّةِ يُرْشِدُ إِلَى اسْتِحْبَابِ تَخْفِيفِهِمَا كَمَا فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، قِيلَ: وَالْحِكْمَةُ فِي النَّدْبِ إِلَيْهِمَا رَجَاءُ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ، لِأَنَّ الدُّعَاءَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ لَا يُرَدُّ، وَكُلَّمَا كَانَ الْوَقْتُ أَشْرَفَ كَانَ ثَوَابُ الْعِبَادَةِ فِيهِ أَكْثَرَ، وَاسْتُدِلَّ بِحَدِيثِ أَنَسٍ عَلَى امْتِدَادِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَاضِحٍ. (تَنْبِيهَانِ):(أَحَدُهُمَا) مُطَابَقَةُ حَدِيثِ أَنَسٍ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ إِذَا كَانُوا يَبْتَدِرُونَ إِلَى الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ مَعَ قِصَرِ وَقْتِهَا، فَالْمُبَادَرَةُ إِلَى التَّنَقلِ قَبْلَ غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ تَقَعُ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى، وَلَا يَتَقَيَّدُ بِرَكْعَتَيْنِ إِلَّا مَا ضَاهَى الْمَغْرِبَ فِي قِصَرِ الْوَقْتِ كَالصُّبْحِ.
(الثَّانِي): لَمْ تَتَّصِلْ لَنَا رِوَايَةُ عُثْمَانَ بْنِ جَبَلَةَ - وَهُوَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْمُوَحَّدَةِ - إِلَى الْآنَ. وَزَعَمَ مُغْلَطَايْ وَمَنْ تَبِعَهُ أَنَّ الْإِسْمَاعِيلِيَّ وَصَلَهَا فِي مُسْتَخْرَجِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْإِسْمَاعِيلِيَّ إِنَّمَا أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ، وَكَذَلِكَ لَمْ تَتَّصِلْ لَنَا رِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ وَهُوَ الطَّيَالِسِيُّ فِيمَا يَظْهَرُ لِي، وَقِيلَ هُوَ الْحَفَرِيُّ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْفَاءِ. وَقَدْ وَقَعَ لَنَا مَقْصُودُ رِوَايَتِهِمَا مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ، وَأَبِي عَامِرٍ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
15 - بَاب مَنْ انْتَظَرَ الْإِقَامَةَ
626 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُ بِالْأُولَى مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ، قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ بَعْدَ أَنْ يَسْتَبِينَ الْفَجْرُ، ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمُؤَذِّنُ لِلْإِقَامَةِ.
[الحديث 626 - أطرافه في: 6310، 1170، 1160، 1123، 994]
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنِ انْتَظَرَ الْإِقَامَةَ) مَوْضِعُ التَّرْجَمَةِ مِنَ الْحَدِيثِ قَوْلُهُ: ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمُؤَذِّنُ. وَأَوْرَدَهَا مَوْرِدَ الِاحْتِمَالِ تَنْبِيهًا عَلَى اخْتِصَاصِ ذَلِكَ بِالْإِمَامِ، لِأَنَّ الْمَأْمُومَ مَنْدُوبٌ إِلَى إِحْرَازِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُشَارِكَ الْإِمَامَ فِي ذَلِكَ مَنْ كَانَ مَنْزِلُهُ قَرِيبًا مِنَ الْمَسْجِدِ، وَقِيلَ: يُسْتَفَادُ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّ الَّذِي وَرَدَ مِنَ الْحَضِّ عَلَى الِاسْتِبَاقِ إِلَى الْمَسْجِدِ هُوَ لِمَنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةٍ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ يَسْمَعُ الْإِقَامَةَ مِنْ دَارِهِ فَانْتِظَارُهُ لِلصَّلَاةِ إِذَا كَانَ مُتَهَيِّئًا لَهَا كَانْتِظَارِهِ إِيَّاهَا فِي الْمَسْجِدِ، وَفِي مَقْصُودِ التَّرْجَمَةِ أَيْضًا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: كَانَ بِلَالٌ يُؤَذِّنُ ثُمَّ لَا يُقِيمُ حَتَّى يَخْرُجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (إِذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُ) أَيْ فَرَغَ مِنَ الْأَذَانِ بِالسُّكُوتِ عَنْهُ، هَذَا فِي الرِّوَايَاتِ الْمُعْتَمَدَةِ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقَانِيَّةِ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ رُوِيَ بِالْمُوَحَّدَةِ. وَمَعْنَاهُ: صَبَّ الْأَذَانَ وَأَفْرَغَهُ فِي الْآذَانِ، وَمِنْهُ أَفْرَغَ فِي أُذُنِي كَلَامًا حَسَنَا. اهـ.
وَالرِّوَايَةُ الْمَذْكُورَةُ لَمْ تَثْبُتْ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا الْخَطَّابِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَقَالَ: إِنَّ سُوَيْدَ بْنَ نَصْرٍ - رَاوِيَهَا عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْهُ - ضَبَطَهَا بِالْمُوَحَّدَةِ. وَأَفْرَطَ الصَّغَانِيُّ فِي الْعُبَابِ فَجَزَمَ أَنَّهَا بِالْمُوَحَّدَةِ، وَكَذَا ضَبَطَهَا فِي نُسْخَتِهِ الَّتِي ذَكَرَ أَنَّهُ قَابَلَهَا عَلَى نُسْخَةِ الْفَرَبْرِيِّ، وَأَنَّ الْمُحَدِّثِينَ يَقُولُونَهَا بِالْمُثَنَّاةِ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهَا تَصْحِيفٌ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ.
قَوْلُهُ (بِالْأُولَى أَيْ عَنِ الْأُولَى، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِسَكَتَ يُقَالُ: سَكَتَ عَنْ كَذَا إِذَا تَرَكَهُ، وَالْمُرَادُ بِالْأُولَى الْأَذَانُ الَّذِي يُؤَذَّنُ بِهِ عِنْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ، وَهُوَ أَوَّلُ بِاعْتِبَارِ الْإِقَامَةِ، وَثَانٍ بِاعْتِبَارِ الْأَذَانِ الَّذِي قَبْلَ الْفَجْرِ، وَجَاءَهُ التَّأْنِيثُ إِمَّا مِنْ قِبَلِ مُؤَاخَاتِهِ لِلْإِقَامَةِ، أَوْ لِأَنَّهُ أَرَادَ الْمُنَادَاةَ أَوِ الدَّعْوَةَ التَّامَّةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُوَنَ صِفَةً لِمَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: إِذَا سَكَتَ عَنِ الْمَرَّةِ الْأُولَى
أَوْ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى. (تَنْبِيهٌ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْرُجُ بَعْدَ النِّدَاءِ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِنْ رَأَى أَهْلَ الْمَسْجِدِ قَلِيلًا جَلَسَ حَتَّى يَجْتَمِعُوا ثُمَّ يُصَلِّي، وَإِسْنَادُهُ قَوِيٌّ مَعَ إِرْسَالِهِ، وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ الْبَابِ تَعَارُضٌ، لِأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى غَيْرِ الصُّبْحِ، أَوْ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يَأْتِيَهُ الْمُؤَذِّنُ وَيَخْرُجَ مَعَهُ إِلَى الْمَسْجِدِ.
قَوْلُهُ (يَسْتَبِينُ بِمُوَحَّدَةٍ وَآخِرُهُ نُونٌ، وَفِي رِوَايَةٍ يَسْتَنِيرُ بِنُونٍ وَآخِرُهُ رَاءٌ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ فِي أَبْوَابِ التَّطَوُّعِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
16 - باب بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ لِمَنْ شَاءَ.
627 -
حدثنا عبد الله بن يزيد قال حدثنا كهمس بن الحسن عن عبد الله بن بريدة عن عبد الله بن مغفل قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة - ثم قال في الثالثة: - لمن شاء.
قوله: باب بين كل أذانين صلاة تقدم الكلام على فوائده قبل باب، وترجم هنا بلفظ الحديث، وهناك ببعض ما دل عليه.
17 - بَاب مَنْ قَالَ: لِيُؤَذِّنْ فِي السَّفَرِ مُؤَذِّنٌ وَاحِدٌ
628 -
حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِي فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَكَانَ رَحِيمًا رَفِيقًا، فَلَمَّا رَأَى شَوْقَنَا إِلَى أَهَالِينَا، قَالَ: ارْجِعُوا فَكُونُوا فِيهِمْ، وَعَلِّمُوهُمْ وَصَلُّوا، فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ.
[الحديث 628 - أطرافه في: 7246، 6008، 2848، 819، 685، 658، 631، 630]
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ قَالَ لِيُؤَذِّنْ فِي السَّفَرِ مُؤَذِّنٌ وَاحِدٌ) كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُؤَذِّنُ لِلصُّبْحِ فِي السَّفَرِ أَذَانَيْنِ وَهَذَا مَصِيرٌ مِنْهُ إِلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، وَظَاهِرُ حَدِيثِ الْبَابِ: أَنَّ الْأَذَانَ فِي السَّفَرِ لَا يَتَكَرَّرُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الصُّبْحِ وَغَيْرِهَا، وَالتَّعْلِيلُ الْمَاضِي فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ يُؤَيِّدُهُ، وَعَلَى هَذَا فَلَا مَفْهُومَ لِقَوْلِهِ مُؤَذِّنٌ وَاحِدٌ فِي السَّفَرِ، لِأَنَّ الْحَضَرَ أَيْضًا لَا يُؤَذِّنُ فِيهِ إِلَّا وَاحِدٌ، وَلَوِ احْتِيجَ إِلَى تَعَدُّدِهِمْ لِتَبَاعُدِ أَقْطَارِ الْبَلَدِ، أَذَّنَ كُلُّ وَاحِدٍ فِي جِهَةٍ، وَلَا يُؤَذِّنُونَ جَمِيعًا، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ أَحْدَثَ التَّأْذِينَ جَمِيعًا بَنُو أُمَيَّةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: وَأُحِبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ مُؤَذِّنٌ بَعْدَ مُؤَذِّنٍ، وَلَا يُؤَذِّنُ جَمَاعَةٌ مَعًا، وَإِنْ كَانَ مَسْجِدٌ كَبِيرٌ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي كُلِّ جِهَةٍ مِنْهُ مُؤَذِّنٌ، يُسْمِعُ مَنْ يَلِيهِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.
قوله (في نفر) هم من ثلاثة إلى عشرة. قوله (من قومي) هم بنو ليث بن بكر بن عبد مناف بن كنانة، وكان قدوم وفد بني ليث فيما ذكره ابن سعد بأسانيد متعددة: أن واثلة الليثي قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يتجهز لتبوك.
قوله (رفيقا) بفاء ثم قاف من الرفق، وفي رواية الأصيلي قيل والكشميهني بقافين أي رقيق القلب.
قوله (وصلوا) زاد في رواية إسماعيل بن علية، عن أيوب كما رأيتموني أصلي، وهو في باب رحمة الناس والبهائم من كتاب الأدب، ومثله في باب خبر الواحد من رواية عبد الوهاب الثقفي عن أيوب.
قوله (فإذا حضرت الصلاة) وجه مطابقته للترجمة مع أن ظاهره
يخالفها قوله: فكونوا فيهم، وعلموهم، فإذا حضرت. فظاهره: أن ذلك بعد وصولهم إلى أهلهم وتعليمهم، لكن المصنف أشار إلى الرواية الآتية في الباب الذي بعد هذا، فإن فيها: إذا أنتما خرجتما فأذنا. ولا تعارض بينهما أيضا وبين قوله في هذه الترجمة: مؤذن واحد، لأن المراد بقوله: أذنا، أي من أحب منكما أن يؤذن فليؤذن، وذلك لاستوائهما في الفضل، ولا يعتبر في الأذان السن، بخلاف الإمامة، وهو واضح من سياق حديث الباب، حيث قال: فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم. واستدل بهذا على أفضلية الإمامة على الأذان، وعلى وجوب الأذان. وقد تقدم القول فيه في أوائل الأذان وبيان خطأ من نقل الإجماع على عدم الوجوب. وسيأتي بقية الكلام على هذا الحديث في باب إذا استووا في القراءة من أبواب الإمامة، إن شاء الله تعالى.
18 - بَاب الْأَذَانِ لِلْمُسَافِرِين إِذَا كَانُوا جَمَاعَةً وَالْإِقَامَةِ، وَكَذَلِكَ بِعَرَفَةَ وَجَمْعٍ وَقَوْلِ الْمُؤَذِّنِ الصَّلَاةُ فِي الرِّحَالِ فِي اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ أَوْ الْمَطِيرَةِ
629 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْمُهَاجِرِ أَبِي الْحَسَنِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَأَرَادَ الْمُؤَذِّنُ أَنْ يُؤَذِّنَ، فَقَالَ لَهُ: أَبْرِدْ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ، فَقَالَ لَهُ: أَبْرِدْ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ فَقَالَ لَهُ: أَبْرِدْ، حَتَّى سَاوَى الظِّلُّ التُّلُولَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ.
630 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، قَالَ: أَتَى رَجُلَانِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُرِيدَانِ السَّفَرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِذَا أَنْتُمَا خَرَجْتُمَا فَأَذِّنَا، ثُمَّ أَقِيمَا، ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا.
631 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، أَتَيْنَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ، فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَحِيمًا رَفِيقًا، فَلَمَّا ظَنَّ أَنَّا قَدْ اشْتَهَيْنَا أَهْلَنَا، أَوْ قَدْ اشْتَقْنَا، سَأَلَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَا بَعْدَنَا، فَأَخْبَرْنَاهُ، قَالَ: ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَأَقِيمُوا فِيهِمْ، وَعَلِّمُوهُمْ، وَمُرُوهُمْ، وَذَكَرَ أَشْيَاءَ أَحْفَظُهَا، أَوْ لَا أَحْفَظُهَا، وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي، فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْأَذَانِ لِلْمُسَافِرِينَ) كَذَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ وَلِلْبَاقِينَ لِلْمُسَافِرِ بِالْإِفْرَادِ، وَهُوَ لِلْجِنْسِ.
قَوْلُهُ: (إِذَا كَانُوا جَمَاعَةً) هُوَ مُقْتَضَى الْأَحَادِيثِ الَّتِي أَوْرَدَهَا، لَكِنْ لَيْسَ فِيهَا مَا يَمْنَعُ أَذَانَ الْمُنْفَرِدِ، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّمَا التَّأْذِينُ لِجَيْشٍ، أَوْ رَكْبٍ عَلَيْهِمْ أَمِيرٌ، فَيُنَادَى بِالصَّلَاةِ لِيَجْتَمِعُوا لَهَا، فَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَإِنَّمَا هِيَ الْإِقَامَةُ. وَحُكِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ. وَذَهَبَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ وَالثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُمْ: إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْأَذَانِ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فِي بَابِ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالنِّدَاءِ وَهُوَ يَقْتَضِي اسْتِحْبَابَ الْأَذَانِ لِلْمُنْفَرِدِ، وَبَالَغَ عَطَاءٌ فَقَالَ: إِذَا كُنْتَ فِي سَفَرٍ فَلَمْ تُؤَذِّنْ وَلَمْ تُقِمْ فَأَعِدِ الصَّلَاةَ، وَلَعَلَّهُ كَانَ يَرَى ذَلِكَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ، أَوْ يَرَى
اسْتِحْبَابَ الْإِعَادَةِ لَا وُجُوبَهَا.
قَوْلُهُ: (وَالْإِقَامَةِ) بِالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى الْأَذَانِ، وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْإِقَامَةِ فِي كُلِّ حَالٍ.
قَوْلُهُ: (وَكَذَلِكَ بِعَرَفَةَ) لَعَلَّهُ يُشِيرُ إِلَى حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ فِي صِفَةِ الْحَجِّ، وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَفِيهِ أَنَّ بِلَالًا أَذَّنَ وَأَقامَ لَمَّا جَمَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ.
قَوْلُهُ: (وَجَمْعٍ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمِيمِ هِيَ مُزْدَلِفَةُ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ وَفِيهِ: أَنَّهُ صَلَّى الْمَغْرِبَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَوْلِ الْمُؤَذِّنِ) هُوَ بِالْخَفْضِ أَيْضًا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ الْإِبْرَادِ بِالظُّهْرِ فِي الْمَوَاقِيتِ، وَفِيهِ الْبَيَانُ أَنَّ الْمُؤَذِّنَ هُوَ بِلَالٌ، وَأَنَّهُ أَذَّنَ وَأَقَامَ، فَيُطَابِقُ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ.
قوله (حدثنا محمد بن يوسف) هو الفريابي، وبذلك صرح أبو نعيم في المستخرج وسفيان هو الثوري، وقد روى البخاري عن محمد بن يوسف أيضا عن سفيان بن عيينه، لكنه محمد بن يوسف البيكندي وليست له رواية عن الثوري، وإذا روى عن ابن عيينه بينه، وقد قدمنا ذلك.
قَوْلُهُ (أَتَى رَجُلَانِ) هُمَا مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ رَوِاي الْحَدِيثِ وَرَفِيقُهُ، وَسَيَأْتِي فِي (بَابِ سَفَرِ الِاثْنَيْنِ مِنْ كِتَابِ الْجِهَادِ بِلَفْظِ انْصَرَفْتُ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَصَاحِبٌ لِي، وَلَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِهِ تَسْمِيَةَ صَاحِبِهِ.
قوله فأذنا قال أبو الحسن بن القصار: أراد به الفضل، وإلا فأذان الواحد يجزئ، وكأنه فهم منه: أنه أمرهما أن يؤذنا جميعا، كما هو ظاهر اللفظ، فإن أراد أنهما يؤذنان معا، فليس ذلك بمراد، وقد قدمنا النقل عن السلف بخلافه. وإن أراد: أن كلا منهما على حدة، ففيه نظر، فإن أذان الواحد يكفي الجماعة، نعم، يستحب لكل أحد إجابة المؤذن، فالأولى حمل الأمر على أن أحدهما يؤذن والآخر يجيب، وقد تقدم له توجيه آخر في الباب الذي قبله، وأن الحامل على صرفه عن ظاهره قوله فيه: فليؤذن لكم أحدكم. وللطبراني من طريق حماد بن سلمة، عن خالد الحذاء في هذا الحديث: إذا كنت مع صاحبك فأذن وأقم، وليؤمكما أكبركما. واستروح القرطبي، فحمل اختلاف ألفاظ الحديث على تعدد القصة، وهو بعيد، وقال الكرماني: قد يطلق الأمر بالتثنية، وبالجمع، والمراد واحد، كقوله: يا حرسي اضربا عنقه، وقوله: قتله بنو تميم، مع أن القاتل والضارب واحد.
قوله: ثم أقيما فيه حجة لمن قال باستحباب إجابة المؤذن بالإقامة إن حمل الأمر على ما مضى، وإلا فالذي يؤذن هو الذي يقيم.
(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ هُنَا فِي رِوَايَةِ أَبِي الْوَقْتِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ أَيُّوبَ فَذَكَرَ حَدِيثَ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ مُطَوَّلًا نَحْوَ مَا مَضَى فِي الْبَابِ قَبْلَهُ، وَسَيَأْتِي بِتَمَامِهِ فِي بَابِ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَعَلَى ذِكْرِهِ هُنَاكَ اقْتَصَرَ بَاقِي الرُّوَاةِ.
632 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ، قَالَ: أَذَّنَ ابْنُ عُمَرَ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ بِضَجْنَانَ، ثُمَّ قَالَ: صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ، فَأَخْبَرَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْمُرُ مُؤَذِّنًا يُؤَذِّنُ ثُمَّ يَقُولُ عَلَى إِثْرِهِ: أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ فِي اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ، أَوْ الْمَطِيرَةِ، فِي السَّفَرِ.
[الحديث 632 - طرفه في: 666]
633 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعُمَيْسِ، عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْأَبْطَحِ، فَجَاءَهُ بِلَالٌ فَآذَنَهُ بِالصَّلَاةِ، ثُمَّ خَرَجَ بِلَالٌ بِالْعَنَزَةِ حَتَّى رَكَزَهَا
بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالأَبْطَحِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ"
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) هُوَ الْقَطَّانُ.
قَوْلُهُ: (بِضَجْنَانَ) هُوَ بِفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالْجِيمِ بَعْدَهَا نُونٌ عَلَى وَزْنِ فَعْلَانَ، غَيْرُ مَصْرُوفٍ، قَالَ صَاحِبُ الصِّحَاحِ وَغَيْرُهُ: هُوَ جَبَلٌ بِنَاحِيَةِ مَكَّةَ. وَقَالَ أَبُو مُوسَى فِي ذَيْلِ الْغَرِيبَيْنَ: هُوَ مَوْضِعٌ أَوْ جَبَلٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمَشَارِقِ وَمَنْ تَبِعَهُ: هُوَ جَبَلٌ عَلَى بَرِيدٍ مِنْ مَكَّةَ. وَقَالَ صَاحِبُ الْفَائِقِ: بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ مِيلًا، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ وَادِي مُرَيْسِعَةٍ أَمْيَالٌ. انْتَهَى. وَهَذَا الْقَدْرُ أَكْثَرُ مِنْ بَرِيدَيْنِ. وَضَبْطُهُ بِالْأَمْيَالِ يَدُلُّ عَلَى مَزِيدِ اعْتِنَاءٍ، وَصَاحِبُ الْفَائِقِ مِمَّنْ شَاهَدَ تِلْكَ الْأَمَاكِنَ وَاعْتَنَى بِهَا، خِلَافُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِمَّنْ لَمْ يَرَهَا أَصْلًا. وَيُؤَيِّدُهُ مَا حَكَاهُ أَبُو عَبِيدٍ الْبَكْرِيُّ، قَالَ: وَبَيْنَ قُدَيْدٍ وَضَجْنَانَ يَوْمٌ. قَالَ مَعْبَدٌ الْخُزَاعِيُّ:
قَدْ جَعَلْتُ مَاءَ قُدَيْدٍ مَوْعِدِي
…
وَمَاءَ ضَجْنَانَ لَهَا ضُحَى الْغَدِ
قَوْلُهُ: (وَأَخْبَرَنَا) أَيِ ابْنُ عُمَرَ.
قَوْلُهُ: (كَانَ يَأْمُرُ مُؤَذِّنًا) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ كَانَ يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ يَقُولُ عَلَى أَثَرِهِ) صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْقَوْلَ الْمَذْكُورَ كَانَ بَعْدَ فَرَاغِ الْأَذَانِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَمَّا ذَكَرَ رِوَايَةَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ يَقُولُ فِي آخِرِ نِدَائِهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فِي آخِرِهِ قُبَيْلَ الْفَرَاغِ مِنْهُ، جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. انْتَهَى. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي بَابِ الْكَلَامِ فِي الْأَذَانِ عَنِ ابْنِ خُزَيْمَةَ، أَنَّهُ حَمَلَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يُقَالُ بَدَلًا مِنَ الْحَيْعَلَةِ نَظَرًا إِلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّ مَعْنَى حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ هَلُمُّوا إِلَيْهَا، وَمَعْنَى الصَّلَاةَ فِي الرِّحَالِ: تَأَخَّرُوا عَنِ الْمَجِيءِ، وَلَا يُنَاسِبُ إِيرَادَ اللَّفْظَيْنِ مَعًا، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا نَقِيضُ الْآخَرِ. اهـ. وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ مَا ذُكِرَ بِأَنْ يَكُونَ مَعْنَى الصَّلَاةِ فِي الرِّحَالِ رُخْصَةٌ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَرَخَّصَ، وَمَعْنَى هَلُمُّوا إِلَى الصَّلَاةِ نَدْبٌ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَكْمِلَ الْفَضِيلَةَ وَلَوْ تَحَمَّلَ الْمَشَقَّةَ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَمُطِرْنَا، فَقَالَ: لِيُصَلِّ مَنْ شَاءَ مِنْكُمْ فِي رَحْلِهِ.
قَوْلُهُ: (فِي اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ أَوِ الْمَطِيرَةِ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ، وَإِسْنَادُ الْمَطَرِ إِلَيْهَا مَجَازٌ، وَلَا يُقَالُ إِنَّهَا بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ - أَيْ مَمْطُورٌ فِيهَا - لِوُجُودِ الْهَاءِ فِي قَوْلِهِ مَطِيرَةٍ، إِذْ لَا يَصِحُّ مَمْطُورَةٌ فِيهَا. اهـ. مُلَخَّصًا. وَقَوْلُهُ:(أَوْ) لِلتَّنْوِيعِ لَا لِلشَّكِّ، وَفِي صَحِيحِ أَبِي عَوَانَةَ لَيْلَةٌ بَارِدَةٌ أَوْ ذَاتُ مَطَرٍ أَوْ ذَاتُ رِيحٍ وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنَ الثَّلَاثَةِ عُذْرٌ فِي التَّأَخُّرِ عَنِ الْجَمَاعَةِ، وَنَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ فِيهِ الْإِجْمَاعَ، لَكِنَّ الْمَعْرُوفَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الرِّيحَ عُذْرٌ فِي اللَّيْلِ فَقَطْ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ اخْتِصَاصُ الثَّلَاثَةِ بِاللَّيْلِ، لَكِنْ فِي السُّنَنِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ نَافِعٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ وَالْغَدَاةِ الْقَرَّةِ، وَفِيهَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْمَلِيحِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُمْ مُطِرُوا يَوْمًا، فَرَخَّصَ لَهُمْ. وَلَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ التَّرَخُّصَ بِعُذْرِ الرِّيحِ فِي النَّهَارِ صَرِيحًا، لَكِنَّ الْقِيَامَ يَقْتَضِي إِلْحَاقَهُ، وَقَدْ نَقَلَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَجْهًا.
قَوْلُهُ: (فِي السَّفَرِ) ظَاهِرُهُ اخْتِصَاصُ ذَلِكَ بِالسَّفَرِ، وَرِوَايَةُ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ الْآتِيَةُ فِي أَبْوَابِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ مُطْلَقَةٌ، وَبِهَا أَخَذَ الْجُمْهُورُ، لَكِنَّ قَاعِدَةَ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ تَقْتَضِي أَن يَخْتَصَّ ذَلِكَ بِالْمُسَافِرِ مُطْلَقًا، وَيُلْحَقُ بِهِ مَنْ تَلْحَقُهُ بِذَلِكَ مَشَقَّةٌ فِي الْحَضَرِ دُونَ مَنْ لَا تَلْحَقُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْأَبْطَحِ، وَأَقَامَ الصَّلَاةَ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْوَقْتِ أَنَّهُ ابْنُ مَنْصُورٍ وَبِذَلِكَ جَزَمَ خَلَفٌ فِي الْأَطْرَافِ، وَقَدْ تَرَدَّدَ الْكَلَابَاذِيُّ هَلْ هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ أَوِ ابْنُ مَنْصُورٍ، وَرَجَّحَ الْجَيَّانِيُّ أَنَّهُ ابْنُ مَنْصُورٍ وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ مُسْلِمًا أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ.
قَوْلُهُ: (فَآذَنَهُ بِالصَّلَاةِ ثُمَّ خَرَجَ بِلَالٌ) اخْتَصَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طُرُقٍ
عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ فَقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ بِالصَّلَاةِ: فَدَعَا بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ. فَذَكَرَ الْقِصَّةَ.
قَوْلُهُ: (وَأَقَامَ الصَّلَاةَ) اخْتَصَرَ بَقِيَّتَهُ، وَهِيَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ أَيْضًا، وَهِيَ وَرَكَزَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَالظُّعُنُ يَمُرُّونَ الْحَدِيثَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي بَابِ سُتْرَةُ الْإِمَامِ سُتْرَةٌ لِمَنْ خَلْفَهُ.
قَوْلُهُ: (بِالْأَبْطَحِ) هُوَ مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ خَارِجَ مَكَّةَ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي ذَلِكَ الْبَابِ، وَفَهِمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَبْطَحِ مَوْضِعُ جَمْعٍ لِذِكْرِهِ لَهَا فِي التَّرْجَمَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُرَادَهُ، بَلْ بَيْنَ جَمْعٍ وَالْأَبْطَحِ مَسَافَةٌ طَوِيلَةٌ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ حَدِيثَ أَبِي جُحَيْفَةَ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي أَصْلِ التَّرْجَمَةِ، وَهِيَ مَشْرُوعِيَّةُ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ لِلْمُسَافِرِينَ.
19 - بَاب هَلْ يَتَتَبَّعُ الْمُؤَذِّنُ فَاهُ هَاهُنَا وَهَاهُنَا؟ وَهَلْ يَلْتَفِتُ فِي الْأَذَانِ؟ وَيُذْكَرُ عَنْ بِلَالٍ أَنَّهُ جَعَلَ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ،
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يَجْعَلُ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: لَا بَأْسَ أَنْ يُؤَذِّنَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْوُضُوءُ حَقٌّ وَسُنَّةٌ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ
634 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ رَأَى بِلَالًا يُؤَذِّنُ، فَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُ فَاهُ هَاهُنَا وَهَاهُنَا بِالْأَذَانِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ هَلْ يَتَتَبَّعُ الْمُؤَذِّنُ فَاهُ هَاهُنَا وَهَاهُنَا) هُوَ بِيَاءٍ تَحْتَانِيَّةٍ ثُمَّ بِتَاءَيْنِ مَفْتُوحَاتٍ ثُمَّ بِمُوَحَّدَةٍ مُشَدَّدَةٍ مِنَ التَّتَبُّعِ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ يُتْبِعُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَإِسْكَانِ الْمُثَنَّاةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ مِنَ الْإِتْبَاعِ، وَالْمُؤَذِّنُ بِالرَّفْعِ لِأَنَّهُ فَاعِلُ التَّتَبُّعِ، وَفَاهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَهَاهُنَا وَهَاهُنَا ظَرْفَا مَكَانٍ، وَالْمُرَادُ بِهِمَا جِهَتَا الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ.
وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَفْظُ الْمُؤَذِّنِ بِالنَّصْبِ وَفَاعِلُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ الشَّخْصُ وَنَحْوُهُ، وَفَاهُ بِالنَّصْبِ بَدَلٌ مِنَ الْمُؤَذِّنِ، قَالَ: لِيُوَافِقَ قَوْلَهُ فِي الْحَدِيثِ فَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُ فَاهُ اهـ.
وَلَيْسَ ذَلِكَ بِلَازِمٍ، لِمَا عُرِفَ مِنْ طَرِيقَةِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَا يَقِفُ مَعَ اللَّفْظِ الَّذِي يُورِدُهُ غَالِبًا بَلْ يُتَرْجِمُ لَهُ بِبَعْضِ أَلْفَاظِهِ الْوَارِدَةِ فِيهِ، وَكَذَا وَقَعَ هَاهُنَا، فَإِنَّ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ فَجَعَلَ يَتَتَبَّعُ بِفِيهِ يَمِينًا وَشِمَالًا. وَفِي رِوَايَةِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ رَأَيْتُ بِلَالًا يُؤَذِّنُ يَتَتَبَّعُ بِفِيهِ وَوَصَفَ سُفْيَانُ يَمِيلُ بِرَأْسِهِ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ بِلَالًا كَانَ يَتَتَبَّعُ بِفِيهِ النَّاحِيَتَيْنِ، وَكَانَ أَبُو جُحَيْفَةَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا مُتَتَبِّعٌ بِاعْتِبَارٍ.
قَوْلُهُ: (وَهَلْ يَلْتَفِتُ فِي الْأَذَانِ) يُشِيرُ إِلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي رِوَايَةِ وَكِيعٍ وَفِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ الْأَزْرَقِ، عَنْ سُفْيَانَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ فَجَعَلَ يَنْحَرِفُ يَمِينًا وَشِمَالًا وَسَيَأْتِي فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ آدَمَ بِلَفْظِ وَالْتَفَتَ.
قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ عَنْ بِلَالٍ أَنَّهُ جَعَلَ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ) يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَغَيْرِهِ عَنْ سُفْيَانَ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ بَعْدُ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِلَخْ) أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ من طَرِيقِ نُسَيْرٍ، وَهُوَ بِالنُّونِ وَالْمُهْمَلَةِ مُصَغَّرٌ ابْنُ ذُعْلُوقٍ بِضَمِّ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ اللَّامِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ) يَعْنِي النَّخَعِيَّ إِلَخْ. وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ عَنْهُ بِذَلِكَ، وَزَادَ: ثُمَّ يَخْرُجُ فَيَتَوَضَّأُ ثُمَّ يَرْجِعُ فَيُقِيمُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَطَاءٌ إِلَخْ) وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ قَالَ قَالَ لِي عَطَاءٌ: حَقٌّ وَسُنَّةٌ مَسْنُونَةٌ أَنْ لَا يُؤَذِّنَ الْمُؤَذِّنُ إِلَّا مُتَوَضِّئًا، هُوَ مِنَ الصَّلَاةِ، هُوَ فَاتِحَةُ الصَّلَاةِ وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُؤَذِّنَ الرَّجُلُ عَلَى غَيْرِ
وُضُوءٍ وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَتْ عَائِشَةُ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابِ تَقْضِي الْحَائِضُ الْمَنَاسِكَ مِنْ كِتَابِ الْحَيْضِ، وَأَنَّ مُسْلِمًا وَصَلَهُ. وَفِي إِيرَادِ الْبُخَارِيِّ لَهُ هُنَا إِشَارَةٌ إِلَى اخْتِيَارِ قَوْلِ النَّخَعِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالْكُوفِيِّينَ، لِأَنَّ الْأَذَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَذْكَارِ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الصَّلَاةِ مِنَ الطَّهَارَةِ، وَلَا مِنِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، كَمَا لَا يُسْتَحَبُّ فِيهِ الْخُشُوعُ الَّذِي يُنَافِيهِ الِالْتِفَاتُ، وَجَعْلُ الْإِصْبَعِ فِي الْأُذُنِ، وَبِهَذَا تُعْرَفُ مُنَاسَبَةُ ذِكْرِهِ لِهَذِهِ الْآثَارِ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ، وَلِاخْتِلَافِ نَظَرِ الْعُلَمَاءِ فِيهَا أَوْرَدَهَا بِلَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ، وَلَمْ يَجْزِمْ بِالْحُكْمِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ) هُوَ الْفِرْيَابِيُّ، وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ.
قَوْلُهُ: (هَاهُنَا وَهَاهُنَا بِالْأَذَانِ) كَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَرِوَايَةُ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَتَمُّ، حَيْثُ قَالَ فَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُ فَاهُ هَاهُنَا وَهَاهُنَا يَمِينًا وَشِمَالًا يَقُولُ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ وَهَذَا فِيهِ تَقْيِيدٌ لِلِالْتِفَاتِ فِي الْأَذَانِ وَأَنَّ مَحَلَّهُ عِنْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ، وَبَوَّبَ عَلَيْهِ ابْنُ خُزَيْمَةَ انْحِرَافُ الْمُؤَذِّنِ عِنْدَ قَوْلِهِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ بِفَمِهِ لَا بِبَدَنِهِ كُلِّهِ قَالَ: وَإِنَّمَا يُمْكِنُ الِانْحِرَافُ بِالْفَمِ بِانْحِرَافِ الْوَجْهِ، ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ أَيْضًا بِلَفْظٍ فَجَعَلَ يَقُولُ فِي أَذَانِهِ هَكَذَا، وَيُحْرِفُ رَأْسَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ زِيَادَتَانِ: إِحْدَاهُمَا الِاسْتِدَارَةُ، وَالْأُخْرَى وَضْعُ الْإِصْبَعِ فِي الْأُذُنِ، وَلَفْظُهُ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ رَأَيْتُ بِلَالًا يُؤَذِّنُ وَيَدُورُ وَيُتْبِعُ فَاهُ هَاهُنَا وَهَاهُنَا وَإِصْبَعَاهُ فِي أُذُنَيْهِ فَأَمَّا قَوْلُهُ وَيَدُورُ فَهُوَ مُدْرَجٌ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ، عَنْ عَوْنٍ، بَيَّنَ ذَلِكَ يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَوْنٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ رَأَيْتُ بِلَالًا أَذَّنَ فَأَتْبَعَ فَاهُ هَاهُنَا وَهَاهُنَا وَالْتَفَتَ يَمِينًا وَشِمَالًا.
قَالَ سُفْيَانُ: كَانَ حَجَّاجٌ - يَعْنِي ابْنَ أَرْطَأَةَ - يَذْكُرُ لَنَا عَنْ عَوْنٍ أَنَّهُ قَالَ فَاسْتَدَارَ فِي أَذَانِهِ فَلَمَّا لَقِينَا عَوْنًا لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الِاسْتِدَارَةَ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ آدَمَ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْوَلِيدِ الْعَدَنِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ، لَكِنْ لَمْ يُسَمِّ حَجَّاجًا، وَهُوَ مَشْهُورٌ عَنْ حَجَّاجٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ طَرِيقِهِ وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ بَلْ وَافَقَهُ إِدْرِيسُ الْأَوْدِيُّ، وَمُحَمَّدٌ الْعَرْزَمِيُّ، عَنْ عَوْنٍ، لَكِنَّ الثَّلَاثَةَ ضُعَفَاءُ، وَقَدْ خَالَفَهُمْ مَنْ هُوَ مِثْلُهُمْ أَوْ أَمْثَلُ وَهُوَ قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ، فَرَوَاهُ عَنْ عَوْنٍ فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ وَلَمْ يَسْتَدِرْ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ مَنْ أَثْبَتَ الِاسْتِدَارَةَ عَنَى اسْتِدَارَةَ الرَّأْسِ، وَمَنْ نَفَاهَا عَنَى اسْتِدَارَةَ الْجَسَدِ كُلِّهِ. وَمَشَى ابْنُ بَطَّالٍ وَمَنْ تَبِعَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِدَارَةِ بِالْبَدَنِ كُلِّهِ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِدَارَةِ الْمُؤَذِّنِينَ لِلْإِسْمَاعِ عِنْدَ التَّلَفُّظِ بِالْحَيْعَلَتَيْنِ، وَاخْتُلِفَ هَلْ يَسْتَدِيرُ بِبَدَنِهِ كُلِّهِ أَوْ بِوَجْهِهِ فَقَطْ وَقَدَمَاهُ قَارَّتَانِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ؟ وَاخْتُلِفَ أَيْضًا هَلْ يَسْتَدِيرُ فِي الْحَيْعَلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مَرَّةً وَفِي الثَّانِيَتَيْنِ مَرَّةً، أَوْ يَقُولُ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ عَنْ شِمَالِهِ، وَكَذَا فِي الْأُخْرَى؟ قَالَ: وَرَجَّحَ الثَّانِي لِأَنَّهُ يَكُونُ لِكُلِّ جِهَةٍ نَصِيبٌ مِنْهُمَا، قَالَ: وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى لَفْظِ الْحَدِيثِ.
وَفِي الْمُغْنِي عَنْ أَحْمَدَ: لَا يَدُورُ إِلَّا إِنْ كَانَ عَلَى مَنَارَةٍ يَقْصِدُ إِسْمَاعَ أَهْلِ الْجِهَتَيْنِ. وَأَمَّا وَضْعُ الْإِصْبَعَيْنِ فِي الْأُذُنَيْنِ فَقَدْ رَوَاهُ مُؤَمَّلٌ أَيْضًا عَنْ سُفْيَانَ أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ، وَلَهُ شَوَاهِدُ ذَكَرْتُهَا فِي تَعْلِيقِ التَّعْلِيقِ مِنْ أَصَحِّهَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَّامٍ الدِّمَشْقِيِّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ الْهَوْزَنِيَّ حَدَّثَهُ، قَالَ: قُلْتُ لِبِلَالٍ كَيْفَ كَانَتْ نَفَقَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ قَالَ بِلَالٌ: فَجَعَلْتُ إِصْبَعِي فِي أُذُنِي فَأَذَّنْتُ.
وَلِابْنِ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ الْقَرَظِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِلَالًا أَنْ يَجْعَلَ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ فَائِدَتَانِ: إِحْدَاهُمَا أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ أَرْفَعَ لِصَوْتِهِ، وَفِيهِ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ أَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخِ مِنْ طَرِيقِ سَعْدِ الْقَرَظِ، عَنْ بِلَالٍ،
ثَانِيهِمَا أَنَّهُ عَلَامَةٌ لِلْمُؤَذِّنِ لِيَعْرِفَ مَنْ رَآهُ عَلَى بُعْدٍ أَوْ كَانَ بِهِ صَمَمٌ أَنَّهُ يُؤَذِّنُ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَجْعَلُ يَدَهُ فَوْقَ أُذُنِهِ حَسْبُ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: اسْتَحَبَّ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنْ يُدْخِلَ الْمُؤَذِّنُ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ فِي الْأَذَانِ، قَالَ: وَاسْتَحَبَّهُ الْأَوْزَاعِيُّ فِي الْإِقَامَةِ أَيْضًا.
(تَنْبِيهٌ) لَمْ يَرِدْ تَعْيِينُ الْإِصْبَعِ الَّتِي يُسْتَحَبُّ وَضْعُهَا، وَجَزَمَ النَّوَوِيُّ أَنَّهَا الْمُسَبِّحَةُ، وَإِطْلَاقُ الْإِصْبَعِ مَجَازٌ عَنِ الْأُنْمُلَةِ.
(تَنْبِيهٌ آخَرُ: وَقَعَ فِي الْمُغْنِي لِلْمُوَفَّقِ نِسْبَةُ حَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ بِلَفْظٍ أَنَّ بِلَالًا أَذَّنَ وَوَضَعَ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ إِلَى تَخْرِيجِ الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ، وَهُوَ وَهَمٌ، وَسَاقَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ حَدِيثَ الْبَابِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ بِلَفْظِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ فَمَا أَجَادَ، لِإِيهَامِهِ أَنَّهُمَا مُتَوَافِقَتَانِ، وَقَدْ عَرَفْتَ مَا فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ مِنَ الْإِدْرَاجِ، وَسَلَامَةَ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْ ذَلِكَ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
20 - بَاب قَوْلِ الرَّجُلِ: فَاتَتْنَا الصَّلَاةُ،
وَكَرِهَ ابْنُ سِيرِينَ أَنْ يَقُولَ: فَاتَتْنَا الصَّلَاةُ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ لَمْ نُدْرِكْ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَصَحُّ.
635 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ سَمِعَ جَلَبَةَ رِجَالٍ، فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: مَا شَأْنُكُمْ، قَالُوا اسْتَعْجَلْنَا إِلَى الصَّلَاةِ، قَالَ: فَلَا تَفْعَلُوا إِذَا أَتَيْتُمْ الصَّلَاةَ فَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ الرَّجُلِ فَاتَتْنَا الصَّلَاةُ) أَيْ: هَلْ يُكْرَهُ أَمْ لَا؟
قَوْلُهُ: (وَكَرِهَ ابْنُ سِيرِينَ إِلَخْ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَزْهَرَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ قَالَ كَانَ مُحَمَّدٌ - يَعْنِي ابْنَ سِيرِينَ - يَكْرَهُ فَذَكَرَهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هُوَ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَأَصَحُّ خَبَرُهُ. وَهَذَا كَلَامُ الْمُصَنِّفِ رَادًّا عَلَى ابْنِ سِيرِينَ. وَوَجْهُ الرَّدِّ أَنَّ الشَّارِعَ أَطْلَقَ لَفْظَ الْفَوَاتِ فَدَلَّ عَلَى الْجَوَازِ، وَابْنُ سِيرِينَ مَعَ كَوْنِهِ كَرِهَهُ فَإِنَّمَا كَرِهَهُ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ لِأَنَّهُ قَالَ وَلْيَقُلْ لَمْ نُدْرِكْ وَهَذَا مُحَصِّلُ مَعْنَى الْفَوَاتِ، لَكِنَّ قَوْلَهُ لَمْ نُدْرِكْ فِيهِ نِسْبَةُ عَدَمِ الْإِدْرَاكِ إِلَيْهِ بِخِلَافِ فَاتَتْنَا، فَلَعَلَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي لَحَظَهُ ابْنُ سِيرِينَ. وَقَوْلُهُ أَصَحُّ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ، أَيْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قَوْلِ ابْنِ سِيرِينَ، فَإِنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ لِثُبُوتِ النَّصِّ بِخِلَافِهِ. وَعِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ فِي قِصَّةِ نَوْمِهِمْ عَنِ الصَّلَاةِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاتَتْنَا الصَّلَاةُ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَمَوْقِعُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ وَمَا بَعْدَهَا مِنْ أَبْوَابِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، أَنَّ الْمَرْءَ عِنْدَ إِجَابَةِ الْمُؤَذِّنِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُدْرِكَ الصَّلَاةَ كُلَّهَا، أَوْ بَعْضَهَا، أَوْ لَا يُدْرِكَ شَيْئًا، فَاحْتِيجَ إِلَى جَوَازِ إِطْلَاقِ الْفَوَاتِ وَكَيْفِيَّةِ الْإِتْيَانِ إِلَى الصَّلَاةِ، وَكَيْفِيَّةِ الْعَمَلِ عِنْدَ فَوَاتِ الْبَعْضِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (شَيْبَانُ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَيَحْيَى هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ بْنِ سَلَّامٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ التَّصْرِيحُ بِإِخْبَارِ عَبْدِ اللَّهِ لَهُ بِهِ وَبِإِخْبَارِ أَبِي قَتَادَةَ، لِعَبْدِ اللَّهِ.
قَوْلُهُ: (جَلَبَةَ الرِّجَالِ) وَفِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَالْأَصِيلِيِّ جَلَبَةُ رِجَالٍ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَلَامٍ وَهُمَا لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، وَقَدْ سُمِّيَ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرَةَ فِيمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ عَنْهُ نَحْوُهُ فِي نَحْوِ هَذِهِ الْقِصَّةِ. وَجَلَبَةَ بِجِيمٍ وَلَامٍ وَمُوَحَّدَةٍ مَفْتُوحَاتٍ، أَيْ أَصْوَاتَهُمْ حَالَ حَرَكَتِهِمْ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْتِفَاتَ خَاطِرِ الْمُصَلِّي إِلَى الْأَمْرِ الْحَادِثِ لَا يُفْسِدُ صَلَاتَهُ، وَسَنَذْكُرُ الْكَلَامَ عَلَى الْمَتْنِ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.
21 - بَاب لَا يَسْعَى إِلَى الصَّلَاةِ وَلْيَأْتِ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ،
وَقَالَ: مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا، وقَالَهُ أَبُو قَتَادَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
636 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَعَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا سَمِعْتُمْ الْإِقَامَةَ فَامْشُوا إِلَى الصَّلَاةِ، وَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ، وَلَا تُسْرِعُوا، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا.
[الحديث 636 - طرفه في: 908]
قَوْلُهُ: (بَابٌ لَا يَسْعَى إِلَى الصَّلَاةِ إِلَخْ) سَقَطَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ مِنْ رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَمِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ عَنْ غَيْرِ السَّرَخْسِيِّ، وَثُبُوتُهَا أَصْوَبُ لِقَوْلِهِ فِيهَا وَقَالَهُ أَبُو قَتَادَةَ لِأَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي التَّرْجَمَةِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَعَادَ الضَّمِيرُ إِلَى الْمَتْنِ السَّابِقِ فَيَكُونُ ذِكْرُ أَبِي قَتَادَةَ تَكْرَارًا بِلَا فَائِدَةٍ لِأَنَّهُ سَاقَهُ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (وَعَنِ الزُّهْرِيِّ) أَيْ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَهُوَ آدَمُ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْهُ، أَيْ أَنَّ ابْنَ أَبِي ذِئْبٍ حَدَّثَ بِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ شَيْخَيْنِ، حَدَّثَاهُ بِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ جَمَعَهُمَا الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ الْمَشْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ عَنْ آدَمَ فَقَالَ فِيهِ عَنْ سَعِيدٍ، وَأَبِي سَلَمَةَ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْهُمَا، وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ الِاخْتِلَافَ فِيهِ عَلَى الزُّهْرِيِّ، وَجَزَمَ بِأَنَّهُ عِنْدَهُ عَنْهُمَا جَمِيعًا، قَالَ: وَكَانَ رُبَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا. وَأَمَّا التِّرْمِذِيُّ، فَإِنَّهُ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَحْدَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ وَحْدَهُ، قَالَ: وَقَوْلُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَصَحُّ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ كَمَا قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَهَذَا عَمَلٌ صَحِيحٌ لَوْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ الزُّهْرِيَّ حَدَّثَ بِهِ عَنْهُمَا. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ الْمَشْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبٍ، وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَحْدَهُ فَتَرَجَّحَ مَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ.
قَوْلُهُ: (إِذَا سَمِعْتُمُ الْإِقَامَةَ) هُوَ أَخَصُّ مِنْ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ إِذَا أَتَيْتُمُ الصَّلَاةَ لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مِنْ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ، لِأَنَّ الْمُسْرِعَ إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ يَتَرَجَّى إِدْرَاكَ فَضِيلَةِ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ نَهَى عَنِ الْإِسْرَاعِ، فَغَيْرُهُ مِمَّنْ جَاءَ قَبْلَ الْإِقَامَةِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْإِسْرَاعِ لِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ إِدْرَاكُ الصَّلَاةِ كُلِّهَا، فَيَنْهَى عَنِ الْإِسْرَاعِ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى.
وَقَدْ لَحَظَ فِيهِ بَعْضُهُمْ مَعْنًى غَيْرَ هَذَا فَقَالَ: الْحِكْمَةُ فِي التَّقْيِيدِ بِالْإِقَامَةِ أَنَّ الْمُسْرِعَ إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ يَصِلُ إِلَيْهَا وَقَدِ انْبَهَرَ فَيَقْرَأُ وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، فَلَا يَحْصُلُ لَهُ تَمَامُ الْخُشُوعِ فِي التَّرْتِيلِ وَغَيْرِهِ، بِخِلَافِ مَنْ جَاءَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ قَدْ لَا تُقَامُ فِيهِ حَتَّى يَسْتَرِيحَ. انْتَهَى.
وَقَضِيَّةُ هَذَا: أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ الْإِسْرَاعُ لِمَنْ جَاءَ قَبْلَ الْإِقَامَةِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِصَرِيحِ قَوْلِهِ إِذَا أَتَيْتُمُ الصَّلَاةَ، لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ مَا قَبْلَ الْإِقَامَةِ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي بِالْإِقَامَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْحَامِلُ فِي الْغَالِبِ عَلَى الْإِسْرَاعِ.
قَوْلُهُ: (وَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ) كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ: وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، بِغَيْرِ بَاءٍ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ، وَضَبَطَهَا الْقُرْطُبِيُّ شَارِحُهُ بِالنَّصْبِ عَلَى الْإِغْرَاءِ، وَضَبَطَهَا النَّوَوِيُّ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهَا جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُهُمْ دُخُولَ الْبَاءِ قَالَ: لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} وَفِيهِ نَظَرٌ لِثُبُوتِ زِيَادَةِ الْبَاءِ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ كَحَدِيثِ: عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللَّهِ، وَحَدِيثِ: فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ، وَحَدِيثِ فَعَلَيْكَ بِالْمَرْأَةِ قَالَهُ لِأَبِي طَلْحَةَ فِي قِصَّةِ صَفِيَّةَ، وَحَدِيثِ عَلَيْكَ بِعَيْبَتِكَ قَالَتْهُ عَائِشَةُ
لِعُمَرَ، وَحَدِيثِ عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ، وَحَدِيثِ عَلَيْكَ بِخُوَيْصَةِ نَفْسِكَ وَغَيْرِ ذَلِكَ. ثُمَّ إِنَّ الَّذِي عَلَّلَ بِهِ هَذَا الْمُعْتَرِضُ غَيْرُ مُوَفٍّ بِمَقْصُودِهِ، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ امْتِنَاعُ تَعَدِّيهِ بِالْبَاءِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِيهِ لُغَتَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَائِدَةٌ: الْحِكْمَةُ فِي هَذَا الْأَمْرِ تُسْتَفَادُ مِنْ زِيَادَةٍ وَقَعَتْ فِي مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ الْبَابِ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ يَعْمِدُ إِلَى الصَّلَاةِ، فَهُوَ فِي صَلَاةٍ، أَيْ أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُصَلِّي، فَيَنْبَغِي لَهُ اعْتِمَادُ مَا يَنْبَغِي لِلْمُصَلِّي اعْتِمَادُهُ وَاجْتِنَابُ مَا يَنْبَغِي لِلْمُصَلِّي اجْتِنَابُهُ.
قَوْلُهُ: (وَالْوَقَارُ) قَالَ عِيَاضٌ، وَالْقُرْطُبِيُّ: هُوَ بِمَعْنَى السَّكِينَةِ، وَذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا، وَأَنَّ السَّكِينَةَ التَّأَنِّي فِي الْحَرَكَاتِ وَاجْتِنَابِ الْعَبَثِ، وَالْوَقَارِ فِي الْهَيْئَةِ، كَغَضِّ الْبَصَرِ، وَخَفْضِ الصَّوْتِ، وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ.
قَوْلُهُ: (وَلَا تُسْرِعُوا) فِيهِ زِيَادَةُ تَأْكِيدٍ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ الرَّدُّ عَلَى مَنْ أَوَّلَ قَوْلَهُ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ لَا تَفْعَلُوا أَيِ الِاسْتِعْجَالَ الْمُفْضِي إِلَى عَدَمِ الْوَقَارِ، وَأَمَّا الْإِسْرَاعُ الَّذِي لَا يُنَافِي الْوَقَارَ كَمَنْ خَافَ فَوْتَ التَّكْبِيرَةِ فَلَا، وَهَذَا مَحْكِيٌّ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ رِوَايَةُ الْعَلَاءِ الَّتِي فِيهَا فَهُوَ فِي صَلَاةٍ قَالَ النَّوَوِيُّ: نَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ مِنَ الصَّلَاةِ شَيْئًا لَكَانَ مُحَصِّلًا لِمَقْصُودِهِ لِكَوْنِهِ فِي صَلَاةٍ، وَعَدَمُ الْإِسْرَاعِ أَيْضًا يَسْتَلْزِمُ كَثْرَةَ الْخُطَا، وَهُوَ مَعْنًى مَقْصُودٌ لِذَاتِهِ، وَرَدَتْ فِيهِ أَحَادِيثُ كَحَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: أَنَّ بِكُلِّ خُطْوَةٍ دَرَجَةً وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ مَرْفُوعًا: إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ، لَمْ يَرْفَعْ قَدَمَهُ الْيُمْنَى، إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ حَسَنَةً، وَلَمْ يَضَعْ قَدَمَهُ الْيُسْرَى إِلَّا حَطَّ اللَّهُ عَنْهُ سَيِّئَةً، فَإِنْ أَتَى الْمَسْجِدَ فَصَلَّى فِي جَمَاعَةٍ غُفِرَ لَهُ، فَإِنْ أَتَى وَقَدْ صَلَّوْا بَعْضًا، وَبَقِيَ بَعْضٌ، فَصَلَّى مَا أَدْرَكَ وَأَتَمَّ مَا بَقِيَ كَانَ كَذَلِكَ، وَإِنْ أَتَى الْمَسْجِدَ، وَقَدْ صَلَّوْا فَأَتَمَّ الصَّلَاةَ، كَانَ كَذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْفَاءُ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ إِذَا بَيَّنْتُ لَكُمْ مَا هُوَ أَوْلَى بِكُمْ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا.
قُلْتُ: أَوِ التَّقْدِيرُ: إِذَا فَعَلْتُمْ فمَا أَدْرَكْتُمْ، أَيْ فَعَلْتُمُ الَّذِي أَمَرْتُكُمْ بِهِ مِنَ السَّكِينَةِ وَتَرْكِ الْإِسْرَاعِ. وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى حُصُولِ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ بِإِدْرَاكِ جُزْءٍ مِنَ الصَّلَاةِ لِقَوْلِهِ فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقِيلَ: لَا تُدْرَكُ الْجَمَاعَةُ بِأَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ: مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ، فَقَدْ أَدْرَكَ، وَقِيَاسًا عَلَى الْجُمُعَةِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْجَوَابَ عَنْهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَأَنَّهُ وَرَدَ فِي الْأَوْقَاتِ، وَأَنَّ فِي الْجُمُعَةِ حَدِيثًا خَاصًّا بِهَا.
وَاسْتُدِلَّ بِهِ أَيْضًا عَلَى اسْتِحْبَابِ الدُّخُولِ مَعَ الْإِمَامِ فِي أَيِّ حَالَةٍ وُجِدَ عَلَيْهَا، وَفِيهِ حَدِيثٌ أَصْرَحُ مِنْهُ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ مَرْفُوعًا مَنْ وَجَدَنِي رَاكِعًا أَوْ قَائِمًا أَوْ سَاجِدًا، فَلْيَكُنْ مَعِي عَلَى حَالَتِي الَّتِي أَنَا عَلَيْهَا.
قَوْلُهُ: (وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا) أَيْ أَكْمِلُوا، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، وَرَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ بِلَفْظِ فَاقْضُوا وَحَكَمَ مُسْلِمٌ فِي التَّمْيِيزِ عَلَيْهِ بِالْوَهْمِ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ، مَعَ أَنَّهُ أَخْرَجَ إِسْنَادَهُ فِي صَحِيحِهِ لَكِنْ لَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ، وَكَذَا رَوَى أَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ فَاقْضُوا وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِلَفْظِ فَأَتِمُّوا.
وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ، فَرِوَايَةُ الْجُمْهُورِ: فَأَتِمُّوا وَوَقَعَ لِمُعَاوِيَةَ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ سُفْيَانَ فَاقْضُوا كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ إِسْنَادَهُ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، فَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ أَيْضًا، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مِثْلَهُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: وَوَقَعَتْ فِي رِوَايَةِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَاخْتُلِفَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: وَكَذَا قَالَ ابْنُ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلْيَقْضِ.
قُلْتُ: وَرِوَايَةُ ابْنِ سِيرِينَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ صَلِّ مَا أَدْرَكْتَ، وَاقْضِ مَا سَبَقَكَ
وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ وَرَدَ بِلَفْظِ فَأَتِمُّوا وَأَقَلُّهَا بِلَفْظِ فَاقْضُوا وَإِنَّمَا تَظْهَرُ فَائِدَةُ ذَلِكَ إِذَا جَعَلْنَا بَيْنَ الإتمام وَالْقَضَاءِ مُغَايَرَةً، لَكِنْ إِذَا كَانَ مَخْرَجُ الْحَدِيثِ وَاحِدًا وَاخْتُلِفَ فِي لَفْظِهِ مِنْهُ، وَأَمْكَنَ رَدُّ الِاخْتِلَافِ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ كَانَ أَوْلَى، وَهُنَا كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَإِنْ كَانَ يُطْلَقُ عَلَى الْفَائِتِ غَالِبًا لَكِنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الْأَدَاءِ أَيْضًا، وَيَرِدُ بِمَعْنَى الْفَرَاغِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا} وَيَرِدُ بِمَعَانٍ أُخَرَ، فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ: فَاقْضُوا عَلَى مَعْنَى الْأَدَاءِ أَوِ الْفَرَاغِ، فَلَا يُغَايِرُ قَوْلَهُ فَأَتِمُّوا، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِرِوَايَةِ فَاقْضُوا عَلَى أَنَّ مَا أَدْرَكَهُ الْمَأْمُومُ هُوَ آخِرُ صَلَاتِهِ حَتَّى اسْتُحِبَّ لَهُ الْجَهْرُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ، وَقِرَءَةِ السُّورَةِ، وَتَرْكُ الْقُنُوتِ، بَلْ هُوَ أَوَّلُهَا، وَإِنْ كَانَ آخِرَ صَلَاةِ إِمَامِهِ، لِأَنَّ الْآخِرَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ شَيْءٍ تَقَدَّمَهُ، وَأَوْضَحُ دَلِيلٍ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَشَهَّدَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَلَوْ كَانَ مَا يُدْرِكُهُ مَعَ الْإِمَامِ آخِرًا لَهُ لَمَا احْتَاجَ إِلَى إِعَادَةِ التَّشَهُّدِ.
وَقَوْلُ ابْنِ بَطَّالٍ: إِنَّهُ مَا تَشَهَّدَ إِلَّا لِأَجْلِ السَّلَامِ، لِأَنَّ السَّلَامَ يَحْتَاجُ إِلَى سَبْقِ تَشَهُّدٍ، لَيْسَ بِالْجَوَابِ النَّاهِضِ عَلَى دَفْعِ الْإِيرَادِ الْمَذْكُورِ، وَاسْتَدَلَّ ابْنُ الْمُنْذِرِ لِذَلِكَ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَقَدْ عَمِلَ بِمُقْتَضَى اللَّفْظَيْنِ الْجُمْهُورُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا. إِنَّ مَا أَدْرَكَ الْمَأْمُومُ هُوَ أَوَّلُ صَلَاتِهِ إِلَّا أَنَّهُ يَقْضِي مِثْلَ الَّذِي فَاتَهُ مِنْ قِرَاءَةِ السُّورَةِ مَعَ أُمِّ الْقُرْآنِ فِي الرُّبَاعِيَّةِ، لَكِنْ لَمْ يَسْتَحِبُّوا لَهُ إِعَادَةَ الْجَهْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْبَاقِيَتَيْنِ، وَكَأَنَّ الْحُجَّةَ فِيهِ قَوْلُهُ مَا أَدْرَكْتَ مَعَ الْإِمَامِ فَهُوَ أَوَّلُ صَلَاتِكَ وَاقْضِ مَا سَبَقَكَ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَعَنْ إِسْحَاقَ، وَالْمُزَنِيِّ: لَا يَقْرَأُ إِلَّا أُمَّ الْقُرْآنِ فَقَطْ وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ رَاكِعًا لَمْ تُحْسَبْ لَهُ تِلْكَ الرَّكْعَةُ لِلْأَمْرِ بِإِتْمَامِ مَا فَاتَهُ، لِأَنَّهُ فَاتَهُ الْوُقُوفُ وَالْقِرَاءَةُ فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجَمَاعَةٍ، بَلْ حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ عَنْ كُلِّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالضُّبَعِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ مُحَدِّثِي الشَّافِعِيَّةِ، وَقَوَّاهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ حَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ حَيْثُ رَكَعَ دُونَ الصَّفِّ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةِ تِلْكَ الرَّكْعَةِ، وَسَيَأْتِي فِي أَثْنَاءِ صِفَةِ الصَّلَاةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
22 - بَاب مَتَى يَقُومُ النَّاسُ إِذَا رَأَوْا الْإِمَامَ عِنْدَ الْإِقَامَةِ
637 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، قَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي.
[الحديث 637 - طرفاه في: 638، 909]
قَوْلُهُ: (بَابُ مَتَى يَقُومُ النَّاسُ إِذَا رَأَوُا الْإِمَامَ عِنْدَ الْإِقَامَةِ؟) قِيلَ: أَوْرَدَ التَّرْجَمَةَ بِلَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ فِي الْحَدِيثِ لَا تَقُومُوا نَهْيٌ عَنِ الْقِيَامِ، وَقَوْلُهُ حَتَّى تَرَوْنِي تَسْوِيغٌ لِلْقِيَامِ عِنْدَ الرُّؤْيَةِ، وَهُوَ مُطْلَقٌ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِشَيْءٍ مِنْ أَلْفَاظِ الْإِقَامَةِ، وَمِنْ ثَمَّ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ، كَمَا سَيَأْتِي.
قَوْلُهُ: (هِشَامٌ) هُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ هُنَا عَنْ أَبَانَ الْعَطَّارِ، عَنْ يَحْيَى، فَلَعَلَّهُ لَهُ فِيهِ شَيْخَانِ.
قَوْلُهُ: (كَتَبَ إِلَى يَحْيَى) ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ، وَقَدْ رَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ مِنْ طَرِيقِ هُشَيْمٍ، عَنْ هِشَامٍ، وَحَجَّاجٍ الصَّوَافِّ، كِلَاهُمَا عَنْ يَحْيَى، وَهُوَ مِنْ تَدْلِيسِ الصِّيَغِ، وَصَرَّحَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ هِشَامٍ أَنَّ يَحْيَى كَتَبَ إِلَيْهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي قَتَادَةَ حَدَّثَهُ، فَأُمِنَ بِذَلِكَ تَدْلِيسُ يَحْيَى.
قَوْلُهُ: (إِذَا أُقِيمَتْ) أَيْ إِذَا ذُكِرَتْ أَلْفَاظُ الْإِقَامَةِ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى تَرَوْنِي)
أَيْ خَرَجْتُ، وَصَرَّحَ بِهِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَغَيْرُهُ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ يَحْيَى أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَلِابْنِ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَحْدَهُ حَتَّى تَرَوْنِي خَرَجْتُ إِلَيْكُمْ؛ وَفِيهِ مَعَ ذَلِكَ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَقُومُوا، وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ: لَمْ أَسْمَعْ فِي قِيَامِ النَّاسِ حِينَ تُقَامُ الصَّلَاةُ بِحَدٍّ مَحْدُودٍ، إِلَّا أَنِّي أَرَى ذَلِكَ عَلَى طَاقَةِ النَّاسِ، فَإِنَّ مِنْهُمُ الثَّقِيلَ وَالْخَفِيفَ. وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهُمْ إِذَا كَانَ الْإِمَامُ مَعَهُمْ فِي الْمَسْجِدِ لَمْ يَقُومُوا حَتَّى تَفْرُغَ الْإِقَامَةُ، وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُومُ إِذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ، وَكَذَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ إِذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَجَبَ الْقِيَامُ، وَإِذَا قَالَ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ عُدِّلَتِ الصُّفُوفُ، وَإِذَا قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَبَّرَ الْإِمَامُ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَقُومُونَ إِذَا قَالَ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، فَإِذَا قَالَ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ كَبَّرَ الْإِمَامُ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْإِمَامُ فِي الْمَسْجِدِ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يَقُومُونَ حَتَّى يَرَوْهُ، وَخَالَفَ مَنْ ذَكَرْنَا عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي شَرَحْنَا، وَحَدِيثُ الْبَابِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، وَفِيهِ جَوَازُ الْإِقَامَةِ وَالْإِمَامُ فِي مَنْزِلِهِ إِذَا كَانَ يَسْمَعُهَا، وَتَقَدَّمَ إِذْنُهُ فِي ذَلِكَ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ تُقَامُ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَيْتِهِ، وَهُوَ مُعَارِضٌ لِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّ بِلَالًا كَانَ لَا يُقِيمُ حَتَّى يَخْرُجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ بِلَالًا كَانَ يُرَاقِبُ خُرُوجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَوَّلَ مَا يَرَاهُ يَشْرَعُ فِي الْإِقَامَةِ قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ غَالِبُ النَّاسِ، ثُمَّ إِذَا رَأَوْهُ قَامُوا فَلَا يَقُومُ فِي مَقَامِهِ حَتَّى تَعْتَدِلَ صُفُوفُهُمْ.
قُلْتُ: وَيَشْهَدُ لَهُ مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا سَاعَةَ يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ اللَّهُ أَكْبَرُ يَقُومُونَ إِلَى الصَّلَاةِ، فَلَا يَأْتِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَقَامَهُ حَتَّى تَعْتَدِلَ الصُّفُوفُ؛ وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْآتِي قَرِيبًا بِلَفْظِ: أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَسَوَّى النَّاسُ صُفُوفَهُمْ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَفْظُهُ فِي مُسْتَخْرَجِ أَبِي نُعَيْمٍ: فَصَفَّ النَّاسُ صُفُوفَهُمْ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا، وَلَفْظُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ: أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَقُمْنَا فَعَدَّلْنَا الصُّفُوفَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَى فَقَامَ مَقَامَهُ الْحَدِيثَ. وَعَنْهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ تُقَامُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَأْخُذُ النَّاسُ مَقَامَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَيُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ بِأَنَّ ذَلِكَ رُبَّمَا وَقَعَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ وَبِأَنَّ صَنِيعَهُمْ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ كَانَ سَبَبَ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُومُونَ سَاعَةَ تُقَامُ الصَّلَاةُ وَلَوْ لَمْ يَخْرُجِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَقَعَ لَهُ شُغْلٌ يُبْطِئُ فِيهِ عَنِ الْخُرُوجِ فَيَشُقُّ عَلَيْهِمُ انْتِظَارُهُ وَلَا يَرُدُّ هَذَا حَدِيثَ أَنَسٍ الْآتِي أَنَّهُ قَامَ فِي مَقَامِهِ طَوِيلًا فِي حَاجَةِ بَعْضِ الْقَوْمِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَقَعَ نَادِرًا، أَوْ فَعَلَهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ.
23 - باب لَا يَسْعَى إِلَى الصَّلَاةِ مُسْتَعْجِلًا وَلْيَقُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ
638 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي وَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ. تابعه علي بن المبارك.
قَوْلُهُ: (بَابُ لَا يَقُومُ إِلَى الصَّلَاةِ مُسْتَعْجِلًا، وَلْيَقُمْ إِلَيْهَا بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ) كَذَا فِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي بَابُ لَا يَسْعَى إِلَى الصَّلَاةِ وَسَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَجُمِعَا فِي رِوَايَةِ الْبَاقِينَ بِلَفْظِ: بَابِ لَا يَسْعَى إِلَى الصَّلَاةِ وَلَا يَقُومُ إِلَيْهَا مُسْتَعْجِلًا إِلَخْ.
قَوْلُهُ: (لَا يَسْعَى) كَأَنَّهُ يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى رِوَايَةِ ابْنِ سِيرِينَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَلَفْظُهُ إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ فَلَا يَسْعَى إِلَيْهَا أَحَدُكُمْ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ
فِي بَابِ الْمَشْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ مِنْ كِتَابِ الْجُمُعَةِ إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَلَا تَأْتُوهَا تَسْعَوْنَ وَسَيَأْتِي وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (وَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ) كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَكَرِيمَةَ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ، وَأَبِي الْوَقْتِ: وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، بِحَذْفِ الْبَاءِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ مِنْ طُرُقٍ عَنْ شَيْبَانَ.
قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ) أَيْ عَنْ يَحْيَى، وَمُتَابَعَتُهُ وَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ، وَلَفْظُهُ عَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ بِغَيْرِ بَاءٍ أَيْضًا. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الطَّرْقِيُّ: تَفَرَّدَ شَيْبَانُ، وَعَلِيُّ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ سَلَّامٍ تَابَعَهُمَا عَنْ يَحْيَى، ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ عَقِبَ رِوَايَةِ أَبَانَ، عَنْ يَحْيَى فَقَالَ: رَوَاهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ، وَعَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى وَقَالَا فِيهِ: حَتَّى تَرَوْنِي وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ.
قُلْتُ: وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الْمُعَلَّقَةُ وَصَلَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سَلَّامٍ، وَشَيْبَانَ، جَمِيعًا عَنْ يَحْيَى كَمَا قَالَ أَبُو دَاوُدَ.
24 - باب هَلْ يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ لِعِلَّةٍ
639 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ وَقَدْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ وَعُدِّلَتْ الصُّفُوفُ حَتَّى إِذَا قَامَ فِي مُصَلَّاهُ انْتَظَرْنَا أَنْ يُكَبِّرَ انْصَرَفَ، قَالَ: عَلَى مَكَانِكُمْ فَمَكَثْنَا عَلَى هَيْئَتِنَا حَتَّى خَرَجَ إِلَيْنَا يَنْطِفُ رَأْسُهُ مَاءً وَقَدْ اغْتَسَلَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ هَلْ يَخْرُجُ مِنَ الْمَسْجِدِ لِعِلَّةٍ) أَيْ لِضَرُورَةٍ، وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى تَخْصِيصِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي الشَّعْثَاءِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ بَعْدَ أَنْ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ فَقَالَ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ فَإِنَّ حَدِيثَ الْبَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِمَنْ لَيْسَ لَهُ ضَرُورَةٌ، فَيُلْحَقُ بِالْجُنُبِ الْمُحْدِثُ وَالرَّاعِفُ وَالْحَاقِنُ وَنَحْوُهُمْ، وَكَذَا مَنْ يَكُونُ إِمَامًا لِمَسْجِدٍ آخَرَ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فَصَرَّحَ بِرَفْعِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبِالتَّخْصِيصِ وَلَفْظُهُ: لَا يَسْمَعُ النِّدَاءَ فِي مَسْجِدٍ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا لِحَاجَةٍ، ثُمَّ لَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ إِلَّا مُنَافِقٌ.
قَوْلُهُ: (خَرَجَ وَقَدْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى خَرَجَ فِي حَالِ الْإِقَامَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْإِقَامَةُ تَقَدَّمَتْ خُرُوجَهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، لِتَعْقِيبِ الْإِقَامَةِ بِالتَّسْوِيَةِ، وَتَعْقِيبِ التَّسْوِيَةِ بِخُرُوجِهِ جَمِيعًا بِالْفَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنَّ الْجُمْلَتَيْنِ وَقَعَتَا حَالًا أَيْ خَرَجَ وَالْحَالُ أَنَّ الصَّلَاةَ أُقِيمَتْ وَالصُّفُوفُ عُدِّلَتْ، وَقَ لَ الْكِرْمَانِيُّ: لَفْظُ قَدْ تُقَرِّبُ الْمَاضِي مِنَ الْحَالِ، وَكَأَنَّهُ خَرَجَ فِي حَالِ الْإِقَامَةِ وَفِي حَالِ التَّعْدِيلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا إِنَّمَا شَرَعُوا فِي ذَلِكَ بِإِذْنٍ مِنْهُ، أَوْ قَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ.
قُلْتُ: وَتَقَدَّمَ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلنَّهْيِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ مُخَالَفَتُهُمْ لَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ: لَا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي قَرِيبًا.
قَوْلُهُ: (وَعُدِّلَتِ الصُّفُوفُ) أَيْ سُوِّيَتْ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى إِذَا قَامَ فِي مُصَلَّاهُ) زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَبْلَ أَنْ يُكَبِّرَ فَانْصَرَفَ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ إِذَا ذَكَرَ فِي الْمَسْجِدِ أَنَّهُ جُنُبٌ مِنْ أَبْوَابِ الْغُسْلِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ يُونُسَ بِلَفْظِ فَلَمَّا قَامَ فِي مُصَلَّاهُ ذَكَرَ فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ انْصَرَفَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ فِي الصَّلَاةِ، وَهُوَ مُعَارِضٌ لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ
أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَكَبَّرَ ثُمَّ أَوْمَأَ إِلَيْهِمْ، وَلِمَالِكٍ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ مُرْسَلًا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَبَّرَ فِي صَلَاةٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ ثُمَّ أَشَارَ بِيَدِهِ أَنِ امْكُثُوا، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِحَمْلِ قَوْلِهِ كَبَّرَ عَلَى أَرَادَ أَنْ يُكَبِّرَ، أَوْ بِأَنَّهُمَا وَاقِعَتَانِ، أَبْدَاهُ عِيَاضٌ، وَالْقُرْطُبِيُّ احْتِمَالًا، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّهُ الْأَظْهَرُ، وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ حِبَّانَ كَعَادَتِهِ، فَإِنْ ثَبَتَ وَإِلَّا فَمَا فِي الصَّحِيحِ أَصَحُّ، وَدَعْوَى ابْنُ بَطَّالٍ أَنَّ الشَّافِعِيَّ احْتَجَّ بِحَدِيثِ عَطَاءٍ عَلَى جَوَازِ تَكْبِيرِ الْمَأْمُومِ قَبْلَ تَكْبِيرِ الْإِمَامِ، قَالَ: فَنَاقَضَ أَصْلَهُ فَاحْتَجَّ بِالْمُرْسَلِ، مُتَعَقَّبُهُ بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ لَا يَرُدُّ الْمَرَاسِيلَ مُطْلَقًا، بَلْ يَحْتَجُّ مِنْهَا بِمَا يَعْتَضِدُ، وَالْأَمْرُ هُنَا كَذَلِكَ لِحَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.
قَوْلُهُ: (انْتَظَرْنَا) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَقَوْلُهُ:(انْصَرَفَ) أَيْ إِلَى حُجْرَتِهِ وَهُوَ جَوَابُ إِذَا، وَقَوْلُهُ:(قَالَ) اسْتِئْنَافٌ أَوْ حَالٌ.
قَوْلُهُ: (عَلَى مَكَانِكُمْ) أَيْ كُونُوا عَلَى مَكَانِكُمْ.
قَوْلُهُ: (عَلَى هَيْئَتِنَا) بِفَتْحِ الْهَاءِ بَعْدَهَا يَاءٌ تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ ثُمَّ مُثَنَّاةٌ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّهُمُ امْتَثَلُوا أَمْرَهُ فِي قَوْلِهِ عَلَى مَكَانِكُمْ فَاسْتَمَرُّوا عَلَى الْهَيْئَةِ - أَيِ الْكَيْفِيَّةِ - الَّتِي تَرَكَهُمْ عَلَيْهَا، وَهِيَ قِيَامُهُمْ فِي صُفُوفِهِمُ الْمُعْتَدِلَةِ. وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ عَلَى هِينَتِنَا بِكَسْرِ الْهَاءِ وَبَعْدَ الْيَاءِ نُونٌ مَفْتُوحَةٌ، وَالْهِينَةُ الرِّفْقُ، وَرِوَايَةُ الْجَمَاعَةِ أَوْجَهُ.
قَوْلُهُ: (يَنْطِفُ) بِكَسْرِ الطَّاءِ وَضَمِّهَا أَيْ يَقْطُرُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَدِ اغْتَسَلَ) زَادَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ جُنُبًا فَنَسِيتُ أَنْ أَغْتَسِلَ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرُ مَا مَضَى فِي كِتَابِ الْغُسْلِ جَوَازُ النِّسْيَانِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فِي أَمْرِ الْعِبَادَةِ لِأَجْلِ التَّشْرِيعِ، وَفِيهِ طَهَارَةُ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَجَوَازُ الْفَصْلِ بَيْنَ الْإِقَامَةِ وَالصَّلَاةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ فَصَلَّى ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْإِقَامَةَ لَمْ تُعَدْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِالضَّرُورَةِ وَبِأَمْنِ خُرُوجِ الْوَقْتِ. وَعَنْ مَالِكٍ إِذَا بَعُدَتِ الْإِقَامَةُ مِنَ الْإِحْرَامِ تُعَادُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَا حَيَاءَ فِي أَمْرِ الدِّينِ، وَسَبِيلُ مَنْ غَلَبَ أَنْ يَأْتِيَ بِعُذْرٍ مُوهِمٍ كَأَنْ يُمْسِكَ بِأَنْفِهِ لِيُوهِمَ أَنَّهُ رُعِفَ. وَفِيهِ جَوَازُ انْتِظَارِ الْمَأْمُومِينَ مَجِيءَ الْإِمَامِ قِيَامًا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَهُوَ غَيْرُ الْقِيَامِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ. وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى مَنِ احْتَلَمَ فِي الْمَسْجِدِ فَأَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْغُسْلِ. وَجَوَازُ الْكَلَامِ بَيْنَ الْإِقَامَةِ وَالصَّلَاةِ وَسَيَأْتِي فِي بَابٍ مُفْرَدٍ. وَجَوَازُ تَأْخِيرِ الْجُنُبِ الْغُسْلَ عَنْ وَقْتِ الْحَدَثِ.
(فَائِدَةٌ: وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ هُنَا: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ - أَيِ الْبُخَارِيِّ - إِذَا وَقَعَ هَذَا لِأَحَدِنَا يَفْعَلُ مِثْلَ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: فَيَنْتَظِرُونَ الْإِمَامَ قِيَامًا أَوْ قُعُودًا؟ قَالَ: إِنْ كَانَ قَبْلَ التَّكْبِيرِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَقْعُدُوا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ التَّكْبِيرِ انْتَظَرُوهُ قِيَامًا. وَوَقَعَ فِي بَعْضِهَا فِي آخِرِ الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.
25 - بَاب إِذَا قَالَ الْإِمَامُ مَكَانَكُمْ حَتَّى رَجَعَ انْتَظَرُوهُ
640 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَسَوَّى النَّاسُ صُفُوفَهُمْ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَقَدَّمَ وَهُوَ جُنُبٌ، ثُمَّ قَالَ: عَلَى مَكَانِكُمْ فَرَجَعَ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ خَرَجَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ مَاءً فَصَلَّى بِهِمْ.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا قَالَ الْإِمَامُ مَكَانَكُمْ) هَذَا اللَّفْظُ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ كَمَا مَضَى فِي الْغُسْلِ بِلَفْظِ فَقَالَ: لَنَا مَكَانَكُمْ، بِحَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى نَرْجِعَ) بِالنُّونِ لِلْكُشْمِيهَنِيِّ، وَبِالْهَمْزَةِ لِلْأَصِيلِيِّ، وَبِالتَّحْتَانِيَّةِ
لِلْبَاقِينَ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ) كَذَا فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ غَيْرُ مَنْسُوبٍ، وَجَوَّزَ ابْنُ طَاهِرٍ، وَالْجَيَّانِيُّ أَنَّهُ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَبِهِ جَزَمَ الْمِزِّيُّ، وَكُنْتُ أُجَوِّزُ أَنَّهُ ابْنُ رَاهْوَيْهِ لِثُبُوتِهِ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ الْفِرْيَابِيِّ إِلَى أَنْ رَأَيْتُ فِي سِيَاقِهِ لَهُ مُغَايِرَةً. وَمُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ هُوَ الْفِرْيَابِيُّ، وَقَدْ أَكْثَرَ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ.
قَوْلُهُ: (عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) صَرَّحَ بِالتَّحْدِيثِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي رِوَايَتِهِ لَهُ عَنِ الْفِرْيَابِيِّ، وَمِنْ طَرِيقِهِ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ.
قَوْلُهُ: (فَتَقَدَّمَ وَهُوَ جُنُبٌ) أَيْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، لَا أَنَّهُمُ اطَّلَعُوا عَلَى ذَلِكَ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يُعْلِمَهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْغُسْلِ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ فَلَمَّا قَامَ فِي مُصَلَّاهُ ذَكَرَ أَنَّهُ جُنُبٌ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ ذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَغْتَسِلْ، وَمَضَتْ فَوَائِدُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ.
26 - بَاب قَوْلِ الرَّجُلِ: مَا صَلَّيْنَا
641 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَاءَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا كِدْتُ أَنْ أُصَلِّيَ حَتَّى كَادَتْ الشَّمْسُ تَغْرُبُ، وَذَلِكَ بَعْدَمَا أَفْطَرَ الصَّائِمُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا، فَنَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى بُطْحَانَ، وَأَنَا مَعَهُ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ صَلَّى يَعْنِي الْعَصْرَ بَعْدَمَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا الْمَغْرِبَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ الرَّجُلِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا صَلَّيْنَا) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ رَدٌّ لِقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: يُكْرَهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لَمْ نُصَلِّ وَيَقُولُ نُصَلِّي. قُلْتُ: وَكَرَاهَةُ النَّخَعِيِّ إِنَّمَا هِيَ فِي حَقِّ مُنْتَظِرِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ بَطَّالٍ بِذَلِكَ، وَمُنْتَظِرُ الصَّلَاةِ فِي صَلَاةٍ كَمَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ، فَإِطْلَاقُ الْمُنْتَظِرِ مَا صَلَّيْنَا يَقْتَضِي نَفْيَ مَا أَثْبَتَهُ الشَّارِعُ فَلِذَلِكَ كَرِهَهُ، وَالْإِطْلَاقُ الَّذِي فِي حَدِيثِ الْبَابِ إِنَّمَا كَانَ مِنْ نَاسٍ لَهَا، أَوْ مُشْتَغِلٍ عَنْهَا بِالْحَرْبِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي بَابِ مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ جَمَاعَةً بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ فِي أَبْوَابِ الْمَوَاقِيتِ، فَافْتَرَقَ حُكْمُهُمَا وَتَغَايَرَا.
وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَرَادَ أَنْ يُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ الْكَرَاهَةَ الْمَحْكِيَّةَ عَنِ النَّخَعِيِّ، لَيْسَتْ عَلَى إِطْلَاقِهَا لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْبَابِ، وَلَوْ أَرَادَ الرَّدَّ عَلَى النَّخَعِيِّ مُطْلَقًا لَأَفْصَحَ بِهِ كَمَا أَفْصَحَ بِالرَّدِّ عَلَى ابْنِ سِيرِينَ فِي تَرْجَمَةِ فَاتَتْنَا الصَّلَاةُ، ثُمَّ إِنَّ اللَّفْظَ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْمُؤَلِّفُ وَقَعَ النَّفْيُ فِيهِ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا مِنْ قَوْلِ الرَّجُلِ، لَكِنْ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ وُقُوعُ ذَلِكَ مِنَ الرَّجُلِ أَيْضًا، وَهُوَ عُمَرُ كَمَا أَوْرَدَهُ فِي الْمَغَازِي، وَهَذِهِ عَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ لِلْمُؤَلِّفِ يُتَرْجِمُ بِبَعْضِ مَا وَقَعَ فِي طُرُقِ الْحَدِيثِ الَّذِي يَسُوقُهُ وَلَوْ لَمْ يَقَعْ فِي الطَّرِيقِ الَّتِي يُورِدُهَا فِي تِلْكَ التَّرْجَمَةِ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا مَا فِي الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ جُنْدُبٍ فِي قِصَّةِ النَّوْمِ عَنِ الصَّلَاةِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ سَهَوْنَا، فَلَمْ نُصَلِّ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، وَبَقِيَّةُ فَوَائِدِ الْحَدِيثِ تَقَدَّمَتْ فِي الْمَوَاقِيتِ.
قَوْلُهُ: (مَا كِدْتُ أَنْ أُصَلِّيَ حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ) وَذَلِكَ بَعْدَمَا أَفْطَرَ الصَّائِمُ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ مُسْتَشْكِلًا: كَيْفَ يَكُونُ الْمَجِيءُ بَعْدَ الْغُرُوبِ؟ لِأَنَّ الصَّائِمَ إِنَّمَا يُفْطِرُ حِينَئِذٍ مَعَ تَصْرِيحِهِ بِأَنَّهُ جَاءَ فِي الْيَوْمِ، ثُمَّ أَجَابَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ زَمَانَ الْخَنْدَقِ، وَالْمُرَادُ بِهِ بَيَانُ التَّارِيخِ لَا خُصُوصُ الْوَقْتِ اهـ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْإِشَارَةَ بِقَوْلِهِ وَذَلِكَ بَعْدَمَا أَفْطَرَ الصَّائِمُ إِشَارَةً إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي خَاطَبَ بِهِ عُمَرُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَا إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ عُمَرُ الْعَصْرَ، فَإِنَّهُ كَانَ قُرْبَ الْغُرُوبِ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ كَادَ. وَأَمَّا إِطْلَاقُ الْيَوْمِ وَإِرَادَةُ زَمَانِ
الْوَقْعَةِ لَا خُصُوصِ النَّهَارِ فَهُوَ كَثِيرٌ.
27 - بَاب الْإِمَامِ تَعْرِضُ لَهُ الْحَاجَةُ بَعْدَ الْإِقَامَةِ
642 -
حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَس، قَالَ: أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُنَاجِي رَجُلًا فِي جَانِبِ الْمَسْجِدِ، فَمَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ حَتَّى نَامَ الْقَوْمُ.
[الحديث 642 - طرفاه في: 6292، 643]
قَوْلُهُ: (بَابُ الْإِمَامُ تَعْرِضُ لَهُ الْحَاجَةُ بَعْدَ الْإِقَامَةِ) أَيْ هَلْ يُبَاحُ لَهُ التَّشَاغُلُ بِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ لَا؟ وَتَعْرِضُ بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ تَظْهَرُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَنَسٍ) فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ سَمِعَ أَنَسًا وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.
قَوْلُهُ: (أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ) أَيْ صَلَاةُ الْعِشَاءِ، بَيَّنَهُ حَمَّادٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ.
قَوْلُهُ: (يُنَاجِي رَجُلًا) أَيْ يُحَادِثُهُ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ هَذَا الرَّجُلِ، وَذَكَرَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ أَنَّهُ كَانَ كَبِيرًا فِي قَوْمِهِ فَأَرَادَ أَنْ يَتَأَلَّفَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى مُسْتَنَدِ ذَلِكَ. قِيلَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ جَاءَ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ عز وجل، وَلَا يَخْفَى بُعْدُ هَذَا الِاحْتِمَالِ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى نَامَ بَعْضُ الْقَوْمِ) زَادَ شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَهُوَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الِاسْتِئْذَانِ. وَوَقَعَ عِنْدَ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ حَتَّى نَعَسَ بَعْضُ الْقَوْمِ وَكَذَا هُوَ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّوْمَ الْمَذْكُورَ لَمْ يَكُنْ مُسْتَغْرِقًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي بَابِ الْوُضُوءِ مِنَ النَّوْمِ مِنْ كِتَابِ الطَّهَارَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ مُنَاجَاةِ الْوَاحِدِ غَيْرَهُ بِحُضُورِ الْجَمَاعَةِ، وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ الْمُؤَلِّفُ فِي الِاسْتِئْذَانِ طُولُ النَّجْوَى، وَفِيهِ جَوَازُ الْفَصْلِ بَيْنَ الْإِقَامَةِ وَالْإِحْرَامِ إِذَا كَانَ لِحَاجَةٍ، أَمَّا إِذَا كَانَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَهُوَ مَكْرُوهٌ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ أَطْلَقَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمُؤَذِّنَ إِذَا قَالَ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ التَّكْبِيرُ، قَالَ الزَّيْنُ ابْنُ الْمُنِيرِ: خَصَّ الْمُصَنِّفُ الْإِمَامَ بِالذِّكْرِ مَعَ أَنَّ الْحُكْمَ عَامٌّ لِأَنَّ لَفْظَ الْخَبرِ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْمُنَاجَاةَ كَانَتْ لِحَاجَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِقَوْلِهِ: وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُنَاجِي رَجُلًا. وَلَوْ كَانَ لِحَاجَةِ الرَّجُلِ لَقَالَ أَنَسٌ: وَرَجُلٌ يُنَاجِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ بِلَازِمٍ، وَفِيهِ غَفْلَةٌ مِنْهُ عَمَّا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ: أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَقَالَ رَجُلٌ: لِي حَاجَةٌ. فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُنَاجِيهِ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِمَامِ، لِأَنَّ الْمَأْمُومَ إِذَا عَرَضَتْ لَهُ الْحَاجَةُ لَا يَتَقَيَّدُ بِهِ غَيْرُهُ مِنَ الْمَأْمُومِينَ بِخِلَافِ الْإِمَامِ. وَلَمَّا أَنْ كَانَتْ مَسْأَلَةُ الْكَلَامِ بَيْنَ الْإِحْرَامِ وَالْإِقَامَةِ تَشْمَلُ الْمَأْمُومَ وَالْإِمَامَ أَطْلَقَ الْمُؤَلِّفُ التَّرْجَمَةَ وَلَمْ يُقَيِّدْهَا بِالْإِمَامِ فَقَالَ.
28 - بَاب الْكَلَامِ إِذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ
643 -
حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، قَالَ: سَأَلْتُ ثَابِتًا الْبُنَانِيَّ عَنْ الرَّجُلِ يَتَكَلَّمُ بَعْدَمَا تُقَامُ الصَّلَاةُ، فَحَدَّثَنِي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَعَرَضَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ فَحَبَسَهُ بَعْدَمَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنْ مَنَعَتْهُ أُمُّهُ عَنْ الْعِشَاءِ فِي جَمَاعَة شَفَقَةً عليها لَمْ يُطِعْهَا
قَوْلُهُ: (بَابُ الْكَلَامُ إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ) وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ كَرِهَهُ مُطْلَقًا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ) هُوَ الرَّقَّامُ وَعَبْدُ الْأَعْلَى هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى السَّامِيُّ بِالْمُهْمَلَةِ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ أَيْضًا. وَقَوْلُ حُمَيْدٍ سَأَلْتُ
ثَابِتًا يُشْعِرُ بِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ كَانَ قَدِيمًا، ثُمَّ إِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي كَوْنِهِ أَخَذَهُ عَنْ أَنَسٍ بِوَاسِطَةٍ، وَقَدْ قَالَ الْبَزَّارُ: إِنَّ عَبْدَ الْأَعْلَى بْنَ عَبْدِ الْأَعْلَى تَفَرَّدَ عَنْ حُمَيْدٍ بِذَلِكَ، وَرَوَاهُ عَامَّةُ أَصْحَابِ حُمَيْدٍ عَنْهُ عَنْ أَنَسٍ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ.
قُلْتُ: كَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ وَجَمَاعَةٌ عَنْ حُمَيْدٍ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ هُشَيْمٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، لَكِنْ لَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِهِ عَلَى تَصْرِيحٍ بِسَمَاعِهِ لَهُ مِنْ أَنَسٍ وَهُوَ مُدَلِّسٌ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ رِوَايَةَ عَبْدِ الْأَعْلَى هِيَ الْمُتَّصِلَةُ.
قَوْلُهُ: (فَحَبَسَهُ) أَيْ مَنَعَهُ مِنَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ، وَزَادَ هُشَيْمٌ فِي رِوَايَتِهِ حَتَّى نَعَسَ بَعْضُ الْقَوْمِ وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ مَا سَيَأْتِي فِي الْإِمَامَةِ مِنْ طَرِيقِ زَائِدَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسٌ قَالَ: أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِوَجْهِهِ. زَادَ ابْنُ حِبَّانَ: قَبْلَ أَنْ يُكَبِّرَ، فَقَالَ: أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ وَتَرَاصُّوا، لَكِنْ لَمَّا كَانَ هَذَا يَتَعَلَّقُ بِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ كَانَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْأَوَّلِ أَظْهَرُ فِي جَوَازِ الْكَلَامِ مُطْلَقًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(خَاتِمَةٌ: اشْتَمَلَ كِتَابُ الْأَذَانِ وَمَا مَعَهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى سَبْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ حَدِيثًا: الْمُعَلَّقُ مِنْهَا سِتَّةُ أَحَادِيثَ، الْمُكَرَّرُ فِيهِ وَفِيمَا مَضَى ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ وَالْخَالِصُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ، وَوَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى أَرْبَعَةِ أَحَادِيثَ: حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ لَا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ وَحَدِيثِ مُعَاوِيَةَ، وَجَابِرٍ فِي الْقَوْلِ عِنْدَ سَمَاعِ الْأَذَانِ، وَحَدِيثِ بِلَالٍ فِي جَعْلِ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ ثَمَانِيَةُ آثَارٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
29 - بَاب وُجُوبِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنْ مَنَعَتْهُ أُمُّهُ عَنْ الْعِشَاءِ فِي الجَمَاعَة شَفَقَةً لَمْ يُطِعْهَا
644 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ فَيُحْطَبَ، ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيَؤُمَّ النَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ. وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَرْقًا سَمِينًا أَوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ الْعِشَاءَ.
[الحديث 644 - أطرافه في: 7224، 2420، 657]
(أَبْوَابُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَالْإِمَامَةِ)
وَلَمْ يُفْرِدْهُ الْبُخَارِيُّ بِكِتَابٍ فِيمَا رَأَيْنَا مِنْ نُسَخِ كِتَابِهِ، بَلْ أَتْبَعَ بِهِ كِتَابَ الْأَذَانِ لِتَعَلُّقِهِ بِهِ، لَكِنْ تَرْجَمَ عَلَيْهِ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ كِتَابُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ فَلَعَلَّهَا رِوَايَةُ شَيْخِهِ أَبِي أَحْمَدَ الْجُرْجَانِيِّ.
قَوْلُهُ: (بَابُ وُجُوبِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ) هَكَذَا بَتَّ الْحُكْمَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَكَأَنَّ ذَلِكَ لِقُوَّةِ دَلِيلِهَا عِنْدَهُ، لَكِنْ أَطْلَقَ الْوُجُوبَ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ وُجُوبُ عَيْنٍ أَوْ كِفَايَةٍ، إِلَّا أَنَّ الْأَثَرَ الَّذِي ذَكَرَهُ عَنِ الْحَسَنِ يُشْعِرُ بِكَوْنِهِ يُرِيدُ أَنَّهُ وُجُوبُ عَيْنٍ، لِمَا عُرِفَ مِنْ عَادِتِهِ أَنَّهُ يَسْتَعْمِلُ الْآثَارَ فِي التَّرَاجِمِ لِتَوْضِيحِهَا وَتَكْمِيلِهَا وَتَعْيِينِ أَحَدِ الِاحْتِمَالَاتِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ، وَبِهَذَا يُجَابُ مَنِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ قَوْلَ الْحَسَنِ يُسْتَدَلُّ لَهُ لَا بِهِ، وَلَمْ يُنَبِّهْ أَحَدٌ مِنَ الشُّرَّاحِ عَلَى مَنْ وَصَلَ أَثَرَ الْحَسَنِ، وَقَدْ وَجَدْتُهُ بِمَعْنَاهُ وَأَتَمَّ مِنْهُ وَأَصْرَحَ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ لِلْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ الْمَرْوَزِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي رَجُلٍ يَصُومُ - يَعْنِي تَطَوُّعًا - فَتَأْمُرُهُ أُمُّهُ أَنْ يُفْطِرَ، قَالَ: فَلْيُفْطِرْ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَلَهُ أَجْرُ الصَّوْمِ وَأَجْرُ الْبِرِّ. قِيلَ: فَتَنْهَاهُ أَنْ يُصَلِّيَ الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ، قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ لَهَا، هَذِهِ فَرِيضَةٌ وَأَمَّا حَدِيثُ الْبَابِ
فَظَاهِرٌ فِي كَوْنِهَا فَرْضَ عَيْنٍ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ سُنَّةً لَمْ يُهَدَّدْ تَارِكُهَا بِالتَّحْرِيقِ، وَلَوْ كَانَتْ فَرْضَ كِفَايَةٍ لَكَانَتْ قَائِمَةً بِالرَّسُولِ وَمَنْ مَعَهُ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: التَّهْدِيدُ بِالتَّحْرِيقِ الْمَذْكُورِ يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ فِي حَقِّ تَارِكِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ كَمَشْرُوعِيَّةِ قِتَالِ تَارِكِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ التَّحْرِيقَ الَّذِي قَدْ يُفْضِي إِلَى الْقَتْلِ أَخَصُّ مِنَ الْمُقَاتَلَةِ، وَلِأَنَّ الْمُقَاتَلَةَ إِنَّمَا تُشْرَعُ فِيمَا إِذَا تَمَالَأَ الْجَمِيعُ عَلَى التَّرْكِ، وَإِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا فَرْضُ عَيْنٍ ذَهَبَ عَطَاءٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَحْمَدُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ مُحَدِّثِي الشَّافِعِيَّةِ كَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَابْنِ حِبَّانَ، وَبَالَغَ دَاوُدُ وَمَنْ تَبِعَهُ فَجَعَلَهَا شَرْطًا فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَأَشَارَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ إِلَى أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مَا وَجَبَ فِي الْعِبَادَةِ كَانَ شَرْطًا فِيهَا، فَلَّمَا كَانَ الَهُمُ الْمَذْكُورُ دَالًّا عَلَى لَازِمِهِ وَهُوَ الْحُضُورُ، وَوُجُوبُ الْحُضُورِ دَلِيلًا عَلَى لَازِمِهِ وَهُوَ الِاشْتِرَاطُ، ثَبَتَ الِاشْتِرَاطُ بِهَذِهِ الْوَسِيلَةِ. إِلَّا أَنَّهُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِتَسْلِيمِ أَنَّ مَا وَجَبَ فِي الْعِبَادَةِ كَانَ شَرْطًا فِيهَا، وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ الْغَالِبُ. وَلَمَّا كَانَ الْوُجُوبُ قَدْ يَنْفَكُّ عَنِ الشَّرْطِيَّةِ قَالَ أَحْمَدُ: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ غَيْرُ شَرْطٍ. انْتَهَى.
وَظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَقَالَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْبَاقِينَ أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَقَدْ أَجَابُوا عَنْ ظَاهِرِ حَدِيثِ الْبَابِ بِأَجْوِبَةٍ: مِنْهَا مَا تَقَدَّمَ. وَمِنْهَا وَهُوَ ثَانِيهَا وَنَقَلَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، عَنِ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَالَّذِي نَقَلَهُ عَنْهُ النَّوَوِيُّ الْوُجُوبُ حَسْبَمَا قَالَ ابْنُ بَزِيزَةَ: إِنَّ بَعْضَهُمُ اسْتَنْبَطَ مِنْ نَفْسِ الْحَدِيثِ عَدَمَ الْوُجُوبِ لِكَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم هَمَّ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْمُتَخَلِّفِينَ، فَلَوْ كَانَتِ الْجَمَاعَةُ فَرْضَ عَيْنٍ مَا هَمَّ بِتَرْكِهَا إِذَا تَوَجَّهَ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْوَاجِبَ يَجُوزُ تَرْكُهُ لِمَا هُوَ أَوْجَبُ مِنْهُ.
قُلْتُ: وَلَيْسَ فِيهِ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَتَدَارَكْهَا فِي جَمَاعَةٍ آخَرِينَ. وَمِنْهَا وَهُوَ ثَالِثُهَا مَا قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُ: لَوْ كَانَتْ فَرْضًا لَقَالَ حِينَ تَوَعَّدَ بِالْإِحْرَاقِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنِ الْجَمَاعَةِ لَمْ تُجْزِئْهُ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهُ وَقْتُ الْبَيَانِ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ بِأَنَّ الْبَيَانَ قَدْ يَكُونُ بِالتَّنْصِيصِ وَقَدْ يَكُونُ بِالدَّلَالَةِ، فَلَّمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ هَمَمْتُ إِلَخْ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْحُضُورِ وَهُوَ كَافٍ فِي الْبَيَانِ. وَمِنْهَا وَهُوَ رَابِعُهَا مَا قَالَ الْبَاجِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّ الْخَبَرَ وَرَدَ مَوَرِدَ الزَّجْرِ وَحَقِيقَتُهُ غَيْرُ مُرَادَةٍ. وَإِنَّمَا الْمُرَادُ الْمُبَالَغَةُ. وَيُرْشِدُ إِلَى ذَلِكَ وَعِيدُهُمْ بِالْعُقُوبَةِ الَّتِي يُعَاقَبُ بِهَا الْكُفَّارُ، وَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى مَنْعِ عُقُوبَةِ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَنْعَ وَقَعَ بَعْدَ نَسْخِ التَّعْذِيبِ بِالنَّارِ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ جَائِزًا بِدَلِيلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْآتِي فِي الْجِهَادِ الدَّالِّ عَلَى جَوَازِ التَّحْرِيقِ بِالنَّارِ، ثُمَّ عَلَى نَسْخِهِ، فَحَمْلُ التَّهْدِيدِ عَلَى حَقِيقَتِهِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ.
وَمِنْهَا وَهُوَ خَامِسُهَا كَوْنُهُ صلى الله عليه وسلم تَرَكَ تَحْرِيقَهُمْ بَعْدَ التَّهْدِيدِ، فَلَوْ كَانَ وَاجِبًا مَا عَفَا عَنْهُمْ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَمَنْ تَبِعَهُ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ حُجَّةٌ لِأَنَّهُ عليه السلام هَمَّ وَلَمْ يَفْعَلْ، زَادَ النَّوَوِيُّ: وَلَوْ كَانَتْ فَرْضَ عَيْنٍ لَمَا تَرَكَهُمْ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فَقَالَ: هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَا يَهِمُّ إِلَّا بِمَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ لَوْ فَعَلَهُ، وَأَمَّا التَّرْكُ فَلَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونُوا انْزَجَرُوا بِذَلِكَ وَتَرَكُوا التَّخَلُّفَ الَّذِي ذَمَّهُمْ بِسَبَبِهِ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ بَيَانُ سَبَبِ التَّرْكِ وَهُوَ فِيمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: لَوْلَا مَا فِي الْبُيُوتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ لَأَقَمْتُ صَلَاةَ الْعِشَاءِ وَأَمَرْتُ فِتْيَانِي يُحَرِّقُونَ الْحَدِيثَ. وَمِنْهَا وَهُوَ سَادِسُهَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّهْدِيدِ قَوْمٌ تَرَكُوا الصَّلَاةَ رَأْسًا لَا مُجَرَّدَ الْجَمَاعَةِ، وَهُوَ مُتَعَقَّبٌ بِأَنَّ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ أَيْ لَا يَحْضُرُونَ، وَفِي رِوَايَةِ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ لَا يَشْهَدُونَ الْعِشَاءَ فِي الْجَمِيعِ أَيْ فِي الْجَمَاعَةِ، وَفِي حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ مَرْفُوعًا: لَيَنْتَهِيَنَّ رِجَالٌ عَنْ تَرْكِهِمُ الْجَمَاعَاتِ أَوْ لَأُحَرِّقَنَّ بُيُوتَهُمْ.
وَمِنْهَا وَهُوَ سَابِعُهَا: أَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ فِي الْحَثِّ عَلَى مُخَالَفَةِ فِعْلِ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالتَّحْذِيرِ مِنَ التَّشَبُّهِ بِهِمْ لَا لِخُصُوصِ تَرْكِ الْجَمَاعَةِ فَلَا يَتِمُّ الدَّلِيلُ، أَشَارَ إِلَيْهِ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ، وَهُوَ
قَرِيبٌ مِنَ الْوَجْهِ الرَّابِعِ. وَمِنْهَا وَهُوَ ثَامِنُهَا أَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ، فَلَيْسَ التَّهْدِيدُ لِتَرْكِ الْجَمَاعَةِ بِخُصُوصِهِ فَلَا يَتِمُّ الدَّلِيلُ، وَتُعُقِّبَ بِاسْتِبْعَادِ الِاعْتِنَاءِ بِتَأْدِيبِ الْمُنَافِقِينَ عَلَى تَرْكِهِمُ الْجَمَاعَةَ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا صَلَاةَ لَهُمْ، وَبِأَنَّهُ كَانَ مُعْرِضًا عَنْهُمْ وَعَنْ عُقُوبَتِهِمْ مَعَ عِلْمِهِ بِطَوِيَّتِهِمْ وَقَدْ قَالَ: لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ، وَتَعَقَّبَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ هَذَا التَّعْقِيبَ بِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا ادَّعَى أَنَّ تَرْكَ مُعَاقَبَةِ الْمُنَافِقِينَ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَلَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ مُخَيَّرًا فَلَيْسَ فِي إِعْرَاضِهِ عَنْهُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ تَرْكِ عُقُوبَتِهِمْ. انْتَهَى.
وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ فِي الْمُنَافِقِينَ لِقَوْلِهِ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ الْآتِي بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ لَيْسَ صَلَاةٌ أَثْقَلَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ الْحَدِيثَ، وَلِقَوْلِهِ لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ إِلَخْ لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ لَائِقٌ بِالْمُنَافِقِينَ لَا بِالْمُؤْمِنِ الْكَامِلِ، لَكِنِ الْمُرَادُ بِهِ نِفَاقُ الْمَعْصِيَةِ لَا نِفَاقُ الْكُفْرِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ عَجْلَانَ لَا يَشْهَدُونَ الْعِشَاءَ فِي الْجَمِيعِ وَقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أُسَامَةَ لَا يَشْهَدُونَ الْجَمَاعَةَ وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ: ثُمَّ آتِي قَوْمًا يُصَلُّونَ فِي بُيُوتِهِمْ لَيْسَتْ بِهِمْ عِلَّةٌ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نِفَاقَهُمْ نِفَاقُ مَعْصِيَةٍ لَا كُفْرٍ، لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يُصَلِّي فِي بَيْتِهِ، إِنَّمَا يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَإِذَا خَلَا فِي بَيْتِهِ كَانَ كَمَا وَصَفَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، نَبَّهَ عَلَيْهِ الْقُرْطُبِيُّ.
وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ الْمَقْبُرِيِّ: لَوْلَا مَا فِي الْبُيُوتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا كُفَّارًا، لِأَنَّ تَحْرِيقَ بَيْتِ الْكَافِرِ إِذَا تَعَيَّنَ طَرِيقًا إِلَى الْغَلَبَةِ عَلَيْهِ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ وُجُودُ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ فِي بَيْتِهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالنِّفَاقِ فِي الْحَدِيثِ نِفَاقَ الْكُفْرِ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ مِنْ جِهَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي ذَمِّ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: خُرُوجُ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا الْوَعِيدِ لَيْسَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ إِذَا سَمِعُوا النِّدَاءَ جَازَ لَهُمُ التَّخَلُّفُ عَنِ الْجَمَاعَةِ، بَلْ مِنْ جِهَةِ أَنَّ التَّخَلُّفَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِمْ بَلْ هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِين، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ لَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنِ الْجَمَاعَةِ إِلَّا مُنَافِقٌ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، عَنْ أَبِي عُمَيْرِ بْنِ أَنَسٍ، حَدَّثَنِي عُمُومَتِي مِنَ الْأَنْصَارِ قَالُوا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا يَشْهَدُهُمَا مُنَافِقٌ، يَعْنِي الْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ. وَلَا يُقَالُ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ صَاحِبُ هَذَا الْوَجْهِ لِانْتِفَاءِ أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ قَدْ يَتَخَلَّفُ، وَإِنَّمَا وَرَدَ الْوَعِيدُ فِي حَقِّ مَنْ تَخَلَّفَ، لِأَنِّي أَقُولُ بَلْ هَذَا يُقَوِّي مَا ظَهَرَ لِي أَوَّلًا أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّفَاقِ نِفَاقُ الْمَعْصِيَةِ لَا نِفَاقَ الْكُفْرِ، فَعَلَى هَذَا الَّذِي خَرَجَ هُوَ الْمُؤْمِنُ الْكَامِلُ لَا الْعَاصِي الَّذِي يَجُوزُ إِطْلَاقُ النِّفَاقِ عَلَيْهِ مَجَازًا لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَجْمُوعُ الْأَحَادِيثِ. وَمِنْهَا وَهُوَ تَاسِعُهَا مَا ادَّعَاهُ بَعْضُهُمْ أَنَّ فَرْضِيَّةَ الْجَمَاعَةِ كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لِأَجْلِ سَدِّ بَابِ التَّخَلُّفِ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، ثُمَّ نُسِخَ حَكَاهُ عِيَاضٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَتَقَوَّى بِثُبُوتِ نَسْخِ الْوَعِيدِ الْمَذْكُورِ فِي حَقِّهمْ، وَهُوَ التَّحْرِيقُ بِالنَّارِ، كَمَا سَيَأْتِي وَاضِحًا فِي كِتَابِ الْجِهَادِ، وَكَذَا ثُبُوتُ نَسْخِ مَا يَتَضَمَّنُهُ التَّحْرِيقُ مِنْ جَوَازِ الْعُقُوبَةِ بِالْمَالِ، وَيَدُلُّ عَلَى النَّسْخِ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي تَفْضِيلِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا، لِأَنَّ الْأَفْضَلِيَّةَ تَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ فِي أَصْلِ الْفَضْلِ، وَمِنْ لَازِمِ ذَلِكَ الْجَوَازُ.
وَمِنْهَا وَهُوَ عَاشِرُهَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ الْجُمُعَةُ لَا بَاقِي الصَّلَوَاتِ، وَنَصَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَتُعُقِّبَ بِالْأَحَادِيثِ الْمُصَرِّحَةِ بِالْعِشَاءِ، وَفِيهِ بَحْثٌ، لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ اخْتَلَفَتْ فِي تَعْيِينِ الصَّلَاةِ الَّتِي وَقَعَ التَّهْدِيدُ بِسَبَبِهَا، هَلْ هِيَ الْجُمُعَةُ أَوِ الْعِشَاءُ، أَوِ الْعِشَاءُ وَالْفَجْرُ مَعًا؟ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَحَادِيثَ مُخْتَلِفَةً وَلَمْ يَكُنْ بَعْضُهَا أَرْجَحَ مِنْ بَعْضٍ وَإِلَّا وَقَفَ الِاسْتِدْلَالُ، لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ إِلَّا إِنْ تَعَيَّنَ كَوْنُهَا غَيْرَ الْجُمُعَةِ، أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، ثُمَّ قَالَ: فَلْيُتَأَمَّلِ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ
فِي ذَلِكَ. انْتَهَى.
وَقَدْ تَأَمَّلْتُهَا فَرَأَيْتُ التَّعْيِينَ وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، أَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَحَدِيثُ الْبَابِ مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ عَنْهُ يُومِي إِلَى أَنَّهَا الْعِشَاءُ لِقَوْلِهِ فِي آخِرِهِ لَشَهِدَ الْعِشَاءَ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ يَعْنِي الْعِشَاءَ وَلَهُمَا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ أَيْضًا الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّهَا الْعِشَاءُ وَالْفَجْرُ، وَعَيَّنَهَا السَّرَّاجُ فِي رِوَايَةٍ لَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ الْعِشَاءَ، حَيْثُ قَالَ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ أَخَّرَ الْعِشَاءَ لَيْلَةً، فَخَرَجَ فَوَجَدَ النَّاسَ قَلِيلًا فَغَضِبَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَعْنِي الصَّلَاتَيْنِ الْعِشَاءَ وَالْغَدَاةَ وَفِي رِوَايَةِ عَجْلَانَ، وَالْمَقْبُرِيِّ عِنْدَ أَحْمَدَ التَّصْرِيحُ بِتَعْيِينِ الْعِشَاءِ، ثُمَّ سَائِرِ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى الْإِبْهَامِ.
وَقَدْ أَوْرَدَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ جَعْفَرَ بْنِ بُرْقَانَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ عَنْهُ فَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ، وَسَاقَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِإِبْهَامِ الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ السَّرَّاجُ وَغَيْرُهُ عَنْ طُرُقٍ عَنْ جَعْفَرٍ، وَخَالَفَهُمْ مَعْمَرٌ، عَنْ جَعْفَرٍ فَقَالَ الْجُمُعَةُ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ من طَرِيقه وَأَشَارَ إِلَى ضَعْفِهَا لِشُذُوذِهَا، وَيَدُلُّ عَلَى وَهْمِهِ فِيهَا رِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ، وَالطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ يَزِيدِ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، قَالَ يَزِيدُ: قُلْتُ لِيَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ: يَا أَبَا عَوْفٍ الْجُمُعَةُ عَنَى أَوْ غَيْرَهَا؟ قَالَ: صُمَّتْ أُذُنَايَ إِنْ لَمْ أَكُنْ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَأْثِرُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا ذَكَرَ جُمُعَةً وَلَا غَيْرَهَا. فَظَهَرَ أَنَّ الرَّاجِحَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا لَا تَخْتَصُّ بِالْجُمُعَةِ، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ فَسَأَذْكُرُهُ قَرِيبًا وَأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِأَبِي هُرَيْرَةَ.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَفِيهِ الْجَزْمُ بِالْجُمُعَةِ، وَهُوَ حَدِيثٌ مُسْتَقِلٌّ، لِأَنَّ مَخْرَجَهُ مُغَايِرٌ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَا يَقْدَحُ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُمَا وَاقِعَتَانِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ النَّوَوِيُّ، وَالْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ، وَقَدْ وَافَقَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، أَبَا هُرَيْرَةَ عَلَى ذِكْرِ الْعِشَاءِ، وَذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَأَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَقْبَلَ النَّاسَ فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ، فَقَالَ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنِّي آتِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الصَّلَاةِ فَأُحَرِّقُ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ. فَقَامَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَلِمْتَ مَا بِي؟ وَلَيْسَ لِي قَائِدٌ - زَادَ أَحْمَدُ - وَأَنَّ بَيْنِي وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ شَجَرًا وَنَخْلًا وَلَا أَقْدِرُ عَلَى قَائِدٍ كُلَّ سَاعَةٍ. قَالَ: أَتَسْمَعُ الْإِقَامَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ فَاحْضُرْهَا. وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُ وَلِابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: أَتَسْمَعُ الْأَذَانَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأْتِهَا وَلَوْ حَبْوًا، وَقَدْ حَمَلَهُ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ بِالْمَشْيِ وَحْدَهُ كَكَثِيرٍ مِنَ الْعُمْيَانِ.
وَاعْتَمَدَ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ حَدِيثَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ هَذَا عَلَى فَرْضِيَّةِ الْجَمَاعَةِ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا وَرَجَّحُوهُ بِحَدِيثِ الْبَابِ وَبِالْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى الرُّخْصَةِ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجَمَاعَةِ، قَالُوا: لِأَنَّ الرُّخْصَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا عَنْ وَاجِبٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَوَرَاءَ ذَلِكَ أَمْرٌ آخَرُ أَلْزَمَ بِهِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ مَنْ يَتَمَسَّكُ بِالظَّاهِرِ وَلَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ فِي صَلَاةٍ مُعَيَّنَةٍ فَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْجَمَاعَةِ فِيهَا دُونَ غَيْرِهَا، وَأَشَارَ لِلِانْفِصَالِ عَنْهُ بِالتَّمَسُّكِ بِدَلَالَةِ الْعُمُومِ، لَكِنْ نُوزِعَ فِي كَوْنِ الْقَوْلِ بِمَا ذُكِرَ أَوَّلًا ظَاهِرِيَّةً مَحْضَةً
(1)
، فَإِنَّ قَاعِدَةَ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ تَقْتَضِيهِ،
(1)
ليس هذا بجيد، والصواب ماقاله ابن خزيمة وغيره من الموجبين للجماعة في جميع الصلوات. وإنما يستقيم حمل المطلق على المقيد إذا لم يوجد دليل على التعميم، وفي هذه المسألة قد قام الدليل على التعميم كحديث" من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر " وغيره من الأحاديث التي أشار إليها الشارح في هذا الباب. وذكر العشاء والفجر في بعض الروايات لايقتضي التخصيص لاحتمال كون المتوعدين لم يتخلفوا إلا عنها كما قد بين ذلك في كثير من الروايات. ولأن الحكمة في شرعية الجماعة تقتضى التعميم. والله أعلم
وَلَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ تَرْكَ اتِّبَاعِ الْمَعْنَى، لِأَنَّ غَيْرَ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ مَظِنَّةُ الشُّغْلِ بِالتَّكَسُّبِ وَغَيْرِهِ، أَمَّا الْعَصْرَانِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْمَغْرِبُ فَلِأَنَّهَا فِي الْغَالِبِ وَقْتَ الرُّجُوعِ إِلَى الْبَيْتِ وَالْأَكْلِ وَلَا سِيَّمَا لِلصَّائِمِ مَعَ ضيق وَقْتِهَا، بِخِلَافِ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ فَلَيْسَ لِلْمُتَخَلِّفِ عَنْهُمَا عُذْرٌ غَيْرُ الْكَسَلِ الْمَذْمُومِ، وَفِي الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِمَا فِي الْجَمَاعَةِ أَيْضًا انْتِظَامُ الْأُلْفَةِ بَيْنَ الْمُتَجَاوِرِينَ فِي طَرَفَيِ النَّهَارِ، وَلِيَخْتِمُوا النَّهَارَ بِالِاجْتِمَاعِ عَلَى الطَّاعَةِ وَيَفْتَتِحُوهُ كَذَلِكَ. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ تَخْصِيصُ التَّهْدِيدِ بِمَنْ حَوْلَ الْمَسْجِدِ، وَسَيَأْتِي تَوْجِيهُ كَوْنِ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ أَثْقَلُ عَلَى الْمُنَافِقِينَ مِنْ غَيْرِهِمَا.
وَقَدْ أَطَلْتُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِارْتِبَاطِ بَعْضِ الْكَلَامِ بِبَعْضٍ، وَاجْتَمَعَ مِنَ الْأَجْوِبَةِ لِمَنْ لَمْ يَقُلْ بِالْوُجُوبِ عَشَرَةُ أَجْوِبَةٍ لَا تُوجَدُ مَجْمُوعَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الشَّرْحِ.
قَوْلُهُ: (عَنِ الْأَعْرَجِ) فِي رِوَايَةِ السَّرَّاجِ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ سَمِعَ الْأَعْرَجَ.
قَوْلُهُ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) هُوَ قَسَمٌ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَثِيرًا مَا يُقْسِمُ بِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ أَمْرَ نُفُوسِ الْعِبَادِ بِيَدِ اللَّهِ، أَيْ بِتَقْدِيرِهِ وَتَدْبِيرِهِ
(1)
. وَفِيهِ جَوَازُ الْقَسَمِ عَلَى الْأَمْرِ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ تَنْبِيهًا عَلَى عِظَمِ شَأْنِهِ، وَفِيهِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ كَرِهَ أَنْ يَحْلِفَ بِاللَّهِ مُطْلَقًا.
قَوْلُهُ: (لَقَدْ هَمَمْتُ) اللَّامُ جَوَابُ الْقَسَمِ، وَالْهَمُّ الْعَزْمُ وَقِيلَ دُونَهُ، وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي أَوَّلِهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم فَقَدَ نَاسًا فِي بَعْضِ الصَّلَوَاتِ فَقَالَ: لَقَدْ هَمَمْتُ فَأَفَادَ ذِكْرَ سَبَبِ الْحَدِيثِ.
قَوْلُهُ: (بِحَطَبٍ لِيُحْطَبَ) كَذَا لِلْحَمَوِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي بِلَامِ التَّعْلِيلِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ وَالْبَاقِينَ فَيُحْطَبَ بِالْفَاءِ، وَكَذَا هُوَ فِي الْمُوَطَّأِ وَمَعْنَى يُحْطَبُ يُكْسَرُ لِيَسْهُلَ اشْتِعَالُ النَّارِ بِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أُطْلِقَ عَلَيْهِ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَتَّصِفَ بِهِ تَجَوُّزًا بِمَعْنَى أَنَّهُ يَتَّصِفُ بِهِ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ أُخَالِفُ إِلَى رِجَالٍ) أَيْ آتِيهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: خَالَفَ إِلَى فُلَانٍ أَيْ أَتَاهُ إِذَا غَابَ عَنْهُ، أَوِ الْمَعْنَى أُخَالِفُ الْفِعْلَ الَّذِي أَظْهَرْتُ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَأَتْرُكُهُ وَأَسِيرُ إِلَيْهِمْ، أَوْ أُخَالِفُ ظَنَّهُمْ فِي أَنِّي مَشْغُولٌ بِالصَّلَاةِ عَنْ قَصْدِي إِلَيْهِمْ، أَوْ مَعْنَى أُخَالِفُ أَتَخَلَّفُ - أَيْ عَنِ الصَّلَاةِ - إِلَى قَصْدِي الْمَذْكُورِينَ، وَالتَّقْيِيدُ بِالرِّجَالِ يُخْرِجُ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ.
قَوْلُهُ: (فَأُحَرِّقُ) بِالتَّشْدِيدِ، وَالْمُرَادُ بِهِ التَّكْثِيرُ، يُقَالُ حَرَّقَهُ إِذَا بَالَغَ فِي تَحْرِيقِهِ.
قَوْلُهُ: (عَلَيْهِمْ) يُشْعِرُ بِأَنَّ الْعُقُوبَةَ لَيْسَتْ قَاصِرَةً عَلَى الْمَالِ، بَلِ الْمُرَادُ تَحْرِيقُ الْمَقْصُودِينَ، وَالْبُيُوتُ تَبَعًا لِلْقَاطِنِينَ بِهَا. وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ فَأُحَرِّقَ بُيُوتًا عَلَى مَنْ فِيهَا.
قَوْلُهُ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) فِيهِ إِعَادَةُ الْيَمِينِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّأْكِيدِ.
قَوْلُهُ: (عَرْقًا) بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا قَافٌ، قَالَ الْخَلِيلُ: الْعُرَاقُ الْعَظْمُ بِلَا لَحْمٍ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ لَحْمٌ فَهُوَ عَرْقٌ، وَفِي الْمحكمِ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ: الْعَرْقُ بِسُكُونِ الرَّاءِ قِطْعَةُ لَحْمٍ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْعَرْقُ وَاحِدُ الْعِرَاقِ، وَهِيَ الْعِظَامُ الَّتِي يُؤْخَذُ مِنْهَا هُبَرُ اللَّحْمِ، وَيَبْقَى عَلَيْهَا لَحْمٌ رَقِيقٌ فَيُكْسَرُ وَيُطْبَخُ وَيُؤْكَلُ مَا عَلَى الْعِظَامِ مِنْ لَحْمٍ دَقِيقٍ وَيَتَشَمَّسُ الْعِظَامَ، يُقَالُ عَرِقْتُ اللَّحْمَ وَاعْتَرَقْتُهُ وَتَعَرَّقْتُهُ: إِذَا أَخَذْتُ اللَّحْمَ مِنْهُ نَهْشًا، وَفِي الْمُحْكَمِ: جَمْعُ الْعَرْقِ عَلَى عُرَاقٍ بِالضَّمِّ عَزِيزٌ، وَقَوْلُ الْأَصْمَعِيِّ هُوَ اللَّائِقُ هُنَا.
قَوْلُهُ: (أَوْ مِرْمَاتَيْنِ) تَثْنِيَةُ مِرْمَاةٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَحُكِيَ الْفَتْحُ، قَالَ الْخَلِيلُ: هِيَ مَا بَيْنَ ظِلْفَيِ الشَّاةِ، وَحَكَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَقَالَ: لَا أَدْرِي مَا وَجْهُهُ. وَنَقَلَهُ الْمُسْتَمْلِي فِي رِوَايَتِهِ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ عَنِ الْفَرَبْرِيِّ قَالَ: قَالَ يُونُسُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ الْبُخَارِيِّ: الْمِرْمَاةُ بِكَسْرِ الْمِيمِ مِثْلُ مِسْنَاةٍ وَمِيضَاةٍ مَا بَيْنَ ظِلْفَيِ الشَّاةِ مِنَ اللَّحْمِ، قَالَ عِيَاضٌ فَالْمِيمُ عَلَى هَذَا أَصْلِيَّةٌ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْمِرْمَاةُ لُعْبَةٌ كَانُوا يَلْعَبُونَهَا بِنِصَالٍ مَحْدُودَةٍ يَرْمُونَهَا فِي كَوْمٍ مِنْ تُرَابٍ، فَأَيُّهُمْ أَثْبَتَهَا فِي الْكَوْمِ غَلَبَ، وَهِيَ الْمِرْمَاةُ وَالْمِدْحَاةُ.
قُلْتُ: وَيَبْعُدُ أَنْ
(1)
وذلك لأنه سبحانه مالكها والمتصرف فيها. وفى ذلك من الفوائد مع ما ذكر إثبات اليد لله سبحانه على الوجه الذى يليق به، كالقول فى سائر الصفات، وهو سبحانه منزه عن مشابهة المخلوقات فى كل شيء، موصوف بصفات الكمال اللائق به فتنبه.
تَكُونَ هَذِهِ مُرَادُ الْحَدِيثِ لِأَجْلِ التَّثْنِيَةِ، وَحَكَى الْحَرْبِيُّ، عَنِ الْأَصْمَعِيِّ أَنَّ الْمِرْمَاةَ سَهْمُ الْهَدَفِ، قَالَ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا حَدَّثَنِي. . ثُمَّ سَاقَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَ الْحَدِيثِ بِلَفْظِ: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا شَهِدَ الصَّلَاةَ مَعِي كَانَ لَهُ عَظْمٌ مِنْ شَاةٍ سَمِينَةٍ، أَوْ سَهْمَانِ، لَفَعَلَ وَقِيلَ: الْمِرْمَاةُ سَهْمٌ يُتَعَلَّمُ عَلَيْهِ الرَّمْيُ، وَهُوَ سَهْمٌ دَقِيقٌ مُسْتَوٍ غَيْرُ مُحَدَّدٍ، قَالَ الزَّيْنُ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ التَّثْنِيَةُ، فَإِنَّهَا مُشْعِرَةٌ بِتَكْرَارِ الرَّمْيِ بِخِلَافِ السِّهَامِ الْمُحَدَّدَةِ الْحَرْبِيَّةِ، فَإِنَّهَا لَا يَتَكَرَّرُ رَمْيُهَا، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَفْسِيرُ الْمِرْمَاةِ بِالسَّهْمِ لَيْسَ بِوَجِيهٍ، وَيَدْفَعُهُ ذِكْرُ الْعَرْقِ مَعَهُ. وَوَجَّهَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ بِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْعَظْمَ السَّمِينَ وَكَانَ مِمَّا يُؤْكَلُ أَتْبَعَهُ بِالسَّهْمَيْنِ لِأَنَّهُمَا مِمَّا يُلْهَى بِهِ. انْتَهَى. وَإِنَّمَا وَصَفَ الْعَرْقَ بِالسِّمَنِ وَالْمِرْمَاةَ بِالْحُسْنِ لِيَكُونَ ثَمَّ بَاعِثٌ نَفْسَانِيٌّ عَلَى تَحْصِيلِهِمَا. وَفِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَمِّ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنِ الصَّلَاةِ بِوَصْفِهِمْ بِالْحِرْصِ عَلَى الشَّيْءِ الْحَقِيرِ مِنْ مَطْعُومٍ أَوْ مَلْعُوبٍ بِهِ، مَعَ التَّفْرِيطِ فِيمَا يُحَصِّلُ رَفِيعَ الدَّرَجَاتِ وَمَنَازِلَ الْكَرَامَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ أَيْضًا تَقْدِيمُ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ عَلَى الْعُقُوبَةِ، وَسِرُّهُ أَنَّ الْمَفْسَدَةَ إِذَا ارْتَفَعَتْ بِالْأَهْوَنِ مِنَ الزَّجْرِ اكْتُفِيَ بِهِ عَنِ الْأَعْلَى مِنَ الْعُقُوبَةِ، نَبَّهَ عَلَيْهِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، وَفِيهِ جَوَازُ الْعُقُوبَةِ بِالْمَالِ.
كَذَا اسْتَدَلَّ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا أَسْلَفْنَاهُ، وَلِاحْتِمَالِ أَنَّ التَّحْرِيقَ مِنْ بَابِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ، إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّ الْبَاعِثَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَخْتَفُونَ فِي بُيُوتِهِمْ فَلَا يُتَوَصَّلُ إِلَى عُقُوبَتِهِمْ إِلَّا بِتَحْرِيقِهَا عَلَيْهِمْ. وَفِيهِ جَوَازُ أَخْذِ أَهْلِ الْجَرَائِمِ عَلَى غِرَّةٍ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم هَمَّ بِذَلِكَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي عُهِدَ مِنْهُ فِيهِ الِاشْتِغَالُ بِالصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ، فَأَرَادَ أَنْ يَبْغَتَهُمْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَتَحَقَّقُونَ أَنَّهُ لَا يَطْرُقُهُمْ فِيهِ أَحَدٌ.
وَفِي السِّيَاقِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ تَقَدَّمَ مِنْهُ زَجْرُهُمْ عَنِ التَّخَلُّفِ بِالْقَوْلِ حَتَّى اسْتَحَقُّوا التَّهْدِيدَ بِالْفِعْلِ، وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْأَشْخَاصِ وَفِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ بَابُ إِخْرَاجِ أَهْلِ الْمَعَاصِي وَالرِّيَبِ مِنَ الْبُيُوتِ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ يُرِيدُ أَنَّ مَنْ طُلِبَ مِنْهُمْ بِحَقٍّ فَاخْتَفَى أَوِ امْتَنَعَ فِي بَيْتِهِ لَدَدًا وَمَطْلًا أُخْرِجَ مِنْهُ بِكُلِّ طَرِيقٍ يُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ بِهَا، كَمَا أَرَادَ صلى الله عليه وسلم إِخْرَاجَ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنِ الصَّلَاةِ بِإِلْقَاءِ النَّارِ عَلَيْهِمْ فِي بُيُوتِهِمْ. وَاسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ قَتْلِ تَارِكِ الصَّلَاةِ مُتَهَاوِنًا بِهَا، وَنُوزِعَ فِي ذَلِكَ. وَرِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ الَّتِي فِيهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ فِي بُيُوتِهِمْ كَمَا قَدَّمْنَاهُ تُعَكِّرُ عَلَيْهِ. نَعَمْ يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ مِنْهُ بِوَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُمْ إِذَا اسْتَحَقُّوا التَّحْرِيقَ بِتَرْكِ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الصَّلَاةِ خَارِجَةٍ عَنْهَا سَوَاءٌ قُلْنَا وَاجِبَةٌ أَوْ مَنْدُوبَةٌ كَانَ مَنْ تَرَكَهَا أَصْلًا رَأْسًا أَحَقُّ بِذَلِكَ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنَ التَّهْدِيدِ بِالتَّحْرِيقِ حُصُولُ الْقَتْلِ لَا دَائِمًا وَلَا غَالِبًا، لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الْفِرَارُ مِنْهُ أَوِ الْإِخْمَادُ لَهُ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ مِنَ الزَّجْرِ وَالْإِرْهَابِ. وَفِي قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ لَيْسَتْ بِهِمْ عِلَّةٌ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَعْذَارَ تُبِيحُ التَّخَلُّفَ عَنِ الْجَمَاعَةِ وَلَوْ قُلْنَا إِنَّهَا فَرْضٌ، وَكَذَا الْجُمُعَةُ.
وَفِيهِ الرُّخْصَةُ لِلْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ لِأَجْلِ إِخْرَاجِ مَنْ يَسْتَخْفِي فِي بَيْتِهِ وَيَتْرُكُهَا، وَلَا بُعْدَ فِي أَنْ تَلْحَقَ بِذَلِكَ الْجُمُعَةُ، فَقَدْ ذَكَرُوا مِنَ الْأَعْذَارِ فِي التَّخَلُّفِ عَنْهَا خَوْفَ فَوَاتِ الْغَرِيمِ وَأَصْحَابِ الْجَرَائِمِ فِي حَقِّ الْإِمَامِ كَالْغُرَمَاءِ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ إِمَامَةِ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْفَاضِلِ إِذَا كَانَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ، قَالَ ابْنُ بَزِيزَةَ: وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْفَاضِلَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَكُونُ غَائِبًا، وَهَذَا لَا يُخْتَلَفُ فِي جَوَازِهِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَلَى جَوَازِ إِعْدَامِ مَحَلِّ الْمَعْصِيَةِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ
(1)
كَمَا قِيلَ فِي الْعُقُوبَةِ بِالْمَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(1)
جزم الشارح بالنسخ ليس يجيد، والصواب عدم النسخ، لأدلة كثيرة معروفة في محلها، منها حديث الباب. وإنما المنسوخ التعذيب بالنار فقط، والله أعلم
30 - بَاب فَضْلِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ
وَكَانَ الْأَسْوَدُ إِذَا فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ ذَهَبَ إِلَى مَسْجِدٍ آخَرَ وَجَاءَ أَنَسُ إِلَى مَسْجِدٍ قَدْ صُلِّيَ فِيهِ، فَأَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى جَمَاعَةً
645 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلَاةَ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً.
[الحديث 645 - طرفه في: 649]
646 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنِي ابْنُ الْهَادِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلَاةَ الْفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً
647 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ تُضَعَّفُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَفِي سُوقِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ ضِعْفًا وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ لَا يُخْرِجُهُ إِلاَّ الصَّلَاةُ لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إِلاَّ رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ فَإِذَا صَلَّى لَمْ تَزَلْ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مُصَلَاهُ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ وَلَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلَاةَ"
قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ) أَشَارَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ إِلَى أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ يُنَافِي التَّرْجَمَةَ الَّتِي قَبْلَهَا، ثُمَّ أَطَالَ فِي الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ، وَيَكْفِي مِنْهُ أَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ وَاجِبًا لَا يُنَافِي كَوْنَهُ ذَا فَضِيلَةٍ، وَلَكِنَّ الْفَضَائِلَ تَتَفَاوَتُ، فَالْمُرَادُ مِنْهَا بَيَانُ زِيَادَةِ ثَوَابِ الْجَمَاعَةِ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ الْأَسْوَدُ) أَيِ ابْنُ يَزِيدَ النَّخَعِيُّ أَحَدُ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَأَثَرُهُ هَذَا وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَلَفْظُهُ إِذَا فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ فِي مَسْجِدِ قَوْمِهِ. وَمُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ أَنَّهُ لَوْلَا ثُبُوتُ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ عِنْدَهُ لَمَا تَرَكَ فَضِيلَةَ أَوَّلِ الْوَقْتِ وَالْمُبَادَرَةَ إِلَى خَلَاصِ الذِّمَّةِ وَتَوَجَّهَ إِلَى مَسْجِدٍ آخَرَ، كَذَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ الْمُنِيرِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْبُخَارِيَّ قَصَدَ الْإِشَارَةَ بِأَثَرِ الْأَسْوَدِ، وَأَنَسٍ إِلَى أَنَّ الْفَضْلَ الْوَارِدَ فِي أَحَادِيثِ الْبَابِ مَقْصُورٌ عَلَى مَنْ جَمَعَ فِي الْمَسْجِدِ دُونَ مَنْ جَمَعَ فِي بَيْتِهِ مَثَلًا كَمَا سَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، لِأَنَّ التَّجْمِيعَ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُخْتَصًّا بِالْمَسْجِدِ لَجَمَّعَ الْأَسْوَدُ فِي مَكَانِهِ وَلَمْ يَنْتَقِلْ إِلَى مَسْجِدٍ آخَرَ لِطَلَبِ الْجَمَاعَةِ وَلَمَا جَاءَ أَنَسٌ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي رِفَاعَةَ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ.
قَوْلُهُ: (وَجَاءَ أَنَسٌ) وَصَلَهُ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ الْجَعْدِ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ: مَرَّ بِنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ فِي مَسْجِدِ بَنِي ثَعْلَبَةَ فَذَكَرَ نَحْوَهُ قَالَ: وَذَلِكَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَفِيهِ فَأَمَرَ رَجُلًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ ثُمَّ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طُرُقٍ عَنِ الْجَعْدِ، وَعِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَبْدِ الصَّمَدِ الْعَمِّيِّ، عَنِ الْجَعْدِ نَحْوُهُ وَقَالَ مَسْجِدُ بَنِي رِفَاعَةَ وَقَالَ فَجَاءَ أَنَسٌ فِي نَحْوِ عِشْرِينَ مِنْ فِتْيَانِهِ وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا قُلْنَاهُ مِنْ إِرَادَةِ التَّجْمِيعِ فِي الْمَسْجِدِ.
قَوْلُهُ: (صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلَاةَ الْفَذِّ) بِالْمُعْجَمَةِ أَيِ الْمُنْفَرِدِ، يُقَالُ فَذَّ الرَّجُلُ مِنْ أَصْحَابِهِ إِذَا بَقِيَ مُنْفَرِدًا
وَحْدَهُ. وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ وَسِيَاقُهُ أَوْضَحُ وَلَفْظُهُ: صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ تَزِيدُ عَلَى صَلَاتِهِ وَحْدَهُ.
قَوْلُهُ: (بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً) قَالَ التِّرْمِذِيُّ عَامَّةُ مَنْ رَوَاهُ قَالُوا: خَمْسًا وَعِشْرِينَ إِلَّا ابْنَ عُمَرَ فَإِنَّهُ قَالَ: سَبْعًا وَعِشْرِينَ.
قُلْتُ: لَمْ يُخْتَلَفْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ إِلَّا مَا وَقَعَ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْعُمَرِيِّ، عَنْ نَافِعٍ فَقَالَ فِيهِ: خَمْسٌ وَعِشْرُونَ، لَكِنَّ الْعُمَرِيَّ ضَعِيفٌ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ فِي مُسْتَخْرَجِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَهِيَ شَاذَّةٌ مُخَالِفَةٌ لِرِوَايَةِ الْحُفَّاظِ مِنْ أَصْحَابِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَأَصْحَابِ نَافِعٍ وَإِنْ كَانَ رَاوِيهَا ثِقَةً.
وَأَمَّا مَا وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ بِضْعٍ وَعِشْرِينَ فَلَيْسَتْ مُغَايِرَةٌ لِرِوَايَةِ الْحُفَّاظِ لِصِدْقِ الْبِضْعِ عَلَى السَّبْعِ، وَأَمَّا غَيْرُ ابْنِ عُمَرَ فَصَحَّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا فِي هَذَا الْبَابِ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ، وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمِ، وَعَنْ عَائِشَةَ وَأَنَسٍ عِنْدَ السَّرَّاجِ، وَوَرَدَ أَيْضًا مِنْ طُرُقٍ ضَعِيفَةٍ عَنْ مُعَاذٍ، وَصُهَيْبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَكُلُّهَا عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى خمس وَعِشْرِينَ سِوَى رِوَايَةِ أُبَيٍّ فَقَالَ: أَرْبَعٌ أَوْ خَمْسٌ عَلَى الشَّكِّ، وَسِوَى رِوَايَةٍ لِأَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ قَالَ فِيهَا: سَبْعٌ وَعِشْرُونَ وَفِي إِسْنَادِهَا شَرِيكٌ الْقَاضِي وَفِي حِفْظِهِ ضَعْفٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي عَوَانَةَ بِضْعًا وَعِشْرِينَ وَلَيْسَتْ مُغَايِرَةً أَيْضًا لِصِدْقِ الْبِضْعِ عَلَى الْخَمْسِ، فَرَجَعَتِ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا إِلَى الْخَمْسِ وَالسَّبْعِ إِذْ لَا أَثَرَ لِلشَّكِّ، وَاخْتُلِفَ فِي أَيِّهِمَا أَرْجَحُ فَقِيلَ رِوَايَةُ الْخَمْسِ لِكَثْرَةِ رُوَاتِهَا، وَقِيلَ رِوَايَةُ السَّبْعِ لِأَنَّ فِيهَا زِيَادَةٌ مِنْ عَدْلٍ حَافِظٍ، وَوَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنَ الْحَدِيثِ وَهُوَ مُمَيِّزُ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ، فَفِي الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا التَّعْبِيرُ بِقَوْلِهِ دَرَجَةً أَوْ حَذْفُ الْمُمَيِّزِ، إِلَّا طُرُقَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَفِي بَعْضِهَا ضِعْفًا وَفِي بَعْضِهَا جُزْءًا وَفِي بَعْضِهَا دَرَجَةً وَفِي بَعْضِهَا صَلَاةً وَوَقَعَ هَذَا الْأَخِيرُ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنَ التَّفَنُّنِ فِي الْعِبَارَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ الْأَثِيرِ: إِنَّمَا قَالَ دَرَجَةً وَلَمْ يَقُلْ جُزْءًا وَلَا نَصِيبًا وَلَا حَظًّا وَلَا نَحْوَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَرَادَ الثَّوَابَ مِنْ جِهَةِ الْعُلُوِّ وَالِارْتِفَاعِ، فَإِنَّ ذَلِكَ فَوْقَ هَذِهِ بِكَذَا وَكَذَا دَرَجَةً، لِأَنَّ الدَّرَجَاتِ إِلَى جِهَةِ فَوْقُ، فَكَأَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ لَفْظُ دَرَجَةٍ وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ، لَكِنْ نَفْيُهُ وُرُودَ الْجُزْءِ مَرْدُودٌ، فَإِنَّهُ ثَابِتٌ، وَكَذَلِكَ الضِّعْفُ، وَقَدْ جُمِعَ بَيْنَ رِوَايَتَيِ الْخَمْسِ وَالسَّبْعِ بِوُجُوهٍ: مِنْهَا أَنَّ ذِكْرَ الْقَلِيلِ لَا يَنْفِي الْكَثِيرَ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ لَا يَعْتَبِرُ مَفْهُومَ الْعَدَدِ، لَكِنْ قَدْ قَالَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَحُكِيَ عَنْ نَصِّهِ، وَعَلَى هَذَا فَقِيلَ وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي: لَعَلَّهُ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ بِالْخَمْسِ، ثُمَّ أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِزِيَادَةِ الْفَضْلِ فَأَخْبَرَ بِالسَّبْعِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى التَّارِيخِ، وَبِأَنَّ دُخُولَ النَّسْخِ فِي الْفَضَائِلِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، لَكِنْ إِذَا فَرَّعْنَا عَلَى الْمَنْعِ تَعَيَّنَ تَقَدُّمُ الْخَمْسِ عَلَى السَّبْعِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْفَضْلَ مِنَ اللَّهِ يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ لَا النَّقْصَ.
ثَالِثُهَا أَنَّ اخْتِلَافَ الْعَدَدَيْنِ بِاخْتِلَافِ مُمَيِّزِهِمَا، وَعَلَى هَذَا فَقِيلَ: الدَّرَجَةُ أَصْغَرُ مِنَ الْجُزْءِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الَّذِي رُوِيَ عَنْهُ الْجُزْءُ رُوِيَ عند الدَّرَجَةُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْجُزْءُ فِي الدُّنْيَا وَالدَّرَجَةُ فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّغَايُرِ. رَابِعُهَا الْفَرْقُ بِقُرْبِ الْمَسْجِدِ وَبُعْدِهِ. خَامِسُهَا الْفَرْقُ بِحَالِ الْمُصَلِّي كَأَنْ يَكُونَ أَعْلَمَ أَوْ أَخْشَعَ. سَادِسُهَا الْفَرْقُ بِإِيقَاعِهَا فِي الْمَسْجِدِ أَوْ فِي غَيْرِهِ. سَابِعُهَا الْفَرْقُ بِالْمُنْتَظِرِ لِلصَّلَاةِ وَغَيْرِهِ. ثَامِنُهَا الْفَرْقُ بِإِدْرَاكِ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا. تَاسِعُهَا الْفَرْقُ بِكَثْرَةِ الْجَمَاعَةِ وَقِلَّتِهِمْ.
عَاشِرُهَا السَّبْعُ مُخْتَصَّةٌ بِالْفَجْرِ وَالْعِشَاءِ وَقِيلَ بِالْفَجْرِ وَالْعَصْرِ وَالْخَمْسُ بِمَا عَدَا ذَلِكَ. حَادِي عَشَرَهَا السَّبْعُ مُخْتَصَّةٌ بِالْجَهْرِيَّةِ وَالْخَمْسُ بِالسِّرِّيَّةِ، وَهَذَا الْوَجْهُ عِنْدِي أَوْجَهُهَا لِمَا سَأُبَيِّنُهُ. ثُمَّ إِنَّ الْحِكْمَةَ فِي هَذَا الْعَدَدِ الْخَاصِّ غَيْرُ مُحَقَّقَةِ الْمَعْنَى. وَنَقَلَ الطِّيبِيُّ، عَنِ التُّورِبِشْتِيِّ مَا حَاصِلُهُ: إِنَّ ذَلِكَ لَا يُدْرَكُ بِالرَّأْيِ، بَلْ مَرْجِعُهُ إِلَى عِلْمِ
النُّبُوَّةِ الَّتِي قَصَرَتْ عُلُومَ الْأَلِبَّاءِ عَنْ إِدْرَاكِ حَقِيقَتِهَا كُلِّهَا، ثُمَّ قَالَ: وَلَعَلَّ الْفَائِدَةَ هِيَ اجْتِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ مُصْطَفِّينَ كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ، وَالِاقْتِدَاءُ بِالْإِمَامِ، وَإِظْهَارُ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى مَا قَدَّمْتُهُ عَنْ غَيْرِهِ وَغَفَلَ عَنْ مُرَادِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ لَا يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ، لَكِنْ أَشَارَ الْكِرْمَانِيُّ إِلَى احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ كَوْنَ الْمَكْتُوبَاتِ خَمْسًا فَأُرِيدَ الْمُبَالَغَةُ فِي تَكْثِيرِهَا فَضُرِبَتْ فِي مِثْلِهَا فَصَارَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ. ثُمَّ ذَكَرَ لِلسَّبْعِ مُنَاسَبَةً أَيْضًا مِنْ جِهَةِ عَدَدِ رَكَعَاتِ الْفَرَائِضِ وَرَوَاتِبِهَا، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْحَسَنَةُ بِعَشْرٍ لِلْمُصَلِّي مُنْفَرِدًا فَإِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ آخَرُ بَلَغَتْ عِشْرِينَ ثُمَّ زِيدَ بِقَدْرِ عَدَدِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، أَوْ يُزَادُ عَدَدَ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ، وَلَا يَخْفَى فَسَادُ هَذَا. وَقِيلَ: الْأَعْدَادُ عَشَرَاتٌ وَمِئُينَ، وَأُلُوفٌ وَخَيْرُ الْأُمُورِ الْوَسَطُ فَاعْتُبِرَتِ الْمِائَةُ وَالْعَدَدُ الْمَذْكُورُ رُبْعُهَا، وَهَذَا أَشَدُّ فَسَادًا مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ.
وَقَرَأْتُ بِخَطِّ شَيْخِنَا الْبُلْقِينِيِّ فِيمَا كَتَبَ عَلَى الْعُمْدَةِ: ظَهَرَ لِي فِي هَذَيْنِ الْعَدَدَيْنِ شَيْءٌ لَمْ أُسْبَقْ إِلَيْهِ، لِأَنَّ لَفْظَ ابْنِ عُمَرَ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ، وَمَعْنَاهُ الصَّلَاةُ فِي الْجَمَاعَةِ كَمَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ وَعَلَى هَذَا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَحْكُومِ لَهُ بِذَلِكَ صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ، وَأَدْنَى الْأَعْدَادِ الَّتِي يَتَحَقَّقُ فِيهَا ذَلِكَ ثَلَاثَةٌ حَتَّى يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَتَى بِحَسَنَةٍ وَهِيَ بِعَشَرَةٍ فَيَحْصُلُ مِنْ مَجْمُوعِهِ ثَلَاثُونَ، فَاقْتَصَرَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى الْفَضْلِ الزَّائِدِ، وَهُوَ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ دُونَ الثَّلَاثَةِ الَّتِي هِيَ أَصْلُ ذَلِكَ. انْتَهَى.
وَظَهَرَ لِي فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْعَدَدَيْنِ أَنَّ أَقَلَّ الْجَمَاعَةِ إِمَامٌ وَمَأْمُومٌ، فَلَوْلَا الْإِمَامُ مَا سُمِّيَ الْمَأْمُومُ، وَكَذَا عَكْسُهُ، فَإِذَا تَفَضَّلَ اللَّهُ عَلَى مَنْ صَلَّى جَمَاعَةً بِزِيَادَةِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةٍ حُمِلَ الْخَبَرُ الْوَارِدُ بِلَفْظِهَا عَلَى الْفَضْلِ الزَّائِدِ، وَالْخَبَرُ الْوَارِدُ بِلَفْظِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ عَلَى الْأَصْلِ وَالْفَضْلِ.
وَقَدْ خَاضَ قَوْمٌ فِي تَعْيِينِ الْأَسْبَابِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلدَّرَجَاتِ الْمَذْكُورَةِ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَمَا جَاءُوا بِطَائِلٍ. وَقَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - يَعْنِي ثَالِثَ أَحَادِيثِ الْبَابِ - إِشَارَةً إِلَى بَعْضِ ذَلِكَ، وَيُضَافُ إِلَيْهِ أُمُورٌ أُخْرَى وَرَدَتْ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ فَصَّلَهَا ابْنُ بَطَّالٍ وَتَبِعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الشَّارِحِينَ، وَتَعَقَّبَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ بَعْضَ مَا ذَكَرَهُ وَاخْتَارَ تَفْصِيلًا آخَرَ أَوْرَدَهُ، وَقَدْ نَقَّحْتُ مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ وَحَذَفْتُ مَا لَا يَخْتَصُّ بِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ: فَأَوَّلُهَا إِجَابَةُ الْمُؤَذِّنِ بِنِيَّةِ الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ، وَالتَّبْكِيرُ إِلَيْهَا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَالْمَشْيُ إِلَى الْمَسْجِدِ بِالسَّكِينَةِ، وَدُخُولُ الْمَسْجِدِ دَاعِيًا، وَصَلَاةُ التَّحِيَّةِ عِنْدَ دُخُولِهِ كُلُّ ذَلِكَ بِنِيَّةِ الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ، سَادِسُهَا انْتِظَارُ الْجَمَاعَةِ، سَابِعُهَا صَلَاةُ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِ وَاسْتِغْفَارُهُمْ لَهُ، ثَامِنُهَا شَهَادَتُهُمْ لَهُ، تَاسِعُهَا إِجَابَةُ الْإِقَامَةِ، عَاشِرُهَا السَّلَامَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ حِينَ يَفِرُّ عِنْدَ الْإِقَامَةِ، حَادِيَ عَاشِرَهَا الْوُقُوفُ مُنْتَظِرًا إِحْرَامَ الْإِمَامِ أَوِ الدُّخُولُ مَعَهُ فِي أَيِّ هَيْئَةٍ وَجدَهُ عَلَيْهَا، ثَانِيَ عَشَرَهَا إِدْرَاكُ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ كَذَلِكَ، ثَالِثَ عَشَرَهَا: تَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ وَسَدُّ فُرَجِهَا، رَابِعَ عَشَرَهَا جَوَابُ الْإِمَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، خَامِسَ عَشَرَهَا الْأَمْنُ مِنَ السَّهْوِ غَالِبًا، وَتَنْبِيهُ الْإِمَامِ إِذَا سَهَا بِالتَّسْبِيحِ أَوِ الْفَتْحِ عَلَيْهِ، سَادِسَ عَشَرَهَا حُصُولُ الْخُشُوعِ وَالسَّلَامَةِ عَمَّا يُلْهِي غَالِبًا، سَابِعَ عَشَرَهَا تَحْسِينُ الْهَيْئَةِ غَالِبًا، ثَامِنَ عَشَرَهَا احْتِفَافُ
الْمَلَائِكَةِ بِهِ، تَاسِعَ عَشَرَهَا التَّدَرُّبُ عَلَى تَجْوِيدِ الْقِرَاءَةِ وَتَعَلُّمِ الْأَرْكَانِ وَالْأَبْعَاضِ، الْعِشْرُونَ إِظْهَارُ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ إِرْغَامُ الشَّيْطَانِ بِالِاجْتِمَاعِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الطَّاعَةِ وَنَشَاطِ الْمُتَكَاسِلِ، الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ السَّلَامَةُ مِنْ صِفَةِ النِّفَاقِ وَمِنْ إِسَاءَةِ غَيْرِهِ الظَّنَّ بِأَنَّهُ تَرَكَ الصَّلَاةَ رَأْسًا، الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ رَدُّ السَّلَامِ عَلَى الْإِمَامِ، الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ الِانْتِفَاعُ بِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ وَعَوْدُ بَرَكَةِ الْكَامِلِ عَلَى النَّاقِصِ، الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ قِيَامُ نِظَامِ الْأُلْفَةِ بَيْنَ الْجِيرَانِ، وَحُصُولُ تَعَاهُدِهِمْ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ.
فَهَذِهِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ خَصْلَةً، وَرَدَ فِي كُلٍّ مِنْهَا
أَمْرٌ أَوْ تَرْغِيبٌ يَخُصُّهُ، وَبَقِيَ مِنْهَا أَمْرَانِ يَخْتَصَّانِ بِالْجَهْرِيَّةِ
(1)
، وَهُمَا الْإِنْصَاتُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ وَالِاسْتِمَاعُ لَهَا، وَالتَّأْمِينُ عِنْدَ تَأْمِينِهِ لِيُوَافِقَ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ، وَبِهَذَا يَتَرَجَّحُ أَنَّ السَّبْعَ تَخْتَصُّ بِالْجَهْرِيَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(تَنْبِيهَاتٌ): (الْأَوَّلُ) مُقْتَضَى الْخِصَالِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا اخْتِصَاصُ التَّضْعِيفِ بِالتَّجَمُّعِ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ الرَّاجِحُ فِي نَظَرِي كَمَا سَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا يَخْتَصَّ بِالْمَسْجِدِ فَإِنَّمَا ذَكَرْتُهُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ وَهِيَ الْمَشْيُ وَالدُّخُولُ وَالتَّحِيَّةُ، فَيُمْكِنُ أَنْ تُعَوَّضَ مِنْ بَعْضِ مَا ذُكِرَ مِمَّا يَشْتَمِلُ عَلَى خَصْلَتَيْنِ مُتَقَارِبَتَيْنِ أُقِيمَتَا مَقَامَ خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ كَالْأَخِيرَتَيْنِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ غَيْرُ مَنْفَعَةِ عَوْدِ بَرَكَةِ الْكَامِلِ عَلَى النَّاقِصِ، وَكَذَا فَائِدَةُ قِيَامِ نِظَامِ الْأُلْفَةِ غَيْرُ فَائِدَةِ حُصُولِ التَّعَاهُدِ، وَكَذَا فَائِدَةُ أَمْنِ الْمَأْمُومِينَ مِنَ السَّهْوِ غَالِبًا غَيْرُ تَنْبِيهِ الْإِمَامِ إِذَا سَهَا. فَهَذِهِ ثَلَاثَةٌ يُمْكِنُ أَنْ يُعَوَّضَ بِهَا الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ فَيَحْصُلُ الْمَطْلُوبُ.
(الثَّانِي) لَا يَرِدُ عَلَى الْخِصَالِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا كَوْنُ بَعْضِ الْخِصَالِ يَخْتَصُّ بِبَعْضِ مَنْ صَلَّى جَمَاعَةً دُونَ بَعْضٍ كَالتَّبْكِيرِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَانْتِظَارِ الْجَمَاعَةِ وَانْتِظَارِ إِحْرَامِ الْإِمَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لِأَنَّ أَجْرَ ذَلِكَ يَحْصُلُ لِقَاصِدِهِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ وَلَوْ لَمْ يَقَعْ كَمَا سَبَقَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(الثَّالِثُ) مَعْنَى الدَّرَجَةِ أَوِ الْجُزْءِ حُصُولُ مِقْدَارِ صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ بِالْعَدَدِ الْمَذْكُورِ لِلْمُجْمِعِ، وَقَدْ أَشَارَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ إِلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ زَعَمَ خِلَافَ ذَلِكَ قَالَ: وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، لِأَنَّهُ قَدْ وَرَدَ مُبَيَّنًا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ. انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى مَا عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ بِلَفْظِ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَعْدِلُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ، وَفِي أُخْرَى: صَلَاةٌ مَعَ الْإِمَامِ أَفْضَلُ مِنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ صَلَاةً يُصَلِّيهَا وَحْدَهُ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ نَحْوُهُ وَقَالَ فِي آخِرِهِ: كُلُّهَا مِثْلُ صَلَاتِهِ، وَهُوَ مُقْتَضَى لَفْظِ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْآتِيَةِ حَيْثُ قَالَ تُضَعَّفُ لِأَنَّ الضِّعْفَ كَمَا قَالَ الْأَزْهَرِيُّ الْمِثْلُ إِلَى مَا زَادَ لَيْسَ بِمَقْصُورٍ عَلَى الْمِثْلَيْنِ، تَقُولُ: هَذَا ضِعْفُ الشَّيْءِ، أَيْ مِثْلُهُ أَوْ مِثْلَاهُ فَصَاعِدًا، لَكِنْ لَا يُزَادُ عَلَى الْعَشَرَةِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ تُضَعَّفُ وَكَذَا قَوْلُهُ فِي رِوَايَتَيِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي سَعِيدٍ تَفْضُلُ أَيْ تَزِيدُ، وَقَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ السَّابِقَةِ فِي بَابِ مَسَاجِدِ السُّوقِ يُرِيدُ أَنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ تُسَاوِي صَلَاةَ الْمُنْفَرِدِ وَتَزِيدُ عَلَيْهَا الْعَدَدَ الْمَذْكُورَ فَيَكُونُ لِمُصَلِّي الْجَمَاعَةِ ثَوَابُ سِتٍّ أَوْ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ مِنْ صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ) بِمُعْجَمَةٍ وَمُوَحَّدَتَيْنِ الْأُولَى مُثَقَّلَةٌ، وَهُوَ أَنْصَارِيٌّ مَدَنِيٌّ، وَيُوَافِقُهُ فِي اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ، لَكِنْ لَيْسَتْ لَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ رِوَايَةٌ.
قَوْلُهُ: (بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ) فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ خَمْسًا وَعِشْرِينَ زَادَ ابْنُ حِبَّانَ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: فَإِنْ صَلَّاهَا فِي فَلَاةٍ فَأَتَمَّ رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا بَلَغَتْ خَمْسِينَ صَلَاةً: وَكَأَنَّ السِّرَّ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْجَمَاعَةَ لَا تَتَأَكَّدُ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ لِوُجُودِ الْمَشَقَّةِ، بَلْ حَكَى النَّوَوِيُّ أَنَّهُ لَا يَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ فِي وُجُوبِهَا
(2)
لَكِنْ فِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّهُ خِلَافُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، وَحَكَى أَبُو دَاوُدَ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ قَالَ:
(1)
في هذا التخريج نظر، والأظهر عموم الحديث لجميع الصلوات الخمس، وذلك من زيادة فضل الله سبحانه وتعالى لمن يحضر الصلاة في الجماعة. والله أعلم
(2)
ليس ما قاله النووي بجيد، والصواب وجوب الجماعة حضرا وسفرا كما يعلم ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم ومواظبته على الجماعة وقوله تعالى {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} الآية. وأما تفضيل صلاة من صلى في الفلاة فأتم ركوعها وسجودها على صلاة من صلى في الجماعة فليس فيه حجة على عدم وجوب الجماعة في السفر لأن أدلتها محكمة فلا تجوز مخالفتها لشيء محتمل. وإنما يجب حمل هذا النص - إن صح - على من صلى في الفلاة حسب طاقته من غير ترك الجماعة عند إمكانها فأتم ركوعها وسجودها مع كونه خاليا بربه بعيدا عن الناس، فشكر الله له هذا الإخلاص والاهتمام بأمر الصلاة فضاعف له هذا التضعيف. والله أعلم
فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ صَلَاةَ الرَّجُلِ فِي الْفَلَاةِ تَضَاعَفُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي الْجَمَاعَةِ. انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ إِطْلَاقِ قَوْلِهِ فَإِنْ صَلَّاهَا لِتَنَاوُلِهِ الْجَمَاعَةَ وَالِانْفِرَادَ، لَكِنْ حَمْلُهُ عَلَى الْجَمَاعَةِ أَوْلَى، وَهُوَ الَّذِي يَظْهَرُ مِنَ السِّيَاقِ، وَيَلْزَمُ عَلَى مَا قَالَ النَّوَوِيُّ أَنَّ ثَوَابَ الْمَنْدُوبِ يَزِيدُ عَلَى ثَوَابِ الْوَاجِبِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِوُجُوبِ الْجَمَاعَةِ، وَقَدِ اسْتَشْكَلَهُ الْقَرَافِيُّ عَلَى أَصْلِ الْحَدِيثِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا سُنَّةٌ، ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ الثَّوَابَ الْمَذْكُورَ مُرَتَّبٌ عَلَى صَلَاةِ الْفَرْضِ وَصِفَتُهُ مِنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ زِيَادَةُ ثَوَابِ الْمَنْدُوبِ عَلَى الْوَاجِبِ.
وَأَجَابَ بِأَنَّهُ تُفْرَضُ الْمَسْأَلَةُ فِيمَنْ صَلَّى وَحْدَهُ ثُمَّ أَعَادَ فِي جَمَاعَةٍ فَإِنَّ ثَوَابَ الْفَرْضِ يَحْصُلُ لَهُ بِصَلَاتِهِ وَحْدَهُ، وَالتَّضْعِيفُ يَحْصُلُ بِصَلَاتِهِ فِي الْجَمَاعَةِ، فَبَقِيَ الْإِشْكَالُ عَلَى حَالِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ التَّضْعِيفَ لَمْ يَحْصُلْ بِسَبَبِ الْإِعَادَةِ وَإِنَّمَا حَصَلَ بِسَبَبِ الْجَمَاعَةِ، إِذْ لَوْ أَعَادَ مُنْفَرِدًا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ إِلَّا صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ زِيَادَةُ ثَوَابِ الْمَنْدُوبِ عَلَى الْوَاجِبِ. وَمِمَّا وَرَدَ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ قَالَ فَضْلُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ عَلَى صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ دَرَجَةً. قَالَ: فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَى عَدَدِ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ. فَقَالَ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانُوا عَشَرَةَ آلَافٍ؟ قَالَ نَعَمْ وَهَذَا لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ بِالرَّأْيِ، لَكِنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ.
(تَنْبِيهٌ): سَقَطَ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَثَبَتَ لِلْبَاقِينَ، وَأَوْرَدَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ قَبْلَ حَدِيثِ عُمَرَ.
قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ (صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ) فِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ فِي جَمَاعَةٍ بِالتَّنْكِيرِ.
قَوْلُهُ: (خَمْسَةً وَعِشْرِينَ ضِعْفًا) كَذَا فِي الرِّوَايَاتِ الَّتِي وَقَفْنَا عَلَيْهَا، وَحَكَى الْكِرْمَانِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ فِيهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً، بِتَأْوِيلِ الضِّعْفِ بِالدَّرَجَةِ أَوِ الصَّلَاةِ.
قَوْلُهُ: (فِي بَيْتِهِ وَفِي سُوقِهِ) مُقْتَضَاهُ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ جَمَاعَةً تَزِيدُ عَلَى الصَّلَاةِ فِي الْبَيْتِ وَفِي السُّوقِ جَمَاعَةً وَفُرَادَى قَالَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، قَالَ: وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِمُقَابِلِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ الصَّلَاةُ فِي غَيْرِهِ مُنْفَرِدًا، لَكِنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ فِي أَنَّ مَنْ لَمْ يَحْضُرِ الْجَمَاعَةَ فِي الْمَسْجِدِ صَلَّى مُنْفَرِدًا، قَالَ: وَبِهَذَا يَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ عَمَّنِ اسْتَشْكَلَ تَسْوِيَةَ الصَّلَاةِ فِي الْبَيْتِ وَالسُّوقِ. انْتَهَى. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ حَمْلِ الْحَدِيثِ عَلَى ظَاهِرِهِ التَّسْوِيَةُ الْمَذْكُورَةُ، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنِ اسْتِوَائِهِمَا فِي الْمَفْضُولِيَّةِ عَنِ الْمَسْجِدِ أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَفْضَلَ مِنَ الْآخَرِ، وَكَذَا لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ كَوْنَ الصَّلَاةِ جَمَاعَةً فِي الْبَيْتِ أَوِ السُّوقِ لَا فَضْلَ فِيهَا عَلَى الصَّلَاةِ مُنْفَرِدًا، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّ التَّضْعِيفَ الْمَذْكُورَ مُخْتَصٌّ بِالْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ، وَالصَّلَاةُ فِي الْبَيْتِ مُطْلَقًا أَوْلَى مِنْهَا فِي السُّوقِ لِمَا وَرَدَ مِنْ كَوْنِ الْأَسْوَاقِ مَوْضِعَ الشَّيَاطِينِ، وَالصَّلَاةُ جَمَاعَةٌ فِي الْبَيْتِ وَفِي السُّوقِ أَوْلَى مِنَ الِانْفِرَادِ. وَقَدْ جَاءَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ قَصْرُ التَّضْعِيفِ إِلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ عَلَى التَّجْمِيعِ، وَفِي الْمَسْجِدِ الْعَامِّ مَعَ تَقْرِيرِ الْفَضْلِ فِي غَيْرِهِ.
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَوْسٍ الْمَعَافِرِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: أَرَأَيْتَ مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ صَلَّى فِي بَيْتِهِ؟ قَالَ: حَسَنٌ جَمِيلٌ. قَالَ: فَإِنْ صَلَّى فِي مَسْجِدِ عَشِيرَتِهِ؟ قَالَ: خَمْسَ عَشْرَةَ صَلَاةً. قَالَ: فَإِنْ مَشَى إِلَى مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ فَصَلَّى فِيهِ؟ قَالَ: خَمْسٌ وَعِشْرُونَ. انْتَهَى. وَأَخْرَجَ حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ فِي كِتَابِ التَّرْغِيبِ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ وَاثِلَةَ، وَخُصَّ الْخَمْسُ وَالْعِشْرُونَ بِمَسْجِدِ الْقَبَائِلِ. قَالَ: وَصَلَاتُهُ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي يُجْمَعُ فِيهِ - أَيِ الْجُمُعَةُ - بِخَمْسِمِائَةٍ، وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ.
قَوْلُهُ: (وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا تَوَضَّأَ) ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْأُمُورَ الْمَذْكُورَةَ عِلَّةٌ لِلتَّضْعِيفِ الْمَذْكُورِ، إِذِ التَّقْدِيرُ: وَذَلِكَ لِأَنَّهُ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: التَّضْعِيفُ الْمَذْكُورُ سَبَبُهُ كَيْتُ وَكَيْتُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا رُتِّبَ عَلَى مَوْضُوعَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ لَا يُوجَدُ بِوُجُودِ بَعْضِهَا إِلَّا إِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى إِلْغَاءِ مَا لَيْسَ مُعْتَبَرًا أَوْ لَيْسَ مَقْصُودًا لِذَاتِهِ. وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ الَّتِي فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَعْقُولَةُ الْمَعْنَى، فَالْأَخْذُ بِهَا
مُتَوَجَّهٌ، وَالرِّوَايَاتُ الْمُطْلَقَةُ لَا تُنَافِيهَا بَلْ يُحْمَلُ مُطْلَقُهَا عَلَى هَذِهِ الْمُقَيَّدَةِ، وَالَّذِينَ قَالُوا بِوُجُوبِ الْجَمَاعَةِ عَلَى الْكِفَايَةِ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ الْحَرَجَ لَا يَسْقُطُ بِإِقَامَةِ الْجَمَاعَةِ فِي الْبُيُوتِ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي فَرْضِ الْعَيْنِ، وَوَجَّهُوهُ بِأَنَّ أَصْلَ الْمَشْرُوعِيَّةِ إِنَّمَا كَانَ فِي جَمَاعَةِ الْمَسَاجِدِ، وَهُوَ وَصْفٌ مُعْتَبَرٌ لَا يَنْبَغِي إِلْغَاؤُهُ فَيَخْتَصُّ بِهِ الْمَسْجِدُ، وَيَلْحَقُ بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ إِظْهَارُ الشِّعَارِ.
قَوْلُهُ: (لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ) أَيْ قَصْدُ الصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ، وَاللَّامُ فِيهَا لِلْعَهْدِ لِمَا بَيَّنَّاهُ.
قَوْلُهُ: (لَمْ يَخْطُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ الطَّاءِ. وَقَوْلُهُ: (خُطْوَةً) ضَبَطْنَاهُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَيَجُوزُ الْفَتْحُ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْخُطْوَةُ بِالضَّمِّ مَا بَيْنَ الْقَدَمَيْنِ، وَبِالْفَتْحِ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ، وَجَزَمَ الْيَعْمُرِيُّ أَنَّهَا هُنَا بِالْفَتْحِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّهَا فِي رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ بِالضَّمِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (فَإِذَا صَلَّى) قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: أَيْ صَلَّى صَلَاةً تَامَّةً، لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلْمُسِيءِ صَلَاتَهُ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ.
قَوْلُهُ: (فِي مُصَلَّاهُ) أَيْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَوْقَعَ فِيهِ الصَّلَاةَ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَكَأَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، وَإِلَّا فَلَوْ قَامَ إِلَى بُقْعَةٍ أُخْرَى مِنَ الْمَسْجِدِ مُسْتَمِرًّا عَلَى نِيَّةِ انْتِظَارِ الصَّلَاةِ كَانَ كَذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ) أَيْ قَائِلِينَ ذَلِكَ، زَادَ ابْنُ مَاجَهْ اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ وَفِي الطَّرِيقِ الْمَاضِيَةِ فِي بَابِ مَسْجِدِ السُّوقِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأَعْمَالِ لِمَا ذُكِرَ مِنْ صَلَاةِ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِ وَدُعَائِهِمْ لَهُ بِالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ وَالتَّوْبَةِ، وَعَلَى تَفْضِيلِ صَالِحِي النَّاسِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي تَحْصِيلِ الدَّرَجَاتِ بِعِبَادَتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ مَشْغُولُونَ بِالِاسْتِغْفَارِ وَالدُّعَاءِ لَهُمْ. وَاسْتُدِلَّ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَى صَلَاتِهِ وَحْدَهُ يَقْتَضِي صِحَّةَ صَلَاتِهِ مُنْفَرِدًا لِاقْتِضَاءِ صِيغَةِ أَفْعَلَ الِاشْتِرَاكَ فِي أَصْلِ التَّفَاضُلِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي وُجُودَ فَضِيلَةٍ فِي صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ، وَمَا لَا يَصِحُّ لَا فَضِيلَةَ فِيهِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ: وَلَا يُقَالُ إِنَّ لَفْظَةَ أَفْعَلَ قَدْ تَرِدُ لِإِثْبَاتِ صِفَةِ الْفَضْلِ فِي إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَحْسَنُ مَقِيلًا لِأَنَّا نَقُولُ إِنَّمَا يَقَعُ ذَلِكَ عَلَى قِلَّةٍ حَيْثُ تَرِدُ صِيغَةُ أَفْعَلَ مُطْلَقَةً غَيْرَ مُقَيَّدَةٍ بِعَدَدٍ مُعَيَّنٍ، فَإِذَا قُلْنَا هَذَا الْعَدَدُ أَزْيَدَ مِنْ هَذَا بِكَذَا فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ أَصْلِ الْعَدَدِ، وَلَا يُقَالُ يُحْمَلُ الْمُنْفَرِدُ عَلَى الْمَعْذُورِ لِأَنَّ قَوْلَهُ صَلَاةُ الْفَذِّ صِيغَةُ عُمُومٍ فَيَشْمَلُ مَنْ صَلَّى مُنْفَرِدًا بِعُذْرٍ وَبِغَيْرِ عُذْرٍ، فَحَمْلُهُ عَلَى الْمَعْذُورِ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ. وَأَيْضًا فَفَضْلُ الْجَمَاعَةِ حَاصِلٌ لِلْمَعْذُورِ لِمَا سَيَأْتِي فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا: إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مَا كَانَ يَعْمَلُ صَحِيحًا مُقِيمًا.
وَأَشَارَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إِلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ حَمَلَهُ عَلَى صَلَاةِ النَّافِلَةِ، ثُمَّ رَدَّهُ بِحَدِيثِ: أَفْضَلُ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ. وَاسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى تَسَاوِي الْجَمَاعَاتِ فِي الْفَضْلِ سَوَاءٌ كَثُرَتِ الْجَمَاعَةُ أَمْ قَلَّتْ، لِأَنَّ الْحَدِيثَ دَلَّ عَلَى فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ عَلَى الْمُنْفَرِدِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ جَمَاعَةٍ، كَذَا قَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَوَّاهُ بِمَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عن إِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ قَالَ: إِذَا صَلَّى الرَّجُلُ مَعَ الرَّجُلِ فَهُمَا جَمَاعَةٌ لَهُمُ التَّضْعِيفُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ. انْتَهَى. وَهُوَ مُسَلَّمٌ فِي أَصْلِ الْحُصُولِ، لَكِنَّهُ لَا يَنْفِي مَزِيدَ الْفَضْلِ لِمَا كَانَ أَكْثَرَ، لَا سِيَّمَا مَعَ وُجُودِ النَّصِّ الْمُصَرِّحِ بِهِ وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مَرْفُوعًا: صَلَاةُ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ وَحْدَهُ، وَصَلَاتُهُ مَعَ الرَّجُلَيْنِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ مَعَ الرَّجُلِ، وَمَا كَثُرَ فَهُوَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ، وَلَهُ شَاهِدٌ قَوِيٌّ فِي الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ قَبَاثِ بْنِ أَشْيَمَ وَهُوَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ مُثَلَّثَةٌ، وَأَبُوهُ بِالْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ بِوَزْنِ أَحْمَرَ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ أَنَّ مَنْ قَالَ بِالتَّفَاوُتِ اسْتَحَبَّ إِعَادَةَ الْجَمَاعَةِ مُطْلَقًا لِتَحْصِيلِ الْأَكْثَرِيَّةِ، وَلَمْ يَسْتَحِبَّ ذَلِكَ الْآخَرُونَ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ فَقَالَ: تُعَادُ مَعَ الْأَعْلَمِ أَوِ الْأَوْرَعِ أَوْ فِي الْبُقْعَةِ الْفَاضِلَةِ، وَوَافَقَ مَالِكٌ عَلَى الْأَخِيرِ لَكِنْ قَصَرَهُ عَلَى الْمَسَاجِدِ
الثَّلَاثَةِ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ بِالْمَسْجِدَيْنِ الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ.
وَكَمَا أَنَّ الْجَمَاعَةَ تَتَفَاوَتُ فِي الْفَضْلِ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ذُكِرَ كَذَلِكَ يَفُوقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ الْمُصَنِّفُ التَّرْجَمَةَ الْمُطْلَقَةَ فِي فَضْلِ الْجَمَاعَةِ بِالتَّرْجَمَةِ الْمُقَيَّدَةِ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ، وَاسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمَاعَةِ إِمَامٌ وَمَأْمُومٌ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
31 - بَاب فَضْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ فِي جَمَاعَةٍ
648 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: تَفْضُلُ صَلَاةُ الْجَمِيعِ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ وَحْدَهُ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا، وَتَجْتَمِعُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} .
649 -
قال شُعَيْبٌ: وَحَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: تَفْضُلُهَا بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً.
650 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ سَمِعْتُ سَالِمًا قَالَ سَمِعْتُ أُمَّ الدَّرْدَاءِ تَقُولُ دَخَلَ عَلَيَّ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَهُوَ مُغْضَبٌ فَقُلْتُ مَا أَغْضَبَكَ فَقَالَ وَاللَّهِ مَا أَعْرِفُ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا إِلاَّ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ جَمِيعًا
651 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَعْظَمُ النَّاسِ أَجْرًا فِي الصَّلَاةِ أَبْعَدُهُمْ فَأَبْعَدُهُمْ مَمْشًى وَالَّذِي يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ حَتَّى يُصَلِّيَهَا مَعَ الإِمَامِ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الَّذِي يُصَلِّي ثُمَّ يَنَامُ"
قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ فِي جَمَاعَةٍ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ أَخَصُّ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا، وَمُنَاسَبَةُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَهَا مِنْ قَوْلِهِ وَتَجْتَمِعُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مَزِيَّةٍ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ عَلَى غَيْرِهَا. وَزَعَمَ ابْنُ بَطَّالٍ أَنَّ فِي قَوْلِهِ وَتَجْتَمِعُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الدَّرَجَتَيْنِ الزَّائِدَتَيْنِ عَلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ تُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ، وَلِهَذَا عَقَّبَهُ بِرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ الَّتِي فِيهَا بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الِاجْتِمَاعِ الْمَذْكُورِ فِي بَابِ فَضْلِ صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنَ الْمَوَاقِيتِ.
قَوْلُهُ: (بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا) كَذَا فِي النُّسَخِ الَّتِي وَقَفْتُ عَلَيْهَا، وَنَقَلَ الزَّرْكَشِيُّ فِي نُكَتِهِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي الصَّحِيحَيْنِ خَمْسٍ بِحَذْفِ الْمُوَحَّدَةِ مِنْ أَوَّلِهِ وَالْهَاءِ مِنْ آخِرِهِ، قَالَ: وَخَفْضُ خَمْسٍ عَلَى تَقْدِيرِ الْبَاءِ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ
أَشَارَتْ كُلَيْبٍ بِالْأَكُفِّ الْأَصَابِعُ
أَيْ إِلَى كُلَيْبٍ. وَأَمَّا حَذْفُ الْهَاءِ فَعَلَى تَأْوِيلِ الْجُزْءِ بِالدَّرَجَةِ. انْتَهَى. وَقَدْ أَوْرَدَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ فَضْلُ صَلَاةِ الْجَمِيعِ عَلَى صَلَاةِ الْوَاحِدِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ دَرَجَةً.
قَوْلُهُ: (قَالَ شُعَيْبٌ وَحَدَّثَنِي نَافِعٌ) أَيْ بِالْحَدِيثِ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ عَنْ نَافِعٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَطَرِيقُ شُعَيْبٍ هَذِهِ مَوْصُولَةٌ، وَجَوَّزَ الْكِرْمَانِيُّ أَنْ تَكُونَ مُعَلَّقَةً وَهُوَ بَعِيدٌ، بَلْ هِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ، وَالتَّقْدِيرُ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ شُعَيْبٌ: وَنَظَائِرُ هَذَا
فِي الْكِتَابِ كَثِيرَةٌ، وَلَكِنْ لَمْ أَرَ طَرِيقَ شُعَيْبٍ هَذِهِ إِلَّا عِنْدَ الْمُصَنِّفِ، وَلَمْ يَسْتَخْرِجْهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَلَا أَبُو نُعَيْمٍ وَلَا أَوْرَدَهَا الطَّبَرَانِيُّ فِي مُسْنَدِ الشَّامِيِّينَ فِي تَرْجَمَةِ شُعَيْبٍ.
قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ سَالِمًا) هُوَ ابْنُ أَبِي الْجَعْدِ، وَأُمُّ الدَّرْدَاءِ هِيَ الصُّغْرَى التَّابِعِيَّةُ لَا الْكُبْرَى الصَّحَابِيَّةُ لِأَنَّ الْكُبْرَى مَاتَتْ فِي حَيَاةِ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَعَاشَتِ الصُّغْرَى بَعْدَهُ زَمَانًا طَوِيلًا. وَقَدْ جَزَمَ أَبُو حَاتِمٍ بِأَنَّ سَالِمَ بْنَ أَبِي الْجَعْدِ لَمْ يُدْرِكْ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَعَلَى هَذَا لَمْ يُدْرِكْ أُمَّ الدَّرْدَاءِ الْكُبْرَى. وَفَسَّرَهَا الْكِرْمَانِيُّ هُنَا بِصِفَاتِ الْكُبْرَى، وَهُوَ خَطَأٌ لِقَوْلِ سَالِمٍ: سَمِعْتُ أُمَّ الدَّرْدَاءِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ أَنَّ اسْمَ الصُّغْرَى هَجِيمَةُ، وَالْكُبْرَى خَيِّرَةُ.
قَوْلُهُ: (مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ) كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَكَرِيمَةَ، وَلِلْبَاقِينَ مِنْ مُحَمَّدٍ بِحَذْفِ الْمُضَافِ، وَعَلَيْهِ شَرَحَ ابْنُ بَطَّالٍ وَمَنْ تَبِعَهُ فَقَالَ: يُرِيدُ مِنْ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ شَيْئًا لَمْ يَتَغَيَّرْ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ إِلَّا الصَّلَاةَ فِي جَمَاعَةٍ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. انْتَهَى.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْوَقْتِ مِنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ بَعْدَهَا رَاءٌ، وَكَذَا سَاقَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي جَمْعِهِ، وَكَذَا هُوَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدٍ وَمُسْتَخْرَجَيِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَأَبِي نُعَيْمٍ مِنْ طُرُقٍ عَنِ الْأَعْمَشِ، وَعِنْدَهُمْ مَا أَعْرِفُ فِيهِمْ أَيْ فِي أَهْلِ الْبَلَدِ الَّذِي كَانَ فِيهِ، وَكَأَنَّ لَفْظَ فِيهِمْ لَمَّا حُذِفَ مِنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ صَحَّفَ بَعْضُ النَّقَلَةِ أَمْرَ بِأُمَّةٍ لِيَعُودَ الضَّمِيرُ فِي أَنَّهُمْ عَلَى الْأُمَّةِ.
قَوْلُهُ: (يُصَلُّونَ جَمِيعًا) أَيْ مُجْتَمِعِينَ، وَحُذِفَ الْمَفْعُولُ وَتَقْدِيرُهُ الصَّلَاةُ أَوِ الصَّلَوَاتُ، وَمُرَادُ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ أَعْمَالَ الْمَذْكُورِينَ حَصَلَ فِي جَمِيعهَا النَّقْصُ وَالتَّغْيِيرُ إِلَّا التَّجْمِيعَ فِي الصَّلَاةِ، وَهُوَ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ، لِأَنَّ حَالَ النَّاسِ فِي زَمَنِ النُّبُوَّةِ كَانَ أَتَمَّ مِمَّا صَارَ إِلَيْهِ بَعْدَهَا، ثُمَّ كَانَ فِي زَمَنِ الشَّيْخَيْنِ أَتَمَّ مِمَّا صَارَ إِلَيْهِ بَعْدَهُمَا، وَكَأَنَّ ذَلِكَ صَدَرَ مِنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي أَوَاخِرِ عُمُرِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ خِلَافَةِ عُثْمَانَ، فَيَا لَيْتَ شِعْرِي إِذَا كَانَ ذَلِكَ الْعَصْرُ الْفَاضِلُ بِالصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ عِنْدَ أَبِي الدَّرْدَاءِ، فَكَيْفَ بِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ مِنَ الطَّبَقَاتِ إِلَى هَذَا الزَّمَانِ؟ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ الْغَضَبِ عِنْدَ تَغَيُّرِ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَإِنْكَارِ الْمُنْكَرِ بِإِظْهَارِ الْغَضَبِ، إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَالْقَسَمُ عَلَى الْخَبَرِ لِتَأْكِيدِهِ فِي نَفْسِ السَّامِعِ.
قَوْلُهُ: (أَبْعَدَهُمْ فَأَبْعَدَهُمْ مَمْشًى) أَيْ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ بَابٍ وَاحِدٍ.
قَوْلُهُ: (مَعَ الْإِمَامِ) زَادَ مُسْلِمٌ فِي جَمَاعَةٍ وَبَيَّنَ أَنَّهَا رِوَايَةُ أَبِي كُرَيْبٍ - وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ - الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (مِنَ الَّذِي يُصَلِّي ثُمَّ يَنَامُ) أَيْ سَوَاءٌ صَلَّى وَحْدَهُ أَوْ فِي جَمَاعَةٍ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الْجَمَاعَةَ تَتَفَاوَتُ كَمَا تَقَدَّمَ.
(تَكْمِيلٌ): اسْتُشْكِلَ إِيرَادُ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى فِي هَذَا الْبَابِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ ذِكْرٌ، بَلْ آخِرُهُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ فِي الْعِشَاءِ. وَوَجَّهَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ وَغَيْرُهُ بِأَنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ السَّبَبَ فِي زِيَادَةِ الْأَجْرِ وُجُودُ الْمَشَقَّةِ بِالْمَشْيِ إِلَى الصَّلَاةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمَشْيُ إِلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ فِي جَمَاعَةٍ أَشَقُّ مِنْ غَيْرِهَا، لِأَنَّهَا وَإِنْ شَارَكَتْهَا الْعِشَاءُ فِي الْمَشْيِ فِي الظُّلْمَةِ، فَإِنَّهَا تَزِيدُ عَلَيْهَا بِمُفَارَقَةِ النَّوْمِ الْمُشْتَهَى طَبْعًا، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنَ الشُّرَّاحِ نَبَّهَ عَلَى مُنَاسَبَةِ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ لِلتَّرْجَمَةِ إِلَّا الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ، فَإِنَّهُ قَالَ: تَدْخُلُ صَلَاةُ الْفَجْرِ فِي قَوْلِهِ يُصَلُّونَ جَمِيعًا وَهِيَ أَخَصُّ بِذَلِكَ مِنْ بَاقِي الصَّلَوَاتِ.
وَذَكَرَ ابْنُ رَشِيدٍ نَحْوَهُ وَزَادَ أَنَّ اسْتِشْهَادَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الِاهْتِمَامَ بِهَا آكَدٌ. وَأَقُولُ: تَفَنَّنَ الْمُصَنِّفُ بِإِيرَادِ الْأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ فِي الْبَابِ، إِذْ تُؤْخَذُ الْمُنَاسَبَةُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِطَرِيقِ الْخُصُوصِ، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَفْظُ التَّرْجَمَةِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ فَضْلُ الْفَجْرِ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ ثُبُوتُ الْفَضْلِ لَهَا فِي الْجُمْلَةِ، فَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ شَاهِدٌ لِلْأَوَّلِ، وَحَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ شَاهِدٌ لِلثَّانِي، وَحَدِيثُ أَبِي مُوسَى شَاهِدٌ لَهُمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
32 - بَاب فَضْلِ التَّهْجِيرِ إِلَى الظُّهْرِ
652 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ، وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ، فَأَخَّرَهُ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ.
[الحديث 652 - طرفه في: 2472]
653 -
ثُمَّ قَالَ الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ: الْمَطْعُونُ وَالْمَبْطُونُ وَالْغَرِيقُ وَصَاحِبُ الْهَدْمِ وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالَ لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا لَاسْتَهَمُوا عَلَيْهِ"
[الحديث 655 - طرفاه في: 1887، 656]
654 -
وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا.
قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ التَّهْجِيرِ إِلَى الظُّهْرِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَعَلَيْهِ شَرْحُ ابْنِ التِّينِ وَغَيْرِهُ، وَفِي بَعْضِهَا إِلَى الصَّلَاةِ وَعَلَيْهِ شَرْحُ ابْنُ بَطَّالٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابِ الِاسْتِهَامِ فِي الْأَذَانِ.
قَوْلُهُ: (بَيْنَمَا رَجُلٌ) فِي هَذَا الْمَتْنِ ثَلَاثَةُ أَحَادِيثَ: قِصَّةُ الَّذِي نَحَّى غُصْنَ الشَّوْكِ، وَالشُّهَدَاءُ، وَالتَّرْغِيبُ فِي النِّدَاءِ وَغَيْرِهِ مِمَّا ذُكِرَ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ ذِكْرُ التَّهْجِيرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ الثَّالِثُ مُفْرَدًا فِي بَابِ الِاسْتِهَامِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ مَالِكٍ، وَيَأْتِي الثَّانِي فِي الْجِهَادِ عَنْهُ أَيْضًا، وَالْأَوَّلُ فِي الْمَظَالِمِ كَذَلِكَ، وَتَكَلَّمْنَا عَلَى شَرْحِهِ هُنَاكَ، وَكَانَ قُتَيْبَةُ حَدَّثَ بِهِ عَنْ مَالِكٍ هَكَذَا مَجْمُوعًا فَلَمْ يَتَصَرَّفْ فِيهِ الْمُصَنِّفُ كَعَادَتِهِ فِي الِاخْتِصَارِ، وَتَكَلَّفَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ إِبْدَاءَ مُنَاسَبَةٍ لِلْأَوَّلِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الطَّاعَةَ وَإِنْ قَلَّتْ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُتْرَكَ، وَاعْتَرَفَ بِعَدَمِ مُنَاسَبَةِ الثَّانِي.
قَوْلُهُ: (فَأَخَذَهُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَأَخَّرَهُ.
قَوْلُهُ: (فَشَكَرَ اللَّهَ لَهُ) أَيْ رَضِيَ بِفِعْلِهِ، وَقَبِلَ مِنْهُ، وَفِيهِ فَضْلُ إِمَاطَةِ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ أَنَّهَا أَدْنَى شُعَبِ الْإِيمَانِ.
قَوْلُهُ: (الشُّهَدَاءُ خَمْسٌ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْحَمَوِيِّ، وَلِلْبَاقِينَ خَمْسَةٌ وَهُوَ الْأَصْلُ فِي الْمُذَكَّرِ، وَجَازَ الْأَوَّلُ لِأَنَّ الْمُمَيِّزَ غَيْرُ مَذْكُورٍ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى مَبَاحِثِهِ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
33 - بَاب احْتِسَابِ الْآثَارِ
655 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوْشَبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسِ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَا بَنِي سَلِمَةَ أَلَا تَحْتَسِبُونَ آثَارَكُمْ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ:{وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} قَالَ: خُطَاهُمْ.
[الحديث 655 - طرفاه في 656، 1887]
656 -
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ عن أَنَسٌ: أَنَّ بَنِي سَلِمَةَ أَرَادُوا أَنْ يَتَحَوَّلُوا عَنْ مَنَازِلِهِمْ فَيَنْزِلُوا قَرِيبًا مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعْرُوا الْمَدِينَةَ، فَقَالَ: أَلَا تَحْتَسِبُونَ آثَارَكُمْ، قَالَ مُجَاهِدٌ: خُطَاهُمْ آثَارُهُمْ، أَنْ يُمْشَى فِي الْأَرْضِ بِأَرْجُلِهِمْ.
قَوْلُهُ: (بَابُ احْتِسَابِ الْآثَارِ) أَيْ إِلَى الصَّلَاةِ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يُقَيِّدْهَا لِتَشْمَلَ كُلَّ مَشْيٍ إِلَى كُلِّ طَاعَةٍ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ) هُوَ الثَّقَفِيُّ.
قَوْلُهُ: (يَا بَنِي سَلِمَةَ) بِكَسْرِ اللَّامِ وَهُمْ بَطْنٌ كَبِيرٌ مِنَ الْأَنْصَارِ ثُمَّ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَقَدْ غَفَلَ الْقَزَّازُ وَتَبِعَهُ الْجَوْهَرِيُّ حَيْثُ قَالَ: لَيْسَ فِي الْعَرَبِ سَلِمَةٌ بِكَسْرِ اللَّامِ غَيْرَ هَذَا الْقَبِيلِ، فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ الَّذِينَ صَنَّفُوا فِي الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ ذَكَرُوا عَدَدًا مِنَ الْأَسْمَاءِ كَذَلِكَ، لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِقَيْدِ الْقَبِيلَةِ أَوِ الْبَطْنِ فَلَهُ بَعْضُ اتِّجَاهٍ.
قَوْلُهُ: (أَلَا تَحْتَسِبُونَ) كَذَا فِي النُّسَخِ الَّتِي وَقَفْنَا عَلَيْهَا بِإِثْبَاتِ النُّونِ، وَشَرَحَهُ الْكِرْمَانِيُّ بِحَذْفِهَا، وَوَجَّهَهُ بِأَنَّ النُّحَاةَ أَجَازُوا ذَلِكَ - يَعْنِي تَخْفِيفًا - قَالَ: وَالْمَعْنَى: أَلَا تَعُدُّونَ خُطَاكُمْ عِنْدَ مَشْيِكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ؟ فَإِنَّ لِكُلِّ خُطْوَةٍ ثَوَابًا اهـ.
وَالِاحْتِسَابُ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ الْعَدُّ لَكِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ غَالِبًا فِي مَعْنَى طَلَبِ تَحْصِيلِ الثَّوَابِ بِنِيَّةٍ خَالِصَةٍ.
قَوْلُهُ: (وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَحْدَهُ، وَفِي رِوَايَةِ الْبَاقِينَ وَقَالَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ وَذَكَرَهُ صَاحِبُ الْأَطْرَافِ بِلَفْظِ وَزَادَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ بِلَا رِوَايَةٍ يَعْنِي مُعَلَّقًا، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَلَهُ نَظَائِرُ فِي الْكِتَابِ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى شَرْطِهِ فِي الْأُصُولِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَنَسٍ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَحْدَهُ أَيْضًا وَلِلْبَاقِينَ حَدَّثَنَا أَنَسٌ وَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو نُعَيْمٍ أَيْضًا، وَكَذَا سَمِعْنَاهُ فِي الْأَوَّلِ مِنْ فَوَائِدِ الْمُخْلِصِ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مَرْيَمَ وَلَفْظُهُ سَمِعْتُ أَنَسًا، وَهَذَا هُوَ السِّرُّ فِي إِيرَادِ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ عَقِبَ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَهَّابِ لِيُبَيِّنَ الْأَمْنَ مِنْ تَدْلِيسِ حُمَيْدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي بَابِ وَقْتِ الْعِشَاءِ وَقَدْ أَخْرَجَهُ فِي الْحَجِّ مِنْ طَرِيقِ مَرْوَانَ الْفَزَارِيِّ، عَنْ حُمَيْدٍ وَسَاقَ الْمَتْنَ كَامِلًا.
قَوْلُهُ: (فَيَنْزِلُوا قَرِيبًا) يَعْنِي لِأَنَّ دِيَارَهُمْ كَانَتْ بَعِيدَةً مِنَ الْمَسْجِدِ، وَقَدْ صُرِّحَ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: كَانَتْ دِيَارُنَا بَعِيدَةً مِنَ الْمَسْجِدِ، فَأَرَدْنَا أَنْ نَبْتَاعَ بُيُوتًا فَنَقْرُبُ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَنَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: إِنَّ لَكُمْ بِكُلِّ خُطْوَةٍ دَرَجَةً، وَلِلسَّرَّاجِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ جَابِرٍ: أَرَادُوا أَنْ يَقْرُبُوا مِنْ أَجْلِ الصَّلَاةِ. وَلِابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْهُ قَالَ كَانَتْ مَنَازِلُنَا بِسَلْعٍ، وَلَا يُعَارِضُ هَذَا مَا سَيَأْتِي فِي الِاسْتِسْقَاءِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ دَارٍ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ دِيَارُهُمْ كَانَتْ مِنْ وَرَاءِ سَلْعٍ، وَبَيْنَ سَلْعٍ وَالْمَسْجِدِ قَدْرُ مِيلٍ.
قَوْلُهُ: (أَنْ يَعْرُوا الْمَدِينَةَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: أَنْ يُعْرُوا مَنَازِلَهُمْ وَهُوَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ الرَّاءِ أَيْ يَتْرُكُونَهَا خَالِيَةً، يُقَالُ أَعْرَاهُ إِذَا أَخْلَاهُ، وَالْعَرَاءُ الْأَرْضُ الْخَالِيَةُ وَقِيلَ الْوَاسِعَةُ وَقِيلَ الْمَكَانُ الَّذِي لَا يُسْتَتَرُ فِيهِ بِشَيْءٍ. وَنَبَّهَ بِهَذِهِ الْكَرَاهَةِ عَلَى السَّبَبِ فِي مَنْعِهِمْ مِنَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَسْجِدِ لِتَبْقَى جِهَاتُ الْمَدِينَةِ عَامِرَةً بِسَاكِنِهَا، وَاسْتَفَادُوا بِذَلِكَ كَثْرَةَ الْأَجْرِ لِكَثْرَةِ الْخُطَا فِي الْمَشْيِ إِلَى الْمَسْجِدِ.
وَزَادَ فِي رِوَايَةِ الْفَزَارِيِّ الَّتِي فِي الْحَجِّ: فَأَقَامُوا وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ الْمُخْلِصِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: فَلَمْ يَنْتَقِلُوا وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ جَابِرٍ: فَقَالُوا مَا يَسُرُّنَا أَنَّا كُنَّا تَحَوَّلْنَا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ خُطَاهُمْ آثَارُهُمْ وَالْمَشْيُ فِي الْأَرْضِ بِأَرْجُلِهِمْ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ ولِلْبَاقِينَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ:{وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} قَالَ: خُطَاهُمْ. وَكَذَا وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} قَالَ: أَعْمَالُهُمْ، وَفِي قَوْلِهِ:{وَآثَارَهُمْ} قَالَ: خُطَاهُمْ. وَأَشَارَ الْبُخَارِيُّ بِهَذَا التَّعْلِيقِ إِلَى أَنَّ قِصَّةَ بَنِي سَلِمَةَ كَانَتْ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَدْ وَرَدَ مُصَرَّحًا بِهِ مِنْ طَرِيقِ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ وَإِسْنَادُهُ قَوِيٌّ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ أَعْمَالَ الْبِرِّ إِذَا كَانَتْ خَالِصَةً تُكْتَبُ آثَارُهَا حَسَنَاتٍ. وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ السُّكْنَى بِقُرْبِ الْمَسْجِدِ إِلَّا لِمَنْ حَصَلَتْ بِهِ مَنْفَعَةٌ أُخْرَى أَوْ أَرَادَ تَكْثِيرَ الْأَجْرِ بِكَثْرَةِ الْمَشْيِ مَا لَمْ يَحْمِلْ
عَلَى نَفْسِهِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُمْ طَلَبُوا السُّكْنَى بِقُرْبِ الْمَسْجِدِ لِلْفَضْلِ الَّذِي عَلِمُوهُ مِنْهُ، فَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ، بَلْ رَجَّحَ دَرْءَ الْمَفْسَدَةِ بِإِخْلَائِهِمْ جَوَانِبَ الْمَدِينَةِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَأَعْلَمَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ فِي التَّرَدُّدِ إِلَى الْمَسْجِدِ مِنَ الْفَضْلِ مَا يَقُومُ مَقَامَ السُّكْنَى بِقُرْبِ الْمَسْجِدِ أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهِ.
وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ كَانَتْ دَارُهُ قَرِيبَةً مِنَ الْمَسْجِدِ فَقَارَبَ الْخُطَا بِحَيْثُ تُسَاوِي خُطًا مِنْ دَارِهِ بَعِيدَةً هَلْ يُسَاوِيهِ فِي الْفَضْلِ أَوْ لَا؟ وَإِلَى الْمُسَاوَاةِ جَنَحَ الطَّبَرِيُّ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ قَالَ: مَشَيْتُ مَعَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ إِلَى الْمَسْجِدِ فَقَارَبَ بَيْنَ الْخُطَا وَقَالَ: أَرَدْتُ أَنْ تَكْثُرَ خُطَانَا إِلَى الْمَسْجِدِ وَهَذَا لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْمُسَاوَاةُ فِي الْفَضْلِ وَإِنْ دَلَّ عَلَى أَنَّ فِي كَثْرَةِ الْخَطَّا فَضِيلَةً، لِأَنَّ ثَوَابَ الْخُطَا الشَّاقَّةِ لَيْسَ كَثَوَابِ الْخُطَا السَّهْلَةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْمَاضِي قَبْلَ بَابٍ حَيْثُ جَعَلَ أَبْعَدَهُمْ مَمْشًى أَعْظَمَهُمْ أَجْرًا، وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ بَعْضُهُمُ اسْتِحْبَابَ قَصْدِ الْمَسْجِدِ الْبَعِيدِ وَلَوْ كَانَ بِجَنْبِهِ مَسْجِدٌ قَرِيبٌ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَهَابِهِ إِلَى الْبَعِيدِ هَجْرُ الْقَرِيبِ وَإِلَّا فَإِحْيَاؤُهُ بِذِكْرِ اللَّهِ أَوْلَى، وَكَذَا إِذَا كَانَ فِي الْبَعِيدِ مَانِعٌ مِنَ الْكَمَالِ كَأَنْ يَكُونَ إِمَامُهُ مُبْتَدِعًا.
34 - بَاب فَضْلِ الْعِشَاءِ فِي الْجَمَاعَةِ
657 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ صَلَاةٌ أَثْقَلَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ مِنْ الْفَجْرِ وَالْعِشَاءِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا، لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ الْمُؤَذِّنَ فَيُقِيمَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا يَؤُمُّ النَّاسَ، ثُمَّ آخُذَ شُعَلًا مِنْ نَارٍ فَأُحَرِّقَ عَلَى مَنْ لَا يَخْرُجُ إِلَى الصَّلَاةِ بَعْدُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ فِي الْجَمَاعَةِ) أَوْرَدَ فِيهِ الْحَدِيثَ الدَّالَّ عَلَى فَضْلِ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ التَّرْجَمَةِ إِثْبَاتُ فَضْلِ الْعِشَاءِ فِي الْجُمْلَةِ أَوْ إِثْبَاتُ أَفْضَلِيَّتِهَا عَلَى غَيْرِهَا، وَالظَّاهِرُ الثَّانِي، وَوَجْهُهُ أَنَّ صَلَاةَ الْفَجْرِ ثَبَتَتْ أَفْضَلِيَّتُهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَسَوَّى فِي هَذَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ، وَمُسَاوِي الْأَفْضَلِ يَكُونُ أَفْضَلَ جَزْمًا.
قَوْلُهُ: (لَيْسَ أَثْقَلَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِحَذْفِ الِاسْمِ، وَبَيَّنَهُ الْكُشْمِيهَنِيُّ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَكَرِيمَةَ عَنْهُ فَقَالَ لَيْسَ صَلَاةٌ أَثْقَلَ وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ كُلَّهَا ثَقِيلَةٌ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى} وَإِنَّمَا كَانَتِ الْعِشَاءُ وَالْفَجْرُ أَثْقَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِهِمَا لِقُوَّةِ الدَّاعِي إِلَى تَرْكِهِمَا، لِأَنَّ الْعِشَاءَ وَقْتُ السُّكُونِ وَالرَّاحَةِ وَالصُّبْحُ وَقْتُ لَذَّةِ النَّوْمِ. وَقِيلَ: وَجْهُهُ كَوْنُ الْمُؤْمِنِينَ يَفُوزُونَ بِمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِمَا مِنَ الْفَضْلِ لِقِيَامِهِمْ بِحَقِّهِمَا دُونَ الْمُنَافِقِينَ.
قَوْلُهُ: (وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا) أَيْ مِنْ مَزِيدِ الْفَضْلِ (لَأَتَوْهُمَا) أَيِ الصَّلَاتَيْنِ، وَالْمُرَادُ لَأَتَوْا إِلَى الْمَحَلِّ الَّذِي يُصَلَّيَانِ فِيهِ جَمَاعَةً وَهُوَ الْمَسْجِدُ.
قَوْلُهُ: (وَلَوْ حَبْوًا) أَيْ يَزْحَفُونَ إِذَا مَنَعَهُمْ مَانِعٌ مِنَ الْمَشْيِ كَمَا يَزْحَفُ الصَّغِيرُ، وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَلَوْ حَبْوًا عَلَى الْمَرَافِقِ وَالرُّكَبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بَاقِي الْحَدِيثِ فِي بَابِ وُجُوبِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ.
قَوْلُهُ فِي آخِرِهِ (عَلَى مَنْ لَا يَخْرُجُ إِلَى الصَّلَاةِ بَعْدُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِلَفْظِ بَعْدُ ضِدِّ قَبْلُ، وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الضَّمِّ، وَمَعْنَاهُ بَعْدَ أَنْ يَسْمَعَ النِّدَاءَ إِلَيْهَا أَوْ بَعْدَ أَنْ يَبْلُغَهُ التَّهْدِيدُ الْمَذْكُورُ، وَلِلكُشْمِيهَنِيِّ بَدَلَهَا يَقْدِرُ أَيْ لَا يَخْرُجُ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى الْمَجِيءِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ وَلَيْسَتْ بِهِمْ عِلَّةٌ وَوَقَعَ عِنْدَ الدَّاوُدِيِّ لِلشَّارِحِ هُنَا لَا لِعُذْرٍ وَهِيَ أَوْضَحُ مِنْ غَيْرِهَا لَكِنْ لَمْ نَقِفْ عَلَيْهَا فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ عِنْدَ غَيْرِهِ.
35 - بَاب اثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ
658 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَأَذِّنَا، وَأَقِيمَا، ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا.
قَوْلُهُ: (بَابُ اثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ لَفْظُ حَدِيثٍ وَرَدَ من طُرُقٍ ضَعِيفَةٍ، مِنْهَا فِي ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَفِي مُعْجَمِ الْبَغَوِيِّ مِنْ حَدِيثِ الْحَكَمِ بْنِ عُمَيْرٍ وَفِي أَفْرَادِ الدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَفِي الْبَيْهَقِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَفِي الْأَوْسَطِ لِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ، وَعِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ أَيْضًا: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي وَحْدَهُ، فَقَالَ: أَلَا رَجُلٌ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا فَيُصَلِّيَ مَعَهُ؟ فَقَامَ رَجُلٌ فَصَلَّى مَعَهُ، فَقَالَ: هَذَانِ جَمَاعَةٌ، وَالْقِصَّةُ الْمَذْكُورَةُ دُونَ قَوْلِهِ هَذَانِ جَمَاعَةٌ أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ صَحِيحٍ.
قَوْلُهُ: (إِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ) تَقَدَّمَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فِي بَابِ الْأَذَانِ لِلْمُسَافِرِ وَأَوَّلُهُ أَتَى رَجُلَانِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُرِيدَانِ السَّفَرَ فَقَالَ لَهُمَا فَذَكَرَهُ. وَقَدِ اعْتُرِضَ عَلَى التَّرْجَمَةِ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ تَسْمِيَةُ صَلَاةِ الِاثْنَيْنِ جَمَاعَةً، وَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ مَأْخُوذٌ بِالِاسْتِنْبَاطِ مِنْ لَازِمِ الْأَمْرِ بِالْإِمَامَةِ، لِأَنَّهُ لَوِ اسْتَوَتْ صَلَاتُهُمَا مَعًا مَعَ صَلَاتِهِمَا مُنْفَرِدَيْنِ، لَاكْتَفَى بِأَمْرِهِمَا بِالصَّلَاةِ، كَأَنْ يَقُولَ: أَذِّنَا وَأَقِيمَا وَصَلِّيَا. وَاعْتُرِضَ أَيْضًا عَلَى أَصْلِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّ مَالِكَ بْنِ الْحُوَيْرِثِ كَانَ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَعَلَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى التَّثْنِيَةِ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُمَا قَضِيَّتَانِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمَاعَةِ إِمَامٌ وَمَأْمُومٌ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُومُ رَجُلًا أَوْ صَبِيًّا أَوِ امْرَأَةً. وَتَكَلَّمَ ابْنُ بَطَّالٍ هُنَا عَلَى مَسْأَلَةِ أَقَلِّ الْجَمْعِ وَالِاخْتِلَافِ فِيهَا، وَرَدَّهُ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِهِ الِاثْنَانِ جَمَاعَةٌ أَنْ يَكُونَ أَقَلُّ الْجَمْعِ اثْنَيْنِ وَهُوَ وَاضِحٌ.
36 - بَاب مَنْ جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ وَفَضْلِ الْمَسَاجِدِ
659 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ، مَا لَمْ يُحْدِثْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، لَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا دَامَتْ الصَّلَاةُ تَحْبِسُهُ لَا يَمْنَعُهُ أَنْ يَنْقَلِبَ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا الصَّلَاةُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ) أَيْ لِيُصَلِّيَهَا جَمَاعَةً.
قَوْلُهُ: (تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ) أَيْ تَسْتَغْفِرُ لَهُ، قِيلَ عَبَّرَ بِتُصَلِّي لِيَتَنَاسَبَ الْجَزَاءُ وَالْعَمَلُ.
قَوْلُهُ: (مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ) أَيْ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الطَّهَارَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.
قَوْلُهُ: (لَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ إِلَخْ) هَذَا الْقَدْرُ أَفْرَدَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَمَّا قَبْلَهُ، وَأَكْثَرُ الرُّوَاةِ ضَمُّوهُ إِلَى الْأَوَّلِ، فَجَعَلُوهُ حَدِيثًا وَاحِدًا، وَلَا حَجْرَ فِي ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (فِي صَلَاةٍ) أَيْ فِي ثَوَابِ صَلَاةٍ لَا فِي حُكْمِهَا، لِأَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ الْكَلَامُ وَغَيْرُهُ مِمَّا مُنِعَ فِي الصَّلَاةِ.
قَوْلُهُ: (مَا دَامَتْ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مَا كَانَتْ وَهُوَ عَكْسُ مَا مَضَى فِي الطَّهَارَةِ.
قَوْلُهُ: (لَا يَمْنَعُهُ) يَقْتَضِي أَنَّهُ إِذَا صَرَفَ نِيَّتَهُ عَنْ ذَلِكَ صَارِفٌ آخَرُ انْقَطَعَ عَنْهُ الثَّوَابُ الْمَذْكُورُ، وَكَذَلِكَ إِذَا شَارَكَ نِيَّةَ الِانْتِظَارِ أَمْرٌ آخَرُ، وَهَلْ يَحْصُلُ ذَلِكَ لِمَنْ نِيَّتُهُ إِيقَاعُ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ؟ الظَّاهِرُ خِلَافُهُ، لِأَنَّهُ رَتَّبَ
الثَّوَابَ الْمَذْكُورَ عَلَى الْمَجْمُوعِ مِنَ النِّيَّةِ وَشَغْلِ الْبُقْعَةِ بِالْعِبَادَةِ، لَكِنْ لِلْمَذْكُورِ ثَوَابٌ يَخُصُّهُ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي إِيرَادِ الْمُصَنِّفِ الْحَدِيثَ الَّذِي يَلِيهِ وَفِيهِ: وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الطَّهَارَةِ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ مَا لَمْ يُحْدِثْ وَفِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى مَا هُنَا، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدَثِ حَدَثُ الْفَرْجِ، لَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ اجْتِنَابَ حَدَثِ الْيَدِ وَاللِّسَانِ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى، لِأَنَّ الْأَذَى مِنْهُمَا يَكُونُ أَشَدَّ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ بَطَّالٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بَاقِي فَوَائِدِهِ فِي بَابِ فَضْلِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَيُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ فِي مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِمَنْ صَلَّى ثُمَّ انْتَظَرَ صَلَاةً أُخْرَى، وَبِتَقْيِيدِ الصَّلَاةِ الْأُولَى بِكَوْنِهَا مُجْزِئَةً، أَمَّا لَوْ كَانَ فِيهَا نَقْصٌ فَإِنَّهَا تُجْبَرُ بِالنَّافِلَةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الْخَبَرِ الْآخَرِ.
قَوْلُهُ: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ) هُوَ مُطَابِقٌ لِقولِهِ تَعَالَى: {وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} قِيلَ: السِّرُّ فِيهِ أَنَّهُمْ يَطَّلِعُونَ عَلَى أَفْعَالِ بَنِي آدَمَ وَمَا فِيهَا مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَالْخَلَلِ فِي الطَّاعَةِ فَيَقْتَصِرُونَ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ دَفْعَ الْمَفْسَدَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ الْمَصْلَحَةِ، وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ تَحَفَّظَ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُعَوَّضُ مِنَ الْمَغْفِرَةِ بِمَا يُقَابِلُهَا مِنَ الثَّوَابِ.
660 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ بُنْدَارٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: الْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ، أَخْفَى حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ.
[الحديث 660 - أطرافه في: 6806، 6479، 1423]
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) هُوَ الْقَطَّانُ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ، وَخُبَيْبٌ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ خَالُ عُبَيْدِ اللَّهِ الرَّاوِي عَنْهُ، وَحَفْصُ بْنُ عَاصِمٍ هُوَ ابْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَهُوَ جَدُّ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَذْكُورِ لِأَبِيهِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) لَمْ تَخْتَلِفِ الرُّوَاةُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ، وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ خُبَيْبٍ فَقَالَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى الشَّكِّ، وَرَوَاهُ أَبُو قُرَّةَ، عَنْ مَالِكٍ بِوَاوِ الْعَطْفِ فَجَعَلَهُ عَنْهُمَا، وَتَابَعَهُ مُصْعَبٌ الزُّبَيْرِيُّ، وَشَذَّا فِي ذَلِكَ عَنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ حَفِظَهُ لِكَوْنِهِ لَمْ يَشُكَّ فِيهِ وَلِكَوْنِهِ مِنْ رِوَايَةِ خَالِهِ وَجَدِّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (سَبْعَةٌ) ظَاهِرُهُ اخْتِصَاصُ الْمَذْكُورِينَ بِالثَّوَابِ الْمَذْكُورِ، وَوَجَّهَهُ الْكِرْمَانِيُّ بِمَا مُحَصِّلُهُ أَنَّ الطَّاعَةَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الرَّبِّ أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَلْقِ، فَالْأَوَّلُ بِاللِّسَانِ وَهُوَ الذِّكْرُ، أَوْ بِالْقَلْبِ وَهُوَ الْمُعَلَّقُ بِالْمَسْجِدِ، أَوْ بِالْبَدَنِ وَهُوَ النَّاشِئُ فِي الْعِبَادَةِ. وَالثَّانِي عَامٌّ وَهُوَ الْعَادِلُ، أَوْ خَاصٌّ بِالْقَلْبِ وَهُوَ التَّحَابُّ، أَوْ بِالْمَالِ وَهُوَ الصَّدَقَةُ، أَوْ بِالْبَدَنِ وَهُوَ الْعِفَّةُ. وَقَدْ نَظَمَ السَّبْعَةَ الْعَلَّامَةُ أَبُو شَامَةَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ فِيمَا أَنَشَدَنَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ التَّنُوخِيُّ إِذْنًا عَنْ أَبِي الْهُدَى أَحْمَدَ بْنِ أَبِي شَامَةَ عَنْ أَبِيهِ سَمَاعًا مِنْ لَفْظِهِ قَالَ:
وَقَالَ النَّبِيُّ الْمُصْطَفَى إِنَّ سَبْعَةً
…
يُظِلُّهُمُ اللَّهُ الْكَرِيمُ بِظِلِّهِ
مُحِبٌّ عَفِيفٌ نَاشِئٌ مُتَصَدِّقٌ
…
وَبَاكٍ مُصَلٍّ وَالْإِمَامُ بِعَدْلِهِ
وَوَقَعَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْيُسْرِ مَرْفُوعًا مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ لَهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ، وَهَاتَانِ الْخَصْلَتَانِ غَيْرُ السَّبْعَةِ الْمَاضِيَةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعَدْلَ الْمَذْكُورَ لَا مَفْهُومَ لَهُ. وَقَدْ أَلْقَيْتُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى الْعَالِمِ شَمْسِ الدِّينِ بْنِ عَطَاءٍ الرَّازِيِّ الْمَعْرُوفِ بِالْهَرَوِيِّ لَمَّا قَدِمَ الْقَاهِرَةَ وَادَّعَى أَنَّهُ يَحْفَظُ صَحِيحَ مُسْلِمٍ، فَسَأَلْتُهُ بِحَضْرَةِ الْمَلِكِ الْمُؤَيَّدِ عَنْ هَذَا وَعَنْ غَيْرِهِ فَمَا اسْتَحْضَرَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا، ثُمَّ تَتَبَّعْتُ بَعْدَ ذَلِكَ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ فَزَادَتْ عَلَى عَشْرِ خِصَالٍ، وَقَدِ انْتَقَيْتُ مِنْهَا سَبْعَةً وَرَدَتْ بِأَسَانِيدَ جِيَادٍ وَنَظَمْتُهَا فِي بَيْتَيْنِ تَذْيِيلًا عَلَى بَيْتَيْ أَبِي شَامَةَ وَهُمَا: وَزِدْ سَبْعَةً: إِظْلَالَ غَازٍ وَعَوْنَهُ
…
وَإِنْظَارَ ذِي عُسْرٍ وَتَخْفِيفَ حِمْلِهِ
وَإِرْفَادَ ذِي غُرْمٍ وَعَوْنَ مُكَاتَبٍ
…
وَتَاجِرَ صِدْقٍ فِي الْمَقَالِ وَفِعْلِهِ
فَأَمَّا إِظْلَالُ الْغَازِي فَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ، وَأَمَّا عَوْنُ الْمُجَاهِدِ فَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ سَهْمِ بْنِ حُنَيْفٍ، وَأَمَّا إِنْظَارُ الْمُعْسِرِ وَالْوَضِيعَةُ عَنْهُ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ كَمَا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا إِرْفَادُ الْغَارِمِ وَعَوْنُ الْمُكَاتِبِ فَرَوَاهُمَا أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ الْمَذْكُورِ، وَأَمَّا التَّاجِرُ الصَّدُوقُ فَرَوَاهُ الْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ، وَأَبُو الْقَاسِمِ التَّيْمِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَنَظَمْتُهُ مَرَّةً أُخْرَى فَقُلْتُ فِي السَّبْعَةِ الثَّانِيَةِ:
وَتَحْسِينَ خُلْقٍ مَعْ إِعَانَةِ غَارِمٍ
…
خَفِيفَ يَدٍ حَتَّى مُكَاتِبَ أَهْلِهِ
وَحَدِيثُ تَحْسِينِ الْخُلُقِ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، ثُمَّ تَتَبَّعْتُ ذَلِكَ فَجَمَعْتُ سَبْعَةً أُخْرَى وَنَظَمْتُهَا فِي بَيْتَيْنِ آخَرَيْنِ وَهُمَا:
وَزِدْ سَبْعَةً: حُزْنٌ وَمَشْيٌ لِمَسْجِدٍ
…
وَكُرْهُ وُضُوءٍ ثُمَّ مُطْعِمُ فَضْلِهِ
وَآخِذُ حَقٍّ بَاذِلٍ ثُمَّ كَافِلٍ
…
وَتَاجِرُ صِدْقٍ فِي الْمَقَالِ وَفِعْلِهِ
ثُمَّ تَتَبَّعْتُ ذَلِكَ فَجَمَعْتُ سَبْعَةً أُخْرَى، وَلَكِنَّ أَحَادِيثَهَا ضَعِيفَةٌ وَقُلْتُ فِي آخِرِ الْبَيْتِ: تُرَبَّعُ بِهِ السَّبْعَاتُ مِنْ فَيْضِ فَضْلِهِ. وَقَدْ أَوْرَدْتُ الْجَمِيعَ فِي الْأَمَالِي، وَقَدْ أَفْرَدْتُهُ فِي جُزْءٍ سَمَّيْتُهُ مَعْرِفَةَ الْخِصَالِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الظِّلَالِ.
قَوْلُهُ: (فِي ظِلِّهِ) قَالَ عِيَاضٌ: إِضَافَةُ الظِّلِّ إِلَى اللَّهِ إِضَافَةَ مِلْكٍ، وَكُلُّ ظِلٍّ فَهُوَ مِلْكُهُ. كَذَا قَالَ، وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ، لِيَحْصُلَ امْتِيَازُ هَذَا عَلَى غَيْرِهِ، كَمَا قِيلَ لِلْكَعْبَةِ بَيْتُ اللَّهِ مَعَ أَنَّ الْمَسَاجِدَ كُلَّهَا مِلْكُهُ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِظِلِّهِ كَرَامَتُهُ وَحِمَايَتُهُ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ فِي ظِلِّ الْمَلِكِ، وَهُوَ قَوْلُ عِيسَى بْنِ دِينَارٍ وَقَوَّاهُ عِيَاضٌ، وَقِيلَ الْمُرَادُ ظِلُّ عَرْشِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ سَلْمَانَ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ: سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّ عَرْشِهِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ ظِلَّ الْعَرْشِ اسْتَلْزَمَ مَا ذُكِرَ مِنْ كَوْنِهِمْ فِي كَنَفِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ فَهُوَ أَرْجَحُ، وَبِهِ جَزَمَ الْقُرْطُبِيُّ، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا تَقْيِيدُ ذَلِكَ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ. ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَهُوَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ ظِلُّ طُوبَى أَوْ ظِلُّ الْجَنَّةِ لِأَنَّ ظِلَّهُمَا إِنَّمَا يَحْصُلُ ثَمَّ بَعْدَ الِاسْتِقْرَارِ فِي الْجَنَّةِ. ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ مُشْتَرَكٌ لِجَمِيعِ مَنْ يَدْخُلُهَا، وَالسِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَى امْتِيَازِ أَصْحَابِ الْخِصَالِ الْمَذْكُورَةِ، فَيُرَجَّحُ أَنَّ الْمُرَادَ ظِلُّ الْعَرْشِ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَقْرَبُهُمْ مِنْهُ مَجْلِسًا إِمَامٌ عَادِلٌ.
قَوْلُهُ: (الْإِمَامُ الْعَادِلُ) اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْعَدْلِ، وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ رَوَاهُ بِلَفْظِ الْعَدْلِ قَالَ: وَهُوَ أَبْلَغُ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْمُسَمَّى نَفْسَهُ عَدْلًا، وَالْمُرَادُ بِهِ صَاحِبُ الْوِلَايَةِ الْعُظْمَى، وَيَلْتَحِقُ بِهِ
كُلُّ مَنْ وَلِيَ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ فَعَدَلَ فِيهِ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَفَعَهُ: أَنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وُلُّوا، وَأَحْسَنُ مَا فُسِّرَ بِهِ الْعَادِلُ أَنَّهُ الَّذِي يَتَّبِعُ أَمْرَ اللَّهِ بِوَضْعِ كُلِّ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ غَيْرِ إِفْرَاطٍ وَلَا تَفْرِيطٍ، وَقَدَّمَهُ فِي الذِّكْرِ لِعُمُومِ النَّفْعِ بِهِ.
قَوْلُهُ: (وَشَابٌّ) خَصَّ الشَّابَّ لِكَوْنِهِ مَظِنَّةَ غَلَبَةِ الشَّهْوَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ قُوَّةِ الْبَاعِثِ عَلَى مُتَابَعَةِ الْهَوَى؛ فَإِنَّ مُلَازَمَةَ الْعِبَادَةِ مَعَ ذَلِكَ أَشَدُّ وَأَدَلُّ عَلَى غَلَبَةِ التَّقْوَى.
قَوْلُهُ: (فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ) فِي رِوَايَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَهِيَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ، وَهُمَا بِمَعْنًى، زَادَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ حَتَّى تُوُفِّيَ عَلَى ذَلِكَ أَخْرَجَهُ الْجَوْزَقِيُّ. وَفِي حَدِيثِ سَلْمَانَ أَفْنَى شَبَابَهُ وَنَشَاطَهُ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ.
قَوْلُهُ: (مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ) هَكَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ مِنَ التَّعْلِيقِ كَأَنَّهُ شَبَّهَهُ بِالشَّيْءِ الْمُعَلَّقِ فِي الْمَسْجِدِ كَالْقِنْدِيلِ مَثَلًا إِشَارَةً إِلَى طُولِ الْمُلَازَمَةِ بِقَلْبِهِ وَإِنْ كَانَ جَسَدُهُ خَارِجًا عَنْهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ الْجَوْزَقِيِّ كَأَنَّمَا قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسْجِدِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْعَلَاقَةِ، وَهِيَ شِدَّةُ الْحُبِّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ أَحْمَدَ مُعَلَّقٌ بِالْمَسَاجِدِ وَكَذَا رِوَايَةُ سَلْمَانَ مِنْ حُبِّهَا وَزَادَ الْحَمَوِيُّ، وَالْمُسْتَمْلِي مُتَعَلِّقٌ بِزِيَادَةِ مُثَنَّاةٍ بَعْدَ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ، زَادَ سَلْمَانُ مِنْ حُبِّهَا وَزَادَ مَالِكٌ إِذَا خَرَجَ مِنْهُ حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهِ. وَهَذِهِ الْخَصْلَةُ هِيَ الْمَقْصُودَةُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ، وَمُنَاسَبَتُهَا لِلرُّكْنِ الثَّانِي مِنَ التَّرْجَمَةِ وَهُوَ فَضْلُ الْمَسَاجِدِ ظَاهِرَةٌ، وَلِلْأَوَّلِ مِنْ جِهَةِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنَ الْمُلَازَمَةِ لِلْمَسْجِدِ وَاسْتِمْرَارِ الْكَوْنِ فِيهِ بِالْقَلْبِ وَإِنْ عَرَضَ لِلْجَسَدِ عَارِضٌ.
قَوْلُهُ: (تَحَابَّا) بِتَشْدِيدِ الْبَاءِ وَأَصْلُهُ تَحَابَبَا أَيِ اشْتَرَكَا فِي جِنْسِ الْمَحَبَّةِ وَأَحَبَّ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ حَقِيقَةً لَا إِظْهَارًا فَقَطْ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ: وَرَجُلَانِ قَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ: إِنِّي أُحِبُّكَ فِي اللَّهِ، فَصَدَرَا عَلَى ذَلِكَ. وَنَحْوُهُ فِي حَدِيثِ سَلْمَانَ.
قَوْلُهُ: (اجْتَمَعَا عَلَى ذَلِكَ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَهِيَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ أَيْ عَلَى الْحُبِّ الْمَذْكُورِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُمَا دَامَا عَلَى الْمَحَبَّةِ الدِّينِيَّةِ وَلَمْ يَقْطَعَاهَا بِعَارِضٍ دُنْيَوِيٍّ سَوَاءٌ اجْتَمَعَا حَقِيقَةً أَمْ لَا حَتَّى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الْمَوْتُ. وَوَقَعَ فِي الْجَمْعِ لِلْحُمَيْدِيِّ اجْتَمَعَا عَلَى خَيْرٍ وَلَمْ أَرَ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ نُسَخِ الصَّحِيحَيْنِ وَلَا غَيْرِهِمَا مِنَ الْمُسْتَخْرَجَاتِ وَهِيَ عِنْدِي تَحْرِيفٌ.
(تَنْبِيهٌ): عُدَّتْ هَذِهِ الْخَصْلَةُ وَاحِدَةً مَعَ أَنَّ مُتَعَاطِيهَا اثْنَانِ لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِاثْنَيْنِ، أَوْ لَمَّا كَانَ الْمُتَحَابَّانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَانَ عَدُّ أَحَدِهِمَا مُغْنِيًا عَنْ عَدِّ الْآخَرِ، لِأَنَّ الْغَرَضَ عَدُّ الْخِصَالِ لَا عَدُّ جَمِيعِ مَنِ اتَّصَفَ بِهَا.
قَوْلُهُ: (وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ ذَاتُ مَنْصِبٍ) بَيَّنَ الْمَحْذُوفَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ فَقَالَ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ، وَلِمُسْلِمٍ وَهُوَ لِلْمُصَنِّفِ فِي الْحُدُودِ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَنْصِبِ الْأَصْلُ أَوِ الشَّرَفُ، وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ دَعَتْهُ ذَاتُ حَسَبٍ وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى الْأَصْلِ وَعَلَى الْمَالِ أَيْضًا، وَقَدْ وَصَفَهَا بِأَكْمَلِ الْأَوْصَافِ الَّتِي جَرَتِ الْعَادَةُ بِمَزِيدِ الرَّغْبَةِ لِمَنْ تَحْصُلُ فِيهِ وَهُوَ الْمَنْصِبُ الَّذِي يَسْتَلْزِمُهُ الْجَاهُ وَالْمَالُ مَعَ الْجَمَالِ وَقَلَّ مَنْ يَجْتَمِعُ ذَلِكَ فِيهَا مِنَ النِّسَاءِ، زَادَ ابْنُ الْمُبَارَكِ إِلَى نَفْسِهَا وَلِلْبَيْهَقِيِّ فِي الشُّعَبِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَعَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَيْهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا دَعَتْهُ إِلَى الْفَاحِشَةِ وَبِهِ جَزَمَ الْقُرْطُبِيُّ وَلَمْ يَحْكِ غَيْرَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ دَعَتْهُ إِلَى التَّزَوُّجِ بِهَا فَخَافَ أَنْ يَشْتَغِلَ عَنِ الْعِبَادَةِ بِالِافْتِتَانِ بِهَا، أَوْ خَافَ أَنْ لَا يَقُومَ بِحَقِّهَا لِشُغْلِهِ بِالْعِبَادَةِ عَنِ التَّكَسُّبِ بِمَا يَلِيقُ بِهَا، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَيُؤَيِّدُهُ وُجُودُ الْكِنَايَةِ فِي قَوْلِهِ إِلَى نَفْسِهَا وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ التَّزْوِيجُ لَصَرَّحَ بِهِ، وَالصَّبْرُ عَنِ الْمَوْصُوفَةِ بِمَا ذُكِرَ مِنْ أَكْمَلِ الْمَرَاتِبِ لِكَثْرَةِ الرَّغْبَةِ فِي مِثْلِهَا وَعُسْرِ تَحْصِيلِهَا لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَغْنَتْ مِنْ مَشَاقِّ التَّوَصُّلِ إِلَيْهَا بِمُرَاوَدَةٍ وَنَحْوِهَا.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ) زَادَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ بِلِسَانِهِ إِمَّا
لِيَزْجُرَهَا عَنِ الْفَاحِشَةِ أَوْ لِيَعْتَذِرَ إِلَيْهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَقُولَهُ بِقَلْبِهِ، قَالَ عِيَاضٌ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّمَا يَصْدُرُ ذَلِكَ عَنْ شِدَّةِ خَوْفٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَتِينِ تَقْوَى وَحَيَاءٍ.
قَوْلُهُ: (تَصَدَّقَ أَخْفَى) بِلَفْظِ الْمَاضِي، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ هُوَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ بِتَقْدِيرِ قَدْ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ تَصَدَّقَ فَأَخْفَى وَكَذَا لِلْمُصَنِّفِ فِي الزَّكَاةِ عَنْ مُسَدَّدٍ، عَنْ يَحْيَى تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا، وَمِثْلُهُ لِمَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ رَاوِيَ الْأُولَى حَذَفَ الْعَاطِفَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ تَصَدَّقَ إِخْفَاءً بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ مَمْدُودًا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ أَوْ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْفَاعِلِ أَيْ مُخْفِيًا، وَقَوْلُهُ بِصَدَقَةٍ نَكَّرَهَا لِيَشْمَلَ كُلَّ مَا يُتَصَدَّقُ بِهِ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، وَظَاهِرُهُ أَيْضًا يَشْمَلُ الْمَنْدُوبَةَ وَالْمَفْرُوضَةَ، لَكِنْ نَقَلَ النَّوَوِيُّ عَنِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ إِظْهَارَ الْمَفْرُوضَةِ أَوْلَى مِنْ إِخْفَائِهَا.
قَوْلُهُ: (حَتَّى لَا تَعْلَمَ) بِضَم الْمِيمِ وَفَتْحِهَا.
قَوْلُهُ: (شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ) هَكَذَا وَقَعَ فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، وَوَقَعَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَقْلُوبًا حَتَّى لَا تَعْلَمَ يَمِينُهُ مَا تُنْفِقُ شِمَالُهُ وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ عُلُومِ الْحَدِيثِ أَغْفَلَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ وَإِنْ كَانَ أَفْرَدَ نَوْعَ الْمَقْلُوبِ لَكِنَّهُ قَصَرَهُ عَلَى مَا يَقَعُ فِي الْإِسْنَادِ، وَنَبَّهَ عَلَيْهِ شَيْخُنَا فِي مَحَاسِنِ الِاصْطِلَاحِ وَمَثَّلَ لَهُ بِحَدِيثِ: إِنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْأَذَانِ، وَقَالَ شَيْخُنَا: يَنْبَغِي أَنْ يُسَمَّى هَذَا النَّوْعُ الْمَعْكُوسَ. انْتَهَى. وَالْأَوْلَى تَسْمِيَتُهُ مَقْلُوبًا فَيَكُونُ الْمَقْلُوبُ تَارَةً فِي الْإِسْنَادِ وَتَارَةً فِي الْمَتْنِ كَمَا قَالُوهُ فِي الْمُدْرَجِ سَوَاءً، وَقَدْ سَمَّاهُ بَعْضُ مَنْ تَقَدَّمَ مَقْلُوبًا، قَالَ عِيَاضٌ: هَكَذَا فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الَّتِي وَصَلَتْ إِلَيْنَا مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَهُوَ مَقْلُوبٌ أَوِ الصَّوَابُ الْأَوَّلُ وَهُوَ وَجْهُ الْكَلَامِ، لِأَنَّ السُّنَّةَ الْمَعْهُودَةَ فِي الصَّدَقَةِ إِعْطَاؤُهَا بِالْيَمِينِ، وَقَدْ تَرْجَمَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ فِي الزَّكَاةِ بَابُ الصَّدَقَةِ بِالْيَمِينِ قَالَ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْوَهْمُ فِيهِ مِمَّنْ دُونَ مُسْلِمٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ لَمَّا أَوْرَدَهَا عَقِبَ رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَقَالَ بِمِثْلِ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ فَلَوْ كَانَتْ بَيْنَهُمَا مُخَالَفَةٌ لَبَيَّنَهَا كَمَا نَبَّهَ عَلَى الزِّيَادَةِ فِي قَوْلِهِ وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسْجِدِ إِذَا خَرَجَ مِنْهُ حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهِ. انْتَهَى.
وَلَيْسَ الْوَهْمُ فِيهِ مِمَّنْ دُونَ مُسْلِمٍ وَلَا مِنْهُ بَلْ هُوَ مِنْ شَيْخِهِ أَوْ مِنْ شَيْخِ شَيْخِهِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، فَإِنَّ مُسْلِمًا أَخْرَجَهُ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ، وَابْنِ نُمَيْرٍ كِلَاهُمَا عَنْ يَحْيَى وَأَشْعَرَ سِيَاقُهُ بِأَنَّ اللَّفْظَ لِزُهَيْرٍ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ عَنْ زُهَيْرٍ، وَأَخْرَجَهُ الْجَوْزَقِيُّ فِي مُسْتَخْرَجِهِ عَنْ أَبِي حَامِدِ بْنِ الشَّرْقِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بِشْرِ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ كَذَلِكَ، وَعَقَّبَهُ بِأَنْ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا حَامِدِ بْنِ الشَّرْقِيِّ يَقُولُ: يَحْيَى الْقَطَّانُ عِنْدَنَا وَاهِمٌ فِي هَذَا، إِنَّمَا هُوَ: حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ. قُلْتُ: وَالْجَزْمُ بِكَوْنِ يَحْيَى هُوَ الْوَاهِمُ فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ قَدْ رَوَاهُ عَنْهُ عَلَى الصَّوَابِ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ هُنَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ وَفِي الزَّكَاةِ عَنْ مُسَدَّدٍ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ الدَّوْرَقِيِّ، وَحَفْصِ بْنِ عُمَرَ، وَكُلُّهُمْ عَنْ يَحْيَى، وَكَأَنَّ أَبَا حَامِدٍ لَمَّا رَأَى عَبْدَ الرَّحْمَنِ قَدْ تَابَعَ زُهَيْرًا تَرَجَّحَ عِنْدَهُ أَنَّ الْوَهْمَ مِنْ يَحْيَى، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ بِأَنْ يَكُونَ مِنْهُ لَمَّا حَدَّثَ بِهِ هَذَيْنِ خَاصَّةً، مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْوَهْمُ مِنْهُمَا تَوَارَدَا عَلَيْهِ. وَقَدْ تَكَلَّفَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ تَوْجِيهَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ الْمَقْلُوبَةِ، وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ الْمَخْرَجَ مُتَّحِدٌّ وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ شَيْخِ يَحْيَى فِيهِ وَلَا عَلَى شَيْخِهِ خُبَيْبٍ وَلَا عَلَى مَالِكٍ رَفِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِيهِ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ عِيَاضٍ عَلَى أَنَّ الْوَهْمَ فِيهِ مِمَّنْ دُونَ مُسْلِمٍ بِقَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ مِثْلَ عُبَيْدِ اللَّهِ فَقَدْ عَكَسَهُ غَيْرُهُ فَوَاخَذَ مُسْلِمًا بِقَوْلِهِ مِثْلَ عُبَيْدِ اللَّهِ لِكَوْنِهِمَا لَيْسَتَا مُتَسَاوِيَتَيْنِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مُسْلِمًا لَا يَقْصُرُ لَفْظَ الْمِثْلِ عَلَى الْمُسَاوِي فِي جَمِيعِ اللَّفْظِ وَالتَّرْتِيبِ، بَلْ هُوَ فِي الْمُعْظَمِ إِذَا تَسَاوَيَا فِي الْمَعْنَى، وَالْمَعْنَى الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ إِنَّمَا هُوَ إِخْفَاءُ الصَّدَقَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَمْ نَجِدْ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ إِلَّا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، إِلَّا مَا وَقَعَ عِنْدَ مَالِكٍ مِنَ التَّرَدُّدِ هَلْ هُوَ عَنْهُ أَوْ عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ كَمَا قَدَّمْنَاهُ قَبْلُ، وَلَمْ نَجِدْهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ حَفْصٍ، وَلَا عَنْ حَفْصٍ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ خُبَيْبٍ. نَعَمْ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ طَرِيقِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالرَّاوِي لَهُ عَنْ سُهَيْلٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ الْأَسْلَمِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمَتْرُوكٍ، وَحَدِيثُهُ حَسَنٌ فِي الْمُتَابَعَاتِ، وَوَافَقَ فِي قَوْلِهِ تَصَدَّقَ بِيَمِينِهِ وَكَذَا أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ لَكِنْ حُكْمُهُ الرَّفْعُ. وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مَرْفُوعًا: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالَتْ: يَا رَبِّ هَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْجِبَالِ؟ قَالَ: نَعَمْ، الْحَدِيدُ. قَالَتْ: فَهَلْ أَشَدُّ مِنَ الْحَدِيدِ؟ قَالَ: نَعَمْ، النَّارُ. قَالَتْ: فَهَلْ أَشَدُّ مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: نَعَمْ، الْمَاءُ. قَالَتْ: فَهَلْ أَشَدُّ مِنَ الْمَاءِ؟ قَالَ: نَعَمْ، الرِّيحُ. قَالَتْ: فَهَلْ أَشَدُّ مِنَ الرِّيحِ؟ قَالَ.
نَعَمْ، ابْنُ آدَمَ يَتَصَدَّقُ بِيَمِينِهِ فَيُخْفِيهَا عَنْ شِمَالِهِ. ثُمَّ إِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ فِي إِخْفَاءِ الصَّدَقَةِ بِحَيْثُ إنَّ شِمَالَهُ مَعَ قُرْبِهَا مِنْ يَمِينِهِ وَتَلَازُمِهِمَا لَوْ تَصَوَّرَ أَنَّهَا تَعْلَمُ لَمَا عَلِمَتْ مَا فَعَلَتِ الْيَمِينُ لِشِدَّةِ إِخْفَائِهَا، فَهُوَ عَلَى هَذَا مِنْ مَجَازِ التَّشْبِيهِ. وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عِنْدَ الْجَوْزَقِيِّ: تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ كَأَنَّمَا أَخْفَى يَمِينَهُ مِنْ شِمَالِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَجَازِ الْحَذْفِ وَالتَّقْدِيرِ حَتَّى لَا يَعْلَمَ مَلَكُ شِمَالِهِ. وَأَبْعَدَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِشِمَالِهِ نَفْسُهُ وَأَنَّهُ مِنْ تَسْمِيَةِ الْكُلِّ بِاسْمِ الْجُزْءِ فَإِنَّهُ يَنْحَلُّ إِلَى أَنَّ نَفْسَهُ لَا تَعْلَمُ مَا تُنْفِقُ نَفْسُهُ، وَقِيلَ هُوَ مِنْ مَجَازِ الْحَذْفِ وَالْمُرَادُ بِشِمَالِهِ مَنْ عَلَى شِمَالِهِ مِنَ النَّاسِ كَأَنَّهُ قَالَ مُجَاوِرُ شِمَالِهِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يُرَائِي بِصَدَقَتِهِ فَلَا يَكْتُبُهَا كَاتِبُ الشِّمَالِ، وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِهِ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى الضَّعِيفِ الْمُكْتَسِبِ فِي صُورَةِ الشِّرَاءِ لِتَرْوِيجِ سِلْعَتِهِ أَوْ رَفْعِ قِيمَتِهَا وَاسْتَحْسَنَهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ إِنْ كَانَ أَرَادَ أَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ مُرَادُ الْحَدِيثِ خَاصَّةً، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ هَذَا مِنْ صُوَرِ الصَّدَقَةِ الْمَخْفِيَّةِ فَمسلم، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (ذَكَرَ اللَّهَ) أَيْ بِقَلْبِهِ مِنَ التَّذَكُّرِ أَوْ بِلِسَانِهِ مِنَ الذِّكْرِ، وَ (خَالِيًا) أَيْ مِنَ الْخُلُوِّ لِأَنَّهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ أَبْعَدَ مِنَ الرِّيَاءِ وَالْمُرَادُ خَالِيًا مِنَ الِالْتِفَاتِ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ وَلَوْ كَانَ فِي مَلَأٍ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ الْبَيْهَقِيِّ ذُكِرَ اللَّهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ رِوَايَةُ ابْنِ الْمُبَارَكِ، وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ ذَكَرَ اللَّهَ فِي خَلَاءٍ أَيْ فِي مَوْضِعٍ خَالٍ وَهِيَ أَصَحُّ.
قَوْلُهُ: (فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ) أَيْ فَاضَتِ الدُّمُوعُ مِنْ عَيْنَيْهِ، وَأُسْنِدَ الْفَيْضُ إِلَى الْعَيْنِ مُبَالَغَةً كَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي فَاضَتْ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَفَيْضُ الْعَيْنِ بِحَسَبِ حَالِ الذَّاكِرِ وَبِحَسَبِ مَا يُكْشَفُ لَهُ، فَفِي حَالِ أَوْصَافِ الْجَلَالِ يَكُونُ الْبُكَاءُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَفِي حَالِ أَوْصَافِ الْجَمَالِ يَكُونُ الْبُكَاءُ مِنَ الشَّوْقِ إِلَيْهِ.
قُلْتُ: قَدْ خُصَّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِالْأَوَّلِ، فَفِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عِنْدَ الْجَوْزَقِيِّ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا مَنْ ذَكَرَ اللَّهَ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ حَتَّى يُصِيبَ الْأَرْضَ مِنْ دُمُوعِهِ لَمْ يُعَذَّبْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
(تَنْبِيهَانِ): (الْأَوَّلُ) ذِكْرُ الرِّجَالِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَا مَفْهُومَ لَهُ بَلْ يَشْتَرِكُ النِّسَاءُ مَعَهُمْ فِيمَا ذُكِرَ، إِلَّا إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْإِمَامِ الْعَادِلِ الْإِمَامَةَ الْعُظْمَى، وَإِلَّا فَيُمْكِنُ دُخُولُ الْمَرْأَةِ حَيْثُ تَكُونُ ذَاتَ عِيَالٍ فَتَعْدِلُ فِيهِمْ. وَتَخْرُجُ خَصْلَةُ مُلَازَمَةِ الْمَسْجِدِ لِأَنَّ صَلَاةَ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَالْمُشَارَكَةُ حَاصِلَةٌ لَهُنَّ، حَتَّى الرَّجُلُ الَّذِي دَعَتْهُ الْمَرْأَةُ فَإِنَّهُ يُتَصَوَّرُ فِي امْرَأَةٍ دَعَاهَا مَلِكٌ جَمِيلٌ مَثَلًا فَامْتَنَعَتْ خَوْفًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ حَاجَتِهَا، أَوْ شَابٌّ جَمِيلٌ دَعَاهُ مَلِكٌ إِلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ ابْنَتَهُ مَثَلًا فَخَشِيَ أَنْ يَرْتَكِبَ مِنْهُ الْفَاحِشَةَ فَامْتَنَعَ مَعَ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ.
(الثَّانِي) اسْتَوْعَبْتُ شَرْحَ هَذَا الْحَدِيثِ هُنَا وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِمَا شَرَطْتُ لِأَنَّ أَلْيَقَ الْمَوَاضِعِ بِهِ كِتَابُ الرِّقَاقِ، وَقَدِ اخْتَصَرَهَا الْمُصَنِّفُ حَيْثُ أَوْرَدَهُ فِيهِ، وَسَاقَهُ تَامًّا فِي الزَّكَاةِ وَالْحُدُودِ، فَاسْتَوْفَيْتُهُ هُنَا، لِأَنَّ لِلْأَوَّلِيَّةِ وَجْهًا مِنَ الْأَوْلَوِيَّةِ.
661 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، قَالَ: سُئِلَ أَنَسُ: هَلْ اتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَاتَمًا؟ فَقَالَ: نَعَمْ، أَخَّرَ لَيْلَةً صَلَاةَ الْعِشَاءِ إِلَى شَطْرِ اللَّيْلِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ بَعْدَمَا صَلَّى، فَقَالَ: صَلَّى النَّاسُ وَرَقَدُوا، وَلَمْ تَزَالُوا فِي صَلَاةٍ مُنْذُ انْتَظَرْتُمُوهَا، قَالَ: فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ خَاتَمِهِ.
قَوْلُهُ: (سُئِلَ أَنَسٌ) تَقَدَّمَ التَّصْرِيحُ بِسَمَاعِ حُمَيْدٍ لَهُ مِنْهُ فِي بَابِ وَقْتِ الْعِشَاءِ.
قَوْلُهُ: (صَلَّى النَّاسُ) أَيْ غَيْرُ الْمُخَاطَبِينَ مِمَّنْ صَلَّى فِي دَارِهِ أَوْ مَسْجِدِ قَبِيلَتِهِ، وَيُسْتَأْنَسُ بِهِ لِمَنْ قَالَ بِأَنَّ الْجَمَاعَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ.
قَوْلُهُ: (وَلَمْ تَزَالُوا فِي صَلَاةٍ) أَيْ فِي ثَوَابِ صَلَاةٍ كَمَا تَقَدَّمَ.
قَوْلُهُ: (وَبِيصُ) بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَبِالْمُهْمَلَةِ أَيْ بَرِيقُهُ وَلَمَعَانُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَابِ وَقْتِ الْعِشَاءِ وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْخَاتَمِ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
37 - بَاب فَضْلِ مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ وَمَنْ رَاحَ
662 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ وَرَاحَ، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ نُزُلَهُ مِنْ الْجَنَّةِ، كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ مَنْ غَدَا لِلْمَسْجِدِ وَمَنْ رَاحَ) هَكَذَا لِلْأَكْثَرِ مُوَافِقًا لِلَفْظِ الْحَدِيثِ فِي الْغُدُوِّ وَالرَّوَاحِ، وَلِأَبِي ذَرٍّ بِلَفْظِ خَرَجَ بَدَلَ غَدَا، وَلَهُ عَنِ الْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ بِلَفْظِ مَنْ يَخْرُجُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ، وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِالْغُدُوِّ الذَّهَابُ وَبِالرَّوَاحِ الرُّجُوعُ، وَالْأَصْلُ فِي الْغُدُوِّ الْمُضِيُّ مِنْ بُكْرَةِ النَّهَارِ وَالرَّوَاحُ بَعْدَ الزَّوَالِ، ثُمَّ قَدْ يُسْتَعْمَلَانِ فِي كُلِّ ذَهَابٍ وَرُجُوعٍ تَوَسُّعًا.
قَوْلُهُ: (أَعَدَّ) أَيْ هَيَّأَ.
قَوْلُهُ: (نُزُلَهُ) لِلْكُشْمِيهَنِيِّ نُزُلًا بِالتَّنْكِيرِ، وَالنُّزُلُ بِضَمِّ النُّونِ وَالزَّايِ الْمَكَانُ الَّذِي يُهَيَّأُ لِلنُّزُولِ فِيهِ، وَبِسُكُونِ الزَّايِ مَا يُهَيَّأُ لِلْقَادِمِ مِنَ الضِّيَافَةِ وَنَحْوِهَا، فَعَلَى هَذَا مِنْ فِي قَوْلِهِ مِنَ الْجَنَّةِ لِلتَّبْعِيضِ عَلَى الْأَوَّلِ وَلِلتَّبْيِينِ عَلَى الثَّانِي، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَأَحْمَدُ بِلَفْظِ نُزُلًا فِي الْجَنَّةِ وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلْمَعْنَيَيْنِ.
قَوْلُهُ: (كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ) أَيْ بِكُلِّ غَدْوَةٍ وَرَوْحَةٍ. وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ حُصُولُ الْفَضْلِ لِمَنْ أَتَى الْمَسْجِدَ مُطْلَقًا، لَكِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ اخْتِصَاصُهُ بِمَنْ يَأْتِيهِ لِلْعِبَادَةِ، وَالصَّلَاةُ رَأْسُهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
38 - بَاب إِذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ
663 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ بْنِ بُحَيْنَةَ، قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ، قَالَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: سَمِعْتُ حَفْصَ بْنَ عَاصِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا مِنْ الْأَزْدِ يُقَالُ لَهُ: مَالِكُ ابْنُ بُحَيْنَةَ قال: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا وَقَدْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَاثَ بِهِ النَّاسُ، وَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: آلصُّبْحَ أَرْبَعًا آلصُّبْحَ أَرْبَعًا. تَابَعَهُ غُنْدَرٌ وَمُعَاذٌ عَنْ شُعْبَةَ فِي مَالِكٍ، وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: عَنْ سَعْدٍ، عَنْ حَفْصٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُحَيْنَةَ، وَقَالَ حَمَّادٌ: أَخْبَرَنَا سَعْدٌ عَنْ حَفْصٍ عَنْ مَالِكٍ.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ لَفْظُ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَاخْتُلِفَ عَلَى عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ، وَقِيلَ إِنَّ ذَلِكَ هُوَ السَّبَبُ فِي كَوْنِ الْبُخَارِيِّ لَمْ يُخَرِّجْهُ، وَلَمَّا كَانَ الْحُكْمُ صَحِيحًا ذَكَرَهُ فِي التَّرْجَمَةِ وَأَخْرَجَ فِي الْبَابِ مَا يُغْنِي عَنْهُ، لَكِنَّ حَدِيثَ التَّرْجَمَةِ أَعَمُّ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ لِأَنَّهُ يَشْمَلُ الصَّلَوَاتِ كُلَّهَا وَحَدِيثُ الْبَابِ يَخْتَصُّ بِالصُّبْحِ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: اللَّامُ فِي حَدِيثِ التَّرْجَمَةِ عَهْدِيَّةٌ فَيَتَّفِقَانِ، هَذَا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَالْحُكْمُ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ وَاحِدٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِلَفْظِ: فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الَّتِي أُقِيمَتْ.
قَوْلُهُ: (إِذَا أُقِيمَتْ) أَيْ إِذَا شُرِعَ فِي الْإِقَامَةِ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ جُحَادَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ فِيمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ بِلَفْظِ إِذَا أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْإِقَامَةِ وَقَوْلُهُ فَلَا صَلَاةَ أَيْ صَحِيحَةً أَوْ كَامِلَةً، وَالتَّقْدِيرُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى نَفْيِ الْحَقِيقَةِ، لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَقْطَعِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْمُصَلِّي وَاقْتَصَرَ عَلَى الْإِنْكَارِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ الْكَمَالِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّفْيُ بِمَعْنَى النَّهْيِ، أَيْ فَلَا تُصَلُّوا حِينَئِذٍ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ وَالْبَزَّارُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ شَرِيكِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا، فِي نَحْوِ حَدِيثِ الْبَابِ وَفِيهِ: وَنَهَى أَنْ يُصَلِّيَا إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، وَوَرَدَ بِصِيغَةِ النَّهْيِ أَيْضًا فِيمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ بُحَيْنَةَ فِي قِصَّتِهِ هَذِهِ فَقَالَ لَا تَجْعَلُوا هَذِهِ الصَّلَاةَ مِثْلَ الظُّهْرِ وَاجْعَلُوا بَيْنَهُمَا فَصْلًا وَالنَّهْيُ الْمَذْكُورُ لِلتَّنْزِيهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِهِ لَمْ يَقْطَعْ صَلَاتَهُ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ) فِيهِ مَنْعُ التَّنَفُّلِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي إِقَامَةِ الصَّلَاةِ سَوَاءٌ كَانَتْ رَاتِبَةً أَمْ لَا، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَكْتُوبَةِ الْمَفْرُوضَةُ، وَزَادَ مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ؟ قَالَ: وَلَا رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي تَرْجَمَةِ يَحْيَى بْنِ نَصْرِ بْنِ الْحَاجِبِ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَالْمَفْرُوضَةُ تَشْمَلُ الْحَاضِرَةَ وَالْفَائِتَةَ، لَكِنَّ الْمُرَادَ الْحَاضِرَةُ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ أَحْمَدُ، وَالطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الَّتِي أُقِيمَتْ.
قَوْلُهُ: (مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ) لَمْ يَسُقِ الْبُخَارِيُّ لَفْظَ رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، بَلْ تَحَوَّلَ إِلَى رِوَايَةِ شُعْبَةَ فَأَوْهَمَ أَنَّهُمَا مُتَوَافِقَتَانِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ سَاقَ مُسْلِمٌ رِوَايَةَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ وَلَفْظُهُ: مَرَّ بِرَجُلٍ يُصَلِّي وَقَدْ أُقِيمَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ، فَكَلَّمَهُ بِشَيْءٍ لَا نَدْرِي مَا هُوَ، فَلَمَّا انْصَرَفْنَا أَحَطْنَا بِهِ نَقُولُ: مَاذَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: قَالَ لِي: يُوشِكُ أَحَدُكُمْ أَنْ يُصَلِّيَ الصُّبْحَ أَرْبَعًا. فَفِي هَذَا السِّيَاقِ مُخَالَفَةٌ لِسِيَاقِ شُعْبَةَ فِي كَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم كَلَّمَ الرَّجُلَ وَهُوَ يُصَلِّي، وَرِوَايَةُ شُعْبَةَ تَقْتَضِي أَنَّهُ كَلَّمَهُ بَعْدَ أَنْ فَرَغَ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ كَلَّمَهُ أَوَّلًا سِرًّا فَلِهَذَا احْتَاجُوا أَنْ يَسْأَلُوهُ، ثُمَّ كَلَّمَهُ ثَانِيًا جَهْرًا فَسَمِعُوهُ، وَفَائِدَةُ التَّكْرَارِ تَأْكِيدُ الْإِنْكَارِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ) هُوَ ابْنُ بِشْرِ بْنِ الْحَكَمِ كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ عَسَاكِرَ وَأَخْرَجَهُ الْجَوْزَقِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ.
قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ رَجُلًا مِنَ الْأَزْدِ) فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ مِنَ الْأَسْدِ بِالْمُهْمَلَةِ السَّاكِنَةِ بَدَلَ الزَّايِ السَّاكِنَةِ وَهِيَ لُغَةٌ صَحِيحَةٌ.
قَوْلُهُ: (يُقَالُ لَهُ مَالِكُ بْنُ بُحَيْنَةَ) هَكَذَا يَقُولُ شُعْبَةُ فِي هَذَا الصَّحَابِيِّ، وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ أَبُو عَوَانَةَ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَحَكَمَ الْحُفَّاظُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَأَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَابْنُ الشَّرَقيِّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَأَبُو مَسْعُودٍ وَآخَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْوَهْمِ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ بُحَيْنَةَ وَالِدَةُ عَبْدِ اللَّهِ لَا مَالِكٍ.
وَثَانِيهُمَا أَنَّ الصُّحْبَةَ وَالرِّوَايَةَ لِعَبْدِ اللَّهِ لَا لِمَالِكٍ، وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَالِكِ بْنِ الْقِشْبِ بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ وَهُوَ لَقَبٌ وَاسْمُهُ جُنْدُبُ بْنُ نَضْلَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: قَدِمَ مَالِكُ بْنُ الْقِشْبِ مَكَّةَ يَعْنِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَحَالَفَ بَنِي الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَتَزَوَّجَ بُحَيْنَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطَّلِبِ
وَاسْمُهَا عَبْدَةُ، وَبُحَيْنَةُ لَقَبٌ، وَأَدْرَكَتْ بُحَيْنَةُ الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمَتْ وَصَحِبَتْ، وَأَسْلَمَ ابْنُهَا عَبْدُ اللَّهِ قَدِيمًا، وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مَالِكًا فِي الصَّحَابَةِ إِلَّا بَعْضٌ مِمَّنْ تَلَقَّاهُ مِنْ هَذَا الْإِسْنَادِ مِمَّنْ لَا تَمْيِيزَ لَهُ، وَكَذَا أَغْرَبَ الدَّاوُدِيُّ الشَّارِحُ فَقَالَ: هَذَا الِاخْتِلَافُ لَا يَضُرُّ فَأَيُّ الرَّجُلَيْنِ كَانَ فَهُوَ صَاحِبٌ، وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ اخْتِلَافًا فِي بُحَيْنَةَ هَلْ هِيَ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ أَوْ أُمُّ مَالِكٍ؟ وَالصَّوَابُ أَنَّهَا أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُكْتَبَ ابْنُ بُحَيْنَةَ بِزِيَادَةِ أَلِفٍ وَيُعْرَبَ إِعْرَابُ عَبْدِ اللَّهِ كَمَا فِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ.
قَوْلُهُ: (رَأَى رَجُلًا) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ الرَّاوِي كَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِهِ وَهُوَ يُصَلِّي، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَهُ خَرَجَ وَابْنُ الْقِشْبِ يُصَلِّي وَوَقَعَ لِبَعْضِ الرُّوَاةِ هُنَا ابْنُ أَبِي الْقِشْبِ وَهُوَ خَطَأٌ كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي كِتَابِ الصَّحَابَةِ. وَوَقَعَ نَحْوُ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَيْضًا لِابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كُنْتُ أُصَلِّي وَأَخَذَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْإِقَامَةِ، فَجَذَبَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: أَتُصَلِّي الصُّبْحَ أَرْبَعًا؟ أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْبَزَّارُ، وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمْ، فَيُحْتَمَلُ تَعَدُّدُ الْقِصَّةِ.
قَوْلُهُ: (لَاثَ) بِمُثَلَّثَةٍ خَفِيفَةٍ، أَيْ أَدَارَ وَأَحَاطَ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أَصْلُ اللَّوْثِ الطَّيُّ، يُقَالُ لَاثَ عِمَامَتَهُ إِذَا أَدَارَهَا.
قَوْلُهُ: (بِهِ النَّاسُ) ظَاهِرُهُ أَنَّ الضَّمِيرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لَكِنَّ طَرِيقَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ الْمُتَقَدِّمَةَ تَقْتَضِي أَنَّهُ لِلرَّجُلِ.
قَوْلُهُ: (آلصُّبْحَ أَرْبَعًا؟) بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ فِي أَوَّلِهِ، وَيَجُوزُ قَصْرُهَا، وَهُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، وَأَعَادَهُ تَأْكِيدًا لِلْإِنْكَارِ. وَالصُّبْحُ بِالنَّصْبِ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ أَتُصَلِّي الصُّبْحَ؟ وَأَرْبَعًا مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، قَالَهُ ابْنُ مَالِكٍ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ قَالَ: وَيَجُوزُ رَفْعُ الصُّبْحِ أَيِ الصُّبْحُ تُصَلِّي أَرْبَعًا؟. وَاخْتُلِفَ فِي حِكْمَةِ هَذَا الْإِنْكَارِ فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ: لِئَلَّا يَتَطَاوَلَ الزَّمَانُ فَيُظَنَّ وُجُوبُهَا. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ يُوشِكُ أَحَدُكُمْ وَعَلَى هَذَا إِذَا حَصَلَ الْأَمْنُ لَا يُكْرَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ مُتَعَقَّبٌ بِعُمُومِ حَدِيثِ التَّرْجَمَةِ.
وَقِيلَ لِئَلَّا تَلْتَبِسَ صَلَاةُ الْفَرْضِ بِالنَّفْلِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْحِكْمَةُ فِيهِ أَنْ يَتَفَرَّغَ لِلْفَرِيضَةِ مِنْ أَوَّلِهَا فَيَشْرَعُ فِيهَا عَقِبَ شُرُوعِ الْإِمَامِ، وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى مُكَمِّلَاتِ الْفَرِيضَةِ أَوْلَى مِنَ التَّشَاغُلِ بِالنَّافِلَةِ اهـ. وَهَذَا يَلِيقُ بِقَوْلِ مَنْ يَرَى بِقَضَاءِ النَّافِلَةِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَمِنْ ثُمَّ قَالَ مَنْ لَا يَرَى بِذَلِكَ: إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ يُدْرِكُ الرَّكْعَةَ الْأُولَى مَعَ الْإِمَامِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْ كَانَ فِي الْأَخِيرَةِ لَمْ يُكْرَهْ لَهُ التَّشَاغُلُ بِالنَّافِلَةِ، بِشَرْطِ الْأَمْنِ مِنَ الِالْتِبَاسِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْأَوَّلُ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالثَّانِي عَنِ الْحَنَفِيَّةِ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ سَلَفٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ، وَكَأَنَّهُمْ لَمَّا تَعَارَضَ عِنْدَهُمُ الْأَمْرُ بِتَحْصِيلِ النَّافِلَةِ وَالنَّهْيُ عَنْ إِيقَاعِهَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ جَمَعُوا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ بِذَلِكَ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ سَبَبَ الْإِنْكَارِ عَدَمُ الْفَصْلِ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ لِئَلَّا يَلْتَبِسَا، وَإِلَى هَذَا جَنَحَ الطَّحَاوِيُّ وَاحْتَجَّ لَهُ بِالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِالْأَمْرِ بِذَلِكَ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي زَاوِيَةِ الْمَسْجِدِ لَمْ يُكْرَهْ، وَهُوَ مُتَعَقَّبٌ بِمَا ذُكِرَ، إِذْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مُجَرَّدَ الْفَصْلِ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ لَمْ يَحْصُلْ إِنْكَارٌ أَصْلًا، لِأَنَّ ابْنَ بُحَيْنَةَ سَلَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ قَطْعًا ثُمَّ دَخَلَ فِي الْفَرْضِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا حَدِيثُ قَيْسِ بْنِ عَمْرٍو الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ: أَنَّهُ صَلَّى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَلَمَّا أَخْبَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حِينَ سَأَلَهُ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ قَضَاءَهُمَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ مُتَّصِلًا بِهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِنْكَارَ عَلَى ابْنِ بُحَيْنَةَ إِنَّمَا كَانَ لِلتَّنَفُّلِ حَالَ صَلَاةِ الْفَرْضِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِعُمُومِ حَدِيثِ التَّرْجَمَةِ.
وَقَدْ فَهِمَ ابْنُ عُمَرَ اخْتِصَاصَ الْمَنْعِ بِمَنْ يَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ لَا خَارِجًا عَنْهُ، فَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَحْسبُ مَنْ يَتَنَفَّلُ فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْإِقَامَةِ، وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَصَدَ الْمَسْجِدَ فَسَمِعَ الْإِقَامَةَ فَصَلَّى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى مَعَ الْإِمَامِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ: الْحُجَّةُ عِنْدَ التَّنَازُعِ السُّنَّةُ، فَمَنْ أَدْلَى بِهَا فَقَدْ أَفْلَحَ، وَتَرْكُ التَّنَفُّلِ عِنْدَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَتَدَارُكُهَا بَعْدَ
قَضَاءِ الْفَرْضِ أَقْرَبُ إِلَى اتِّبَاعِ السُّنَّةِ، وَيَتَأَيَّدُ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى بِأَنَّ قَوْلَهُ فِي الْإِقَامَةِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ مَعْنَاهُ هَلُمُّوا إِلَى الصَّلَاةِ أَيِ الَّتِي يُقَامُ لَهَا، فَأَسْعَدُ النَّاسِ بِامْتِثَالِ هَذَا الْأَمْرِ مَنْ لَمْ يَتَشَاغَلْ عَنْهُ بِغَيْرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاسْتُدِلَّ بِعُمُومِ قَوْلِهِ فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ لِمَنْ قَالَ يَقْطَعُ النَّافِلَةَ إِذَا أُقِيمَتِ الْفَرِيضَةُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَخَصَّ آخَرُونَ النَّهْيَ بِمَنْ يُنْشِئُ النَّافِلَةَ عَمَلًا بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} وَقِيلَ يُفَرَّقُ بَيْنَ مَنْ يَخْشَى فَوْتَ الْفَرِيضَةِ فِي الْجَمَاعَةِ فَيَقْطَعُ وَإِلَّا فَلَا، وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ الَّتِي أُقِيمَتْ بِأَنَّ الْمَأْمُومَ لَا يُصَلِّي فَرْضًا وَلَا نَفْلًا خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي فَرْضًا آخَرَ، كَالظُّهْرِ مَثَلًا خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي الْعَصْرَ، وَإِنْ جَازَتْ إِعَادَةُ الْفَرْضِ خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي ذَلِكَ الْفَرْضَ.
قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ غُنْدَرٌ، وَمُعَاذٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مَالِكٍ) أَيْ تَابَعَا بَهْزَ بْنَ أَسَدٍ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ شُعْبَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فَقَالَا عَنْ مَالِكِ بْنِ بُحَيْنَةَ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مَالِكٍ أَيْ بِإِسْنَادِهِ، وَالْأَوَّلُ يَقْتَضِي اخْتِصَاصَ الْمُتَابَعَةِ بِقَوْلِهِ عَنْ مَالِكِ بْنِ بُحَيْنَةَ فَقَطْ، وَالثَّانِي يَشْمَلُ جَمِيعَ الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ، وَهُوَ أَوْلَى لِأَنَّهُ الْوَاقِعُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَطَرِيقُ غُنْدَرٍ وَصَلَهَا أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْهُ كَذَلِكَ، وَطَرِيقُ مُعَاذٍ - وَهُوَ ابْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ الْبَصْرِيُّ - وَصَلَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ شُعْبَةَ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ، وَحَجَّاجٌ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ كُلُّهُمْ عَنْ شُعْبَةَ كَذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ) أَيْ صَاحِبُ الْمَغَازِي عَنْ سَعْدٍ أَيِ ابْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُوَافِقَةٌ لِرِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ وَهِيَ الرَّاجِحَةُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ حَمَّادٌ) يَعْنِي ابْنَ سَلَمَةَ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْمِزِّيُّ وَآخَرُونَ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَابْنُ مَنْدَهْ مَوْصُولًا مِنْ طَرِيقِهِ، وَوَهِمَ الْكِرْمَانِيُّ فِي زَعْمِهِ أَنَّهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، وَالْمُرَادُ أَنَّ حَمَّادًا وَافَقَ شُعْبَةَ فِي قَوْلِهِ عَنْ مَالِكِ بْنِ بُحَيْنَةَ، وَقَدْ وَافَقَهُمَا أَبُو عَوَانَةَ فِيمَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنْ جَعْفَرٍ الْفِرْيَابِيِّ، عَنْ قُتَيْبَةَ عَنْهُ، لَكِنْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ قُتَيْبَةَ فَوَقَعَ فِي رِوَايَتِهِمَا عَنِ ابْنِ بُحَيْنَةَ مُبْهَمًا، وَكَأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ مِنْ قُتَيْبَةَ فِي وَقْتٍ عَمْدًا لِيَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى الصَّوَابِ، قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ: أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَقُولُونَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُحَيْنَةَ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ يَقُولُونَ مَالِكُ بْنُ بُحَيْنَةَ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ. انْتَهَى. فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السَّهْوُ فِيهِ مِنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا حَدَّثَ بِهِ بِالْعِرَاقِ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْقَعْنَبِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ مِنَ الْوَهْمِ قَالَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكِ ابْنِ بُحَيْنَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: قَوْلُهُ عَنْ أَبِيهِ خَطَأٌ. انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ لَمَّا رَأَى أَهْلَ الْعِرَاقِ يَقُولُونَ عَنْ مَالِكِ بْنِ بُحَيْنَةَ ظَنَّ أَنَّ رِوَايَةَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مُرْسَلَةٌ فَوَهِمَ فِي ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
39 - بَاب حَدِّ الْمَرِيضِ أَنْ يَشْهَدَ الْجَمَاعَةَ
664 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ الْأَسْوَدِ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عَائِشَةَ رضي الله عنها، فَذَكَرْنَا الْمُوَاظَبَةَ عَلَى الصَّلَاةِ وَالتَّعْظِيمَ لَهَا، قَالَتْ: لَمَّا مَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ، فَأُذِّنَ فَقَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ، إِذَا قَامَ فِي مَقَامِكَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، وَأَعَادَ فَأَعَادُوا لَهُ، فَأَعَادَ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ، مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ، فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ فَصَلَّى، فَوَجَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً، فَخَرَجَ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ،
كَأَنِّي أَنْظُرُ رِجْلَيْهِ تَخُطَّانِ مِنْ الْوَجَعِ، فَأَرَادَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَتَأَخَّرَ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ مَكَانَكَ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ حَتَّى جَلَسَ إِلَى جَنْبِهِ، قِيلَ لِلْأَعْمَشِ: وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِصَلَاتِهِ، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ بِرَأْسِهِ: نَعَمْ.
رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ الْأَعْمَشِ بَعْضَهُ، وَزَادَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: جَلَسَ عَنْ يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي قَائِمًا.
665 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: لَمَّا ثَقُلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَاشْتَدَّ وَجَعُهُ، اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِي، فَأَذِنَّ لَهُ فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ تَخُطُّ رِجْلَاهُ الْأَرْضَ، وَكَانَ بَيْنَ الْعَبَّاسِ وَرَجُلٍ آخَرَ، قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِابْنِ عَبَّاسٍ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ، فَقَالَ لِي: وَهَلْ تَدْرِي مَنْ الرَّجُلُ الَّذِي لَمْ تُسَمِّ عَائِشَةُ، قُلْتُ: لَا، قَالَ: هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ.
قَوْلُهُ: (بَابُ حَدِّ الْمَرِيضِ أَنْ يَشْهَدَ الْجَمَاعَةَ) قَالَ ابْنُ التِّينِ تَبَعًا لِابْنِ بَطَّالٍ: مَعْنَى الْحَدِّ هَاهُنَا الْحِدَّةُ، وَقَدْ نَقَلَهُ الْكِسَائِيُّ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ عُمَرَ فِي أَبِي بَكْرٍ كُنْتُ أَرَى مِنْهُ بَعْضَ الْحَدِّ أَيِ الْحِدَّةِ، قَالَ: وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْحَضُّ عَلَى شُهُودِ الْجَمَاعَةِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ هُنَا جِدٌّ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَهُوَ الِاجْتِهَادُ فِي الْأَمْرِ، لَكِنْ لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا رَوَاهُ بِالْجِيمِ. انْتَهَى. وَقَدْ أَثْبَتَ ابْنُ قُرْقُولٍ رِوَايَةَ الْجِيمِ وَعَزَاهَا لِلْقَابِسِيِّ. وَقَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: إِنَّمَا الْمَعْنَى مَا يُحَدُّ لِلْمَرِ ضِ أَنْ يَشْهَدَ مَعَهُ الْجَمَاعَةُ فَإِذَا جَاوَزَ ذَلِكَ الْحَدَّ لَمْ يُسْتَحَبَّ لَهُ شُهُودُهَا. وَمُنَاسَبَةُ ذَلِكَ مِنَ الْحَدِيثِ خُرُوجُهُ صلى الله عليه وسلم مُتَوَكِّئًا عَلَى غَيْرِهِ مِنْ شِدَّةِ الضَّعْفِ فَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ مَنْ بَلَغَ إِلَى تِلْكَ الْحَالِ لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ تَكَلُّفُ الْخُرُوجِ لِلْجَمَاعَةِ إِلَّا إِذَا وَجَدَ مَنْ يَتَوَكَّأُ عَلَيْهِ. وَأَنَّ قَوْلَهُ فِي الْحَدِيثِ الْمَاضِي لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا. وَقَعَ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ، قَالَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ مَعْنَاهُ بَابُ الْحَدِّ الَّذِي لِلْمَرِيضِ أَنْ يَأْخُذَ فِيهِ بِالْعَزِيمَةِ فِي شُهُودِ الْجَمَاعَةِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.
قَوْلُهُ: (مَرَضُهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ) سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُبَيَّنًا فِي آخِرِ الْمَغَازِي فِي سَبَبِهِ وَوَقْتِ ابْتِدَائِهِ وَقَدْرِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ الزُّهْرِيُّ فِي رِوَايَتِهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي مِنْ هَذَا الْبَابِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ أَنِ اشْتَدَّ بِهِ الْمَرَضُ وَاسْتَقَرَّ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ.
قَوْلُهُ: (فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ) هِيَ الْعِشَاءُ كَمَا فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ الْآتِيَةِ قَرِيبًا فِي بَابِ إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ وَسَنَذْكُرُ هُنَاكَ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (فَأُذِّنَ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَأُذِّنَ بِالْوَاوِ وَهُوَ أَوْجَهُ، وَالْمُرَادُ بِهِ أَذَانُ الصَّلَاةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أُعْلِمَ، وَيُقَوِّيهِ رِوَايَةُ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ الْآتِيَةُ فِي بَابُ الرَّجُلُ يَأْتَمُّ بِالْإِمَامِ وَلَفْظُهُ جَاءَ بِلَالٌ يُؤْذِنُهُ بِالصَّلَاةِ وَاسْتُفِيدَ مِنْهُ تَسْمِيَةُ الْمُبْهَمِ، وَسَيَأْتِي فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم بَدَأَ بِالسُّؤَالِ عَنْ حُضُورِ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَتَهَيَّأَ لِلْخُرُوجِ إِلَيْهَا فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ. . الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: (مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْآمِرَ بِالْأَمْرِ بِالشَّيْءِ يَكُونُ آمِرًا بِهِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَأَجَابَ الْمَانِعُونَ بِأَنَّ الْمَعْنَى بَلِّغُوا أَبَا بَكْرٍ أَنِّي أَمَرْتُهُ. وَفَصْلُ النِّزَاعِ أَنَّ النَّافِيَ إِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَيْسَ أَمْرًا حَقِيقَةً فَمُسَلَّمٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ صِيغَةُ أَمْرٍ لِلثَّانِي، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُهُ فَمَرْدُودٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (فَقِيلَ لَهُ)
قَائِلُ ذَلِكَ عَائِشَةُ كَمَا سَيَأْتِي.
قَوْلُهُ: (أَسِيفٌ) بِوَزْنِ فَعِيلٍ وَهُوَ بِمَعْنَى فَاعِلٍ مِنَ الْأَسَفِ وَهُوَ شِدَّةُ الْحُزْنِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ رَقِيقُ الْقَلْبِ. وَلِابْنِ حِبَّانَ مِنْ رِوَايَةِ عَاصِمٍ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: قَالَ عَاصِمٌ وَالْأَسِيفُ الرَّقِيقُ الرَّحِيمُ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ سِتَّةِ أَبْوَابٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: إِنَّهُ رَجُلٌ رَقِيقٌ، إِذَا قَرَأَ غَلَبَهُ الْبُكَاءُ. وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى نَحْوُهُ، وَمِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْهَا بِلَفْظِ قَالَتْ عَائِشَةُ: قُلْتُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ إِذَا قَامَ فِي مَقَامِكَ لَمْ يُسْمِعِ النَّاسَ مِنَ الْبُكَاءِ فَمُرْ عُمَرَ.
قَوْلُهُ: (فَأَعَادُوا لَهُ) أَيْ مَنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ، وَالْمُخَاطِبُ بِذَلِكَ عَائِشَةُ كَمَا تَرَى، لَكِنْ جَمْعٌ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي مَقَامِ الْمُوَافِقِينَ لَهَا عَلَى ذَلِكَ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى بِالْإِفْرَادِ وَلَفْظُهُ فَعَادَتْ وَلِابْنِ عُمَرَ فَعَاوَدَتْهُ.
قَوْلُهُ: (فَأَعَادَ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ) فِيهِ حَذْفٌ بَيَّنَهُ مَالِكٌ فِي رِوَايَتِهِ الْمُذَكُورَةِ، وَأَنَّ الْمُخَاطِبَ لَهُ حِينَئِذٍ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ بِأَمْرِ عَائِشَةَ، وَفِيهِ أَيْضًا فَمُرْ عُمَرَ، فَقَالَ: مَهْ إِنَّكُنَّ لَأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ وَصَوَاحِبُ جَمْعُ صَاحِبَةٍ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُنَّ مِثْلُ صَوَاحِبِ يُوسُفَ فِي إِظْهَارِ خِلَافِ مَا فِي الْبَاطِنِ. ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْخِطَابَ وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ فَالْمُرَادُ بِهِ وَاحِدٌ وَهِيَ عَائِشَةُ فَقَطْ، كَمَا أَنَّ صَوَاحِبَ صِيغَةُ جَمْعٍ وَالْمُرَادُ زُلَيْخَا فَقَطْ، وَوَجْهُ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ أَنَّ زُلَيْخَا اسْتَدْعَتِ النِّسْوَةَ وَأَظْهَرَتْ لَهُنَّ الْإِكْرَامَ بِالضِّيَافَةِ وَمُرَادُهَا زِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ أَنْ يَنْظُرْنَ إِلَى حُسْنِ يُوسُفَ وَيَعْذُرْنَهَا فِي مَحَبَّتِهِ، وَأَنَّ عَائِشَةَ أَظْهَرَتْ أَنَّ سَبَبَ إِرَادَتِهَا صَرْفَ الْإِمَامَةِ عَنْ أَبِيهَا كَوْنُهُ لَا يُسْمِعُ الْمَأْمُومِينَ الْقِرَاءَةَ لِبُكَائِهِ، وَمُرَادُهَا زِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ أَنْ لَا يَتَشَاءَمَ النَّاسُ بِهِ. وَقَدْ صَرَّحَتْ هِيَ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَتْ لَقَدْ رَاجَعْتُهُ وَمَا حَمَلَنِي عَلَى كَثْرَةِ مُرَاجَعَتِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي قَلْبِي أَنْ يُحِبَّ النَّاسُ بَعْدَهُ رَجُلًا قَامَ مَقَامَهُ أَبَدًا الْحَدِيثَ. وَسَيَأْتِي بِتَمَامِهِ فِي بَابِ وَفَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا. وَبِهَذَا التَّقْرِيرُ يَنْدَفِعُ إِشْكَالُ مَنْ قَالَ إِنَّ صَوَاحِبَ يُوسُفَ لَمْ يَقَعْ مِنْهُنَّ إِظْهَارٌ يُخَالِفُ مَا فِي الْبَاطِنِ.
وَوَقَعَ فِي مُرْسَلِ الْحَسَنِ عِنْدَ ابْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَمَرَ عَائِشَةَ أَنْ تُكَلِّمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَصْرِفَ ذَلِكَ عَنْهُ، فَأَرَادَتِ التَّوَصُّلَ إِلَى ذَلِكَ بِكُلِّ طَرِيقٍ فَلَمْ يَتِمَّ. وَوَقَعَ فِي أَمَالِي ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ أَنَّ النِّسْوَةَ أَتَيْنَ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ يُظْهِرْنَ تَعْنِيفَهَا، وَمَقْصُودُهُنَّ فِي الْبَاطِنِ أَنْ يَدْعُونَ يُوسُفَ إِلَى أَنْفُسِهِنَّ، كَذَا قَالَ وَلَيْسَ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ مَا يُسَاعِدُ مَا قَالَ.
(فَائِدَةٌ): زَادَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ هُوَ الَّذِي أَمَرَ عَائِشَةَ أَنْ تُشِيرَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ يَأْمُرَ عُمَرَ بِالصَّلَاةِ، أَخْرَجَهُ الدَّوْرَقِيُّ فِي مُسْنَدِهِ، وَزَادَ مَالِكٌ فِي رِوَايَتِهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فَقَالَتْ حَفْصَةُ لِعَائِشَةَ: مَا كُنْتُ لِأُصِيبَ مِنْكِ خَيْرًا. وَمِثْلُهُ لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ فِي حَدِيثِ الْبَابِ، وَإِنَّمَا قَالَتْ حَفْصَةُ ذَلِكَ لِأَنَّ كَلَامَهَا صَادَفَ الْمَرَّةَ الثَّالِثَةَ مِنَ الْمُعَاوَدَةِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يُرَاجَعُ بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَلَمَّا أَشَارَ إِلَى الْإِنْكَارِ عَلَيْهَا بِمَا ذَكَرَ مِنْ كَوْنِهِنَّ صَوَاحِبَ يُوسُفَ وَجَدَتْ حَفْصَةُ فِي نَفْسِهَا مِنْ ذَلِكَ لِكَوْنِ عَائِشَةَ هِيَ الَّتِي أَمَرَتْهَا بِذَلِكَ، وَلَعَلَّهَا تَذَكَّرَتْ مَا وَقَعَ لَهَا مَعَهَا أَيْضًا فِي قِصَّةِ الْمَغَافِيرِ كَمَا سَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ.
قَوْلُهُ: (فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ لِلنَّاسِ.
قَوْلُهُ: (فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ) فِيهِ حَذْفٌ دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ، وَقَدْ بَيَّنَهُ فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ الْمَذْكُورَةِ وَلَفْظُهُ فَأَتَاهُ الرَّسُولُ أَيْ بِلَالٌ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَعْلَمَ بِحُضُورِ الصَّلَاةِ فَأُجِيبَ بِذَلِكَ، وَفِي رِوَايَتِهِ أَيْضًا فَقَالَ لَهُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُكَ أَنْ تُصَلِّيَ بِالنَّاسِ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - وَكَانَ رَجُلًا رَقِيقًا -: يَا عُمَرُ صَلِّ بِالنَّاسِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ انْتَهَى. وَقَوْلُ أَبِي بَكْرٍ هَذَا لَمْ يُرِدْ بِهِ مَا أَرَادَتْ عَائِشَةُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: تَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّهُ قَالَهُ تَوَاضُعًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ قَالَهُ لِلْعُذْرِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ كَوْنُهُ رَقِيقَ الْقَلْبِ كَثِيرَ الْبُكَاءِ، فَخَشِيَ أَنْ
لَا يُسْمِعَ النَّاسَ. انْتَهَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رضي الله عنه فَهِمَ مِنَ الْإِمَامَةِ الصُّغْرَى الْإِمَامَةَ الْعُظْمَى وَعَلِمَ مَا فِي تَحَمُّلِهَا مِنَ الْخَطَرِ، وَعَلِمَ قُوَّةَ عُمَرَ عَلَى ذَلِكَ، فَاخْتَارَهُ. وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ عِنْدَ الْبَيْعَةِ أَشَارَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُبَايِعُوهُ أَوْ يُبَايِعُوا أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى الْمُرَاجَعَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَفَهِمَ مِنَ الْأَمْرِ لَهُ بِذَلِكَ تَفْوِيضَ الْأَمْرِ لَهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ بَاشَرَ بِنَفْسِهِ أَوِ اسْتَخْلَفَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ لِلْمُسْتَخْلِفِ فِي الصَّلَاةِ أَنْ يَسْتَخلِفَ ولَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إِذْنٍ خَاصٍّ لَهُ بِذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (فَصَلَّى) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ يُصَلِّي وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَهَيَّأَ لَهَا، وَسَيَأْتِي فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِلَفْظِ فَلَمَّا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ مُحْتَمَلٌ أَيْضًا بِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ دَخَلَ فِي مَكَانِ الصَّلَاةِ، وَيَأْتِي الْبَحْثُ مَعَ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (فَوَجَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَجَدَ ذَلِكَ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ بِعَيْنِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَنْ يَكُونَ فِيهِ حَذْفٌ كَمَا تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ وَأَوْضَحُ مِنْهُ رِوَايَةُ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ الْمَذْكُورِ فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ تِلْكَ الْأَيَّامَ. ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً وَعَلَى هَذَا لَا يَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ الْمَذْكُورَةُ هِيَ الْعِشَاءُ.
قَوْلُهُ: (يُهَادَى) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الدَّالِ أَيْ يَعْتَمِدُ عَلَى الرَّجُلَيْنِ مُتَمَايِلًا فِي مَشْيِهِ مِنْ شِدَّةِ الضَّعْفِ، وَالتَّهَادِي التَّمَايُلُ فِي الْمَشْيِ الْبَطِيءِ، وَقَوْلُهُ يَخُطَّانِ الْأَرْضَ أَيْ لَمْ يَكُنْ يَقْدِرُ عَلَى تَمْكِينِهِمَا مِنَ الْأَرْضِ، وَسَقَطَ لَفْظُ الْأَرْضِ مِنْ رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ عَاصِمٍ الْمَذْكُورَةِ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ إِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَى بُطُونِ قَدَمَيْهِ.
قَوْلُهُ: (بَيْنَ رَجُلَيْنِ) فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي مِنْ حَدِيثَيِ الْبَابِ أَنَّهُمَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَاصِمٍ الْمَذْكُورَةِ وَجَدَ خِفَّةً مِنْ نَفْسِهِ فَخَرَجَ بَيْنَ بَرِيرَةَ وَنُوبَةَ وَيُجْمَعُ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ بِأَنَّهُ خَرَجَ مِنَ الْبَيْتِ إِلَى الْمَسْجِدِ بَيْنَ هَذَيْنِ، وَمِنْ ثَمَّ إِلَى مَقَامِ الصَّلَاةِ بَيْنَ الْعَبَّاسِ، وَعَلِيٍّ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى التَّعَدُّدِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا فِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ أَنَّهُ خَرَجَ بَيْنَ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَالْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ. وَأَمَّا مَا فِي مُسْلِمٍ أَنَّهُ خَرَجَ بَيْنَ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ، وَعَلِيٍّ فَذَاكَ فِي حَالِ مَجِيئِهِ إِلَى بَيْتِ عَائِشَةَ.
(تَنْبِيهٌ): نُوبَةُ بِضَمِّ النُّونِ وَبِالْمُوَحَّدَةِ ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ فِي النِّسَاءِ الصَّحَابِيَّاتِ فَوَهِمَ، وَإِنَّمَا هُوَ عَبْدٌ أَسْوَدُ كَمَا وَقَعَ عِنْدَ سَيْفٍ فِي كِتَابِ الرِّدَّةِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ سَالِمِ بْنِ عُبَيْدٍ فِي صَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ بِلَفْظِ خَرَجَ بَيْنَ بَرِيرَةَ وَرَجُلٍ آخَرَ.
قَوْلُهُ: (فَأَرَادَ أَبُو بَكْرٍ) زَادَ أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ فَلَمَّا سَمِعَ أَبُو بَكْرٍ حِسَّهُ وَفِي رِوَايَةِ أَرْقَمَ بْنِ شُرَحْبِيلَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَلَمَّا أَحَسَّ النَّاسُ بِهِ سَبَّحُوا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.
قَوْلُهُ: (أَنْ مَكَانَكَ) فِي رِوَايَةِ عَاصِمٍ الْمَذْكُورَةِ أَنِ اثْبُتْ مَكَانَكَ وَفِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ بِأَنْ لَا يَتَأَخَّرَ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ أُتِيَ بِهِ) كَذَا هُنَا بِضَمِّ الْهَمْزَةِ. وَفِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِأَمْرِهِ وَلَفْظُهُ فَقَالَ أَجْلَسَانِي إِلَى جَنْبِهِ، فَأَجْلَسَاهُ وَعَيَّنَ أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ فِي إِسْنَادِ حَدِيثِ الْبَابِ - كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ - مَكَانَ الْجُلُوسِ فَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ حَتَّى جَلَسَ عَنْ يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ وَهَذَا هُوَ مَقَامُ الْإِمَامِ، وَسَيَأْتِي الْقَوْلُ فِيهِ. وَأَغْرَبَ الْقُرْطُبِيُّ شَارِحُ مُسْلِمٍ لَمَّا حَكَى الْخِلَافُ هَلْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ إِمَامًا أَوْ مَأْمُومًا؟ فَقَالَ: لَمْ يَقَعْ فِي الصَّحِيحِ بَيَانُ جُلُوسِهِ صلى الله عليه وسلم هَلْ كَانَ عَنْ يَمِينِ أَبِي بَكْرٍ أَوْ عَنْ يَسَارِهِ. انْتَهَى. وَرِوَايَةُ أَبِي مُعَاوِيَةَ هَذِهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا، فَالْعَجَبُ مِنْهُ كَيْفَ يَغْفُلُ عَنْ ذَلِكَ فِي حَالِ شَرْحِهِ لَهُ.
قَوْلُهُ: (فَقِيلَ لِلْأَعْمَشِ إِلَخْ) ظَاهِرُه الِانْقِطَاعُ، لِأَنَّ الْأَعْمَشَ لَمْ يُسْنِدْهُ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنْهُ ذِكْرُ ذَلِكَ مُتَّصِلًا بِالْحَدِيثِ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ وَغَيْرِهَا.
قَوْلُهُ: (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) هُوَ الطَّيَالِسِيُّ.
قَوْلُهُ: (بَعْضَهُ) بِالنَّصْبِ وَهُوَ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ، وَرِوَايَتُهُ
هَذِهِ وَصَلَهَا الْبَزَّارُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ بِهِ وَلَفْظُهُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُقَدَّمُ بَيْنَ يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ، كَذَا رَوَاهُ مُخْتَصَرًا، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَضِيَّةِ حَدِيثِ الْبَابِ، لَكِنْ رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ بِسَنَدِهِ هَذَا عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ الْمُقَدَّمُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّفِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْمُقَدَّمُ وَرَوَاهُ مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَهَذَا عَكْسُ رِوَايَةِ أَبِي مُوسَى، وَهُوَ اخْتِلَافٌ شَدِيدٌ.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَسْرُوقٍ عَنْهَا أَيْضًا اخْتِلَافٌ فَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ رِوَايَةِ عَاصِمٍ عَنْ شَقِيقٍ عَنْهُ بِلَفْظِ كَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِصَلَاتِهِ، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ شَقِيقٍ بِلَفْظِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ وَظَاهِرُ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ أَنَّ عَائِشَةَ لَمْ تُشَاهِدِ الْهَيْئَةَ الْمَذْكُورَةَ، وَلَكِنْ تَضَافَرَتِ الرِّوَايَاتُ عَنْهَا بِالْجَزْمِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ هُوَ الْإِمَامُ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ، مِنْهَا رِوَايَةُ مُوسَى ابْنِ أَبِي عَائِشَةَ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا فَفِيهَا فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِصَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسُ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ وَهَذِهِ رِوَايَةُ زَائِدَةَ بْنِ قُدَامَةَ، عَنْ مُوسَى، وَخَالَفَهُ شُعْبَةُ أَيْضًا فَرَوَاهُ عَنْ مُوسَى بِلَفْظِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ صَلَّى بِالنَّاسِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّفِّ خَلْفَهُ فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ سَلَكَ التَّرْجِيحَ فَقَدَّمَ الرِّوَايَةَ الَّتِي فِيهَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ مَأْمُومًا لِلْجَزْمِ بِهَا، وَلِأَنَّ أَبَا مُعَاوِيَةَ أَحْفَظُ فِي حَدِيثِ الْأَعْمَشِ مِنْ غَيْرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَلَكَ عَكْسَ ذَلِكَ وَرَجَّحَ أَنَّهُ كَانَ إِمَامًا، وَتَمَسَّكَ بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ فِي بَابِ مَنْ دَخَلَ لِيَؤُمَّ النَّاسَ حَيْثُ قَالَ مَا كَانَ لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يَتَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَمِنْهُمْ مَنْ سَلَكَ الْجَمْعَ فَحَمَلَ الْقِصَّةَ عَلَى التَّعَدُّدِ.
وَأَجَابَ عَنْ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِهِ. وَيُؤَيِّدُهُ اخْتِلَافُ النَّقْلِ عَنِ الصَّحَابَةِ غَيْرِ عَائِشَةَ، فَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ مَأْمُومًا كَمَا سَيَأْتِي فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ أَرْقَمَ بْنِ شُرَحْبِيلَ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحَدِيثِ أَنَسٍ فِيهِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ إِمَامًا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ رِوَايَةِ حُمَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ عَنْهُ بِلَفْظِ آخِرُ صَلَاةٍ صَلَّاهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ فِي ثَوْبٍ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ فَلَمْ يَذْكُرْ ثَابِتًا، وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَا تَرَتَّبَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ مِنَ الْحُكْمِ فِي بَابُ إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (وَزَادَ أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ: جَلَسَ عَنْ يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي قَائِمًا) يَعْنِي رَوَى الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ كَمَا رَوَاهُ حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ مُطَوَّلًا وَشُعْبَةُ مُخْتَصَرًا، كُلُّهُمْ عَنِ الْأَعْمَشِ بِإِسْنَادِهِ الْمَذْكُورِ، فَزَادَ أَبُو مُعَاوِيَةَ مَا ذُكِرَ. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِيهِ. وَغَفَلَ مُغْلَطَايْ وَمَنْ تَبِعَهُ فَنَسَبُوا وَصْلَهُ إِلَى رِوَايَةِ ابْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ، وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ رِوَايَةَ ابْنِ نُمَيْرٍ لَيْسَ فِيهَا عَنْ يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ.
وَالثَّانِي أَنَّ نِسْبَتَهُ إِلَى تَخْرِيجِ صَاحِبِ الْكِتَابِ أَوْلَى مِنْ نِسْبَتِهِ لِغَيْرِهِ فِيهِ.
قَوْلُهُ في الحديث الثاني (لَمَّا ثَقُلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أَيِ اشْتَدَّ بِهِ مَرَضُهُ، يُقَالُ: ثَقُلَ فِي مَرَضِهِ إِذَا رَكَدَتْ أَعْضَاؤُهُ عَنْ خِفَّةِ الْحَرَكَةِ.
قَوْلُهُ: (فَأَذِنَّ لَهُ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ أَيِ الْأَزْوَاجُ، وَحَكَى الْكِرْمَانِيُّ أَنَّهُ رُوِيَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الذَّالِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْقَسْمَ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا سَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ هَذَا فِي بَابِ الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ مِنَ الْمُخَضَّبِ وَفِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى الَّذِي هُنَا، وَسَيَأْتِي فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ شَيْخِ الزُّهْرِيِّ، وَسِيَاقُهُ أَتَمُّ مِنْ سِيَاقِ الزُّهْرِيِّ.
قَوْلُهُ: (قَالَ هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ) زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ
رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ وَلَكِنَّ عَائِشَةَ لَا تَطِيبُ نَفْسًا لَهُ بِخَيْرٍ وَلِابْنِ إِسْحَاقَ فِي الْمَغَازِي عَنِ الزُّهْرِيِّ وَلَكِنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى أَنْ تَذْكُرَهُ بِخَيْرٍ وَلَمْ يَقِفِ الْكِرْمَانِيُّ عَلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ فَعَبَّرَ عَنْهَا بِعِبَارَةٍ شَنِيعَةٍ، وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ تَنَطَّعَ فَقَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ ذَلِكَ بِعَائِشَةَ، وَرَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا أَبْهَمَتِ الثَّانِيَ لِكَوْنِهِ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِي جَمِيعِ الْمَسَافَةِ إِذْ كَانَ تَارَةً يَتَوَكَّأُ عَلَى الْفَضْلِ وَتَارَةً عَلَى أُسَامَةَ وَتَارَةً عَلَى عَلِيٍّ، وَفِي جَمِيعِ ذَلِكَ الرَّجُلُ الْآخَرُ هُوَ الْعَبَّاسُ، وَاخْتُصَّ بِذَلِكَ إِكْرَامًا لَهُ، وَهَذَا تَوَهُّمٌ مِمَّنْ قَالَهُ وَالْوَاقِعُ خِلَافُهُ، لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ جَازِمٌ بِأَنَّ الْمُبْهَمَ عَلِيٌّ فَهُوَ الْمُعْتَمَدُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَدَعْوَى وُجُودِ الْعَبَّاسِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَالَّذِي يَتَبَدَّلُ غَيْرُهُ مَرْدُودَةٌ بِدَلِيلِ رِوَايَةِ عَاصِمٍ الَّتِي قَدَّمْتُ الْإِشَارَةَ إِلَيْهَا وَغَيْرُهَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْعَبَّاسَ لَمْ يَكُنْ فِي مَرَّةٍ وَلَا فِي مَرَّتَيْنِ مِنْهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرُ مَا مَضَى تَقْدِيمُ أَبِي بَكْرٍ، وَتَرْجِيحُهُ عَلَى جَمِيعِ الصَّحَابَةِ، وَفَضِيلَةُ عُمَرَ بَعْدَهُ، وَجَوَازُ الثَّنَاءِ فِي الْوَجْهِ لِمَنْ أُمِنَ عَلَيْهِ الْإِعْجَابُ، وَمُلَاطَفَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَزْوَاجِهِ وَخُصُوصًا لِعَائِشَةَ، وَجَوَازُ مُرَاجَعَةِ الصَّغِيرِ الْكَبِيرَ، وَالْمُشَاوَرَةُ فِي الْأَمْرِ الْعَامِّ، وَالْأَدَبُ مَعَ الْكَبِيرِ لِهَمِّ أَبِي بَكْرٍ بِالتَّأَخُّرِ عَنِ الصَّفِّ، وَإِكْرَامِ الْفَاضِلِ لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَتَأَخَّرَ حَتَّى يَسْتَوِيَ مَعَ الصَّفِّ فَلَمْ يَتْرُكْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَزَحْزَحُ عَنْ مَقَامِهِ.
وفِيهِ أَنَّ الْبُكَاءَ وَلَوْ كَثُرَ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ أَنْ عَلِمَ حَالَ أَبِي بَكْرٍ فِي رِقَّةِ الْقَلْبِ وَكَثْرَةِ الْبُكَاءِ لَمْ يَعْدِلْ عَنْهُ، وَلَا نَهَاهُ عَنِ الْبُكَاءِ، وَأَنَّ الْإِيمَاءَ يَقُومُ مَقَامَ النُّطْقِ، وَاقْتِصَارُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْإِشَارَةِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِضَعْفِ صَوْتِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّ مُخَاطَبَةَ مَنْ يَكُونُ فِي الصَّلَاةِ بِالْإِيمَاءِ أَوْلَى مِنَ النُّطْقِ، وَفِيهِ تَأْكِيدُ أَمْرِ الْجَمَاعَةِ وَالْأَخْذُ فِيهَا بِالْأَشَدِّ وَإِنْ كَانَ الْمَرَضُ يُرَخِّصُ فِي تَرْكِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ لِبَيَانِ جَوَازِ الْأَخْذِ بِالْأَشَدِّ وَإِنْ كَانَتِ الرُّخْصَةُ أَوْلَى، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَعْذُرَ أَحَدٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ نَفْسَهُ بِأَدْنَى عُذْرٍ فَيَتَخَلَّفُ عَنِ الْإِمَامَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَصَدَ إِفْهَامَ النَّاسِ أَنَّ تَقْدِيمَهُ لِأَبِي بَكْرٍ كَانَ لِأَهْلِيَّتِهِ لِذَلِكَ حَتَّى إِنَّهُ صَلَّى خَلْفَهُ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ اسْتِخْلَافِ الْإِمَامِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ لِصَنِيعِ أَبِي بَكْرٍ، وَعَلَى جَوَازِ مُخَالَفَةِ مَوْقِفِ الْمَأْمُومِ لِلضَّرُورَةِ كَمَنْ قَصَدَ أَنْ يُبَلِّغَ عَنْهُ، وَيَلْتَحِقُ بِهِ مَنْ زَحَمَ عَنِ الصَّفِّ، وَعَلَى جَوَازِ ائْتِمَامِ بَعْضِ الْمَأْمُومِينَ بِبَعْضٍ وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَاخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ الْبُخَارِيُّ كَمَا سَيَأْتِي، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ إِنَّمَا كَانَ مُبَلِّغًا كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابُ مَنْ أَسْمَعَ النَّاسَ التَّكْبِيرَ مِنْ رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنِ الْأَعْمَشِ، وَكَذَا ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ عَلَى هَذَا، فَمَعْنَى الِاقْتِدَاءُ اقْتِدَاؤُهُمْ بِصَوْتِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم
- كَانَ جَالِسًا وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ قَائِمًا فَكَانَ بَعْضُ أَفْعَالِهِ يَخْفَى عَلَى بَعْضِ الْمَأْمُومِينَ فَمِنْ ثَمَّ كَانَ أَبُو بَكْرٍ كَالْإِمَامِ فِي حَقِّهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِيهِ اتِّبَاعُ صَوْتِ الْمُكَبِّرِ، وَصِحَّةُ صَلَاةِ الْمُسْتَمِعِ وَالسَّامِعِ، وَمِنْهُمْ مَنْ شَرَطَ فِي صِحَّتِهِ تَقَدُّمَ إِذْنِ الْإِمَامِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الطَّبَرِيُّ عَلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْطَعَ الِاقْتِدَاءَ بِهِ وَيَقْتَدِيَ هُوَ بِغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْطَعَ الصَّلَاةَ. وَعَلَى جَوَازِ إِنْشَاءِ الْقُدْوَةِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، وَعَلَى جَوَازِ تَقَدُّمِ إِحْرَامِ الْمَأْمُومِ عَلَى الْإِمَامِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ قَطَعَ الْقُدْوَةَ وَائْتَمَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ. وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا أَنَّ فِي رِوَايَةِ أَرْقَمَ بْنِ شُرَحْبِيلَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَابْتَدَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْقِرَاءَةَ مِنْ حَيْثُ انْتَهَى أَبُو بَكْرٍ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الْقَادِرِ عَلَى الْقِيَامِ قَائِمًا خَلْفَ الْقَاعِدِ خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ مُطْلَقًا وَلِأَحْمَدَ حَيْثُ أَوْجَبَ الْقُعُودَ عَلَى مَنْ يُصَلِّي خَلْفَ الْقَاعِدِ كَمَا سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابِ إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
40 - بَاب الرُّخْصَةِ فِي الْمَطَرِ وَالْعِلَّةِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي رَحْلِهِ
666 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَذَّنَ بِالصَّلَاةِ فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ
بَرْدٍ وَرِيحٍ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ إِذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ ذَاتُ بَرْدٍ وَمَطَرٍ يَقُولُ: أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ.
667 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيِّ: أَنَّ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ كَانَ يَؤُمُّ قَوْمَهُ، وَهُوَ أَعْمَى، وَأَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا تَكُونُ الظُّلْمَةُ وَالسَّيْلُ، وَأَنَا رَجُلٌ ضَرِيرُ الْبَصَرِ، فَصَلِّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي بَيْتِي مَكَانًا أَتَّخِذُهُ مُصَلَّى، فَجَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ، فَأَشَارَ إِلَى مَكَانٍ مِنْ الْبَيْتِ، فَصَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (بَابُ الرُّخْصَةِ فِي الْمَطَرِ وَالْعِلَّةُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي رَحْلِهِ) ذِكْرُ الْعِلَّةِ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ لِأَنَّهَا أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ بِالْمَطَرِ أَوْ غَيْرِهِ، وَالصَّلَاةُ فِي الرَّحْلِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ بِجَمَاعَةٍ أَوْ مُنْفَرِدًا لَكِنَّهَا مَظِنَّةُ الِانْفِرَادِ، وَالْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ فِي الْجَمَاعَةِ إِيقَاعُهَا فِي الْمَسْجِدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي كِتَابِ الْأَذَانِ، وَعَلَى حَدِيثِ عِتْبَانَ فِي بَابُ الْمَسَاجِدُ فِي الْبُيُوتِ وَسِيَاقُهُ هُنَاكَ أَتَمُّ، وَإِسْمَاعِيلُ شَيْخُهُ هُنَا هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ.
41 - بَاب هَلْ يُصَلِّي الْإِمَامُ بِمَنْ حَضَرَ وَهَلْ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الْمَطَرِ
668 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ صَاحِبُ الزِّيَادِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ، قَالَ: خَطَبَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ فِي يَوْمٍ ذِي رَدْغٍ، فَأَمَرَ الْمُؤَذِّنَ لَمَّا بَلَغَ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، قَالَ قُلْ: الصَّلَاةُ فِي الرِّحَالِ، فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَكَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا، فَقَالَ: كَأَنَّكُمْ أَنْكَرْتُمْ هَذَا، إِنَّ هَذَا فَعَلَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي، يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، إِنَّهَا عَزْمَةٌ، وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُحْرِجَكُمْ.
وَعَنْ حَمَّادٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: كَرِهْتُ أَنْ أُؤَثِّمَكُمْ، فَتَجِيئُونَ تَدُوسُونَ الطِّينَ إِلَى رُكَبِكُمْ.
669 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، فَقَالَ: جَاءَتْ سَحَابَةٌ فَمَطَرَتْ حَتَّى سَالَ السَّقْفُ، وَكَانَ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ، فَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْجُدُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ، حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ فِي جَبْهَتِهِ.
[الحديث 669 - أطرافه: 2040، 2036، 2027، 2018، 2016، 836، 813]
670 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ سِيرِينَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسا يَقُولُ: قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ: إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ الصَّلَاةَ مَعَكَ، وَكَانَ رَجُلًا ضَخْمًا، فَصَنَعَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا، فَدَعَاهُ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَبَسَطَ لَهُ حَصِيرًا وَنَضَحَ طَرَفَ الْحَصِيرِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ رَكْعَتَيْنِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ آلِ الْجَارُودِ، لِأَنَس: أَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي
الضُّحَى؟ قَالَ: مَا رَأَيْتُهُ صَلَّاهَا إِلَّا يَوْمَئِذٍ.
[الحديث 670 - طرفاه في: 6080، 1179]
قَوْلُهُ: (بَابُ هَلْ يُصَلِّي الْإِمَامُ بِمَنْ حَضَرَ) أَيْ وُجُودُ الْعِلَّةِ الْمُرَخِّصَةِ لِلتَّخَلُّفِ، فَلَوْ تَكَلَّفَ قَوْمٌ الْحُضُورَ فَصَلَّى بِهِمُ الْإِمَامُ لَمْ يُكْرَهْ، فَالْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ فِي الرِّحَالِ عَلَى هَذَا لِلْإِبَاحَةِ لَا لِلنَّدْبِ، وَمُطَابَقَةُ ذَلِكَ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ فِيهِ فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ لَمَّا أَمَرَ الْمُؤَذِّنُ أَنْ يَقُولَ الصَّلَاةَ فِي الرِّحَالِ فَإِنَّهُ دَالٌّ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ حَضَرَ وَبَعْضَهُمْ لَمْ يَحْضُرْ وَمَعَ ذَلِكَ خَطَبَ وَصَلَّى بِمَنْ حَضَرَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ وَهَلْ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الْمَطَرِ فَظَاهِرٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْأَذَانِ أَيْضًا وَفِيهِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَأَنَّ قَوْلَهُ إِنَّهَا عَزْمَةٌ أَيِ الْجُمُعَةُ، وَأَمَّا مُطَابَقَةُ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فَمِنْ جِهَةِ أَنَّ الْعَادَةَ فِي يَوْمِ الْمَطَرِ أَنْ يَتَخَلَّفَ بَعْضُ النَّاسِ، وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ الشُّرَّاحِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الْجُمُعَةِ فَمَرْدُودٌ لِأَنَّهُ سَيَأْتِي فِي الِاعْتِكَافِ أَنَّهَا كَانَتْ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ لَا ذِكْرَ لِلْخُطْبَةِ فِيهِ. وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَدُلَّ كُلُّ حَدِيثٍ فِي الْبَابِ عَلَى كُلِّ مَا فِي التَّرْجَمَةِ.
قَوْلُهُ (وَعَنْ حَمَّادٍ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلِي قَوْلِهِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ وَلَيْسَ بِمُعَلَّقٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْأَذَانِ عَنْ مُسَدَّدٍ عَنْ حَمَّادٍ عَنْهُمَا جَمِيعًا.
قَوْلُهُ (نَحْوَهُ) أَيْ بِمُعْظَمِ لَفْظِهِ وَجَمِيعِ مَعْنَاهُ، وَلِهَذَا اسْتُثْنِيَ مِنْهُ لَفْظُ أُحْرِجَكُمْ وَأَنَّ فِي هَذَا بَدَلَهَا أُؤَثِّمَكُمْ إِلَخْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالِاسْتِثْنَاءِ أَنَّهُمَا مُتَّفِقَانِ فِي الْمَعْنَي وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ هَذِهِ الزِّيَادَةُ.
قَوْلُهُ (فَتَجِيئُونَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِإِثْبَاتِ النُّونِ، وَهُوَ عَلَي حَذْفِ مُقَدَّرٍ، ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ فَتَجِيئُوا وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُ الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْأَذَانِ، وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ يَأْتِي فِي الِاعْتِكَافِ، وَمُسْلِمٌ شَيْخُهُ فِيهِ هُنَا هُوَ ابْنُ ابراهيمَ، وَهُشَامٌ هُوَ الدَّسْتُوَائِي، وَيَحْيَي هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ، وَأَبُو سَلَمَةَ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ.
قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ (قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ) قِيلَ إِنَّهُ عِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ لِتَقَارُبِ الْقِصَّتَيْنِ، لَكِنْ لَمْ أَرَ ذَلِكَ صَرِيحًا. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ الْآتِيَةِ أَنَّهُ بَعْضُ عُمُومَةِ أَنَسٍ وَلَيْسَ عِتْبَانُ عَمًّا لِأَنَسٍ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ لِأَنَّهُمَا مِنْ قَبِيلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ الْخَزْرَجُ، لَكِنْ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنْ بَطْنِ.
قَوْلُهُ: (مَعَكَ) أَيْ فِي الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ رَجُلًا ضَخْمًا) أَيْ سَمِينًا، وَفِي هَذَا الْوَصْفِ إِشَارَةٌ إِلَى عِلَّةِ تَخَلُّفِهِ، وَقَدْ عَدَّهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنَ الْأَعْذَارِ الْمُرَخِّصَةِ فِي التَّأَخُّرِ عَنِ الْجَمَاعَةِ، وَزَادَ عَبْدُ الْحَمِيدِ، عَنْ أَنَسٍ وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ تَأْكُلَ فِي بَيْتِي وَتُصَلِّيَ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (فَبَسَطَ لَهُ حَصِيرًا) سَبَقَ الْكَلَامُ فِيهِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ فِي بَابِ الصَّلَاةِ عَلَى الْحَصِيرِ.
قَوْلُهُ: (فَصَلَّى عَلَيْهِ رَكْعَتَيْنِ) زَادَ عَبْدُ الْحَمِيدِ فَصَلَّى وَصَلَّيْنَا مَعَهُ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ آلِ الْجَارُودِ) فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ، عَنْ شُعْبَةَ الْآتِيَةِ لِلْمُصَنِّفِ فِي صَلَاةِ الضُّحَى فَقَالَ فُلَانُ ابْنُ فُلَانِ ابْنِ الْجَارُودِ وَكَأَنَّهُ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَارُودِ الْبَصْرِيِّ، وَذَلِكَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ، وَأَخْرَجَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ رِوَايَةِ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ كِلَاهُمَا عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَارُودِ، عَنْ أَنَسٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَارُودِ، عَنْ أَنَسٍ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ انْقِطَاعًا، وَهُوَ مُنْدَفِعٌ بِتَصْرِيحِ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ عِنْدَهُ بِسَمَاعِهِ مِنْ أَنَسٍ، فَحِينَئِذٍ رِوَايَةُ ابْنِ مَاجَهْ إِمَّا مِنَ الْمَزِيدِ فِي مُتَّصِلِ الْأَسَانِيدِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِيهَا وَهْمٌ لِكَوْنِ ابْنِ الْجَارُودِ كَانَ حَاضِرًا عِنْدَ أَنَسٍ لَمَّا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَسَأَلَهُ عَمَّا سَأَلَهُ مِنْ ذَلِكَ، فَظَنَّ بَعْضُ الرُّوَاةِ أَنَّ لَهُ فِيهِ رِوَايَةٌ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى فَوَائِدِهِ فِي بَابِ صَلَاةِ الضُّحَى
وَمُطَابَقَتُهُ لِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِمَّا مِنْ جِهَةِ مَا يَلْزَمُ مِنَ الرُّخْصَةِ لِمَنْ لَهُ عُذْرٌ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنِ الْحُضُورِ فَإِنَّ ضَرُورَةَ مُوَاظَبَتِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ أَنْ يُصَلِّيَ بِمَنْ بَقِيَ، وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ مَا وَرَدَ فِي طَرِيقِ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْمَذْكُورَةِ حَيْثُ قَالَ أَنَسٌ فَصَلَّى وَصَلَّيْنَا مَعَهُ فَإِنَّهُ مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ وَهَلْ يُصَلِّي بِمَنْ حَضَرَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
42 - بَاب إِذَا حَضَرَ الطَّعَامُ وَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَبْدَأُ بِالْعَشَاءِ
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: مِنْ فِقْهِ الْمَرْءِ إِقْبَالُهُ عَلَى حَاجَتِهِ حَتَّى يُقْبِلَ عَلَى صَلَاتِهِ وَقَلْبُهُ فَارِغٌ
671 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: إِذَا وُضِعَ الْعَشَاءُ وَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ، فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ.
[الحديث 671 - طرفه في: 5465]
672 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا قُدِّمَ الْعَشَاءُ فَابْدَءُوا بِهِ قَبْلَ أَنْ تُصَلُّوا صَلَاةَ الْمَغْرِبِ وَلَا تَعْجَلُوا عَنْ عَشَائِكُمْ
[الحديث 672 - طرفه في: 5463]
673 -
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا وُضِعَ عَشَاءُ أَحَدِكُمْ وَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ وَلَا يَعْجَلْ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُوضَعُ لَهُ الطَّعَامُ وَتُقَامُ الصَّلَاةُ فَلَا يَأْتِيهَا حَتَّى يَفْرُغَ وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قِرَاءَةَ الإِمَامِ
[الحديث 673 - طرفاه في: 5464، 674]
674 -
وَقَالَ زُهَيْرٌ وَوَهْبُ بْنُ عُثْمَانَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ عَلَى الطَّعَامِ فَلَا يَعْجَلْ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ مِنْهُ وَإِنْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ" رَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ وَهْبِ بْنِ عُثْمَانَ وَوَهْبٌ مَدِينِيٌّ
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا حَضَرَ الطَّعَامُ وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: حُذِفَ جَوَابُ الشَّرْطِ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِشْعَارًا بِعَدَمِ الْجَزْمِ بِالْحُكْمِ لِقُوَّةِ الْخِلَافِ. انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِالْأَثَرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي التَّرْجَمَةِ إِلَى مَنْزَعِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ حَمَلَهُ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَأَشَارَ أَبُو الدَّرْدَاءِ إِلَى تَقْيِيدِهِ بِمَا إِذَا كَانَ الْقَلْبُ مَشْغُولًا بِالْأَكْلِ، وَأَثَرُ ابْنِ عُمَرَ مَذْكُورٌ فِي الْبَابِ بِمَعْنَاهُ، وَأَثَرُ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَصَلَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ وَأَخْرَجَهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي كِتَابِ تَعْظِيمِ قَدْرِ الصَّلَاةِ مِنْ طَرِيقِهِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ السَّرَّاجُ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ أَيْضًا لَكِنَّ لَفْظَهُ إِذَا حَضَرَ وَذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ، عَنْ هِشَامٍ بِلَفْظِ إِذَا حَضَرَ وَقَالَ بَعْدَهُ قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَوُهَيْبٌ، عَنْ هُشَيْمٍ إِذَا وَضَعَ انْتَهَى. وَرِوَايَةُ وُهَيْبٍ وَصَلَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ نُمَيْرٍ، وَحَفْصٍ، وَوَكِيعٍ بِلَفْظِ إِذَا حَضَرَ وَوَافَقَ كُلًّا جَمَاعَةٌ
مِنَ الرُّوَاةِ عَنْ هِشَامٍ، لَكِنَّ الَّذِينَ رَوَوْهُ بِلَفْظِ إِذَا وَضَعَ كَمَا قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَكْثَرُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ أَنَّ الْحُضُورَ أَعَمُّ مِنَ الْوَضْعِ، فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ حَضَرَ أَيْ بَيْنَ يَدَيْهِ لِتَأْتَلِفَ الرِّوَايَاتُ لِاتِّحَادِ الْمَخْرَجِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَنَسٍ الْآتِي بَعْدَهُ بِلَفْظِ إِذَا قُدِّمَ الْعَشَاءُ وَلِمُسْلِمٍ إِذَا قُرِّبَ الْعَشَاءُ وَعَلَى هَذَا فَلَا يُنَاطُ الْحُكْمُ بِمَا إِذَا حَضَرَ الْعِشَاءُ لَكِنَّهُ لَمْ يُقَرَّبْ لِلْأَكْلِ كَمَا لَوْ لَمْ يُقَرَّبْ.
قَوْلُهُ: (وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ) قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الصَّلَاةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ تُحْمَلَ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ وَلَا عَلَى تَعْرِيفِ الْمَاهِيَّةِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ تُحْمَلَ عَلَى الْمَغْرِبِ، لِقَوْلِهِ فَابْدَؤوا بِالْعَشَاءِ وَيَتَرَجَّحُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَغْرِبِ لِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: فَابْدَؤوا بِهِ قَبْلَ أَنْ تُصَلُّوا الْمَغْرِبَ. وَالْحَدِيثُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ: إِذَا وُضِعَ الْعَشَاءُ وَأَحَدُكُمْ صَائِمٌ. انْتَهَى. وَسَنَذْكُرُ مَنْ أَخْرَجَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ الثَّانِي. وَقَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: يَنْبَغِي حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ نَظَرًا إِلَى الْعِلَّةِ وَهِيَ التَّشْوِيشُ الْمُفْضِي إِلَى تَرْكِ الْخُشُوعِ، وَذِكْرُ الْمَغْرِبِ لَا يَقْتَضِي حَصْرًا فِيهَا لِأَنَّ الْجَائِعَ غَيْرُ الصَّائِمِ قَدْ يَكُونُ أَشْوَقَ إِلَى الْأَكْلِ مِنَ الصَّائِمِ. انْتَهَى. وَحَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ إِنَّمَا هُوَ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمَعْنَى إِلْحَاقًا لِلْجَائِعِ بِالصَّائِمِ وَلِلْغَدَاءِ بِالْعَشَاءِ لَا بِالنَّظَرِ إِلَى اللَّفْظِ الْوَارِدِ
(1)
.
قَوْلُهُ: (فَابْدَؤوا بِالْعَشَاءِ) حَمَلَ الْجُمْهُورُ هَذَا الْأَمْرَ عَلَى النَّدْبِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا: فَمِنْهُمْ مَنْ قَيَّدَهُ بِمَنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى الْأَكْلِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَزَادَ الْغَزَالِيُّ مَا إِذَا خَشِيَ فَسَادَ الْمَأْكُولِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُقَيِّدْهُ وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ فِعْلُ ابْنِ عُمَرَ الْآتِي، وَأَفْرَطَ ابْنُ حَزْمٍ فَقَالَ: تَبْطُلُ الصَّلَاةُ.
وَمِنْهُمْ مَنِ اخْتَارَ الْبُدَاءَةَ بِالصَّلَاةِ إِلَّا إِنْ كَانَ الطَّعَامُ خَفِيفًا نَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ مَالِكٍ، وَعِنْدَ أَصْحَابِهِ تَفْصِيلٌ
قَالُوا: يُبْدَأُ بِالصَّلَاةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَلِّقَ النَّفْسِ بِالْأَكْلِ، أَوْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِهِ لَكِنْ لَا يُعَجِّلُهُ عَنْ صَلَاتِهِ، فَإِنْ كَانَ يُعَجِّلُهُ عَنْ صَلَاتِهِ بَدَأَ بِالطَّعَامِ وَاسْتُحِبَّتْ لَهُ الْإِعَادَةُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عُقَيْلٍ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ وَعِنْدَهُ أَيْضًا عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي أَنَسٌ.
قَوْلُهُ: (إِذَا قُدِّمَ الْعَشَاءُ) زَادَ ابْنُ حِبَّانَ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ أَعْيَنَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ وَأَحَدُكُمْ صَائِمٌ وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرٍو بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَذَكَرَ الطَّبَرَانِيُّ أَنَّ مُوسَى بْنَ أَعْيَنَ تَفَرَّدَ بِهَا. انْتَهَى. وَمُوسَى ثِقَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (وَلَا تَعَجَّلُوا) بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ وَبِفَتْحِهَا وَالْجِيمُ مَفْتُوحَةٌ فِيهِمَا، وَيُرْوَى بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْجِيمِ.
قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ (إِذَا وُضِعَ عَشَاءُ أَحَدِكُمْ) هَذَا أَخَصُّ مِنَ الرِّوَايَةِ الْمَاضِيَةِ حَيْثُ قَالَ إِذَا وُضِعَ الْعَشَاءُ فَيُحْمَلُ الْعَشَاءُ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ عَلَى عَشَاءِ مَنْ يُرِيدُ الصَّلَاةَ، فَلَوْ وُضِعَ عَشَاءُ غَيْرِهِ لَمْ يَدْخُلْ فِي ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمَعْنَى: لَوْ كَانَ جَائِعًا وَاشْتَغَلَ خَاطِرُهُ بِطَعَامِ غَيْرِهِ كَانَ كَذَلِكَ، وَسَبِيلُهُ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ أَوْ يَتَنَاوَلَ مَأْكُولًا يُزِيلُ شُغْلَ بَالِهِ لِيَدْخُلَ فِي الصَّلَاةِ وَقَلْبُهُ فَارِغٌ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الِاحْتِمَالَ عُمُومُ قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ عَائِشَةَ: لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ. الْحَدِيثَ، وَقَوْلُ أَبِي الدَّرْدَاءِ الْمَاضِي إِقْبَالُهُ عَلَى حَاجَتِهِ.
قَوْلُهُ: (وَلَا يَعْجَلْ) أَيْ أَحَدُكُمُ الْمَذْكُورُ أَوَّلًا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَفْرَدَ قَوْلَهُ يَعْجَلْ نَظَرًا إِلَى لَفْظِ أَحَدٍ، وَجَمَعَ قَوْلَهُ فَابْدَؤوا نَظَرًا إِلَى لَفْظِ كُمْ، وَقَالَ: وَالْمَعْنَى إِذَا وُضِعَ عَشَاءُ أَحَدِكُمْ فَابْدَؤوا أَنْتُمْ بِالْعَشَاءِ وَلَا يَعْجَلْ هُوَ حَتَّى يَفْرُغَ مَعَكُمْ مِنْهُ. انْتَهَى.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ) هُوَ مَوْصُولٌ عَطْفًا عَلَى الْمَرْفُوعِ، وَقَدْ رَوَاهُ السَّرَّاجُ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ فَذَكَرَ الْمَرْفُوعَ ثُمَّ قَالَ قَالَ نَافِعٌ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا
(1)
ليس الامر كما قال، بل إلحاق غير المغرب موافق للمعنى واللفظ الثابت في حديث عائشة وما جاء في معناه، وحديث عائشة رواه مسلم في صحيحه بلفظ " لاصلاة بحضرة الطعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان" والله أعلم
حَضَرَ عَشَاؤُهُ وَسَمِعَ الْإِقَامَةَ وَقِرَاءَةَ الْإِمَامِ لَمْ يَقُمْ حَتَّى يَفْرُغَ وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُصَلِّي الْمَغْرِبَ إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ. وَكَانَ أَحْيَانًا يَلْقَاهُ وَهُوَ صَائِمٌ فَيُقَدَّمُ لَهُ عَشَاؤُهُ وَقَدْ نُودِيَ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ تُقَامُ وَهُوَ يَسْمَعُ فَلَا يَتْرُكُ عَشَاءَهُ، وَلَا يَعْجَلْ حَتَّى يَقْضِيَ عَشَاءَهُ، ثُمَّ يَخْرُجُ فَيُصَلِّي انْتَهَى، وَهَذَا أَصْرَحُ مَا وَرَدَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَإِنَّهُ يَسْمَعُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ بِزِيَادَةِ لَامِ التَّأْكِيدِ فِي أَوَّلِهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ زُهَيْرٌ) هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ الْجُعْفِيُّ، وَطَرِيقُهُ هَذِهِ مَوْصُولَةٌ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ فِي مُسْتَخْرَجِهِ، وَأَمَّا رِوَايَةُ وَهْبِ بْنِ عُثْمَانَ فَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْمُنْذِرِ رَوَاهَا عَنْهُ، وَإِبْرَاهِيمُ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ وَافَقَ زُهَيْرًا، وَوَهْبًا، أَبُو ضَمْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَبُو بَدْرٍ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ، وَالدَّرَاوَرْدِيُّ عِنْدَ السَّرَّاجِ كُلُّهُمْ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، قَالَ النَّوَوِيُّ: فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ كَرَاهَةُ الصَّلَاةِ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ الَّذِي يُرِيدُ أَكْلَهُ، لِمَا فِيهِ مِنْ ذَهَابِ كَمَالِ الْخُشُوعِ، وَيَلْتَحِقُ بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ مِمَّا يَشْغَلُ الْقَلْبَ، وَهَذَا إِذَا كَانَ فِي الْوَقْتِ سَعَةٌ، فَإِنْ ضَاقَ صَلَّى عَلَى حَالِهِ مُحَافَظَةً عَلَى حُرْمَةِ الْوَقْتِ وَلَا يَجُوزُ التَّأْخِيرُ، وَحَكَى الْمُتَوَلِّي وَجْهًا أَنَّهُ يَبْدَأُ بِالْأَكْلِ وَإِنْ خَرَجَ الْوَقْتُ، لِأَنَّ مَقْصُودَ الصَّلَاةِ الْخُشُوعُ فَلَا يَفُوتُهُ. انْتَهَى. وَهَذَا إِنَّمَا يَجِيءُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُوجِبُ الْخُشُوعَ، ثُمَّ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْمَفْسَدَتَيْنِ إِذَا تَعَارَضَتَا اقْتَصَرَ عَلَى أَخَفِّهِمَا، وَخُرُوجُ الْوَقْتِ أَشَدُّ مِنْ تَرْكِ الْخُشُوعِ بِدَلِيلِ صَلَاةِ الْخَوْفِ وَالْغَرِيقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَإِذَا صَلَّى لِمُحَافَظَةِ الْوَقْتِ صَحَّتْ مَعَ الْكَرَاهَةِ وَتُسْتَحَبُّ الْإِعَادَةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ
(1)
.
وَادَّعَى ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةً عَلَى امْتِدَادِ الْوَقْتِ فِي حَقِّ مَنْ وُضِعَ لَهُ الطَّعَامُ وَلَوْ خَرَجَ الْوَقْتُ الْمَحْدُودُ، وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي حَقِّ النَّائِمِ وَالنَّاسِي، وَاسْتَدَلَّ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ بِحَدِيثِ أَنَسٍ عَلَى امْتِدَادِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ، وَاعْتَرَضَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ بِأَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ التَّوْسِعَةُ إِلَى غُرُوبِ الشَّفَقِ فَفِيهِ نَظَرٌ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ مُطْلَقُ التَّوْسِعَةِ فَمُسَلَّمٌ وَلَكِنْ لَيْسَ مَحَلَّ الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ، فَإِنَّ بَعْضَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى ضِيقِ وَقْتِهَا جَعَلَهُ مُقَدَّرًا بِزَمَنٍ يَدْخُلُ فِيهِ مِقْدَارُ مَا يَتَنَاوَلُ لُقَيْمَاتٍ يَكْسِرُ بِهَا سُورَةَ الْجُوعِ. وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْقُرْطُبِيُّ عَلَى أَنَّ شُهُودَ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، لِأَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ يَشْتَغِلُ بِالْأَكْلِ وَإِنْ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ فِي الْجَمَاعَةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ بَعْضَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى الْوُجُوبِ كَابْنِ حِبَّانَ جَعَلَ حُضُورَ الطَّعَامِ عُذْرًا فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ حِينَئِذٍ عَلَى إِسْقَاطِ الْوُجُوبِ مُطْلَقًا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَقْدِيمِ فَضِيلَةِ الْخُشُوعِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى فَضِيلَةِ أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بِقَوْلِهِ فَابْدَؤوا عَلَى تَخْصِيصِ ذَلِكَ بِمَنْ لَمْ يَشْرَعْ فِي الْأَكْلِ، وَأَمَّا مَنْ شَرَعَ ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا يَتَمَادَى بَلْ يَقُومُ إِلَى الصَّلَاةِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَصَنِيعُ ابْنِ عُمَرَ يُبْطِلُ ذَلِكَ، وَهُوَ الصَّوَابُ.
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ صَنِيعَ ابْنِ عُمَرَ اخْتِيَارٌ لَهُ وَإِلَّا فَالنَّظَرُ إِلَى الْمَعْنَى يَقْتَضِي مَا ذَكَرُوهُ، لِأَنَّهُ يَكُونُ قَدْ أَخَذَ مِنَ الطَّعَامِ مَا دَفَعَ شُغْلَ الْبَالِ بِهِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الْمَذْكُورُ فِي الْبَابِ بَعْدَهُ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ هُوَ السِّرُّ فِي إِيرَادِ الْمُصَنِّفِ لَهُ عَقِبَهُ.
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا كَانَا يَأْكُلَانِ طَعَامًا وَفِي التَّنُّورِ شِوَاءٌ، فَأَرَادَ الْمُؤَذِّنُ أَنْ يُقِيمَ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تَعْجَلْ لِئَلَّا نَقُومَ وَفِي أَنْفُسِنَا مِنْهُ شَيْءٌ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ لِئَلَّا يَعْرِضَ لَنَا فِي صَلَاتِنَا، وَلَهُ عَنِ الْحَسَنِ ابْنِ عَلِيٍّ قَالَ الْعَشَاءُ قَبْلَ الصَّلَاةِ يُذْهِبُ النَّفْسَ اللَّوَّامَةَ وَفِي هَذَا كُلِّهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي ذَلِكَ تَشَوُّفُ النَّفْسِ إِلَى الطَّعَامِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُدَارَ الْحُكْمُ مَعَ عِلَّتِهِ وُجُودًا وَعَدَمًا وَلَا يَتَقَيَّدُ بِكُلٍّ وَلَا بَعْضٍ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الصَّائِمُ فَلَا تُكْرَهُ صَلَاتُهُ
(1)
الاولى عدم استحباب الاعادة، لأن من صلى كما أمر فليس عليه إعاده، فقد قال الله تعالى {فأتقوا الله ما استطعتم} والله أعلم
بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ، إِذِ الْمُمْتَنِعُ بِالشَّرْعِ لَا يَشْغَلُ الْعَاقِلُ نَفْسَهُ بِهِ، لَكِنْ إِذَا غَلَبَ اسْتُحِبَّ لَهُ التَّحَوُّلُ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ.
(فَائِدَتَانِ): (الْأُولَى) قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: ظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ حَقِّ الْعَبْدِ عَلَى حَقِّ اللَّهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ صِيَانَةٌ لِحَقِّ الْحَقِّ لِيَدْخُلَ الْخَلْقُ فِي عِبَادَتِهِ بِقُلُوبٍ مُقْبِلَةٍ. ثُمَّ إِنَّ طَعَامَ الْقَوْمِ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا لَا يَقْطَعُ عَنْ لِحَاقِ الْجَمَاعَةِ غَالِبًا.
(الثَّانِيَةُ) مَا يَقَعُ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْفِقْهِ إِذَا حَضَرَ الْعَشَاءُ وَالْعِشَاءُ فَابْدَؤوا بِالْعَشَاءِ لَا أَصْلَ لَهُ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ بِهَذَا اللَّفْظِ، كَذَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ لِشَيْخِنَا أَبِي الْفَضْلِ، لَكِنْ رَأَيْتُ بِخَطِّ الْحَافِظِ قُطْبِ الدِّينِ أَنَّ ابْنَ أَبِي شَيْبَةَ أَخْرَجَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَهُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ رَافِعٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ مَرْفُوعًا: إِذَا حَضَرَ الْعَشَاءُ وَحَضَرَتِ الْعِشَاءُ فَابْدَؤوا بِالْعَشَاءِ. فَإِنْ كَانَ ضَبَطَهُ فَذَاكَ، وَإِلَّا فَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بِلَفْظِ وَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ ثُمَّ رَاجَعْتُ مُصَنَّفَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ فَرَأَيْتُ الْحَدِيثَ فِيهِ كَمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
43 - بَاب إِذَا دُعِيَ الْإِمَامُ إِلَى الصَّلَاةِ وَبِيَدِهِ مَا يَأْكُلُ
675 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ: أَنَّ أَبَاهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ ذِرَاعًا يَحْتَزُّ مِنْهَا، فَدُعِيَ إِلَى الصَّلَاةِ فَقَامَ، فَطَرَحَ السِّكِّينَ، فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا دُعِيَ الْإِمَامُ إِلَى الصَّلَاةِ وَبِيَدِهِ مَا يَأْكُلُ) قِيلَ أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي فِي الْبَابِ قَبْلَهُ لِلنَّدْبِ لَا لِلْوُجُوبِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ مَا إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْأَكْلِ أَوْ بَعْدَهُ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ كَانَ يَرَى التَّفْصِيلَ، وَيُحْتَمَلُ تَقْيِيدُهُ فِي التَّرْجَمَةِ بِالْإِمَامِ أَنَّهُ كَانَ يَرَى تَخْصِيصَهُ بِهِ، وَأَمَّا غَيْرُهُ مِنَ الْمَأْمُومِينَ فَالْأَمْرُ مُتَوَجِّهٌ إِلَيْهِمْ مُطْلَقًا، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِيمَا سَبَقَ إِذَا وُضِعَ عَشَاءُ أَحَدِكُمْ وَقَدْ قَدَّمْنَا تَقْرِيرَ ذَلِكَ مَعَ بَقِيَّةِ فَوَائِدِ الْحَدِيثِ فِي بَابِ مَنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ مِنْ لَحْمِ الشَّاةِ مِنْ كِتَابِ الطَّهَارَةِ. وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: لَعَلَّهُ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِالْعَزِيمَةِ فَقَدَّمَ الصَّلَاةَ عَلَى الطَّعَامِ، وَأَمَرَ غَيْرَهُ بِالرُّخْصَةِ لِأَنَّهُ لَا يَقْوَى عَلَى مُدَافَعَةِ الشَّهْوَةِ قُوَّتُهُ، وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إِرْبَهُ. انْتَهَى. وَيُعَكِّرُ عَلَى مَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلنَّدْبِ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ اتُّفِقَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَنَّهُ قَضَى حَاجَتَهُ مِنَ الْأَكْلِ فَلَا يَتِمُّ الدَّلَالَةُ بِهِ. وَإِبْرَاهِيمُ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، وَصَالِحٌ هُوَ ابْنُ كَيْسَانَ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ.
44 - بَاب مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَهْلِهِ فَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَخَرَجَ
676 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ الْأَسْوَدِ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ: مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ؟ قَالَتْ: كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ، تَعْنِي خِدْمَةَ أَهْلِهِ، فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ.
[الحديث 676 - طرفاه في: 6039، 5363]
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَهْلِهِ) كَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَلْحَقُ بِحُكْمِ الطَّعَامِ كُلُّ أَمْرٍ يَكُونُ لِلنَّفْسِ تَشَوُّفٌ إِلَيْهِ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَبْقَ لِلصَّلَاةِ وَقْتٌ فِي الْغَالِبِ. وَأَيْضًا فَوَضْعُ الطَّعَامِ بَيْنَ يَدَيِ الْآكِلِ فِيهِ زِيَادَةُ
تَشَوُّفٍ، وَكُلَّمَا تَأَخَّرَ تَنَاوُلُهُ ازْدَادَ، بِخِلَافِ بَاقِي الْأُمُورِ. وَمَحَلُّ النَّصِّ إِذَا اشْتَمَلَ عَلَى وَصْفِ اعْتِبَارِهِ يَتَعَيَّنُ عَدَمُ إِلْغَائِهِ.
قَوْلُهُ: (فِي مَهْنَةِ أَهْلِهِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا وَسُكُونِ الْهَاءِ فِيهِمَا، وَقَدْ فَسَّرَهَا فِي الْحَدِيثِ بِالْخِدْمَةِ، وَهِيَ مِنْ تَفْسِيرِ آدَمَ بْنِ أَبِي إِيَاسٍ شَيْخِ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ فِي الْأَدَبِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ، وَفِي النَّفَقَاتِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَرْعَرَةَ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ، وَغُنْدَرٍ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ مَهْدِيٍّ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ كُلُّهُمْ عَنْ شُعْبَةَ بِدُونِهَا. وَفِي الصِّحَاحِ الْمَهْنَةُ بِالْفَتْحِ الْخِدْمَةُ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا قَالَهُ، لَكِنْ فَسَّرَهَا صَاحِبُ الْمُحْكَمِ بِأَخَصَّ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ: الْمَهْنَةُ الْحِذْقُ بِالْخِدْمَةِ وَالْعَمَلُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ فِي مَهْنَةِ بَيْتِ أَهْلِهِ وَهِيَ مُوَجَّهَةٌ مَعَ شُذُوذِهَا، وَالْمُرَادُ بِالْأَهْلِ نَفْسُهُ أَوْ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ وَقَعَ مُفَسَّرًا فِي الشَّمَائِلِ لِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظِ: مَا كَانَ إِلَّا بَشَرًا مِنَ الْبَشَرِ: يُفَلِّي ثَوْبَهُ، وَيَحْلُبُ شَاتَهُ، وَيَخْدُمُ نَفْسَهُ. وَلِأَحْمَدَ، وَابْنِ حِبَّانَ مِنْ رِوَايَةِ عُرْوَةَ عَنْهَا: يَخِيطُ ثَوْبَهُ، وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ. وَزَادَ ابْنُ حِبَّانَ: وَيَرْقَعُ دَلْوَهُ. زَادَ الْحَاكِمُ فِي الْإِكْلِيلِ: وَلَا رَأَيْتُهُ ضَرَبَ بِيَدِهِ امْرَأَةً وَلَا خَادِمًا.
قَوْلُهُ: (فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَرْعَرَةَ فَإِذَا سَمِعَ الْأَذَانَ وَهُوَ أَخَصُّ. وَوَقَعَ فِي التَّرْجَمَةِ فَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ وَهِيَ أَخَصُّ، وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ حَدِيثِهَا الْمُتَقَدِّمِ فِي بَابُ مَنِ انْتَظَرَ الْإِقَامَةَ فَإِنَّ فِيهِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمُؤَذِّنُ لِلْإِقَامَةِ. وَاسْتُدِلَّ بِحَدِيثِ الْبَابِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ التَّشْمِيرُ فِي الصَّلَاةِ، وَأَنَّ النَّهْيَ عَنْ كَفِّ الشَّعْرِ وَالثِّيَابِ لِلتَّنْزِيهِ، لِكَوْنِهَا لَمْ تَذْكُرْ أَنَّهُ أَزَاحَ عَنْ نَفْسِهِ هَيْئَةَ الْمَهْنَةِ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ بَطَّالٍ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى ثُبُوتِ أَنَّهُ كَانَ لَهُ هَيْئَتَانِ، ثُمَّ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِ ذِكْرِ التَّهْيِئَةِ لِلصَّلَاةِ عَدَمُ وُقُوعِهِ. وَفِيهِ التَّرْغِيبُ فِي التَّوَاضُعِ وَتَرْكِ التَّكَبُّرِ وَخِدْمَةُ الرَّجُلِ أَهْلَهُ وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ الْمُؤَلِّفُ فِي الْأَدَبِ كَيْفَ يَكُونُ الرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ.
45 - بَاب مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ وَهُوَ لَا يُرِيدُ إِلَّا أَنْ يُعَلِّمَهُمْ صَلَاةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَسُنَّتَهُ
677 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، قَالَ: جَاءَنَا مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ فِي مَسْجِدِنَا هَذَا، فَقَالَ: إِنِّي لَأُصَلِّي بِكُمْ، وَمَا أُرِيدُ الصَّلَاةَ، أُصَلِّي كَيْفَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي. فَقُلْتُ لِأَبِي قِلَابَةَ: كَيْفَ كَانَ يُصَلِّي؟ قَالَ: مِثْلَ شَيْخِنَا هَذَا، قَالَ: وَكَانَ شَيْخًا يَجْلِسُ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ قَبْلَ أَنْ يَنْهَضَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى.
[الحديث 677 - أطرافه في: 824، 818، 802]
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ إِلَخْ) وَالْحَدِيثُ مُطَابِقٌ لِلتَّرْجَمَةِ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَجْزِمْ فِيهَا بِالْحُكْمِ لِمَا سَنُبَيِّنُهُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ) هُوَ ابْنُ خَالِدٍ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.
قَوْلُهُ: (إِنِّي لَأُصَلِّي بِكُمْ وَمَا أُرِيدُ الصَّلَاةَ) اسْتُشْكِلَ نَفْيُ هَذِهِ الْإِرَادَةِ لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهَا مِنْ وُجُودِ صَلَاةٍ غَيْرِ قُرْبَةٍ وَمِثْلُهَا لَا يَصِحُّ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ نَفْيَ الْقُرْبَةِ وَإِنَّمَا أَرَادَ بَيَانَ السَّبَبِ الْبَاعِثِ لَهُ عَلَى الصَّلَاةِ فِي غَيْرِ وَقْتِ صَلَاةٍ مُعَيَّنَةٍ جَمَاعَةً، وَكَأَنَّهُ قَالَ لَيْسَ الْبَاعِثُ لِي عَلَى هَذَا الْفِعْلِ حُضُورُ صَلَاةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ أَدَاءٍ أَوْ إِعَادَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْبَاعِثُ لِي عَلَيْهِ قَصْدُ التَّعْلِيمِ، وَكَأَنَّهُ كَانَ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ لِأَنَّهُ أَحَدُ مَنْ خُوطِبَ بِقَوْلِهِ صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي كَمَا سَيَأْتِي، وَرَأَى أَنَّ التَّعْلِيمَ بِالْفِعْلِ أَوْضَحُ مِنَ الْقَوْلِ، فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ مِثْلِ ذَلِكَ وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ التَّشْرِيكِ فِي الْعِبَادَةِ.
قَوْلُهُ: (أُصَلِّي) زَادَ فِي بَابِ كَيْفَ يَعْتَمِدُ عَلَى الْأَرْضِ عَنْ مُعَلَّى، عَنْ وُهَيْبٍ وَلَكِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُرِيَكُمْ.
قَوْلُهُ: (مِثْلُ شَيْخِنَا) هُوَ عَمْرُو بْنُ سَلَمَةَ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ اللُّبْثِ
بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَسِيَاقُهُ هُنَاكَ أَتَمُّ، وَنَذْكُرُ فَوَائِدَهُ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(تَنْبِيهٌ): أَخْرَجَ صَاحِبُ الْعُمْدَةِ هَذَا الْحَدِيثَ، وَلَيْسَ هُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ.
46 - بَاب أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ أَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ
678 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: مَرِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَاشْتَدَّ مَرَضُهُ، فَقَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ، فقَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّهُ رَجُلٌ رَقِيقٌ، إِذَا قَامَ مَقَامَكَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، قَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ، فَعَادَتْ، فَقَالَ: مُرِي أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ، فَإِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ، فَأَتَاهُ الرَّسُولُ فَصَلَّى بِالنَّاسِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
[الحديث 678 - طرفه في: 3385]
679 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "فِي مَرَضِهِ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ قَالَتْ عَائِشَةُ قُلْتُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ إِذَا قَامَ فِي مَقَامِكَ لَمْ يُسْمِعْ النَّاسَ مِنْ الْبُكَاءِ فَمُرْ عُمَرَ فَلْيُصَلِّ لِلنَّاسِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ لِحَفْصَةَ قُولِي لَهُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ إِذَا قَامَ فِي مَقَامِكَ لَمْ يُسْمِعْ النَّاسَ مِنْ الْبُكَاءِ فَمُرْ عُمَرَ فَلْيُصَلِّ لِلنَّاسِ فَفَعَلَتْ حَفْصَةُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَهْ إِنَّكُنَّ لَانْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ لِلنَّاسِ فَقَالَتْ حَفْصَةُ لِعَائِشَةَ مَا كُنْتُ لِأُصِيبَ مِنْكِ خَيْرًا
680 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ الأَنْصَارِيُّ وَكَانَ تَبِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَخَدَمَهُ وَصَحِبَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يُصَلِّي لَهُمْ فِي وَجَعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ وَهُمْ صُفُوفٌ فِي الصَّلَاةِ فَكَشَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سِتْرَ الْحُجْرَةِ يَنْظُرُ إِلَيْنَا وَهُوَ قَائِمٌ كَأَنَّ وَجْهَهُ وَرَقَةُ مُصْحَفٍ ثُمَّ تَبَسَّمَ يَضْحَكُ فَهَمَمْنَا أَنْ نَفْتَتِنَ مِنْ الْفَرَحِ بِرُؤْيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَقِبَيْهِ لِيَصِلَ الصَّفَّ وَظَنَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَارِجٌ إِلَى الصَّلَاةِ فَأَشَارَ إِلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ وَأَرْخَى السِّتْرَ فَتُوُفِّيَ مِنْ يَوْمِهِ"
[الحديث 680 - أطرافه في: 4448، 1205، 754، 681]
وَحَدِيثُ أَنَسٍ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ سَيَأْتِي فِي الْوَفَاةِ مِنْ آخِرِ الْمَغَازِي.
681 -
حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمْ يَخْرُجِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثًا فَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ يَتَقَدَّمُ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحِجَابِ فَرَفَعَهُ، فَلَمَّا وَضَحَ وَجْهُ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم مَا نَظَرْنَا مَنْظَرًا كَانَ أَعْجَبَ إِلَيْنَا مِنْ وَجْهِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ وَضَحَ لَنَا فَأَوْمَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَتَقَدَّمَ وَأَرْخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْحِجَابَ فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ"
682 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ لَمَّا اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعُهُ قِيلَ لَهُ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ قَالَتْ عَائِشَةُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ إِذَا قَرَأَ غَلَبَهُ الْبُكَاءُ قَالَ مُرُوهُ فَيُصَلِّي فَعَاوَدَتْهُ قَالَ مُرُوهُ فَيُصَلِّي إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ تَابَعَهُ الزُّبَيْدِيُّ وَابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ وَإِسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى الْكَلْبِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ عُقَيْلٌ وَمَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ حَمْزَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
قَوْلُهُ: (بَابُ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ أَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ) أَيْ: مِمَّنْ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ الْأَعْلَمَ وَالْأَفْضَلَ أَحَقُّ مِنَ الْعَالِمِ وَالْفَاضِلِ، وَذِكْرُ الْفَضْلِ بَعْدَ الْعِلْمِ مِنَ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى تَرْتِيبِ الْأَئِمَّةِ بَعْدَ بَابَيْنِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ) هُوَ ابْنُ عَلِيٍّ الْجُعْفِيُّ، وَالْإِسْنَادُ سِوَى الرَّاوِي عَنْهُ كُلُّهُمْ كُوفِيُّونَ، وَأَبُو بُرْدَةَ هُوَ ابْنُ أَبِي مُوسَى، وَوَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ هُنَا أَخُوهُ.
قَوْلُهُ: (رَقِيقٌ) أَيْ: رَقِيقُ الْقَلْبِ.
قَوْلُهُ: (لَمْ يَسْتَطِعْ) أَيْ: مِنَ الْبُكَاءِ.
قَوْلُهُ: (فَأَتَاهُ الرَّسُولُ) هُوَ بِلَالٌ.
قَوْلُهُ: (فَصَلَّى بِالنَّاسِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَيْ: إِلَى أَنْ مَاتَ، وَكَذَا صَرَّحَ بِهِ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي الْمَغَازِي.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ) كَذَا رَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنْ مَالِكٍ مَوْصُولًا، وَهُوَ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمُوَطَّأِ مُرْسَلًا لَيْسَ فِيهِ عَائِشَةُ.
قَوْلُهُ: (مَهْ) هِيَ كَلِمَةُ زَجْرٍ بُنِيَتْ عَلَى السُّكُونِ.
قَوْلُهُ: (فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ لِلنَّاسِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى فَوَائِدِ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ فِي بَابِ حَدِّ الْمَرِيضِ أَنْ يَشْهَدَ الْجَمَاعَةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى مِنْ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَلَقَّاهُ عَنْ عَائِشَةَ أَوْ بِلَالٍ. وَحَدِيثُ أَنَسٍ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ سَيَأْتِي فِي الْوَفَاةِ مِنْ آخِرِ الْمَغَازِي.
صلى الله عليه وسلم مَا نَظَرْنَا مَنْظَرًا كَانَ أَعْجَبَ إِلَيْنَا مِنْ وَجْهِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ وَضَحَ لَنَا، فَأَوْمَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَتَقَدَّمَ، وَأَرْخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْحِجَابَ فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ:
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، لَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ هُوَ ابْنُ صُهَيْبٍ. وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.
قَوْلُهُ: (ثَلَاثًا) كَانَ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ حِينِ خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى بِهِمْ قَاعِدًا كَمَا تَقَدَّمَ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحِجَابِ) هُوَ مِنْ إِجْرَاءِ قَالَ مَجْرَى فَعَلَ وَهُوَ كَثِيرٌ.
قَوْلُهُ: (مَا رَأَيْنَا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: مَا نَظَرْنَا وَقَوْلُهُ: فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَتَقَدَّمَ لَيْسَ مُخَالِفًا لِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِهِ: فَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ بَلْ فِي السِّيَاقِ حَذْفٌ يَظْهَرُ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ؛ حَيْثُ قَالَ فِيهَا: فَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ تَقَدَّمَ ثُمَّ ظَنَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ فَتَأَخَّرَ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ حِينَئِذٍ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَكَانِهِ.
(فَائِدَةٌ): وَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي نَحْوِ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ: أَلَا وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، الْحَدِيثَ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدٍ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ: ابْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَفِي كَلَامِ ابْنِ بَطَّالٍ مَا يُوهِمُ أَنَّهُ حَمْزَةُ بْنُ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيُّ، وَهُوَ خَطَأٌ.
قَوْلُهُ: (فَعَاوَدَتْهُ) بِفَتْحِ الدَّالِ وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ، أَيْ: عَائِشَةُ، وَبِسُكُونِ الدَّالِ وَفَتْحِ النُّونِ، أَيْ: هِيَ وَمَنْ مَعَهَا مِنَ النِّسَاءِ.
قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ الزُّبَيْدِيُّ) أَيْ: تَابَعَ يُونُسَ بْنَ يَزِيدَ، وَمُتَابَعَتُهُ هَذِهِ وَصَلَهَا الطَّبَرَانِيُّ فِي مُسْنَدِ الشَّامِيِّينَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَالِمٍ الْحِمْصِيِّ عَنْهُ مَوْصُولًا مَرْفُوعًا، وَزَادَ فِيهِ قَوْلَهَا: فَمَرَّ عُمَرُ، وَقَالَ فِيهِ: فَرَاجَعَتْهُ عَائِشَةُ. وَمُتَابَعَةُ ابْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ وَصَلَهَا ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ رِوَايَةِ الدَّرَاوَرْدِيِّ
عَنْهُ، وَمُتَابَعَةُ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى وَصَلَهَا أَبُو بَكْرِ بْنُ شَاذَانَ الْبَغْدَادِيُّ فِي نُسْخَةِ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ صَالِحٍ عَنْهُ.
(تَنْبِيهٌ): ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ قَوْلَهُ: عَنِ الزُّهْرِيِّ أَيْ: مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، وَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِمَا بَيَّنَّاهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُقَيْلٌ وَمَعْمَرٌ إِلَخْ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْفَرْقُ بَيْنَ رِوَايَةِ الزُّبَيْدِيِّ وَابْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ، وَإِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى وَبَيْنَ رِوَايَةِ عُقَيْلٍ، وَمَعْمَرٍ أَنَّ الْأُولَى مُتَابَعَةٌ وَالثَّانِيَةُ مُقَاوَلَةٌ. اهـ. وَمُرَادُهُ بِالْمَقَاوَلَةِ الْإِتْيَانُ فِيهَا بِصِيغَةِ قَالَ، وَلَيْسَ فِي اصْطِلَاحِ الْمُحَدِّثِينَ صِيغَةُ مُقَاوَلَةٍ، وَإِنَّمَا السِّرُّ فِي تَرْكِهِ عَطْفُ رِوَايَةِ عُقَيْلٍ، وَمَعْمَرٍ عَلَى رِوَايَةِ يُونُسَ وَمَنْ تَابَعَهُ أَنَّهُمَا أَرْسَلَا الْحَدِيثَ، وَأُولَئِكَ وَصَلُوهُ، أَيْ أَنَّهُمَا خَالَفَا يُونُسَ وَمَنْ تَابَعَهُ فَأَرْسَلَا الْحَدِيثَ، فَأَمَّا رِوَايَةُ عُقَيْلٍ فَوَصَلَهَا الذُّهْلِيُّ فِي الزُّهْرِيَّاتِ، وَأَمَّا مَعْمَرٌ فَاخْتُلِفَ عَلَيْهِ فَرَوَاهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْهُ مُرْسَلًا، كَذَلِكَ أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ، وَأَبُو يَعْلَى مِنْ طَرِيقِهِ، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ مَوْصُولًا لَكِنْ قَالَ: عَنْ عَائِشَةَ بَدَلَ قَوْلِهِ: عَنْ أَبِيهِ كَذَلِكَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَكَأَنَّهُ رُجِّحَ عِنْدَهُ لِكَوْنِ عَائِشَةُ صَاحِبَةُ الْقِصَّةِ وَلِقَاءُ حَمْزَةَ لَهَا مُمْكِنًا، وَرُجِّحَ الْأَوَّلُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ؛ لِأَنَّ الْمَحْفُوظَ فِي هَذَا عَنِ الزُّهْرِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رِوَايَتُهُ لِذَلِكَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْهَا، وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ مُتَّصِلًا بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: وَقَدْ عَاوَدْتُهُ، وَمَا حَمَلَنِي عَلَى مُعَاوَدَتِهِ إِلَّا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ يَتَشَاءَمَ النَّاسُ بِأَبِي بَكْرٍ، الْحَدِيثَ.
وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ إِنَّمَا تُحْفَظُ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْهَا، لَا مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حَمْزَةَ، وَقَدْ رَوَى الْإِسْمَاعِيلِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمَانَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ مُفَصَّلًا، فَجَعَلَ أَوَّلَهُ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حَمْزَةَ عَنْ أَبِيهِ بِالْقَدْرِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَآخِرَهُ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
47 - بَاب مَنْ قَامَ إِلَى جَنْبِ الْإِمَامِ لِعِلَّةٍ
683 -
حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ فِي مَرَضِهِ، فَكَانَ يُصَلِّي بِهِمْ. قَالَ عُرْوَةُ: فَوَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَفْسِهِ خِفَّةً، فَخَرَجَ فَإِذَا أَبُو بَكْرٍ يَؤُمُّ النَّاسَ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ اسْتَأْخَرَ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ أَنْ كَمَا أَنْتَ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِذَاءَ أَبِي بَكْرٍ إِلَى جَنْبِهِ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ قَامَ) أَيْ: صَلَّى (إِلَى جَنْبِ الْإِمَامِ لِعِلَّةٍ) أَيْ: سَبَبٍ اقْتَضَى ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ فِي بَابِ حَدِّ الْمَرِيضِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ عُرْوَةُ: فَوَجَدَ) هُوَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَوَهِمَ مَنْ جَعَلَهُ مُعَلَّقًا. ثُمَّ إِنَّ ظَاهِرَهُ الْإِرْسَالُ مِنْ قَوْلِهِ: فَوَجَدَ إِلَخْ، لَكِنْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ نُمَيْرٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مُتَّصِلًا بِمَا قَبْلَهُ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْهُ، وَكَذَا وَصَلَهُ الشَّافِعِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامٍ، وَكَذَا وَصَلَهُ عَنْ عُرْوَةَ عَنْهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عُرْوَةُ أَخَذَهُ عَنْ عَائِشَةَ وَعَنْ غَيْرِهَا، فَلِذَلِكَ قَطَعَهُ عَنِ الْقَدْرِ الْأَوَّلِ الَّذِي أَخَذَهُ عَنْهَا وَحْدَهَا، وَالْأَصْلُ فِي الْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْمَأْمُومِينَ إِلَّا إِنْ ضَاقَ الْمَكَانُ أَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا مَأْمُومٌ وَاحِدٌ، وَكَذَا لَوْ كَانُوا عُرَاةً، وَمَا عَدَا ذَلِكَ يَجُوزُ، وَلَكِنْ تَفُوتُ الْفَضِيلَةُ.
48 - بَاب مَنْ دَخَلَ لِيَؤُمَّ النَّاسَ فَجَاءَ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ فَتَأَخَّرَ الْأَوَّلُ أَوْ لَمْ يَتَأَخَّرْ جَازَتْ صَلَاتُهُ
فِيهِ عَائِشَةُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
684 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي حَازِمِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَهَبَ إِلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ، فَحَانَتْ الصَّلَاةُ فَجَاءَ الْمُؤَذِّنُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: أَتُصَلِّي لِلنَّاسِ فَأُقِيمَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسُ فِي الصَّلَاةِ، فَتَخَلَّصَ حَتَّى وَقَفَ فِي الصَّفِّ فَصَفَّقَ النَّاسُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ لَا يَلْتَفِتُ فِي صَلَاتِهِ، فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ التَّصْفِيقَ الْتَفَتَ فَرَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ امْكُثْ مَكَانَكَ، فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه يَدَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ عَلَى مَا أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ اسْتَأْخَرَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى اسْتَوَى فِي الصَّفِّ، وَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَصَلَّى، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَثْبُتَ إِذْ أَمَرْتُكَ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا كَانَ لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا لِي رَأَيْتُكُمْ أَكْثَرْتُمْ التَّصْفِيقَ؟ مَنْ رَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ فَلْيُسَبِّحْ؛ فَإِنَّهُ إِذَا سَبَّحَ الْتُفِتَ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ.
[الحديث 684 - أطرافه في: 7190، 2693، 2690، 1234، 1218، 1204، 1201]
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ دَخَلَ) أَيْ: إِلَى الْمِحْرَابِ مَثَلًا (لِيَؤُمَّ النَّاسَ فَجَاءَ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ) أَيِ: الرَّاتِبُ (فَتَأَخَّرَ الْأَوَّلُ) أَيِ: الدَّاخِلُ فَكُلٌّ مِنْهُمَا أَوَّلٌ بِاعْتِبَارٍ، وَالْمَعْرِفَةُ إِذَا أُعِيدَتْ كَانَتْ عَيْنَ الْأُولَى إِلَّا بِقَرِينَةٍ، وَقَرِينَةُ كَوْنِهَا غَيْرَهَا هُنَا ظَاهِرَةٌ.
قَوْلُهُ: (فِيهِ عَائِشَةُ) يُشِيرُ بِالشِّقِّ الْأَوَّلِ، وَهُوَ مَا إِذَا تَأَخَّرَ إِلَى رِوَايَةِ عُرْوَةَ عَنْهَا فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، حَيْثُ قَالَ: فَلَمَّا رَآهُ اسْتَأْخَرَ وَبِالثَّانِي وَهُوَ: مَا إِذَا لَمْ يَسْتَأْخِرْ إِلَى رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْهَا حَيْثُ قَالَ: فَأَرَادَ أَنْ يَتَأَخَّرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فِي بَابِ حَدِّ الْمَرِيضِ وَالْجَوَازُ مُسْتَفَادٌ مِنَ التَّقْرِيرِ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ قَدْ وَقَعَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ) فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ: سَمِعْتُ سَهْلًا.
قَوْلُهُ: (ذَهَبَ إِلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ) أَيِ: ابْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ، وَالْأَوْسُ أَحَدُ قَبِيلَتَيِ الْأَنْصَارِ؛ وَهُمَا الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ، وَبَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بَطْنٌ كَبِيرٌ مِنَ الْأَوْسِ فِيهِ عِدَّةُ أَحْيَاءٍ كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ بِقُبَاءٍ، مِنْهُمْ: بَنُو أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَبَنُو ضُبَيْعَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَبَنُو ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَالسَّبَبُ فِي ذَهَابِهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ مَا فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ الْمَذْكُورَةِ قَالَ: وَقَعَ بَيْنَ حَيَّيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ كَلَامٌ وَلِلْمُؤَلِّفِ فِي الصُّلْحِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ: أَنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ اقْتَتَلُوا حَتَّى تَرَامَوْا بِالْحِجَارَةِ، فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ بَيْنَهُمْ، وَلَهُ فِيهِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي غَسَّانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ: فَخَرَجَ فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَسَمَّى الطَّبَرَانِيُّ مِنْهُمْ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَسُهَيْلِ بْنِ بَيْضَاءَ، وَلِلْمُؤَلِّفِ فِي الْأَحْكَامِ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ أَنَّ تَوَجُّهَهُ كَانَ بَعْدَ أَنْ صَلَّى الظُّهْرَ، وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ أَنَّ الْخَبَرَ جَاءَ بِذَلِكَ وَقَدْ أَذَّنَ بِلَالٌ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ.
قَوْلُهُ: (فَحَانَتِ الصَّلَاةُ) أَيْ: صَلَاةُ الْعَصْرِ، وَصَرَّحَ بِهِ فِي الْأَحْكَامِ، وَلَفْظُهُ: فَلَمَّا حَضَرَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ أَذَّنَ وَأَقَامَ، وَأَمَرَ
أَبَا بَكْرٍ فَتَقَدَّمَ، وَلَمْ يُسَمَّ فَاعِلُ ذَلِكَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادٍ الْمَذْكُورَةِ، فَبَيَّنَ الْفَاعِلَ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَفْظُهُ فَقَالَ لِبِلَالٍ: إِنْ حَضَرَتِ الْعَصْرُ وَلَمْ آتِكَ فَمُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ، فَلَمَّا حَضَرَتِ الْعَصْرُ أَذَّنَ بِلَالٌ، ثُمَّ أَقَامَ، ثُمَّ أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ فَتَقَدَّمَ، وَنَحْوُهُ لِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، وَعُرِفَ بِهَذَا أَنَّ الْمُؤَذِّنَ بِلَالٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ لِأَبِي بَكْرٍ: أَتُصَلِّي لِلنَّاسِ فَلَا يُخَالِفُ مَا ذُكِرَ؛ لِأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ اسْتَفْهَمَهُ هَلْ يُبَادِرُ أَوَّلَ الْوَقْتِ، أَوْ يَنْتَظِرُ قَلِيلًا لِيَأْتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟ وَرُجِّحَ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ الْمُبَادَرَةُ؛ لِأَنَّهَا فَضِيلَةٌ مُتَحَقِّقَةٌ فَلَا تُتْرَكُ لِفَضِيلَةٍ مُتَوَهَّمَةٍ.
قَوْلُهُ: (فَأُقِيمَ) بِالنَّصْبِ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: نَعَمْ) زَادَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ إِنْ شِئْتَ وَهُوَ فِي بَابِ رَفْعِ الْأَيْدِي عِنْدَ الْمُؤَلِّفِ، وَإِنَّمَا فُوِّضَ ذَلِكَ لَهُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ زِيَادَةُ عِلْمٍ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ) أَيْ: دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ، وَلَفْظُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَذْكُورُ: وَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَكَبَّرَ، وَفِي رِوَايَةِ الْمَسْعُودِيِّ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ: فَاسْتَفْتَحَ أَبُو بَكْرٍ الصَّلَاةَ وَهِيَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَبِهَذَا يُجَابُ عَنِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ حَيْثُ امْتَنَعَ أَبُو بَكْرٍ هُنَا أَنْ يَسْتَمِرَّ إِمَامًا، وَحَيْثُ اسْتَمَرَّ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ صَلَّى خَلْفَهُ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ مِنَ الصُّبْحِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي الْمَغَازِي، فَكَأَنَّهُ لَمَّا أَنْ مَضَى مُعْظَمُ الصَّلَاةِ حَسُنَ الِاسْتِمْرَارُ، وَلَمَّا أَنْ لَمْ يَمْضِ مِنْهَا إِلَّا الْيَسِيرُ لَمْ يَسْتَمِرَّ. وَكَذَا وَقَعَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ حَيْثُ صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَلْفَهُ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ مِنَ الصُّبْحِ، فَإِنَّهُ اسْتَمَرَّ فِي صَلَاتِهِ إِمَامًا لِهَذَا الْمَعْنَى، وَقِصَّةُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ.
قَوْلُهُ: (فَتَخَلَّصَ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَمْشِي فِي الصُّفُوفِ يَشُقُّهَا شَقًّا حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ. وَلِمُسْلِمٍ: فَخَرَقَ الصُّفُوفَ حَتَّى قَامَ عِنْدَ الصَّفِّ الْمُتَقَدِّمِ.
قَوْلُهُ: (فَصَفَّقَ النَّاسُ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: فَأَخَذَ النَّاسُ فِي التَّصْفِيحِ. قَالَ سَهْلٌ: أَتَدْرُونَ مَا التَّصْفِيحُ؟ هُوَ التَّصْفِيقُ. انْتَهَى. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَرَادُفِهِمَا عِنْدَهُ، فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ لَا يَلْتَفِتُ) قِيلَ: كَانَ ذَلِكَ لِعِلْمِهِ بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ اخْتِلَاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلَاةِ الْعَبْدِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابٍ مُفْرَدٍ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ؛ فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ التَّصْفِيقَ، فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ: فَلَمَّا رَأَى التَّصْفِيحَ لَا يُمْسَكُ عَنْهُ الْتَفَتَ.
قَوْلُهُ: (فَأَشَارَ إِلَيْهِ أَنِ امْكُثْ مَكَانَكَ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: فَأَشَارَ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ أَنْ يُصَلِّيَ، وَفِي رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ: فَدَفَعَ فِي صَدْرِهِ لِيَتَقَدَّمَ فَأَبَى.
قَوْلُهُ: (فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ تَلَفَّظَ بِالْحَمْدِ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ شُكْرًا لِلَّهِ، وَرَجَعَ الْقَهْقَرَى، وَادَّعَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّهُ أَشَارَ بِالشُّكْرِ وَالْحَمْدِ بِيَدِهِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ، وَلَيْسَ فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ مَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ تَلَفَّظَ، وَيُقَوِّي ذَلِكَ مَا عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَاجِشُونِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ: يَا أَبَا بَكْرٍ لِمَ رَفَعْتَ يَدَيْكَ؟ وَمَا مَنَعَكَ أَنْ تَثْبُتَ حِينَ أَشَرْتُ إِلَيْكَ؟ قَالَ: رَفَعْتُ يَدَيَّ لِأَنِّي حَمِدْتُ اللَّهَ عَلَى مَا رَأَيْتُ مِنْكَ، زَادَ الْمَسْعُودِيُّ: فَلَمَّا تَنَحَّى تَقَدَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ.
قَوْلُهُ: (أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) فِي رِوَايَةِ الْحَمَّادَيْنِ وَالْمَاجِشُونِ: أَنْ يَؤُمَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (أَكْثَرْتُمُ التَّصْفِيقَ) ظَاهِرُهُ أَنَّ الْإِنْكَارَ إِنَّمَا حَصَلَ عَلَيْهِمْ لِكَثْرَتِهِ لَا لِمُطْلَقِهِ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ.
قَوْلَهُ: (مَنْ نَابَهُ) أَيْ: أَصَابَهُ.
قَوْلُهُ: (فَلْيُسَبِّحْ) فِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ: فَلْيَقُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ الْإِشَارَةِ فِي الصَّلَاةِ.
قَوْلُهُ: (الْتُفِتَ إِلَيْهِ) بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَفِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ الْمَذْكُورَةِ: فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ حِينَ يَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ إِلَّا الْتَفَتَ.
قَوْلُهُ: (وَإِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: وَإِنَّمَا التَّصْفِيحُ لِلنِّسَاءِ، زَادَ الْحُمَيْدِيُّ: وَالتَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ، وَقَدْ رَوَى
الْمُصَنِّفُ هَذِهِ الْجُمْلَةَ الْأَخِيرَةَ مُقْتَصِرًا عَلَيْهَا مِنْ رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ التَّصْفِيقِ لِلنِّسَاءِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ وَلَفْظُهُ إِذَا نَابَكُمْ أَمْرٌ فَلْيُسَبِّحِ الرِّجَالُ وَلْيُصَفِّحِ النِّسَاءُ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ فَضْلُ الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ وَجَمْعُ كَلِمَةِ الْقَبِيلَةِ وَحَسْمُ مَادَّةِ الْقَطِيعَةِ، وَتَوَجُّهُ الْإِمَامِ بِنَفْسِهِ إِلَى بَعْضِ رَعِيَّتِهِ لِذَلِكَ، وَتَقْدِيمُ مِثْلِ ذَلِكَ عَلَى مَصْلَحَةِ الْإِمَامَةِ بِنَفْسِهِ. وَاسْتُنْبِطَ مِنْهُ تَوَجُّهُ الْحَاكِمِ لِسَمَاعِ دَعْوَى بَعْضِ الْخُصُومِ إِذَا رَجَحَ ذَلِكَ عَلَى اسْتِحْضَارِهمْ. وَفِيهِ جَوَازُ الصَّلَاةِ الْوَاحِدَةِ بِإِمَامَيْنِ أَحَدُهمَا بَعْدَ الْآخَرِ، وَأَنَّ الْإِمَامَ الرَّاتِبَ إِذَا غَابَ يَسْتَخْلِفُ غَيْرَهُ، وَأَنَّهُ إِذَا حَضَرَ بَعْدَ أَنْ دَخَلَ نَائِبُهُ فِي الصَّلَاةِ، يَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ أَوْ يَؤُمَّ هُوَ وَيَصِيرُ النَّائِبُ مَأْمُومًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْطَعَ الصَّلَاةَ، وَلَا يُبْطِلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ صَلَاةَ أَحَدٍ مِنَ الْمَأْمُومِينَ.
وَادَّعَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَادَّعَى الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ صلى الله عليه وسلم، وَنُوقِضَ بِأَنَّ الْخِلَافَ ثَابِتٌ، فَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْجَوَازُ، وَعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْإِمَامِ يُحْدِثُ فَيَسْتَخْلِفُ، ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَخْرُجُ الْمُسْتَخْلِفُ وَيُتِمُّ الْأَوَّلُ أَنَّ الصَّلَاةَ صَحِيحَةٌ، وَفِيهِ جَوَازُ إِحْرَامِ الْمَأْمُومِ قَبْلَ الْإِمَامِ، وَأَنَّ الْمَرْءَ قَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِ صَلَاتِهِ إِمَامًا وَفِي بَعْضِهَا مَأْمُومًا، وَأَنَّ مَنْ أَحْرَمَ مُنْفَرِدًا ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ جَازَ لَهُ الدُّخُولُ مَعَ الْجَمَاعَةِ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ لِصَلَاتِهِ، كَذَا اسْتَنْبَطَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ لَازِمِ جَوَازِ إِحْرَامِ الْإِمَامِ بَعْدَ الْمَأْمُومِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَفِيهِ فَضْلُ أَبِي بَكْرٍ عَلَى جَمِيعِ الصَّحَابَةِ.
وَاسْتَدَلَّ بِهِ جَمْعٌ مِنَ الشُّرَّاحِ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ كَالرُّويَانِيِّ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ عِنْدَ الصَّحَابَةِ أَفْضَلَهُمْ؛ لِكَوْنِهِمُ اخْتَارُوهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَعَلَى جَوَازِ تَقْدِيمِ النَّاسِ لِأَنْفُسِهِمْ إِذَا غَابَ إِمَامُهُمْ، قَالُوا: وَمَحَلُّ ذَلِكَ إِذَا أُمِنَتِ الْفِتْنَةُ وَالْإِنْكَارُ مِنَ الْإِمَامِ، وَأَنَّ الَّذِي يَتَقَدَّمُ نِيَابَةً عَنِ الْإِمَامِ يَكُونُ أَصْلَحَهُمْ لِذَلِكَ الْأَمْرِ وَأَقْوَمَهُمْ بِهِ، وَأَنَّ الْمُؤَذِّنَ وَغَيْرَهُ يَعْرِضُ التَّقَدُّمَ عَلَى الْفَاضِلِ، وَأَنَّ الْفَاضِلَ يُوَافِقُهُ بَعْدَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ بِرِضَا الْجَمَاعَةِ. اهـ. وَكُلُّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ فَعَلُوا ذَلِكَ بِالِاجْتِهَادِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُمْ إِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَفِيهِ أَنَّ الْإِقَامَةَ وَاسْتِدْعَاءَ الْإِمَامِ مِنْ وَظِيفَةِ الْمُؤَذِّنِ، وَأَنَّهُ لَا يُقِيمُ إِلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ، وَأَنَّ فِعْلَ الصَّلَاةِ - لَا سِيَّمَا الْعَصْرَ - فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ مُقَدَّمٌ عَلَى انْتِظَارِ الْإِمَامِ الْأَفْضَلِ، وَفِيهِ جَوَازُ التَّسْبِيحِ وَالْحَمْدِ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَلَوْ كَانَ مُرَادُ الْمُسَبِّحِ إِعْلَامَ غَيْرِهِ بِمَا صَدَرَ مِنْهُ، وَسَيَأْتِي فِي بَابٍ مُفْرَدٍ، وَفِيهِ رَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ الدُّعَاءِ وَالثَّنَاءِ، وَسَيَأْتِي كَذَلِكَ، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ حَمْدِ اللَّهِ لِمَنْ تَجَدَّدَتْ لَهُ نِعْمَةٌ وَلَوْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ، وَفِيهِ جَوَازُ الِالْتِفَاتِ لِلْحَاجَةِ وَأَنَّ مُخَاطَبَةَ الْمُصَلِّي بِالْإِشَارَةِ أَوْلَى مِنْ مُخَاطَبَتِهِ بِالْعِبَارَةِ. وَأَنَّهَا تَقُومُ مَقَامَ النُّطْقِ لِمُعَاتَبَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ عَلَى مُخَالَفَةِ إِشَارَتِهِ.
وَفِيهِ جَوَازُ شَقِّ الصُّفُوفِ وَالْمَشْيِ بَيْنَ الْمُصَلِّينَ لِقَصْدِ الْوُصُولِ إِلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ لَكِنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَى مَنْ يَلِيقُ ذَلِكَ بِهِ كَالْإِمَامِ أَوْ مَنْ كَانَ بِصَدَدِ أَنْ يَحْتَاجَ الْإِمَامُ إِلَى اسْتِخْلَافِهِ، أَوْ مَنْ أَرَادَ سَدَّ فُرْجَةٍ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ أَوْ مَا يَلِيهِ مَعَ تَرْكِ مَنْ يَلِيهِ سَدَّهَا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مَعْدُودًا مِنَ الْأَذَى. قَالَ الْمُهَلَّبُ: لَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ النَّهْيِ عَنِ التَّخَطِّي؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ كَغَيْرِهِ فِي أَمْرِ الصَّلَاةِ وَلَا غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ بِسَبَبِ مَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَأَطَالَ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنَ الْخَصَائِصِ، وَقَدْ أَشَارَ هُوَ إِلَى الْمُعْتَمَدِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: لَيْسَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مِنَ الْأَذَى وَالْجَفَاءِ الَّذِي يَحْصُلُ مِنَ التَّخَطِّي، وَلَيْسَ كَمَنْ شَقَّ الصُّفُوفَ وَالنَّاسُ جُلُوسٌ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ تَخَطِّي رِقَابِهِمْ. وَفِيهِ كَرَاهِيَةُ التَّصْفِيقِ فِي الصَّلَاةِ، وَسَيَأْتِي فِي بَابٍ مُفْرَدٍ، وَفِيهِ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ عَلَى الْوَجَاهَةِ فِي الدِّينِ، وَأَنَّ مَنْ أُكْرِمَ بِكَرَامَةٍ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْقَبُولِ وَالتَّرْكِ إِذَا فَهِمَ أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ عَلَى غَيْرِ جِهَةِ اللُّزُومِ، وَكَأَنَّ الْقَرِينَةَ الَّتِي بَيَّنَتْ لِأَبِي بَكْرٍ ذَلِكَ هِيَ كَوْنُهُ صلى الله عليه وسلم شَقَّ الصُّفُوفَ إِلَى أَنِ انْتَهَى إِلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ فَهِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مُرَادَهُ
أَنْ يَؤُمَّ النَّاسَ، وَأَنَّ أَمْرَهُ إِيَّاهُ بِالِاسْتِمْرَارِ فِي الْإِمَامَةِ مِنْ بَابِ الْإِكْرَامِ لَهُ وَالتَّنْوِيهِ بِقَدْرِهِ، فَسَلَكَ هُوَ طَرِيقَ الْأَدَبِ وَالتَّوَاضُعِ.
وَرَجَّحَ ذَلِكَ عِنْدَهُ احْتِمَالُ نُزُولِ الْوَحْيِ فِي حَالِ الصَّلَاةِ لِتَغْيِيرِ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِهَا، وَكَأَنَّهُ لِأَجْلِ هَذَا لَمْ يَتَعَقَّبْ صلى الله عليه وسلم اعْتِذَارَهُ بِرَدٍّ عَلَيْهِ.
وَفِيهِ جَوَازُ إِمَامَةِ الْمَفْضُولِ لِلْفَاضِلِ، وَفِيهِ سُؤَالُ الرَّئِيسِ عَنْ سَبَبِ مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ قَبْلَ الزَّجْرِ عَنْ ذَلِكَ، وَفِيهِ إِكْرَامُ الْكَبِيرِ بِمُخَاطَبَتِهِ بِالْكُنْيَةِ، وَاعْتِمَادُ ذِكْرِ الرَّجُلِ لِنَفْسِهِ بِمَا يُشْعِرُ بِالتَّوَاضُعِ مِنْ جِهَةِ اسْتِعْمَالِ أَبِي بَكْرٍ خِطَابَ الْغَيْبَةِ مَكَانَ الْحُضُورِ. إِذْ كَانَ حَدُّ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ أَبُو بَكْرٍ: مَا كَانَ لِي، فَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى قَوْلِهِ: مَا كَانَ لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ؛ لِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى التَّوَاضُعِ مِنَ الْأَوَّلِ، وَفِيهِ جَوَازُ الْعَمَلِ الْقَلِيلِ فِي الصَّلَاةِ؛ لِتَأَخُّرِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ مَقَامِهِ إِلَى الصَّفِّ الَّذِي يَلِيهِ، وَأَنَّ مَنِ احْتَاجَ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ يَرْجِعُ الْقَهْقَرَى وَلَا يَسْتَدْبِرُ الْقِبْلَةَ وَلَا يَنْحَرِفُ عَنْهَا. وَاسْتَنْبَطَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْهُ جَوَازَ الْفَتْحِ عَلَى الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ التَّسْبِيحَ إِذَا جَازَ جَازَتِ التِّلَاوَةُ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
49 - بَاب إِذَا اسْتَوَوْا فِي الْقِرَاءَةِ فَلْيَؤُمَّهُمْ أَكْبَرُهُمْ
685 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ قَالَ: قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ شَبَبَةٌ، فَلَبِثْنَا عِنْدَهُ نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَحِيمًا، فَقَالَ: لَوْ رَجَعْتُمْ إِلَى بِلَادِكُمْ فَعَلَّمْتُمُوهُمْ، مُرُوهُمْ فَلْيُصَلُّوا صَلَاةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا، وَصَلَاةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا، وَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا اسْتَوَوْا فِي الْقِرَاءَةِ فَلْيَؤُمَّهُمْ أَكْبَرُهُمْ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ مَعَ مَا سَأُبَيِّنُهُ مِنْ زِيَادَةٍ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ الْبَابِ مُنْتَزَعَةٌ مِنْ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ مَرْفُوعًا: يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ كَانَتْ قِرَاءَتُهُمْ سَوَاءً
(1)
فَلْيَؤُمَّهُمْ أَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَلْيَؤُمَّهُمْ أَكْبَرُهُمْ سِنًّا، الْحَدِيثَ. وَمَدَارُهُ عَلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَجَاءٍ، عَنْ أَوْسِ بْنِ ضَمْعَجٍ عَنْهُ، وَلَيْسَا جَمِيعًا مِنْ شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي الْعِلَلِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ شُعْبَةَ كَانَ يَتَوَقَّفُ فِي صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَكِنْ هُوَ فِي الْجُمْلَةِ يَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ عَلَّقَ مِنْهُ طَرَفًا بِصِيغَةِ الْجَزْمِ، كَمَا سَيَأْتِي، وَاسْتَعْمَلَهُ هُنَا فِي التَّرْجَمَةِ، وَأَوْرَدَ فِي الْبَابِ مَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ، وَهُوَ حَدِيثُ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِاسْتِوَاءِ الْمُخَاطَبِينَ فِي الْقِرَاءَةِ، وَأَجَابَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ وَغَيْرُهُ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ تَسَاوِيَ هِجْرَتِهِمْ وَإِقَامَتِهِمْ وَغَرَضِهِمْ بِهَا مَعَ مَا فِي الشَّبَابِ غَالِبًا مِنَ الْفَهْمِ - ثُمَّ تَوَجُّهُ الْخِطَابِ إِلَيْهِمْ بِأَنْ يُعَلِّمُوا مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصِ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ - دَالٌّ عَلَى اسْتِوَائِهِمْ فِي الْقِرَاءَةِ وَالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ.
قُلْتُ: وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ مَسْلَمَةَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ: وَكُنَّا يَوْمَئِذٍ مُتَقَارِبِينَ فِي الْعِلْمِ انْتَهَى. وَأَظُنُّ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ إِدْرَاجًا؛ فَإِنَّ ابْنَ خُزَيْمَةَ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ خَالِدٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي قِلَابَةَ: فَأَيْنَ الْقِرَاءَةُ؟ قَالَ: إِنَّهُمَا كَانَا مُتَقَارِبَيْنِ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ وَقَالَ فِيهِ: قَالَ الْحَذَّاءُ: وَكَانَا مُتَقَارِبَيْنِ فِي الْقِرَاءَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدَ أَبِي قِلَابَةَ فِي ذَلِكَ هُوَ إِخْبَارُ
(1)
هذا اللفظ هو إحدى روايتي حديث أبي مسعود المذكور. انظر الرواية الثانية في الصفحة الآتية.
مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، كَمَا أَنَّ مُسْتَنَدَ الْحَذَّاءِ هُوَ إِخْبَارُ أَبِي قِلَابَةَ لَهُ بِهِ فَيَنْبَغِي الْإِدْرَاجُ عَنِ الْإِسْنَادِ
(1)
، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(تَنْبِيهٌ): ضَمْعَجٌ وَالِدُ أَوْسٍ بِفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا جِيمٌ مَعْنَاهُ الْغَلِيظُ، وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ: أَقْرَؤُهُمْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْأَفْقَهُ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَبِحَسَبِ ذَلِكَ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ أَصْحَابُنَا: الْأَفْقَهُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَقْرَأِ؛ فَإِنَّ الَّذِي يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْقِرَاءَةِ مَضْبُوطٌ، وَالَّذِي يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْفِقْهِ غَيْرُ مَضْبُوطٍ، فَقَدْ يَعْرِضُ فِي الصَّلَاةِ أَمْرٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى مُرَاعَاةِ الصَّلَاةِ فِيهِ إِلَّا كَامِلُ الْفِقْهِ، وَلِهَذَا قَدَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْبَاقِينَ مَعَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَصَّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ أَقْرَأُ مِنْهُ، كَأَنَّهُ عَنَى حَدِيثَ: أَقْرَؤُكُمْ أُبَيٌّ. قَالَ: وَأَجَابُوا عَنِ الْحَدِيثِ بِأَنَّ الْأَقْرَأَ مِنَ الصَّحَابَةِ كَانَ هُوَ الْأَفْقَهُ.
قُلْتُ: وَهَذَا الْجَوَابُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ نَصَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنَّهُ أَقْرَأُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ كَانَ أَفْقَهُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، فَيَفْسُدُ الِاحْتِجَاجُ بِأَنَّ تَقْدِيمَ أَبِي بَكْرٍ كَانَ لِأَنَّهُ الْأَفْقَهُ. ثُمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنَّ قَوْلَهُ فِي حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ: فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً، فَأَقْدَمُهُمْ فِي الْهِجْرَةِ يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيمِ الْأَقْرَأِ مُطْلَقًا. انْتَهَى. وَهُوَ وَاضِحٌ لِلْمُغَايَرَةِ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَجَاءٍ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحَلَّ تَقْدِيمِ الْأَقْرَأِ إِنَّمَا هُوَ حَيْثُ يَكُونَ عَارِفًا بِمَا يَتَعَيَّنُ مَعْرِفَتُهُ مِنْ أَحْوَالِ الصَّلَاةِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ جَاهِلًا بِذَلِكَ فَلَا يُقَدَّمُ اتِّفَاقًا، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ أَهْلَ ذَلِكَ الْعَصْرِ كَانُوا يَعْرِفُونَ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ؛ لِكَوْنِهِمْ أَهْلَ اللِّسَانِ، فَالْأَقْرَأُ مِنْهُمْ بَلِ الْقَارِئُ كَانَ أَفْقَهَ فِي الدِّينِ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ جَاءُوا بَعْدَهُمْ.
قَوْلُهُ: (وَنَحْنُ شَبَبَةٌ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَتَيْنِ؛ جَمْعُ شَابٍّ، زَادَ فِي الْأَدَبِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ: شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ وَالْمُرَادُ تَقَارُبُهُمْ فِي السِّنِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي حَالِ قُدُومِهِمْ.
قَوْلُهُ: (نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُلَيَّةَ الْمَذْكُورَةِ الْجَزْمُ بِهِ وَلَفْظُهُ: فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً وَالْمُرَادُ بِأَيَّامِهَا، وَوَقَعَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فِي رِوَايَتِهِ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَهَّابِ، عَنْ أَيُّوبَ.
قَوْلُهُ: (رَحِيمًا، فَقَالَ: لَوْ رَجَعْتُمْ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُلَيَّةَ، وَعَبْدِ الْوَهَّابِ: رَحِيمًا رَقِيقًا، فَظَنَّ أَنَّا اشْتَقْنَا إِلَى أَهْلِنَا، وَسَأَلَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَا بَعْدَنَا، فَأَخْبَرْنَاهُ فَقَالَ: ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ، فَأَقِيمُوا فِيهِمْ وَعَلِّمُوهُمْ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يَكُونَ عَرَضَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ عَلَى طَرِيقِ الْإِينَاسِ بِقَوْلِهِ: لَوْ رَجَعْتُمْ إِذْ لَوْ بَدَأَهُمْ بِالْأَمْرِ بِالرُّجُوعِ لَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ تَنْفِيرٌ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا أَجَابُوهُ بِنَعَمْ، فَأَمَرَهُمْ حِينَئِذٍ بِقَوْلِهِ: ارْجِعُوا، وَاقْتِصَارُ الصَّحَابِيِّ عَلَى ذِكْرِ سَبَبِ الْأَمْرِ بِرُجُوعِهِمْ بِأَنَّهُ الشَّوْقُ إِلَى أَهْلِيهِمْ دُونَ قَصْدِ التَّعْلِيمِ، هُوَ لِمَا قَامَ عِنْدَهُ مِنَ الْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عُرِفَ ذَلِكَ بِتَصْرِيحِ الْقَوْلِ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ كَانَ سَبَبُ تَعْلِيمِهِمْ قَوْمَهُمْ أَشْرَفَ فِي حَقِّهِمْ، لَكِنَّهُ أَخْبَرَ بِالْوَاقِعِ وَلَمْ يَتَزَيَّنْ بِمَا لَيْسَ فِيهِمْ، وَلَمَّا كَانَتْ نِيَّتُهُمْ صَادِقَةً صَادَفَ شَوْقُهُمْ إِلَى أَهْلِهِمُ الْحَظَّ الْكَامِلَ فِي الدِّينِ وَهُوَ أَهْلِيَّةُ التَّعْلِيمِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْحِرْصِ عَلَى طَلَبِ الْحَدِيثِ: حَظٌّ وَافَقَ حَقًّا.
قَوْلُهُ: (وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ) ظَاهِرُهُ تَقْدِيمُ الْأَكْبَرِ بِكَثِيرِ السِّنِّ وَقَلِيلِهِ، وَأَمَّا مَنْ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِالْكِبَرِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ السِّنِّ أَوِ الْقَدْرِ كَالتَّقَدُّمِ فِي الْفِقْهِ وَالْقِرَاءَةِ وَالدِّينِ فَبَعِيدٌ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ فَهْمِ رَاوِي الْخَبَرِ حَيْثُ قَالَ لِلتَّابِعِيِّ: فَأَيْنَ الْقِرَاءَةُ، فَإِنَّهُ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ كِبَرَ السِّنِّ، وَكَذَا دَعْوَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ، مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ: يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَقْتَضِي تَقْدِيمَ الْأَكْبَرِ عَلَى الْأَقْرَأِ وَالثَّانِي عَكْسُهُ، ثُمَّ انْفَصَلَ عَنْهُ بِأَنَّ قِصَّةَ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ وَاقِعَةُ عَيْنٍ قَابِلَةٌ لِلِاحْتِمَالِ، بِخِلَافِ الْحَدِيثِ الْآخَرِ فَإِنَّهُ تَقْرِيرُ قَاعِدَةٍ تُفِيدُ التَّعْمِيمَ، قَالَ: فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْأَكْبَرُ مِنْهُمْ كَانَ يَوْمَئِذٍ هُوَ الْأَفْقَهُ.
(1)
كذا في الأصلين، ولعل الصواب أن لا إدراج في الاسناد، فتأمل
انْتَهَى.
وَالتَّنْصِيصُ عَلَى تَقَارُبِهِمْ فِي الْعِلْمِ يَرُدُّ عَلَيْهِ، فَالْجَمْعُ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ أَوْلَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا فَضْلُ الْهِجْرَةِ وَالرِّحْلَةِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَفَضْلِ التَّعْلِيمِ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الشَّفَقَةِ وَالِاهْتِمَامِ بِأَحْوَالِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَإِجَازَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَقِيَامِ الْحُجَّةِ بِهِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ فَوَائِدِهِ فِي بَابِ مَنْ قَالَ: يُؤَذِّنُ فِي السَّفَرِ مُؤَذِّنٌ وَاحِدٌ. وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي فِي بَابِ إِجَازَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
50 - بَاب إِذَا زَارَ الْإِمَامُ قَوْمًا فَأَمَّهُمْ
686 -
حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ قَالَ: سَمِعْتُ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ الْأَنْصارِيَّ قَالَ: اسْتَأْذَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَذِنْتُ لَهُ، فَقَالَ: أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ؟ فَأَشَرْتُ لَهُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أُحِبُّ، فَقَامَ وَصَفَفْنَا خَلْفَهُ، ثُمَّ سَلَّمَ وَسَلَّمْنَا
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا زَارَ الْإِمَامُ قَوْمًا فَأَمَّهُمْ) قِيلَ: أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى أَنَّ حَدِيثَ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ مَرْفُوعًا: مَنْ زَارَ قَوْمًا فَلَا يَؤُمَّهُمْ، وَلْيَؤُمَّهُمْ رَجُلٌ مِنْهُمْ، مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ عَدَا الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ، وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: مُرَادُهُ أَنَّ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ وَمَنْ يَجْرِي مَجْرَاهُ إِذَا حَضَرَ بِمَكَانٍ مَمْلُوكٍ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ مَالِكُ الدَّارِ أَوِ الْمَنْفَعَةِ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي لِلْمَالِكِ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ لِيَجْمَعَ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ حَقِّ الْإِمَامِ فِي التَّقَدُّمِ، وَحَقِّ الْمَالِكِ فِي مَنْعِ التَّصَرُّفِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا فِي حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ الْمُتَقَدِّمِ: وَلَا يُؤَمُّ الرَّجُلُ فِي سُلْطَانُهُ، وَلَا يَجْلِسُ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ؛ فَإِنَّ مَالِكَ الشَّيْءِ سُلْطَانٌ عَلَيْهِ، وَالْإِمَامُ الْأَعْظَمُ سُلْطَانٌ عَلَى الْمَالِكِ، وَقَوْلُهُ: إِلَّا بِإِذْنِهِ يُحْمَلُ عَوْدُهُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ الْإِمَامَةِ وَالْجُلُوسِ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ أَحْمَدُ كَمَا حَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ، فَتَحَصَّلَ بِالْإِذْنِ مُرَاعَاةُ الْجَانِبَيْنِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ) هُوَ مَرْوَزِيٌّ سَكَنَ الْبَصْرَةَ، وَلَيْسَ هُوَ أَخًا لِمُعَلَّى بْنِ أَسَدٍ أَحَدِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا، كَانَ مُعَاذٌ الْمَذْكُورُ كَاتِبًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَهُوَ شَيْخُهُ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ عِتْبَانَ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ الْمَسَاجِدِ الَّتِي فِي الْبُيُوتِ.
51 - بَاب إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ
وَصَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ بِالنَّاسِ وَهُوَ جَالِسٌ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا رَفَعَ قَبْلَ الْإِمَامِ يَعُودُ فَيَمْكُثُ بِقَدْرِ مَا رَفَعَ، ثُمَّ يَتْبَعُ الْإِمَامَ، وَقَالَ الْحَسَنُ فِيمَنْ يَرْكَعُ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَتَيْنِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى السُّجُودِ: يَسْجُدُ لِلرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ يَقْضِي الرَّكْعَةَ الْأُولَى بِسُجُودِهَا، وَفِيمَنْ نَسِيَ سَجْدَةً حَتَّى قَامَ: يَسْجُدُ.
687 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قَالَ: حَدَّثَنَا زَائِدَةُ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ، فَقُلْتُ: أَلَا تُحَدِّثِينِي عَنْ مَرَضِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتْ: بَلَى، ثَقُلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَصَلَّى النَّاسُ؟ قُلْنَا: لَا، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ، قَالَ: ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ،
قَالَتْ: فَفَعَلْنَا، فَاغْتَسَلَ، فَذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: أَصَلَّى النَّاسُ؟ قُلْنَا: لَا، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ، قَالَتْ: فَقَعَدَ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: أَصَلَّى النَّاسُ؟ قُلْنَا: لَا، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ، فَقَعَدَ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: أَصَلَّى النَّاسُ؟ فَقُلْنَا: لَا، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالنَّاسُ عُكُوفٌ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُونَ النَّبِيَّ عليه السلام لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِأَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَأَتَاهُ الرَّسُولُ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُكَ أَنْ تُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - وَكَانَ رَجُلًا رَقِيقًا -: يَا عُمَرُ صَلِّ بِالنَّاسِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ، فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ تِلْكَ الْأَيَّامَ، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً، فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا الْعَبَّاسُ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ، وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ ذَهَبَ لِيَتَأَخَّرَ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ لَا يَتَأَخَّرَ، قَالَ: أَجْلِسَانِي إِلَى جَنْبِهِ، فَأَجْلَسَاهُ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي وَهُوَ يَأْتَمُّ بِصَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالنَّاسُ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَاعِدٌ، قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَدَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، فَقُلْتُ لَهُ: أَلَا أَعْرِضُ عَلَيْكَ مَا حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ عَنْ مَرَضِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: هَاتِ، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَدِيثَهَا، فَمَا أَنْكَرَ مِنْهُ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: أَسَمَّتْ لَكَ الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ مَعَ الْعَبَّاسِ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: هُوَ عَلِيٌّ.
688 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِهِ وَهُوَ شَاكٍ فَصَلَّى جَالِسًا وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنْ اجْلِسُوا فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا "
[الحديث 688 أطرافه في: 5658، 1236، 1113]
689 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكِبَ فَرَسًا فَصُرِعَ عَنْهُ فَجُحِشَ شِقُّهُ الأَيْمَنُ فَصَلَّى صَلَاةً مِنْ الصَّلَوَاتِ وَهُوَ قَاعِدٌ فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ قُعُودًا فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ وَإِذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ قَالَ الْحُمَيْدِيُّ قَوْلُهُ إِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا هُوَ فِي مَرَضِهِ الْقَدِيمِ ثُمَّ صَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا وَالنَّاسُ خَلْفَهُ قِيَامًا لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْقُعُودِ وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بِالْآخِرِ فَالْآخِرِ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
قَوْلُهُ: (بَابُ إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ قِطْعَةٌ مِنَ الْحَدِيثِ الْآتِي فِي الْبَابِ، وَالْمُرَادُ بِهَا أَنَّ الِائْتِمَامَ يَقْتَضِي مُتَابَعَةَ الْمَأْمُومِ لِإِمَامِهِ فِي أَحْوَالِ الصَّلَاةِ، فَتَنْتِفِي الْمُقَارَنَةُ وَالْمُسَابَقَةُ وَالْمُخَالَفَةُ إِلَّا مَا دَلَّ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا صَدَّرَ الْمُصَنِّفُ الْبَابَ بِقَوْلِهِ: وَصَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ وَهُوَ جَالِسٌ، أَيْ: وَالنَّاسُ خَلْفَهُ قِيَامًا، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْجُلُوسِ كَمَا سَيَأْتِي، فَدَلَّ عَلَى دُخُولِ التَّخْصِيصِ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، إِلَخْ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَسِيَاقُهُ أَتَمُّ وَلَفْظُهُ: لَا تُبَادِرُوا أَئِمَّتَكُمْ بِالرُّكُوعِ وَلَا بِالسُّجُودِ، وَإِذَا رَفَعَ أَحَدُكُمْ رَأْسَهُ وَالْإِمَامُ سَاجِدٌ فَلْيَسْجُدْ، ثُمَّ لْيَمْكُثْ قَدْرَ مَا سَبَقَهُ بِهِ الْإِمَامُ، انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ؛ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، وَمِنْ قَوْلِهِ: وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ عُمَرَ نَحْوَ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَفْظُهُ: أَيُّمَا رَجُلٍ رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ فِي رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ فَلْيَضَعْ رَأْسَهُ بِقَدْرِ رَفْعِهِ إِيَّاهُ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: إِذَا كَانَ الرَّافِعُ الْمَذْكُورُ يُؤْمَرُ عِنْدَهُ بِقَضَاءِ الْقَدْرِ الَّذِي خَرَجَ فِيهِ عَنِ الْإِمَامِ، فَأَوْلَى أَنْ يَتَّبِعَهُ فِي جُمْلَةِ السُّجُودِ فَلَا يَسْجُدُ حَتَّى يَسْجُدَ، وَظَهَرَتْ بِهَذَا مُنَاسَبَةُ هَذَا الْأَثَرِ لِلتَّرْجَمَةِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ الْحَسَنُ، إِلَخْ) فِيهِ فَرْعَانِ: أَمَّا الْفَرْعُ الْأَوَّلُ فَوَصَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ، وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ يُونُسَ عَنِ الْحَسَنِ وَلَفْظُهُ: فِي الرَّجُلِ يَرْكَعُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَيَزْحَمُهُ النَّاسُ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى السُّجُودِ - قَالَ - فَإِذَا فَرَغُوا مِنْ صَلَاتِهِمْ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ لِرَكْعَتِهِ الْأُولَى، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَتَحَمَّلُ الْأَرْكَانَ، فَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى السُّجُودِ مَعَهُ لَمْ تَصِحَّ لَهُ الرَّكْعَةُ، وَمُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَأْمُومَ لَوْ كَانَ لَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ عَنِ الْإِمَامِ لَمْ يَسْتَمِرَّ مُتَابِعًا فِي صَلَاتِهِ الَّتِي اخْتَلَّ بَعْضُ أَرْكَانِهَا حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى تَدَارُكِهِ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ.
وَأَمَّا الْفَرْعُ الثَّانِي فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَسِيَاقُهُ أَتَمُّ، وَلَفْظُهُ: فِي رَجُلٍ نَسِيَ سَجْدَةً مِنْ أَوَّلِ صَلَاتِهِ فَلَمْ يَذْكُرْهَا حَتَّى كَانَ آخِرَ رَكْعَةٍ مِنْ صَلَاتِهِ - قَالَ: - يَسْجُدُ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ، فَإِنْ ذَكَرَهَا قَبْلَ السَّلَامِ يَسْجُدُ سَجْدَةً وَاحِدَةً، وَإِنْ ذَكَرَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الصَّلَاةِ يَسْتَأْنِفُ الصَّلَاةَ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ الْأَوَّلِ فِي بَابٍ: حَدُّ الْمَرِيضِ أَنْ يَشْهَدَ الْجَمَاعَةَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مُنَاسَبَتَهُ لِلتَّرْجَمَةِ قَبْلُ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: ضَعُونِي مَاءً كَذَا لِلْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ بِالنُّونِ، وَلِلْبَاقِينَ ضَعُوا لِي وَهُوَ أَوْجَهُ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، وَالْأَوَّلُ كَمَا قَالَ الْكِرْمَانِيُّ مَحْمُولٌ عَلَى تَضْمِينِ الْوَضْعِ مَعْنَى الْإِعْطَاءِ، أَوْ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: ضَعُونِي فِي مَاءٍ. وَالْمُخَضَّبُ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَبْوَابِ الْوُضُوءِ، وَأَنَّ الْمَاءَ الَّذِي اغْتَسَلَ بِهِ كَانَ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ، وَذَكَرْتُ حِكْمَةَ ذَلِكَ هُنَاكَ.
قَوْلُهُ: (ذَهَبَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ ثُمَّ ذَهَبَ.
(لِيَنُوءَ) بِضَمِّ النُّونِ بَعْدَهَا مَدَّةٌ، أَيْ: لِيَنْهَضَ بِجُهْدٍ.
قَوْلُهُ: (فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ) فِيهِ أَنَّ الْإِغْمَاءَ جَائِزٌ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ؛ لِأَنَّهُ شَبِيهٌ بِالنَّوْمِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: جَازَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ مَرَضٌ مِنَ الْأَمْرَاضِ، بِخِلَافِ الْجُنُونِ فَلَمْ يَجُزْ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ نَقْصٌ.
قَوْلُهُ: (يَنْتَظِرُونَ النَّبِيَّ عليه السلام لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِلَامِ التَّعْلِيلِ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ
(1)
: لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، وَتَوْجِيهُهُ أَنَّ الرَّاوِيَ كَأَنَّهُ فَسَّرَ الصَّلَاةَ الْمَسْئُولُ عَنْهَا فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: أَصَلَّى النَّاسُ؟ فَذَكَرَهُ، أَيِ: الصَّلَاةَ الْمَسْئُولُ عَنْهَا هِيَ الْعِشَاءُ الْآخِرَةُ.
قَوْلُهُ: (فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ) كَذَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ، وَلِلْبَاقِينَ: وَخَرَجَ بِالْوَاوِ.
قَوْلُهُ: (لِصَلَاةِ الظُّهْرِ) هُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الصَّلَاةَ الْمَذْكُورَةَ كَانَتِ الظُّهْرَ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا الصُّبْحُ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ أَرْقَمَ بْنِ شُرَحْبِيلَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْقِرَاءَةَ مِنْ حَيْثُ بَلَغَ أَبُو بَكْرٍ، هَذَا لَفْظُ ابْنِ مَاجَهْ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، لَكِنْ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ نَظَرٌ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ
(1)
في مخطوطة الرياض " والكشميهني"
يَكُونَ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ لَمَّا قَرُبَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ الْآيَةَ الَّتِي كَانَ انْتَهَى إِلَيْهَا خَاصَّةً، وَقَدْ كَانَ هُوَ صلى الله عليه وسلم يُسْمِعُ الْآيَةَ أَحْيَانًا فِي الصَّلَاةِ السَّرِيَّةِ، كَمَا سَيَأْتِي مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ، ثُمَّ لَوْ سُلِّمَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا الصُّبْحُ، بَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْمَغْرِبَ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا، ثُمَّ مَا صَلَّى لَنَا بَعْدَهَا حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ الْوَفَاةِ مِنْ آخِرِ الْمَغَازِي، لَكِنْ وَجَدْتُ بَعْدُ فِي النَّسَائِيِّ أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ الَّتِي ذَكَرَتْهَا أُمُّ الْفَضْلِ كَانَتْ فِي بَيْتِهِ، وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُصَلِّ بِالنَّاسِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ فِي الْمَسْجِدِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَهِيَ هَذِهِ الَّتِي صَلَّى فِيهَا قَاعِدًا، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ فِيهَا أَوَّلًا إِمَامًا ثُمَّ صَارَ مَأْمُومًا يُسْمِعُ النَّاسَ التَّكْبِيرَ.
قَوْلُهُ: (فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي وَهُوَ قَائِمٌ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ: وَهُوَ يَأْتَمُّ مِنَ الِائْتِمَامِ، وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ اسْتِخْلَافَ الْإِمَامِ الرَّاتِبِ إِذَا اشْتَكَى أَوْلَى مِنْ صَلَاتِهِ بِهِمْ قَاعِدًا؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اسْتَخْلَفَ أَبَا بَكْرٍ وَلَمْ يُصَلِّ بِهِمْ قَاعِدًا غَيْرَ مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى صِحَّةِ إِمَامَةِ الْقَاعِدِ الْمَعْذُورِ بِمِثْلِهِ وَبِالْقَائِمِ أَيْضًا، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ مَالِكٌ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِيمَا حَكَاهُ الطَّحَاوِيُّ، وَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ جَابِرٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ مَرْفُوعًا: لَا يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ بَعْدِي جَالِسًا، وَاعْتَرَضَهُ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ: قَدْ عَلِمَ مَنِ احْتَجَّ بِهَذَا أَنْ لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مُرْسَلٌ، وَمِنْ رِوَايَةِ رَجُلٍ يَرْغَبُ أَهْلُ الْعِلْمِ عَنِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ، يَعْنِي جَابِرًا الْجُعْفِيَّ، وَقَالَ ابْنُ بَزِيزَةَ: لَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَنْعَ الصَّلَاةَ بِالْجَالِسِ، أَيْ: يُعْرَبُ قَوْلُهُ: جَالِسًا، مَفْعُولًا لَا حَالًا. وَحَكَى عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِهِمْ أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ يَدُلُّ عَلَى نَسْخِ أَمْرِهِ الْمُتَقَدِّمِ لَهُمْ بِالْجُلُوسِ لَمَّا صَلَّوْا خَلْفَهُ قِيَامًا.
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ ذَلِكَ يَحْتَاجُ لَوْ صَحَّ إِلَى تَارِيخٍ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ. لَكِنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ تَقَوَّى بِأَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، قَالَ: وَالنَّسْخُ لَا يَثْبُتُ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لَكِنْ مُوَاظَبَتَهُمْ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ تَشْهَدُ لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ عَدَمَ النَّقْلِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُقُوعِ، ثُمَّ لَوْ سُلِّمَ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ عَدَمُ الْجَوَازِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونُوا اكْتَفَوْا بِاسْتِخْلَافِ الْقَادِرِ عَلَى الْقِيَامِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْقَاعِدِ بِالْقَائِمِ مَرْجُوحَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى صَلَاةِ الْقَائِمِ بِمِثْلِهِ، وَهَذَا كَافٍ فِي بَيَانِ سَبَبِ تَرْكِهِمُ الْإِمَامَةَ مِنْ قُعُودٍ، وَاحْتُجَّ أَيْضًا بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا صَلَّى بِهِمْ قَاعِدًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ التَّقَدُّمُ بَيْنَ يَدَيْهِ؛ لِنَهْيِ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْأَئِمَّةَ شُفَعَاءُ، وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ شَافِعًا لَهُ، وَتُعُقِّبَ بِصَلَاتِهِ صلى الله عليه وسلم خَلْفَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَهُوَ ثَابِتٌ بِلَا خِلَافٍ.
وَصَحَّ أَيْضًا أَنَّهُ صَلَّى خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ كَمَا قَدَّمْنَاهُ. وَالْعَجَبُ أَنَّ عُمْدَةَ مَالِكٍ فِي مَنْعِ إِمَامَةِ الْقَاعِدِ قَوْلُ رَبِيعَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ مَأْمُومًا خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ، وَإِنْكَارُهُ أَنْ يَكُونَ صلى الله عليه وسلم أَمَّ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ قَاعِدًا كَمَا حَكَاهُ عَنْهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ، فَكَيْفَ يَدَّعِي أَصْحَابُهُ عَدَمَ تَصْوِيرِ أَنَّهُ صَلَّى مَأْمُومًا؟ وَكَأَنَّ حَدِيثَ إِمَامَتِهِ الْمَذْكُورَ لَمَّا كَانَ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ رَدُّهُ سَلَكُوا فِي الِانْتِصَارِ وُجُوهًا مُخْتَلِفَةً، وَقَدْ تَبَيَّنَ بِصَلَاتِهِ خَلْفَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَنْعِ التَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي غَيْرِ الْإِمَامَةِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِكَوْنِ الْأَئِمَّةِ شُفَعَاءَ، أَيْ فِي حَقِّ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَى الشَّفَاعَةِ. ثُمَّ لَوْ سُلِّمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَؤُمَّهُ أَحَدٌ لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى مَنْعِ إِمَامَةِ الْقَاعِدِ، وَقَدْ أَمَّ قَاعِدًا جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ بَعْدَهُ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَجَابِرٌ، وَقَيْسُ بْنُ قَهْدٍ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَالْأَسَانِيدُ عَنْهُمْ بِذَلِكَ صَحِيحَةٌ أَخْرَجَهَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُمْ، بَلِ ادَّعَى ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى صِحَّةِ إِمَامَةِ الْقَاعِدِ، كَمَا سَيَأْتِي.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ: لَا جَوَابَ لِأَصْحَابِنَا عَنْ حَدِيثِ مَرَضِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَخْلُصُ عِنْدَ السَّبْكِ، وَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ أَوْلَى، وَالتَّخْصِيصُ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ. قَالَ: إِلَّا أَنِّي سَمِعْتُ بَعْضَ الْأَشْيَاخِ يَقُولُ: الْحَالُ أَحَدُ
وُجُوهِ التَّخْصِيصِ، وَحَالُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالتَّبَرُّكُ بِهِ وَعَدَمُ الْعِوَضِ عَنْهُ يَقْتَضِي الصَّلَاةَ مَعَهُ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ. وَأَيْضًا فَنَقْصُ صَلَاةِ الْقَاعِدِ عَنِ الْقَائِمِ لَا يُتَصَوَّرُ فِي حَقِّهِ، وَيُتَصَوَّرُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ رَدُّهُ بِعُمُومِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي، وَعَنِ الثَّانِي بِأَنَّ النَّقْصَ إِنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ الْقَادِرِ فِي النَّافِلَةِ، وَأَمَّا الْمَعْذُورُ فِي الْفَرِيضَةِ فَلَا نَقْصَ فِي صَلَاتِهِ عَنِ الْقَائِمِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى نَسْخِ الْأَمْرِ بِصَلَاةِ الْمَأْمُومِ قَاعِدًا إِذَا صَلَّى الْإِمَامُ قَاعِدًا لِكَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم أَقَرَّ الصَّحَابَةَ عَلَى الْقِيَامِ خَلْفَهُ وَهُوَ قَاعِدٌ، هَكَذَا قَرَّرَهُ الشَّافِعِيُّ، وَكَذَا نَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي آخِرِ الْبَابِ عَنْ شَيْخِهِ الْحُمَيْدِيِّ وَهُوَ تِلْمِيذُ الشَّافِعِيِّ، وَبِذَلِكَ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَحَكَاهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ مَالِكٍ، وَأَنْكَرَ أَحْمَدُ نَسْخَ الْأَمْرِ الْمَذْكُورِ بِذَلِكَ وَجَمَعَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِتَنْزِيلِهِمَا عَلَى حَالَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا إِذَا ابْتَدَأَ الْإِمَامُ الرَّاتِبُ الصَّلَاةَ قَاعِدًا لِمَرَضٍ يُرْجَى بُرْؤُهُ فَحِينَئِذٍ يُصَلُّونَ خَلْفَهُ قُعُودًا، ثَانِيَتُهُمَا إِذَا ابْتَدَأَ الْإِمَامُ الرَّاتِبُ قَائِمًا لَزِمَ الْمَأْمُومِينَ أَنْ يُصَلُّوا خَلْفَهُ قِيَامًا سَوَاءٌ طَرَأَ مَا يَقْتَضِي صَلَاةَ إِمَامِهِمْ قَاعِدًا أَمْ لَا كَمَا فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِي مَرَضِ مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّ تَقْرِيرَهُ لَهُمْ عَلَى الْقِيَامِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُمُ الْجُلُوسُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ ابْتَدَأَ الصَّلَاةَ بِهِمْ قَائِمًا وَصَلَّوْا مَعَهُ قِيَامًا، بِخِلَافِ الْحَالَةِ الْأُولَى فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم ابْتَدَأَ الصَّلَاةَ جَالِسًا، فَلَمَّا صَلَّوْا خَلْفَهُ قِيَامًا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ.
وَيُقَوِّي هَذَا الْجَمْعَ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ النَّسْخِ، لَا سِيَّمَا وَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَسْتَلْزِمُ دَعْوَى النَّسْخِ مَرَّتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي حُكْمِ الْقَادِرِ عَلَى الْقِيَامِ أَنْ لَا يُصَلِّيَ قَاعِدًا، وَقَدْ نُسِخَ إِلَى الْقُعُودِ فِي حَقِّ مَنْ صَلَّى إِمَامُهُ قَاعِدًا، فَدَعْوَى نَسْخِ الْقُعُودِ بَعْدَ ذَلِكَ تَقْتَضِي وُقُوعَ النَّسْخِ مَرَّتَيْنِ وَهُوَ بَعِيدٌ، وَأَبْعَدُ مِنْهُ مَا تَقَدَّمَ عَنْ نَقْلِ عِيَاضٍ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي وُقُوعَ النَّسْخِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَقَدْ قَالَ بِقَوْلِ أَحْمَدَ جَمَاعَةٌ مِنْ مُحَدِّثِي الشَّافِعِيَّةِ كَابْنِ خُزَيْمَةَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَابْنِ حِبَّانَ، وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ الْبَابِ بِأَجْوِبَةٍ أُخْرَى، مِنْهَا قَوْلُ ابْنِ خُزَيْمَةَ: إِنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي وَرَدَتْ بِأَمْرِ الْمَأْمُومِ أَنْ يُصَلِّيَ قَاعِدًا تَبَعًا لِإِمَامِهِ لَمْ يُخْتَلَفْ فِي صِحَّتِهَا وَلَا فِي سِيَاقِهَا، وَأَمَّا صَلَاتُهُ صلى الله عليه وسلم قَاعِدًا فَاخْتُلِفَ فِيهَا، هَلْ كَانَ إِمَامًا أَوْ مَأْمُومًا؟
قَالَ: وَمَا لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ لَا يَنْبَغِي تَرْكُهُ لِمُخْتَلَفٍ فِيهِ. وَأُجِيبَ بِدَفْعِ الِاخْتِلَافِ وَالْحَمْلِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ إِمَامًا مَرَّةً وَمَأْمُومًا أُخْرَى. وَمِنْهَا أَنَّ بَعْضَهُمْ جَمَعَ بَيْنَ الْقِصَّتَيْنِ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْجُلُوسِ كَانَ لِلنَّدْبِ، وَتَقْرِيرُهُ قِيَامُهُمْ خَلْفَهُ كَانَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، فَعَلَى هَذَا الْأَمْرِ مَنْ أَمَّ قَاعِدًا لِعُذْرٍ تَخَيَّرَ مَنْ صَلَّى خَلْفَهُ بَيْنَ الْقُعُودِ وَالْقِيَامِ، وَالْقُعُودُ أَوْلَى؛ لِثُبُوتِ الْأَمْرِ بِالِائْتِمَامِ وَالِاتِّبَاعِ، وَكَثْرَةِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ. وَأَجَابَ ابْنُ خُزَيْمَةَ عَنِ اسْتِبْعَادِ مَنِ اسْتَبْعَدَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ صَدَرَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ، وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ عَمَلُ الصَّحَابَةِ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَهُ، فَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ قَهْدٍ - بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الْهَاءِ - الْأَنْصَارِيِّ: أَنَّ إِمَامًا لَهُمُ اشْتَكَى لَهُمْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَكَانَ يَؤُمُّنَا وَهُوَ جَالِسٌ وَنَحْنُ جُلُوسٌ. وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ أَنَّهُ كَانَ يَؤُمُّ قَوْمَهُ، فَاشْتَكَى، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ بَعْدَ شَكْوَاهُ، فَأَمَرُوهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ فَقَالَ: إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُصَلِّيَ قَائِمًا فَاقْعُدُوا، فَصَلَّى بِهِمْ قَاعِدًا وَهُمْ قُعُودٌ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ إِمَامَنَا مَرِيضٌ، قَالَ: إِذَا صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا، وَفِي إِسْنَادِهِ انْقِطَاعٌ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ اشْتَكَى، فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَصَلَّى بِهِمْ جَالِسًا، وَصَلَّوْا مَعَهُ جُلُوسًا، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ أَفْتَى بِذَلِكَ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ أَيْضًا، وَقَدْ أَلْزَمَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الصَّحَابِيَّ أَعْلَمُ بِتَأْوِيلِ مَا رَوَيَ بِأَنْ يَقُولَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، وَجَابِرًا رَوَيَا الْأَمْرَ الْمَذْكُورَ، وَاسْتَمَرَّا عَلَى الْعَمَلِ بِهِ وَالْفُتْيَا بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَيَلْزَمُ ذَلِكَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الصَّحَابِيَّ إِذَا رَوَى وَعَمِلَ بِخِلَافِهِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِمَا عَمِلَ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى؛
لِأَنَّهُ هُنَا عَمِلَ بِوَفْقِ مَا رَوَى. وَقَدِ ادَّعَى ابْنُ حِبَّانَ الْإِجْمَاعَ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ وَكَأَنَّهُ أَرَادَ السُّكُوتَ؛ لِأَنَّهُ حَكَاهُ عَنْ أَرْبَعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ وَقَالَ: إِنَّهُ لَا يُحْفَظُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ غَيْرِهِمُ الْقَوْلَ بِخِلَافِهِ، لَا مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ حَزْمٍ إِنَّهُ لَا يُحْفَظُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ خِلَافَ ذَلِكَ، ثُمَّ نَازَعَ فِي ثُبُوتِ كَوْنِ الصَّحَابَةِ صَلَّوْا خَلْفَهُ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ قَاعِدٌ قِيَامًا غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَرِدْ صَرِيحًا، وَأَطَالَ فِي ذَلِكَ بِمَا لَا طَائِلَ فِيهِ.
وَالَّذِي ادَّعَى نَفْيَهُ قَدْ أَثْبَتَهُ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ: إِنَّهُ فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ، ثُمَّ وَجَدْتُهُ مُصَرَّحًا بِهِ أَيْضًا فِي مُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَلَفْظُهُ: فَصَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَاعِدًا، وَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ وَرَاءَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، وَصَلَّى النَّاسُ وَرَاءَهُ قِيَامًا، وَهَذَا مُرْسَلٌ يَعْتَضِدُ بِالرِّوَايَةِ الَّتِي عَلَّقَهَا الشَّافِعِيُّ، عَنِ النَّخَعِيِّ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ؛ فَإِنَّهُمُ ابْتَدَءُوا الصَّلَاةَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ قِيَامًا بِلَا نِزَاعٍ، فَمَنِ ادَّعَى أَنَّهُمْ قَعَدُوا بَعْدَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ. ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حِبَّانَ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ قَعَدُوا بَعْدَ أَنْ كَانُوا قِيَامًا، بِمَا رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ وَهُوَ قَاعِدٌ، وَأَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُ النَّاسَ تَكْبِيرَهُ، قَالَ: فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا فَرَآنَا قِيَامًا، فَأَشَارَ إِلَيْنَا فَقَعَدْنَا. فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: إِنْ كِدْتُمْ لَتَفْعَلُونَ فِعْلَ فَارِسَ وَالرُّومِ، فَلَا تَفْعَلُوا الْحَدِيثَ.
وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، لَكِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ حَيْثُ سَقَطَ عَنِ الْفَرَسِ كَمَا فِي رِوَايَةِ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ أَيْضًا، قَالَ: رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا بِالْمَدِينَةِ فَصَرَعَهُ عَلَى جِذْعِ نَخْلَةٍ فَانْفَكَّتْ قَدَمُهُ، الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، فَلَا حُجَّةَ عَلَى هَذَا لِمَا ادَّعَاهُ، إِلَّا أَنَّهُ تَمَسَّكَ بِقَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ وَأَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُ النَّاسَ التَّكْبِيرَ وَقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ فِي مَرَضِهِ الْأَوَّلِ كَانَتْ فِي مَشْرَبَةِ عَائِشَةَ وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى مَنْ يُسْمِعُهُمْ تَكْبِيرَهُ بِخِلَافِ صَلَاتِهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ؛ فَإِنَّهَا كَانَتْ فِي الْمَسْجِدِ بِجَمْعٍ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَاحْتَاجَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يُسْمِعَهُمُ التَّكْبِيرَ. انْتَهَى.
وَلَا رَاحَةَ لَهُ فِيمَا تَمَسَّكَ بِهِ؛ لِأَنَّ إِسْمَاعَ التَّكْبِيرِ فِي هَذَا لَمْ يُتَابِعْ أَبَا الزُّبَيْرِ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ حَفِظَهُ فَلَا مَانِعَ أَنْ يُسْمِعَهُمْ أَبُو بَكْرٍ التَّكْبِيرَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ؛ لِأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ صَوْتَهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ خَفِيًّا مِنَ الْوَجَعِ، وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَجْهَرَ بِالتَّكْبِيرِ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَجْهَرُ عَنْهُ بِالتَّكْبِيرِ لِذَلِكَ. وَوَرَاءَ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّهُ أَمْرٌ مُحْتَمَلٌ لَا يُتْرَكُ لِأَجْلِهِ الْخَبَرُ الصَّرِيحُ بِأَنَّهُمْ صَلَّوْا قِيَامًا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي مُرْسَلِ عَطَاءٍ وَغَيْرِهِ، بَلْ فِي مُرْسَلِ عَطَاءٍ أَنَّهُمُ اسْتَمَرُّوا قِيَامًا إِلَى أَنِ انْقَضَتِ الصَّلَاةُ. نَعَمْ وَقَعَ فِي مُرْسَلِ عَطَاءٍ الْمَذْكُورِ مُتَّصِلًا بِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَصَلَّى النَّاسُ وَرَاءَهُ قِيَامًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا صَلَّيْتُمْ إِلَّا قُعُودًا، فَصَلُّوا صَلَاةَ إِمَامِكُمْ مَا كَانَ؛ إِنْ صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا، وَإِنْ صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ تُقَوِّي مَا قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: إِنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ كَانَتْ فِي مَرَضِ مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَيُسْتَفَادُ مِنْهَا نَسْخُ الْأَمْرِ بِوُجُوبِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِينَ قُعُودًا إِذَا صَلَّى إِمَامُهُمْ قَاعِدًا؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْمُرْهُمْ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ الْأَخِيرَةِ بِالْإِعَادَةِ، لَكِنْ إِذَا نُسِخَ الْوُجُوبُ يَبْقَى الْجَوَازُ، وَالْجَوَازُ لَا يُنَافِي الِاسْتِحْبَابَ فَيُحْمَلُ أَمْرُهُ الْأَخِيرُ بِأَنْ يُصَلُّوا قُعُودًا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ قَدْ رُفِعَ بِتَقْرِيرِهِ لَهُمْ وَتَرْكِ أَمْرِهِمْ بِالْإِعَادَةِ.
هَذَا مُقْتَضَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بَاقِي فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَابُ حَدِّ الْمَرِيضِ أَنْ يَشْهَدَ الْجَمَاعَةَ.
قَوْلُهُ: (فِي بَيْتِهِ) أَيْ: فِي الْمَشْرَبَةِ الَّتِي فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ، كَمَا بَيَّنَهُ أَبُو سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الصَّلَاةَ لَمْ تَكُنْ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَجَزَ عَنِ الصَّلَاةِ بِالنَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ، فَكَانَ يُصَلِّي فِي بَيْتِهِ بِمَنْ حَضَرَ، لَكِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ اسْتَخْلَفَ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ عِيَاضٌ: إِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ صَلَّى فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ وَائْتَمَّ بِهِ
مَنْ حَضَرَ عِنْدَهُ وَمَنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُحْتَمَلٌ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ اسْتَخْلَفَ وَإِنْ لَمْ يُنْقَلْ، وَيَلْزَمُ عَلَى الْأَوَّلِ صَلَاةُ الْإِمَامِ أَعْلَى مِنَ الْمَأْمُومِينَ، وَمَذْهَبُ عِيَاضٍ خِلَافُهُ، لَكِنْ لَهُ أَنْ يَقُولَ مَحَلُّ الْمَنْعِ مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَ الْإِمَامِ فِي مَكَانِهِ الْعَالِي أَحَدٌ وَهُنَا كَانَ مَعَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ.
قَوْلُهُ: (وَهُوَ شَاكٍ) بِتَخْفِيفِ الْكَافِ بِوَزْنِ قَاضٍ، مِنَ الشِّكَايَةِ وَهِيَ الْمَرَضُ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ مَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْمَذْكُورِ بَعْدَهُ أَنَّهُ سَقَطَ عَنْ فَرَسٍ.
قَوْلُهُ: (فَصَلَّى جَالِسًا) قَالَ عِيَاضٌ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَصَابَهُ مِنَ السَّقْطَةِ رَضٌّ فِي الْأَعْضَاءِ مَنَعَهُ مِنَ الْقِيَامِ. قَالَ: وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانَتْ قَدَمُهُ صلى الله عليه وسلم انْفَكَّتْ كَمَا فِي رِوَايَةِ بَشِيرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ، الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَكَذَا لِأَبِي دَاوُدَ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ كَمَا قَدَّمْنَاهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: جُحِشَ شِقُّهُ الْأَيْمَنُ وَفِي رِوَايَةِ يَزِيدَ عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ: جُحِشَ سَاقُهُ أَوْ: كَتِفُهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ الصَّلَاةِ عَلَى السُّطُوحِ فَلَا يُنَافِي ذَلِكَ كَوْنُ قَدَمِهِ انْفَكَّتْ لِاحْتِمَالِ وُقُوعِ الْأَمْرَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْجَحْشِ بِأَنَّهُ الْخَدْشُ، وَالْخَدْشُ: قَشْرُ الْجِلْدِ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي بَابِ يَهْوِي بِالتَّكْبِيرِ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ سُفْيَانُ: حَفِظْتُ مِنَ الزُّهْرِيِّ: شِقُّهُ الْأَيْمَنَ، فَلَمَّا خَرَجْنَا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: سَاقُهُ الْأَيْمَنُ.
قُلْتُ: وَرِوَايَةُ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْرَجَهَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهُ، وَلَيْسَتْ مُصَحَّفَةً كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ؛ لِمُوَافَقَةِ رِوَايَةِ حُمَيْدٍ الْمَذْكُورَةِ لَهَا، وَإِنَّمَا هِيَ مُفَسِّرَةٌ لِمَحَلِّ الْخَدْشِ مِنَ الشِّقِّ الْأَيْمَنِ؛ لِأَنَّ الْخَدْشَ لَمْ يَسْتَوْعِبْهُ. وَحَاصِلُ مَا فِي الْقِصَّةِ أَنَّ عَائِشَةَ أَبْهَمَتِ الشَّكْوَى، وَبَيَّنَ جَابِرٌ، وَأَنَسٌ السَّبَبَ وَهُوَ السُّقُوطُ عَنِ الْفَرَسِ، وَعَيَّنَ جَابِرٌ الْعِلَّةَ فِي الصَّلَاةِ قَاعِدًا وَهِيَ انْفِكَاكُ الْقَدَمِ، وَأَفَادَ ابْنُ حِبَّانَ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ كَانَتْ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ خَمْسٍ مِنَ الْهِجْرَةِ.
قَوْلُهُ: (وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا) وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدَةَ عَنْ هِشَامٍ: فَدَخَلَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَعُودُونَهُ، الْحَدِيثَ، وَقَدْ سُمِّيَ مِنْهُمْ فِي الْأَحَادِيثِ أَنَسٌ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَجَابِرٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ، وَعُمَرُ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ.
قَوْلُهُ: (فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ هُنَا مِنَ الْإِشَارَةِ، وَكَذَا لِجَمِيعِهِمْ فِي الطِّبِّ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ هِشَامٍ، وَوَقَعَ هُنَا لِلْحَمَوِيِّ فَأَشَارَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَشُورَةِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، فَقَدْ رَوَاهُ أَيُّوبُ، عَنْ هِشَامٍ بِلَفْظِ: فَأَوْمَأَ إِلَيْهِمْ وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هِشَامٍ بِلَفْظِ: فَأَخْلَفَ بِيَدِهِ يُومِئُ بِهَا إِلَيْهِمْ، وَفِي مُرْسَلِ الْحَسَنِ: وَلَمْ يَبْلُغْ بِهَا الْغَايَةَ.
قَوْلُهُ: (إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ) قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ: الِائْتِمَامُ: الِاقْتِدَاءُ وَالِاتِّبَاعُ، أَيْ: جُعِلَ الْإِمَامُ إِمَامًا لِيُقْتَدَى بِهِ وَيُتَّبَعَ، وَمِنْ شَأْنِ التَّابِعِ أَنْ لَا يَسْبِقَ مَتْبُوعَهُ وَلَا يُسَاوِيَهُ وَلَا يَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ فِي مَوْقِفِهِ، بَلْ يُرَاقِبُ أَحْوَالَهُ وَيَأْتِي عَلَى أَثَرِهِ بِنَحْوِ فِعْلِهِ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ لَا يُخَالِفَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحْوَالِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ: مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ وَاجِبةٌ فِي الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَيْهَا فِي الْحَدِيثِ فَذَكَرَ الرُّكُوعَ وَغَيْرَهُ، بِخِلَافِ النِّيَّةِ فَإِنَّهَا لَمْ تُذْكَرْ، وَقَدْ خَرَجَتْ بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَكَأَنَّهُ يَعْنِي قِصَّةَ مُعَاذٍ الْآتِيَةَ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى عَدَمِ دُخُولِهَا؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْحَصْرَ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي أَفْعَالِهِ، لَا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ مُحْدِثًا أَوْ حَامِلَ نَجَاسَةٍ؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ خَلْفَهُ تَصِحُّ لِمَنْ لَمْ يَعْلَمْ حَالَهُ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، ثُمَّ مَعَ وُجُوبِ الْمُتَابَعَةِ لَيْسَ بِشَيْءٍ مِنْهَا شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْقُدْوَةِ إِلَّا تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ، وَاخْتُلِفَ فِي الِائْتِمَامِ
(1)
، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ اشْتِرَاطُهُ مَعَ الْإِحْرَامِ وَالْقِيَامِ مِنَ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، وَخَالَفَ الْحَنَفِيَّةُ
(1)
في مخطوطة الرياض " في السلام "
فَقَالُوا: تَكْفِي الْمُقَارَنَةُ، قَالُوا: لِأَنَّ مَعْنَى الِائْتِمَامِ الِامْتِثَالُ، وَمَنْ فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِ إِمَامِهِ عُدَّ مُمْتَثِلًا، وَسَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ الدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِ التَّقَدُّمِ عَلَى الْإِمَامِ فِي الْأَرْكَانِ.
قَوْلُهُ: (فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا) قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: مُقْتَضَاهُ أَنَّ رُكُوعَ الْمَأْمُومِ يَكُونُ بَعْدَ رُكُوعِ الْإِمَامِ، إِمَّا بَعْدَ تَمَامِ انْحِنَائِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَسْبِقَهُ الْإِمَامُ بِأَوَّلِهِ، فَيَشْرَعُ فِيهِ بَعْدَ أَنْ يَشْرَعَ، قَالَ: وَحَدِيثُ أَنَسٍ أَتَمُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ؛ لِأَنَّهُ زَادَ فِيهِ الْمُتَابَعَةَ فِي الْقَوْلِ أَيْضًا.
قُلْتُ: قَدْ وَقَعَتِ الزِّيَادَةُ الْمَذْكُورَةُ، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ أَيْضًا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ زِيَادَةٌ أُخْرَى فِي الْأَقْوَالِ، وَهِيَ قَوْلُهُ فِي أَوَّلِهِ: فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ إِيجَابِ التَّكْبِيرِ وَكَذَا فِيهِ مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ عَبْدَةَ، عَنْ هِشَامٍ فِي الطِّبِّ: وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا وَهُوَ يَتَنَاوَلُ الرَّفْعَ مِنَ الرُّكُوعِ وَالرَّفْعَ مِنَ السُّجُودِ وَجَمِيعِ السَّجَدَاتِ، وَكَذَا وَرَدَتْ زِيَادَةُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الَّذِي فِي الْبَابِ، وَقَدْ وَافَقَ عَائِشَةَ وَأَنَسًا، وَجَابِرًا عَلَى رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ دُونَ الْقِصَّةِ الَّتِي فِي أَوَّلِهِ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَلَهُ طُرُقٌ عَنْهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْهَا مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ رِوَايَةِ هَمَّامٍ عَنْهُ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ إِقَامَةِ الصَّفِّ، وَفِيهِ جَمِيعُ مَا ذُكِرَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَحَدِيثِ أَنَسٍ بِالزِّيَادَةِ، وَزَادَ أَيْضًا - بَعْدَ قَوْلِهِ: لِيُؤْتَمَّ بِهِ -: فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ وَلَمْ يَذْكُرْهَا الْمُصَنِّفُ فِي رِوَايَةِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ فِي بَابِ إِيجَابِ التَّكْبِيرِ لَكِنْ ذَكَرَهَا السَّرَّاجُ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْيَمَانِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ وَأَبُو عَوَانَةَ مِنْ رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ شَيْخِ أَبِي الْيَمَانِ، وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ مُغِيرَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ، وَوَرْقَاء كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ شَيْخِ شُعَيْبٍ.
وَأَفَادَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالِاتِّبَاعِ يَعُمُّ جَمِيعَ الْمَأْمُومِينَ، وَلَا يَكْفِي فِي تَحْصِيلِ الِائْتِمَامِ اتِّبَاعُ بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ: لَا تُبَادِرُوا الْإِمَامَ، إِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا الْحَدِيثَ، زَادَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ مُصْعَبِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ: وَلَا تَرْكَعُوا حَتَّى يَرْكَعَ، وَلَا تَسْجُدُوا حَتَّى يَسْجُدَ، وَهِيَ زِيَادَةٌ حَسَنَةٌ تَنْفِي احْتِمَالَ إِرَادَةِ الْمُقَارَنَةِ مِنْ قَوْلِهِ: إِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا.
(فَائِدَةٌ): جَزَمَ ابْنُ بَطَّالٍ وَمَنْ تَبِعَهُ حَتَّى ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ أَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ: فَكَبِّرُوا لِلتَّعْقِيبِ، قَالُوا: وَمُقْتَضَاهُ الْأَمْرُ بِأَنَّ أَفْعَالَ الْمَأْمُومِ تَقَعُ عَقِبَ فِعْلِ الْإِمَامِ، لَكِنْ تُعُقِّبَ بِأَنَّ الْفَاءَ الَّتِي لِلتَّعْقِيبِ هِيَ الْعَاطِفَةُ، وَأَمَّا الَّتِي هُنَا فَهِيَ لِلرَّبْطِ فَقَطْ؛ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ جَوَابًا لِلشَّرْطِ، فَعَلَى هَذَا لَا تَقْتَضِي تَأَخُّرَ أَفْعَالِ الْمَأْمُومِ عَنِ الْإِمَامِ إِلَّا عَلَى الْقَوْلِ بِتَقَدُّمِ الشَّرْطِ عَلَى الْجَزَاءِ، وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: إِنَّ الْجَزَاءَ يَكُونُ مَعَ الشَّرْطِ، فَعَلَى هَذَا لَا تَنْفِي الْمُقَارَنَةَ، لَكِنَّ رِوَايَةَ أَبِي دَاوُدَ هَذِهِ صَرِيحَةٌ فِي انْتِقَاءِ التَّقَدُّمِ وَالْمُقَارَنَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (فَقُولُوا رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ) كَذَا لِجَمِيعِ الرُّوَاةِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ، وَكَذَا لَهُمْ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَنَسٍ إِلَّا فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي بَابِ إِيجَابِ التَّكْبِيرِ فَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِحَذْفِ الْوَاوِ وَرُجِّحَ إِثْبَاتُ الْوَاوِ بِأَنَّ فِيهَا مَعْنًى زَائِدًا؛ لِكَوْنِهَا عَاطِفَةً عَلَى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: رَبَّنَا اسْتَجِبْ، أَوْ: رَبَّنَا أَطَعْنَاكَ وَلَكَ الْحَمْدُ، فَيَشْتَمِلُ عَلَى الدُّعَاءِ وَالثَّنَاءِ مَعًا، وَرَجَّحَ قَوْمٌ حَذْفَهَا لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّقْدِيرِ فَتَكُونُ عَاطِفَةً عَلَى كَلَامٍ غَيْرِ تَامٍّ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ كَمَا قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: ثَبَتَتِ الرِّوَايَةُ بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ وَحَذْفِهَا، وَالْوَجْهَانِ جَائِزَانِ بِغَيْرِ تَرْجِيحٍ، وَسَيَأْتِي فِي أَبْوَابِ صِفَةِ الصَّلَاةِ الْكَلَامُ عَلَى زِيَادَةِ اللَّهُمَّ قَبْلَهَا، وَنَقَلَ عِيَاضٌ عَنِ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ يَقْتَصِرُ عَلَى قَوْلِهِ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَأَنَّ الْمَأْمُومَ يَقْتَصِرُ عَلَى قَوْلِهِ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَلَيْسَ فِي السِّيَاقِ مَا يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ عَنِ الشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي تَرْكَ فِعْلِهِ، نَعَمْ مُقْتَضَاهُ أَنَّ الْمَأْمُومَ يَقُولُ: رَبَّنَا
لَكَ الْحَمْدُ عَقِبَ قَوْلِ الْإِمَامِ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَأَمَّا مَنْعُ الْإِمَامِ مِنْ قَوْلِ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ مَا يَقُولُ عِنْدَ رَفْعِ رَأْسِهِ مِنَ الرُّكُوعِ وَيَأْتِي بَاقِي الْكَلَامِ عَلَيْهِ هُنَاكَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَنَسٍ) فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَخْبَرَنِي أَنَسٌ.
قَوْلُهُ: (فَصَلَّى صَلَاةً مِنَ الصَّلَوَاتِ) فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: اللَّامُ لِلْعَهْدِ ظَاهِرًا، وَالْمُرَادُ الْفَرْضُ؛ لِأَنَّهَا الَّتِي عُرِفَ مِنْ عَادَتِهِمْ أَنَّهُمْ يَجْتَمِعُونَ لَهَا بِخِلَافِ النَّافِلَةِ. وَحَكَى عِيَاضٌ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهَا كَانَتْ نَفْلًا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ فِي رِوَايَةِ جَابِرٍ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَأَبِي دَاوُدَ الْجَزْمُ بِأَنَّهَا فَرْضٌ كَمَا سَيَأْتِي، لَكِنْ لَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِهَا، إِلَّا أَنَّ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ: فَصَلَّى بِنَا يَوْمَئِذٍ فَكَأَنَّهَا نَهَارِيَّةٌ، الظُّهْرَ أَوِ الْعَصْرَ.
قَوْلُهُ: (فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ قُعُودًا) ظَاهِرُهُ يُخَالِفُ حَدِيثَ عَائِشَةَ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ فِي رِوَايَةِ أَنَسٍ هَذِهِ اخْتِصَارًا، وَكَأَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى مَا آلَ إِلَيْهِ الْحَالُ بَعْدَ أَمْرِهِ لَهُمْ بالْجُلُوسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ الصَّلَاةِ فِي السُّطُوحِ مِنْ رِوَايَةِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ فَصَلَّى بِهِمْ جَالِسًا وَهُمْ قِيَامٌ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ، وَفِيهَا أَيْضًا اخْتِصَارٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ قَوْلَهُ لَهُمُ: اجْلِسُوا، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُمُ ابْتَدَؤُوا الصَّلَاةَ قِيَامًا، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِمْ بِأَنْ يَقْعُدُوا فَقَعَدُوا، فَنَقَلَ كُلٌّ مِنَ الزُّهْرِيِّ، وَحُمَيْدٍ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ، وَجَمَعَتْهُمَا عَائِشَةُ، وَكَذَا جَمَعَهُمَا جَابِرٌ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَجَمَعَ الْقُرْطُبِيُّ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ قَعَدَ مِنْ أَوَّلِ الْحَالِ وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ أَنَسٌ، وَبَعْضُهُمْ قَامَ حَتَّى أَشَارَ إِلَيْهِ بِالْجُلُوسِ وَهَذَا الَّذِي حَكَتْهُ عَائِشَةُ. وَتُعُقِّبَ بِاسْتِبْعَادِ قُعُودِ بَعْضِهِمْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ النَّسْخَ بِالِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْقَادِرِ فِي الْأَصْلِ الْقِيَامُ. وَجَمَعَ آخَرُونَ بَيْنَهُمَا بِاحْتِمَالِ تَعَدُّدِ الْوَاقِعَةِ وَفِيهِ بُعْدٌ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ أَنَسٍ إِنْ كَانَتِ الْقِصَّةُ فِيهِ سَابِقَةٌ لَزِمَ مِنْهُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ النَّسْخِ بِالِاجْتِهَادِ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَأَخِّرَةٌ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى إِعَادَةِ قَوْلِ: إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، إِلَخْ لِأَنَّهُمْ قَدِ امْتَثَلُوا أَمْرَهُ السَّابِقَ وَصَلَّوْا قُعُودًا لِكَوْنِهِ قَاعِدًا.
(فَائِدَةٌ): وَقَعَ فِي رِوَايَةِ جَابِرٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ أَنَّهُمْ دَخَلُوا يَعُودُونَهُ مَرَّتَيْنِ فَصَلَّى بِهِمْ فِيهِمَا، لَكِنْ بَيَّنَ أَنَّ الْأُولَى كَانَتْ نَافِلَةً وَأَقَرَّهُمْ عَلَى الْقِيَامِ وَهُوَ جَالِسٌ، وَالثَّانِيَةُ كَانَتْ فَرِيضَةً وَابْتَدَؤُوا قِيَامًا فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ بِالْجُلُوسِ. وَفِي رِوَايَةِ بِشْرٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، نَحْوُهُ.
قَوْلُهُ: (وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى صِحَّةِ إِمَامَةِ الْجَالِسِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمْرِ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ فِي جُلُوسِهِ فِي التَّشَهُّدِ وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ عَقِبَ ذِكْرِ الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ وَالسُّجُودِ، قَالَ: فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا جَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ قَامُوا تَعْظِيمًا لَهُ، فَأَمَرَهُمْ بِالْجُلُوسِ تَوَاضُعًا، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: إِنْ كِدْتُمْ أَنْ تَفْعَلُوا فِعْلَ فَارِسَ وَالرُّومِ، يَقُومُونَ عَلَى مُلُوكِهِمْ وَهُمْ قُعُودٌ، فَلَا تَفْعَلُوا، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَغَيْرُهُ بِالِاسْتِبْعَادِ، وَبِأَنَّ سِيَاقَ طُرُقِ الْحَدِيثِ تَأْبَاهُ، وَبِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْأَمْرَ بِالْجُلُوسِ فِي الرُّكْنِ لَقَالَ: وَإِذَا جَلَسَ فَاجْلِسُوا؛ لِيُنَاسِبَ قَوْلَهُ: وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا، فَلَمَّا عَدَلَ عَلَى ذَلِكَ إِلَى قَوْلِهِ: وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا كَانَ كَقَوْلِهِ: وَإِذَا صَلَّى قَائِمًا، فَالْمُرَادُ بِذَلِكَ جَمِيعُ الصَّلَاةِ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُ أَنَسٍ: فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ قُعُودًا.
قَوْلُهُ: (أَجْمَعُونَ) كَذَا فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِالْوَاوِ، إِلَّا أَنَّ الرُّوَاةَ اخْتَلَفُوا فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ إِقَامَةِ الصَّفِّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَجْمَعِينَ بِالْيَاءِ، وَالْأَوَّلُ تَأْكِيدٌ لِضَمِيرِ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: صَلُّوا، وَأَخْطَأَ مَنْ ضَعَّفَهُ؛ فَإِنَّ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَالثَّانِي نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: جُلُوسًا مُجْتَمِعِينَ، أَوْ عَلَى التَّأْكِيدِ لِضَمِيرٍ مُقَدَّرٍ مَنْصُوبٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَعْنِيكُمْ أَجْمَعِينَ. وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ: مَشْرُوعِيَّةُ رُكُوبِ الْخَيْلِ وَالتَّدَرُّبِ عَلَى أَخْلَاقِهَا وَالتَّأَسِّي لِمَنْ يَحْصُلُ لَهُ سُقُوطٌ وَنَحْوُهُ بِمَا اتَّفَقَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ وَبِهِ الْأُسْوَةُ الْحَسَنَةُ. وَفِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ
عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم مَا يَجُوزُ عَلَى الْبَشَرِ مِنَ الْأَسْقَامِ وَنَحْوِهَا مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ فِي مِقْدَارِهِ بِذَلِكَ، بَلْ لِيَزْدَادَ قَدْرُهُ رِفْعَةً وَمَنْصِبُهُ جَلَالَةً.
52 - بَاب مَتَى يَسْجُدُ مَنْ خَلْفَ الْإِمَامِ؟
قَالَ أَنَسٌ: فَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا
690 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ قَالَ: حَدَّثَنِي الْبَرَاءُ - وَهُوَ غَيْرُ كَذُوبٍ - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ لَمْ يَحْنِ أَحَدٌ مِنَّا ظَهْرَهُ حَتَّى يَقَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَاجِدًا، ثُمَّ نَقَعُ سُجُودًا بَعْدَهُ.
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ نَحْوَهُ بِهَذَا.
[الحديث 690 - طرفاه في: 811، 747]
قَوْلُهُ: (بَابُ مَتَى يَسْجُدُ مَنْ خَلْفَ الْإِمَامِ) أَيْ: إِذَا اعْتَدَلَ أَوْ جَلَسَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَنَسٌ): هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِهِ الْمَاضِي فِي الْبَابِ قَبْلَهُ، لَكِنْ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ دُونَ بَعْضٍ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ إِيجَابِ التَّكْبِيرِ مِنْ رِوَايَةِ اللَّيْثِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِهِ، وَمُنَاسَبَتُهُ لِحَدِيثِ الْبَابِ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ أَنَّهُ يَقْتَضِي تَقْدِيمَ مَا يُسَمَّى رُكُوعًا مِنَ الْإِمَامِ بِنَاءً عَلَى تَقَدُّمِ الشَّرْطِ عَلَى الْجَزَاءِ، وَحَدِيثُ الْبَابِ يُفَسِّرُهُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ سُفْيَانَ) هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو إِسْحَاقَ هُوَ السَّبِيعِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ هُوَ الْخَطْمِيُّ، كَذَا وَقَعَ مَنْسُوبًا عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فِي رِوَايَةٍ لِشُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى خَطْمَةَ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَإِسْكَانِ الطَّاءِ بَطْنٍ مِنَ الْأَوْسِ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ الْمَذْكُورُ أَمِيرًا عَلَى الْكُوفَةِ فِي زَمَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَوَقَعَ لِلْمُصَنِّفِ فِي بَابُ رَفْعِ الْبَصَرِ فِي الصَّلَاةِ أَنَّ أَبَا إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ يَخْطُبُ، وَأَبُو إِسْحَاقَ مَعْرُوفٌ بِالرِّوَايَةِ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، لَكِنَّهُ سَمِعَ هَذَا عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ. وَفِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ رِوَايَةُ صَحَابِيٍّ ابْنِ صَحَابِيٍّ عَنْ صَحَابِيٍّ ابْنِ صَحَابِيٍّ مِنَ الْأَنْصَارِ ثُمَّ مِنَ الْأَوْسِ، وَكِلَاهُمَا سَكَنَ الْكُوفَةَ.
قَوْلُهُ: (وَهُوَ غَيْرُ كَذُوبٍ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، وَعَلَى ذَلِكَ جَرَى الْحُمَيْدِيُّ فِي جَمْعِهِ وَصَاحِبُ الْعُمْدَةِ، لَكِنْ رَوَى عَبَّاسٌ الدُّورِيُّ فِي تَارِيخِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ أَنَّهُ قَالَ: قَوْلُهُ هُوَ غَيْرُ كَذُوبٍ إِنَّمَا يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ الرَّاوِيَ عَنِ الْبَرَاءِ لَا الْبَرَاءَ. وَلَا يُقَالُ لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَيْرُ كَذُوبٍ، يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ إِنَّمَا تَحْسُنُ فِي مَشْكُوكٍ فِي عَدَالَتِهِ، وَالصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ عُدُولٌ لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى تَزْكِيَةٍ.
وَقَدْ تَعَقَّبَهُ الْخَطَّابِيُّ فَقَالَ: هَذَا الْقَوْلُ لَا يُوجِبُ تُهْمَةً فِي الرَّاوِي، إِنَّمَا يُوجِبُ حَقِيقَةَ الصِّدْقِ لَهُ، قَالَ: وَهَذِهِ عَادَتُهُمْ إِذَا أَرَادُوا تَأْكِيدَ الْعِلْمِ بِالرَّاوِي وَالْعَمَلَ بِمَا رَوَى، كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ خَلِيلِي الصَّادِقَ الْمَصْدُوقَ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ حَدَّثَنِي الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ وَقَالَ عِيَاضٌ - وَتَبِعَهُ النَّوَوِيُّ -: لَا وَصْمَ فِي هَذَا عَلَى الصَّحَابَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ التَّعْدِيلَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ تَقْوِيَةَ الْحَدِيثِ؛ إِذْ حَدَّثَ بِهِ الْبَرَاءُ وَهُوَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ، وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيِّ: حَدَّثَنِي الْحَبِيبُ الْأَمِينُ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ فَذَكَرَهُمَا.
قَالَ: وَهَذَا قَالُوهُ تَنْبِيهًا عَلَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ، لَا أَنَّ قَائِلَهُ قَصَدَ بِهِ تَعْدِيلَ رَاوِيهِ. وَأَيْضًا فَتَنْزِيهُ ابْنِ مَعِينٍ، لِلْبَرَاءِ عَنِ التَّعْدِيلِ لِأَجْلِ صُحْبَتِهِ، وَلَمْ يُنَزِّهْ عَنْ ذَلِكَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ لَا وَجْهَ لَهُ؛ فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ مَعْدُودٌ فِي الصَّحَابَةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ أَخَذَ كَلَامَ الْخَطَّابِيِّ فَبَسَطَهُ وَاسْتَدْرَكَ عَلَيْهِ الْإِلْزَامَ الْأَخِيرَ، وَلَيْسَ بِوَارِدٍ؛ لِأَنَّ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ لَا يُثْبِتُ صُحْبَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، وَقَدْ نَفَاهَا أَيْضًا مُصْعَبُ الزَّبِيرِيُّ وَتَوَقَّفَ فِيهَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَأَبُو حَاتِمٍ، وَأَبُو دَاوُدَ وَأَثْبَتَهَا ابْنُ الْبَرْقِيِّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَآخَرُونَ. وَقَالَ
النَّوَوِيُّ: مَعْنَى الْكَلَامِ: حَدَّثَنِي الْبَرَاءُ وَهُوَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ كَمَا عَلِمْتُمْ، فَثِقُوا بِمَا أُخْبِرُكُمْ بِهِ عَنْهُ، وَقَدِ اعْتَرَضَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى التَّنْظِيرِ الْمَذْكُورِ فَقَالَ: كَأَنَّهُ لَمْ يُلِمَّ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِ الْبَيَانِ، لِلْفَرْقِ الْوَاضِحِ بَيْنَ قَوْلِنَا: فُلَانٌ صَدُوقٌ، وَفُلَانٌ غَيْرُ كَذُوبٍ؛ لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ إِثْبَاتُ الصِّفَةِ لِلْمَوْصُوفِ، وَفِي الثَّانِي نَفْيُ ضِدِّهَا عَنْهُ، فَهُمَا مُفْتَرِقَانِ. قَالَ: وَالسِّرُّ فِيهِ أَنَّ نَفْيَ الضِّدِّ كَأَنَّهُ يَقَعُ جَوَابًا لِمَنْ أَثْبَتَهُ يُخَالِفُ إِثْبَاتَ الصِّفَةِ. انْتَهَى.
وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ يَقَعُ فِي الْإِثْبَاتِ بِالْمُطَابَقَةِ وَفِي النَّفْيِ بِالِالْتِزَامِ، لَكِنَّ التَّنْظِيرَ صَحِيحٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَعْنَى الْمُرَادِ بِاللَّفْظَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَزْكِيَةٌ فِي حَقٍّ مَقْطُوعٍ بِتَزْكِيَتِهِ فَيَكُونُ مِنْ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، وَيَحْصُلُ الِانْفِصَالُ عَنْ ذَلِكَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا تَفْخِيمُ الْأَمْرِ وَتَقْوِيَتُهُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ. وَذَكَرَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ أَنَّ بَعْضَهُمُ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَلَامُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ بِقَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ وَهُوَ يَخْطُبُ يَقُولُ حَدَّثَنَا الْبَرَاءُ وَكَانَ غَيْرُ كَذُوبٍ قَالَ: وَهُوَ مُحْتَمَلٌ أَيْضًا.
قُلْتُ: لَكِنَّهُ أَبْعَدُ مِنَ الْأَوَّلِ. وَقَدْ وَجَدْتُ الْحَدِيثَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ وَفِيهِ قَوْلُهُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا الْبَرَاءُ وَهُوَ غَيْرُ كَذُوبٍ أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدٍ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ. . . فَذَكَرَهُ. وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ، لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ قَوْلُهُ: وَكَانَ غَيْرَ كَذُوبٍ، وَهَذَا يُقَوِّي أَنَّ الْكَلَامَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَائِدَةٌ): رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي مُسْنَدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ هَذَا شَيْئًا يَدُلُّ عَلَى سَبَبِ رِوَايَتِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ أَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِهِ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِالْكُوفَةِ، فَكَانَ النَّاسُ يَضَعُونَ رُءُوسَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَضَعَ رَأْسَهُ وَيَرْفَعُونَ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي إِنْكَارِهِ عَلَيْهِمْ.
قَوْلُهُ: (إِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ) فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ: إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ: فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ فَقَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، لَمْ نَزَلْ قِيَامًا.
قَوْلُهُ: (لَمْ يَحْنِ) بِفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، أَيْ: لَمْ يَثْنِ، يُقَالُ: حَنَيْتُ الْعُودَ إِذَا ثَنَيْتُهُ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: لَا يَحْنُو، وَهِيَ لُغَةٌ صَحِيحَةٌ يُقَالُ: حَنَيْتُ وَحَنَوْتُ بِمَعْنًى.
قَوْلُهُ: (حَتَّى يَقَعَ سَاجِدًا) فِي رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: حَتَّى يَضَعَ جَبْهَتَهُ عَلَى الْأَرْضِ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ سُجُودِ السَّهْوِ، وَنَحْوِهِ لِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ زُهَيْرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، وَلِأَحْمَدَ، عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ: حَتَّى يَسْجُدَ ثُمَّ يَسْجُدُونَ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُومَ لَا يَشْرَعُ فِي الرُّكْنِ حَتَّى يُتِمَّهُ الْإِمَامُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا التَّأَخُّرُ حَتَّى يَتَلَبَّسَ الْإِمَامُ بِالرُّكْنِ الَّذِي يَنْتَقِلُ إِلَيْهِ، بِحَيْثُ يَشْرَعُ الْمَأْمُومُ بَعْدَ شُرُوعِهِ وَقَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْهُ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَكَانَ لَا يَحْنِي أَحَدٌ مِنَّا ظَهْرَهُ حَتَّى يَسْتَتِمَّ سَاجِدًا، وَلِأَبِي يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: حَتَّى يَتَمَكَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ السُّجُودِ، وَهُوَ أَوْضَحُ فِي انْتِفَاءِ الْمُقَارَنَةِ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى الطُّمَأْنِينَةِ وَفِيهِ نَظَرٌ، وَعَلَى جَوَازِ النَّظَرِ إِلَى الْإِمَامِ لِاتِّبَاعِهِ فِي انْتِقَالَاتِهِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ. . . نَحْوَهُ) هَكَذَا فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَكَرِيمَةَ، وَسَقَطَ لِلْبَاقِينَ.
وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ الصَّغَانِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ وَلَفْظُهُ: كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَحْنِ أَحَدٌ مِنَّا ظَهْرَهُ حَتَّى يَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَبْهَتَهُ.
53 - بَاب إِثْمِ مَنْ رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ
691 -
حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ قال: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَمَا يَخْشَى أَحَدُكُمْ - أَوْ: لَا يَخْشَى أَحَدُكُمْ - إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ، أَوْ
يَجْعَلَ اللَّهُ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِثْمِ مَنْ رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ) أَيْ: مِنَ السُّجُودِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ) هُوَ الْجُمَحِيُّ، مَدَنِيٌّ سَكَنَ الْبَصْرَةَ، وَلَهُ فِي الْبُخَارِيِّ أَحَادِيثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي التَّابِعِينَ أَيْضًا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ الْأَلْهَانِيُّ الْحِمْصِيُّ وَلَهُ عِنْدَهُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ فِي الْمُزَارَعَةِ.
قَوْلُهُ: (أَمَا يَخْشَى أَحَدُكُمْ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: أَوْ لَا يَخْشَى، وَلِأَبِي دَاوُدَ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ شُعْبَةَ: أَمَا يَخْشَى - أَوْ: أَلَا يَخْشَى بِالشَّكِّ. وَأَمَا بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ حَرْفُ اسْتِفْتَاحٍ مِثْلُ أَلَا، وَأَصْلُهَا النَّافِيَةُ دَخَلَتْ عَلَيْهَا هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ، وَهُوَ هُنَا اسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٍ.
قَوْلُهُ: (إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ) زَادَ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ: فِي صَلَاتِهِ، وَفِي رِوَايَةِ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورَةِ: الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَالْإِمَامُ سَاجِدٌ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ الرَّفْعُ مِنَ السُّجُودِ، فَفِيهِ تَعَقُّبٌ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ الْحَدِيثَ نَصٌّ فِي الْمَنْعِ مِنْ تَقَدُّمِ الْمَأْمُومِ عَلَى الْإِمَامِ فِي الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مَعًا، وَإِنَّمَا هُوَ نَصٌّ فِي السُّجُودِ، وَيَلْتَحِقُ بِهِ الرُّكُوعُ؛ لِكَوْنِهِ فِي مَعْنَاهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ السُّجُودَ لَهُ مَزِيدُ مَزِيَّةٍ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ أَقْرَبُ مَا يَكُونُ فِيهِ مِنْ رَبِّهِ؛ لِأَنَّهُ غَايَةُ الْخُضُوعِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ، فَلِذَلِكَ خُصَّ بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ، وَهُوَ ذِكْرُ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ الْمُشْتَرَكَيْنِ فِي الْحُكْمِ إِذَا كَانَ لِلْمَذْكُورِ مَزِيَّةٌ، وَأَمَّا التَّقَدُّمُ عَلَى الْإِمَامِ فِي الْخَفْضِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَقِيلَ: يَلْتَحِقُ بِهِ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ الِاعْتِدَالَ وَالْجُلُوسَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ مِنَ الْوَسَائِلِ، وَالرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ مِنَ الْمَقَاصِدِ، وَإِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الْمُوَافَقَةِ فِيمَا هُوَ وَسِيلَةٌ، فَأَوْلَى أَنْ يَجِبَ فِيمَا هُوَ مَقْصِدٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ هَذَا بِوَاضِحٍ؛ لِأَنَّ الرَّفْعَ مِنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ يَسْتَلْزِمُ قَطْعَهُ عَنْ غَايَةِ كَمَالِهِ، وَدُخُولُ النَّقْصِ فِي الْمَقَاصِدِ أَشَدُّ مِنْ دُخُولِهِ فِي الْوَسَائِلِ، وَقَدْ وَرَدَ الزَّجْرُ عَنِ الْخَفْضِ وَالرَّفْعِ قَبْلَ الْإِمَامِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ رِوَايَةِ مُلَيْحِ
(1)
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ السَّعْدِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: الَّذِي يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ قَبْلَ
الْإِمَامِ إِنَّمَا نَاصِيَتُهُ بِيَدِ شَيْطَانٍ. وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مَوْقُوفًا، وَهُوَ الْمَحْفُوظُ.
قَوْلُهُ: (أَوْ: يَجْعَلُ اللَّهُ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ) الشَّكُّ مِنْ شُعْبَةَ، فَقَدْ رَوَاهُ الطَّيَالِسِيُّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، وَالرَّبِيعِ بْنِ مُسْلِمٍ، كُلُّهُمْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ بِغَيْرِ تَرَدُّدٍ، فَأَمَّا الْحَمَّادَانِ فَقَالَا: رَأْسَ. وَأَمَّا يُونُسَ فَقَالَ: صُورَةَ. وَأَمَّا الرَّبِيعُ فَقَالَ: وَجْهَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ. قَالَ عِيَاضٌ: هَذِهِ الرِّوَايَاتُ مُتَّفِقَةٌ؛ لِأَنَّ الْوَجْهَ فِي الرَّأْسِ وَمُعْظَمُ الصُّورَةِ فِيهِ.
قُلْتُ: لَفْظُ الصُّورَةِ يُطْلَقُ عَلَى الْوَجْهِ أَيْضًا، وَأَمَّا الرَّأْسُ فَرُوَاتُهَا أَكْثَرُ، وَهِيَ أَشْمَلُ فَهِيَ الْمُعْتَمَدَةُ، وَخُصَّ وُقُوعُ الْوَعِيدِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ بِهَا وَقَعَتِ الْجِنَايَةُ وَهِيَ أَشْمَلُ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الرَّفْعِ قَبْلَ الْإِمَامِ؛ لِكَوْنِهِ تَوَعَّدَ عَلَيْهِ بِالْمَسْخِ وَهُوَ أَشَدُّ الْعُقُوبَاتِ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، وَمَعَ الْقَوْلِ بِالتَّحْرِيمِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ فَاعِلَهُ يَأْثَمُ وَتُجْزِئُ صَلَاتُهُ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ تَبْطُلُ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ، وَفِي الْمُغْنِي عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ فِي رِسَالَتِهِ: لَيْسَ لِمَنْ سَبَقَ الْإِمَامَ صَلَاةٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ، قَالَ: وَلَوْ كَانَتْ لَهُ صَلَاةٌ لَرُجِيَ لَهُ الثَّوَابُ وَلَمْ يُخْشَ عَلَيْهِ الْعِقَابُ. وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الْوَعِيدِ الْمَذْكُورِ فَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ ذَلِكَ إِلَى أَمْرٍ مَعْنَوِيٍّ؛ فَإِنَّ الْحِمَارَ مَوْصُوفٌ بِالْبَلَادَةِ، فَاسْتُعِيرَ هَذَا الْمَعْنَى لِلْجَاهِلِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ فَرْضِ الصَّلَاةِ وَمُتَابَعَةِ الْإِمَامِ، وَيُرَجِّحُ هَذَا الْمَجَازِيَّ
(1)
في مخطوطة الرياض " فليح"
أَنَّ التَّحْوِيلَ لَمْ يَقَعْ مَعَ كَثْرَةِ الْفَاعِلِينَ، لَكِنْ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ أَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ وَلَا بُدَّ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ فَاعِلِهِ مُتَعَرِّضًا لِذَلِكَ، وَكَوْنِ فِعْلِهِ مُمْكِنًا لِأَنْ يَقَعَ عَنْهُ ذَلِكَ الْوَعِيدُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ التَّعَرُّضِ لِلشَّيْءِ وُقُوعُ ذَلِكَ الشَّيْءِ، قَالَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ.
وَقَالَ ابْنُ بَزِيزَةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالتَّحْوِيلِ الْمَسْخُ أَوْ تَحْوِيلُ الْهَيْئَةِ الْحِسِّيَّةِ أَوِ الْمَعْنَوِيَّةِ أَوْ هُمَا مَعًا. وَحَمَلَهُ آخَرُونَ عَلَى ظَاهِرِهِ؛ إِذْ لَا مَانِعَ مِنْ جَوَازِ وُقُوعِ ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ وُقُوعِ الْمَسْخِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَهُوَ حَدِيثُ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ فِي الْمَغَازِي؛ فَإِنَّ فِيهِ ذِكْرُ الْخَسْفِ، وَفِي آخِرِهِ: وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَيُقَوِّي حَمْلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ أَنَّ فِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ: أَنْ يُحَوِّلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ كَلْبٍ فَهَذَا يُبْعِدُ الْمَجَازَ لِانْتِقَاءِ الْمُنَاسَبَةِ الَّتِي ذَكَرُوهَا مِنْ بَلَادَةِ الْحِمَارِ. وَمِمَّا يُبْعِدُهُ أَيْضًا إِيرَادُ الْوَعِيدِ بِالْأَمْرِ الْمُسْتَقْبَلِ وَبِاللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى تَغْيِيرِ الْهَيْئَةِ الْحَاصِلَةِ، وَلَوْ أُرِيدَ تَشْبِيهُهُ بِالْحِمَارِ لِأَجْلِ الْبَلَادَةِ لَقَالَ مَثَلًا فَرَأْسُهُ رَأْسُ حِمَارٍ، وَإِنَّمَا قُلْتُ ذَلِكَ لِأَنَّ الصِّفَةَ الْمَذْكُورَةَ وَهِيَ الْبَلَادَةُ حَاصِلَةٌ فِي فَاعِلِ ذَلِكَ عِنْدَ فِعْلِهِ الْمَذْكُورِ، فَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ لَهُ يُخْشَى إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ أَنْ تَصِيرَ بَلِيدًا، مَعَ أَنَّ فِعْلَهُ الْمَذْكُورَ إِنَّمَا نَشَأَ عَنِ الْبَلَادَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي عَبَّرَ فِيهَا بِالصُّورَةِ: هَذِهِ اللَّفْظَةُ تَمْنَعُ تَأْوِيلَ مَنْ قَالَ الْمُرَادُ رَأْسَ حِمَارٍ فِي الْبَلَادَةِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ وَجْهَ الْمَنْعِ.
وَفِي الْحَدِيثِ كَمَالُ شَفَقَتِهِ صلى الله عليه وسلم بِأُمَّتِهِ، وَبَيَانُهُ لَهُمُ الْأَحْكَامَ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ الْمُقَارَنَةِ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ دَلَّ بِمَنْطُوقِهِ عَلَى مَنْعِ الْمُسَابَقَةِ، وَبِمَفْهُومِهِ عَلَى طَلَبِ الْمُتَابَعَةِ، وَأَمَّا الْمُقَارَنَةُ فَمَسْكُوتٌ عَنْهَا. وَقَالَ ابْنُ بَزِيزَةَ: اسْتَدَلَّ بِظَاهِرِهِ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ عَلَى جَوَازِ التَّنَاسُخِ.
قُلْتُ: وَهُوَ مَذْهَبٌ رَدِيءٌ مَبْنِيٌّ عَلَى دَعَاوَى بِغَيْرِ بُرْهَانٍ، وَالَّذِي اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ مِنْهُمْ إِنَّمَا اسْتَدَلَّ بِأَصْلِ النَّسْخِ لَا بِخُصُوصِ هَذَا الْحَدِيثِ.
(لَطِيفَةٌ): قَالَ صَاحِبُ الْقَبَسِ: لَيْسَ لِلتَّقَدُّمِ قَبْلَ الْإِمَامِ سَبَبٌ إِلَّا طَلَبُ الِاسْتِعْجَالِ، وَدَوَاؤُهُ أَنْ يَسْتَحْضِرَ أَنَّهُ لَا يُسَلِّمُ قَبْلَ الْإِمَامِ، فَلَا يَسْتَعْجِلُ فِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
54 - بَاب إِمَامَةِ الْعَبْدِ وَالْمَوْلَى
وَكَانَتْ عَائِشَةُ يَؤُمُّهَا عَبْدُهَا ذَكْوَانُ مِنْ الْمُصْحَفِ. وَوَلَدِ الْبَغِيِّ وَالْأَعْرَابِيِّ وَالْغُلَامِ الَّذِي لَمْ يَحْتَلِمْ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يَؤُمُّهُمْ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ.
692 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْأَوَّلُونَ الْعَصْبَةَ - مَوْضِعٌ بِقُبَاءَ - قَبْلَ مَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَؤُمُّهُمْ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَكَانَ أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا.
[الحديث 693 - طرفاه في: 7175]
693 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنْ اسْتُعْمِلَ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ "
[الحديث 693 - طرفاه في: 7142، 696]
قَوْلُهُ: (بَابُ إِمَامَةِ الْعَبْدِ وَالْمَوْلَى) أَيِ: الْعَتِيقِ، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: لَمْ يُفْصِحْ بِالْجَوَازِ، لَكِنْ لَوَّحَ بِهِ؛ لِإِيرَادِهِ
أَدِلَّتَهُ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَتْ عَائِشَةُ، إِلَخْ) وَصَلَهُ أَبُو دَاوُدَ
(1)
فِي كِتَابِ الْمَصَاحِفِ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَ يَؤُمُّهَا غُلَامُهَا ذَكْوَانُ فِي الْمُصْحَفِ، وَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا أَعْتَقَتْ غُلَامًا لَهَا عَنْ دُبُرٍ، فَكَانَ يَؤُمُّهَا فِي رَمَضَانَ فِي الْمُصْحَفِ. وَوَصَلَهُ الشَّافِعِيُّ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي عَائِشَةَ بِأَعْلَى الْوَادِي - هُوَ وَأَبُوهُ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَالْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ وَنَاسٌ كَثِيرٌ - فَيَؤُمُّهُمْ أَبُو عَمْرٍو مَوْلَى عَائِشَةَ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ لَمْ يُعْتَقْ، وَأَبُو عَمْرٍو الْمَذْكُورُ هُوَ ذَكْوَانُ، وَإِلَى صِحَّةِ إِمَامَةِ الْعَبْدِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. وَخَالَفَ مَالِكٌ فَقَالَ: لَا يَؤُمُّ الْأَحْرَارَ إِلَّا إِنْ كَانَ قَارِئًا وَهُمْ لَا يَقْرَءُونَ فَيَؤُمُّهُمْ، إِلَّا فِي الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ. وَخَالَفَهُ أَشْهَبُ وَاحْتَجَّ بِأَنَّهَا تُجْزِئُهُ إِذَا حَضَرَهَا.
قَوْلُهُ: (فِي الْمُصْحَفِ) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ قِرَاءَةِ الْمُصَلِّي مِنَ الْمُصْحَفِ، وَمَنَعَ مِنْهُ آخَرُونَ؛ لِكَوْنِهِ عَمَلًا كَثِيرًا فِي الصَّلَاةِ
(2)
.
قَوْلُهُ: (وَوَلَدِ الْبَغِيِّ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَالتَّشْدِيدِ، أَيِ: الزَّانِيَةُ، وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ رَوَاهُ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَالتَّخْفِيفِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَالْمَوْلَى لَكِنْ فُصِلَ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ بِأَثَرِ عَائِشَةَ، وَغَفَلَ الْقُرْطُبِيُّ فِي مُخْتَصَرِ الْبُخَارِيِّ فَجَعَلَهُ مِنْ بَقِيَّةِ الْأَثَرِ الْمَذْكُورِ، وَإِلَى صِحَّةِ إِمَامَةِ وَلَدِ الزِّنَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ أَيْضًا، وَكَانَ مَالِكٌ يَكْرَهُ أَنْ يُتَّخَذَ إِمَامًا رَاتِبًا، وَعِلَّتُهُ عِنْدَهُ أَنَّهُ يَصِيرُ مُعَرَّضًا لِكَلَامِ النَّاسِ فَيَأْثَمُونَ بِسَبَبِهِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْغَالِبِ مَنْ يُفَقِّهُهُ
(3)
فَيَغْلِبَ عَلَيْهِ الْجَهْلُ.
قَوْلُهُ: (وَالْأَعْرَابِيِّ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، أَيْ: سَاكِنِ الْبَادِيَةِ، وَإِلَى صِحَّةِ إِمَامَتِهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ أَيْضًا، وَخَالَفَ مَالِكٌ وَعِلَّتُهُ عِنْدَهُ غَلَبَةُ الْجَهْلِ عَلَى سَاكِنِ الْبَوَادِي، وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ يُدِيمُونَ نَقْصَ السُّنَنِ، وَتَرْكَ حُضُورِ الْجَمَاعَةِ غَالِبًا
قَوْلُهُ: (وَالْغُلَامِ الَّذِي لَمْ يَحْتَلِمْ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ أَرَادَ الْمُرَاهِقَ، وَيُحْتَمَلُ الْأَعَمَّ، لَكِنْ يَخْرُجُ مِنْهُ مَنْ كَانَ دُونَ سِنِّ التَّمْيِيزِ بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ رَاعَى اللَّفْظَ الْوَارِدَ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ فِيمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: لَا يَؤُمُّ الْغُلَامَ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْمُصَنِّفُ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ سَلِمَةَ - بِكَسْرِ اللَّامِ - أَنَّهُ كَانَ يَؤُمُّ قَوْمَهُ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ، وَقِيلَ: إِنَّمَا لَمْ يُسْتَدَلَّ بِهِ هُنَا لِأَنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ تَوَقَّفَ فِيهِ، فَقِيلَ: لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ اطِّلَاعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ، وَقِيلَ: لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَنَّهُ كَانَ يَؤُمُّهُمْ فِي النَّافِلَةِ دُونَ الْفَرِيضَةِ، وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ زَمَانَ نُزُولِ الْوَحْيِ لَا يَقَعُ فِيهِ لِأَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ التَّقْرِيرُ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ، وَلِهَذَا اسْتَدَلَّ أَبُو سَعِيدٍ، وَجَابِرٌ عَلَى جَوَازِ الْعَزْلِ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْزِلُونَ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ، كَمَا سَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ، وَأَيْضًا فَالْوَفْدُ الَّذِينَ قَدَّمُوا عَمْرَو بْنَ سَلِمَةَ كَانُوا جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ حَزْمٍ أَنَّهُ لَا يُعْلَمُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ مُخَالِفٌ مِنْهُمْ. وَعَنِ الثَّانِي بِأَنَّ سِيَاقَ رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَؤُمُّهُمْ فِي الْفَرَائِضِ لِقَوْلِهِ فِيهِ: صَلُّوا صَلَاةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ، الْحَدِيثَ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ قَالَ عَمْرٌو: فَمَا شَهِدْتُ مَشْهَدًا فِي جَرْمٍ
(4)
إِلَّا كُنْتُ إِمَامَهُمْ وَهَذَا يَعُمُّ الْفَرَائِضَ وَالنَّوَافِلَ وَاحْتَجَّ ابْنُ حَزْمٍ عَلَى عَدَمِ الصِّحَّةِ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ
(1)
في مخطوطة الرياض " ابن أبي داود"
(2)
الصوابالجواز كما فعلت عائشة رضي الله عنها، لأن الحاجة قد تدعوا. والعمل الكثير إذا كان لحاجة ولم يتوال لم يضر الصلاة لحمله صلى الله عليه وسلم أمامة بنت زينب في الصلاة، وتقدمه وتأخره في صلاة الكسوف، ولأدلة أخرى مدونه في موضعها. والله أعلم
(3)
كذا ولعله " ممن يفقه "
(4)
جرم بالجيم والراء الساكنة: هي قبيلة عمرو بن سلمة المذكور
أَنْ يَؤُمَّهُمْ أَقْرَؤُهُمْ، قَالَ: فَعَلَى هَذَا إِنَّمَا يَؤُمُّ مَنْ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ الْأَمْرُ، وَالصَّبِيُّ لَيْسَ بِمَأْمُورٍ؛ لِأَنَّ الْقَلَمَ رُفِعَ عَنْهُ فَلَا يَؤُمُّ، كَذَا قَالَ، وَلَا يَخْفَى فَسَادُهُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْمَأْمُورُ مَنْ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ الْأَمْرُ مِنَ الْبَالِغِينَ بِأَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ مَنِ اتَّصَفَ بِكَوْنِهِ أَكْثَرَ قُرْآنًا فَبَطَلَ مَا احْتَجَّ بِهِ، وَإِلَى صِحَّةِ إِمَامَةِ الصَّبِيِّ ذَهَبَ أَيْضًا الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَكَرِهَهَا مَالِكٌ، وَالثَّوْرَيُّ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ رِوَايَتَانِ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُمَا الْإِجْزَاءُ فِي النَّوَافِلِ دُونَ الْفَرَائِضِ.
قَوْلُهُ: (لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَؤُمُّهُمْ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ) أَيْ: فَكُلُّ مَنِ اتَّصَفَ بِذَلِكَ جَازَتْ إِمَامَتُهُ مِنْ عَبْدٍ وَصَبِيٍّ وَغَيْرِهَا، وَهَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ بِلَفْظِ: يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ، الْحَدِيثَ.
وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ سَلِمَةَ الْمَذْكُورِ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا: إِذَا كَانُوا ثَلَاثَةً فَلْيَؤُمَّهُمْ أَحَدُهُمْ، وَأَحَقُّهُمْ بِالْإِمَامَةِ أَقْرَؤُهُمْ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: أَقْرَؤُهُمْ، عَلَى أَنَّ إِمَامَةَ الْكَافِرِ لَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَا قِرَاءَةَ لَهُ.
قَوْلُهُ: (وَلَا يُمْنَعُ الْعَبْدُ مِنَ الْجَمَاعَةِ) هَذَا مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَلَيْسَ مِنَ الْحَدِيثِ الْمُعَلَّقِ.
قَوْلُهُ: (بِغَيْرِ عِلَّةٍ) أَيْ: بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ لِسَيِّدِهِ، فَلَوْ قَصَدَ تَفْوِيتَ الْفَضِيلَةِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَسَنَذْكُرُ مُسْتَنَدَهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى قِصَّةِ سَالِمٍ فِي أَوَّلِ حَدِيثَيِ الْبَابِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) هُوَ الْعُمَرِيُّ.
قَوْلُهُ: (لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْأَوَّلُونَ) أَيْ: مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَبِهِ صَرَّحَ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ.
قَوْلُهُ: (الْعَصْبَةَ) بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ؛ لِقَوْلِهِ قَدِمَ كَذَا فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: نَزَلُوا الْعُصْبَةَ أَيِ: الْمَكَانَ الْمُسَمَّى بِذَلِكَ، وَهُوَ بِإِسْكَانِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ، وَاخْتُلِفَ فِي أَوَّلِهِ فَقِيلَ: بِالْفَتْحِ، وَقِيلَ: بِالضَّمِّ، ثُمَّ رَأَيْتُ فِي النِّهَايَةِ ضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَتَيْنِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْبَكْرِيُّ: لَمْ يَضْبِطْهُ الْأَصِيلِيُّ فِي رِوَايَتِهِ، وَالْمَعْرُوفُ الْمُعَصَّبُ بِوَزْنِ مُحَمَّدٍ بِالتَّشْدِيدِ وَهُوَ مَوْضِعٌ بِقُبَاءٍ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ يَؤُمُّهُمْ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ) زَادَ فِي الْأَحْكَامِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ نَافِعٍ: وَفِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَأَبُو سَلَمَةَ - أَيِ ابْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ - وَزَيْدٌ - أَيِ: ابْنُ حَارِثَةَ -، وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ وَاسْتُشْكِلَ ذِكْرُ أَبِي بَكْرٍ فِيهِمْ إِذْ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ مَقْدَمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ كَانَ رَفِيقَهُ، وَوَجَّهَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ سَالِمٌ الْمَذْكُورُ اسْتَمَرَّ عَلَى الصَّلَاةِ بِهِمْ فَيَصِحُّ ذِكْرُ أَبِي بَكْرٍ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ. وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ إِجْمَاعُ كِبَارِ الصَّحَابَةِ الْقُرَشِيِّينَ عَلَى تَقْدِيمِ سَالِمٍ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ سَالِمٌ الْمَذْكُورُ مَوْلَى امْرَأَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فَأَعْتَقَتْهُ، وَكَأَنَّ إِمَامَتَهُ بِهِمْ كَانَتْ قَبْلَ أَنْ يَعْتِقَ، وَبِذَلِكَ تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَلَا يُمْنَعُ الْعَبْدُ. وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ: مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ؛ لِأَنَّهُ لَازَمَ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بَعْدَ أَنْ عُتِقَ فَتَبَنَّاهُ، فَلَمَّا نُهُوا عَنْ ذَلِكَ قِيلَ لَهُ مَوْلَاهُ، كَمَا سَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ. وَاسْتُشْهِدَ سَالِمٌ بِالْيَمَامَةِ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا) إِشَارَةً إِلَى سَبَبِ تَقْدِيمِهِمْ لَهُ مَعَ كَوْنِهِمْ أَشْرَفَ مِنْهُ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ: لِأَنَّهُ كَانَ أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا.
قَوْلُهُ: (اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا) أَيْ: فِيمَا فِيهِ طَاعَةٌ لِلَّهِ.
قَوْلُهُ: (وَإِنِ اسْتُعْمِلَ) أَيْ: جُعِلَ عَامِلًا، وَلِلْمُصَنِّفِ فِي الْأَحْكَامِ عَنْ مُسَدَّدٍ، عَنْ يَحْيَى: وَإِنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، وَهُوَ أَصْرَحُ فِي مَقْصُودِ التَّرْجَمَةِ، وَذَكَرَهُ بَعْدَ بَابٍ مِنْ طَرِيقِ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي ذَرٍّ: اسْمَعْ وَأَطِعِ، الْحَدِيثَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ غُنْدَرٍ أَيْضًا، لَكِنْ بِإِسْنَادٍ لَهُ آخَرُ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجُونِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: إِنَّ خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم أَوْصَانِي: أَنِ اسْمَعْ وَأَطِعْ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا مُجَدَّعَ الْأَطْرَافِ. وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَفِيهِ قِصَّةُ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ انْتَهَى إِلَى الرَّبَذَةِ وَقَدْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَإِذَا عَبْدٌ يَؤُمُّهُمْ، قَالَ: فَقِيلَ: هَذَا أَبُو ذَرٍّ، فَذَهَبَ
يَتَأَخَّرُ، فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: أَوْصَانِي خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ غُنْدَرٍ أَيْضًا عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْحُصَيْنِ: سَمِعْتُ جَدَّتِي تُحَدِّثُ أَنَّهَا سَمِعْتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَقُولُ: وَلَوِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَائِدَتَانِ: تَعْيِينُ جِهَةِ الطَّاعَةِ، وَتَارِيخُ الْحَدِيثِ، وَأَنَّهُ كَانَ فِي أَوَاخِرِ عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ) قِيلَ: شَبَّهَهُ بِذَلِكَ لِصِغَرِ رَأْسِهِ، وَذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي الْحَبَشَةِ، وَقِيلَ: لِسَوَادِهِ، وَقِيلَ: لِقِصَرِ شَعْرِ رَأْسِهِ وَتَفَلْفُلِهِ. وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ عَلَى صِحَّةِ إِمَامَةِ الْعَبْدِ أَنَّهُ إِذَا أُمِرَ بِطَاعَتِهِ فَقَدْ أُمِرَ بِالصَّلَاةِ خَلْفَهُ، قَالَهُ ابْنُ بَطَّالٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنْ جِهَةِ مَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُمْ أَنَّ الْأَمِيرَ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى الْإِمَامَةَ بِنَفْسِهِ أَوْ نَائِبِهِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الْقِيَامِ عَلَى السَّلَاطِينِ وَإِنْ جَارُوا؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ عَلَيْهِمْ يُفْضِي غَالِبًا إِلَى أَشَدِّ مِمَّا يُنْكَرُ عَلَيْهِمْ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِطَاعَةِ الْعَبْدِ الْحَبَشِيِّ، وَالْإِمَامَةُ الْعُظْمَى إِنَّمَا تَكُونُ بِالِاسْتِحْقَاقِ فِي قُرَيْشٍ فَيَكُونُ غَيْرُهُمْ مُتَغَلِّبًا، فَإِذَا أَمَرَ بِطَاعَتِهِ اسْتَلْزَمَ النَّهْيَ عَنْ مُخَالَفَتِهِ وَالْقِيَامَ عَلَيْهِ. وَرَدَّهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَامِلِ هُنَا مَنْ يَسْتَعْمِلُهُ الْإِمَامُ لَا مَنْ يَلِي الْإِمَامَةَ الْعُظْمَى، وَبِأَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّاعَةِ الطَّاعَةُ فِيمَا وَافَقَ الْحَقَّ. انْتَهَى. وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى أَعَمِّ مِنْ ذَلِكَ، فَقَدْ وُجِدَ مَنْ وَلِيَ الْإِمَامَةَ الْعُظْمَى مِنْ غَيْرِ قُرَيْشٍ مِنْ ذَوِي الشَّوْكَةِ مُتَغَلِّبًا، وَسَيَأْتِي بَسْطُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ. وَقَدْ عَكَسَهُ بَعْضُهُمْ فَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ الْإِمَامَةِ فِي غَيْرِ قُرَيْشٍ، وَهُوَ مُتَعَقَّبٌ، إِذْ لَا تَلَازُمَ بَيْنَ الْإِجْزَاءِ وَالْجَوَازِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
55 - بَاب إِذَا لَمْ يُتِمَّ الْإِمَامُ وَأَتَمَّ مَنْ خَلْفَهُ
694 -
حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى الْأَشْيَبُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يُصَلُّونَ لَكُمْ، فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ، وَإِنْ أَخْطَئُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا لَمْ يُتِمَّ الْإِمَامُ وَأَتَمَّ مَنْ خَلْفَهُ)) يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَغَيْرِهِ، كَمَا سَيَأْتِي.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ) هُوَ الْبَغْدَادِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْأَعْرَجِ مِنْ صِغَارِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَمَاتَ قَبْلَهُ بِسَنَةٍ.
قَوْلُهُ: (يُصَلُّونَ) أَيِ: الْأَئِمَّةُ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَكُمْ لِلتَّعْلِيلِ.
قَوْلُهُ: (فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ) أَيْ: ثَوَابُ صَلَاتِكُمْ، زَادَ أَحْمَدُ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُوسَى بِهَذَا السَّنَدِ: وَلَهُمْ أَيْ: ثَوَابُ صَلَاتِهِمْ، وَهُوَ يُغْنِي عَنْ تَكَلُّفِ تَوْجِيهِ حَذْفِهَا، وَتَمَسَّكَ ابْنُ بَطَّالٍ بِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْمَحْذُوفَةِ، فَزَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِصَابَةِ هُنَا إِصَابَةُ الْوَقْتِ، وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: لَعَلَّكُمْ تُدْرِكُونَ أَقْوَامًا يُصَلُّونَ الصَّلَاةَ لِغَيْرِ وَقْتِهَا، فَإِذَا أَدْرَكْتُمُوهُمْ فَصَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ فِي الْوَقْتِ، ثُمَّ صَلُّوا مَعَهُمْ وَاجْعَلُوهَا سُبْحَةً، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ، فَالتَّقْدِيرُ عَلَى هَذَا: فَإِنْ أَصَابُوا الْوَقْتَ، وَإِنْ أَخْطَؤُوا الْوَقْتَ فَلَكُمْ يَعْنِي الصَّلَاةَ الَّتِي فِي الْوَقْتِ. انْتَهَى. وَغَفَلَ عَنِ الزِّيَادَةِ الَّتِي فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ؛ فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ صَلَاتُهُمْ مَعَهُمْ لَا عِنْدَ الِانْفِرَادِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجَيْهِمَا مِنْ طُرُقٍ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُوسَى، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَصْرَحَ فِي مَقْصُودِ التَّرْجَمَةِ وَلَفْظُهُ: يَكُونُ أَقْوَامٌ يُصَلُّونَ الصَّلَاةَ، فَإِنْ أَتَمُّوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ مَرْفُوعًا: مَنْ أَمَّ النَّاسَ فَأَصَابَ الْوَقْتَ فَلَهُ وَلَهُمْ. وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: فَإِنْ صَلَّوُا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا وَأَتَمُّوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فَهِيَ لَكُمْ وَلَهُمْ، فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ
مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ تَرْكِ إِصَابَةِ الْوَقْتِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: هَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ إِذَا فَسَدَتْ فَسَدَتْ صَلَاةُ مَنْ خَلْفَهُ.
قَوْلُهُ: (وَإِنْ أَخْطَؤُوا) أَيِ: ارْتَكَبُوا الْخَطِيئَةَ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الْخَطَأَ الْمُقَابِلَ لِلْعَمْدِ؛ لِأَنَّهُ لَا إِثْمَ فِيهِ. قَالَ الْمُهَلَّبُ: فِيهِ جَوَازُ الصَّلَاةِ خَلْفَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ إِذَا خِيفَ مِنْهُ. وَوَجَّهَ غَيْرُهُ قَوْلَهُ: إِذَا خِيفَ مِنْهُ بِأَنَّ الْفَاجِرَ إِنَّمَا يَؤُمُّ إِذَا كَانَ صَاحِبَ شَوْكَةٍ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إِذَا صَلَّى بِقَوْمٍ مُحْدِثًا أَنَّهُ تَصِحُّ صَلَاةُ الْمَأْمُومِينَ وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ. وَاسْتَدَلَّ بِهِ غَيْرُهُ عَلَى أَعَمِّ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ صِحَّةُ الِائْتِمَامِ بِمَنْ يُخِلُّ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّلَاةِ رُكْنًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ إِذَا أَتَمَّ الْمَأْمُومُ، وَهُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ هُوَ الْخَلِيفَةُ أَوْ نَائِبُهُ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ صِحَّةُ الِاقْتِدَاءِ بِمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ تَرَكَ وَاجِبًا. وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى الْجَوَازِ مُطْلَقًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَطَأِ مَا يُقَابِلُ الْعَمْدَ، قَالَ: وَمَحَلُّ الْخِلَافِ فِي الْأُمُورِ الِاجْتِهَادِيَّةِ كَمَنْ يُصَلِّي خَلْفَ مَنْ لَا يَرَى قِرَاءَةَ الْبَسْمَلَةِ، وَلَا أَنَّهَا مِنْ أَرْكَانِ الْقِرَاءَةِ، وَلَا أَنَّهَا آيَةٌ مِنَ الْفَاتِحَةِ، بَلْ يَرَى أَنَّ الْفَاتِحَةَ تُجْزِئُ بِدُونِهَا، قَالَ: فَإِنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ تَصِحُّ إِذَا قَرَأَ هُوَ الْبَسْمَلَةَ؛ لِأَنَّ غَايَةَ حَالِ الْإِمَامِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ يَكُونَ أَخْطَأَ. وَقَدْ دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ خَطَأَ الْإِمَامِ لَا يُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ إِذَا أَصَابَ.
(تَنْبِيهٌ): حَدِيثُ الْبَابِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ وَفِيهِ مَقَالٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا لَهُ شَاهِدًا عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ، وَرَوَى الشَّافِعِيُّ مَعْنَاهُ مِنْ طَرِيقِ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّ بِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: يَأْتِي قَوْمٌ فَيُصَلُّونَ لَكُمْ، فَإِنْ أَتَمُّوا كَانَ لَهُمْ وَلَكُمْ، وَإِنْ نَقَصُوا كَانَ عَلَيْهِمْ وَلَكُمْ.
56 - بَاب إِمَامَةِ الْمَفْتُونِ وَالْمُبْتَدِعِ
وَقَالَ الْحَسَنُ: صَلِّ وَعَلَيْهِ بِدْعَتُهُ
695 -
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَقَالَ لَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ:، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ خِيَارٍ، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه وَهُوَ مَحْصُورٌ فَقَالَ: إِنَّكَ إِمَامُ عَامَّةٍ، وَنَزَلَ بِكَ مَا نَرَى وَيُصَلِّي لَنَا إِمَامُ فِتْنَةٍ وَنَتَحَرَّجُ، فَقَالَ: الصَّلَاةُ أَحْسَنُ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ، فَإِذَا أَحْسَنَ النَّاسُ فَأَحْسِنْ مَعَهُمْ، وَإِذَا أَسَاؤُوا فَاجْتَنِبْ إِسَاءَتَهُمْ.
وَقَالَ الزُّبَيْدِيُّ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا نَرَى أَنْ يُصَلَّى خَلْفَ الْمُخَنَّثِ إِلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ لَا بُدَّ مِنْهَا.
696 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانَ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لِأَبِي ذَرٍّ اسْمَعْ وَأَطِعْ وَلَوْ لِحَبَشِيٍّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِمَامَةِ الْمَفْتُونِ) أَيِ: الَّذِي دَخَلَ فِي الْفِتْنَةِ فَخَرَجَ عَلَى الْإِمَامِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَالْمُبْتَدِعُ) أَيْ: مَنِ اعْتَقَدَ شَيْئًا مِمَّا يُخَالِفُ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَسَنُ: صَلِّ، وَعَلَيْهِ بِدْعَتُهُ) وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، أَنَّ الْحَسَنَ سُئِلَ عَنِ الصَّلَاةِ خَلْفَ صَاحِبِ الْبِدْعَةِ، فَقَالَ الْحَسَنُ: صَلِّ خَلْفَهُ، وَعَلَيْهِ بِدْعَتُهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ لَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ) هُوَ الْفِرْيَابِيُّ، قِيلَ: عَبَّرَ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا أَخَذَهُ مِنْ شَيْخِهِ فِي الْمُذَاكَرَةِ فَلَمْ يَقُلْ فِيهِ حَدَّثَنَا، وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ مِمَّا تَحَمَّلَهُ بِالْإِجَازَةِ أَوِ الْمُنَاوَلَةِ أَوِ الْعَرْضِ، وَقِيلَ: هُوَ مُتَّصِلٌ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ مُنْقَطِعٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَالَّذِي ظَهَرَ لِي بِالِاسْتِقْرَاءِ خِلَافُ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّهُ مُتَّصِلٌ، لَكِنَّهُ لَا يُعَبِّرُ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ إِلَّا إِذَا كَانَ الْمَتْنُ مَوْقُوفًا، أَوْ كَانَ فِيهِ رَاوٍ لَيْسَ عَلَى شَرْطِهِ، وَالَّذِي هُنَا مِنْ قَبِيلِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ
مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْفِرْيَابِيُّ.
قَوْلُهُ: (عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) أَيِ: ابْنِ عَوْفٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: أَخْبَرَنِي حُمَيْدٌ. وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، وَخَالَفَهُ يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ فَقَالَ: عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْرَجَهُ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي كِتَابِ مَقْتَلِ عُثْمَانَ عَنْ غُنْدَرٍ عَنْهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلزُّهْرِيِّ فِيهِ شَيْخَانِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيٍّ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَأَبِي نُعَيْمٍ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ مِنْ بَنِي نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَعُبَيْدُ اللَّهِ الْمَذْكُورُ تَابِعِيٌّ كَبِيرٌ مَعْدُودٌ فِي الصَّحَابَةِ؛ لِكَوْنِهِ وُلِدَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ عُثْمَانُ مِنْ أَقَارِبِ أُمِّهِ كَمَا سَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ.
قَوْلُهُ: (إِنَّكَ إِمَامُ عَامَّةٍ) أَيْ: جَمَاعَةٍ، وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ: وَأَنْتَ الْإِمَامُ أَيِ: الْأَعْظَمُ.
قَوْلُهُ: (وَنَزَلَ بِكَ مَا نَرَى) أَيْ: مِنَ الْحِصَارِ.
قَوْلُهُ: (وَيُصَلِّي لَنَا) أَيْ: يَؤُمُّنَا.
قَوْلُهُ: (إِمَامُ فِتْنَةٍ) أَيْ: رَئِيسُ فِتْنَةٍ، وَاخْتُلِفَ فِي الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، فَقِيلَ: هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُدَيْسٍ الْبَلْوِيُّ أَحَدُ رُءُوسِ الْمِصْرِيِّينَ الَّذِينَ حَصَرُوا عُثْمَانَ، قَالَهُ ابْنُ وَضَّاحٍ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرِهِ، وَقَالَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَزَادَ: إِنَّ كِنَانَةَ بْنَ بِشْرٍ أَحَدُ رُءُوسِهِمْ صَلَّى بِالنَّاسِ أَيْضًا.
قُلْتُ: وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا؛ فَإِنَّ سَيْفَ بْنَ عُمَرَ رَوَى حَدِيثَ الْبَابِ فِي كِتَابِ الْفُتُوحِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ الزُّهْرِيِّ بِسَنَدِهِ، فَقَالَ فِيهِ: دَخَلْتُ عَلَى عُثْمَانَ وَهُوَ مَحْصُورٌ، وَكِنَانَةُ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَقُلْتُ: كَيْفَ تَرَى الْحَدِيثَ. وَقَدْ صَلَّى بِالنَّاسِ يَوْمَ حُصِرَ عُثْمَانُ، أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ الْأَنْصَارِيِّ لَكِنْ بِإِذْنِ عُثْمَانَ، وَرَوَاهُ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ الْمَدِينِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَكَذَلِكَ صَلَّى بِهِمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِيمَا رَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ الْخَطِّيُّ فِي تَارِيخِ بَغْدَادَ مِنْ رِوَايَةِ ثَعْلَبَةَ بْنِ يَزِيدَ الْحَمَّانِيِّ قَالَ: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ عِيدِ الْأَضْحَى جَاءَ عَلِيٌّ فَصَلَّى بِالنَّاسِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِيمَا رَوَاهُ الْحَسَنُ الْحَلْوَانِيُّ: لَمْ يُصَلِّ بِهِمْ غَيْرَهَا. وَقَالَ غَيْرُهُ: صَلَّى بِهِمْ عِدَّةَ صَلَوَاتٍ، وَصَلَّى بِهِمْ أَيْضًا سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ. وَقِيلَ: صَلَّى بِهِمْ أَيْضًا أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ مُرَادًا بِقَوْلِهِ: إِمَامُ فِتْنَةٍ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: مَعْنَى قَوْلِهِ: إِمَامُ فِتْنَةٍ أَيْ: إِمَامُ وَقْتِ فِتْنَةٍ، وَعَلَى هَذَا لَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِالْخَارِجِيِّ. قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ أَنَّ عُثْمَانَ لَمْ يَذْكُرِ الَّذِي أَمَّهُمْ بِمَكْرُوهٍ بَلْ ذَكَرَ أَنَّ فِعْلَهُ أَحْسَنُ الْأَعْمَالِ. انْتَهَى. وَهَذَا مُغَايِرٌ لِمُرَادِ الْمُصَنِّفِ مِنْ تَرْجَمَتِهِ، وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ: وَنَتَحَرَّجُ مُنَاسِبًا.
قَوْلُهُ: (وَنَتَحَرَّجُ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ: وَإِنَّا لَنَتَحَرَّجُ مِنَ الصَّلَاةِ مَعَهُ، وَالتَّحَرُّجُ: التَّأَثُّمُ، أَيْ: نَخَافُ الْوُقُوعَ فِي الْإِثْمِ، وَأَصْلُ الْحَرَجِ الضِّيقُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ لِلْإِثْمِ؛ لِأَنَّهُ يُضَيِّقُ عَلَى صَاحِبِهِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: الصَّلَاةُ أَحْسَنُ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ: أَنَّ الصَّلَاةَ أَحْسَنُ، وَفِي رِوَايَةِ مَعْقِلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: مِنْ أَحْسَنِ.
قَوْلُهُ: (فَإِذَا أَحْسَنَ النَّاسُ فَأَحْسِنْ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ رَخَّصَ لَهُ فِي الصَّلَاةِ مَعَهُمْ، كَأَنَّهُ يَقُولُ لَا يَضُرُّكَ كَوْنُهُ مَفْتُونًا، بَلْ إِذَا أَحْسَنَ فَوَافِقْهُ عَلَى إِحْسَانِهِ وَاتْرُكْ مَا افْتَتَنَ بِهِ، وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِسِيَاقِ الْبَابِ، وَهُوَ الَّذِي فَهِمَهُ الدَّاوُدِيُّ حَتَّى احْتَاجَ إِلَى تَقْدِيرِ حَذْفٍ فِي قَوْلِهِ: إِمَامُ فِتْنَةٍ، وَخَالَفَ ابْنُ الْمُنِيرِ فَقَالَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَأَى أَنَّ الصَّلَاةَ خَلْفَهُ لَا تَصِحُّ، فَحَادَ عَنِ الْجَوَابِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الصَّلَاةَ أَحْسَنُ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ هِيَ الصَّلَاةُ الصَّحِيحَةُ، وَصَلَاةُ الْخَارِجِيِّ غَيْرُ صَحِيحَةٍ؛ لِأَنَّهُ إِمَّا كَافِرٌ أَوْ فَاسِقٌ. انْتَهَى. وَهَذَا قَالَهُ نُصْرَةً لِمَذْهَبِهِ فِي عَدَمِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ خَلْفَ الْفَاسِقِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ سَيْفًا رَوَى فِي الْفُتُوحِ عَنْ سَهْلِ بْنِ يُوسُفَ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَرِهَ النَّاسُ الصَّلَاةَ خَلْفَ الَّذِينَ حَصَرُوا عُثْمَانَ إِلَّا عُثْمَانَ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: مَنْ دَعَا إِلَى الصَّلَاةِ فَأَجِيبُوهُ. انْتَهَى.
فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَقْصُودَهُ بِقَوْلِهِ: الصَّلَاةُ أَحْسَنُ الْإِشَارَةُ إِلَى الْإِذْنِ
بِالصَّلَاةِ خَلْفَهُ، وَفِيهِ تَأْيِيدٌ لِمَا فَهِمَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ قَوْلِهِ: إِمَامُ فِتْنَةٍ، وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ مَكْحُولٍ، قَالَ: قَالُوا لِعُثْمَانَ: إِنَّا نَتَحَرَّجُ أَنْ نُصَلِّيَ خَلْفَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ حَصَرُوكَ، فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ. وَهَذَا مُنْقَطِعٌ إِلَّا أَنَّهُ اعْتَضَدَ.
قَوْلُهُ: (وَإِذَا أَسَاؤُوا فَاجْتَنِبْ) فِيهِ تَحْذِيرٌ مِنَ الْفِتْنَةِ وَالدُّخُولِ فِيهَا، وَمِنْ جَمِيعِ مَا يُنْكَرُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوِ اعْتِقَادٍ، وَفِي هَذَا الْأَثَرِ الْحَضُّ عَلَى شُهُودِ الْجَمَاعَةِ وَلَا سِيَّمَا فِي زَمَنِ الْفِتْنَةِ؛ لِئَلَّا يَزْدَادَ تَفَرُّقُ الْكَلِمَةِ، وَفِيهِ أَنَّ الصَّلَاةَ خَلْفَ مَنْ تُكْرَهُ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ أَوْلَى مِنْ تَعْطِيلِ الْجَمَاعَةِ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى زَعْمِ أَنَّ الْجُمُعَةَ لَا يُجْزِئُ أَنْ تُقَامَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الزُّبَيْدِيُّ) بِضَمِّ الزَّاي هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ.
قَوْلُهُ: (الْمُخَنَّثُ) رُوِّينَاهُ بِكَسْرِ النُّونِ وَفَتْحِهَا، فَالْأَوَّلُ الْمُرَادُ بِهِ مَنْ فِيهِ تَكَسُّرٌ وَتَثَنٍّ وَتَشَبُّهٌ بِالنِّسَاءِ. وَالثَّانِي الْمُرَادُ بِهِ مَنْ يُؤْتَى، وَبِهِ جَزَمَ أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ التِّينِ مُحْتَجًّا بِأَنَّ الْأَوَّلَ لَا مَانِعَ مِنَ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ أَصْلُ خِلْقَتِهِ. وَرُدَّ بِأَنَّ الْمُرَادَ مَنْ يَتَعَمَّدُ ذَلِكَ فَيَتَشَبَّهُ بِالنِّسَاءِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ قَبِيحَةٌ، وَلِهَذَا جَوَّزَ الدَّاوُدِيُّ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُرَادًا. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ هُنَا؛ لِأَنَّ الْمُخَنَّثَ مُفْتَتَنٌ فِي طَرِيقَتِهِ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ) أَيْ: بِأَنْ يَكُونَ ذَا شَوْكَةٍ أَوْ مِنْ جِهَتِهِ فَلَا تُعَطَّلُ الْجَمَاعَةُ بِسَبَبِهِ، وَقَدْ رَوَاهُ مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِغَيْرِ قَيْدٍ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهُ، وَلَفْظُهُ قُلْتُ: فَالْمُخَنَّثُ؟ قَالَ: لَا وَلَا كَرَامَةَ، لَا يُؤْتَمُّ بِهِ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الِاخْتِيَارِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانَ) هُوَ الْبَلْخِيُّ مُسْتَمْلِي وَكِيعٍ، وَقِيلَ: الْوَاسِطِيُّ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ، لَكِنْ لَمْ نَجِدْ لِلْوَاسِطِيِّ رِوَايَةً عَنْ غُنْدَرٍ بِخِلَافِ الْبَلْخِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْهُ بِمَوْضِعٍ آخَرَ فِي الْمَوَاقِيتِ، وَهَذَا جَمِيعُ مَا أَخْرَجَ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ.
قَوْلُهُ: (اسْمَعْ وَأَطِعْ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ قَبْلُ بِبَابٍ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَجْهُ دُخُولِهِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الصِّفَةَ الْمَذْكُورَةَ إِنَّمَا تُوجَدُ غَالِبًا فِي عَجَمِيٍّ حَدِيثِ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، لَا يَخْلُو مِنْ جَهْلٍ بِدِينِهِ، وَمَا يَخْلُو مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ مِنِ ارْتِكَابِ الْبِدْعَةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا افْتِتَانُهُ بِنَفْسِهِ حَتَّى تَقَدَّمَ لِلْإِمَامَةِ وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا.
57 - بَاب يَقُومُ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ بِحِذَائِهِ سَوَاءً إِذَا كَانَا اثْنَيْنِ
697 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْحَكَمِ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: بِتُّ فِي بَيْتِ خَالَتِي مَيْمُونَةَ فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعِشَاءَ، ثُمَّ جَاءَ فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ نَامَ، ثُمَّ قَامَ، فَجِئْتُ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ، فَصَلَّى خَمْسَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ نَامَ حَتَّى سَمِعْتُ غَطِيطَهُ - أَوْ قَالَ: خَطِيطَهُ - ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ.
[انظر الحديث 177 وأطرافه]
قَوْلُهُ: (بَابُ يَقُومُ) أَيِ: الْمَأْمُومُ (عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ بِحِذَائِهِ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَذَالٍ مُعْجَمَةٍ بَعْدَهَا مَدَّةٌ، أَيْ: بِجَنْبِهِ، فَأَخْرَجَ بِذَلِكَ مَنْ كَانَ خَلْفَهُ أَوْ مَائِلًا عَنْهُ. وَقَوْلُهُ:(سَوَاءً) أَخْرَجَ بِهِ مَنْ كَانَ إِلَى جَنْبِهِ، لَكِنْ عَلَى بُعْدٍ عَنْهُ، كَذَا قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ: بِحِذَائِهِ يُخْرِجُ هَذَا أَيْضًا. وَقَوْلُهُ: سَوَاءً أَيْ: لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ، وَفِي انْتِزَاعِ هَذَا مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي أَوْرَدَهُ بُعْدٌ. وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقِفَ الْمَأْمُومُ دُونَهُ قَلِيلًا، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الطَّهَارَةِ مِنْ رِوَايَةِ مَخْرَمَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ وَظَاهِرُهُ الْمُسَاوَاةُ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوًا مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَعَنِ
ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: الرَّجُلُ يُصَلِّي مَعَ الرَّجُلِ أَيْنَ يَكُونُ مِنْهُ؟ قَالَ: إِلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ. قُلْتُ: أَيُحَاذِي بِهِ حَتَّى يَصُفَّ مَعَهُ لَا يَفُوتُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: أَتُحِبُّ أَنْ يُسَاوِيَهُ حَتَّى لَا تَكُونَ بَيْنَهُمَا فُرْجَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِالْهَاجِرَةِ فَوَجَدْتُهُ يُسَبِّحُ، فَقُمْتُ وَرَاءَهُ، فَقَرَّبَنِي حَتَّى جَعَلَنِي حِذَاءَهُ عَنْ يَمِينِهِ.
قَوْلُهُ: (إِذَا كَانَا) أَيْ: إِمَامًا وَمَأْمُومًا، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَا مَأْمُومَيْنِ مَعَ إِمَامٍ فَلَهُمَا حُكْمٌ آخَرُ.
(تَنْبِيهٌ): هَكَذَا فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ بَابٌ بِالتَّنْوِينِ يَقُومُ إِلَخْ وَأَوْرَدَهُ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ بِلَفْظِ: بَابُ مَنْ يَقُومُ بِالْإِضَافَةِ وَزِيَادَةِ مَنْ، وَشَرَحَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَتَرَدَّدَ بَيْنَ كَوْنِهَا مَوْصُولَةً أَوِ اسْتِفْهَامِيَّةً، ثُمَّ أَطَالَ فِي حِكْمَةِ ذَلِكَ، وَأَنَّ سَبَبَهُ كَوْنُ الْمَسْأَلَةِ مُخْتَلَفًا فِيهَا. وَالْوَاقِعُ أَنَّ مَنْ مَحْذُوفَةٌ، وَالسِّيَاقُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْمُصَنِّفَ جَازِمٌ بِحُكْمِ الْمَسْأَلَةِ لَا مُتَرَدِّدٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ نَقَلَ بَعْضُهُمُ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُومَ الْوَاحِدَ يَقِفُ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ إِلَّا النَّخَعِيَّ، فَقَالَ: إِذَا كَانَ الْإِمَامُ وَرَجُلٌ، قَامَ الرَّجُلُ خَلْفَ الْإِمَامِ، فَإِنْ رَكَعَ الْإِمَامُ قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ أَحَدٌ قَامَ عَنْ يَمِينِهِ. أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَوَجَّهَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْإِمَامَ مَظِنَّةُ الِاجْتِمَاعِ، فَاعْتُبِرَتْ فِي مَوْقِفِ الْمَأْمُومِ حَتَّى يَظْهَرَ خِلَافُ ذَلِكَ، وَهُوَ حَسَنٌ لَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ، وَهُوَ قِيَاسٌ فَاسِدٌ، ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّ إِبْرَاهِيمَ إِنَّمَا كَانَ يَقُولُ بِذَلِكَ حَيْثُ يَظُنُّ ظَنًّا قَوِيًّا مَجِيءَ ثَانٍ، وَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ أَيْضًا عَنْهُ قَالَ: رُبَّمَا قُمْتُ خَلْفَ الْأَسْوَدِ وَحْدِي حَتَّى يَجِيءَ الْمُؤَذِّنُ، وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ امْتِنَاعُ تَقْدِيمِ الْمَأْمُومِ عَلَى الْإِمَامِ خِلَافًا لِمَالِكٍ؛ لِمَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَدَارَنِي مِنْ خَلْفِهِ حَتَّى جَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ وَفِيهِ نَظَرٌ.
58 - بَاب إِذَا قَامَ الرَّجُلُ عَنْ يَسَارِ الْإِمَامِ
فَحَوَّلَهُ الْإِمَامُ إِلَى يَمِينِهِ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُمَا
698 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: نِمْتُ عِنْدَ مَيْمُونَةَ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَهَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، فَقُمْتُ عَلَى يَسَارِهِ، فَأَخَذَنِي فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ، فَصَلَّى ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ نَامَ حَتَّى نَفَخَ، وَكَانَ إِذَا نَامَ نَفَخَ، ثُمَّ أَتَاهُ الْمُؤَذِّنُ، فَخَرَجَ، فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. قَالَ عَمْرٌو: فَحَدَّثْتُ بِهِ بُكَيْرًا، فَقَالَ: حَدَّثَنِي كُرَيْبٌ بِذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا قَامَ الرَّجُلُ عَنْ يَسَارِ الْإِمَامِ، إِلَخْ) وَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُبْطِلْ صَلَاةَ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعَ كَوْنِهِ قَامَ عَنْ يَسَارِهِ أَوَّلًا، وَعَنْ أَحْمَدَ تَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُقِرَّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، بَلْ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: إِنَّ مَوْقِفَ الْمَأْمُومِ الْوَاحِدِ يَكُونُ عَنْ يَسَارِ الْإِمَامِ، وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَى ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ) لَمْ أَرَهُ مَنْسُوبًا فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ، لَكِنْ جَزَمَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ بِأَنَّهُ ابْنُ صَالِحٍ وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِهِ.
قَوْلُهُ: (عَمْرٌو) هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ الْمِصْرِيُّ، وَكَذَا وَقَعَ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ، وَهُوَ أَخُو يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَفِي الْإِسْنَادِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ مَدَنِيُّونَ عَلَى نَسَقٍ.
قَوْلُهُ: (نِمْتُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: بِتُّ.
قَوْلُهُ: (فَأَخَذَنِي فَجَعَلَنِي) قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ أَدَارَهُ مِنْ خَلْفِهِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ مِنَ الْعَمَلِ لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ، كَمَا سَيَأْتِي.
قَوْلُهُ: (قَالَ عَمْرٌو) أَيِ: ابْنُ الْحَارِثِ الْمَذْكُورُ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ إِلَيْهِ، وَوَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مِنْ تَعْلِيقِ الْبُخَارِيِّ، فَقَدْ سَاقَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِثْلَ سِيَاقِهِ، وَبُكَيْرٌ الْمَذْكُورُ فِي هَذَا هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ، وَاسْتَفَادَ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ الْعُلُوَّ بِرَجُلٍ.
59 - بَاب إِذَا لَمْ يَنْوِ الْإِمَامُ أَنْ يَؤُمَّ ثُمَّ جَاءَ قَوْمٌ فَأَمَّهُمْ
699 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ، فَقُمْتُ أُصَلِّي مَعَهُ، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ بِرَأْسِي فَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا لَمْ يَنْوِ الْإِمَامُ أَنْ يَؤُمَّ، إِلَخْ) لَمْ يَجْزِمْ بِحُكْمِ الْمَسْأَلَةِ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الِاحْتِمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَنْوِ الْإِمَامَةَ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ نَوَى، لَا فِي ابْتِدَاءِ صَلَاتِهِ، وَلَا بَعْدَ أَنْ قَامَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَصَلَّى مَعَهُ، لَكِنْ فِي إِيقَافِهِ إِيَّاهُ مِنْهُ مَوْقِفَ الْمَأْمُومِ مَا يُشْعِرُ بِالثَّانِي، وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يُشْتَرَطُ؛ لِصِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ أَنْ يَنْوِيَ الْإِمَامُ الْإِمَامَةَ، وَاسْتَدَلَّ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَيْضًا بِحَدِيثِ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِي شَهْرِ رَمَضَانَ قَالَ: فَجِئْتُ فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ، وَجَاءَ آخَرُ فَقَامَ إِلَى جَنْبِي حَتَّى كُنَّا رَهْطًا، فَلَمَّا أَحَسَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِنَا تَجَوَّزَ فِي صَلَاتِهِ، الْحَدِيثَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ لَمْ يَنْوِ الْإِمَامَةَ ابْتِدَاءً، وَائْتَمُّوا هُمْ بِهِ وَأَقَرَّهُمْ. وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَعَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ، كَمَا سَيَأْتِي فِي كِتَابِ الصِّيَامِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -.
وَذَهَبَ أَحْمَدُ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ النَّافِلَةِ وَالْفَرِيضَةِ، فَشَرَطَ أَنْ يَنْوِيَ فِي الْفَرِيضَةِ دُونَ النَّافِلَةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي وَحْدَهُ، فَقَالَ: أَلَا رَجُلٌ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا فَيُصَلِّي مَعَهُ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ) هُوَ مِنْ أَقْرَانِ أَيُّوبَ الرَّاوِي عَنْهُ، وَرِجَالُ الْإِسْنَادِ كُلُّهُمْ بَصْرِيُّونَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ فَوَائِدِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ الثَّلَاثَةِ تَامًّا فِي كِتَابِ الْوِتْرِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -.
60 - بَاب إِذَا طَوَّلَ الْإِمَامُ وَكَانَ لِلرَّجُلِ حَاجَةٌ فَخَرَجَ فَصَلَّى
700 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ.
[الحديث 700 - أطرافه: 6106، 711، 705، 701]
701 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ فَصَلَّى الْعِشَاءَ فَقَرَأَ بِالْبَقَرَةِ فَانْصَرَفَ الرَّجُلُ فَكَأَنَّ مُعَاذًا تَنَاوَلَ مِنْهُ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ فَتَّانٌ فَتَّانٌ فَتَّانٌ ثَلَاثَ مِرَارٍ أَوْ قَالَ فَاتِنًا فَاتِنًا فَاتِنًا وَأَمَرَهُ بِسُورَتَيْنِ مِنْ أَوْسَطِ الْمُفَصَّلِ قَالَ عَمْرٌو لَا أَحْفَظُهُمَا
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا طَوَّلَ الْإِمَامُ وَكَانَ لِلرَّجُلِ) أَيِ: الْمَأْمُومِ (حَاجَةٌ فَخَرَجَ وَصَلَّى) وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ: فَصَلَّى بِالْفَاءِ، وَهَذِهِ التَّرْجَمَةُ عَكْسُ الَّتِي قَبْلَهَا؛ لِأَنَّ فِي الْأُولَى جَوَازَ الِائْتِمَامِ بِمَنْ لَمْ يَنْوِ الْإِمَامَةَ، وَفِي الثَّانِيَةِ جَوَازَ قَطْعِ الِائْتِمَامِ بَعْدَ
الدُّخُولِ فِيهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي التَّرْجَمَةِ: فَخَرَجَ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ خَرَجَ مِنَ الْقُدْوَةِ أَوْ مِنَ الصَّلَاةِ رَأْسًا، أَوْ مِنَ الْمَسْجِدِ، قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ خَرَجَ إِلَى مَنْزِلِهِ فَصَلَّى فِيهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: فَانْصَرَفَ الرَّجُلُ. قَالَ: وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِلَّذِي رَآهُ يُصَلِّي: أَصَلَاتَانِ مَعًا؟ كَمَا تَقَدَّمَ. قُلْتُ: وَلَيْسَ الْوَاقِعُ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ، فَانْصَرَفَ الرَّجُلُ فَصَلَّى فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ، وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَطَعَ الصَّلَاةَ أَوِ الْقُدْوَةَ، لَكِنْ فِي مُسْلِمٍ، فَانْحَرَفَ الرَّجُلُ، فَسَلَّمَ، ثُمَّ صَلَّى وَحْدَهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ رَوَاهُ عَنْ جَابِرٍ، عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَمُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ، وَأَبُو الزُّبَيْرِ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مِقْسَمٍ، فَرِوَايَةُ عَمْرٍو لِلْمُصَنِّفِ هُنَا عَنْ شُعْبَةَ، وَفِي الْأَدَبِ عَنْ سُلَيْمِ بْنِ حَيَّانَ، وَلِمُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْهُ، وَرِوَايَةُ مُحَارِبٍ تَأْتِي بَعْدَ بَابَيْنِ، وَهِيَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مَقْرُونَةٌ بِأَبِي صَالِحٍ، وَرِوَايَةُ أَبِي الزُّبَيْرِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَرِوَايَةُ عُبَيْدِ اللَّهِ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَلَهُ طُرُقٌ أُخْرَى غَيْرُ هَذِهِ، سَأَذْكُرُ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْهَا مَعْزُوًّا، وَإِنَّمَا قَدَّمْتُ ذِكْرَ هَذِهِ لِتَسْهُلَ الْحَوَالَةُ عَلَيْهَا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ) هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ رِوَايَتَهُ عَنْ شُعْبَةَ مُخْتَصَرَةٌ كَمَا هُنَا، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهَا الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ أَيُّوبَ الرَّازِيِّ عَنْهُ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: فَصَلَّى الْعِشَاءَ، إِلَخْ دَاخِلٌ تَحْتَ الطَّرِيقِ الْأُولَى، وَكَانَ الْحَامِلُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهَا لَوْ خَلَتْ عَنْ ذَلِكَ لَمْ تُطَابِقِ التَّرْجَمَةَ ظَاهِرًا. لَكِنْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ مُرَادَ الْبُخَارِيِّ بِذَلِكَ الْإِشَارَةُ إِلَى أَصْلِ الْحَدِيثِ عَلَى عَادَتِهِ، وَاسْتَفَادَ بِالطَّرِيقِ الْأُولَى عُلُوَّ الْإِسْنَادِ، كَمَا أَنَّ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ فَائِدَةُ التَّصْرِيحِ بِسَمَاعِ عَمْرٍو مِنْ جَابِرٍ.
قَوْلُهُ: (يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ مَنْصُورٍ، عَنْ عَمْرٍو: عِشَاءَ الْآخِرَةِ، فَكَأَنَّ الْعِشَاءَ هِيَ الَّتِي كَانَ يُوَاظِبُ فِيهَا عَلَى الصَّلَاةِ مَرَّتَيْنِ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ) فِي رِوَايَةِ مَنْصُورٍ الْمَذْكُورَةِ: فَيُصَلِّي بِهِمْ تِلْكَ الصَّلَاةَ وَلِلْمُصَنِّفِ فِي الْأَدَبِ فَيُصَلِّي بِهِمُ الصَّلَاةَ أَيِ: الْمَذْكُورَةَ، وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الصَّلَاةَ الَّتِي كَانَ يُصَلِّيهَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَيْرَ الصَّلَاةِ الَّتِي كَانَ يُصَلِّيهَا بِقَوْمِهِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ: فَصَلَّى لَيْلَةً مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْعِشَاءَ، ثُمَّ أَتَى قَوْمَهُ فَأَمَّهُمْ، وَفِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى بَنِي سَلِمَةَ فَيُصَلِّيهَا بِهِمْ، وَلَا مُخَالَفَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ قَوْمَهُ هُمْ بَنُو سَلِمَةَ، وَفِي رِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ عَنْهُ: ثُمَّ يَرْجِعُ فَيُصَلِّيهَا بِقَوْمِهِ فِي بَنِي سَلِمَةَ، وَلِأَحْمَدَ: ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَؤُمُّنَا.
قَوْلُهُ: (فَصَلَّى الْعِشَاءَ) كَذَا فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِأَبِي عَوَانَةَ، وَالطَّحَاوِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُحَارِبٍ: صَلَّى بِأَصْحَابِهِ الْمَغْرِبَ، وَكَذَا لِعَبْدِ الرَّزَّاقِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ، فَإِنْ حُمِلَ عَلَى تَعَدُّدِ الْقِصَّةِ كَمَا سَيَأْتِي أَوْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَغْرِبِ الْعِشَاءُ مَجَازًا تَمَّ، وَإِلَّا فَمَا فِي الصَّحِيحِ أَصَحُّ.
قَوْلُهُ: (فَقَرَأَ بِالْبَقَرَةِ) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى مَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ الْبَقَرَةَ بَلْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ: فَقَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، وَلِمُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ نَحْوُهُ، وَلِلْمُصَنِّفِ فِي الْأَدَبِ فَقَرَأَ بِهِمُ الْبَقَرَةَ فَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الرُّوَاةِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ ابْتَدَأَ فِي قِرَاءَتِهَا، وَبِهِ صَرَّحَ مُسْلِمٌ وَلَفْظُهُ: فَافْتَتَحَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، وَفِي رِوَايَةِ مُحَارِبٍ: فَقَرَأَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ أَوِ النِّسَاءِ عَلَى الشَّكِّ، وَلِلسَّرَّاجِ مِنْ رِوَايَةِ مِسْعَرٍ، عَنْ مُحَارِبٍ: فَقَرَأَ بِالْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ، كَذَا رَأَيْتُهُ بِخَطِّ الزَّكِيِّ الْبَرْزَالِيِّ بِالْوَاوِ، فَإِنْ كَانَ ضَبَطَهُ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ قَرَأَ فِي الْأُولَى بِالْبَقَرَةِ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِالنِّسَاءِ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ: فَقَرَأَ {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} ، وَهِيَ شَاذَّةٌ إِلَّا إِنْ حُمِلَ عَلَى التَّعَدُّدِ، وَلَمْ يَقَعْ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ الْمُتَقَدِّمَةِ تَسْمِيَةُ هَذَا الرَّجُلِ، لَكِنْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ وَالْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِهِ عَنْ طَالِبِ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَرَّ حَزْمُ بْنُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، بِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَهُوَ يُصَلِّي بِقَوْمِهِ صَلَاةَ الْعَتَمَةِ، فَافْتَتَحَ بِسُورَةٍ طَوِيلَةٍ، وَمَعَ حَزْمٍ نَاضِحٌ لَهُ الْحَدِيثَ. قَالَ الْبَزَّارُ: لَا
نَعْلَمُ أَحَدًا سَمَّاهُ عَنْ جَابِرٍ إِلَّا ابْنَ جَابِرٍ، اهـ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي السُّنَنِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ طَالِبٍ، فَجَعَلَهُ عَنِ ابْنِ جَابِرٍ، عَنْ حَزْمٍ صَاحِبِ الْقِصَّةِ، وَابْنُ جَابِرٍ لَمْ يُدْرِكْ حَزْمًا.
وَوَقَعَ عِنْدَهُ: صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَهُوَ نَحْوُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي رِوَايَةِ مُحَارِبٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ فَسَمَّاهُ حَازِمًا وَكَأَنَّهُ صَحَّفَهُ، أَخْرَجَهُ ابْنُ شَاهِينَ مِنْ طَرِيقِهِ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ السَّكَنِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ مُعَاذٌ يَؤُمُّ قَوْمَهُ، فَدَخَلَ حَرَامٌ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَسْقِيَ نَخْلَهُ، الْحَدِيثَ، كَذَا فِيهِ بِرَاءٍ بَعْدَهَا أَلِفٌ، وَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ حَرَامُ بْنُ مِلْحَانَ خَالُ أَنَسٍ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ الْخَطِيبُ فِي الْمُبْهَمَاتِ، لَكِنْ لَمْ أَرَهُ مَنْسُوبًا فِي الرِّوَايَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَصْحِيفًا مِنْ حَزْمٍ فَتَجْتَمِعُ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ، وَإِلَى ذَلِكَ يُومِئُ صَنِيعُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ؛ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الصَّحَابَةِ حَرَامَ بْنَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَذَكَرَ لَهُ هَذِهِ الْقِصَّةَ، وَعَزَا تَسْمِيَتَهُ لِرِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ، وَلَمْ أَقِفْ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَلَى تَسْمِيَةِ أَبِيهِ، وَكَأَنَّهُ بَنَى عَلَى أَنَّ اسْمَهُ تَصَحَّفَ وَالْأَبُ وَاحِدٌ، سَمَّاهُ جَابِرٌ وَلَمْ يُسَمِّهِ أَنَسٌ.
وَجَاءَ فِي تَسْمِيَتِهِ قَوْلٌ آخَرُ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ يُقَالُ لَهُ: سُلَيْمٌ، أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّا نَظَلُّ فِي أَعْمَالِنَا، فَنَأْتِي حِينَ نُمْسِي فَنُصَلِّي، فَيَأْتِي مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ فَيُنَادِي بِالصَّلَاةِ، فَنَأْتِيهِ فَيُطَوِّلُ عَلَيْنَا، الْحَدِيثَ، وَفِيهِ أَنَّهُ اسْتُشْهِدَ بِأُحُدٍ، وَهَذَا مُرْسَلٌ؛ لِأَنَّ مُعَاذَ بْنَ رِفَاعَةَ لَمْ يُدْرِكْهُ، وَقَدْ رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي سَلِمَةَ، فَذَكَرَهُ مُرْسَلًا، وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ جَابِرٍ، وَسَمَّاهُ سُلَيْمًا أَيْضًا، لَكِنْ وَقَعَ عِنْدَ ابْنِ حَزْمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ اسْمَهُ سَلْمٌ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ اللَّامِ، وَكَأَنَّهُ تَصْحِيفٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ هَذَا الِاخْتِلَافِ بِأَنَّهُمَا وَاقِعَتَانِ، وَأَيَّدَ ذَلِكَ بِالِاخْتِلَافِ فِي الصَّلَاةِ هَلْ هِيَ الْعِشَاءُ أَوِ الْمَغْرِبُ، وَبِالِاخْتِلَافِ فِي السُّورَةِ هَلْ هِيَ الْبَقَرَةُ أَوِ اقْتَرَبَتْ، وَبِالِاخْتِلَافِ فِي عُذْرِ الرَّجُلِ هَلْ هُوَ لِأَجْلِ التَّطْوِيلِ فَقَطْ؛ لِكَوْنِهِ جَاءَ مِنَ الْعَمَلِ وَهُوَ تَعْبَانٌ، أَوْ لِكَوْنِهِ أَرَادَ أَنْ يَسْقِيَ نَخْلَهُ إِذْ ذَاكَ، أَوْ لِكَوْنِهِ خَافَ عَلَى الْمَاءِ فِي النَّخْلِ كَمَا فِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ.
وَاسْتُشْكِلَ هَذَا الْجَمْعُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِمُعَاذٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُهُ بِالتَّخْفِيفِ ثُمَّ يَعُودُ إِلَى التَّطْوِيلِ، وَيُجَابُ عَنْ ذَلِكَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ قَرَأَ أَوَّلًا بِالْبَقَرَةِ، فَلَمَّا نَهَاهُ قَرَأَ اقْتَرَبَتْ وَهِيَ طَوِيلَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى السُّوَرِ الَّتِي أَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَ بِهَا، كَمَا سَيَأْتِي، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ أَوَّلًا وَقَعَ لِمَا يُخْشَى مِنْ تَنْفِيرِ بَعْضِ مَنْ يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ لَمَّا اطْمَأَنَّتْ نُفُوسُهُمْ بِالْإِسْلَامِ ظَنَّ أَنَّ الْمَانِعَ زَالَ فَقَرَأَ بِاقْتَرَبَتْ؛ لِأَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ فَصَادَفَ صَاحِبَ الشُّغْلِ، وَجَمَعَ النَّوَوِيُّ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ قَرَأَ فِي الْأُولَى بِالْبَقَرَةِ فَانْصَرَفَ رَجُلٌ، ثُمَّ قَرَأَ اقْتَرَبَتْ فِي الثَّانِيَةِ فَانْصَرَفَ آخَرُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَانْطَلَقَ رَجُلٌ مِنَّا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ، وَيُقَوِّي رِوَايَةَ مَنْ سَمَّاهُ سُلَيْمًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (فَانْصَرَفَ الرَّجُلُ) اللَّامُ فِيهِ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَاحِدٌ مِنَ الرِّجَالِ؛ لِأَنَّ الْمُعَرَّفَ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ كَالنَّكِرَةِ فِي مُؤَدَّاهُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: فَقَامَ رَجُلٌ فَانْصَرَفَ، وَفِي رِوَايَةِ سُلَيْمِ بْنِ حَيَّانَ: فَتَجَوَّزَ رَجُلٌ فَصَلَّى صَلَاةً خَفِيفَةً، وَلِابْنِ عُيَيْنَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَانْحَرَفَ رَجُلٌ فَسَلَّمَ ثُمَّ صَلَّى وَحْدَهُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ قَطَعَ الصَّلَاةَ، لَكِنْ ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبَّادٍ شَيْخَ مُسْلِمٍ تَفَرَّدَ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ سَلَّمَ، وَأَنَّ الْحُفَّاظَ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَكَذَا مِنْ أَصْحَابِ شَيْخِهِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَكَذَا مِنْ أَصْحَابِ جَابِرٍ لَمْ يَذْكُرُوا السَّلَامَ، وَكَأَنَّهُ فَهِمَ أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ قَطَعَ الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّ السَّلَامَ يُتَحَلَّلُ بِهِ مِنَ الصَّلَاةِ، وَسَائِرُ الرِّوَايَاتِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَطَعَ الْقُدْوَةَ فَقَطْ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنَ الصَّلَاةِ بَلِ اسْتَمَرَّ فِيهَا مُنْفَرِدًا.
قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي شَرْحِ الْمُسْنَدِ فِي الْكَلَامِ
عَلَى رِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: فَتَنَحَّى رَجُلٌ مِنْ خَلْفِهِ فَصَلَّى وَحْدَهُ. هَذَا يُحْتَمَلُ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ أَنَّهُ قَطَعَ الصَّلَاةَ وَتَنَحَّى عَنْ مَوْضِعِ صَلَاتِهِ وَاسْتَأْنَفَهَا لِنَفْسِهِ، لَكِنَّهُ غَيْرُ مَحْمُولٍ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ لَا يُقْطَعُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ، انْتَهَى. وَلِهَذَا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَقْطَعَ الْقُدْوَةَ وَيُتِمَّ صَلَاتَهُ مُنْفَرِدًا. وَنَازَعَ النَّوَوِيُّ فِيهِ فَقَالَ: لَا دَلَالَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ فَارَقَهُ وَبَنَى عَلَى صَلَاتِهِ، بَلْ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي فِيهَا أَنَّهُ سَلَّمَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَطَعَ الصَّلَاةَ مِنْ أَصْلِهَا ثُمَّ اسْتَأْنَفَهَا، فَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ قَطْعِ الصَّلَاةِ وَإِبْطَالِهَا لِعُذْرٍ.
قَوْلُهُ: (فَكَأَنَّ مُعَاذًا يَنَالُ مِنْهُ) وَلِلْمُسْتَمْلِي: تَنَاوَلَ مِنْهُ وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ: فَكَأَنَّ - بِهَمْزَةٍ وَنُونٍ مُشَدَّدَةٍ - مُعَاذًا تَنَاوَلَ مِنْهُ وَالْأُولَى تَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ ذَلِكَ مِنْهُ بِخِلَافِ الثَّانِيَةِ، وَمَعْنَى يَنَالُ مِنْهُ أَوْ تَنَاوَلَهُ: ذَكَرَهُ بِسُوءٍ، وَقَدْ فَسَّرَهُ فِي رِوَايَةِ سُلَيْمِ بْنِ حَيَّانَ وَلَفْظُهُ: فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاذًا فَقَالَ: إِنَّهُ مُنَافِقٌ وَكَذَا لِأَبِي الزُّبَيْرِ، وَلِابْنِ عُيَيْنَةَ فَقَالُوا لَهُ: أَنَافَقْتَ يَا فُلَانُ؟ قَالَ: لَا، وَاللَّهِ لَآتِيَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَأُخْبِرَنَّهُ وَكَأَنَّ مُعَاذًا قَالَ ذَلِكَ أَوَّلًا، ثُمَّ قَالَهُ أَصْحَابُ مُعَاذٍ لِلرَّجُلِ.
قَوْلُهُ: (فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) بَيَّنَ ابْنُ عُيَيْنَةَ فِي رِوَايَتِهِ وَكَذَا مُحَارِبٌ، وَأَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ الَّذِي جَاءَ فَاشْتَكَى مِنْ مُعَاذٍ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ: فَقَالَ مُعَاذٌ: لَئِنْ أَصْبَحْتُ لَأَذْكُرَنَّ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى الَّذِي صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَمِلْتُ عَلَى نَاضِحٍ لِي، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَكَأَنَّ مُعَاذًا سَبَقَهُ بِالشَّكْوَى، فَلَمَّا أَرْسَلَ إِلَيْهِ جَاءَ فَاشْتَكَى مِنْ مُعَاذٍ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: فَتَّانٌ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ: أَفَتَّانٌ أَنْتَ؟ زَادَ مُحَارِبٌ: ثَلَاثًا.
قَوْلُهُ: (أَوْ قَالَ: فَاتِنًا) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ الْمُقَدَّرَةِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ: أَتُرِيدُ أَنْ تَكُونَ فَاتِنًا؟ وَلِأَحْمَدَ فِي حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةَ الْمُتَقَدِّمِ: يَا مُعَاذُ، لَا تَكُنْ فَاتِنًا، وَزَادَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ: لَا تُطَوِّلْ بِهِمْ، وَمَعْنَى الْفِتْنَةِ هَاهُنَا أَنَّ التَّطْوِيلَ يَكُونُ سَبَبًا لِخُرُوجِهِمْ مِنَ الصَّلَاةِ، وَلِلتَّكَرُّهِ لِلصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عُمَرَ قَالَ: لَا تُبَغِّضُوا إِلَى اللَّهِ عِبَادَهُ
(1)
، يَكُونُ أَحَدُكُمْ إِمَامًا فَيُطَوِّلُ عَلَى الْقَوْمِ الصَّلَاةَ حَتَّى يُبَغِّضَ إِلَيْهِمْ مَا هُمْ فِيهِ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: فَتَّانٌ، أَيْ: مُعَذِّبٌ؛ لِأَنَّهُ عَذَّبَهُمْ بِالتَّطْوِيلِ، وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ} قِيلَ: مَعْنَاهُ عَذَّبُوهُمْ.
قَوْلُهُ: (وَأَمَرَهُ بِسُورَتَيْنِ مِنْ أَوْسَطِ الْمُفَصَّلِ، قَالَ عَمْرٌو) أَيِ: ابْنُ دِينَارٍ (لَا أَحْفَظُهُمَا) وَكَأَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي حَالِ تَحْدِيثِهِ لِشُعْبَةَ، وَإِلَّا فَفِي رِوَايَةِ سُلَيْمِ بْنِ حَيَّانَ، عَنْ عَمْرٍو: اقْرَأْ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وَنَحْوَهَا. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: اقْرَأْ بِكَذَا وَاقْرَأْ بِكَذَا، قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: فَقُلْتُ لِعَمْرٍو: إِنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ حَدَّثَنَا عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ: اقْرَأْ بِالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَبِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى. فَقَالَ عَمْرٌو نَحْوَ هَذَا، وَجَزَمَ بِذَلِكَ مُحَارِبٌ فِي حَدِيثِهِ عَنْ جَابِرٍ، وَفِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عِنْدَ مُسْلِمٍ مَعَ الثَّلَاثَةِ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، زَادَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ: وَالضُّحَى، أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَفِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ مَعَ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ وَفِي الْمُرَادِ بِالْمُفَصَّلِ أَقْوَالٌ سَتَأْتِي فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ، أَصَحُّهَا أَنَّهُ مِنْ أَوَّلِ ق إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ.
قَوْلُهُ: (أَوْسَطُ) يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمُتَوَسِّطَ وَالسُّوَرَ الَّتِي مَثَّلَ بِهَا مِنْ قِصَارِ الْمُتَوَسِّطِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمُعْتَدِلَ، أَيِ: الْمُنَاسِبَ لِلْحَالِ مِنَ الْمُفَصَّلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى صِحَّةِ اقْتِدَاءِ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مُعَاذًا كَانَ يَنْوِي بِالْأُولَى الْفَرْضَ وَبِالثَّانِيَةِ النَّفْلَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالطَّحَاوِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرٍ فِي حَدِيثِ الْبَابِ، زَادَ:
(1)
في مخطوطة الرياض "لا تبغض الله إلى عباده".
هِيَ لَهُ تَطَوُّعٌ وَلَهُمْ فَرِيضَةٌ وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ، وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ جُرَيْجٍ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِسَمَاعِهِ فِيهِ فَانْتَفَتْ تُهْمَةُ تَدْلِيسِهِ، فَقَوْلُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ: إِنَّهُ لَا يَصِحُّ مَرْدُودٌ، وَتَعْلِيلُ الطَّحَاوِيِّ لَهُ بِأَنَّ ابْنَ عُيَيْنَةَ سَاقَهُ عَنْ عَمْرٍو أَتَمَّ مِنْ سِيَاقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لَيْسَ بِقَادِحٍ فِي صِحَّتِهِ؛ لِأَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَسَنُّ وَأَجَلُّ مِنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَأَقْدَمُ أَخْذًا عَنْ عَمْرٍو مِنْهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهِيَ زِيَادَةٌ مِنْ ثِقَةٍ حَافِظٍ، لَيْسَتْ مُنَافِيَةً لِرِوَايَةِ مَنْ هُوَ أَحْفَظُ مِنْهُ وَلَا أَكْثَرُ عَدَدًا، فَلَا مَعْنَى لِلتَّوَقُّفِ فِي الْحُكْمِ بِصِحَّتِهَا.
وَأَمَّا رَدُّ الطَّحَاوِيِّ لَهَا بِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ مُدْرَجَةٌ، فَجَوَابُهُ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْإِدْرَاجِ حَتَّى يَثْبُتَ التَّفْصِيلُ، فَمَهْمَا كَانَ مَضْمُومًا إِلَى الْحَدِيثِ فَهُوَ مِنْهُ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا رُوِيَ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَالْأَمْرُ هُنَا كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ أَخْرَجَهَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ جَابِرٍ مُتَابِعًا لِعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْهُ، وَقَوْلُ الطَّحَاوِيِّ: هُوَ ظَنٌّ مِنْ جَابِرٍ مَرْدُودٌ؛ لِأَنَّ جَابِرًا كَانَ مِمَّنْ يُصَلِّي مَعَ مُعَاذٍ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَلَا يُظَنُّ بِجَابِرٍ أَنَّهُ يُخْبِرُ عَنْ شَخْصٍ بِأَمْرٍ غَيْرِ مُشَاهَدٍ إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّخْصُ أَطْلَعَهُ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا احْتِجَاجُ أَصْحَابِنَا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ فَلَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُ النَّهْيُ عَنِ التَّلَبُّسِ بِصَلَاةٍ غَيْرِ الَّتِي أُقِيمَتْ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِنِيَّةِ فَرْضٍ أَوْ نَفْلٍ، وَلَوْ تَعَيَّنَتْ نِيَّةُ الْفَرِيضَةِ لَامْتَنَع عَلَى مُعَاذٍ أَنْ يُصَلِّيَ الثَّانِيَةَ بِقَوْمِهِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ حِينَئِذٍ فَرْضًا لَهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا: لَا يُظَنُّ بِمُعَاذٍ أَنْ يَتْرُكَ فَضِيلَةَ الْفَرْضِ خَلْفَ أَفْضَلِ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْمَسَاجِدِ؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَوْعُ تَرْجِيحٍ لَكِنْ لِلْمُخَالِفِ أَنْ يَقُولَ: إِذَا كَانَ ذَلِكَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ الْفَضْلُ بِالِاتِّبَاعِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْخَطَّابِيِّ: إِنَّ الْعِشَاءَ فِي قَوْلِهِ: كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْعِشَاءَ حَقِيقَةٌ فِي الْمَفْرُوضَةِ، فَلَا يُقَالُ: كَانَ يَنْوِي بِهَا التَّطَوُّعَ؛ لِأَنَّ لِمُخَالِفِهِ أَنْ يَقُولَ: هَذَا لَا يُنَافِي أَنْ يَنْوِيَ بِهَا التَّنَفُّلَ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنُ حَزْمٍ: إِنَّ الْمُخَالِفِينَ لَا يُجِيزُونَ لِمَنْ عَلَيْهِ فَرْضٌ إِذَا أُقِيمَ أَنْ يُصَلِّيَهُ مُتَطَوِّعًا، فَكَيْفَ يَنْسُبُونَ إِلَى مُعَاذٍ مَا لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ؟
فَهَذَا إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ نَقْضٌ قَوِيٌّ، وَأَسْلَمُ الْأَجْوِبَةِ التَّمَسُّكُ بِالزِّيَادَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَأَمَّا قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ: لَا حُجَّةَ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا تَقْرِيرِهِ. فَجَوَابُهُ أَنَّهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ رَأْيَ الصَّحَابِيِّ إِذَا لَمْ يُخَالِفْهُ غَيْرُهُ حُجَّةٌ، وَالْوَاقِعُ هُنَا كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ الَّذِينَ كَانَ يُصَلِّي بِهِمْ مُعَاذٌ كُلُّهمْ صَحَابَةٌ وَفِيهِمْ ثَلَاثُونَ عَقَبِيًّا وَأَرْبَعُونَ بَدْرِيًّا، قَالَهُ ابْنُ حَزْمٍ، قَالَ: وَلَا يُحْفَظُ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ امْتِنَاعُ ذَلِكَ، بَلْ قَالَ مَعَهُمْ بِالْجَوَازِ عُمَرُ، وَابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَأَنَسٌ وَغَيْرُهُمْ. وَأَمَّا قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ: لَوْ سَلَّمْنَا جَمِيعَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ لِاحْتِمَالِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَتِ الْفَرِيضَةُ فِيهِ تُصَلَّى مَرَّتَيْنِ، أَيْ: فَيَكُونُ مَنْسُوخًا، فَقَدْ تَعَقَّبَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ بِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إِثْبَاتَ النَّسْخِ بِالِاحْتِمَالِ وَهُوَ لَا يَسُوغُ، وَبِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ إِقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنْ إِعَادَةِ الْفَرِيضَةِ، اهـ.
وَكَأَنَّهُ لَمْ يَقِفْ عَلَى كِتَابِهِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ سَاقَ فِيهِ دَلِيلَ ذَلِكَ وَهُوَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ: لَا تُصَلُّوا الصَّلَاةَ فِي الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ، وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُرْسَلٍ: إِنَّ أَهْلَ الْعَالِيَةِ كَانُوا يُصَلُّونَ فِي بُيُوتِهِمْ، ثُمَّ يُصَلُّونَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَنَهَاهُمْ، فَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ نَظَرٌ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يُصَلُّوهَا مَرَّتَيْنِ عَلَى أَنَّهَا فَرِيضَةٌ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ الْبَيْهَقِيُّ جَمْعًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، بَلْ لَوْ قَالَ قَائِلٌ: هَذَا النَّهْيُ مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ مُعَاذٍ، لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا، وَلَا يُقَالُ الْقِصَّةُ قَدِيمَةٌ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهَا اسْتُشْهِدَ بِأُحُدٍ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: كَانَتْ أُحُدٌ فِي أَوَاخِرِ الثَّالِثَةِ فَلَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ فِي الْأُولَى وَالْإِذْنُ فِي الثَّالِثَةِ مَثَلًا، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم لِلرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ لَمْ يُصَلِّيَا مَعَهُ: إِذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمَّ أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَصَلِّيَا مَعَهُمْ؛ فَإِنَّهَا نَافِلَةٌ، أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ
الْعَامِرِيِّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ.
وَكَانَ ذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي أَوَاخِرِ حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَيَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ أَيْضًا أَمْرُهُ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ أَدْرَكَ الْأَئِمَّةَ الَّذِينَ يَأْتُونَ بَعْدَهُ وَيُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ مِيقَاتِهَا أَنْ صَلُّوهَا فِي بُيُوتِكُمْ فِي الْوَقْتِ، ثُمَّ اجْعَلُوهَا مَعَهُمْ نَافِلَةً. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَى مُعَاذًا عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ سُلَيْمِ بْنِ الْحَارِثِ: إِمَّا أَنْ تُصَلِّيَ مَعِي، وَإِمَّا أَنْ تُخَفِّفَ بِقَوْمِكَ، وَدَعْوَاهُ أَنَّ مَعْنَاهُ إِمَّا أَنْ تُصَلِّيَ مَعِي وَلَا تُصَلِّ بِقَوْمِكَ، وَإِمَّا أَنْ تُخَفِّفَ بِقَوْمِكَ وَلَا تُصَلِّ مَعِي، فَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ لِمُخَالِفِهِ أَنْ يَقُولَ: بَلِ التَّقْدِيرُ إِمَّا أَنْ تُصَلِّي مَعِي فَقَطْ إِذَا لَمْ تُخَفِّفْ، وَإِمَّا أَنْ تُخَفِّفَ بِقَوْمِكَ فَتُصَلِّي مَعِيَ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَقْدِيرِهِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ مُقَابَلَةِ التَّخْفِيفِ بِتَرْكِ التَّخْفِيفِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَسْئُولُ عَنْهُ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ، وَأَمَّا تَقْوِيَةُ بَعْضِهِمْ بِكَوْنِهِ مَنْسُوخًا بِأَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ وَقَعَتْ مِرَارًا عَلَى صِفَةٍ فِيهَا مُخَالَفَةٌ ظَاهِرَةٌ بِالْأَفْعَالِ الْمُنَافِيَةِ فِي حَالِ الْأَمْنِ، فَلَوْ جَازَتْ صَلَاةُ الْمُفْتَرِضِ خَلْفَ الْمُتَنَفِّلِ لَصَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهِمْ مَرَّتَيْنِ عَلَى وَجْهٍ لَا تَقَعُ فِيهِ مُنَافَاةٌ، فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى الْمَنْعِ، فَجَوَابُهُ أَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهِمْ صَلَاةَ الْخَوْفِ مَرَّتَيْنِ، كَمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ صَرِيحًا، وَلِمُسْلِمٍ، عَنْ جَابِرٍ نَحْوُهُ، وَأَمَّا صَلَاتُهُ بِهِمْ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الْمُخَالَفَةِ فَلِبَيَانِ الْجَوَازِ.
وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: كَانَ فِعْلُ مُعَاذٍ لِلضَّرُورَةِ؛ لِقِلَّةِ الْقُرَّاءِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. فَهُوَ ضَعِيفٌ كَمَا قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ؛ لِأَنَّ الْقَدْرَ الْمُجْزِئَ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ كَانَ حَافِظُوهُ كَثِيرًا، وَمَا زَادَ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِارْتِكَابِ أَمْرٍ مَمْنُوعٍ مِنْهُ شَرْعًا فِي الصَّلَاةِ. وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنَ الْفَوَائِدِ أَيْضًا اسْتِحْبَابُ تَخْفِيفِ الصَّلَاةِ مُرَاعَاةً لِحَالِ الْمَأْمُومِينَ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: لَا يُكْرَهُ التَّطْوِيلُ إِذَا عَلِمَ رِضَاءَ الْمَأْمُومِينَ، فَيُشْكِلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْإِمَامَ قَدْ لَا يَعْلَمُ حَالَ مَنْ يَأْتِي فَيَأْتَمُّ بِهِ بَعْدَ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ، فَعَلَى هَذَا يُكْرَهُ التَّطْوِيلُ مُطْلَقًا إِلَّا إِذَا فُرِضَ فِي مُصَلٍّ بِقَوْمٍ مَحْصُورِينَ رَاضِينَ بِالتَّطْوِيلِ فِي مَكَانٍ لَا يَدْخُلُهُ غَيْرُهُمْ. وَفِيهِ أَنَّ الْحَاجَةَ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا عُذْرٌ فِي تَخْفِيفِ الصَّلَاةِ، وَجَوَازُ إِعَادَةِ الْوَاحِدَةِ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ مَرَّتَيْنِ
(1)
، وَجَوَازُ خُرُوجِ الْمَأْمُومِ مِنَ الصَّلَاةِ لِعُذْرٍ، وَأَمَّا بِغَيْرِ عُذْرٍ فَاسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ وَتُعُقِّبَ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِأَمْرِ الْأَئِمَّةِ بِالتَّخْفِيفِ فَائِدَةٌ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ فَائِدَةَ الْأَمْرِ بِالتَّخْفِيفِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ جَوَازُ الصَّلَاةِ مُنْفَرِدًا، وَهَذَا كَمَا اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِالْقِصَّةِ عَلَى وُجُوبِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَفِيهِ نَحْوُ هَذَا النَّظَرِ. وَفِيهِ جَوَازُ صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ بِالْجَمَاعَةُ إِذَا كَانَ بِعُذْرٍ.
وَفِيهِ الْإِنْكَارُ بِلُطْفٍ؛ لِوُقُوعِهِ بِصُورَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ تَعْزِيزُ كُلِّ أَحَدٍ بِحَسْبِهِ، وَالِاكْتِفَاءُ فِي التَّعْزِيزِ بِالْقَوْلِ، وَالْإِنْكَارُ فِي الْمَكْرُوهَاتِ، وَأَمَّا تَكْرَارُهُ ثَلَاثًا فَلِلتَّأْكِيدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْعِلْمِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُعِيدُ الْكَلِمَةَ ثَلَاثًا لِتُفْهَمَ عَنْهُ.
وَفِيهِ اعْتِذَارُ مَنْ وَقَعَ مِنْهُ خَطَأٌ فِي الظَّاهِرِ، وَجَوَازُ الْوُقُوعِ فِي حَقِّ مَنْ وَقَعَ فِي مَحْذُورٍ ظَاهِرٍ وَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ بَاطِنٌ لِلتَّنْفِيرِ عَنْ فِعْلِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا لَوْمَ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مُتَأَوِّلًا، وَأَنَّ التَّخَلُّفَ عَنِ الْجَمَاعَةِ مِنْ صِفَةِ الْمُنَافِقِ.
61 - بَاب تَخْفِيفِ الْإِمَامِ فِي الْقِيَامِ وَإِتْمَامِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ
702 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: سَمِعْتُ قَيْسًا قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو مَسْعُودٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلَانٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا، فَمَا رَأَيْتُ
(1)
ليس هذا على إطلاقه، بل إنما يجوز ذلك لمسوغ شرعي كمن صلى وحده في جماعة ثم حضر جماعة أخرى شرع له أن يعيد الصلاة معهم لصحة الأحاديث بالأمر بذلك، ومثل ذلك لو كان أماما راتبا للجماعة الثانية كقصة معاذ. والله أعلم
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْهُ يَوْمَئِذٍ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ فَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ تَخْفِيفِ الْإِمَامِ فِي الْقِيَامِ وَإِتْمَامِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْوَاوُ بِمَعْنَى مَعَ كَأَنَّهُ قَالَ: بَابُ التَّخْفِيفِ بِحَيْثُ لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، فَهُوَ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: فَلْيَتَجَوَّزْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمُرُ بِالتَّجَوُّزِ الْمُؤَدِّي إِلَى فَسَادِ الصَّلَاةِ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ وَتَبِعَهُ ابْنُ رَشِيدٍ وَغَيْرُهُ: خُصَّ التَّخْفِيفُ فِي التَّرْجَمَةِ بِالْقِيَامِ مَعَ أَنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ أَعَمُّ حَيْثُ قَالَ: فَلْيَتَجَوَّزْ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَطُولُ فِي الْغَالِبِ إِنَّمَا هُوَ الْقِيَامُ، وَمَا عَدَاهُ لَا يَشُقُّ إِتْمَامُهُ عَلَى أَحَدٍ، وَكَأَنَّهُ حَمَلَ حَدِيثَ الْبَابِ عَلَى قِصَّةِ مُعَاذٍ؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالتَّخْفِيفِ فِيهَا مُخْتَصٌّ بِالْقِرَاءَةِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.
وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ بِالتَّرْجَمَةِ إِلَى بَعْضِ مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ كَعَادَتِهِ، وَأَمَّا قِصَّةُ مُعَاذٍ فَمُغَايِرَةٌ لِحَدِيثِ الْبَابِ؛ لِأَنَّ قِصَّةَ مُعَاذٍ كَانَتْ فِي الْعِشَاءِ، وَكَانَ الْإِمَامُ فِيهَا مُعَاذًا وَكَانَتْ فِي مَسْجِدِ بَنِي سَلِمَةَ، وَهَذِهِ كَانَتْ فِي الصُّبْحِ وَكَانَتْ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ، وَوَهِمَ مَنْ فَسَّرَ الْإِمَامَ الْمُبْهَمَ هُنَا بِمُعَاذٍ، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، كَمَا أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ رِوَايَةِ عِيسَى بْنِ جَارِيَةَ - وَهُوَ بِالْجِيمِ - عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ يُصَلِّي بِأَهْلِ قُبَاءَ، فَاسْتَفْتَحَ سُورَةً طَوِيلَةً، فَدَخَلَ مَعَهُ غُلَامٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي الصَّلَاةِ، فَلَمَّا سَمِعَهُ اسْتَفْتَحَهَا انْفَتَلَ مِنْ صَلَاتِهِ، فَغَضِبَ أُبَيٌّ فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَشْكُو الْغُلَامَ، وَأَتَى الْغُلَامُ يَشْكُو أُبَيًّا، فَغَضِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى عُرِفَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَأَوْجِزُوا؛ فَإِنَّ خَلْفَكُمُ الضَّعِيفَ وَالْكَبِيرَ وَالْمَرِيضَ وَذَا الْحَاجَةِ فَأَبَانَ هَذَا الْحَدِيثُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ: مِمَّا يُطِيلُ بِنَا فَلَانٌ أَيْ: فِي الْقِرَاءَةِ، وَاسْتُفِيدَ مِنْهُ أَيْضًا تَسْمِيَةُ الْإِمَامِ وَبِأَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ. وَفِي الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: مَنْ أَمَّنَا فَلْيُتِمَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ.
وَفِي قَوْلِ ابْنِ الْمُنِيرِ: إِنَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ لَا يَشُقُّ إِتْمَامُهُمَا نَظَرٌ؛ فَإِنَّهُ إِنْ أَرَادَ أَقَلَّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ تَمَامٍ فَذَاكَ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَإِنْ أَرَادَ غَايَةَ التَّمَامِ فَقَدْ يَشُقُّ، فَسَيَأْتِي حَدِيثُ الْبَرَاءِ قَرِيبًا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ قِيَامُهُ وَرُكُوعُهُ وَسُجُودُهُ قَرِيبًا مِنَ السَّوَاءِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ) هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ الْجُعْفِيُّ، وَإِسْمَاعِيلُ هُوَ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ، وَقَيْسُ هُوَ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، وَأَبُو مَسْعُودٍ هُوَ الْأَنْصَارِيُّ الْبَدْرِيُّ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ كُوفِيُّونَ.
قَوْلُهُ: (أَنَّ رَجُلًا) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، وَوَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ حَزْمُ بْنُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ؛ لِأَنَّ قِصَّتَهُ كَانَتْ مَعَ مُعَاذٍ لَا مَعَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ.
قَوْلُهُ: (إِنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ) أَيْ: فَلَا أَحْضُرُهَا مَعَ الْجَمَاعَةِ لِأَجْلِ التَّطْوِيلِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ فِي الْأَحْكَامِ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَتَأَخَّرُ بِزِيَادَةِ الْقَسَمِ، وَفِيهِ جَوَازُ مِثْلِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ فِي بَابِ الْغَضَبِ فِي الْعِلْمِ بِلَفْظِ إِنِّي لَا أَكَادُ أُدْرِكُ الصَّلَاةَ وَتَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ. وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الَّذِي أَلِفَهُ مِنْ تَطْوِيلِهِ اقْتَضَى لَهُ أَنْ يَتَشَاغَلَ عَنِ الْمَجِيءِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وُثُوقًا بِتَطْوِيلِهِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ يُطَوِّلُ فَإِنَّهُ كَانَ يَحْتَاجُ إِلَى الْمُبَادَرَةِ إِلَيْهِ أَوَّلَ الْوَقْتِ، وَكَأَنَّهُ يَعْتَمِدُ عَلَى تَطْوِيلِهِ فَيَتَشَاغَلُ بِبَعْضِ شُغْلِهِ، ثُمَّ يَتَوَجَّهُ فَيُصَادِفُ أَنَّهُ تَارَةً يُدْرِكُهُ وَتَارَةً لَا يُدْرِكُهُ، فَلِذَلِكَ قَالَ لَا أَكَادُ أُدْرِكُ مِمَّا يُطَوِّلُ بِنَا أَيْ: بِسَبَبِ تَطْوِيلِهِ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَسْمِيَةِ الصُّبْحِ بِذَلِكَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ الْآتِيَةِ قَرِيبًا: عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْفَجْرِ وَإِنَّمَا خَصَّهَا بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهَا تُطَوَّلُ فِيهَا الْقِرَاءَةُ غَالِبًا؛ وَلِأَنَّ الِانْصِرَافَ مِنْهَا وَقْتَ التَّوَجُّهِ لِمَنْ لَهُ حِرْفَةٌ إِلَيْهَا.
قَوْلُهُ: (أَشَدَّ) بِالنَّصْبِ وَهُوَ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: غَضَبًا أَشَدَّ، وَسَبَبُهُ إِمَّا لِمُخَالَفَةِ الْمَوْعِظَةِ، أَوْ لِلتَّقْصِيرِ فِي تَعَلُّمِ مَا يَنْبَغِي تَعَلُّمُهُ، كَذَا قَالَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ،
وَتَعَقَّبَهُ تِلْمِيذُهُ أَبُو الْفَتْحِ الْيَعْمُرِيُّ بِأَنَّهُ يُتَوَقَّفُ عَلَى تَقَدُّمِ الْإِعْلَامِ بِذَلِكَ، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا ظَهَرَ مِنَ الْغَضَبِ لِإِرَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِمَا يُلْقِيهِ لِأَصْحَابِهِ لِيَكُونُوا مِنْ سَمَاعِهِ عَلَى بَالٍ؛ لِئَلَّا يَعُودَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ إِلَى مِثْلِهِ. وَأَقُولُ: هَذَا أَحْسَنُ فِي الْبَاعِثِ عَلَى أَصْلِ إِظْهَارِ الْغَضَبِ، أَمَّا كَوْنُهُ أَشَدَّ فَالِاحْتِمَالُ الثَّانِي أَوْجَهُ، وَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ التَّعَقُّبُ الْمَذْكُورُ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ) فِيهِ تَفْسِيرٌ لِلْمُرَادِ بِالْفِتْنَةِ فِي قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ: أَفَتَّانٌ أَنْتَ؟ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ قِصَّةُ أُبَيٍّ هَذِهِ بَعْدَ قِصَّةِ مُعَاذٍ، فَلِهَذَا أَتَى بِصِيغَةِ الْجَمْعِ. وَفِي قِصَّةِ مُعَاذٍ وَاجَهَهُ وَحْدَهُ بِالْخِطَابِ، وَكَذَا ذَكَرَ فِي هَذَا الْغَضَبِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي قِصَّةِ مُعَاذٍ، وَبِهَذَا يَتَوَجَّهُ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ لِابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ.
قَوْلُهُ: (فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى) مَا زَائِدَةٌ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ: فَمَنْ أَمَّ النَّاسَ.
قَوْلُهُ: (فَلْيُخَفِّفْ) قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: التَّطْوِيلُ وَالتَّخْفِيفُ مِنَ الْأُمُورِ الْإِضَافِيَّةِ فَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ خَفِيفًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَادَةِ قَوْمٍ، طَوِيلًا بِالنِّسْبَةِ لِعَادَةِ آخَرِينَ. قَالَ: وَقَوْلُ الْفُقَهَاءِ: لَا يَزِيدُ الْإِمَامُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ عَلَى ثَلَاثِ تَسْبِيحَاتٍ، لَا يُخَالِفُ مَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ رَغْبَةَ الصَّحَابَةِ فِي الْخَيْرِ تَقْتَضِي أَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ تَطْوِيلًا، قُلْتُ: وَأَوْلَى مَا أُخِذَ حَدُّ التَّخْفِيفِ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: أَنْتَ إِمَامُ قَوْمِكَ، وَأَقْدِرِ الْقَوْمَ بِأَضْعَفِهِمْ إِسْنَادُهُ حَسَنٌ وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ.
قَوْلُهُ: (فَإِنَّ فِيهِمْ) فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ: فَإِنَّ خَلْفَهُ، وَهُوَ تَعْلِيلُ الْأَمْرِ الْمَذْكُورِ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ مَتَى لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مُتَّصِفٌ بِصِفَةٍ مِنَ الْمَذْكُورَاتِ لَمْ يَضُرَّ التَّطْوِيلُ، وَقَدْ قَدَّمْتُ مَا يَرُدُّ عَلَيْهِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ مِنْ إِمْكَانِ مَجِيءِ مَنْ يَتَّصِفُ بِإِحْدَاهَا، وَقَالَ الْيَعْمُرِيُّ: الْأَحْكَامُ إِنَّمَا تُنَاطُ بِالْغَالِبِ لَا بِالصُّورَةِ النَّادِرَةِ، فَيَنْبَغِي لِلْأَئِمَّةِ التَّخْفِيفُ مُطْلَقًا. قَالَ: وَهَذَا كَمَا شُرِعَ الْقَصْرُ فِي صَلَاةِ الْمُسَافِرِ وَعُلِّلَ بِالْمَشَقَّةِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُشْرَعُ وَلَوْ لَمْ يَشُقَّ عَمَلًا بِالْغَالِبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي مَا يَطْرَأُ عَلَيْهِ، وَهُنَا كَذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (الضَّعِيفُ وَالْكَبِيرُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ فِي الْعِلْمِ: فَإِنَّ فِيهِمُ الْمَرِيضَ وَالضَّعِيفَ وَكَأَنَّ الْمُرَادَ بِالضَّعِيفِ هُنَا الْمَرِيضُ، وَهُنَاكَ مَنْ يَكُونُ ضَعِيفًا فِي خِلْقَتِهِ كَالنَّحِيفِ وَالْمُسِنِّ، وَسَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ مَزِيدُ قَوْلٍ فِيهِ.
62 - بَاب إِذَا صَلَّى لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ
703 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ؛ فَإِنَّ مِنْهُمْ الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ وَالْكَبِيرَ، وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا صَلَّى لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ يُرِيدُ أَنَّ عُمُومَ الْأَمْرِ بِالتَّخْفِيفِ مُخْتَصٌّ بِالْأَئِمَّةِ، فَأَمَّا الْمُنْفَرِدُ فَلَا حَجْرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ. لَكِنِ اخْتُلِفَ فِيمَا إِذَا أَطَالَ الْقِرَاءَةَ حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ كَمَا سَنَذْكُرُهُ.
قَوْلُهُ: (فَإِنَّ فِيهِمْ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ: فَإِنَّ مِنْهُمْ.
قَوْلُهُ: (الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ) الْمُرَادُ بِالضَّعِيفِ هُنَا ضَعِيفُ الْخِلْقَةِ، وَبِالسَّقِيمِ مَنْ بِهِ مَرَضٌ، زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ: وَالصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ وَزَادَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ: وَالْحَامِلَ وَالْمُرْضِعَ وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: وَالْعَابِرَ السَّبِيلَ وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ الْمَاضِي: وَذَا الْحَاجَةِ وَهِيَ أَشْمَلُ الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ.
قَوْلُهُ: (فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ) وَلِمُسْلِمٍ: فَلْيُصَلِّ كَيْفَ شَاءَ أَيْ: مُخَفِّفًا أَوْ مُطَوِّلًا،
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ إِطَالَةِ الْقِرَاءَةِ وَلَوْ خَرَجَ الْوَقْتُ، وَهُوَ الْمُصَحَّحُ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ يُعَارِضُهُ عُمُومُ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ: إِنَّمَا التَّفْرِيطُ أَنْ يُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الْأُخْرَى أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَإِذَا تَعَارَضَتْ مَصْلَحَةُ الْمُبَالَغَةِ فِي الْكَمَالِ بِالتَّطْوِيلِ، وَمَفْسَدَةُ إِيقَاعِ الصَّلَاةِ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا كَانَتْ مُرَاعَاةُ تَرْكِ الْمَفْسَدَةِ أَوْلَى، وَاسْتُدِلَّ بِعُمُومِهِ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ تَطْوِيلِ الِاعْتِدَالِ وَالْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ.
63 - بَاب مَنْ شَكَا إِمَامَهُ إِذَا طَوَّلَ وَقَالَ أَبُو أُسَيْدٍ: طَوَّلْتَ بِنَا يَا بُنَيَّ
704 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْفَجْرِ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا فُلَانٌ فِيهَا، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مَا رَأَيْتُهُ غَضِبَ فِي مَوْضِعٍ كَانَ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَمَنْ أَمَّ النَّاسَ فَلْيَتَجَوَّزْ؛ فَإِنَّ خَلْفَهُ الضَّعِيفَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ.
705 -
حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ: قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ قَالَ: أَقْبَلَ رَجُلٌ بِنَاضِحَيْنِ وَقَدْ - جَنَحَ اللَّيْلُ - فَوَافَقَ مُعَاذًا يُصَلِّي، فَتَرَكَ نَاضِحَهُ وَأَقْبَلَ إِلَى مُعَاذٍ، فَقَرَأَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ - أَوْ النِّسَاءِ - فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ، وَبَلَغَهُ أَنَّ مُعَاذًا نَالَ مِنْهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَشَكَا إِلَيْهِ مُعَاذًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَا مُعَاذُ، أَفَتَّانٌ أَنْتَ؟ - أَوْ: أَفَاتِنٌ؟ - ثَلَاثَ مِرَارٍ، فَلَوْلَا صَلَّيْتَ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى؛ فَإِنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَكَ الْكَبِيرُ وَالضَّعِيفُ وَذُو الْحَاجَةِ. أَحْسِبُ هَذَا فِي الْحَدِيثِ.
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَتَابَعَهُ سَعِيدُ بْنُ مَسْرُوقٍ وَمِسْعَرٌ وَالشَّيْبَانِيُّ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ شَكَا إِمَامَهُ إِذَا طَوَّلَ) فِيهِ حَدِيثُ أَبِي مَسْعُودٍ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي التَّرْجَمَةِ، وَكَذَا حَدِيثُ جَابِرٍ، وَالتَّعْلِيقُ عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ وَهُوَ الْأَنْصَارِيُّ وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ رِوَايَةِ الْمُنْذِرِ بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ قَالَ: كَانَ أَبِي يُصَلِّي خَلْفِي، فَرُبَّمَا قَالَ: يَا بُنَيَّ طَوَّلْتَ بِنَا الْيَوْمَ، وَاسْتُفِيدَ مِنْهُ تَسْمِيَةُ الِابْنِ الْمَذْكُورِ، وَفِيهِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ كَرِهَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَؤُمَّ أَبَاهُ كَعَطَاءٍ، وَرَأَيْتُ بِخَطِّ الْبَدْرِ الزَّرْكَشِيِّ أَنَّهُ رَأَى فِي بَعْضِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ: وَكَرِهَ عَطَاءٌ أَنْ يَؤُمَّ الرَّجُلُ أَبَاهُ، فَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ فَقَدْ وَصَلَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ هَذَا التَّعْلِيقَ، وَكَأَنَّ الْمُنْذِرَ كَانَ إِمَامًا رَاتِبًا فِي الْمَسْجِدِ.
(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي: أَبُو أَسِيدٍ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَالصَّوَابُ الضَّمُّ كَمَا لِلْبَاقِينَ.
قَالَ عَمْرٌو وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مِقْسَمٍ وَأَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ: قَرَأَ مُعَاذٌ فِي الْعِشَاءِ بِالْبَقَرَةِ، وَتَابَعَهُ الْأَعْمَشُ عَنْ مُحَارِبٍ.
قَوْلُهُ: فِي حَدِيثِ مُحَارِبٍ، عَنْ جَابِرٍ:(أَقْبَلَ رَجُلٌ بِنَاضِحَيْنِ) النَّاضِحُ بِالنُّونِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ: مَا اسْتُعْمِلَ مِنَ الْإِبِلِ فِي سَقْيِ النَّخْلِ وَالزَّرْعِ.
قَوْلُهُ: (وَقَدْ جَنَحَ اللَّيْلُ) أَيْ: أَقْبَلَ بِظُلْمَتِهِ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ أَنَّ الصَّلَاةَ الْمَذْكُورَةَ كَانَتِ الْعِشَاءَ، كَمَا تَقَدَّمَ.
قَوْلُهُ: (بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ أَوِ النِّسَاءِ) زَادَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، عَنْ شُعْبَةَ شَكَّ مُحَارِبٌ، وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الشَّكَّ فِيهِ مِنْ جَابِرٍ.
قَوْلُهُ: (فَلَوْلَا صَلَّيْتَ) أَيْ: فَهَلَّا صَلَّيْتَ.
قَوْلُهُ: (فَإِنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَكَ) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، فَكَانَ هَذَا هُوَ الْحَامِلُ لِمَنْ وَحَّدَ بَيْنَ
الْقِصَّتَيْنِ، لَكِنْ فِي ثُبُوتِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ نَظَرٌ؛ لِقَوْلِهِ بَعْدَهَا: (أَحْسَبُ هَذَا فِي الْحَدِيثِ يَعْنِي هَذِهِ الْجُمْلَةَ الْأَخِيرَةَ فَإِنَّهُ يُصَلِّي إِلَخْ وَقَائِلُ ذَلِكَ هُوَ شُعْبَةُ الرَّاوِي عَنْ مُحَارِبٍ، وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ شُعْبَةَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَارِبٍ عَنْهُ بِدُونِهَا، وَكَذَا أَصْحَابُ جَابِرٍ.
قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ سَعِيدُ بْنُ مَسْرُوقٍ) هُوَ وَالِدُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَرِوَايَتُهُ هَذِهِ وَصَلَهَا أَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْهُ، وَمُتَابَعَةُ مِسْعَرٍ وَصَلَهَا السَّرَّاجُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ عَنْهُ، وَمُتَابَعَةُ الشَّيْبَانِيِّ وَهُوَ أَبُو إِسْحَاقَ وَصَلَهَا الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِهِ، كُلُّهُمْ عَنْ مُحَارِبٍ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ تَابَعُوا شُعْبَةَ، عَنْ مُحَارِبٍ فِي أَصْلِ الْحَدِيثِ لَا فِي جَمِيعِ أَلْفَاظِهِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ عَمْرٌو) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ رِوَايَتُهُ قَبْلُ بِبَابَيْنِ، وَرِوَايَةُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِقْسَمٍ وَصَلَهَا ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْهُ وَهِيَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ بِاخْتِصَارٍ، وَرِوَايَةُ أَبِي الزُّبَيْرِ وَصَلَهَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْهُ، وَهِيَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ عَنْهُ، لَكِنْ لَمْ يُعَيِّنْ أَنَّ السُّورَةَ الْبَقَرَةُ.
قَوْلُهُ: (وَتَابَعَهُ الْأَعْمَشُ، عَنْ مُحَارِبٍ) أَيْ: تَابَعَ شُعْبَةَ، وَرِوَايَتُهُ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُحَارِبٍ، وَأَبِي صَالِحٍ كِلَاهُمَا عَنْ جَابِرٍ بِطُولِهِ، وَقَالَ فِيهِ: فَيُطَوِّلُ بِهِمْ مُعَاذٌ وَلَمْ يُعَيِّنِ السُّورَةَ.
64 - بَاب الْإِيجَازِ فِي الصَّلَاةِ وَإِكْمَالِهَا
706 -
حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُوجِزُ الصَّلَاةَ وَيُكْمِلُهَا
قَوْلُهُ: (بَابُ الْإِيجَازِ فِي الصَّلَاةِ وَإِكْمَالِهَا) ثَبَتَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ عِنْدَ الْمُسْتَمْلِي وَكَرِيمَةَ، وَكَذَا ذَكَرَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَسَقَطَتْ لِلْبَاقِينَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ سُقُوطِهَا فَمُنَاسَبَةُ حَدِيثِ أَنَسٍ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ مَنْ سَلَكَ طَرِيقَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْإِيجَازِ وَالْإِتْمَامِ لَا يُشْكَى مِنْهُ تَطْوِيلٌ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ: كَانُوا - أَيِ: الصَّحَابَةُ - يُتِمُّونَ وَيُوجِزُونَ وَيُبَادِرُونَ الْوَسْوَسَةَ فَبَيَّنَ الْعِلَّةَ فِي تَخْفِيفِهِمْ؛ وَلِهَذَا عَقَّبَ الْمُصَنِّفُ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ بِالْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ تَخْفِيفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ لِهَذَا السَّبَبِ؛ لِعِصْمَتِهِ مِنَ الْوَسْوَسَةِ بَلْ كَانَ يُخَفِّفُ عِنْدَ حُدُوثِ أَمْرٍ يَقْتَضِيهِ كَبُكَاءِ صَبِيٍّ.
قَوْلُهُ: (عَبْدُ الْعَزِيزِ) هُوَ ابْنُ صُهَيْبٍ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ. وَالْمُرَادُ بِالْإِيجَازِ مَعَ الْإِكْمَالِ الْإِتْيَانُ بِأَقَلِّ مَا يُمْكِنُ مِنَ الْأَرْكَانِ وَالْأَبْعَاضِ.
65 - مَنْ أَخَفَّ الصَّلَاةَ عِنْدَ بُكَاءِ الصَّبِيِّ
707 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى قَالَ: أَخْبَرَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنِّي لَأَقُومُ فِي الصَّلَاةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي؛ كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ. تَابَعَهُ بِشْرُ بْنُ بَكْرٍ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَبَقِيَّةُ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ.
[الحديث 707 - طرفه في: 868]
708 -
حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ إِمَامٍ قَطُّ أَخَفَّ صَلَاةً وَلَا أَتَمَّ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ وَإِنْ كَانَ لَيَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ
فَيُخَفِّفُ مَخَافَةَ أَنْ تُفْتَنَ أُمُّهُ.
709 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنِّي لَأَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ وَأَنَا أُرِيدُ إِطَالَتَهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي؛ مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ.
[الحديث 709 - طرفه في 710]
710 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنِّي لَأَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ فَأُرِيدُ إِطَالَتَهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ. وَقَالَ مُوسَى: حَدَّثَنَا أَبَانُ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، حَدَّثَنَا أَنَسٌ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، مِثْلَهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أَخَفَّ الصَّلَاةَ عِنْدَ بُكَاءِ الصَّبِيِّ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: التَّرَاجِمُ السَّابِقَةُ بِالتَّخْفِيفِ تَتَعَلَّقُ بِحَقِّ الْمَأْمُومِينَ، وَهَذِهِ التَّرْجَمَةُ تَتَعَلَّقُ بِقَدْرٍ زَائِدٍ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ مَصْلَحَةُ غَيْرِ الْمَأْمُومِ، لَكِنْ حَيْثُ تَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ) فِي رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ بَكْرٍ الْآتِيَةِ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ: حَدَّثَنِي يَحْيَى.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ سَمَاعَةَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ.
قَوْلُهُ: (إِنِّي لَأَقُومُ فِي الصَّلَاةِ أُرِيدُ) فِي رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ بَكْرٍ: لَأَقُومُ إِلَى الصَّلَاةِ وَأَنَا أُرِيدُ.
قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ بِشْرُ بْنُ بَكْرٍ) هِيَ مَوْصُولَةٌ عِنْدَ الْمُؤَلِّفِ فِي بَابِ خُرُوجِ النِّسَاءِ إِلَى الْمَسَاجِدِ قُبَيْلَ كِتَابِ الْجُمُعَةِ، وَمُتَابَعَةُ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَصَلَهَا النَّسَائِيُّ، وَمُتَابَعَةُ بَقِيَّةَ وَهُوَ ابْنُ الْوَلِيدِ لَمْ أَقِفْ عَلَيْهَا، وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ إِدْخَالِ الصِّبْيَانِ الْمَسَاجِدِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الصَّبِيُّ كَانَ مُخَلَّفًا فِي بَيْتٍ يَقْرُبُ مِنَ الْمَسْجِدِ بِحَيْثُ يُسْمَعُ بُكَاؤُهُ. وَعَلَى جَوَازِ صَلَاةِ النِّسَاءِ فِي الْجَمَاعَةِ مَعَ الرِّجَالِ، وَفِيهِ شَفَقَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَصْحَابِهِ، وَمُرَاعَاةُ أَحْوَالِ الْكَبِيرِ مِنْهُمْ وَالصَّغِيرِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ: ابْنُ أَبِي نَمِرٍ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ غَيْرُ خَالِدٍ فَهُوَ كُوفِيٌّ سَكَنَ الْمَدِينَةَ.
قَوْلُهُ: (أَخَفَّ صَلَاةٍ وَلَا أَتَمَّ) إِلَى هُنَا أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، مِنْ رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شَرِيكٍ، وَوَافَقَ سُلَيْمَانَ بْنَ بِلَالٍ عَلَى تَكْمِلَتِهِ أَبُو ضَمْرَةَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ.
قَوْلُهُ: (فَيُخَفِّفُ) بَيَّنَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ مَحَلَّ التَّخْفِيفِ وَلَفْظُهُ: فَيَقْرَأُ بِالسُّورَةِ الْقَصِيرَةِ وَبَيَّنَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ مِقْدَارَهَا وَلَفْظُهُ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الْأَوْلَى بِسُورَةٍ طَوِيلَةٍ، فَسَمِعَ بُكَاءَ صَبِيٍّ فَقَرَأَ بِالثَّانِيَةِ بِثَلَاثِ آيَاتٍ وَهَذَا مُرْسَلٌ.
قَوْلُهُ: (أَنْ تُفْتَنَ أُمُّهُ) أَيْ: تَلْتَهِيَ عَنْ صَلَاتِهَا؛ لِاشْتِغَالِ قَلْبِهَا بِبُكَائِهِ، زَادَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ مُرْسَلِ عَطَاءٍ: أَوْ تَتْرُكَهُ فَيَضِيعَ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سَعِيدٌ) هُوَ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ، وَكَذَا مَا بَعْدَهُ مَوْصُولًا وَمُعَلَّقًا.
قَوْلُهُ: (وَأَنَا أُرِيدُ إِطَالَتَهَا) فِيهِ أَنَّ مَنْ قَصَدَ فِي الصَّلَاةِ الْإِتْيَانَ بِشَيْءٍ مُسْتَحَبٍّ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ، خِلَافًا لِأَشْهَبَ حَيْثُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ مَنْ نَوَى التَّطَوُّعَ قَائِمًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُتِمَّهُ جَالِسًا.
قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ: (مِمَّا أَعْلَمُ) وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: لِمَا أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَجْدِ أُمِّهِ) أَيْ: حُزْنِهَا. قَالَ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ وَجَدَ يَجِدُ وَجْدًا - بِالسُّكُونِ وَالتَّحْرِيكِ - حَزِنَ، وَكَأَنَّ ذِكْرَ الْأُمِّ هَنَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، وَإِلَّا فَمَنْ كَانَ فِي مَعْنَاهَا مُلْتَحِقٌ بِهَا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُوسَى) أَيِ: ابْنُ إِسْمَاعِيلَ وَهُوَ أَبُو سَلَمَةَ التَّبُوذَكِيُّ، وَأَبَانُ هَذَا ابْنُ يَزِيدَ الْعَطَّارُ، وَالْمُرَادُ
بِهَذَا بَيَانُ سَمَاعِ قَتَادَةَ لَهُ مِنْ أَنَسٍ، وَرِوَايَتُهُ هَذِهِ وَصَلَهَا السَّرَّاجُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي سَلَمَةَ. وَوَقَعَ التَّصْرِيحُ أَيْضًا عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ رِوَايَةِ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: احْتَجَّ بِهِ مَنْ قَالَ: يَجُوزُ لِلْإِمَامِ إِطَالَةُ الرُّكُوعِ إِذَا سَمِعَ بِحِسٍّ دَاخِلٍ لِيُدْرِكَهُ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ التَّخْفِيفَ نَقِيضُ التَّطْوِيلِ، فَكَيْفَ يُقَاسُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: ثُمَّ إِنَّ فِيهِ مُغَايَرَةٌ لِلْمَطْلُوبِ؛ لِأَنَّ فِيهِ إِدْخَالُ مَشَقَّةٍ عَلَى جَمَاعَةٍ لِأَجْلِ وَاحِدٍ، انْتَهَى. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: مَحَلُّ ذَلِكَ مَا لَمْ يَشُقَّ عَلَى الْجَمَاعَةِ، وَبِذَلِكَ قَيَّدَهُ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ بَطَّالٍ سَبَقَهُ إِلَيْهِ الْخَطَّابِيُّ، وَوَجَّهَهُ بِأَنَّهُ إِذَا جَازَ التَّخْفِيفُ لِحَاجَةٍ مِنْ حَاجَاتِ الدُّنْيَا كَانَ التَّطْوِيلُ لِحَاجَةٍ مِنْ حَاجَاتِ الدِّينِ أَجْوَزُ، وَتَعَقَّبَهُ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّ فِي التَّطْوِيلِ هُنَا زِيَادَةَ عَمَلٍ فِي الصَّلَاةِ غَيْرَ مَطْلُوبٍ، بِخِلَافِ التَّخْفِيفِ؛ فَإِنَّهُ مَطْلُوبٌ، انْتَهَى. وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَتَفْصِيلٌ، وَأَطْلَقَ النَّوَوِيُّ عَنِ الْمَذْهَبِ اسْتِحْبَابَ ذَلِكَ، وَفِي التَّجْرِيدِ لِلْمَحَامِلِيِّ نَقَلَ كَرَاهِيَّتَهُ عَنِ الْجَدِيدِ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: أَخْشَى أَنْ يَكُونَ شِرْكًا.
66 - بَاب إِذَا صَلَّى ثُمَّ أَمَّ قَوْمًا
711 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَبُو النُّعْمَانِ قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ مُعَاذٌ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ يَأْتِي قَوْمَهُ فَيُصَلِّي بِهِمْ.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا صَلَّى ثُمَّ أَمَّ قَوْمًا) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: لَمْ يَذْكُرْ جَوَابَ إِذَا جَرْيًا عَلَى عَادَتِهِ فِي تَرْكِ الْجَزْمِ بِالْحُكْمِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ قَرِيبًا
وَتَقَدَّمَ الْحَدِيثُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَمْرٍو.
67 - بَاب مَنْ أَسْمَعَ النَّاسَ تَكْبِيرَ الْإِمَامِ
712 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَمَّا مَرِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَتَاهُ بِلَالٌ يُوذِنُهُ بِالصَّلَاةِ، فَقَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ، قُلْتُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ، إِنْ يَقُمْ مَقَامَكَ يَبْكِي فَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِرَاءَةِ، فَقَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ، فَقُلْتُ مِثْلَهُ، فَقَالَ - فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ -: إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ، مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ، فَصَلَّى، وَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَخُطُّ بِرِجْلَيْهِ الْأَرْضَ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ ذَهَبَ يَتَأَخَّرُ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ أَنْ صَلِّ، فَتَأَخَّرَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه وَقَعَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى جَنْبِهِ، وَأَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُ النَّاسَ التَّكْبِيرَ. تَابَعَهُ مُحَاضِرٌ عَنْ الْأَعْمَشِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أَسْمَعَ النَّاسَ تَكْبِيرَ الْإِمَامِ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي بَابِ حَدِّ الْمَرِيضِ أَنْ يَشْهَدَ الْجَمَاعَةَ، وَالشَّاهِدُ فِيهِ قَوْلُهُ: وَأَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُ النَّاسَ التَّكْبِيرَ، وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ مُفَسِّرَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ؛ لِلْمُرَادِ بِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْمَاضِيَةِ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِصَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ
مُحَاضِرًا تَابَعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ دَاوُدَ عَلَى ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ هُنَا: إِنْ يَقُمْ مَقَامَكَ يَبْكِي، وَمُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِيهِمَا، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ إِجْرَاءِ الْمُعْتَلِّ لِمَجْرَى الصَّحِيحِ وَالِاكْتِفَاءِ بِحَذْفِ الْحَرَكَةِ، وَمِنْهُ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ:{إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} .
(تَنْبِيهٌ): سَقَطَ فِي رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ مِنْ هَذَا الْإِسْنَادِ إِبْرَاهِيمُ وَلَا بُدَّ مِنْهُ.
68 - بَاب الرَّجُلُ يَأْتَمُّ بِالْإِمَامِ، وَيَأْتَمُّ النَّاسُ بِالْمَأْمُومِ
وَيُذْكَرُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: ائْتَمُّوا بِي وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ
713 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَ بِلَالٌ يُوذِنُهُ بِالصَّلَاةِ، فَقَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ، وَإِنَّهُ مَتَى مَا يَقُمْ مَقَامَكَ لَمْ يُسْمِعِ النَّاسَ، فَلَوْ أَمَرْتَ عُمَرَ، فَقَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَقُلْتُ لِحَفْصَةَ: قُولِي لَهُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ، وَإِنَّهُ مَتَى يَقُمْ مَقَامَكَ لَا يُسْمِعُ النَّاسَ، فَلَوْ أَمَرْتَ عُمَرَ، قَالَ: إِنَّكُنَّ لَأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ، مُرُوا أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَلَمَّا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ وَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَفْسِهِ خِفَّةً، فَقَامَ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَرِجْلَاهُ تَخُطَّانِ فِي الْأَرْضِ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَلَمَّا سَمِعَ أَبُو بَكْرٍ حِسَّهُ ذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ يَتَأَخَّرُ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى جَلَسَ عَنْ يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي قَائِمًا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي قَاعِدًا، يَقْتَدِي أَبُو بَكْرٍ بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسُ مُقْتَدُونَ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه.
قَوْلُهُ: (بَابُ الرَّجُلِ يَأْتَمُّ بِالْإِمَامِ وَيَأْتَمُّ النَّاسُ بِالْمَأْمُومِ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِ مَسْرُوقٍ، وَالشَّعْبِيِّ: إِنَّ الصُّفُوفَ يَؤُمُّ بَعْضُهَا بَعْضًا، خِلَافًا لِلْجُمْهُورِ. قُلْتُ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَأْتَمُّونَ بِهِمْ فِي التَّبْلِيغِ فَقَطْ، كَمَا فَهِمَهُ بَعْضُهُمْ، بَلِ الْخِلَافُ مَعْنَوِيٌّ؛ لِأَنَّ الشَّعْبِيَّ قَالَ فِيمَنْ أَحْرَمَ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ الصَّفَّ الَّذِي يَلِيهِ رُءُوسَهُمْ مِنَ الرَّكْعَةِ: إِنَّهُ أَدْرَكَهَا، وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ رَفَعَ قَبْلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ لِبَعْضٍ أَئِمَّةٌ. انْتَهَى.
فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَرَى أَنَّهُمْ يَتَحَمَّلُونَ عَنْ بَعْضِهِمْ بَعْضَ مَا يَتَحَمَّلُهُ الْإِمَامُ، وَأَثَرُ الشَّعْبِيِّ الْأَوَّلُ وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالثَّانِي وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَلَمْ يُفْصِحِ الْبُخَارِيُّ بِاخْتِيَارِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّهُ بَدَأَ بِالتَّرْجَمَةِ لدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَيَأْتَمُّ النَّاسُ بِأَبِي بَكْرٍ أَيْ: أَنَّهُ فِي مَقَامِ الْمُبَلِّغِ، ثُمَّ ثَنَّى بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ الَّتِي أَطْلَقَ فِيهَا اقْتِدَاءَ النَّاسِ بِأَبِي بَكْرٍ، وَرَشَّحَ ظَاهِرَهَا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ الْمُعَلَّقِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يَذْهَبُ إِلَى قَوْلِ الشَّعْبِيِّ، وَيَرَى أَنَّ قَوْلَهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى: يَسْمَعُ النَّاسُ التَّكْبِيرَ، لَا يَنْفِي كَوْنَهُمْ يَأْتَمُّونَ بِهِ؛ لِأَنَّ إِسْمَاعَهُ لَهُمُ التَّكْبِيرَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ مَا يَأْتَمُّونَ بِهِ فِيهِ، وَلَيْسَ فِيهِ نَفْيٌ لِغَيْرِهِ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ رِوَايَةُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دَاوُدَ الْمَذْكُورِ وَوَكِيعٍ جَمِيعًا عَنِ الْأَعْمَشِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، قَالَ فِيهِ: وَالنَّاسُ يَأْتَمُّونَ بِأَبِي بَكْرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُهُمْ.
قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَصْحَابِهِ
تَأَخُّرًا، فَقَالَ: تَقَدَّمُوا وَائْتَمُّوا بِي، وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي نَضْرَةَ عَنْهُ.
قِيلَ: وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ؛ لِأَنَّ أَبَا نَضْرَةَ لَيْسَ عَلَى شَرْطِهِ؛ لِضَعْفٍ فِيهِ، وَهَذَا عِنْدِي لَيْسَ بِصَوَابٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ عَلَى غَيْرِ شَرْطِهِ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ عِنْدَهُ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ صَالِحًا لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ عِنْدَهُ، وَلَيْسَ هُوَ عَلَى شَرْطِ صَحِيحِهِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى شُرُوطِ الصِّحَّةِ. وَالْحَقُّ أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لَا تَخْتَصُّ بِالضَّعِيفِ بَلْ قَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا. بِخِلَافِ صِيغَةِ الْجَزْمِ فَإِنَّهَا لَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الصَّحِيحِ، وَظَاهِرُهُ يَدُلُّ لِمَذْهَبِ الشَّعْبِيِّ. وَأَجَابَ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ مَعْنَى: وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ أَيْ: يَقْتَدِي بِكُمْ مَنْ خَلْفَكُمْ مُسْتَدِلِّينَ عَلَى أَفْعَالِي بِأَفْعَالِكُمْ، قَالَ: وَفِيهِ جَوَازُ اعْتِمَادِ الْمَأْمُومِ فِي مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ الَّذِي لَا يَرَاهُ وَلَا يَسْمَعُهُ عَلَى مُبَلِّغٍ عَنْهُ أَوْ صَفٍّ قُدَّامَهُ يَرَاهُ مُتَابِعًا لِلْإِمَامِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ تَعَلَّمُوا مِنِّي أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ، وَلْيَتَعَلَّمْ مِنْكُمُ التَّابِعُونَ بَعْدَكُمْ، وَكَذَلِكَ أَتْبَاعُهُمْ إِلَى انْقِرَاضِ الدُّنْيَا.
قَوْلُهُ: (مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي) كَذَا فِيهِ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُ ابْنِ مَالِكٍ لَهُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: أَنْ يُصَلِّيَ.
قَوْلُهُ: (مَتَى يَقُومُ) كَذَا وَقَعَ لِلْأَكْثَرِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ، وَوَجَّهَهُ ابْنُ مَالِكٍ بِأَنَّهُ شَبَّهَ مَتَى بِإِذَا فَلَمْ تَجْزِمْ، كَمَا شَبَّهَ إِذَا بِمَتَى فِي قَوْلِهِ: إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا تُكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ، فَحَذَفَ النُّونَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: مَتَى مَا يَقُمْ وَلَا إِشْكَالَ فِيهَا.
قَوْلُهُ: (تَخُطَّانِ الْأَرْضَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: يَخُطَّانِ فِي الْأَرْضِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ بَقِيَّةُ مَبَاحِثِ الْحَدِيثِ فِي: بَابِ حَدِّ الْمَرِيضِ وَقَوْلُهُ فِي السَّنَدِ: الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ كَذَا لِلْجَمِيعِ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَسَقَطَ إِبْرَاهِيمُ بَيْنَ الْأَعْمَشِ، وَالْأَسْوَدِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ وَهُوَ وَهْمٌ قَالَهُ الْجَيَّانِيُّ.
69 - بَاب هَلْ يَأْخُذُ الْإِمَامُ إِذَا شَكَّ بِقَوْلِ النَّاسِ
714 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ أَبِي تَمِيمَةَ السَّخْتِيَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم انْصَرَفَ مِنْ اثْنَتَيْنِ فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ: أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ، أَمْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ؟ فَقَالَ النَّاسُ: نَعَمْ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى اثْنَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ.
715 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، فَقِيلَ: صَلَّيْتَ رَكْعَتَيْنِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ هَلْ يَأْخُذُ الْإِمَامُ إِذَا شَكَّ بِقَوْلِ النَّاسِ أَوْرَدَ فِيهِ قِصَّةَ ذِي الْيَدَيْنِ فِي السَّهْوِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي مَوْضِعِهِ. قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: أَرَادَ أَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ مَا إِذَا كَانَ الْإِمَامُ شَاكًّا، أَمَّا إِذَا كَانَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ فِعْلِ نَفْسِهِ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إِلَى أَحَدٍ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صلى الله عليه وسلم شَكَّ بِإِخْبَارِ ذِي الْيَدَيْنِ فَسَأَلَهُمْ إِرَادَةَ تَيَقُّنِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، فَلَمَّا صَدَّقُوا ذَا الْيَدَيْنِ عَلِمَ صِحَّةَ قَوْلِهِ، قَالَ: وَهَذَا الَّذِي أَرَادَ الْبُخَارِيُّ بِتَبْوِيبِهِ.
وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ بَعْدَ أَنْ حَكَى الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: حَمَلَ الشَّافِعِيُّ رُجُوعَهُ عليه الصلاة والسلام عَلَى أَنَّهُ تَذَكَّرَ فَذَكَرَ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَبَيَّنَهُ لَهُمْ لِيَرْتَفِعَ اللَّبْسُ، وَلَوْ بَيَّنَهُ لَنُقِلَ، وَمَنِ ادَّعَى ذَلِكَ فَلْيَذْكُرْهُ. قُلْتُ: قَدْ ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ قَالَ: وَلَمْ
يَسْجُدْ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ حَتَّى يَقَّنَهُ اللَّهُ ذَلِكَ.
70 - بَاب إِذَا بَكَى الْإِمَامُ فِي الصَّلَاةِ
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ: سَمِعْتُ نَشِيجَ عُمَرَ وَأَنَا فِي آخِرِ الصُّفُوفِ يَقْرَأُ: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ}
716 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ - أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي مَرَضِهِ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: قُلْتُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ إِذَا قَامَ فِي مَقَامِكَ لَمْ يُسْمِعِ النَّاسَ؛ مِنَ الْبُكَاءِ، فَمُرْ عُمَرَ فَلْيُصَلِّ، فَقَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ لِلنَّاسِ، قَالَتْ عَائِشَةُ لِحَفْصَةَ: قُولِي لَهُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ إِذَا قَامَ فِي مَقَامِكَ لَمْ يُسْمِعِ النَّاسَ؛ مِنَ الْبُكَاءِ، فَمُرْ عُمَرَ فَلْيُصَلِّ لِلنَّاسِ، فَفَعَلَتْ حَفْصَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَهْ، إِنَّكُنَّ لَأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ، مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ لِلنَّاسِ، قَالَتْ حَفْصَةُ لِعَائِشَةَ: مَا كُنْتُ لِأُصِيبَ مِنْكِ خَيْرًا.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا بَكَى الْإِمَامُ فِي الصَّلَاةِ) أَيْ: هَلْ تَفْسُدُ أَوْ لَا؟ وَالْأَثَرُ وَالْخَبَرُ اللَّذَانِ فِي الْبَابِ يَدُلَّانِ عَلَى الْجَوَازِ، وَعَنِ الشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ أَنَّ الْبُكَاءَ وَالْأَنِينَ يُفْسِدُ الصَّلَاةَ. وَعَنِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ إِنْ كَانَ لِذِكْرِ النَّارِ وَالْخَوْفِ لَمْ يُفْسِدْ، وَفِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ؛ أَصَحُّهَا إِنْ ظَهَرَ مِنْهُ حَرْفَانِ أَفْسَدَ وَإِلَّا فَلَا. ثَانِيهَا: وَحُكِيَ عَنْ نَصِّهِ فِي الْإِمْلَاءِ أَنَّهُ لَا يُفْسِدُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ، وَلَا يَكَادُ يَبِينُ مِنْهُ حَرْفٌ مُحَقَّقٌ، فَأَشْبَهَ الصَّوْتَ الْغُفْلَ. ثَالِثُهَا عَنِ الْقَفَّالِ: إِنْ كَانَ فَمُهُ مُطْبَقًا لَمْ يُفْسِدْ، وَإِلَّا أَفْسَدَ إِنْ ظَهَرَ مِنْهُ حَرْفَانِ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُتَوَلِّي. وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَقْوَى دَلِيلًا.
(فَائِدَةٌ): أَطْلَقَ جَمَاعَةٌ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الضَّحِكِ وَالْبُكَاءِ، وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: لَعَلَّ الْأَظْهَرَ فِي الضَّحِكِ الْبُطْلَانُ مُطْلَقًا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ هَتْكِ حُرْمَةِ الصَّلَاةِ، وَهَذَا أَقْوَى مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ) أَيِ: ابْنُ الْهَادِ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ كَبِيرٌ لَهُ رُؤْيَةٌ، وَلِأَبِيهِ صُحْبَةٌ.
قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ نَشِيجَ عُمَرَ) النَّشِيجُ - بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَآخِرُهُ جِيمٌ - قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: نَشَجَ الْبَاكِي يَنْشِجُ نَشِيجًا إِذَا غُصَّ بِالْبُكَاءِ فِي حَلْقِهِ مِنْ غَيْرِ انْتِحَابٍ. وَقَالَ الْهَرَوِيُّ: النَّشِيجُ صَوْتٌ مَعَهُ تَرْجِيعٌ، كَمَا يُرَدِّدُ الصَّبِيُّ بُكَاءَهُ فِي صَدْرِهِ. وَفِي الْمُحْكَمِ: هُوَ أَشَدُّ الْبُكَاءِ. وَهَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ شَدَّادٍ بِهَذَا وَزَادَ: فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عُمَرَ نَحْوَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ وَقَوْلُهُ فِيهِ: مِنَ الْبُكَاءِ أَيْ: لِأَجْلِ الْبُكَاءِ. وَفِي الْبَابِ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِنَا، وَفِي صَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ مِنَ الْبُكَاءِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ وَإِسْنَادُهُ قَوِيٌّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَوَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُسْلِمًا أَخْرَجَهُ. وَالْمِرْجَلُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْجِيمِ: الْقِدْرُ إِذَا غَلَتْ. وَالْأَزِيزُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ بَعْدَهَا زَايٌ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ زَايٌ أَيْضًا: وَهُوَ صَوْتُ الْقِدْرِ إِذَا غَلَتْ وَفِي لَفْظٍ: كَأَزِيزِ الرَّحَى.
71 - بَاب تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ عِنْدَ الْإِقَامَةِ وَبَعْدَهَا
717 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ قَالَ: سَمِعْتُ سَالِمَ
بْنَ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ.
718 -
حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَقِيمُوا الصُّفُوفَ؛ فَإِنِّي أَرَاكُمْ خَلْفَ ظَهْرِي.
[الحديث 718 - طرفه في 719، 735]
قَوْلُهُ: (بَابُ تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ عِنْدَ الْإِقَامَةِ وَبَعْدَهَا) لَيْسَ فِي حَدِيثَيِ الْبَابِ دَلَالَةٌ عَلَى تَقْيِيدِ التَّسْوِيَةِ بِمَا ذُكِرَ، لَكِنْ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ كَعَادَتِهِ، فَفِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَلِكَ عِنْدَمَا كَادَ أَنْ يُكَبِّرَ، وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا: أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا فَقَالَ.
قَوْلُهُ: (لَتُسَوُّنَّ) بِضَمِّ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ وَفَتْحِ السِّينِ وَضَمِّ الْوَاوِ الْمُشَدَّدَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ، وَلِلْمُسْتَمْلِي لَتُسَوُّونَ بِوَاوَيْنِ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: هَذِهِ اللَّامُ هِيَ الَّتِي يُتَلَقَّى بِهَا الْقَسَمُ، وَالْقَسَمُ هُنَا مُقَدَّرٌ، وَلِهَذَا أَكَّدَهُ بِالنُّونِ الْمُشَدَّدَةِ. انْتَهَى. وَسَيَأْتِي مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ قَرِيبًا إِبْرَازُ الْقَسَمِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ.
قَوْلُهُ: (أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ) أَيْ: إِنْ لَمْ تُسَوُّوا، وَالْمُرَادُ بِتَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ اعْتِدَالُ الْقَائِمِينَ بِهَا عَلَى سَمْتٍ وَاحِدٍ، أَوْ يُرَادُ بِهَا سَدُّ الْخَلَلِ الَّذِي فِي الصَّفِّ كَمَا سَيَأْتِي. وَاخْتُلِفَ فِي الْوَعِيدِ الْمَذْكُورِ فَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَالْمُرَادُ تَسْوِيَةُ الْوَجْهِ بِتَحْوِيلِ خَلْقِهِ عَنْ وَضْعِهِ بِجَعْلِهِ مَوْضِعَ الْقَفَا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَهُوَ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْوَعِيدِ فِيمَنْ رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ، وَفِيهِ مِنَ اللَّطَائِفِ وُقُوعُ الْوَعِيدِ مِنْ جِنْسِ الْجِنَايَةِ وَهِيَ الْمُخَالَفَةُ، وَعَلَى هَذَا فَهُوَ وَاجِبٌ، وَالتَّفْرِيطُ فِيهِ حَرَامٌ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي بَابِ إِثْمِ مَنْ لَمْ يُتِمَّ الصُّفُوفَ قَرِيبًا، وَيُؤَيِّدُ حَمْلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ: لَتُسَوُّنَّ الصُّفُوفَ أَوْ لَتُطْمَسَنَّ الْوُجُوهُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِثْلُ الْوَعِيدِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} وَحَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْمَجَازِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ يُوقِعُ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ وَاخْتِلَافَ الْقُلُوبِ، كَمَا تَقُولُ: تَغَيَّرَ وَجْهُ فُلَانٍ عَلَيَّ، أَيْ: ظَهَرَ لِي مِنْ وَجْهِهِ كَرَاهِيَةٌ؛ لِأَنَّ مُخَالَفَتَهُمْ فِي الصُّفُوفِ مُخَالَفَةٌ فِي ظَوَاهِرِهِمْ، وَاخْتِلَافُ الظَّوَاهِرِ سَبَبٌ لِاخْتِلَافِ الْبَوَاطِنِ. وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ بِلَفْظِ: أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَعْنَاهُ تَفْتَرِقُونَ، فَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ وَجْهًا غَيْرَ الَّذِي أَخَذَ صَاحِبُهُ؛ لِأَنَّ تَقَدُّمَ الشَّخْصِ عَلَى غَيْرِهِ مَظِنَّةُ الْكِبْرِ الْمُفْسِدِ لِلْقَلْبِ الدَّاعِي إِلَى الْقَطِيعَةِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَجْهِ إِنْ حُمِلَ عَلَى الْعُضْوِ الْمَخْصُوصِ، فَالْمُخَالَفَةُ إِمَّا بِحَسَبِ الصُّورَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ أَوِ الصِّفَةِ أَوْ جَعْلِ الْقُدَّامَ وَرَاءَ، وَإِنْ حُمِلَ عَلَى ذَاتِ الشَّخْصِ فَالْمُخَالَفَةُ بِحَسَبِ الْمَقَاصِدِ. أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْكِرْمَانِيُّ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْمُخَالَفَةِ فِي الْجَزَاءِ فَيُجَازِي الْمُسَوِّيَ بِخَيْرٍ وَمَنْ لَا يُسَوِّي بِشَرٍّ.
قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ: (أَقِيمُوا) أَيْ: عَدِّلُوا، يُقَالُ: أَقَامَ الْعُودَ إِذَا عَدَلَهُ وَسَوَّاهُ.
قَوْلُهُ: (فَإِنِّي أَرَاكُمْ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى سَبَبِ الْأَمْرِ بِذَلِكَ، أَيْ: إِنَّمَا أَمَرْتُ بِذَلِكَ؛ لِأَنِّي تَحَقَّقْتُ مِنْكُمْ خِلَافَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ فِي بَابِ عِظَةِ الْإِمَامِ النَّاسَ فِي إِتْمَامِ الصَّلَاةِ وَأَنَّ الْمُخْتَارَ حَمْلُهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا خَلْقُ عِلْمٍ ضَرُورِيٍّ لَهُ بِذَلِكَ وَنَحْوُ ذَلِكَ. قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: لَا حَاجَةَ إِلَى تَأْوِيلِهَا؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى تَعْطِيلِ لَفْظِ الشَّارِعِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: بَلْ حَمْلُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةً فِي كَرَامَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
72 - بَاب إِقْبَالِ الْإِمَامِ عَلَى النَّاسِ عِنْدَ تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ
719 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا زَائِدَةُ بْنُ قُدَامَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، حَدَّثَنَا أَنَسٌ قَالَ أُقِيمَتِ: الصَّلَاةُ فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ وَتَرَاصُّوا؛ فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِقْبَالِ الْإِمَامِ عَلَى النَّاسِ عِنْدَ تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ الَّذِي فِي الْبَابِ قَبْلَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو) هُوَ مِنْ قُدَمَاءِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَرَوَى لَهُ هُنَا بِوَاسِطَةٍ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا نَزَلَ فِيهِ لِمَا وَقَعَ فِي الْإِسْنَادِ مِنْ تَصْرِيحِ حُمَيْدٍ بِتَحْدِيثِ أَنَسٍ لَهُ فَأَمِنَ بِذَلِكَ تَدْلِيسَهُ.
قَوْلُهُ: (وَتَرَاصُّوا) بِتَشْدِيدِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: تَلَاصَقُوا بِغَيْرِ خَلَلٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا لِقَوْلِهِ: أَقِيمُوا وَالْمُرَادُ: بِأَقِيمُوا سَوُّوا كَمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنْ حُمَيْدٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ بَدَلَ أَقِيمُوا وَاعْتَدِلُوا، وَفِيهِ جَوَازُ الْكَلَامِ بَيْنَ الْإِقَامَةِ وَالدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ، وَفِيهِ مُرَاعَاةُ الْإِمَامِ لِرَعِيَّتِهِ وَالشَّفَقَةُ عَلَيْهِمْ وَتَحْذِيرُهُمْ مِنَ الْمُخَالَفَةِ.
73 - بَاب الصَّفِّ الْأَوَّلِ
720 -
حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الشُّهَدَاءُ: الْغَرِقُ، وَالْمَطْعُونُ، وَالْمَبْطُونُ، وَالْهَدِمُ.
721 -
وَقَالَ: وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ لَاسْتَهَمُوا.
قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّفِّ الْأَوَّلِ) وَالْمُرَادُ بِهِ مَا يَلِي الْإِمَامَ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: أَوَّلُ صَفٍّ تَامٍّ يَلِي الْإِمَامَ، لَا مَا تَخَلَّلَهُ شَيْءٌ كَمَقْصُورَةٍ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ مَنْ سَبَقَ إِلَى الصَّلَاةِ وَلَوْ صَلَّى آخِرَ الصُّفُوفِ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَاحْتَجَّ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ مَنْ جَاءَ أَوَّلَ الْوَقْتِ وَلَمْ يَدْخُلْ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ فَهُوَ أَفْضَلُ مِمَّنْ جَاءَ فِي آخِرِهِ وَزَاحَمَ إِلَيْهِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي ذَلِكَ كَمَا لَا يَخْفَى. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ، وَبِهِ صَرَّحَ الْمُحَقِّقُونَ، وَالْقَوْلَانِ الْآخَرَانِ غَلَطٌ صَرِيحٌ. انْتَهَى.
وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْقَوْلِ الثَّانِي لَحَظَ أَنَّ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إِلَى الْكَامِلِ، وَمَا فِيهِ خَلَلٌ فَهُوَ نَاقِصٌ، وَصَاحِبُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ لَحَظَ الْمَعْنَى فِي تَفْضِيلِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ دُونَ مُرَاعَاةِ لَفْظِهِ، وَإِلَى الْأَوَّلِ أَشَارَ الْبُخَارِيُّ؛ لِأَنَّهُ تَرْجَمَ بِالصَّفِّ الْأَوَّلِ، وَحَدِيثُ الْبَابِ فِيهِ: الصَّفُّ الْمُقَدَّمُ وَهُوَ الَّذِي لَا يَتَقَدَّمُهُ إِلَّا الْإِمَامُ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: فِي الْحَضِّ عَلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ الْمُسَارَعَةُ إِلَى خَلَاصِ الذِّمَّةِ، وَالسَّبْقُ لِدُخُولِ الْمَسْجِدِ، وَالْقُرْبُ مِنَ الْإِمَامِ، وَاسْتِمَاعُ قِرَاءَتِهِ وَالتَّعَلُّمُ مِنْهُ، وَالْفَتْحُ عَلَيْهِ، وَالتَّبْلِيغُ عَنْهُ، وَالسَّلَامَةُ مِنِ اخْتِرَاقِ الْمَارَّةِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَسَلَامَةُ الْبَالِ مِنْ رُؤْيَةِ مَنْ يَكُونُ قُدَّامَهُ، وَسَلَامَةُ مَوْضِعِ سُجُودِهِ مِنْ أَذْيَالِ الْمُصَلِّينَ.
74 - بَاب إِقَامَةُ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ
722 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ، فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ، وَأَقِيمُوا الصَّفَّ فِي الصَّلَاةِ؛ فَإِنَّ إِقَامَةَ الصَّفِّ مِنْ حُسْنِ الصَّلَاةِ.
[الحديث 722 - طرفه في 734]
قَوْلُهُ: (بَابُ إِقَامَةِ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابِ إِيجَابِ التَّكْبِيرِ قَرِيبًا، وَفِي آخِرِهِ هُنَا وَأَقِيمُوا الصُّفُوفَ، إِلَخْ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ، وَقَدْ أَفْرَدَهُ مُسْلِمٌ، وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ الْمَذْكُورَةِ عَمَّا قَبْلَهُ فَجَعَلُوهُ حَدِيثَيْنِ.
قَوْلُهُ: (مِنْ حُسْنِ الصَّلَاةِ) قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: إِنَّمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّرْجَمَةِ: مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ وَلَفْظُ الْحَدِيثِ: مِنْ حُسْنِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ الْمُرَادُ بِالْحُسْنِ هُنَا، وَأَنَّهُ لَا يَعْنِي بِهِ الظَّاهِرَ الْمَرْئِيَّ مِنَ التَّرْتِيبِ، بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْحُسْنُ الْحُكْمِيُّ بِدَلِيلِ حَدِيثِ أَنَسٍ وَهُوَ الثَّانِي مِنْ حَدِيثَيِ الْبَابِ حَيْثُ عَبَّرَ بِقَوْلِهِ: مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ.
723 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: سَوُّوا صُفُوفَكُمْ؛ فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ.
قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ: (فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ) وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ: الصَّفِّ بِالْإِفْرَادِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ.
قَوْلُهُ: (مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ) هَكَذَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ، وَذَكَرَهُ غَيْرُهُ عَنْهُ بِلَفْظِ: مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ، كَذَلِكَ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنِ ابْنِ حُذَيْفَةَ
(1)
، والْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ الدَّارِمِيِّ، كِلَاهُمَا عَنْهُ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ وَغَيْرِهِ، وَكَذَا مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ جَمَاعَةٍ عَنْ شُعْبَةَ، وَزَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ شُعْبَةَ يَقُولُ: دَاهَنْتُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، لَمْ أَسْأَلْ قَتَادَةَ: أَسَمِعْتَهُ مِنْ أَنَسٍ أَمْ لَا؟ انْتَهَى. وَلَمْ أَرَهُ عَنْ قَتَادَةَ إِلَّا مُعَنْعَنًا، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي إِيرَادِ الْبُخَارِيِّ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَعَهُ فِي الْبَابِ تَقْوِيَةً لَهُ. وَاسْتَدَلَّ ابْنُ حَزْمٍ بِقَوْلِهِ: إِقَامَةَ الصَّلَاةِ عَلَى وُجُوبِ تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ، قَالَ: لِأَنَّ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ وَاجِبَةٌ. وَكُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْوَاجِبِ وَاجِبٌ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الرُّوَاةَ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى هَذِهِ الْعِبَارَةِ. وَتَمَسَّكَ ابْنُ بَطَّالٍ بِظَاهِرِ لَفْظِ حَدِيثِ أَبِيَ هُرَيْرَةَ، فَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ التَّسْوِيَةَ سُنَّةٌ، قَالَ: لِأَنَّ حُسْنَ الشَّيْءِ زِيَادَةٌ عَلَى تَمَامِهِ، وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ رِوَايَةَ: مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ.
وَأَجَابَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فَقَالَ: قَدْ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ: تَمَامِ الصَّلَاةِ الِاسْتِحْبَابُ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الشَّيْءِ فِي الْعُرْفِ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ الَّتِي لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِهَا، وَإِنْ كَانَ يُطْلَقُ بِحَسَبِ الْوَضْعِ عَلَى بَعْضِ مَا لَا تَتِمُّ الْحَقِيقَةُ إِلَّا بِهِ، كَذَا قَالَ، وَهَذَا الْأَخْذُ بَعِيدٌ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الشَّارِعِ لَا يُحْمَلُ إِلَّا عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْوَضْعُ فِي اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى الْعُرْفِ إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ عُرْفُ الشَّارِعِ لَا الْعُرْفُ الْحَادِثُ.
(تَنْبِيهٌ): لَفْظُ التَّرْجَمَةِ أَوْرَدَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ.
75 - بَاب إِثْمِ مَنْ لَمْ يُتِمَّ الصُّفُوفَ
724 -
حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى قَالَ: أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ الطَّائِيُّ، عَنْ بُشَيْرِ
(1)
في مخطوطة الرياض "عن أبي خليفة".
بْنِ يَسَارٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَقِيلَ لَهُ: مَا أَنْكَرْتَ مِنَّا مُنْذُ يَوْمِ عَهِدْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: مَا أَنْكَرْتُ شَيْئًا إِلَّا أَنَّكُمْ لَا تُقِيمُونَ الصُّفُوفَ.
وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ: قَدِمَ عَلَيْنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ الْمَدِينَةَ
…
بِهَذَا.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِثْمِ مَنْ لَمْ يُتِمَّ الصُّفُوفَ) قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ: مَا أَنْكَرْتُ شَيْئًا إِلَّا أَنَّكُمْ لَا تُقِيمُونَ الصُّفُوفَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْإِنْكَارَ قَدْ يَقَعُ عَلَى تَرْكِ السُّنَّةِ، فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى حُصُولِ الْإِثْمِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَعَلَّهُ حَمَلَ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمْرِ الشَّأْنُ وَالْحَالُ لَا مُجَرَّدُ الصِّيغَةِ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ خَالَفَ شَيْئًا مِنَ الْحَالِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْثَمَ؛ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْوَعِيدُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ، وَإِنْكَارُ أَنَسٍ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُمْ خَالَفُوا مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِقَامَةِ الصُّفُوفِ، فَعَلَى هَذَا تَسْتَلْزِمُ الْمُخَالَفَةُ التَّأْثِيمَ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ رَشِيدٍ مُلَخَّصًا. وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى أَنْ لَا يَبْقَى شَيْءٌ مَسْنُونٌ؛ لِأَنَّ التَّأْثِيمَ إِنَّمَا يَحْصُلُ عَنْ تَرْكِ وَاجِبٍ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ بَطَّالٍ: إِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ لَمَّا كَانَتْ مِنَ السُّنَنِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهَا الَّتِي يَسْتَحِقُّ فَاعِلُهَا الْمَدْحَ عَلَيْهَا دَلَّ عَلَى أَنَّ تَارِكَهَا يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ، فَهُوَ مُتَعَقَّبٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَمِّ تَارِكِ السُّنَّةِ أَنْ يَكُونَ آثِمًا. سَلَّمْنَا، لَكِنْ يَرُدُّ عَلَيْهِ التَّعَقُّبُ الَّذِي قَبْلَهُ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْبُخَارِيُّ أَخَذَ الْوُجُوبَ مِنْ صِيغَةِ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: سَوُّوا صُفُوفَكُمْ وَمِنْ عُمُومِ قَوْلِهِ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي وَمِنْ وُرُودِ الْوَعِيدِ عَلَى تَرْكِهِ، فَرَجَحَ عِنْدَهُ بِهَذِهِ الْقَرَائِنِ أَنَّ إِنْكَارَ أَنَسٍ إِنَّمَا وَقَعَ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ، وَإِنْ كَانَ الْإِنْكَارُ قَدْ يَقَعُ عَلَى تَرْكِ السُّنَنِ، وَمَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّ التَّسْوِيَةَ وَاجِبَةٌ فَصَلَاةُ مَنْ خَالَفَ وَلَمْ يُسَوِّ صَحِيحَةٌ لِاخْتِلَافِ الْجِهَتَيْنِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ أَنَسًا مَعَ إِنْكَارِهِ عَلَيْهِمْ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ. وَأَفْرَطَ ابْنُ حَزْمٍ فَجَزَمَ بِالْبُطْلَانِ، وَنَازَعَ مَنِ ادَّعَى الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ بِمَا صَحَّ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ ضَرَبَ قَدَمَ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ لِإِقَامَةِ الصَّفِّ، وَبِمَا صَحَّ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ قَالَ: كَانَ بِلَالٌ يُسَوِّي مَنَاكِبنَا وَيَضْرِبُ أَقْدَامَنَا فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: مَا كَانَ عُمَرُ، وَبِلَالٌ يَضْرِبَانِ أَحَدًا عَلَى تَرْكِ غَيْرِ الْوَاجِبِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِجَوَازِ أَنَّهُمَا كَانَا يَرَيَانِ التَّعْزِيرَ عَلَى تَرْكِ السُّنَّةِ.
قَوْلُهُ: (بُشَيْرٌ) هُوَ بِالْمُعْجَمَةِ مُصَغَّرٌ.
قَوْلُهُ: (مَا أَنْكَرْتَ مُنْذُ يَوْمِ عَهِدْتَ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، والْكُشْمِيهَنِيِّ: مَا أَنْكَرْتَ مِنَّا مُنْذُ عَهِدْتَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عُبَيْدٍ) هُوَ أَبُو الرَّحَّالِ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَهُوَ أَخُو سَعِيدِ بْنِ عَبَيْدٍ رَاوِي الْإِسْنَادِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَلَيْسَ لِعُقْبَةَ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْمَوْضِعُ الْمُعَلَّقُ، وَأَرَادَ بِهِ بَيَانَ سَمَاعِ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ لَهُ مِنْ أَنَسٍ، وَقَدْ وَصَلَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عُبَيْدٍ الطَّائِيِّ: حَدَّثَنِي بُشَيْرُ بْنُ يَسَارٍ قَالَ: جَاءَ أَنَسٌ إِلَى الْمَدِينَةِ فَقُلْنَا: مَا أَنْكَرْتَ مِنَّا مِنْ عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: مَا أَنْكَرْتُ مِنْكُمْ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّكُمْ لَا تُقِيمُونَ الصُّفُوفَ.
(تَنْبِيهٌ): هَذِهِ الْقَدْمَةُ لِأَنَسٍ غَيْرُ الْقَدْمَةِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي بَابِ وَقْتِ الْعَصْرِ، فَإ نَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ فِيهَا أَنَّهُ أَنْكَرَ تَأْخِيرَ الظُّهْرِ إِلَى أَوَّلِ وَقْتِ الْعَصْرِ كَمَا مَضَى، وَهَذَا الْإِنْكَارُ أَيْضًا غَيْرُ الْإِنْكَارِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي بَابِ تَضْيِيعِ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا حَيْثُ قَالَ: لَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا الصَّلَاةَ وَقَدْ ضُيِّعَتْ فَإِنَّ ذَاكَ كَانَ بِالشَّامِ وَهَذَا بِالْمَدِينَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ كَانُوا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ أَمْثَلَ مِنْ غَيْرِهِمْ فِي التَّمَسُّكِ بِالسُّنَنِ.
76 - بَاب إِلْزَاقِ الْمَنْكِبِ بِالْمَنْكِبِ وَالْقَدَمِ بِالْقَدَمِ فِي الصَّفِّ
وَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ: رَأَيْتُ الرَّجُلَ مِنَّا يُلْزِقُ كَعْبَهُ بِكَعْبِ صَاحِبِهِ
725 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ؛ فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي، وَكَانَ أَحَدُنَا يُلْزِقُ مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ وَقَدَمَهُ بِقَدَمِهِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِلْزَاقِ الْمَنْكِبِ بِالْمَنْكِبِ وَالْقَدَمِ بِالْقَدَمِ فِي الصَّفِّ) الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْمُبَالَغَةُ فِي تَعْدِيلِ الصَّفِّ وَسَدِّ خَلَلِهِ، وَقَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِسَدِّ خَلَلِ الصَّفِّ وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ، أَجْمَعُهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ وَلَفْظُهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَقِيمُوا الصُّفُوفَ، وَحَاذُوا بَيْنَ الْمَنَاكِبِ، وَسُدُّوا الْخَلَلَ، وَلَا تَذَرُوا فُرُجَاتٍ لِلشَّيْطَانِ، وَمَنْ وَصَلَ صَفًّا وَصَلَهُ اللَّهُ، وَمَنْ قَطَعَ صَفًّا قَطَعَهُ اللَّهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الْقَاسِمِ الْجَدَلِيِّ، وَاسْمُهُ حُسَيْنُ بْنُ الْحَارِثِ قَالَ: سمعتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ: أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى النَّاسِ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: أَقِيمُوا صُفُوفكُمْ، ثَلَاثًا، وَاللَّهِ لَتُقِيمُنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ. قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ الرَّجُلَ مِنَّا يَلْزَقُ مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ، وَكَعْبَهُ بِكَعْبِهِ وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ النُّعْمَانِ هَذَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَعْبِ فِي آيَةِ الْوُضُوءِ الْعَظْمُ النَّاتِئُ فِي جَانِبَيِ الرِّجْلِ - وَهُوَ عِنْدَ مُلْتَقَى السَّاقِ وَالْقَدَمِ - وَهُوَ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَلْزَقَ بِالَّذِي بِجَنْبِهِ، خِلَافًا لِمَنْ ذَهَبَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَعْبِ مُؤَخَّرُ الْقَدَمِ، وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ يُنْسَبُ إِلَى بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَلَمْ يُثْبِتْهُ مُحَقِّقُوهُمْ، وَأَثْبَتَهُ بَعْضُهُمْ فِي مَسْأَلَةِ الْحَجِّ لَا الْوُضُوءِ، وَأَنْكَرَ الْأَصْمَعِيُّ قَوْلَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْكَعْبَ فِي ظَهْرِ الْقَدَمِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَنَسٍ) رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ هُشَيْمٍ، فَصَرَّحَ فِيهِ بِتَحْدِيثِ أَنَسٍ، لِحُمَيْدٍ، وَفِيهِ الزِّيَادَةُ الَّتِي فِي آخِرِهِ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَكَانَ أَحَدُنَا، إِلَخْ وَصَرَّحَ بِأَنَّهَا مِنْ قَوْلِ أَنَسٍ. وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنْ حُمَيْدٍ بِلَفْظِ قَالَ أَنَسٌ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ أَحَدَنَا، إِلَخْ وَأَفَادَ هَذَا التَّصْرِيحُ أَنَّ الْفِعْلَ الْمَذْكُورَ كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَبِهَذَا يَتِمُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَى بَيَانِ الْمُرَادِ بِإِقَامَةِ الصَّفِّ وَتَسْوِيَتِهِ، وَزَادَ مَعْمَرٌ فِي رِوَايَتِهِ: وَلَوْ فَعَلْتُ ذَلِكَ بِأَحَدِهِمُ الْيَوْمَ لَنَفَرَ كَأَنَّهُ بَغْلٌ شُمُوسٌ.
77 - بَاب إِذَا قَامَ الرَّجُلُ عَنْ يَسَارِ الْإِمَامِ
وَحَوَّلَهُ الْإِمَامُ خَلْفَهُ إِلَى يَمِينِهِ تَمَّتْ صَلَاتُهُ
726 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِرَأْسِي مِنْ وَرَائِي، فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ، فَصَلَّى وَرَقَدَ، فَجَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ، فَقَامَ وَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا قَامَ الرَّجُلُ عَنْ يَسَارِ الْإِمَامِ وَحَوَّلَهُ الْإِمَامُ خَلْفَهُ إِلَى يَمِينِهِ تَمَّتْ صَلَاتُهُ) تَقَدَّمَ أَكْثَرُ لَفْظِ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ قَبْلُ بِنَحْوٍ مِنْ عِشْرِينَ بَابًا، لَكِنْ لَيْسَ هُنَاكَ لَفْظُ خَلْفَهُ، وَقَالَ هُنَاكَ: لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُمَا بَدَلَ قَوْلِهِ: تَمَّتْ صَلَاتُهُ، وَأَخْرَجَ هُنَاكَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا لَكِنْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَلَمْ يُنَبِّهْ أَحَدٌ مِنَ الشُّرَّاحِ عَلَى حِكْمَةِ هَذِهِ الْإِعَادَةِ، بَلْ أَسْقَطَ بَعْضُهُمُ الْكَلَامَ عَلَى هَذَا الْبَابِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ حُكْمَهُمَا مُخْتَلِفٌ لِاخْتِلَافِ الْجَوَابَيْنِ، فَقَوْلُهُ لَمْ تَفْسُدْ
صَلَاتُهُمَا أَيْ: بِالْعَمَلِ الْوَاقِعِ مِنْهُمَا؛ لِكَوْنِهِ خَفِيفًا، وَهُوَ مِنْ مَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ أَيْضًا، وَقَوْلُهُ: تَمَّتْ صَلَاتُهُ أَيِ: الْمَأْمُومِ، وَلَا يَضُرُّ وُقُوفُهُ عَنْ يَسَارِ الْإِمَامِ أَوَّلًا مَعَ كَوْنِهِ فِي غَيْرِ مَوْقِفِهِ؛ وَلِأَنَّهُ مَعْذُورٌ بِعَدَمِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ الْحُكْمِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلْإِمَامِ، وَتَوْجِيهُهُ أَنَّ الْإِمَامَ وَحْدَهُ فِي مَقَامِ الصَّفِّ، وَمُحَاوَلَتُهُ لِتَحْوِيلِ الْمَأْمُومِ فِيهِ الْتِفَاتٌ بِبَعْضِ بَدَنِهِ، وَلَكِنْ لَيْسَ تَرْكًا لِإِقَامَةِ الصَّفِّ لِلْمَصْلَحَةِ الْمَذْكُورَةِ، فَصَلَاتُهُ عَلَى هَذَا لَا نَقْصَ فِيهَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلرَّجُلِ؛ لِأَنَّ الْفَاعِلَ وَإِنْ تَأَخَّرَ لَفْظًا لَكِنَّهُ مُتَقَدِّمٌ رُتْبَةً، فَلِكُلٍّ مِنْهَا قُرْبٌ مِنْ وَجْهٍ. قُلْتُ: لَكِنْ إِذَا عَادَ الضَّمِيرُ لِلْإِمَامِ أَفَادَ أَنَّهُ احْتَرَزَ أَنْ يُحَوِّلَهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ؛ لِئَلَّا يَصِيرَ كَالْمَارِّ بَيْنَ يَدَيْهِ.
78 - بَاب الْمَرْأَةُ وَحْدَهَا تَكُونُ صَفًّا
727 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ إِسْحَاقَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: صَلَّيْتُ أَنَا وَيَتِيمٌ فِي بَيْتِنَا خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأُمِّي أُمُّ سُلَيْمٍ خَلْفَنَا.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْمَرْأَةِ وَحْدَهَا تَكُونُ صَفًّا) أَيْ: فِي حُكْمِ الصَّفِّ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ اعْتِرَاضُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، حَيْثُ قَالَ: الشَّخْصُ الْوَاحِدُ لَا يُسَمَّى صَفًّا، وَأَقَلُّ مَا يَقُومُ الصَّفُّ بِاثْنَيْنِ. ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ لَفْظُ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: وَالْمَرْأَةُ وَحْدَهَا صَفٌّ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ) هُوَ الْجُعْفِيُّ، وَإِنْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ قَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَيْضًا عَنْ سُفْيَانَ وَهُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ إِسْحَاقَ، عَنْ أَنَسٍ) فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ، وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ.
قَوْلُهُ: (صَلَّيْتُ أَنَا وَيَتِيمٌ) كَذَا لِلْجَمِيعِ، وَكَذَا وَقَعَ فِي خَبَرِ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى الْمَشْهُورِ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ. وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ فَتْحُونٍ فِيمَا رَوَاهُ عَنِ ابْنِ السَّكَنِ بِسَنَدِهِ فِي الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ: صَلَّيْتُ أَنَا وَسُلَيْمٌ بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ وَلَامٍ مُصَغَّرًا، فَتَصَحَّفَتْ عَلَى الرَّاوِي مِنْ لَفْظِ يَتِيمٍ وَمَشَى عَلَى ذَلِكَ ابْنُ فَتْحُونٍ فَقَالَ فِي ذَيْلِهِ عَلَى الِاسْتِيعَابِ: سُلَيْمٌ غَيْرُ مَنْسُوبٍ، وَسَاقَ هَذَا الْحَدِيثَ. ثُمَّ إِنَّ هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ اخْتَصَرَهُ سُفْيَانُ، وَطَوَّلَهُ مَالِكٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ الصَّلَاةِ عَلَى الْحَصِيرِ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: فَصَفَفْتُ أَنَا وَالْيَتِيمُ وَرَاءَهُ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ فِي مَوْقِفِ الِاثْنَيْنِ أَنْ يَصُفَّا خَلْفَ الْإِمَامِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ مِنَ الْكُوفِيِّينَ: إنَّ أَحَدَهُمَا يَقِفُ عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرَ عَنْ يَسَارِهِ، وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَقَامَ عَلْقَمَةَ عَنْ يَمِينِهِ وَالْأَسْودَ عَنْ شِمَالِهِ، وَأَجَابَ عَنْهُ ابْنُ سِيرِينَ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِضِيقِ الْمَكَانِ، رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ.
قَوْلُهُ: (وَأُمِّي أُمُّ سُلَيْمٍ خَلْفَنَا) فِيهِ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَصُفُّ مَعَ الرِّجَالِ، وَأَصْلُهُ مَا يُخْشَى مِنَ الِافْتِتَانِ بِهَا، فَلَوْ خَالَفَتْ أَجْزَأَتْ صَلَاتُهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعَنِ الْحَنَفِيَّةِ تَفْسُدُ صَلَاةُ الرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ عَجِيبٌ، وَفِي تَوْجِيهِهِ تَعَسُّفٌ حَيْثُ قَالَ قَائِلُهُمْ: دَلِيلُهُ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، وَحَيْثُ ظَرْفُ مَكَانٍ، وَلَا مَكَانَ يَجِبُ تَأَخُّرُهُنَّ فِيهِ إِلَّا مَكَانَ الصَّلَاةِ، فَإِذَا حَاذَتِ الرَّجُلَ فَسَدَتْ صَلَاةُ الرَّجُلِ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ تَأْخِيرِهَا، وَحِكَايَةُ هَذَا تُغْنِي عَنْ تَكَلُّفِ جَوَابِهِ، - وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ -. فَقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْمَغْصُوبِ وَأُمِرَ لَابِسُهُ أَنْ يَنْزِعَهُ، فَلَوْ خَالَفَ فَصَلَّى فِيهِ وَلَمْ يَنْزِعْهُ أَثِمَ وَأَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ، فَلِمَ لَا يُقَالُ فِي الرَّجُلِ الَّذِي حَاذَتْهُ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ؟ وَأَوْضَحُ مِنْهُ لَوْ كَانَ لِبَابِ الْمَسْجِدِ صُفَّةٌ مَمْلُوكَةٌ فَصَلَّى فِيهَا شَخْصٌ بِغَيْرِ إِذْنِهِ مَعَ اقْتِدَارِهِ عَلَى أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْهَا إِلَى أَرْضِ الْمَسْجِدِ بِخُطْوَةٍ وَاحِدَةٍ صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَأَثِمَ، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ مَعَ الْمَرْأَةِ الَّتِي حَاذَتْهُ وَلَا سِيَّمَا إِنْ
جَاءَتْ بَعْدَ أَنْ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ فَصَلَّتْ بِجَنْبِهِ.
وَقَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: الْأَقْرَبُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ قَصَدَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ هَذَا مُسْتَثْنًى مِنْ عُمُومِ الْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ: لَا صَلَاةَ لِمُنْفَرِدٍ خَلْفَ الصَّفِّ يَعْنِي أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالرِّجَالِ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ شَيْبَانَ، وَفِي صِحَّتِهِ نَظَرٌ كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِي بَابِ إِذَا رَكَعَ دُونَ الصَّفِّ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ بَطَّالٍ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ خَلْفَ الصَّفِّ خِلَافًا لِأَحْمَدَ، قَالَ: لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ ذَلِكَ لِلْمَرْأَةِ كَانَ لِلرَّجُلِ أَوْلَى، لَكِنْ لِمُخَالِفِهِ أَنْ يَقُولَ: إِنَّمَا سَاغَ ذَلِكَ لِامْتِنَاعِ أَنْ تَصُفَّ مَعَ الرِّجَالِ، بِخِلَافِ الرَّجُلِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَصُفَّ مَعَهُمْ وَأَنْ يُزَاحِمَهُمْ وَأَنْ يَجْذِبَ رَجُلًا مِنْ حَاشِيَةِ الصَّفِّ فَيَقُومَ مَعَهُ
(1)
فَافْتَرَقَا. وَبَاقِي مَبَاحِثِهِ تَقَدَّمَتْ فِي بَابِ الصَّلَاةِ عَلَى الْحَصِيرِ.
79 - بَاب مَيْمَنَةِ الْمَسْجِدِ وَالْإِمَامِ
728 -
حَدَّثَنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا ثَابِتُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قُمْتُ لَيْلَةً أُصَلِّي عَنْ يَسَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَخَذَ بِيَدِي - أَوْ: بِعَضُدِي - حَتَّى أَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ، وَقَالَ بِيَدِهِ مِنْ وَرَائِي.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَيْمَنَةِ الْمَسْجِدِ وَالْإِمَامِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ مُخْتَصَرًا، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلتَّرْجَمَةِ: أَمَّا لِلْإِمَامِ فَبِالْمُطَابَقَةِ، وَأَمَّا لِلْمَسْجِدِ فَبِاللُّزُومِ. وَقَدْ تُعُقِّبَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْحَدِيثَ إِنَّمَا وَرَدَ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمَأْمُومُ وَاحِدًا، أَمَّا إِذَا كَثُرُوا فَلَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى فَضِيلَةِ مَيْمَنَةِ الْمَسْجِدِ. وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَحْبَبْنَا أَنْ نَكُونَ عَنْ يَمِينِهِ، وَلِأَبِي دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: أَنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى مَيَامِنِ الصُّفُوفِ. وَأَمَّا مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ مَيْسَرَةَ الْمَسْجِدِ تَعَطَّلَتْ، فَقَالَ: مَنْ عَمَّرَ مَيْسَرَةَ الْمَسْجِدِ كُتِبَ لَهُ كِفْلَانِ مِنَ الْأَجْرِ فَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ. وَإِنْ ثَبَتَ فَلَا يُعَارِضُ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّ مَا وَرَدَ لِمَعْنًى عَارِضٍ يَزُولُ بِزَوَالِهِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُوسَى) هُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ التَّبُوذَكِيُّ، وَعَاصِمٌ هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ بِيَدِهِ) أَيْ: تَنَاوَلَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: فَأَخَذَ بِيَدِي.
قَوْلُهُ: (مِنْ وَرَائِي) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: مِنْ وَرَائِهِ، وَهُوَ أَوْجَهُ.
80 - بَاب إِذَا كَانَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَبَيْنَ الْقَوْمِ حَائِطٌ أَوْ سُتْرَةٌ
وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا بَأْسَ أَنْ تُصَلِّيَ وَبَيْنَكَ وَبَيْنَهُ نَهْرٌ
وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: يَأْتَمُّ بِالْإِمَامِ - وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا طَرِيقٌ أَوْ جِدَارٌ - إِذَا سَمِعَ تَكْبِيرَ الْإِمَامِ
729 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ فِي حُجْرَتِهِ، وَجِدَارُ الْحُجْرَةِ قَصِيرٌ، فَرَأَى النَّاسُ شَخْصَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ أُنَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ، فَأَصْبَحُوا فَتَحَدَّثُوا بِذَلِكَ، فَقَامَ اللَّيْلَةَ الثَّانِيَةَ، فَقَامَ مَعَهُ أُنَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ، صَنَعُوا ذَلِكَ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، حَتَّى إِذَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَخْرُجْ، فَلَمَّا أَصْبَحَ ذَكَرَ ذَلِكَ النَّاسُ فَقَالَ: إِنِّي خَشِيتُ أَنْ
(1)
في جواز الجذب المذكور نظر، لأن الحديث الوارد فيه ضعيف، ولأن الجذب يفضى إلى إيجاد فرجة في الصف والمشروع سد الخلل، فالأولى ترك الجذب وأن يلتمس موضعا في الصف أو يقف عن يمين الامام. والله أعلم
تُكْتَبَ عَلَيْكُمْ صَلَاةُ اللَّيْلِ.
[الحديث 729 - أطرافه في: 5861، 2012، 2011، 1129، 924، 730]
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا كَانَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَبَيْنَ الْقَوْمِ حَائِطٌ أَوْ سُتْرَةٌ) أَيْ: هَلْ يَضُرُّ ذَلِكَ بِالِاقْتِدَاءِ أَوْ لَا؟ وَالظَّاهِرُ مِنْ تَصَرُّفِهِ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ، وَالْمَسْأَلَةُ ذَاتُ خِلَافٍ شَهِيرٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَسَنُ) لَمْ أَرَهُ مَوْصُولًا بِلَفْظِهِ، وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْهُ فِي الرَّجُلِ يُصَلِّي خَلْفَ الْإِمَامِ أَوْ فَوْقَ سَطْحٍ يَأْتَمُّ بِهِ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ مُعْتَمِرٍ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْهُ بِمَعْنَاهُ، وَلَيْثٌ ضَعِيفٌ، لَكِنْ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ التَّيْمِيِّ وَهُوَ مُعْتَمِرٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ مَضْبُوطًا فَهُوَ إِسْنَادٌ صَحِيحٌ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ) هُوَ ابْنُ سَلَّامٍ، قَالَهُ أَبُو نُعَيْمٍ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي رِوَايَتِهِ، وَعَبْدَةُ هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ.
قَوْلُهُ: (فِي حُجْرَتِهِ) ظَاهِرُهُ أَنَّ الْمُرَادَ حُجْرَةُ بَيْتِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ ذِكْرُ جِدَارِ الْحُجْرَةِ، وَأَوْضَحُ مِنْهُ رِوَايَةُ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ بِلَفْظِ: كَانَ يُصَلِّي فِي حُجْرَةٍ مِنْ حُجَرِ أَزْوَاجِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ الْحُجْرَةُ الَّتِي كَانَ احْتَجَرَهَا فِي الْمَسْجِدِ بِالْحَصِيرِ، كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ، وَكَذَا حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ الَّذِي بَعْدَهُ، وَلِأَبِي دَاوُدَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا هِيَ الَّتِي نَصَبَتْ لَهُ الْحَصِيرَ عَلَى بَابِ بَيْتِهَا، فَإِمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّعَدُّدِ، أَوْ عَلَى الْمَجَازِ فِي الْجِدَارِ وَفِي نِسْبَةِ الْحُجْرَةِ إِلَيْهَا.
قَوْلُهُ: (فَقَامَ نَاسٌ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فَقَامَ أُنَاسٌ وَهَذَا مَوْضِعُ التَّرْجَمَةِ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ وَهُوَ دَاخِلُ الْحُجْرَةِ وَهُمْ خَارِجَهَا.
قَوْلُهُ: (فَقَامَ لَيْلَةَ الثَّانِيَةِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: لَيْلَةَ الْغَدَاةِ الثَّانِيَةِ. وَفِي رِوَايَةِ الْأُصَيْلِيِّ: فَقَامَ اللَّيْلَةَ الثَّانِيَةَ.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا أَصْبَحَ ذَكَرَ ذَلِكَ النَّاسُ) أَيْ: لَهُ، وَأَفَادَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَّ الَّذِي خَاطَبَهُ بِذَلِكَ عُمَرُ رضي الله عنه، أَخْرَجَهُ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْهَا.
قَوْلُهُ: (أَنْ تُكْتَبَ عَلَيْكُمْ) أَيْ: تُفْرَضَ، وَهِيَ رِوَايَةُ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ، وَكَذَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْهَا، وَسَتَأْتِي بَقِيَّةُ مَبَاحِثِهِ فِي كِتَابِ التَّهَجُّدِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
81 - بَاب صَلَاةِ اللَّيْلِ
730 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَهُ حَصِيرٌ يَبْسُطُهُ بِالنَّهَارِ وَيَحْتَجِرُهُ بِاللَّيْلِ، فَثَابَ إِلَيْهِ نَاسٌ فَصَلَّوْا وَرَاءَهُ.
731 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اتَّخَذَ حُجْرَةً - قَالَ: حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: - مِنْ حَصِيرٍ فِي رَمَضَانَ، فَصَلَّى فِيهَا لَيَالِيَ، فَصَلَّى بِصَلَاتِهِ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا عَلِمَ بِهِمْ جَعَلَ يَقْعُدُ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: قَدْ عَرَفْتُ الَّذِي رَأَيْتُ مِنْ صَنِيعِكُمْ، فَصَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ؛ فَإِنَّ أَفْضَلَ الصَّلَاةِ صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ.
قَالَ عَفَّانُ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا مُوسَى، سَمِعْتُ أَبَا النَّضْرِ، عَنْ بُسْرٍ، عَنْ زَيْدٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
[الحديث 731 - طرفاه في: 7290، 6113]
قَوْلُهُ: (بَابُ صَلَاةِ اللَّيْلِ) كَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ، وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ وَلَا ذَكَرَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَهُوَ السِّيَاقُ؛ لِأَنَّ التَّرَاجِمَ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَبْوَابِ الصُّفُوفِ وَإِقَامَتِهَا، وَلَمَّا كَانَتِ الصَّلَاةُ بِالْحَائِلِ قَدْ يُتَخَيَّلُ أَنَّهَا مَانِعَةٌ مِنْ إِقَامَةِ الصَّفِّ تَرْجَمَ لَهَا وَأَوْرَدَ مَا عِنْدَهُ فِيهَا، فَأَمَّا صَلَاةُ اللَّيْلِ بِخُصُوصِهَا، فَلَهَا كِتَابٌ مُفْرَدٌ، سَيَأْتِي فِي أَوَاخِرِ الصَّلَاةِ، وَكَأَنَّ النُّسْخَةَ وَقَعَ فِيهَا تَكْرِيرُ لَفْظِ: صَلَاةِ اللَّيْلِ وَهِيَ الْجُمْلَةُ الَّتِي فِي آخِرِ الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ، فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّهَا تَرْجَمَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ فَصَدَّرَهَا بِلَفْظِ بَابِ، وَقَدْ تَكَلَّفَ ابْنُ رَشِيدٍ تَوْجِيهَهَا بِمَا حَاصِلُهُ: أَنَّ مَنْ صَلَّى بِاللَّيْلِ مَأْمُومًا فِي الظُّلْمَةِ كَانَتْ فِيهِ مُشَابَهَةٌ بِمَنْ صَلَّى وَرَاءَ حَائِلٍ. وَأَبْعَدُ مِنْهُ مَنْ قَالَ: يُرِيدُ أَنَّ مَنْ صَلَّى بِاللَّيْلِ مَأْمُومًا فِي الظُّلْمَةِ، كَانَ كَمَنْ صَلَّى وَرَاءَ حَائِطٍ. ثُمَّ ظَهَرَ لِيَ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ صَلَاةَ اللَّيْلِ جَمَاعَةً، فَحَذَفَ لَفْظَ جَمَاعَةٍ. وَالَّذِي يَأْتِي فِي أَبْوَابِ التَّهَجُّدِ إِنَّمَا هُوَ حُكْمُ صَلَاةِ اللَّيْلِ وَكَيْفِيَّتِهَا فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ أَوِ الْبَيْتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (عَنِ الْمَقْبُرِيِّ) هُوَ سَعِيدٌ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ.
قَوْلُهُ: (وَيَحْتَجِرُهُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالرَّاءِ، أَيْ: يَتَّخِذُهُ مِثْلَ الْحُجْرَةِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِالزَّايِ بَدَلَ الرَّاءِ، أَيْ: يَجْعَلُهُ حَاجِزًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ.
قَوْلُهُ: (فَثَابَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِمُثَلَّثَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ، أَيِ: اجْتَمَعُوا، وَوَقَعَ عِنْدَ الْخَطَّابِيِّ: آبُوا أَيْ: رَجَعُوا، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَالسَّرَخْسِيِّ: فَثَارَ بِالْمُثَلَّثَةِ وَالرَّاءِ، أَيْ: قَامُوا.
قَوْلُهُ: (فَصَلَّوْا وَرَاءَهُ) كَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَغَرَضُهُ بَيَانُ أَنَّ الْحُجْرَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ كَانَتْ حَصِيرًا. وَقَدْ سَاقَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ تَامًّا، وَسَنَذْكُرُ الْكَلَامَ عَلَى فَوَائِدِهِ فِي كِتَابِ التَّهَجُّدِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (عَنْ سَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ) كَذَا لِأَكْثَرِ الرُّوَاةِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، وَخَالَفَهُمُ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ مُوسَى، فَلَمْ يَذْكُرْ أَبَا النَّضْرِ فِي الْإِسْنَادِ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَرِوَايَةُ الْجَمَاعَةِ أَوْلَى. وَقَدْ وَافَقَهُمْ مَالِكٌ فِي الْإِسْنَادِ لَكِنْ لَمْ يَرْفَعْهُ فِي الْمُوَطَّأِ، وَرُوِيَ عَنْهُ خَارِجَ الْمُوَطَّأِ مَرْفُوعًا، وَفِيهِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ مَدَنِيُّونَ عَلَى نَسَقٍ أَوَّلُهُمْ مُوسَى الْمَذْكُورُ.
قَوْلُهُ: (حُجْرَةٌ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالرَّاءِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ - أَيْضًا - بِالزَّايِ.
قَوْلُهُ: (مِنْ صَنِيعِكُمْ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِضَمِّ الصَّادِ وَسُكُونِ النُّونِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ صَلَاتُهُمْ فَقَطْ، بَلْ كَوْنُهُمْ رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ وَسَبَّحُوا بِهِ لِيَخْرُجَ إِلَيْهِمْ، وَحَصَبَ بَعْضُهُمُ الْبَابَ لِظَنِّهِمْ أَنَّهُ نَائِمٌ، كَمَا ذَكَرَ الْمُؤَلِّفُ ذَلِكَ فِي الْأَدَبِ وَفِي الِاعْتِصَامِ، وَزَادَ فِيهِ: حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمْ، وَلَوْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ مَا قُمْتُمْ بِهِ وَقَدِ اسْتَشْكَلَ الْخَطَّابِيُّ هَذِهِ الْخَشْيَةَ، كَمَا سَنُوَضِّحُهُ فِي كِتَابِ التَّهَجُّدِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (أَفْضَلُ الصَّلَاةِ صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَشْمَلُ جَمِيعَ النَّوَافِلِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَكْتُوبَةِ الْمَفْرُوضَةُ، لَكِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا لَا يُشْرَعُ فِيهِ التَّجْمِيعُ، وَكَذَا مَا لَا يَخُصُّ الْمَسْجِدَ كَرَكْعَتَيِ التَّحِيَّةِ، كَذَا قَالَ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ مَا يُشْرَعُ فِي الْبَيْتِ وَفِي الْمَسْجِدِ مَعًا، فَلَا تَدْخُلُ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُشْرَعُ فِي الْبَيْتِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْمَكْتُوبَةِ مَا تُشْرَعُ فِيهِ الْجَمَاعَةُ، وَهَلْ يَدْخُلُ مَا وَجَبَ بِعَارِضٍ كَالْمَنْذُورَةِ؟ فِيهِ نَظَرٌ، وَالْمُرَادُ بِالْمَكْتُوبَةِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، لَا مَا وَجَبَ بِعَارِضٍ كَالْمَنْذُورَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَرْءِ جِنْسُ الرِّجَالِ فَلَا يَرِدُ اسْتِثْنَاءُ النِّسَاءِ؛ لِثُبُوتِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَمْنَعُوهُنَّ الْمَسَاجِدَ. وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ؛ قَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّمَا حَثَّ عَلَى النَّافِلَةِ فِي الْبَيْتِ؛ لِكَوْنِهِ أَخْفَى وَأَبْعَدَ مِنَ الرِّيَاءِ، وَلِيَتَبَرَّكَ الْبَيْتُ بِذَلِكَ فَتَنْزِلُ فِيهِ الرَّحْمَةُ
وَيَنْفِرَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ، وَعَلَى هَذَا يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ بِقَوْلِهِ: فِي بَيْتِهِ بَيْتُ غَيْرِهِ وَلَوْ أَمِنَ فِيهِ مِنَ الرِّيَاءِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ عَفَّانُ) كَذَا فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَحْدَهَا، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَلَا أَبُو نُعَيْمٍ، وَذَكَرَ خَلَفٌ فِي الْأَطْرَافِ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ شَاكِرٍ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ بِوَاسِطَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَفَّانَ. ثُمَّ فَائِدَةُ هَذِهِ الطَّرِيقِ بَيَانُ سَمَاعِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ لَهُ مِنْ أَبِي النَّضْرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَتْ أَبْوَابُ الْجَمَاعَةِ وَالْإِمَامَةِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى مِائَةٍ وَاثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ حَدِيثًا، الْمَوْصُولُ مِنْهَا سِتَّةٌ وَتِسْعُونَ، وَالْمُعَلَّقُ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى تِسْعُونَ حَدِيثًا، الْخَالِصُ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى تِسْعَةِ أَحَادِيثَ وَهِيَ: حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فِي فَضْلِ الْجَمَاعَةِ، وَحَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ: مَا أَعْرِفُ شَيْئًا، وَحَدِيثُ أَنَسٍ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ ضَخْمًا، وَحَدِيثُ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ. وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: يُصَلُّونَ فَإِنْ أَصَابُوا، وَحَدِيثُ النُّعْمَانِ الْمُعَلَّقِ فِي الصُّفُوفِ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ: كَانَ أَحَدُنَا يَلْزَقُ مَنْكِبَهُ، وَحَدِيثُهِ فِي إِنْكَارِهِ إِقَامَةِ الصُّفُوفِ. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ سَبْعَةَ عَشَرَ أَثَرًا، كُلُّهَا مُعَلَّقَةٌ إِلَّا أَثَرَ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ: كَانَ يَأْكُلُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، وَأَثَرَ عُثْمَانَ: الصَّلَاةُ أَحْسَنُ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ فَإِنَّهُمَا مَوْصُولَانِ - وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ -.
82 - بَاب إِيجَابِ التَّكْبِيرِ وَافْتِتَاحِ الصَّلَاةِ
732 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيُّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكِبَ فَرَسًا فَجُحِشَ شِقُّهُ الْأَيْمَنُ، قَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه: فَصَلَّى لَنَا يَوْمَئِذٍ صَلَاةً مِنْ الصَّلَوَاتِ وَهُوَ قَاعِدٌ، فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ قُعُودًا، ثُمَّ قَالَ لَمَّا سَلَّمَ: إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ.
733 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ قَالَ: خَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ فَرَسٍ فَجُحِشَ، فَصَلَّى لَنَا قَاعِدًا، فَصَلَّيْنَا مَعَهُ قُعُودًا، ثُمَّ انْصَرَفَ فَقَالَ: إِنَّمَا الْإِمَامُ - أَوْ: إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ - لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا.
734 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ.
(أبواب صفة الصلاة).
قَوْلُهُ: (بَابُ إِيجَابِ التَّكْبِيرِ وَافْتِتَاحِ الصَّلَاةِ) قِيلَ: أَطْلَقَ الْإِيجَابَ وَالْمُرَادُ الْوُجُوبُ تَجَوُّزًا؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ خِطَابُ الشَّارِعِ، وَالْوُجُوبَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُكَلَّفِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا. ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ الْوَاوَ عَاطِفَةٌ،
إِمَّا عَلَى الْمُضَافِ وَهُوَ إِيجَابٌ، وَإِمَّا عَلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ وَهُوَ التَّكْبِيرُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالِافْتِتَاحِ الدُّعَاءُ؛ لَكِنَّهُ لَا يَجِبُ، وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ سِيَاقِهِ أَنَّ الْوَاوَ بِمَعْنَى مَعَ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالِافْتِتَاحِ الشُّرُوعُ فِي الصَّلَاةِ. وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا بِمَعْنَى الْمُوَحَّدَةِ أَوِ اللَّامِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَفْتَتِحُ بِالتَّكْبِيرِ وَسَيَأْتِي بَعْدَ بَابَيْنِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم افْتَتَحَ التَّكْبِيرَ فِي الصَّلَاةِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ وَبِحَدِيثِ عَائِشَةَ عَلَى تَعَيُّنِ لَفْظِ التَّكْبِيرِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أَلْفَاظِ التَّعْظِيمِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَوَافَقَهُمْ أَبُو يُوسُفَ.
وَعَنِ الْحَنَفِيَّةِ تَنْعَقِدُ بِكُلِّ لَفْظٍ يُقْصَدُ بِهِ التَّعْظِيمُ. وَمِنْ حُجَّةِ الْجُمْهُورِ حَدِيثُ رِفَاعَةَ فِي قِصَّةِ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِلَفْظِ: لَا تَتِمُّ صَلَاةُ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ حَتَّى يَتَوَضَّأَ، فَيَضَعَ الْوُضُوءَ مَوَاضِعَهُ، ثُمَّ يُكَبِّرَ وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِلَفْظِ: ثُمَّ يَقُولَ: اللَّهُ أَكْبَرُ وَحَدِيثُ أَبِي حُمَيْدٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ اعْتَدَلَ قَائِمًا وَرَفَعَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَهَذَا فِيهِ بَيَانُ الْمُرَادِ بِالتَّكْبِيرِ وَهُوَ قَوْلُ: اللَّهُ أَكْبَرُ. وَرَوَى الْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِأَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ وَاسِعِ بْنِ حِبَّانَ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ كُلَّمَا وَضَعَ وَرَفَعَ ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ أَنَسٍ: إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ، ثُمَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي ذَلِكَ، وَاعْتَرَضَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فَقَالَ: لَيْسَ فِي الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ ذِكْرُ التَّكْبِيرِ وَلَا فِي الثَّانِي، وَالثَّالِثُ بَيَانُ إِيجَابِ التَّكْبِيرِ وَإِنَّمَا فِيهِ الْأَمْرُ بِتَأْخِيرِ الْمَأْمُومِ عَنِ الْإِمَامِ، قَالَ: وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ إِيجَابًا لِلتَّكْبِيرِ لَكَانَ قَوْلُهُ: فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ إِيجَابًا لِذَلِكَ عَلَى الْمَأْمُومِ.
وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ حَدِيثَ أَنَسٍ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ وَاحِدٌ، اخْتَصَرَهُ شُعَيْبٌ وَأَتَمَّهُ اللَّيْثُ، وَإِنَّمَا احْتَاجَ إِلَى ذِكْرِ الطَّرِيقِ الْمُخْتَصَرَةِ؛ لِتَصْرِيحِ الزُّهْرِيِّ فِيهَا بِإِخْبَارِ أَنَسٍ لَهُ، وَعَنِ الثَّانِي بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ ذَلِكَ، وَفِعْلُهُ بَيَانٌ لِمُجْمَلِ الصَّلَاةِ، وَبَيَانُ الْوَاجِبِ وَاجِبٌ، كَذَا وَجَّهَهُ ابْنُ رَشِيدٍ، وَتُعُقِّبَ بِالِاعْتِرَاضِ الثَّالِثِ وَلَيْسَ بِوَارِدٍ عَلَى الْبُخَارِيِّ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ قَائِلًا بِوُجُوبِهِ، كَمَا قَالَ بِهِ شَيْخُهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ.
وَقِيلَ فِي الْجَوَابِ أَيْضًا: إِذَا ثَبَتَ إِيجَابُ التَّكْبِيرِ فِي حَالَةٍ مِنَ الْأَحْوَالِ طَابَقَ التَّرْجَمَةَ، وَوُجُوبُهُ عَلَى الْمَأْمُومِ ظَاهِرٌ مِنَ الْحَدِيثِ، وَأَمَّا الْإِمَامُ فَمَسْكُوتٌ عَنْهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: فِي السِّيَاقِ إِشَارَةٌ إِلَى الْإِيجَابِ؛ لِتَعْبِيرِهِ بِإِذَا الَّتِي تَخْتَصُّ بِمَا يُجْزَمُ بِوُقُوعِهِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْحَدِيثُ دَالٌّ عَلَى الْجُزْءِ الثَّانِي مِنَ التَّرْجَمَةِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ: إِذَا صَلَّى قَائِمًا مُتَنَاوِلٌ لِكَوْنِ الِافْتِتَاحِ فِي حَالِ الْقِيَامِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِذَا افْتَتَحَ الْإِمَامُ الصَّلَاةَ قَائِمًا فَافْتَتِحُوا أَنْتُمْ أَيْضًا قِيَامًا. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ بِمَعْنَى مَعَ، وَالْمَعْنَى: بَابُ إِيجَابِ التَّكْبِيرِ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ، فَحِينَئِذٍ دَلَالَتُهُ عَلَى التَّرْجَمَةِ مُشْكِلٌ. انْتَهَى. وَمُحَصِّلُ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ تَوْجِيهُ إِيجَابِ التَّكْبِيرِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ: لَوْلَا الدَّلِيلُ الْخَارِجِيُّ وَهُوَ الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ لَكَانَ هُوَ أَيْضًا وَاجِبًا. انْتَهَى. وَقَدْ قَالَ بِوُجُوبِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ مِنْهُمُ الْحُمَيْدِيُّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى فَوَائِدِ الْمَتْنِ الْمَذْكُورِ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ فِي طَرِيقِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فِي طَرِيقِ اللَّيْثِ: ثُمَّ انْصَرَفَ بَدَلَ قَوْلِهِ: فَلَمَّا انْصَرَفَ، وَزِيَادَةُ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ: رَبّنَا لَكَ الْحَمْدُ، وَسَقَطَ لَفْظُ: جُعِلَ عِنْدَ السَّرَخْسِيِّ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ.
(فَائِدَةٌ): تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ رُكْنٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقِيلَ: شَرْطٌ وَهُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَوَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقِيلَ: سُنَّةٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ غَيْرُ
الزُّهْرِيِّ، وَنَقَلَهُ غَيْرُهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، والْأَوْزَاعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ تَصْرِيحًا، وَإِنَّمَا قَالُوا فِيمَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ رَاكِعًا تُجْزِئُهُ تَكْبِيرَةُ الرُّكُوعِ. نَعَمْ نَقَلَهُ الْكَرْخِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُلَيَّةَ، وَأَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ، وَمُخَالَفَتُهُمَا لِلْجُمْهُورِ كَثِيرَةٌ.
(تَنْبِيهٌ): لَمْ يُخْتَلَفْ فِي إِيجَابِ النِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَاخِرِ الْإِيمَانِ حَيْثُ قَالَ: بَابُ مَا جَاءَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ فَدَخَلَ فِيهِ الْإِيمَانُ وَالْوُضُوءُ وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ.
83 - بَاب رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى مَعَ الِافْتِتَاحِ سَوَاءً.
735 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ، وَإِذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ رَفَعَهُمَا كَذَلِكَ أَيْضًا وَقَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَكَانَ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى مَعَ الِافْتِتَاحِ سَوَاءٌ) هُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ: يَرْفَعُ يَدَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ، وَفِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ الْآتِيَةِ بَعْدَ بَابٍ: يَرْفَعُ يَدَيْهِ حِينَ يُكَبِّرُ فَهَذَا دَلِيلُ الْمُقَارَنَةِ. وَقَدْ وَرَدَ تَقْدِيمُ الرَّفْعِ عَلَى التَّكْبِيرِ وَعَكْسُهُ، أَخْرَجَهُمَا مُسْلِمٌ، فَفِي حَدِيثِ الْبَابِ عِنْدَهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَغَيْرِهِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِلَفْظِ: رَفَعَ يَدَيْهِ ثُمَّ كَبَّرَ، وَفِي حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ عِنْدَهُ: كَبَّرَ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ وَفِي الْمُقَارَنَةِ وَتَقْدِيمِ الرَّفْعِ عَلَى التَّكْبِيرِ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَالْمُرَجَّحُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الْمُقَارَنَةُ، وَلَمْ أَرَ مَنْ قَالَ بِتَقْدِيمِ التَّكْبِيرِ عَلَى الرَّفْعِ، وَيُرَجِّحُ الْأَوَّلَ حَدِيثُ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ بِلَفْظِ: رَفَعَ يَدَيْهِ مَعَ التَّكْبِيرِ، وَقَضِيَّةُ الْمَعِيَّةِ أَنَّهُ يَنْتَهِي بِانْتِهَائِهِ، وَهُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَنَقَلَهَ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ الْمُرَجَّحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. وَصُحِّحَ فِي الرَّوْضَةِ - تَبَعًا لِأَصْلِهَا - أَنَّهُ لَا حَدَّ لِانْتِهَائِهِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: الْأَصَحُّ يَرْفَعُ ثُمَّ يُكَبِّرُ؛ لِأَنَّ الرَّفْعَ نَفْيُ صِفَةِ الْكِبْرِيَاءِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ، وَالتَّكْبِيرُ إِثْبَاتُ ذَلِكَ لَهُ، وَالنَّفْيُ سَابِقٌ عَلَى الْإِثْبَاتِ كَمَا فِي كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ. وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي الرَّفْعِ مَا ذَكَرَ. وَقَدْ قَالَ فَرِيقٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: الْحِكْمَةُ فِي اقْتِرَانِهِمَا أَنْ يَرَاهُ الْأَصَمُّ وَيَسْمَعَهُ الْأَعْمَى.
وَقَدْ ذُكِرَتْ فِي ذَلِكَ مُنَاسَبَاتٌ أُخَرُ، فَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْإِشَارَةُ إِلَى طَرْحِ الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالِ بِكُلِّيَّتِهِ عَلَى الْعِبَادَةِ، وَقِيلَ: إِلَى الِاسْتِسْلَامِ وَالِانْقِيَادِ؛ لِيُنَاسِبَ فِعْلُهُ قَوْلَهُ: اللَّهُ أَكْبَرُ. وَقِيلَ: إِلَى اسْتِعْظَامِ مَا دَخَلَ فِيهِ، وَقِيلَ: إِشَارَةٌ إِلَى تَمَامِ الْقِيَامِ، وَقِيلَ: إِلَى رَفْعِ الْحِجَابِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْمَعْبُودِ، وَقِيلَ: لِيَسْتَقْبِلَ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا أَنْسَبُهَا. وَتُعُقِّبَ. وَقَالَ الرَّبِيعُ: قُلْتُ لِلشَّافِعِيِّ: مَا مَعْنَى رَفْعِ الْيَدَيْنِ؟ قَالَ: تَعْظِيمُ اللَّهِ، وَاتِّبَاعُ سُنَّةِ نَبِيِّهِ. وَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: رَفْعُ الْيَدَيْنِ مِنْ زِينَةِ الصَّلَاةِ. وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: بِكُلِّ رَفْعٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، بِكُلِّ إِصْبَعٍ حَسَنَةٌ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ) هُوَ الْقَعْنَبِيُّ، وَفِي رِوَايَتِهِ هَذِهِ عَنْ مَالِكٍ خِلَافُ مَا فِي رِوَايَتِهِ عَنْهُ فِي الْمُوَطَّأِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَتِهِ بِلَفْظِ الْمُوَطَّأِ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، وَالْقَعْنَبِيُّ، وَسَرَدَ جَمَاعَةٌ مِنْ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ فَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ الرَّفْعَ عِنْدَ الرُّكُوعِ. قَالَ: وَحَدَّثَ بِهِ عَنْ مَالِكٍ فِي غَيْرِ الْمُوَطَّأِ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَابْنُ مَهْدِيٍّ، وَالْقَطَّانُ وَغَيْرُهُمْ بِإِثْبَاتِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كُلُّ مَنْ رَوَاهُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَثْبَتَهُ غَيْرُ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ خَاصَّةً، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى اسْتِحْبَابِ
رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ أَسْطُرٍ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ مِنَ الرَّفْعِ، إِلَّا أَنَّهُ حُكِيَ وُجُوبُهُ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ عَنْ دَاوُدَ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ سَيَّارٍ مِنْ أَصْحَابِنَا اهـ.
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ تَنَاقُضٌ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ الْمُعْتَرِضُ، فَلَعَلَّهُ أَرَادَ إِجْمَاعَ مَنْ قَبْلَ الْمَذْكُورِينَ، أَوْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ عَنْهُمَا أَوْ لِأَنَّ الِاسْتِحْبَابَ لَا يُنَافِي الْوُجُوبَ، وَبِالِاعْتِذَارِ الْأَوَّلِ يَنْدَفِعُ اعْتِرَاضُ مَنْ أَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ مَالِكًا قَالَ فِي رِوَايَتِهِ عَنْهُ: إِنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ، نَقَلَهُ صَاحِبُ التَّبْصِرَةِ مِنْهُمْ، وَحَكَاهُ الْبَاجِيُّ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ مُتَقَدِّمِيهِمْ. وَأَسْلَمُ الْعِبَارَاتِ قَوْلُ ابْنِ الْمُنْذِرِ: لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ.
وَقَوْلُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ. وَمِمَّنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ أَيْضًا الْأَوْزَاعِيُّ، وَالْحُمَيْدِيُّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ أَصْحَابِنَا، نَقَلَهُ عَنْهُ الْحَاكِمُ فِي تَرْجَمَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْعَلَوِيِّ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي حُسَيْنُ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كُلُّ مَنْ نُقِلَ عَنْهُ الْإِيجَابُ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ بِتَرْكِهِ إِلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، وَالْحُمَيْدِيِّ. قُلْتُ: وَنَقَلَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: يَأْثَمُ تَارِكُهُ، وَأَمَّا قَوْلُ النَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: أَجْمَعُوا عَلَى اسْتِحْبَابِهِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَنَقَلَ الْعَبْدَرِيُّ عَنِ الزَّيْدِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ، وَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ، وَنَقَلَ الْقَفَّالُ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ سَيَّارٍ أَنَّهُ أَوْجَبَهُ، وَإِذَا لَمْ يَرْفَعْ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، وَهُوَ مَرْدُودٌ بِإِجْمَاعِ مَنْ قَبْلَهُ، وَفِي نَقْلِ الْإِجْمَاعِ نَظَرٌ؛ فَقَدْ نُقِلَ الْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ عَنْ بَعْضِ مَنْ تَقَدَّمَهُ، وَنَقَلَهُ الْقَفَّالُ فِي فَتَاوِيهِ عَنْ أَحْمَدِ بْنِ سَيَّارٍ الَّذِي مَضَى، وَنَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي أَوَائِلِ تَفْسِيرِهِ عَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ ابْنِ خُزَيْمَةَ: إِنَّهُ رُكْنٌ، وَاحْتَجَّ ابْنُ حَزْمٍ بِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي، وَسَيَأْتِي مَا يَرُدُّ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى نِهَايَةِ الرَّفْعِ بَعْدُ بِبَابٍ.
84 - بَاب رَفْعِ الْيَدَيْنِ إِذَا كَبَّرَ، وَإِذَا رَكَعَ، وَإِذَا رَفَعَ
736 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ فِي الصَّلَاةِ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يَكُونَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ حِينَ يُكَبِّرُ لِلرُّكُوعِ، وَيَفْعَلُ ذَلِكَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، وَيَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ.
737 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْوَاسِطِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ خَالِدٍ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّهُ رَأَى مَالِكَ بْنَ الْحُوَيْرِثِ إِذَا صَلَّى كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ رَفَعَ يَدَيْهِ وَحَدَّثَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَنَعَ هَكَذَا "
قَوْلُهُ: (بَابُ رَفْعِ الْيَدَيْنِ إِذَا كَبَّرَ وَإِذَا رَكَعَ وَإِذَا رَفَعَ) قَدْ صَنَّفَ الْبُخَارِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ جُزْءًا مُنْفَرِدًا، وَحَكَى فِيهِ عَنِ الْحَسَنِ، وَحُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَلَمْ يَسْتَثْنِ الْحَسَنُ أَحَدًا. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كُلُّ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ تَرْكُ الرَّفْعِ فِي الرُّكُوعِ وَالرَّفْعُ مِنْهُ رُوِيَ عَنْهُ فِعْلُهُ إِلَّا ابْنَ مَسْعُودٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ:
أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ ذَلِكَ إِلَّا أَهْلُ الْكُوفَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ
(1)
: لَمْ يَرْوِ أَحَدٌ عَنْ مَالِكٍ تَرْكَ الرَّفْعِ فِيهِمَا إِلَّا ابْنُ الْقَاسِمِ. وَالَّذِي نَأْخُذُ بِهِ الرَّفْعَ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ وَغَيْرُهُ عَنْ مَالِكٍ، وَلَمْ يَحْكِ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ مَالِكٍ غَيْرَهُ، وَنَقَلَ الْخَطَّابِيُّ وَتَبِعَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ أَنَّهُ آخِرُ قَوْلَيْ مَالِكٍ وَأَصَحُّهُمَا، وَلَمْ أَرَ لِلْمَالِكِيَّةِ دَلِيلًا عَلَى تَرْكِهِ وَلَا مُتَمَسَّكًا إِلَّا بِقَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَعَوَّلُوا عَلَى رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ صَلَّى خَلْفَ ابْنِ عُمَرَ فَلَمْ يَرَهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ. وَأُجِيبُوا بِالطَّعْنِ فِي إِسْنَادِهِ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ رَاوِيَهُ سَاءَ حِفْظُهُ بِآخِرِهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ فَقَدْ أَثْبَتَ ذَلِكَ سَالِمٌ، وَنَافِعٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْهُ وَسَتَأْتِي رِوَايَةُ نَافِعٍ بَعْدَ بَابَيْنِ، وَالْعَدَدُ الْكَثِيرُ أَوْلَى مِنْ وَاحِدٍ، لَا سِيَّمَا وَهْمْ مُثْبِتُونَ وَهُوَ نَافٍ، مَعَ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ مُمْكِنٌ وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَرَاهُ وَاجِبًا فَفَعَلَهُ تَارَةً وَتَرَكَهُ أُخْرَى. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي جُزْءِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا رَأَى رَجُلًا لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ إِذَا رَكَعَ وَإِذَا رَفَعَ رَمَاهُ بِالْحَصَا، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ الِافْتِتَاحِ ثُمَّ لَا يَعُودُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَرَدَّهُ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ، قَالَ: وَلَوْ ثَبَتَ لَكَانَ الْمُثْبِتُ مُقَدَّمًا عَلَى النَّافِي، وَقَدْ صَحَّحَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ؛ لَكِنَّهُ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ، والطَّحَاوِيُّ إِنَّمَا نَصَبَ الْخِلَافَ مَعَ مَنْ يَقُولُ بِوُجُوبِهِ كَالْأَوْزَاعِيِّ وَبَعْضِ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَنَقَلَ الْبُخَارِيُّ عَقِبَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي هَذَا الْبَابِ عَنْ شَيْخِهِ عَلِيِّ ابْنِ الْمَدِينِيِّ قَالَ: حَقٌّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَرْفَعُوا أَيْدِيَهُمْ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ هَذَا، وَهَذَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَسَاكِرَ. وَقَدْ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي جُزْءِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ وَزَادَ: وَكَانَ عَلِيٌّ أَعْلَمَ أَهْلِ زَمَانِهِ.
وَمُقَابِلُ هَذَا قَوْلُ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ إنَّهُ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ. وَنَسَبَ بَعْضُ مُتَأَخَّرِي الْمَغَارِبَةِ فَاعِلَهُ إِلَى الْبِدْعَةِ، وَلِهَذَا مَالَ بَعْضُ مُحَقِّقِيهِمْ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ إِلَى تَرْكِهِ دَرْءًا لِهَذِهِ الْمَفْسَدَةِ. وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي جُزْءِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ: مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ بِدْعَةٌ فَقَدْ طَعَنَ فِي الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ تَرْكُهُ. قَالَ: وَلَا أَسَانِيدَ أَصَحُّ مِنْ أَسَانِيدِ الرَّفْعِ. انْتَهَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا أَنَّهُ رَوَاهُ سَبْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَذَكَرَ الْحَاكِمُ، وَأَبُو الْقَاسِمِ بْنُ مَنْدَهْ مِمَّنْ رَوَاهُ الْعَشَرَةُ الْمُبَشَّرَةُ، وَذَكَرَ شَيْخُنَا أَبُو الْفَضْلِ الْحَافِظُ أَنَّهُ تَتَبَّعَ مَنْ رَوَاهُ مِنَ الصَّحَابَةِ فَبَلَغُوا خَمْسِينَ رَجُلًا.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَيُونُسُ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ. وَأَفَادَتْ هَذِهِ الطَّرِيقُ تَصْرِيحَ الزُّهْرِيِّ بِإِخْبَارِ سَالِمٍ لَهُ بِهِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِيهِ) سَمَّاهُ غَيْرُ أَبِي ذَرٍّ فَقَالُوا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ.
قَوْلُهُ: (حِينَ يُكَبِّرُ لِلرُّكُوعِ) أَيْ: عِنْدَ ابْتِدَاءِ الرُّكُوعِ، وَهُوَ مُقْتَضَى رِوَايَةِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَابِ حَيْثُ قَالَ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ وَسَيَأْتِي فِي بَابِ التَّكْبِيرِ إِذَا قَامَ مِنَ السُّجُودِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ.
قَوْلُهُ: (وَيَفْعَلُ ذَلِكَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ) أَيْ: إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْفَعَ. وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ: ثُمَّ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْفَعَ صُلْبَهُ رَفَعَهُمَا حَتَّى يَكُونَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ يَبْتَدِئُ رَفْعَ يَدَيْهِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْقِيَامِ مِنَ الرُّكُوعِ، وَأَمَّا رِوَايَةُ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ الَّتِي أَخْرَجَهَا عَنْهُ أَحْمَدُ وَأَخْرَجَهَا عَنْ أَحْمَدَ، أَبُو دَاوُدَ بِلَفْظِ: وَبَعْدَ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ فَمَعْنَاهُ بَعْدَ مَا يَشْرَعُ فِي الرَّفْعِ لِتَتَّفِقَ الرِّوَايَاتُ.
قَوْلُهُ: (وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ أَيْ: لَا فِي الْهُوِيِّ إِلَيْهِ وَلَا فِي الرَّفْعِ مِنْهُ كَمَا فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ حَيْثُ قَالَ: حِينَ يَسْجُدُ وَلَا حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، وَهَذَا يَشْمَلُ مَا إِذَا نَهَضَ
(1)
في مخطوطة الرياض" ابن عبد الحكم"
مِنَ السُّجُودِ إِلَى الثَّانِيَةِ وَالرَّابِعَةِ وَالتَّشَهُّدَيْنِ، وَيَشْمَلُ مَا إِذَا قَامَ إِلَى الثَّالِثَةِ أَيْضًا لَكِنْ بِدُونِ تَشَهُّدٍ لِكَوْنِهِ غَيْرَ وَاجِبٍ
(1)
وَإِذَا قُلْنَا بِاسْتِحْبَابِ جَلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ لَمْ يَدُلَّ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنْهَا إِلَى الثَّانِيَةِ وَالرَّابِعَةِ، لَكِنْ قَدْ رَوَى يَحْيَى الْقَطَّانُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا هَذَا الْحَدِيثَ وَفِيهِ: وَلَا يَرْفَعُ بَعْدَ ذَلِكَ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْغَرَائِبِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ. وَظَاهِرُهُ يَشْمَلُ النَّفْيَ عَمَّا عَدَا الْمَوَاطِنِ الثَّلَاثَةِ، وَسَيَأْتِي إِثْبَاتُ ذَلِكَ فِي مَوْطِنٍ رَابِعٍ بَعْدُ بِبَابٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ خَالِدٍ) هُوَ الْحَذَّاءُ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ حَدَّثَنَا خَالِدٌ.
قَوْلُهُ: (إِذَا صَلَّى كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ ثُمَّ رَفَعَ وَزَادَ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ نَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا أُذُنَيْهِ وَوَهِمَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ فَعَزَاهُ لِلْمُتَّفِقِ.
قَوْلُهُ: (وَحَدَّثَ) أَيْ: مَالِكَ بْنَ الْحُوَيْرِثِ، وَلَيْسَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ رَأَى فَيَبْقَى فَاعِلُهُ أَبُو قِلَابَةَ فَيَصِيرُ مُرْسَلًا.
85 - بَاب إِلَى أَيْنَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ فِي أَصْحَابِهِ رَفَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ
738 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنَا سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم افْتَتَحَ التَّكْبِيرَ فِي الصَّلَاةِ فَرَفَعَ يَدَيْهِ حِينَ يُكَبِّرُ حَتَّى يَجْعَلَهُمَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ وَإِذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ فَعَلَ مِثْلَهُ وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَعَلَ مِثْلَهُ وَقَالَ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ حِينَ يَسْجُدُ وَلَا حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِلَى أَيْنَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ) لَمْ يَجْزِمِ الْمُصَنِّفُ بِالْحُكْمِ كَمَا جَزَمَ بِهِ قَبْلُ وَبَعْدُ جَرْيًا عَلَى عَادَتِهِ فِيمَا إِذَا قَوَّى الْخِلَافَ؛ لَكِنَّ الْأَرْجَحَ عِنْدَهُ مُحَاذَاةِ الْمَنْكِبَيْنِ لِاقْتِصَارِهِ عَلَى إِيرَادِ دَلِيلِهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ إِلَخْ) هَذَا التَّعْلِيقُ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ سَيَأْتِي فِي بَابِ سُنَّةِ الْجُلُوسِ فِي التَّشَهُّدِ وَسَنَذْكُرُ هُنَاكَ مَنْ عَرَفْنَا اسْمَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ الْمَذْكُورِينَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: مُقَابِلَهُمَا، وَالْمَنْكِبُ مَجْمَعُ عَظْمِ الْعَضُدِ وَالْكَتِفِ، وَبِهَذَا أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَفِي لَفْظٍ لَهُ عَنْهُ: حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا فُرُوعَ أُذُنَيْهِ، وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ بِلَفْظِ: حَتَّى حَاذَتَا أُذُنَيْهِ وَرُجِّحَ الْأَوَّلُ لِكَوْنِ إِسْنَادِهِ أَصَحُّ. وَرَوَى أَبُو ثَوْرٍ، عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: يُحَاذِي بِظَهْرِ كَفَّيْهِ الْمَنْكِبَيْنِ وَبِأَطْرَافِ أَنَامِلِهِ الْأُذُنَيْنِ. وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ وَائِلٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ بِلَفْظِ: حَتَّى كَانَتَا حِيَالَ مَنْكِبَيْهِ، وَحَاذَى بِإِبْهَامَيْهِ أُذُنَيْهِ وَبِهَذَا قَالَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ شَاسٍ فِي الْجَوَاهِرِ لَكِنْ رَوَى مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ فِي الِافْتِتَاحِ، وَفِي غَيْرِهِ دُونَ ذَلِكَ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ. وَيُعَارِضُهُ قَوْلُ ابْنِ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِنَافِعٍ أَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَجْعَلُ الْأُولَى أَرْفَعَهُنَّ؟ قَالَ: لَا. ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا وَقَالَ: لَمْ يَذْكُرْ رَفْعَهُمَا دُونَ ذَلِكَ غَيْرُ مَالِكٍ فِيمَا أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَعَلَ مِثْلَهُ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ
(1)
مراده عند الشافعية وجماعة من أهل العلم، والصواب وجوبه كما هو مذهب أحمد وجماعة، لكونه صلى الله عليه وسلم فعله وداوم عليه وسجد للسهو لما تركه سهوا، ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم " صلوا كما رأيتموني أصلي" والله أعلم
يَقُولُ التَّسْمِيعَ فِي ابْتِدَاءِ ارْتِفَاعِهِ مِنَ الرُّكُوعِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ بَعْدَ أَبْوَابٍ قَلِيلَةٍ.
(فَائِدَةٌ): لَمْ يَرِدْ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّفْرِقَةِ فِي الرَّفْعِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَعَنِ الْحَنَفِيَّةِ يَرْفَعُ الرَّجُلُ إِلَى الْأُذُنَيْنِ وَالْمَرْأَةُ إِلَى الْمَنْكِبَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَسْتَرُ لَهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
86 - بَاب رَفْعِ الْيَدَيْنِ إِذَا قَامَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ
739 -
حَدَّثَنَا عَيَّاشٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا رَكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا قَامَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ رَفَعَ يَدَيْهِ. وَرَفَعَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَرَوَاهُ ابْنُ طَهْمَانَ عَنْ أَيُّوبَ وَمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ مُخْتَصَرًا.
قَوْلُهُ: (بَابُ رَفْعِ الْيَدَيْنِ إِذَا قَامَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ) أَيْ: بَعْدَ التَّشَهُّدِ، فَيَخْرُجُ مَا إِذَا تَرَكَهُ وَنَهَضَ قَائِمًا مِنَ السُّجُودِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي قَبْلَهُ: وَلَا حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ، وَيُحْتَمَلُ حَمْلُ النَّفْيِ هُنَاكَ عَلَى حَالَةِ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنَ السُّجُودِ لَا عَلَى مَا بَعْدَ ذَلِكَ حِينَ يَسْتَوِي قَائِمًا. وَأَبْعَدَ مَنِ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِ سَالِمٍ فِي رِوَايَتِهِ: وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ عَلَى مُوَافَقَةِ رِوَايَةِ نَافِعٍ فِي حَدِيثِ هَذَا الْبَابِ حَيْثُ قَالَ: وَإِذَا قَامَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ لَمْ يَنْفِهِ أَنَّهُ أَثْبَتَهُ بَلْ هُوَ سَاكِتٌ عَنْهُ. وَأَبْعَدَ أَيْضًا مَنِ اسْتَدَلَّ بِرِوَايَةِ سَالِمٍ عَلَى ضَعْفِ رِوَايَةِ نَافِعٍ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ رِوَايَتَيْ نَافِعٍ، وَسَالِمٍ تَعَارُضٌ، بَلْ فِي رِوَايَةِ نَافِعٍ زِيَادَةٌ لَمْ يَنْفِهَا سَالِمٌ، وَسَتَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ سَالِمًا أَثْبَتَهَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَيَّاشٌ) هُوَ بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتَانِيَّةِ وَبِالْمُعْجَمَةِ وَهُوَ ابْنُ الْوَلِيدِ الرَّقَّامُ، وَعَبْدُ الْأَعْلَى هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، وَعُبَيْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ عُمَرَ بْنُ حَفْصٍ.
قَوْلُهُ: (وَرَفَعَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَبُو دَاوُدَ: رَوَاهُ الثَّقَفِيُّ يَعْنِي عَبْدَ الْوَهَّابِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ فَلَمْ يَرْفَعْهُ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَكَذَا رَوَاهُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَمَالِكٌ يَعْنِي عَنْ نَافِعٍ مَوْقُوفًا، وَحَكَى الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ الِاخْتِلَافَ فِي وَقْفِهِ وَرَفْعِهِ وَقَالَ: الْأَشْبَهُ بِالصَّوَابِ قَوْلُ عَبْدِ الْأَعْلَى. وَحَكَى الْإِسْمَاعِيلِيُّ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِهِ أَنَّهُ أَوْمَأَ إِلَى أَنَّ عَبْدَ الْأَعْلَى أَخْطَأَ فِي رَفْعِهِ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: وَخَالَفَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، وَعَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، وَالْمُعْتَمِرُ يَعْنِي عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ فَرَوَوْهُ مَوْقُوفًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
قُلْتُ: وَقَفَهُ مُعْتَمِرٌ، وَعَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ كَمَا قَالَ، لَكِنْ رَفَعَاهُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُمَا الْبُخَارِيُّ فِي جُزْءِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ وَفِيهِ الزِّيَادَةُ، وَقَدْ تُوبِعَ نَافِعٌ عَلَى ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْجُزْءِ الْمَذْكُورِ مِنْ طَرِيقِ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَلَهُ شَوَاهِدُ مِنْهَا حَدِيثُ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ وَحَدِيثُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَخْرَجَهُمَا أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُمَا ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي الْجُزْءِ الْمَذْكُورِ: مَا زَادَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَعَلِيٌّ، وَأَبُو حُمَيْدٍ فِي عَشَرَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنَ الرَّفْعِ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَحْكُوا صَلَاةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا فِيهَا وَإِنَّمَا زَادَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَالزِّيَادَةُ مَقْبُولَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذِهِ زِيَادَةٌ يَجِبُ قَبُولُهَا لِمَنْ يَقُولُ بِالرَّفْعِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَمْ يَقُلْ بِهِ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ لَازِمٌ عَلَى أَصْلِهِ فِي قَبُولِ الزِّيَادَةِ. وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: هُوَ سُنَّةٌ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ
الشَّافِعِيُّ فَالْإِسْنَادُ صَحِيحٌ، وَقَدْ قَالَ: قُولُوا بِالسُّنَّةِ وَدَعُوا قَوْلِي
(1)
. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: قِيَاسُ نَظَرِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الرَّفْعُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الرَّفْعَ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ لِكَوْنِهِ زَائِدًا عَلَى مَنِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ عِنْدَ الِافْتِتَاحِ، وَالْحُجَّةُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدَةٌ، وَأَوَّلُ رَاضٍ سِيرَةً مَنْ يَسِيرُهَا. قَالَ: وَالصَّوَابُ إِثْبَاتُهُ، وَأَمَّا كَوْنُهُ مَذْهَبًا لِلشَّافِعِيِّ لِكَوْنِهِ قَالَ: إِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي فَفِيهِ نَظَرٌ. انْتَهَى.
وَوَجْهُ النَّظَرِ أَنَّ مَحَلَّ الْعَمَلِ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ مَا إِذَا عُرِفَ أَنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، أَمَّا إِذَا عُرِفَ أَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَيْهِ وَرَدَّهُ أَوْ تَأَوَّلَهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ فَلَا، وَالْأَمْرُ هُنَا مُحْتَمَلٌ. وَاسْتَنْبَطَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَقُولُ بِهِ لِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ الْمُشْتَمِلِ عَلَى هَذِهِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهَا: وَبِهَذَا نَقُولُ. وَأَطْلَقَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَيْهِ؛ لَكِنَّ الَّذِي رَأَيْتُ فِي الْأُمِّ خِلَافَ ذَلِكَ فَقَالَ فِي بَابِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي التَّكْبِيرِ فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ مِنْ طَرِيقِ سَالِمٍ وَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ: وَلَا نَأْمُرُهُ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنَ الذِّكْرِ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي لَهَا رُكُوعٌ وَسُجُودٌ إِلَّا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ. وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي أَوَاخِرِ الْبُوَيْطِيِّ: يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ، فَيُحْمَلُ الْخَفْضُ عَلَى الرُّكُوعِ وَالرَّفْعُ عَلَى الِاعْتِدَالِ، وَإِلَّا فَحَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ يَقْتَضِي اسْتِحْبَابُهُ فِي السُّجُودِ أَيْضًا وَهُوَ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَقَدْ نَفَاهُ ابْنُ عُمَرَ.
وَأَغْرَبَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي تَعْلِيقِهِ فَنَقَلَ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ الرَّفْعُ فِي غَيْرِ الْمَوَاطِنِ الثَّلَاثَةِ، وَتُعُقِّبَ بِصِحَّةِ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَطَاوُسٍ، وَنَافِعٍ، وَعَطَاءٍ كَمَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَغَيْرُهُ عَنْهُمْ بِأَسَانِيدَ قَوِيَّةٍ، وَقَدْ قَالَ بِهِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ، والْبَيْهَقِيُّ، وَالْبَغَوِيُّ وَحَكَاهُ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ، عَنْ مَالِكٍ وَهُوَ شَاذٌّ. وَأَصَحُّ مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي الرَّفْعِ فِي السُّجُودِ مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ نَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي صَلَاتِهِ إِذَا رَكَعَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ رُكُوعِهِ، وَإِذَا سَجَدَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ سُجُودِهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا فُرُوعَ أُذُنَيْهِ، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ بِهَذَا الْإِسْنَادِ طَرَفَهُ الْأَخِيرَ
(2)
كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا، وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ سَعِيدٌ فَقَدْ تَابَعَهُ هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ. وَفِي الْبَابِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ لَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْهَا عَنْ مَقَالٍ، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي جُزْءِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ الْمَرْفُوعِ: وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ صَلَاتِهِ وَهُوَ قَاعِدٌ وَأَشَارَ إِلَى تَضْعِيفِ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ.
(تَنْبِيهٌ): رَوَى الطَّحَاوِيُّ حَدِيثَ الْبَابِ فِي مُشْكِلِهِ مِنْ طَرِيقِ نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى بِلَفْظِ: كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ وَقِيَامٍ وَقُعُودٍ وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَيَذْكُرُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَهَذِهِ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ، فَقَدْ رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ مَشَايِخِهِ الْحُفَّاظِ عَنْ نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ الْمَذْكُورِ بِلَفْظِ عَيَّاشٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ، وَكَذَا رَوَاهُ هُوَ وَأَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طرقٍ أُخْرَى عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى كَذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ إِلَخْ) وَصَلَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْجُزْءِ الْمَذْكُورِ عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ حَمَّادٍ مَرْفُوعًا وَلَفْظُهُ: كَانَ إِذَا كَبَّرَ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا رَكَعَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ.
قَوْلُهُ: (وَرَوَاهُ ابْنُ طَهْمَانَ) يَعْنِي إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَيُّوبَ، وَمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، وَهَذَا وَصَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَزِينٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ بِهَذَا السَّنَدِ مَوْقُوفًا نَحْوَ حَدِيثِ حَمَّادٍ وَقَالَ فِي آخِرِهِ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ ذَلِكَ. وَاعْتَرَضَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فَقَالَ: لَيْسَ فِي حَدِيثِ حَمَّادٍ وَلَا ابْنِ طَهْمَانَ الرَّفْعُ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ الْمَعْقُودُ لِأَجْلِهِ الْبَابُ،
(1)
قد أحسن ابن خزسمة في هذا قدس الله روحه وهذا هو اللائق به رحمه الله.
(2)
مراده بذلك قوله "حتى يحاذى بيهما فروع أذنيه".
قَالَ: فَلَعَلَّ الْمُحَدَّثَ عَنْهُ دَخَلَ لَهُ بَابٌ فِي بَابٍ، يَعْنِي أَنَّ هَذَا التَّعْلِيقَ يَلِيقُ بِحَدِيثِ سَالِمٍ الَّذِي فِي الْبَابِ الْمَاضِي. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْبُخَارِيَّ قَصَدَ الرَّدَّ عَلَى مَنْ جَزَمَ بِأَنَّ رِوَايَةَ نَافِعٍ لِأَصْلِ الْحَدِيثِ مَوْقُوفَةٌ وَأَنَّهُ خَالَفَ فِي ذَلِكَ سَالِمًا كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَذَا التَّعْلِيقِ أَنَّهُ اخْتُلِفَ عَلَى نَافِعٍ فِي وَقْفِهِ وَرَفْعِهِ لَا خُصُوصِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ السَّبَبَ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ أَنَّ نَافِعًا كَانَ يَرْوِيهِ مَوْقُوفًا ثُمَّ يُعْقِبُهُ بِالرَّفْعِ، فَكَأَنَّهُ كَانَ أَحْيَانًا يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَوْقُوفِ أَوْ يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ بَعْضُ الرُّوَاةِ عَنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
87 - بَاب وَضْعِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى
740 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ الْيَدَ الْيُمْنَى عَلَى ذِرَاعِهِ الْيُسْرَى فِي الصَّلَاةِ. قَالَ أَبُو حَازِمٍ لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا يَنْمِي ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ إِسْمَاعِيلُ: يُنْمَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَقُلْ: يَنْمِي.
قَوْلُهُ: (بَابُ وَضْعِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فِي الصَّلَاةِ) أَيْ: فِي حَالِ الْقِيَامِ.
قَوْلُهُ: (كَانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ) هَذَا حُكْمُهُ الرَّفْعُ؛ لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْآمِرَ لَهُمْ بِذَلِكَ هُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَمَا سَيَأْتِي.
قَوْلُهُ: (عَلَى ذِرَاعِهِ) أَبْهَمَ مَوْضِعَهُ مِنَ الذِّرَاعِ، وَفِي حَدِيثِ وَائِلٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ: ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُسْرَى وَالرُّسْغَ وَالسَّاعِدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ، وَأَصْلُهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ بِدُونِ الزِّيَادَةِ، وَالرُّسْغُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ هُوَ الْمَفْصِلُ بَيْنَ السَّاعِدِ وَالْكَفِّ، وَسَيَأْتِي أَثَرُ عَلِيٍّ نَحْوُهُ فِي أَوَاخِرِ الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَيْضًا مَحَلَّهُمَا مِنَ الْجَسَدِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ حَدِيثِ وَائِلٍ أَنَّهُ وَضَعَهُمَا عَلَى صَدْرِهِ، وَالْبَزَّارُ عِنْدَ صَدْرِهِ، وَعِنْدَ أَحْمَدَ فِي حَدِيثِ هُلْبٍ الطَّائِيِّ نَحْوُهُ. وَهُلْبٌ بِضَمِّ الْهَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ، وَفِي زِيَادَاتِ الْمُسْنَدِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ أَنَّهُ وَضَعَهُمَا تَحْتَ السُّرَّةِ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.
وَاعْتَرَضَ الدَّانِيُّ فِي أَطْرَافِ الْمُوَطَّأِ فَقَالَ: هَذَا مَعْلُولٌ؛ لِأَنَّهُ ظَنٌّ مِنْ أَبِي حَازِمٍ، وَرُدَّ بِأَنَّ أَبَا حَازِمٍ لَوْ لَمْ يَقُلْ لَا أَعْلَمُهُ إِلَخْ لَكَانَ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ كُنَّا نُؤْمَرُ بِكَذَا يُصْرَفُ بِظَاهِرِهِ إِلَى مَنْ لَهُ الْأَمْرُ وَهُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّ الصَّحَابِيَّ فِي مَقَامِ تَعْرِيفِ الشَّرْعِ فَيُحْمَلُ عَلَى مَنْ صَدَرَ عَنْهُ الشَّرْعُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ عَائِشَةَ كُنَّا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْآمِرَ بِذَلِكَ هُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. وَأَطْلَقَ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَهْلِ النَّقْلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ وَصَحِيحِ ابْنِ السَّكَنِ شَيْءٌ يُسْتَأْنَسُ بِهِ عَلَى تَعْيِينِ الْآمِرِ وَالْمَأْمُورِ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: رَآنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَاضِعًا يَدِيَ الْيُسْرَى عَلَى يَدِي الْيُمْنَى فَنَزَعَهَا وَوَضَعَ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، إِسْنَادُهُ حَسَنٌ، قِيلَ: لَوْ كَانَ مَرْفُوعًا مَا احْتَاجَ أَبُو حَازِمٍ إِلَى قَوْلِهِ لَا أَعْلَمُهُ إِلَخْ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ أَرَادَ الِانْتِقَالَ إِلَى التَّصْرِيحِ، فَالْأَوَّلُ لَا يُقَالُ لَهُ مَرْفُوعٌ وَإِنَّمَا يُقَالُ: لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْحِكْمَةُ فِي هَذِهِ الْهَيْئَةِ أَنَّهُ صِفَةُ السَّائِلِ الذَّلِيلِ، وَهُوَ أَمْنَعُ مِنَ الْعَبَثِ وَأَقْرَبُ إِلَى الْخُشُوعِ، وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ لَحِظَ ذَلِكَ فَعَقَّبَهُ بِبَابِ الْخُشُوعِ. وَمِنَ اللَّطَائِفِ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: الْقَلْبُ مَوْضِعُ النِّيَّةِ، وَالْعَادَةُ أَنَّ مَنِ احْتَرَزَ عَلَى حِفْظِ شَيْءٍ جَعَلَ يَدَيْهِ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ يَأْتِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ خِلَافٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ، وَلَمْ يَحْكِ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ عَنْ مَالِكٍ غَيْرَهُ. وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ الْإِرْسَالَ، وَصَارَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ، وَعَنْهُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْفَرِيضَةِ وَالنَّافِلَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَ الْإِمْسَاكَ. وَنَقَلَ ابْنُ الْحَاجِبِ أَنَّ ذَلِكَ حَيْثُ يُمْسِكُ مُعْتَمِدًا لِقَصْدِ الرَّاحَةِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو حَازِمٍ) يَعْنِي رَاوِيَهُ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ إِلَيْهِ (لَا أَعْلَمُهُ) أَيْ: سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ (إِلَّا يَنْمِي) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ النُّونِ وَكَسْرِ الْمِيمِ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: نَمَيْتُ الْحَدِيثَ إِلَى غَيْرِي رَفَعْتُهُ وَأَسْنَدْتُهُ وَصَرَّحَ بِذَلِكَ مَعْنُ بْنُ عِيسَى، وَابْنُ يُوسُفَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، والدَّارَقُطْنِيُّ، وَزَادَ ابْنُ وَهْبٍ: ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ مَالِكٍ بِلَفْظِ: يَرْفَعُ ذَلِكَ، وَمِنِ اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْحَدِيثِ إِذَا قَالَ الرَّاوِي يُنْمِيهِ فَمُرَادُهُ يَرْفَعُ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَوْ لَمْ يُقَيِّدْهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ يُنْمَى ذَلِكَ وَلَمْ يَقُلْ يُنْمِي) الْأَوَّلُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْمِيمِ بِلَفْظِ الْمَجْهُولِ، وَالثَّانِي وَهُوَ الْمَنْفِيُّ كَرِوَايَةِ الْقَعْنَبِيِّ، فَعَلَى الْأَوَّلِ الْهَاءُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ فَيَكُونُ مُرْسَلًا؛ لِأَنَّ أَبَا حَازِمٍ لَمْ يُعَيِّنْ مَنْ نَمَّاهُ لَهُ، وَعَلَى رِوَايَةِ الْقَعْنَبِيِّ الضَّمِيرُ لِسَهْلٍ شَيْخُهُ فَهُوَ مُتَّصِلٌ. وَإِسْمَاعِيلُ هَذَا هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْحُمَيْدِيُّ فِي الْجَمْعِ. وَقَرَأْتُ بِخَطِّ مُغْلَطَايْ هُوَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي، وَكَأَنَّهُ رَأَى الْحَدِيثَ عِنْدَ الْجَوْزَقِيِّ، والْبَيْهَقِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ رِوَايَتِهِ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ فَظَنَّ أَنَّهُ الْمُرَادُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ رِوَايَةَ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ مُوَافِقَةٌ لِرِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ أَنَّ الْبُخَارِيَّ رَوَى عَنْهُ وَهُوَ أَصْغَرُ سِنًّا مِنَ الْبُخَارِيِّ وَأَحْدَثُ سَمَاعًا، وَقَدْ شَارَكَهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَشَايِخِهِ الْبَصْرِيِّينَ الْقُدَمَاءِ، وَوَافَقَ إِسْمَاعِيلَ بْنَ أَبِي أُوَيْسٍ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْ مَالِكِ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ سَعِيدٍ فِيمَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْغَرَائِبِ.
(تَنْبِيهٌ): حَكَى فِي الْمَطَالِعِ أَنَّ رِوَايَةَ الْقَعْنَبِيِّ بِضَمِّ أَوَّلِهِ مِنْ أَنَمَى، قَالَ: وَهُوَ غَلَطٌ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الزَّجَّاجَ ذَكَرَ فِي كِتَابِ فَعَلْتُ وَأَفْعَلْتُ: نَمَيْتُ الْحَدِيثَ وَأَنْمَيْتُهُ، وَكَذَا حَكَاهُ ابْنُ دُرَيْدٍ وَغَيْرُهُ. وَمَعَ ذَلِكَ فَالَّذِي ضَبَطْنَاهُ فِي الْبُخَارِيِّ، عَنِ الْقَعْنَبِيِّ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مِنَ الثُّلَاثِيِّ، فَلَعَلَّ الضَّمَّ رِوَايَةُ الْقَعْنَبِيِّ فِي الْمُوَطَّأِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
88 - بَاب الْخُشُوعِ فِي الصَّلَاةِ
741 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: هَلْ تَرَوْنَ قِبْلَتِي هَا هُنَا؟ وَاللَّهِ مَا يَخْفَى عَلَيَّ رُكُوعُكُمْ وَلَا خُشُوعُكُمْ، وَإِنِّي لأَرَاكُمْ من وَرَاءَ ظَهْرِي.
742 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَقِيمُوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَاكُمْ مِنْ بَعْدِي - وَرُبَّمَا قَالَ - مِنْ بَعْدِ ظَهْرِي إِذَا رَكَعْتُمْ وَسَجَدْتُمْ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْخُشُوعِ فِي الصَّلَاةِ) سَقَطَ لَفْظُ بَابِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ. وَالْخُشُوعُ تَارَةً يَكُونُ مِنْ فِعْلِ الْقَلْبِ كَالْخَشْيَةِ، وَتَارَةً مِنْ فِعْلِ الْبَدَنِ كَالسُّكُونِ، وَقِيلَ: لَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِهِمَا حَكَاهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ مَعْنًى يَقُومُ بِالنَّفْسِ يَظْهَرُ عَنْهُ سُكُونٌ فِي الْأَطْرَافِ يُلَائِمُ مَقْصُودَ الْعِبَادَةِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ حَدِيثُ عَلِيٍّ: الْخُشُوعُ فِي الْقَلْبِ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ. وَأَمَّا حَدِيثُ: لَوْ خَشَعَ هَذَا خَشَعَتْ جَوَارِحُهُ فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الظَّاهِرَ عُنْوَانُ الْبَاطِنِ.
حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابِ عِظَةِ الْإِمَامِ النَّاسَ فِي إِتْمَامِ الصَّلَاةِ مِنْ أَبْوَابِ الْقِبْلَةِ. وَأَوْرَدَ فِيهِ أَيْضًا حَدِيثَ أَنَسٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِبَعْضِ مُغَايَرَةٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَنَسٍ) عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مُوسَى، عَنْ غُنْدَرٍ التَّصْرِيحُ بِقَوْلِ قَتَادَةَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ.
قَوْلُهُ: (أَقِيمُوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ) أَيْ: أَكْمِلُوهُمَا، وَفِي رِوَايَةِ مُعَاذٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ أَتِمُّوا بَدَلَ أَقِيمُوا.
قَوْلُهُ: (فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَاكُمْ مِنْ بَعْدِي) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى
هَذِهِ الرِّوَايَةِ. وَأَغْرَبَ الدَّاوُدِيُّ الشَّارِحُ فَحَمَلَ الْبَعْدِيَّةَ هُنَا عَلَى مَا بَعْدَ الْوَفَاةِ، يَعْنِي أَنَّ أَعْمَالَ الْأُمَّةِ تُعْرَضُ عَلَيْهِ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَتَأَمَّلْ سِيَاقَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ حَيْثُ بَيَّنَ فِيهِ سَبَبَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَحَدِيثَ أَنَسٍ فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ مُقْتَضَى صَنِيعِ الْبُخَارِيِّ فِي إِيرَادِهِ الْحَدِيثَيْنِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَكَذَا أَوْرَدَهُمَا مُسْلِمٌ مَعًا.
وَاسْتَشْكَلَ إِيرَادُ الْبُخَارِيِّ لِحَدِيثِ أَنَسٍ هَذَا لِكَوْنِهِ لَا ذِكْرَ فِيهِ لِلْخُشُوعِ الَّذِي تَرْجَمَ لَهُ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ الْخُشُوعَ يُدْرَكُ بِسُكُونِ الْجَوَارِحِ إِذِ الظَّاهِرُ عُنْوَانُ الْبَاطِنِ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِذَا قَامَ فِي الصَّلَاةِ كَأَنَّهُ عُودٌ، وَحَدَّثَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقِ كَانَ كَذَلِكَ. قَالَ وَكَانَ يُقَالُ: ذَاكَ الْخُشُوعُ فِي الصَّلَاةِ. وَاسْتُدِلَّ بِحَدِيثِ الْبَابِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ إِذْ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ. نَعَمْ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا ثُمَّ انْصَرَفَ فَقَالَ: يَا فُلَانُ أَلَا تُحْسِنُ صَلَاتَكَ، وَلَهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: أَتِمُّوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، وَفِي أُخْرَى: أَقِيمُوا الصُّفُوفَ، وَفِي أُخْرَى: لَا تَسْبِقُونِي بِالرُّكُوعِ وَلَا بِالسُّجُودِ، وَعِنْدَ أَحْمَدَ: صَلَّى بِنَا الظُّهْرَ وَفِي مُؤَخَّرِ الصُّفُوفِ رَجُلٌ فَأَسَاءَ الصَّلَاةَ، وَعِنْدَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ تَعَمَّدَ الْمُسَابَقَةَ لِيَنْظُرَ هَلْ يَعْلَمُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ لَا؟ فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ.
وَاخْتِلَافُ هَذِهِ الْأَسْبَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ صَدَرَ مِنْ جَمَاعَةٍ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ فِي صَلَوَاتٍ، وَقَدْ حَكَى النَّوَوِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْخُشُوعَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ قَوْلُ الْقَاضِي حُسَيْنٍ: إِنَّ مُدَافَعَةَ الْأَخْبَثَيْنِ إِذَا انْتَهَتْ إِلَى حَدٍّ يَذْهَبُ مَعَهُ الْخُشُوعُ أَبْطَلَتِ الصَّلَاةَ، وَقَالَهُ أَيْضًا أَبُو زَيْدٍ الْمَرْوَزِيُّ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْإِجْمَاعِ السَّابِقِ أَوِ الْمُرَادُ بِالْإِجْمَاعِ أَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ أَحَدٌ بِوُجُوبِهِ، وَكِلَاهُمَا
(1)
فِي أَمْرٍ يَحْصُلُ مِنْ مَجْمُوعِ الْمُدَافَعَةِ وَتَرْكِ الْخُشُوعِ، وَفِيهِ تَعَقُّبٌ عَلَى مَنْ نَسَبَ إِلَى الْقَاضِي وَأَبِي زَيْدٍ أَنَّهُمَا قَالَا: إِنَّ الْخُشُوعَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ حَكَاهُ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ وَقَالَ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنْ يَحْصُلَ فِي الصَّلَاةِ فِي الْجُمْلَةِ لَا فِي جَمِيعِهَا، وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ بَطَّالٍ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَإِنَّ الْخُشُوعَ فَرْضٌ فِي الصَّلَاةِ، قِيلَ لَهُ بِحَسْبِ الْإِنْسَانِ أَنْ يُقْبِلَ عَلَى صَلَاتِهِ بِقَلْبِهِ وَنِيَّتِهِ يُرِيدُ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ عز وجل وَلَا طَاقَةَ لَهُ بِمَا اعْتَرَضَهُ مِنَ الْخَوَاطِرِ. فَحَاصِلُ كَلَامِهِ أَنَّ الْقَدْرَ الْمَذْكُورَ هُوَ الَّذِي يَجِبُ مِنَ الْخُشُوعِ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَلَا. وَأَنْكَرَ ابْنُ الْمُنِيرِ إِطْلَاقَ الْفَرْضِيَّةِ وَقَالَ: الصَّوَابُ أَنَّ عَدَمَ الْخُشُوعِ تَابِعٌ لِمَا يَظْهَرُ عَنْهُ مِنَ الْآثَارِ وَهُوَ أَمْرٌ مُتَفَاوِتٌ، فَإِنْ أَثَّرَ نَقْصًا فِي الْوَاجِبَاتِ كَانَ حَرَامًا وَكَانَ الْخُشُوعُ وَاجِبًا وَإِلَّا فَلَا.
وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الْحِكْمَةِ فِي تَحْذِيرِهِمْ مِنَ النَّقْصِ فِي الصَّلَاةِ بِرُؤْيَتِهِ إِيَّاهُمْ دُونَ تَحْذِيرِهِمْ بِرُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ، وَهُوَ مَقَامُ الْإِحْسَانِ الْمُبَيَّنِ فِي سُؤَالِ جِبْرِيلَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ: اعْبُدِ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ فَأُجِيبَ بِأَنَّ فِي التَّعْلِيلِ بِرُؤْيَتِهِ صلى الله عليه وسلم تَنْبِيهًا عَلَى رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ، فَإِنَّهُمْ إِذَا أَحْسَنُوا الصَّلَاةَ لِكَوْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَرَاهُمْ أَيْقَظَهُمْ ذَلِكَ إِلَى مُرَاقَبَةِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ مَا تَضَمَّنَهُ الْحَدِيثُ مِنَ الْمُعْجِزَةِ لَهُ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ، وَلِكَوْنِهِ يُبْعَثُ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِذَا عَلِمُوا أَنَّهُ يَرَاهُمْ تَحَفَّظُوا فِي عِبَادَتِهِمْ لِيَشْهَدَ لَهُمْ بِحُسْنِ عِبَادَتِهِمْ.
89 - بَاب مَا يَقُولُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ
743 -
حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ رَضِيَ
(1)
كذا: ولعله " وكلاهما "
اللَّهُ عَنْهُمَا كَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ بِـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
744 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ قَالَ حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْكُتُ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَبَيْنَ الْقِرَاءَةِ إِسْكَاتَةً قَالَ أَحْسِبُهُ قَالَ هُنَيَّةً فَقُلْتُ بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ إِسْكَاتُكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ مَا تَقُولُ قَالَ أَقُولُ اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ "
قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يَقُولُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي بَابُ مَا يَقْرَأُ بَدَلَ مَا يَقُولُ وَعَلَيْهَا اقْتَصَرَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ. وَاسْتَشْكَلَ إِيرَادَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِذْ لَا ذِكْرَ لِلْقِرَاءَةِ فِيهِ، وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: ضَمَّنَ قَوْلَهُ مَا يَقْرَأُ مَا يَقُولُ مِنَ الدُّعَاءِ قَوْلًا مُتَّصِلًا بِالْقِرَاءَةِ، أَوْ لَمَّا كَانَ الدُّعَاءُ وَالْقِرَاءَةُ يُقْصَدُ بِهِمَا التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى اسْتَغْنَى بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ كَمَا جَاءَ عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا. وَقَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: دُعَاءُ الِافْتِتَاحِ يَتَضَمَّنُ مُنَاجَاةَ الرَّبِّ وَالْإِقْبَالَ عَلَيْهِ بِالسُّؤَالِ، وَقِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ تَتَضَمَّنُ هَذَا الْمَعْنَى، فَظَهَرَتِ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ.
قَوْلُهُ: (كَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ) أَيِ: الْقِرَاءَةَ فِي الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْجَوْزَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُمَرَ الدَّوْرِيِّ وَهُوَ حَفْصُ بْنُ عُمَرَ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ بِلَفْظِ: كَانُوا يَفْتَتِحُونَ الْقِرَاءَةَ بِـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي جُزْءِ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَرْزُوقٍ، عَنْ شُعْبَةَ وَذَكَرَ أَنَّهَا أَبْيَنُ مِنْ رِوَايَةِ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ.
قَوْلُهُ: (بِـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}) بِضَمِّ الدَّالِ عَلَى الْحِكَايَةِ. وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِذَلِكَ فَقِيلَ: الْمَعْنَى كَانُوا يَفْتَتِحُونَ بِالْفَاتِحَةِ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ أَثْبَتَ الْبَسْمَلَةَ فِي أَوَّلِهَا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهَا إِنَّمَا تُسَمَّى الْحَمْدَ فَقَطْ، وَأُجِيبَ بِمَنْعِ الْحَصْرِ، وَمُسْتَنَدُهُ ثُبُوتُ تَسْمِيَتِهَا بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ وَهِيَ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَخْرَجَهُ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: أَلَا أُعَلِّمُكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ قَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ الْمَعْنَى كَانُوا يَفْتَتِحُونَ بِهَذَا اللَّفْظِ تَمَسُّكًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ نَفَى قِرَاءَةَ الْبَسْمَلَةِ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِهِ: كَانُوا يَفْتَتِحُونَ بِالْحَمْدِ أَنَّهُمْ لَمْ يَقْرَءُوا {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} سِرًّا، وَقَدْ أَطْلَقَ أَبُو هُرَيْرَةَ السُّكُوتَ عَلَى الْقِرَاءَةِ سِرًّا كَمَا فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي مِنَ الْبَابِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الرُّوَاةُ عَنْ شُعْبَةَ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ: فَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ عَنْهُ بِلَفْظِ: كَانُوا يَفْتَتِحُونَ بِـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، وَرَوَاهُ آخَرُونَ عَنْهُ بِلَفْظِ: فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقْرَأُ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْخَطِيبُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عُمَرَ الدُّورِيِّ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ.
وَأَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ بِاللَّفْظَيْنِ، وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَثْبَتِ أَصْحَابِ شُعْبَةَ، وَلَا يُقَالُ هَذَا اضْطِرَابٌ مِنْ شُعْبَةَ؛ لِأَنَّا نَقُولُ قَدْ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ قَتَادَةَ عَنْهُ بِاللَّفْظَيْنِ، فَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي جُزْءِ الْقِرَاءَةِ وَالنَّسَائِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ وَهَؤُلَاءِ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَوَانَةَ، وَالْبُخَارِيُّ فِي جُزْءِ الْقِرَاءَةِ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ، وَالْبُخَارِيُّ فِيهِ وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَالْبُخَارِيُّ فِيهِ وَالسَّرَّاجُ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ كُلُّهُمْ عَنْ قَتَادَةَ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ، وَأَخْرَجَهُ
مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ بِلَفْظِ: لَمْ يَكُونُوا يَذْكُرُونَ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، وَقَدْ قَدَحَ بَعْضُهُمْ فِي صِحَّتِهِ بِكَوْنِ الْأَوْزَاعِيِّ رَوَاهُ عَنْ قَتَادَةَ مُكَاتَبَةً، وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ الْأَوْزَاعِيَّ لَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ فَقَدْ رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى، عَنْ أَحْمَدَ الدَّوْرَقِيِّ، وَالسَّرَّاجُ، عَنْ يَعْقُوبَ الدَّوْرَقِيِّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ السُّلَمِيِّ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ: فَلَمْ يَكُونُوا يَفْتَتِحُونَ الْقِرَاءَةَ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
قَالَ شُعْبَةُ قُلْتُ لِقَتَادَةَ: سَمِعْتُهُ مِنْ أَنَسٍ؟ قَالَ: نَحْنُ سَأَلْنَاهُ؛ لَكِنَّ هَذَا النَّفْيَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُمُ الْبَسْمَلَةُ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا يَقْرَءُونَهَا سِرًّا، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ مَنْ رَوَاهُ عَنْهُ بِلَفْظِ: فَلَمْ يَكُونُوا يَجْهَرُونَ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كَذَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَهَمَّامٌ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَشَيْبَانُ عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَشُعْبَةُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ عَنْهُ عِنْدَ أَحْمَدَ أَرْبَعَتُهُمْ عَنْ قَتَادَةَ.
وَلَا يُقَالُ هَذَا اضْطِرَابٌ مِنْ قَتَادَةَ لِأَنَّا نَقُولُ: قَدْ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَنَسٍ عَنْهُ كَذَلِكَ: فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي جُزْءِ الْقِرَاءَةِ وَالسَّرَّاجُ، وَأَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، وَالسَّرَّاجُ مِنْ طَرِيقِ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، وَالْبُخَارِيُّ فِيهِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ كُلُّهُمْ عَنْ أَنَسٍ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ أَيْضًا، وَابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ ثَابِتٍ أَيْضًا، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي قِلَابَةَ، والطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي نَعَامَةَ، كُلُّهُمْ عَنْ أَنَسٍ بِاللَّفْظِ النَّافِي لِلْجَهْرِ، فَطَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ حَمَلُ نَفْيِ الْقِرَاءَةِ عَلَى نَفْيِ السَّمَاعِ وَنَفْيِ السَّمَاعِ عَلَى نَفْيِ الْجَهْرِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ لَفْظَ رِوَايَةِ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ: فَلَمْ يُسْمِعْنَا قِرَاءَةَ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ بِلَفْظِ: كَانُوا يُسِرُّونَ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، فَانْدَفَعَ بِهَذَا تَعْلِيلُ مَنْ أَعَلَّهُ بِالِاضْطِرَابِ كَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ إِذَا أَمْكَنَ تَعَيَّنَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ.
وَأَمَّا مَنْ قَدَحَ فِي صِحَّتِهِ بِأَنَّ أَبَا سَلَمَةَ سَعِيدُ بْنُ يَزِيدَ سَأَلَ أَنَسًا عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: إِنَّكَ لَتَسْأَلُنِي عَنْ شَيْءٍ مَا أَحْفَظُهُ وَلَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَحَدٌ قَبْلَكَ، وَدَعْوَى أَبِي شَامَةَ أَنَّ أَنَسًا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ سُؤَالَيْنِ فَسُؤَالُ أَبِي سَلَمَةَ: هَلْ كَانَ الِافْتِتَاحُ بِالْبَسْمَلَةِ أَوِ الْحَمْدَلَةِ؟ وَسُؤَالُ قَتَادَةَ: هَلْ كَانَ يَبْدَأُ بِالْفَاتِحَةِ أَوْ غَيْرِهَا؟ قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ قَتَادَةَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ نَحْنُ سَأَلْنَاهُ انْتَهَى.
فَلَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ رَوَى فِي مُسْنَدِهِ بِإِسْنَادِ الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ سُؤَالَ قَتَادَةَ نَظِيرُ سُؤَالِ أَبِي سَلَمَةَ، وَالَّذِي فِي مُسْلِمٍ إِنَّمَا قَالَهُ عَقِبَ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ شُعْبَةَ، وَلَمْ يُبَيِّنْ مُسْلِمٌ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ، وَقَدْ بَيَّنَهَا أَبُو يَعْلَى، وَالسَّرَّاجُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي رِوَايَاتِهِمُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنْ أَبِي دَاوُدَ أَنَّ السُّؤَالَ كَانَ عَنِ افْتِتَاحِ الْقِرَاءَةِ بِالْبَسْمَلَةِ، وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ رِوَايَةُ ابْنِ الْمُنْذِرِ عَنْ طَرِيقِ أَبِي جَابِرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسًا: أَيَقْرَأُ الرَّجُلُ فِي الصَّلَاةِ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ؟ فَقَالَ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ فَلَمْ أَسْمَعَ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقْرَأُ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَظَهَرَ اتِّحَادُ سُؤَالِ أَبِي سَلَمَةَ، وَقَتَادَةَ وَغَايَتُهُ أَنَّ أَنَسًا أَجَابَ قَتَادَةَ بِالْحُكْمِ دُونَ أَبِي سَلَمَةَ، فَلَعَلَّهُ تَذَكَّرَهُ لَمَّا سَأَلَهُ قَتَادَةُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ: مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَحَدٌ قَبْلَكَ، أَوْ قَالَهُ لَهُمَا مَعًا فَحَفِظَهُ قَتَادَةُ دُونَ أَبِي سَلَمَةَ فَإِنَّ قَتَادَةَ أَحْفَظُ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ بِلَا نِزَاعٍ، وَإِذَا انْتَهَى الْبَحْثُ إِلَى أَنَّ مُحَصَّلَ حَدِيثِ أَنَسٍ نَفْيُ الْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ عَلَى مَا ظَهَرَ مِنْ طَرِيقِ الْجَمْعِ بَيْنَ مُخْتَلَفِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ فَمَتَى وُجِدَتْ رِوَايَةٌ فِيهَا إِثْبَاتُ الْجَهْرِ قُدِّمَتْ عَلَى نَفْيِهِ، لَا لِمُجَرَّدِ تَقْدِيمِ رِوَايَةِ الْمُثْبِتِ عَلَى النَّافِي؛ لِأَنَّ أَنَسًا يَبْعُدُ جِدًّا أَنْ يَصْحَبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مُدَّةَ عَشْرِ سِنِينَ ثُمَّ يَصْحَبُ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ خَمْسًا
وَعِشْرِينَ سَنَةً فَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُمُ الْجَهْرَ بِهَا فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ لِكَوْنِ أَنَسٍ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ لَا يَحْفَظُ هَذَا الْحُكْمَ كَأَنَّهُ لِبُعْدِ عَهْدِهِ بِهِ، ثُمَّ تَذَكَّرَ مِنْهُ الْجَزْمَ بِالِافْتِتَاحِ بِالْحَمْد جَهْرًا وَلَمْ يَسْتَحْضِرِ الْجَهْرَ بِالْبَسْمَلَةِ، فَيَتَعَيَّنُ
الْأَخْذُ بِحَدِيثِ مَنْ أَثْبَتَ الْجَهْرَ
(1)
. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي بَابِ جَهْرِ الْمَأْمُومِ بِالتَّأْمِينِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَرِيبًا.
وَتَرْجَمَ لَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ إِبَاحَةُ الْإِسْرَارِ بِالْبَسْمَلَةِ فِي الْجَهْرِيَّةِ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخْتَلَفْ فِي إِبَاحَتِهِ بَلْ فِي اسْتِحْبَابِهِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى تَرْكِ دُعَاءِ الِافْتِتَاحِ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي بَعْدَهُ يَرُدُّ عَلَيْهِ، وَكَأَنَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي إِيرَادِهِ، وَقَدْ تَحَرَّرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِحَدِيثِ أَنَسٍ بَيَانُ مَا يَفْتَتِحُ بِهِ الْقِرَاءَةَ، فَلَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِنَفْيِ دُعَاءِ الِافْتِتَاحِ.
(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ ذِكْرُ عُثْمَانَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ فِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ مَرْزُوقٍ، عَنْ شُعْبَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي جُزْءِ الْقِرَاءَةِ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ شُعْبَةَ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ، وَهُوَ فِي رِوَايَةِ شَيْبَانَ، وَهِشَامٍ، والْأَوْزَاعِيِّ. وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى رِوَايَتِهِمْ فِيمَا تَقَدَّمَ.
744 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْكُتُ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَبَيْنَ الْقِرَاءَةِ إِسْكَاتَةً - قَالَ أَحْسِبُهُ قَالَ هُنَيَّةً - فَقُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِسْكَاتُكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ مَا تَقُولُ؟ قَالَ: أَقُولُ اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنَ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ) هُوَ ابْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ الْبَجَلِيِّ.
قَوْلُهُ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْكُتُ) ضَبَطْنَاهُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مِنَ السُّكُوتِ، وَحَكَى الْكِرْمَانِيُّ عَنْ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِضَمِّ أَوَّلِهِ مِنَ الْإِسْكَاتِ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: يُقَالُ تَكَلَّمَ الرَّجُلُ ثُمَّ سَكَتَ بِغَيْرِ أَلِفٍ، فَإِذَا انْقَطَعَ كَلَامُهُ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ قُلْتُ: أَسْكَتَ.
قَوْلُهُ: (إِسْكَاتَةً) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ بِوَزْنِ إِفْعَالَةٍ مِنَ السُّكُوتِ، وَهُوَ مِنَ الْمَصَادِرِ الشَّاذَّةِ نَحْوُ أُثْبِتُهُ إِثْبَاتَةً، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ سُكُوتٌ يَقْتَضِي بَعْدَهُ كَلَامًا مَعَ قِصَرِ الْمُدَّةِ فِيهِ، وَسِيَاقُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ السُّكُوتَ عَنِ الْجَهْرِ لَا عَنْ مُطْلَقِ الْقَوْلِ، أَوِ السُّكُوتَ عَنِ الْقِرَاءَةِ لَا عَنِ الذِّكْرِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ أَحْسِبُهُ قَالَ هُنَيَّةً) هَذِهِ رِوَايَةُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ بِالظَّنِّ، وَرَوَاهُ جَرِيرٌ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ وَابْنُ فُضَيْلٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ وَغَيْرِهِ بِلَفْظِ: سَكَتَ هُنَيَّةً بِغَيْرِ تَرَدُّدٍ، وَإِنَّمَا اخْتَارَ الْبُخَارِيُّ رِوَايَةَ عَبْدِ الْوَاحِدِ لِوُقُوعِ التَّصْرِيحِ بِالتَّحْدِيثِ فِيهَا فِي جَمِيعِ الْإِسْنَادِ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْمُرَادُ أَنَّهُ قَالَ - بَدَلَ إِسْكَاتَةٍ - هُنَيَّةً. قُلْتُ: وَلَيْسَ بِوَاضِحٍ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ شَكَّ هَلْ وَصَفَ الْإِسْكَاتَةَ بِكَوْنِهَا هُنَيَّةً أَمْ لَا، وَهُنَيَّةٌ بِالنُّونِ بِلَفْظِ التَّصْغِيرِ، وَهُوَ عِنْدَ الْأَكْثَرِ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَذَكَرَ عِيَاضٌ، وَالْقُرْطُبِيُّ أَنَّ أَكْثَرَ رُوَاةِ مُسْلِمٍ قَالُوهُ بِالْهَمْزَةِ، وَأَمَّا النَّوَوِيُّ فَقَالَ: الْهَمْزُ خَطَأٌ. قَالَ: وَأَصْلُهُ هَنْوَةٌ فَلَمَّا صُغِّرَ صَارَ هُنَيْوَةً فَاجْتَمَعَتْ وَاوٌ وَيَاءٌ وَسُبِقَتْ إِحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً ثُمَّ أُدْغِمَتْ. قَالَ غَيْرُهُ: لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ إِجَازَةَ الْهَمْزِ، فَقَدْ تُقْلَبُ الْيَاءُ هَمْزَةً. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ هُنَيْهَةً بِقَلْبِهَا هَاءً، وَهِيَ رِوَايَةُ إِسْحَاقَ، وَالْحُمَيْدِيِّ فِي مُسْنَدَيْهِمَا عَنْ جَرِيرٍ.
قَوْلُهُ: (بِأَبِي وَأُمِّي) الْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفِ اسْمٍ أَوْ فِعْلٍ وَالتَّقْدِيرُ أَنْتَ مَفْدِيٌّ أَوْ أَفْدِيكَ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ قَوْلِ ذَلِكَ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِهِ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (إِسْكَاتُكَ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَهُوَ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَقَالَ الْمُظَهَّرِيُّ شَارِحُ الْمَصَابِيحِ: هُوَ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ أَيْ أَسْأَلُكُ إسْكَاتَكَ، أَوْ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ. انْتَهَى.
وَالَّذِي فِي رِوَايَتِنَا بِالرَّفْعِ لِلْأَكْثَرِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّ السِّينِ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، وَفِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ: مَا تَقُولُ فِي سَكْتَتِكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ، وَلِمُسْلِمٍ: أَرَأَيْتَ سُكُوتَكَ وَكُلُّهُ مُشْعِرٌ بِأَنَّ هُنَاكَ قَوْلًا لِكَوْنِهِ قَالَ مَا تَقُولُ وَلَمْ يَقُلْ: هَلْ تَقُولُ؟ نَبَّهَ عَلَيْهِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ قَالَ: وَلَعَلَّهُ اسْتَدَلَّ عَلَى أَصْلِ الْقَوْلِ بِحَرَكَةِ الْفَمِ كَمَا اسْتَدَلَّ غَيْرُهُ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِاضْطِرَابِ اللِّحْيَةِ. قُلْتُ: وَسَيَأْتِي مِنْ حَدِيثِ خَبَّابٍ بَعْدَ بَابٍ، وَنَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ سَبَبَ هَذِهِ السَّكْتَةِ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْرَأَ
(1)
هذا فيه نظر، والصواب تقديم مادل عليه حديث أنس من شرعية الإسرار بالبسملة لصحته وصراحته في هذه المسألة. وكونه نسي ذلك ثم ذكره لايقدح في روايته كما علم ذلك في الأصول والمصطلح. وتحمل رواية من روى الجهر بالبسملة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بها في بعض الأحيان ليعلم من وراءه أنه يقرأها، وبهذا تجتمع الأحاديث، وقد وردت أحاديث صحيحة تؤيد ما دل عليه حديث أنس من شرعية الإسرار بالبسملة، والله أعلم
الْمَأْمُومُ فِيهَا الْفَاتِحَةَ، ثُمَّ اعْتَرَضَهُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ فِي الْجَوَابِ: أَسْكُتُ لِكَيْ يَقْرَأَ مَنْ خَلْفِي. وَرَدَّهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ أَخْبَرَهُ بِصِفَةِ مَا يَقُولُ أَنْ لَا يَكُونَ سَبَبُ السُّكُوتِ مَا ذَكَرَ. انْتَهَى.
وَهَذَا النَّقْلُ مِنْ أَصْلِهِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ، إِلَّا أَنَّ الْغَزَالِيَّ قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ: إِنَّ الْمَأْمُومَ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ إِذَا اشْتَغَلَ الْإِمَامُ بِدُعَاءِ الِافْتِتَاحِ. وَخُولِفَ فِي ذَلِكَ، بَلْ أَطْلَقَ الْمُتَوَلِّيُّ وَغَيْرُهُ كَرَاهَةَ تَقْدِيمِ الْمَأْمُومِ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ عَلَى الْإِمَامِ. وَفِي وَجْهٍ إِنْ فَرَغَهَا قَبْلَهُ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ الْمَأْمُومَ يَقْرَؤُهَا إِذَا سَكَتَ الْإِمَامُ بَيْنَ الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ، وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُومَ يَقُولُ دُعَاءَ الِافْتِتَاحِ كَمَا يَقُولُهُ الْإِمَامُ، وَالسَّكْتَةُ الَّتِي بَيْنَ الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ ثَبَتَ فِيهَا حَدِيثُ سَمُرَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ.
قَوْلُهُ: (بَاعِدْ) الْمُرَادُ بِالْمُبَاعَدَةِ مَحْوُ مَا حَصَلَ مِنْهَا وَالْعِصْمَةُ عَمَّا سَيَأْتِي مِنْهَا، وَهُوَ مَجَازٌ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمُبَاعَدَةِ إِنَّمَا هِيَ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَمَوْقِعُ التَّشْبِيهِ أَنَّ الْتِقَاءَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ مُسْتَحِيلٌ فَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ لَا يَبْقَى لَهَا مِنْهُ اقْتِرَابٌ بِالْكُلِّيَّةِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: كَرَّرَ لَفْظَ بَيْنَ لِأَنَّ الْعَطْفَ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ يُعَادُ فِيهِ الْخَافِضُ.
قَوْلُهُ: (نَقِّنِي) مَجَازٌ عَنْ زَوَالِ الذُّنُوبِ وَمَحْوِ أَثَرِهَا، وَلَمَّا كَانَ الدَّنَسُ فِي الثَّوْبِ الْأَبْيَضِ أَظْهَرَ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَلْوَانِ وَقَعَ التَّشْبِيهُ بِهِ، قَالَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ.
قَوْلُهُ: (بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: ذِكْرُ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ تَأْكِيدٌ، أَوْ لِأَنَّهُمَا مَاءَانِ لَمْ تَمَسَّهُمَا الْأَيْدِي وَلَمْ يَمْتَهِنْهُمَا الِاسْتِعْمَالُ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: عَبَّرَ بِذَلِكَ عَنْ غَايَةِ الْمَحْوِ، فَإِنَّ الثَّوْبَ الَّذِي يَتَكَرَّرُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ مُنَقِّيَةٌ يَكُونُ فِي غَايَةِ النَّقَاءِ، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَجَازٌ عَنْ صِفَةٍ يَقَعُ بِهَا الْمَحْوُ وَكَأَنَّهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} وَأَشَارَ الطِّيبِيُّ إِلَى هَذَا بَحْثًا فَقَالَ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ مِنْ ذِكْرِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ بَعْدَ الْمَاءِ شُمُولَ أَنْوَاعِ الرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ بَعْدَ الْعَفْوِ لِإِطْفَاءِ حَرَارَةِ عَذَابِ النَّارِ الَّتِي هِيَ فِي غَايَةِ الْحَرَارَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: بَرَّدَ اللَّهُ مَضْجَعَهُ. أَيْ: رَحِمَهُ وَوَقَاهُ عَذَابَ النَّارِ. انْتَهَى.
وَيُؤَيِّدُهُ وُرُودُ وَصْفِ الْمَاءِ بِالْبُرُودَةِ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَكَأَنَّهُ جَعَلَ الْخَطَايَا بِمَنْزِلَةِ جَهَنَّمَ لِكَوْنِهَا مُسَبَّبَةً عَنْهَا، فَعَبَّرَ عَنْ إِطْفَاءِ حَرَارَتِهَا بِالْغَسْلِ وَبَالَغَ فِيهِ بِاسْتِعْمَالِ الْمُبَرِّدَاتِ تَرَقِّيًا عَنِ الْمَاءِ إِلَى أَبْرَدِ مِنْهُ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: خَصَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهَا مُنَزَّلَةٌ مِنَ السَّمَاءِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي الدَّعَوَاتِ الثَّلَاثِ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَزْمِنَةِ الثَّلَاثَةِ، فَالْمُبَاعَدَةُ لِلْمُسْتَقْبَلِ، وَالتَّنْقِيَةُ لِلْحَالِ، وَالْغَسْلُ لِلْمَاضِي انْتَهَى.
وَكَأَنَّ تَقْدِيمَ الْمُسْتَقْبَلِ لِلِاهْتِمَامِ بِدَفْعِ مَا سَيَأْتِي قَبْلَ رَفْعِ مَا حَصَلَ. وَاسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الدُّعَاءِ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ خِلَافًا لِلْمَشْهُورِ عَنْ مَالِكٍ، وَوَرَدَ فِيهِ أَيْضًا حَدِيثُ: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ إِلَخْ، وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ، لَكِنْ قَيَّدَهُ بِصَلَاةِ اللَّيْلِ
(1)
. وَأَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُمَا بِلَفْظِ: إِذَا صَلَّى الْمَكْتُوبَةَ، وَاعْتَمَدَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ، وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَصَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الِافْتِتَاحُ بِسُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ، وَنَقَلَ السَّاجِيُّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ اسْتِحْبَابَ الْجَمْعِ بَيْنَ التَّوْجِيهِ وَالتَّسْبِيحِ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَصَحُّ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ بِمَا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ. ثُمَّ هَذَا الدُّعَاءُ صَدَرَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ فِي إِظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ، وَقِيلَ قَالَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّعْلِيمِ لِأُمَّتِهِ، وَاعْتُرِضَ بِكَوْنِهِ لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ لَجَهَرَ بِهِ، وَأُجِيبَ بِوُرُودِ الْأَمْرِ بِذَلِكَ فِي حَدِيثِ سَمُرَةَ عِنْدَ الْبَزَّارِ، وَفِيهِ مَا كَانَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ مِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى تَتَبُّعِ أَحْوَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ وإِسْرَارِهِ وَإِعْلَانِهِ حَتَّى حَفِظَ اللَّهُ بِهِمُ الدِّينَ، وَاسْتَدَلَّ
(1)
هذا وهم من الشارح رحمه الله، وليس في رواية مسلم تقييد بصلاة الليل، فتنبه، والله أعلم.
بِهِ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَنَّ الثَّلْجَ وَالْبَرَدَ مُطَهِّرَانِ، وَاسْتَبْعَدَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، وَأَبْعَدُ مِنْهُ اسْتِدْلَالُ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ بِهِ عَلَى نَجَاسَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ.
90 - باب
745 -
حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: أَخْبَرَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى صَلَاةَ الْكُسُوفِ فَقَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ قَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ رَفَعَ، ثُمَّ سَجَدَ فَأَطَالَ السُّجُودَ، ثُمَّ رَفَعَ، ثُمَّ سَجَدَ فَأَطَالَ السُّجُودَ، ثُمَّ قَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ رَفَعَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ رَفَعَ فَسَجَدَ فَأَطَالَ السُّجُودَ، ثُمَّ رَفَعَ، ثُمَّ سَجَدَ فَأَطَالَ السُّجُودَ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَقَالَ: قَدْ دَنَتْ مِنِّي الْجَنَّةُ حَتَّى لَوْ اجْتَرَأْتُ عَلَيْهَا لَجِئْتُكُمْ بِقِطَافٍ مِنْ قِطَافِهَا، وَدَنَتْ مِنِّي النَّارُ حَتَّى قُلْتُ: أَيْ رَبِّ وَأَنَا مَعَهُمْ؟ فَإِذَا امْرَأَةٌ - حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ - تَخْدِشُهَا هِرَّةٌ، قُلْتُ: مَا شَأْنُ هَذِهِ؟ قَالُوا: حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا، لَا أَطْعَمَتْهَا وَلَا أَرْسَلَتْهَا تَأْكُلُ - قَالَ نَافِعٌ: حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ -: مِنْ خَشِيشِ أَوْ خَشَاشِ الْأَرْضِ.
[الحديث 745 - طرفه في: 2364]
قَوْلُهُ: (بَابٌ كَذَا فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ بِلَا تَرْجَمَةٍ، وَكَذَا قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بَابٌ بِلَا تَرْجَمَةٍ، وَسَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَأَبِي الْوَقْتِ، وَكَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ أَبُو نُعَيْمٍ. وَعَلَى هَذَا فَمُنَاسَبَةُ الْحَدِيثِ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ لِلتَّرْجَمَةِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِ لَفْظِ بَابٍ فَهُوَ كَالْفَصْلِ مِنَ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ كَمَا قَرَّرْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ فَلَهُ بِهِ تَعَلُّقٌ أَيْضًا. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ أَنَّ دُعَاءَ الِافْتِتَاحِ مُسْتَلْزِمٌ لِتَطْوِيلِ الْقِيَامِ، وَحَدِيثُ الْكُسُوفِ فِيهِ تَطْوِيلُ الْقِيَامِ فَتَنَاسَبَا.
وَأَحْسَنُ مِنْهُ مَا قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْمُنَاسَبَةُ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى قُلْتَ: أَيْ رَبِّ أَوْ أَنَا مَعَهُمْ؟ لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دُعَاءٌ فَفِيهِ مُنَاجَاةٌ وَاسْتِعْطَافٌ، فَيَجْمَعُهُ مَعَ الَّذِي قَبْلَهُ جَوَازُ دُعَاءِ اللَّهِ وَمُنَاجَاتِهِ بِكُلِّ مَا فِيهِ خُضُوعٌ، وَلَا يَخْتَصُّ بِمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ خِلَافًا لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ.
قَوْلُهُ: (أَوَأَنَا مَعَهُمْ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ بَعْدَهَا وَاوٌ عَاطِفَةٌ وَهِيَ عَلَى مُقَدَّرٍ، وَفِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَهِيَ مُقَدَّرَةٌ.
قَوْلُهُ: (حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ تَخْدِشُهَا) قَائِلُ ذَلِكَ هُوَ نَافِعُ بْنُ عُمَرَ رَاوِي الْحَدِيثِ، بَيَّنَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، فَالضَّمِيرُ فِي أَنَّهُ لِابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ.
قَوْلُهُ: (لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا) سَقَطَ لَفْظُ هِيَ مِنْ رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَالْحَمَوِيِّ.
قَوْلُهُ: (تَأْكُلُ مِنْ خَشِيشِ - أَوْ خَشَاشِ - الْأَرْضِ) كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَلَى الشَّكِّ، وَكُلٌّ مِنَ اللَّفْظَيْنِ بِمُعَجَّمَاتٍ مَفْتُوحُ الْأَوَّلِ وَالْمُرَادُ حَشَرَاتُ الْأَرْضِ، وَأَنْكَرَ الْخَطَّابِيُّ رِوَايَةَ خَشِيشٍ، وَضَبَطَهَا بَعْضُهُمْ بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى التَّصْغِيرِ مِنْ لَفْظِ خَشَاشٍ، فَعَلَى هَذَا لَا إِنْكَارَ، وَرَوَاهَا بَعْضُهُمْ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ، وَقَالَ عِيَاضٌ هُوَ تَصْحِيفٌ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ فَوَائِدِهِ فِي كِتَابِ الْكُسُوفِ، وَعَلَى قِصَّةِ الْمَرْأَةِ صَاحِبَةِ الْهِرَّةِ فِي كِتَابِ بَدْءِ الْخَلْقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
91 - بَاب رَفْعِ الْبَصَرِ إِلَى الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ
وَقَالَتْ عَائِشَةُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ فَرَأَيْتُ جَهَنَّمَ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ.
746 -
حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ قَالَ: قُلْنَا لِخَبَّابٍ: أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْنَا: بِمَ كُنْتُمْ تَعْرِفُونَ ذَاكَ؟ قَالَ: بِاضْطِرَابِ لِحْيَتِهِ.
[الحديث 746 - أطرافه في: 777، 761، 760]
747 -
حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَنْبَأَنَا أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ يَخْطُبُ قَالَ حَدَّثَنَا الْبَرَاءُ وَكَانَ غَيْرَ كَذُوبٍ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا صَلَّوْا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَرَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ قَامُوا قِيَامًا حَتَّى يَرَوْنَهُ قَدْ سَجَدَ"
748 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ خَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئًا فِي مَقَامِكَ ثُمَّ رَأَيْنَاكَ تَكَعْكَعْتَ قَالَ إِنِّي أُرِيتُ الْجَنَّةَ فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا عُنْقُودًا وَلَوْ أَخَذْتُهُ لَاكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتْ الدُّنْيَا "
749 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ قَالَ حَدَّثَنَا هِلَالُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ صَلَّى لَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ رَقِيَ الْمِنْبَرَ فَأَشَارَ بِيَدَيْهِ قِبَلَ قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ ثُمَّ قَالَ لَقَدْ رَأَيْتُ الْآنَ مُنْذُ صَلَّيْتُ لَكُمْ الصَّلَاةَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ مُمَثَّلَتَيْنِ فِي قِبْلَةِ هَذَا الْجِدَارِ فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ ثَلَاثًا
قَوْلُهُ: (بَابُ رَفْعِ الْبَصَرِ إِلَى الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: نَظَرُ الْمَأْمُومِ إِلَى الْإِمَامِ مِنْ مَقَاصِدِ الِائْتِمَامِ، فَإِذَا تَمَكَّنَ مِنْ مُرَاقَبَتِهِ بِغَيْرِ الْتِفَاتٍ كَانَ ذَلِكَ مِنْ إِصْلَاحِ صَلَاتِهِ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ حُجَّةٌ لِمَالِكٍ فِي أَنَّ نَظَرَ الْمُصَلِّي يَكُونُ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْكُوفِيُّونَ: يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ لِلْخُشُوعِ، وَوَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ مُرْسَلِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مَوْصُولًا وَقَالَ: الْمُرْسَلُ هُوَ الْمَحْفُوظُ. وَفِيهِ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ فَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ النَّظَرُ إِلَى مَوْضِعِ السُّجُودِ، وَكَذَا لِلْمَأْمُومِ. إِلَّا حَيْثُ يَحْتَاجُ إِلَى مُرَاقَبَةِ إِمَامِهِ، وَأَمَّا الْمُنْفَرِدُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْإِمَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَتْ عَائِشَةُ إِلَخْ) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ وَصَلَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي بَابِ إِذَا انْفَلَتَتِ الدَّابَّةُ وَهُوَ فِي أَوَاخِرِ الصَّلَاةِ، وَمَوْضِعُ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ قَوْلُهُ: حِينَ رَأَيْتُمُونِي.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُوسَى) هُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ، وَعَبْدُ الْوَاحِدِ هُوَ ابْنُ زِيَادٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عُمَارَةَ) فِي رِوَايَةِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ حَدَّثَنَا عُمَارَةُ وَسَيَأْتِي بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَبْوَابِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْمَتْنِ قَرِيبًا، وَمَوْضِعُ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ قَوْلُهُ بِاضْطِرَابِ لِحْيَتِهِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ) هُوَ ابْنُ مِنْهَالٍ، وَلَمْ يَسْمَعِ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ الْبَرَاءِ فِي بَابِ مَتَى يَسْجُدُ مَنْ خَلْفَ الْإِمَامِ وَوَقَعَ فِيهِ هُنَا فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَأَبِي الْوَقْتِ وَغَيْرِهِمَا حَتَّى
يَرَوْنَهُ قَدْ سَجَدَ بِإِثْبَاتِ النُّونِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَالْأَصِيلِيِّ بِحَذْفِهَا وَهُوَ أَوْجَهُ، وَجَازَ الْأَوَّلُ عَلَى إِرَادَةِ الْحَالِ.
وحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ يَأْتِي فِي الْكُسُوفِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُنَاسَبَةِ.
وحَدِيثُ أَنَسٍ يَأْتِي فِي الرِّقَاقِ وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِسَمَاعِ هِلَالٍ لَهُ مِنْ أَنَسٍ. وَاعْتَرَضَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ عَلَى إِيرَادِهِ لَهُ هُنَا فَقَالَ: لَيْسَ فِيهِ نَظَرُ الْمَأْمُومِينَ إِلَى الْإِمَامِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ فِيهِ أَنَّ الْإِمَامَ يَرْفَعُ بَصَرَهُ إِلَى مَا أَمَامَهُ، وَإِذَا سَاغَ ذَلِكَ لِلْإِمَامِ سَاغَ لِلْمَأْمُومِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ حَدِيثَ أَنَسٍ مُخْتَصَرٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَّ الْقِصَّةَ فِيهِمَا وَاحِدَةٌ، فَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: رَأَيْتُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ كَمَا قَالَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، وَقَدْ قَالُوا لَهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: رَأَيْنَاكَ تَكَعْكَعْتَ فَهَذَا مَوْضِعُ التَّرْجَمَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنْ قَوْلِهِ: فَأَشَارَ بِيَدِهِ قِبَلَ قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ فَإِنَّ رُؤْيَتَهُمُ الْإِشَارَةَ تَقْتَضِي أَنَّهُمْ كَانُوا يُرَاقِبُونَ أَفْعَالَهُ. قُلْتُ: لَكِنْ يَطْرُقُ هُنَا احْتِمَالٌ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ رَفْعِ بَصَرِهِمْ إِلَيْهِ وُقُوعَ الْإِشَارَةِ مِنْهُ، لَا أَنَّ الرَّفْعَ كَانَ مُسْتَمِرًّا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالتَّرْجَمَةِ أَنَّ الْأَصْلَ نَظَرُ الْمَأْمُومِ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ؛ لِأَنَّهُ الْمَطْلُوبُ فِي الْخُشُوعِ إِلَّا إِذَا احْتَاجَ إِلَى رُؤْيَةِ مَا يَفْعَلُهُ الْإِمَامُ لِيَقْتَدِيَ بِهِ مَثَلًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
92 - بَاب رَفْعِ الْبَصَرِ إِلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلَاةِ
750 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُمْ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي صَلَاتِهِمْ؟ فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ: لَيَنْتَهُنَّ عَنْ ذَلِكَ أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ.
قَوْلُهُ: (بَابُ رَفْعِ الْبَصَرِ إِلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلَاةِ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَجْمَعُوا عَلَى كَرَاهَةِ رَفْعِ الْبَصَرِ فِي الصَّلَاةِ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ خَارِجَ الصَّلَاةِ فِي الدُّعَاءِ، فَكَرِهَهُ شُرَيْحٌ وَطَائِفَةٌ، وَأَجَازَهُ الْأَكْثَرُونَ؛ لِأَنَّ السَّمَاءَ قِبْلَةُ الدُّعَاءِ كَمَا أَنَّ الْكَعْبَةَ قِبْلَةُ الصَّلَاةِ
(1)
. قَالَ عِيَاضٌ: رَفْعُ الْبَصَرِ إِلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلَاةِ فِيهِ نَوْعُ إِعْرَاضٍ عَنِ الْقِبْلَةِ، وَخُرُوجٌ عَنْ هَيْئَةِ الصَّلَاةِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا قَتَادَةُ) فِيهِ دَفْعٌ لِتَعْلِيلِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ فَأَدْخَلَ بَيْنَ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، وقَتَادَةَ رَجُلًا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ سَعِيدٍ - وَهُوَ مِنْ أَثْبَتِ أَصْحَابِهِ - وَزَادَ فِي أَوَّلِهِ بَيَانُ سَبَبِ هَذَا الْحَدِيثِ وَلَفْظُهُ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا بِأَصْحَابِهِ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِوَجْهِهِ فَذَكَرَهُ، وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ مُرْسَلًا لَمْ يَذْكُرْ أَنَسًا، وَهِيَ عِلَّةٌ غَيْرُ قَادِحَةٍ؛ لِأَنَّ سَعِيدًا أَعْلَمُ بِحَدِيثِ قَتَادَةَ مِنْ مَعْمَرٍ، وَقَدْ تَابَعَهُ هَمَّامٌ عَلَى وَصْلِهِ عَنْ قَتَادَةَ أَخْرَجَهُ السَّرَّاجُ.
قَوْلُهُ: (فِي صَلَاتِهِمْ) زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الدُّعَاءِ فَإِنَّ حَمْلَ الْمُطْلَقِ عَلَى هَذَا الْمُقَيَّدِ اقْتَضَى اخْتِصَاصَ الْكَرَاهَةِ بِالدُّعَاءِ الْوَاقِعِ فِي الصَّلَاةِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِغَيْرِ تَقْيِيدٍ وَلَفْظُهُ:(لَا تَرْفَعُوا أَبْصَاركُمْ إِلَى السَّمَاءِ) يَعْنِي فِي الصَّلَاةِ، وَأَخْرَجَهُ بِغَيْرِ تَقْيِيدٍ أَيْضًا مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، والطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَأَخْرَجَ ابْنُ
(1)
هذا فيه نظر، والصواب أن قبلة الدعاء في قبلة الصلاة لوجوه: أولها أن هذا القول لا دليل عليه من الكتاب والسنة، ولا يعرف عن سلف الأمة. الثاني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كا كان يستقبل القبلة في دعائه كما ثبت ذلك عنه في مواطن كثيرة. الثالث أن قبلة التيء هي ما يقابله لا ما يرفع اليه بصره كما أوضح ذلك شارح الطماوية (ص 329 بتحقيق أحمد محمد شاكر)
أَبِي شَيْبَةَ مِنْ رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ كَانُوا يَلْتَفِتُونَ فِي صَلَاتِهِمْ حَتَّى نَزَلَتْ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} فَأَقْبَلُوا عَلَى صَلَاتِهِمْ وَنَظَرُوا أَمَامَهُمْ، وَكَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ لَا يُجَاوِزَ بَصَرُ أَحَدِهِمْ مَوْضِعَ سُجُودِهِ. وَوَصَلَهُ الْحَاكِمُ بِذِكْرِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيهِ، وَرَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ فِي آخِرِهِ فَطَأْطَأَ رَأْسَهُ.
قَوْلُهُ: (لَيُنْتَهَيَنَّ) كَذَا لِلْمُسْتَمْلِي، وَالْحَمَوِيِّ بِضَمِّ الْيَاءِ وَسُكُونِ النُّونِ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَالْهَاءِ وَالْيَاءِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَالنُّونُ لِلتَّأْكِيدِ، وَلِلْبَاقِينَ لَيَنْتَهُنَّ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ الْهَاءِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ.
قَوْلُهُ: (أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ) وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَوْ لَا تَرْجِعُ إِلَيْهِمْ يَعْنِي أَبْصَارَهُمْ. وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِذَلِكَ: فَقِيلَ هُوَ وَعِيدٌ، وَعَلَى هَذَا فَالْفِعْلُ الْمَذْكُورُ حَرَامٌ، وَأَفْرَطَ ابْنُ حَزْمٍ فَقَالَ: يُبْطِلُ الصَّلَاةَ. وَقِيلَ الْمَعْنَى أَنَّهُ يُخْشَى عَلَى الْأَبْصَارِ مِنَ الْأَنْوَارِ الَّتِي تَنْزِلُ بِهَا الْمَلَائِكَةُ عَلَى الْمُصَلِّينَ كَمَا فِي حَدِيثِ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ الْآتِي فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الدَّاوُدِيُّ، وَنَحْوُهُ فِي جَامِعِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ أَحَدِ التَّابِعِينَ. وَأَوْ هُنَا لِلتَّخْيِيرِ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى:{تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} أَيْ: يَكُونُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ إِمَّا الْمُقَاتَلَةُ وَإِمَّا الْإِسْلَامُ، وَهُوَ خَبَرٌ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ.
93 - بَاب الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ
751 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَشْعَثُ بْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: هُوَ اخْتِلَاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلَاةِ الْعَبْدِ.
[الحديث 751 - طرفه في: 3291]
752 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أَعْلَامٌ فَقَالَ شَغَلَتْنِي أَعْلَامُ هَذِهِ اذْهَبُوا بِهَا إِلَى أَبِي جَهْمٍ وَأْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّةٍ "
[الحديث 751 - طرفه في: 3291]
قَوْلُهُ: (بَابُ الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ) لَمْ يُبَيِّنِ الْمُؤَلِّفُ حُكْمَهُ؛ لَكِنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي أَوْرَدَهُ دَلَّ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَهُوَ إِجْمَاعٌ؛ لَكِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّهَا لِلتَّنْزِيهِ. وَقَالَ الْمُتَوَلِّيُّ: يَحْرُمُ إِلَّا لِلضَّرُورَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ. وَوَرَدَ فِي كَرَاهِيَةِ الِالْتِفَاتِ صَرِيحًا عَلَى غَيْرِ شَرْطِهِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ، مِنْهَا عِنْدَ أَحْمَدَ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رَفَعَهُ: لَا يَزَالُ اللَّهُ مُقْبِلًا عَلَى الْعَبْدِ فِي صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ، فَإِذَا صَرَفَ وَجْهَهُ عَنْهُ انْصَرَفَ، وَمِنْ حَدِيثِ الْحَارِثِ الْأَشْعَرِيِّ نَحْوُهُ وَزَادَ: فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلَا تَلْتَفِتُوا، وَأَخْرَجَ الْأَوَّلَ أَيْضًا أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيَّ. وَالْمُرَادُ بِالِالْتِفَاتِ الْمَذْكُورِ مَا لَمْ يَسْتَدْبِرِ الْقِبْلَةَ بِصَدْرِهِ أَوْ عُنُقِهِ كُلِّهِ. وَسَبَبُ كَرَاهَةِ الِالْتِفَاتِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِنَقْصِ الْخُشُوعِ، أَوْ لِتَرْكِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ بِبَعْضِ الْبَدَنِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِيهِ) هُوَ أَبُو الشَّعْثَاءِ الْمُحَارِبِيُّ، وَوَافَقَ أَبَا الْأَحْوَصِ عَلَى هَذَا الْإِسْنَادِ شَيْبَانُ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَزَائِدَةُ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَمِسْعَرٌ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ، وَخَالَفَهُمْ إِسْرَائِيلُ فَرَوَاهُ عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ أَبِي عَطِيَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ. وَوَقَعَ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ مِنْ رِوَايَةِ مِسْعَرٍ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، فَهَذَا اخْتِلَافٌ عَلَى أَشْعَثَ، وَالرَّاجِحُ رِوَايَةُ أَبِي الْأَحْوَصِ. وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي عَطِيَّةَ عَنْ عَائِشَةَ لَيْسَ بَيْنَهُمَا مَسْرُوقٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلْأَشْعَثِ فِيهِ شَيْخَانِ، أَبُوهُ وَأَبُو عَطِيَّةَ بِنَاءً عَلَى أَنْ يَكُونَ أَبُو عَطِيَّةَ حَمَلَهُ عَنْ مَسْرُوقٍ ثُمَّ لَقِيَ عَائِشَةَ فَحَمَلَهُ عَنْهَا.
وَأَمَّا الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ فَشَاذَّةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ مِنْ حَدِيثِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (هُوَ اخْتِلَاسٌ) أَيِ: اخْتِطَافٌ بِسُرْعَةٍ، وَوَقَعَ فِي النِّهَايَةِ: وَالِاخْتِلَاسُ افْتِعَالٌ مِنَ الْخِلْسَةِ وَهِيَ مَا يُؤْخَذُ سَلْبًا مُكَابَرَةً، وَفِيهِ نَظَرٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمُخْتَلِسُ الَّذِي يَخْطِفُ مِنْ غَيْرِ غَلَبَةٍ وَيَهْرُبُ وَلَوْ مَعَ مُعَايَنَةِ الْمَالِكِ لَهُ، وَالنَّاهِبُ يَأْخُذُ بِقُوَّةٍ، وَالسَّارِقُ يَأْخُذُ فِي خُفْيَةٍ. فَلَمَّا كَانَ الشَّيْطَانُ قَدْ يَشْغَلُ الْمُصَلِّيَ عَنْ صَلَاتِهِ بِالِالْتِفَاتِ إِلَى شَيْءٍ مَا بِغَيْرِ حُجَّةٍ يُقِيمُهَا أَشْبَهَ الْمُخْتَلِسَ. وَقَالَ ابْنُ بَزِيزَةَ: أُضِيفَ إِلَى الشَّيْطَانِ؛ لِأَنَّ فِيهِ انْقِطَاعًا مِنْ مُلَاحَظَةِ التَّوَجُّهِ إِلَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: سُمِّيَ اخْتِلَاسًا تَصْوِيرًا لِقُبْحِ تِلْكَ الْفَعْلَةِ بِالْمُخْتَلِسِ؛ لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يُقْبِلُ عَلَيْهِ الرَّبُّ سبحانه وتعالى، وَالشَّيْطَانُ مُرْتَصِدٌ لَهُ يَنْتَظِرُ فَوَاتَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَإِذَا الْتَفَتَ اغْتَنَمَ الشَّيْطَانُ الْفُرْصَةَ فَسَلَبَهُ تِلْكَ الْحَالَةَ.
قَوْلُهُ: (يَخْتَلِسُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِحَذْفِ الْمَفْعُولِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ يَخْتَلِسُهُ وَهِيَ رِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ مُسَدَّدٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ. قِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي جَعْلِ سُجُودِ السَّهْوِ جَابِرًا لِلْمَشْكُوكِ فِيهِ دُونَ الِالْتِفَاتِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يُنْقِصُ الْخُشُوعُ؛ لِأَنَّ السَّهْوَ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ الْمُكَلَّفِ، فَشُرِعَ لَهُ الْجَبْرُ دُونَ الْعَمْدِ لِيَتَيَقَّظَ الْعَبْدُ لَهُ فَيَجْتَنِبُهُ. ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ أَنْبِجَانِيَّةِ أَبِي جَهْمٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابِ إِذَا صَلَّى فِي ثَوْبٍ لَهُ أَعْلَامٌ فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ. وَوَجْهُ دُخُولِهِ فِي التَّرْجَمَةِ أَنَّ أَعْلَامَ الْخَمِيصَةِ إِذَا لَحَظَهَا الْمُصَلِّي وَهِيَ عَلَى عَاتِقِهِ كَانَ قَرِيبًا مِنَ الِالْتِفَاتِ وَلِذَلِكَ خَلَعَهَا مُعَلِّلًا بِوُقُوعِ بَصَرِهِ عَلَى أَعْلَامِهَا وَسَمَّاهُ شَغْلًا عَنْ صَلَاتِهِ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ إِلَى أَنَّ عِلَّةَ كَرَاهَةِ الِالْتِفَاتِ كَوْنُهُ يُؤَثِّرُ فِي الْخُشُوعِ كَمَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ الْخَمِيصَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَنَّ مَا لَا يُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ؛ لِأَنَّ لَمْحَ الْعَيْنِ يَغْلِبُ الْإِنْسَانَ وَلِهَذَا لَمْ يُعِدِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم تِلْكَ الصَّلَاةَ.
قَوْلُهُ: (شَغَلَنِي) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ شَغَلَتْنِي وَهُوَ أَوْجَهُ، وَكَذَا اخْتَلَفُوا فِي اذْهَبُوا بِهَا أَوْ بِهِ.
قَوْلُهُ: (إِلَى أَبِي جَهْمٍ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ، جُهَيْمٌ بِالتَّصْغِيرِ.
94 - بَاب هَلْ يَلْتَفِتُ لِأَمْرٍ يَنْزِلُ بِهِ، أَوْ يَرَى شَيْئًا أَوْ بُصَاقًا فِي الْقِبْلَةِ
وَقَالَ سَهْلٌ: الْتَفَتَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فَرَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
753 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: رَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ وَهُوَ يُصَلِّي بَيْنَ يَدَيْ النَّاسِ فَحَتَّهَا، ثُمَّ قَالَ حِينَ انْصَرَفَ: إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ، فَلَا يَتَنَخَّمَنَّ أَحَدٌ قِبَلَ وَجْهِهِ فِي الصَّلَاةِ رَوَاهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَابْنُ أَبِي رَوَّادٍ عَنْ نَافِعٍ.
754 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ بَيْنَمَا الْمُسْلِمُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ لَمْ يَفْجَأْهُمْ إِلاَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَشَفَ سِتْرَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ صُفُوفٌ فَتَبَسَّمَ يَضْحَكُ وَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه عَلَى عَقِبَيْهِ لِيَصِلَ لَهُ الصَّفَّ فَظَنَّ أَنَّهُ يُرِيدُ الْخُرُوجَ وَهَمَّ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَفْتَتِنُوا فِي صَلَاتِهِمْ فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَأَرْخَى السِّتْرَ وَتُوُفِّيَ مِنْ آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ "
قَوْلُهُ: (بَابُ هَلْ يَلْتَفِتُ لِأَمْرٍ يَنْزِلُ بِهِ أَوْ يَرَى شَيْئًا أَوْ بُصَاقًا فِي الْقِبْلَةِ) الظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْقِبْلَةِ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ بُصَاقًا، وَأَمَّا قَوْلُهُ شَيْئًا فَأَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَالْجَامِعُ بَيْنَ جَمِيعِ مَا ذَكَرَ فِي التَّرْجَمَةِ حُصُولُ التَّأَمُّلِ الْمُغَايِرِ لِلْخُشُوعِ
وَأَنَّهُ لَا يَقْدَحُ إِلَّا إِذَا كَانَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ سَهْلٌ) هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، وَهَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي بَابِ مَنْ دَخَلَ لِيَؤُمَّ النَّاسَ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْمُرْ أَبَا بَكْرٍ بِالْإِعَادَةِ، بَلْ أَشَارَ إِلَيْهِ أَنْ يَتَمَادَى عَلَى إِمَامَتِهِ وَكَانَ الْتِفَاتُهُ لِحَاجَةٍ.
قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ (بَيْنَ يَدَيِ النَّاسِ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: وَهُوَ يُصَلِّي، أَوْ بِقَوْلِهِ: رَأَى نُخَامَةً.
قَوْلُهُ: (فَحَتَّهَا ثُمَّ قَالَ حِينَ انْصَرَفَ) ظَاهِرُهُ أَنَّ الْحَتَّ وَقَعَ مِنْهُ دَاخِلَ الصَّلَاةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ غَيْرِ مُقَيَّدٍ بِحَالِ الصَّلَاةِ، وَسَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى فَوَائِدِهِ فِي أَوَاخِرِ أَبْوَابِ الْقِبْلَةِ، وَأَوْرَدَهُ هُنَاكَ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ وَعَائِشَةَ، وَأَنَسٍ مِنْ طُرُقٍ كُلِّهَا غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ بِحَالِ الصَّلَاةِ.
قَوْلُهُ: (رَوَاهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ) وَصَلَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِهِ.
قَوْلُهُ: (وَابْنُ أَبِي رَوَّادٍ) اسْمُ أَبِي رَوَّادٍ مَيْمُونٌ، وَوَصَلَهُ أَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ الْمَذْكُورِ وَفِيهِ أَنَّ الْحَكَّ كَانَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ، فَالْغَرَضُ مِنْهُ عَلَى هَذَا الْمُتَابَعَةُ فِي أَصْلِ الْحَدِيثِ.
ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ أَنَسٍ الْمُتَقَدِّمِ فِي بَابِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ أَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَجْهُ مُنَاسَبَتِهِ لِلتَّرْجَمَةِ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا كَشَفَ صلى الله عليه وسلم السِّتْرَ الْتَفَتُوا إِلَيْهِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ أَنَسٍ فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ وَلَوْلَا الْتِفَاتُهُمْ لَمَا رَأَوْا إِشَارَتَهُ اهـ. وَيُوَضِّحُهُ كَوْنُ الْحُجْرَةِ عَنْ يَسَارِ الْقِبْلَةِ فَالنَّاظِرُ إِلَى إِشَارَةِ مَنْ هُوَ فِيهَا يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَلْتَفِتَ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ صلى الله عليه وسلم بِالْإِعَادَةِ، بَلْ أَقَرَّهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ بِالْإِشَارَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
95 - بَاب وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، وَمَا يُجْهَرُ فِيهَا وَمَا يُخَافَتُ
755 -
حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: شَكَا أَهْلُ الْكُوفَةِ سَعْدًا إِلَى عُمَرَ رضي الله عنه فَعَزَلَهُ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَمَّارًا، فَشَكَوْا حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّهُ لَا يُحْسِنُ يُصَلِّي، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ إِنَّ هَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ لَا تُحْسِنُ تُصَلِّي. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: أَمَّا أَنَا وَاللَّهِ فَإِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا أَخْرِمُ عَنْهَا، أُصَلِّي صَلَاةَ الْعِشَاءِ فَأَرْكُدُ فِي الْأُولَيَيْنِ وَأُخِفُّ فِي الْأُخْرَيَيْنِ، قَالَ: ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ، فَأَرْسَلَ مَعَهُ رَجُلًا - أَوْ رِجَالًا - إِلَى الْكُوفَةِ فَسَأَلَ عَنْهُ أَهْلَ الْكُوفَةِ، وَلَمْ يَدَعْ مَسْجِدًا إِلَّا سَأَلَ عَنْهُ وَيُثْنُونَ مَعْرُوفًا حَتَّى دَخَلَ مَسْجِدًا لِبَنِي عَبْسٍ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ يُكْنَى أَبَا سَعْدَةَ قَالَ: أَمَّا إِذْ نَشَدْتَنَا فَإِنَّ سَعْدًا كَانَ لَا يَسِيرُ بِالسَّرِيَّةِ وَلَا يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ وَلَا يَعْدِلُ فِي الْقَضِيَّةِ، قَالَ سَعْدٌ: أَمَا وَاللَّهِ لَأَدْعُوَنَّ بِثَلَاثٍ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِبًا قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً فَأَطِلْ عُمْرَهُ، وَأَطِلْ فَقْرَهُ، وَعَرِّضْهُ بِالْفِتَنِ. وَكَانَ بَعْدُ إِذَا سُئِلَ يَقُولُ: شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ. قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنَ الْكِبَرِ وَإِنَّهُ لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي فِي الطُّرُقِ يَغْمِزُهُنَّ.
[الحديث 755 - طرفاه في: 770، 758]
756 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ
757 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَرَدَّ وَقَالَ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ فَرَجَعَ يُصَلِّي كَمَا صَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ ثَلَاثًا فَقَالَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ فَعَلِّمْنِي فَقَالَ إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْدِلَ قَائِمًا ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا وَافْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا
[الحديث 757 - أطرافه في 6667، 6252، 6251، 793]
758 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ سَعْدٌ: كُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاتَيْ الْعَشِيِّ لَا أَخْرِمُ عَنْهَا: أَرْكُدُ فِي الْأُولَيَيْنِ وَأَحْذِفُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: ذَلِكَ الظَّنُّ بِكَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ) لَمْ يَذْكُرِ الْمُنْفَرِدُ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْإِمَامِ، وَذَكَرَ السَّفَرَ لِئَلَّا يُتَخَيَّلُ أَنَّهُ يُتَرَخَّصُ فِيهِ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ كَمَا رُخِّصَ فِيهِ بِحَذْفِ بَعْضِ الرَّكَعَاتِ.
قَوْلُهُ: (وَمَا يُجْهَرُ فِيهَا وَمَا يُخَافَتُ) هُوَ بِضَمِّ أَوَّلِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ وَمَا يُجْهَرُ بِهِ وَمَا يُخَافَتُ؛ لِأَنَّهُ لَازِمٌ فَلَا يُبْنَى مِنْهُ، قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: قَوْلُهُ وَمَا يُجْهَرُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ فِي الصَّلَوَاتِ لَا عَلَى الْقِرَاءَةِ، وَالْمَعْنَى: وُجُوبُ الْقِرَاءَةِ فِيمَا يُجْهَرُ فِيهِ وَيُخَافَتُ. أَيْ: أَنَّ الْوُجُوبَ لَا يَخْتَصُّ بِالسِّرِّيَّةِ دُونَ الْجَهْرِيَّةِ خِلَافًا لِمَنْ فَرَّقَ فِي الْمَأْمُومِ، انْتَهَى.
وَقَدِ اعْتَنَى الْبُخَارِيُّ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَصَنَّفَ فِيهَا جُزْءًا مُفْرَدًا سَنَذْكُرُ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي هَذَا الشَّرْحِ مِنْ فَوَائِدِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُوسَى) هُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ) هُوَ الصَّحَابِيُّ، وَلِأَبِيهِ سَمُرَةَ بْنِ جُنَادَةَ صُحْبَةٌ أَيْضًا. وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ عُيَيْنَةَ بِسَمَاعِ عَبْدِ الْمَلِكِ لَهُ مِنْ جَابِرٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ.
قَوْلُهُ: (شَكَا أَهْلُ الْكُوفَةِ سَعْدًا) هُوَ ابْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَهُوَ خَالُ ابْنِ سَمُرَةَ الرَّاوِي عَنْهُ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ عُمَرَ إِذْ جَاءَ أَهْلُ الْكُوفَةِ يَشْكُونَ إِلَيْهِ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ حَتَّى قَالُوا: إِنَّهُ لَا يُحْسِنُ الصَّلَاةَ، انْتَهَى. وَفِي قَوْلِهِ: أَهْلُ الْكُوفَةِ مَجَازٌ، وَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْكُلِّ عَلَى الْبَعْضِ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ شَكَوْهُ بَعْضُ أَهْلِ الْكُوفَةِ لَا كُلُّهُمْ، فَفِي رِوَايَةِ زَائِدَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي صَحِيحِ أَبِي عَوَانَةَ: جَعَلَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَنَحْوُهُ لِإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَسُمِّيَ مِنْهُمْ عِنْدَ سَيْفٍ، والطَّبَرَانِيِّ، الْجَرَّاحِ بْنِ سِنَانٍ، وَقَبِيصَةَ، وَأَرْبَدَ الْأَسَدِيُّونَ، وَذَكَرَ الْعَسْكَرِيُّ فِي الْأَوَائِلِ أَنَّ مِنْهُمُ الْأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ.
قَوْلُهُ: (فَعَزَلَهُ) كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَمَّرَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ عَلَى قِتَالِ الْفُرْسِ فِي سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ فَفَتَحَ اللَّهُ الْعِرَاقَ عَلَى يَدَيْهِ، ثُمَّ اخْتَطَّ الْكُوفَةَ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهَا أَمِيرًا إِلَى سَنَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ فِي قَوْلِ خَلِيفَةَ بْنِ خَيَّاطٍ، وَعِنْدَ الطَّبَرِيِّ سَنَةَ عِشْرِينَ، فَوَقَعَ لَهُ مَعَ أَهْلِ الْكُوفَةِ مَا ذُكِرَ.
قَوْلُهُ: (وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَمَّارًا) هُوَ ابْنُ يَاسِرٍ، قَالَ خَلِيفَةُ: اسْتَعْمَلَ عَمَّارًا عَلَى الصَّلَاةِ وَابْنَ مَسْعُودٍ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ وَعُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ عَلَى مِسَاحَةِ الْأَرْضِ. انْتَهَى. وَكَأَنَّ تَخْصِيصَ عَمَّارٍ بِالذِّكْرِ لِوُقُوعِ التَّصْرِيحِ بِالصَّلَاةِ دُونَ غَيْرِهَا مِمَّا وَقَعَتْ فِيهِ الشَّكْوَى.
قَوْلُهُ: (فَشَكَوْا) لَيْسَتْ هَذِهِ الْفَاءُ عَاطِفَةً عَلَى قَوْلِهِ فَعَزَلَهُ بَلْ هِيَ تَفْسِيرِيَّةٌ عَاطِفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ شَكَا عَطْفَ تَفْسِيرٍ، وَقَوْلُهُ فَعَزَلَهُ وَاسْتَعْمَلَ اعْتِرَاضٌ إِذِ الشَّكْوَى كَانَتْ سَابِقَةً عَلَى الْعَزْلِ، وَبَيَّنَتْهُ رِوَايَةُ مَعْمَرٍ الْمَاضِيَةُ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّهُ لَا يُحْسِنُ يُصَلِّي) ظَاهِرُهُ أَنَّ جِهَاتِ الشَّكْوَى كَانَتْ مُتَعَدِّدَةٌ، وَمِنْهَا قِصَّةُ الصَّلَاةِ. وَصُرِّحَ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَوْنٍ
(1)
الْآتِيَةِ قَرِيبًا، فَقَالَ عُمَرُ: لَقَدْ شَكَوْكَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى فِي الصَّلَاةِ. وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ، وَسَيْفٌ أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهُ حَابَى فِي بَيْعِ خُمُسٍ بَاعَهُ. وَأَنَّهُ صَنَعَ عَلَى دَارِهِ بَابًا مُبَوَّبًا مِنْ خَشَبٍ، وَكَانَ السُّوقُ مُجَاوِرًا لَهُ فَكَانَ يَتَأَذَّى بِأَصْوَاتِهِمْ، فَزَعَمُوا أَنَّهُ قَالَ: انْقَطَعَ التَّصْوِيتُ. وَذَكَرَ سَيْفٌ أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهُ كَانَ يُلْهِيهِ الصَّيْدُ عَنِ الْخُرُوجِ فِي السَّرَايَا. وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي كِتَابِ النَّسَبِ: رَفَعَ أَهْلُ الْكُوفَةِ عَلَيْهِ أَشْيَاءَ كَشَفَهَا عُمَرُ فَوَجَدَهَا بَاطِلَةً. اهـ. وَيُقَوِّيهِ قَوْلُ عُمَرَ فِي وَصِيَّتِهِ: فَإِنِّي لَمْ أَعْزِلْهُ مِنْ عَجْزٍ وَلَا خِيَانَةٍ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي مَنَاقِبِ عُثْمَانَ.
قَوْلُهُ: (فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَقَالَ) فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَوَصَلَ إِلَيْهِ الرَّسُولُ فَجَاءَ إِلَى عُمَرَ، وَسَيَأْتِي تَسْمِيَةُ الرَّسُولِ.
قَوْلُهُ: (يَا أَبَا إِسْحَاقَ) هِيَ كُنْيَةُ سَعْدٍ، كُنِّيَ بِذَلِكَ بِأَكْبَرِ أَوْلَادِهِ، وَهَذَا تَعْظِيمٌ مِنْ عُمَرَ لَهُ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ تَقْدَحْ فِيهِ الشَّكْوَى عِنْدَهُ.
قَوْلُهُ: (أَمَّا أَنَا وَاللَّهِ) أَمَّا بِالتَّشْدِيدِ وَهِيَ لِلتَّقْسِيمِ، وَالْقَسِيمُ هُنَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَأَمَّا هُمْ فَقَالُوا مَا قَالُوا. وَفِيهِ الْقَسَمُ فِي الْخَبَرِ لِتَأْكِيدِهِ فِي نَفْسِ السَّامِعِ، وَجَوَابُ الْقَسَمِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فَإِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ.
قَوْلُهُ: (صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) بِالنَّصْبِ أَيْ: مِثْلَ صَلَاةِ.
قَوْلُهُ: (مَا أَخْرِمُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ: لَا أُنْقِصُ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ عَنْ بَعْضِ الرُّوَاة أَنَّهُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ فَفِعْلُهُ مِنَ الرُّبَاعِيِّ وَاسْتَضْعَفَهُ.
قَوْلُهُ: (أُصَلِّي صَلَاةَ الْعِشَاءِ) كَذَا هُنَا بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ لِلْجَمِيعِ، غَيْرِ الْجُرْجَانِيِّ فَقَالَ الْعَشِيِّ، وَفِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ صَلَاتَيِ الْعِشِيِّ بِالْكَسْرِ وَالتَّشْدِيدِ لَهُمْ إِلَّا الْكُشْمِيهَنِيَّ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ بِلَفْظِ: صَلَاتَيِ الْعَشِيِّ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ وَكَذَا لِزَائِدَةَ فِي صَحِيحِ أَبِي عَوَانَةَ وَهُوَ الْأَرْجَحُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ التَّثْنِيَةُ، وَالْمُرَادُ بِهِمَا الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَقَعَ التَّثْنِيَةُ فِي الْمَمْدُودِ وَيُرَادُ بِهِمَا الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ، لَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ الْأُخْرَيَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَغْرِبَ إِنَّمَا لَهَا أُخْرَى وَاحِدَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَبْدَى الْكِرْمَانِيُّ لِتَخْصِيصِ الْعِشَاءِ بِالذِّكْرِ حِكْمَةً، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا أَتْقَنَ فِعْلَ هَذِهِ الصَّلَاةِ الَّتِي وَقْتُهَا وَقْتُ الِاسْتِرَاحَةِ كَانَ ذَلِكَ فِي غَيْرِهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَهُوَ حَسَنٌ، وَيُقَالُ مِثَلُهُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ؛ لِأَنَّهُمَا وَقْتُ الِاشْتِغَالِ بِالْقَائِلَةِ وَالْمَعَاشِ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: لَعَلَّ شَكْوَاهُمْ كَانَتْ فِي هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ خَاصَّةً فَلِذَلِكَ خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ.
قَوْلُهُ: (فَأَرْكُدُ فِي الْأُولَيَيْنِ) قَالَ الْقَزَّازُ: أَرْكُدُ أَيْ: أُقِيمُ طَوِيلًا، أَيْ: أُطَوِّلُ فِيهِمَا الْقِرَاءَةَ. قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّطْوِيلُ بِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْقِرَاءَةِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ؛ لَكِنَّ الْمَعْهُودَ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الرَّكَعَاتِ إِنَّمَا هُوَ فِي الْقِرَاءَةِ، وَسَيَأْتِي قَرِيبًا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَمُدُّ فِي الْأُولَيَيْنِ وَالْأُولَيَيْنِ بِتَحْتَانِيَّتَيْنِ تَثْنِيَةُ الْأُولَى وَكَذَا الْأُخْرَيَيْنِ.
قَوْلُهُ: (وَأُخِفُّ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَأَحْذِفُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنَ سَعِيدٍ الدَّارِمِيِّ، عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ الَّتِي وَقَفْتُ عَلَيْهَا، إِلَّا أَنَّ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ شُعْبَةَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ بِالْمِيمِ
(1)
هو محمد بن عبيد الله الثقفي
بَدَلَ الْفَاءِ، وَالْمُرَادُ بِالْحَذْفِ حَذْفُ التَّطْوِيلِ لَا حَذْفُ أَصْلِ الْقِرَاءَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَحْذِفُ الرُّكُودَ.
قَوْلُهُ: (ذَلِكَ الظَّنُّ بِكَ) أَيْ: هَذَا الَّذِي تَقُولُ هُوَ الَّذِي كُنَّا نَظُنُّهُ، زَادَ مِسْعَرٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَابْنِ عَوْنٍ مَعًا: فَقَالَ سَعْدٌ أَتُعَلِّمُنِي الْأَعْرَابُ الصَّلَاةَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ شَكَوْهُ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَكَأَنَّهُمْ ظَنُّوا مَشْرُوعِيَّةَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الرَّكَعَاتِ فَأَنْكَرُوا عَلَى سَعْدٍ التَّفْرِقَةَ، فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ ذَمُّ الْقَوْلِ بِالرَّأْيِ الَّذِي لَا يَسْتَنِدُ إِلَى أَصْلٍ، وَفِيهِ أَنَّ الْقِيَاسَ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَجْهُ دُخُولِ حَدِيثِ سَعْدٍ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: أَرْكُدُ وَأُخِفُّ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَتْرُكُ الْقِرَاءَةَ فِي شَيْءٍ مِنْ صَلَاتِهِ، وَقَدْ قَالَ: إِنَّهَا مِثْلُ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَاخْتَصَرَهُ الْكِرْمَانِيُّ فَقَالَ: رُكُودُ الْإِمَامِ يَدُلُّ عَلَى قِرَاءَتِهِ عَادَةً.
قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: وَلِهَذَا أَتْبَعَ الْبُخَارِيُّ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ حَدِيثَ سَعْدٍ بِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ كَالْمُفَسِّرِ لَهُ. قُلْتُ: وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ هُنَا ذِكْرُ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ. نَعَمْ هُوَ مَذْكُورٌ مِنْ حَدِيثِهِ بَعْدَ عَشَرَةِ أَبْوَابٍ، وَإِنَّمَا تَتِمُّ الدَّلَالَةُ عَلَى الْوُجُوبِ إِذَا ضَمَّ إِلَى مَا ذَكَرَ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي، فَيَحْصُلُ التَّطَابُقُ بِهَذَا لِقَوْلِهِ: الْقِرَاءَةُ لِلْإِمَامِ وَمَا ذَكَرَ مِنَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ، وَأَمَّا الْحَضَرُ وَالسَّفَرُ وَقِرَاءَةُ الْمَأْمُومِ فَمِنْ غَيْرِ حَدِيثِ سَعْدٍ مِمَّا ذُكِرَ فِي الْبَابِ، وَقَدْ يُؤْخَذُ السَّفَرُ وَالْحَضَرُ مِنْ إِطْلَاقِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، وَأَمَّا وُجُوبُ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْإِمَامِ فَمِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ فِي الْبَابِ، وَلَعَلَّ الْبُخَارِيَّ اكْتَفَى بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِلْمُسِيءِ صَلَاتَهُ، وَهُوَ ثَالِثُ أَحَادِيثِ الْبَابِ: وَافْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَنْدَفِعُ اعْتِرَاضُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَغَيْرُهُ حَيْثُ قَالَ: لَا دَلَالَةَ فِي حَدِيثِ سَعْدٍ عَلَى وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ، وَإِنَّمَا فِيهِ تَخْفِيفُهَا فِي الْأُخْرَيَيْنِ عَنِ الْأُولَيَيْنِ.
قَوْلُهُ: (فَأَرْسَلَ مَعَهُ رَجُلًا أَوْ رِجَالًا) كَذَا لَهُمْ بِالشَّكِّ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ: فَبَعَثَ عُمَرُ رَجُلَيْنِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَعَادَهُ إِلَى الْكُوفَةِ لِيَحْصُلَ لَهُ الْكَشْفُ عَنْهُ بِحَضْرَتِهِ لِيَكُونَ أَبْعَدَ مِنَ التُّهْمَةِ، لَكِنَّ كَلَامَ سَيْفٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عُمَرَ إِنَّمَا سَأَلَهُ عَنْ مَسْأَلَةِ الصَّلَاةِ بَعْدَمَا عَادَ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ مِنَ الْكُوفَةِ. وَذَكَرَ سَيْفٌ وَالطَّبَرِيُّ أَنَّ رَسُولَ عُمَرَ بِذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ قَالَ: وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَقْتَصُّ آثَارَ مَنْ شُكِيَ مِنَ الْعُمَّالِ فِي زَمَنِ عُمَرَ. وَحَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّ عُمَرَ أَرْسَلَ فِي ذَلِكَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَرْقَمَ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَقَدْ عُرِفَ الرَّجُلَانِ.
وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ مَلِيحِ بْنِ عَوْفٍ السُّلَمِيِّ قَالَ: بَعَثَ عُمَرُ، مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةٍ وَأَمَرَنِي بِالْمَسِيرِ مَعَهُ وَكُنْتُ دَلِيلًا بِالْبِلَادِ، فَذَكَرَ الْقِصَّةَ وَفِيهَا: وَأَقَامَ سَعْدًا فِي مَسَاجِدِ الْكُوفَةِ يَسْأَلُهُمْ عَنْهُ، وَفِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ، عَنْ جَرِيرٍ: فَطِيفَ بِهِ فِي مَسَاجِدِ الْكُوفَةِ.
قَوْلُهُ: (وَيُثْنُونَ عَلَيْهِ مَعْرُوفًا) فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ: فَكُلُّهُمْ يُثْنِي عَلَيْهِ خَيْرًا.
قَوْلُهُ: (لِبَنِي عَبْسٍ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ قَبِيلَةٌ كَبِيرَةٌ مِنْ قَيْسٍ.
قَوْلُهُ: (أَبَا سَعْدَةَ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ سَاكِنَةٌ، زَادَ سَيْفٌ فِي رِوَايَتِهِ: فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أُنْشِدُ اللَّهَ رَجُلًا يَعْلَمُ حَقًّا إِلَّا قَالَ.
قَوْلُهُ: (أَمَّا) بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ، وَقَسِيمُهَا مَحْذُوفٌ أَيْضًا، قَوْلُهُ نَشَدْتَنَا أَيْ: طَلَبْتَ مِنَّا الْقَوْلَ.
قَوْلُهُ: (لَا يَسِيرُ بِالسَّرِيَّةِ) الْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ وَالسَّرِيَّةُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ الْمُخَفَّفَةِ قِطْعَةٌ مِنَ الْجَيْشِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِمَحْذُوفٍ أَيْ: لَا يَسِيرُ بِالطَّرِيقَةِ السَّرِيَّةِ أَيِ: الْعَادِلَةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: وَلَا يَعْدِلُ. وَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّكْرَارِ، وَالتَّأْسِيسُ أَوْلَى مِنَ التَّأْكِيدِ. وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ جَرِيرٍ، وَسُفْيَانُ بِلَفْظٍ: وَلَا يَنْفِرُ فِي السَّرِيَّةِ.
قَوْلُهُ: (فِي الْقَضِيَّةِ) أَيِ: الْحُكُومَةِ، وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ، وَسَيْفٍ: فِي الرَّعِيَّةِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ سَعْدٌ) فِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ: فَغَضِبَ سَعْدٌ. وَحَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ قَالَ: أَعَلَيَّ تَسْجَعُ.
قَوْلُهُ: (أَمَا وَاللَّهِ) بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ حَرْفُ اسْتِفْتَاحٍ.
قَوْلُهُ: (لَأَدْعُوَنَّ بِثَلَاثٍ) أَيْ: عَلَيْكَ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ نَفَى عَنْهُ الْفَضَائِلَ الثَّلَاثَ وَهِيَ الشَّجَاعَةُ حَيْثُ قَالَ لَا يَنْفِرُ وَالْعِفَّةُ حَيْثُ قَالَ لَا
يَقْسِمُ وَالْحِكْمَةُ حَيْثُ قَالَ لَا يَعْدِلُ، فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ تَتَعَلَّقُ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ وَالدِّينِ، فَقَابَلَهَا بِمِثْلِهَا: فَطُولُ الْعُمْرِ يَتَعَلَّقُ بِالنَّفْسِ، وَطُولُ الْفَقْرِ يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ، وَالْوُقُوعُ فِي الْفِتَنِ يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ، وَلَمَّا كَانَ فِي الثِّنْتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مَا يُمْكِنُ الِاعْتِذَارُ عَنْهُ دُونَ الثَّالِثَةِ قَابَلَهُمَا بِأَمْرَيْنِ دُنْيَوِيَّيْنِ وَالثَّالِثَةَ بِأَمْرٍ دِينِي، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا يَنْفِرُ بِالسَّرِيَّةِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَقًّا لَكِنْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي إِقَامَتِهِ لِيُرَتِّبَ مَصَالِحَ مَنْ يَغْزُو وَمَنْ يُقِيمُ، أَوْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ كَمَا وَقَعَ وَهُوَ فِي الْقَادِسِيَّةِ وَقَوْلُهُ: لَا يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَقًّا فَإِنَّ لِلْإِمَامِ تَفْضِيلَ أَهْلِ الْغَنَاءِ فِي الْحَرْبِ وَالْقِيَامِ بِالْمَصَالِحِ، وَقَوْلُهُ: لَا يَعْدِلُ فِي الْقَضِيَّةِ هُوَ أَشَدُّهَا؛ لِأَنَّهُ سَلَبَ عَنْهُ الْعَدْلَ مُطْلَقًا وَذَلِكَ قَدْحٌ فِي الدِّينِ، وَمِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبِ أَنَّ سَعْدًا مَعَ كَوْنِ هَذَا الرَّجُلِ وَاجَهَهُ بِهَذَا وَأَغْضَبَهُ حَتَّى دَعَا عَلَيْهِ فِي حَالِ غَضَبِهِ رَاعَى الْعَدْلَ وَالْإِنْصَافَ فِي الدُّعَاءِ عَلَيْهِ، إِذْ عَلَّقَهُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا وَأَنْ يَكُونَ الْحَامِلُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ الْغَرَضُ الدُّنْيَوِيُّ.
قَوْلُهُ: (رِيَاءً وَسُمْعَةً) أَيْ: لِيَرَاهُ النَّاسُ وَيَسْمَعُوهُ فَيُشْهِرُوا ذَلِكَ عَنْهُ فَيَكُونَ لَهُ بِذَلِكَ ذِكْرٌ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (وَأَطِلْ فَقْرَهُ) فِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ وَشَدِّدْ فَقْرَهُ، وَفِي رِوَايَةِ سَيْفٍ وَأَكْثِرْ عِيَالَهُ قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: فِي الدَّعَوَاتِ الثَّلَاثِ مُنَاسَبَةٌ لِلْحَالِ، أَمَّا طُولُ عُمْرِهِ فَلِيَرَاهُ مَنْ سَمِعَ بِأَمْرِهِ فَيَعْلَمَ كَرَامَةَ سَعْدٍ، وَأَمَّا طُولُ فَقْرِهِ فَلِنَقِيضِ مَطْلُوبِهِ؛ لِأَنَّ حَالَهُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ طَلَبَ أَمْرًا دُنْيَوِيًّا، وَأَمَّا تَعَرُّضُهُ لِلْفِتَنِ فَلِكَوْنِهِ قَامَ فِيهَا وَرَضِيَهَا دُونَ أَهْلِ بَلَدِهِ.
قَوْلُهُ: (فَكَانَ بَعْدُ) أَيْ: أَبُو سَعْدَةَ، وَقَائِلُ ذَلِكَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ بَيَّنَهُ جَرِيرٌ فِي رِوَايَتِهِ.
قَوْلُهُ: (إِذَا سُئِلَ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ: إِذْ قِيلَ لَهُ كَيْفَ أَنْتَ.
قَوْلُهُ: (شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ) قِيلَ: لَمْ يَذْكُرِ الدَّعْوَةَ الْأُخْرَى وَهِيَ الْفَقْرُ لَكِنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ: أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ. قُلْتُ: قَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَسَدِ بْنِ مُوسَى، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي يَعْلَى، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَجَّاجِ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي عَوَانَةَ وَلَفْظُهُ: قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: فَأَنَا رَأَيْتُهُ يَتَعَرَّضُ لِلْإِمَاءِ فِي السِّكَكِ، فَإِذَا سَأَلُوهُ قَالَ: كَبِيرٌ فَقِيرٌ مَفْتُونٌ، وَفِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ، عَنْ جَرِيرٍ: فَافْتَقَرَ وَافْتُتِنَ، وَفِي رِوَايَةِ سَيْفٍ: فَعَمِيَ وَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ عَشْرُ بَنَاتٍ، وَكَانَ إِذَا سَمِعَ بِحِسِّ الْمَرْأَةِ تَشَبَّثَ بِهَا، فَإِذَا أُنْكِرَ عَلَيْهِ قَالَ: دَعْوَةُ الْمُبَارَكِ سَعْدٍ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ: وَلَا تَكُونُ فِتْنَةٌ إِلَّا وَهُوَ فِيهَا، وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ جُحَادَةَ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ نَحْوُ هَذِهِ الْقِصَّةِ قَالَ: وَأَدْرَكَ فِتْنَةَ الْمُخْتَارِ فَقُتِلَ فِيهَا، رَوَاهُ الْمُخَلِّصُ فِي فَوَائِدِهِ. وَمِنْ طَرِيقِهِ ابْنُ عَسَاكِرَ، وَفِي رِوَايَةِ سَيْفٍ أَنَّهُ عَاشَ إِلَى فِتْنَةِ الْجَمَاجِمِ وَكَانَتْ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ، وَكَانَتْ فِتْنَةُ الْمُخْتَارِ حِينَ غَلَبَ عَلَى الْكُوفَةِ مِنْ سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّينَ إِلَى أَنْ قُتِلَ سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ.
قَوْلُهُ: (دَعْوَةُ سَعْدٍ) أَفْرَدَهَا لِإِرَادَةِ الْجِنْسِ وَإِنْ كَانَتْ ثَلَاثَ دَعَوَاتٍ، وَكَانَ سَعْدٌ مَعْرُوفًا بِإِجَابَةِ الدَّعْوَةِ، رَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: قِيلَ لِسَعْدٍ مَتَى أَصَبْتَ الدَّعْوَةَ؟ قَالَ: يَوْمَ بَدْرٍ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اللَّهُمَّ اسْتَجِبْ لِسَعْدٍ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَعْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اللَّهُمَّ اسْتَجِبْ لِسَعْدٍ إِذَا دَعَاكَ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ سِوَى مَا تَقَدَّمَ جَوَازُ عَزْلِ الْإِمَامِ بَعْضَ عُمَّالِهِ إِذَا شُكِيَ إِلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ شَيْءٌ إِذَا اقْتَضَتْ ذَلِكَ الْمَصْلَحَةُ، قَالَ مَالِكٌ: قَدْ عَزَلَ عُمَرُ، سَعْدًا وَهُوَ أَعْدَلُ مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ عُمَرَ عَزَلَهُ حَسْمًا لِمَادَّةِ الْفِتْنَةِ، فَفِي رِوَايَةِ سَيْفٍ: قَالَ عُمَرُ: لَوْلَا الِاحْتِيَاطُ وَأَنْ لَا يُتَّقَى مِنْ أَمِيرٍ مِثْلِ سَعْدٍ لَمَا عَزَلْتُهُ. وَقِيلَ عَزَلَهُ إِيثَارًا لِقُرْبِهِ مِنْهُ لِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الشُّورَى، وَقِيلَ: لِأَنَّ مَذْهَبَ عُمَرَ أَنَّهُ لَا يَسْتَمِرُّ بِالْعَامِلِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ، وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: اخْتَلَفُوا هَلْ يُعْزَلُ الْقَاضِي بِشَكْوَى الْوَاحِدِ أَوِ الِاثْنَيْنِ أَوْ لَا يُعْزَلُ حَتَّى يَجْتَمِعَ الْأَكْثَرُ عَلَى الشَّكْوَى مِنْهُ؟ وَفِيهِ اسْتِفْسَارُ الْعَامِلِ عَمَّا قِيلَ فِيهِ، وَالسُّؤَالُ
عَمَّنْ شُكِيَ فِي مَوْضِعِ عَمَلِهِ، وَالِاقْتِصَارُ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَنْ يُظَنُّ بِهِ الْفَضْلُ.
وَفِيهِ أَنَّ السُّؤَالَ عَنْ عَدَالَةِ الشَّاهِدِ وَنَحْوِهِ يَكُونُ مِمَّنْ يُجَاوِرُهُ، وَأَنَّ تَعْرِيضَ الْعَدْلِ لِلْكَشْفِ عَنْ حَالِهِ لَا يُنَافِي قَبُولَ شَهَادَتِهِ فِي الْحَالِ. وَفِيهِ خِطَابُ الرَّجُلِ الْجَلِيلِ بِكُنْيَتِهِ، وَالِاعْتِذَارُ لِمَنْ سُمِعَ فِي حَقِّهِ كَلَامٌ يَسُوءُهُ. وَفِيهِ الْفَرْقُ بَيْنَ الِافْتِرَاءِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ السَّبُّ، وَالِافْتِرَاءُ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ دَفْعُ الضَّرَرِ، فَيُعَزَّرُ قَائِلُ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَعْدٌ لَمْ يَطْلُبْ حَقَّهُ مِنْهُمْ أَوْ عَفَا عَنْهُمْ وَاكْتَفَى بِالدُّعَاءِ عَلَى الَّذِي كَشَفَ قِنَاعَهُ فِي الِافْتِرَاءِ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ صَارَ كَالْمُنْفَرِدِ بِأَذِيَّتِهِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْخَبَرِ: مَنْ دَعَا عَلَى ظَالِمِهِ فَقَدِ انْتَصَرَ، فَلَعَلَّهُ أَرَادَ الشَّفَقَةَ عَلَيْهِ بِأَنْ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، فَانْتَصَرَ لِنَفْسِهِ وَرَاعَى حَالَ مَنْ ظَلَمَهُ لِمَا كَانَ فِيهِ مِنْ وُفُورِ الدِّيَانَةِ. وَيُقَالُ إِنَّهُ إِنَّمَا دَعَا عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ انْتَهَكَ حُرْمَةَ مَنْ صَحِبَ صَاحِبَ الشَّرِيعَةِ، وَكَأَنَّهُ قَدِ انْتَصَرَ لِصَاحِبِ الشَّرِيعَةِ. وَفِيهِ جَوَازُ الدُّعَاءِ عَلَى الظَّالِمِ الْمُعَيَّنِ بِمَا يَسْتَلْزِمُ النَّقْصَ فِي دِينِهِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ طَلَبِ وُقُوعِ الْمَعْصِيَةِ، وَلَكِنْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى نِكَايَةِ الظَّالِمِ وَعُقُوبَتِهِ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَشْرُوعِيَّةُ طَلَبِ الشَّهَادَةِ وَإِنْ كَانَتْ تَسْتَلْزِمُ ظُهُورَ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُ مُوسَى عليه السلام:{رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} الْآيَةَ.
وَفِيهِ سُلُوكُ الْوَرَعِ فِي الدُّعَاءِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْأُولَيَيْنِ مِنَ الرُّبَاعِيَّةِ مُتَسَاوِيَتَانِ فِي الطُّولِ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ)، فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ سَمِعْتُ مَحْمُودَ بْنَ الرَّبِيعِ وَلِابْنِ أَبِي عُمَرَ، عَنْ سُفْيَانَ بِالْإِسْنَادِ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: سَمِعْتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ: عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ مَحْمُودَ بْنَ الرَّبِيعِ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ أَخْبَرَهُ، وَبِهَذَا التَّصْرِيحِ بِالْإِخْبَارِ يَنْدَفِعُ تَعْلِيلُ مَنْ أَعَلَّهُ بِالِانْقِطَاعِ لِكَوْنِ بَعْضِ الرُّوَاةِ أَدْخَلَ بَيْنَ مَحْمُودٍ، وَعُبَادَةَ رَجُلًا وَهِيَ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ.
قَوْلُهُ: (لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ) زَادَ الْحُمَيْدِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ فِيهَا كَذَا فِي مُسْنَدِهِ. وَهَكَذَا رَوَاهُ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، عَنِ الْحُمَيْدِيِّ، أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ. وَكَذَا لِابْنِ أَبِي عُمَرَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَلِقُتَيْبَةَ، وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ، وَهَذَا يُعَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ الْقِرَاءَةُ فِي نَفْسِ الصَّلَاةِ، قَالَ عِيَاضٌ: قِيلَ يُحْمَلُ عَلَى نَفْيِ الذَّاتِ وَصِفَاتِهَا، لَكِنَّ الذَّاتَ غَيْرُ مُنْتَفِيَةٍ فَيُخَصُّ بِدَلِيلٍ خَارِجٍ، وَنُوزِعَ فِي تَسْلِيمِ عَدَمِ نَفْيِ الذَّاتِ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّهُ إِنِ ادَّعَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ مَعْنَاهَا اللُّغَوِيُّ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ؛ لِأَنَّ أَلْفَاظَ الشَّارِعِ مَحْمُولَةٌ عَلَى عُرْفِهِ؛ لِأَنَّهُ الْمُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِيهِ لِكَوْنِهِ بُعِثَ لِبَيَانِ الشَّرْعِيَّاتِ لَا لِبَيَانِ مَوْضُوعَاتِ اللُّغَةِ، وَإِذَا كَانَ الْمَنْفِيُّ الصَّلَاةَ الشَّرْعِيَّةَ اسْتَقَامَ دَعْوَى نَفْيِ الذَّاتِ، فَعَلَى هَذَا لَا يُحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارِ الْإِجْزَاءِ وَلَا الْكَمَالِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الْإِجْمَالِ كَمَا نُقِلَ عَنِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِ حَتَّى مَالَ إِلَى التَّوَقُّفِ؛ لِأَنَّ نَفْيَ الْكَمَالِ يُشْعِرُ بِحُصُولِ الْإِجْزَاءِ فَلَوْ قُدِّرَ الْإِجْزَاءُ مُنْتَفِيًا لِأَجْلِ الْعُمُومِ قُدِّرَ ثَابِتًا لِأَجْلِ إِشْعَارِ نَفْيِ الْكَمَالِ بِثُبُوتِهِ فَيَتَنَاقَضُ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى إِضْمَارِهِمَا مَعًا؛ لِأَنَّ الْإِضْمَارَ إِنَّمَا احْتِيجَ إِلَيْهِ لِلضَّرُورَةِ، وَهِيَ مُنْدَفِعَةٌ بِإِضْمَارِ فَرْدٍ فَلَا حَاجَةَ إِلَى أَكْثَرَ مِنْهُ، وَدَعْوَى إِضْمَارِ أَحَدِهِمَا لَيْسَتْ بِأَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، قَالَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ.
وَفِي هَذَا الْأَخِيرِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّا إِنْ سَلَّمْنَا تَعَذُّرَ الْحَمْلِ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَالْحَمْلُ عَلَى أَقْرَبِ الْمَجَازَيْنِ إِلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى مِنَ الْحَمْلِ عَلَى أَبْعَدِهِمَا، وَنَفْيُ الْإِجْزَاءِ أَقْرَبُ إِلَى نَفْيِ الْحَقِيقَةِ وَهُوَ السَّابِقُ إِلَى الْفَهْمِ؛ وَلِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْكَمَالِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ فَيَكُونُ أَوْلَى، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ الْعَبَّاسِ بْنِ الْوَلِيدِ النَّرْسِيِّ أَحَدِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِلَفْظِ: لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ أَحَدُ الْأَثْبَاتِ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ طَرِيقِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا بِهَذَا اللَّفْظِ، أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُمَا، وَلِأَحْمَدَ
مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَوَادَةَ الْقُشَيْرِيِّ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا: لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ خُزَيْمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ الْقُرَشِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ حَدِيثَ الْبَابِ بِلَفْظِ: لَا صَلَاةَ إِلَّا بِقِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ لَا صَلَاةَ نَفْيٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ أَيْ: لَا تُصَلُّوا إِلَّا بِقِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَنَظِيرُهُ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ، فَإِنَّهُ فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ بِلَفْظِ: لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ حَاتِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ وَغَيْرِهِ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ مُجَاهِدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ عَنْ يَعْقُوبَ بِهِ،
وَأَخْرَجَ لَهُ ابْنُ حِبَّانَ أَيْضًا شَاهِدًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَقَدْ قَالَ بِوُجُوبِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ الْحَنَفِيَّةُ لَكِنْ بَنَوْا عَلَى قَاعِدَتِهِمْ أَنَّهَا مَعَ الْوُجُوبِ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا إِنَّمَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ، وَالَّذِي لَا تَتِمُّ الصَّلَاةُ إِلَّا بِهِ فَرْضٌ، وَالْفَرْضُ عِنْدَهُمْ لَا يَثْبُتُ بِمَا يَزِيدُ عَلَى الْقُرْآنِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} ؛ فَالْفَرْضُ قِرَاءَةُ مَا تَيَسَّرَ، وَتَعْيِينُ الْفَاتِحَةِ إِنَّمَا ثَبَتَ بِالْحَدِيثِ فَيَكُونُ وَاجِبًا يَأْثَمُ مَنْ يَتْرُكُهُ وَتُجْزِئُ الصَّلَاةُ بِدُونِهِ، وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ لَا يَنْقَضِي عَجَبِي مِمَّنْ يَتَعَمَّدُ تَرْكَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ مِنْهُمْ وَتَرْكَ الطُّمَأْنِينَةِ فَيُصَلِّي صَلَاةً يُرِيدُ أَنْ يَتَقَرَّبَ بِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ يَتَعَمَّدُ ارْتِكَابَ الْإِثْمِ فِيهَا مُبَالَغَةً فِي تَحْقِيقِ مُخَالَفَتِهِ لِمَذْهَبِ غَيْرِهِ.
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرَّكْعَةَ الْوَاحِدَةَ تُسَمَّى صَلَاةً لَوْ تَجَرَّدَتْ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ قِرَاءَتَهَا فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ الرُّبَاعِيَّةِ مَثَلًا يَقْتَضِي حُصُولَ اسْمِ قِرَاءَتِهَا فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ وُجُوبِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَالْأَصْلُ أَيْضًا عَدَمُ إِطْلَاقِ الْكُلِّ عَلَى الْبَعْضِ؛ لِأَنَّ الظُّهْرَ مَثَلًا كُلَّهَا صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ حَقِيقَةً كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ حَيْثُ سَمَّى الْمَكْتُوبَاتِ خَمْسًا، وَكَذَا حَدِيثُ عُبَادَةَ: خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، فَإِطْلَاقُ الصَّلَاةِ عَلَى رَكْعَةٍ مِنْهَا يَكُونُ مَجَازًا، قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَغَايَةُ مَا فِي هَذَا الْبَحْثِ أَنْ يَكُونَ فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةُ مَفْهُومٍ عَلَى صِحَّةِ الصَّلَاةِ بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، فَإِنْ دَلَّ دَلِيلٌ خَارِجٌ مَنْطُوقٌ عَلَى وُجُوبِهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ كَانَ مُقَدَّمًا. انْتَهَى.
وَقَالَ بِمُقْتَضَى هَذَا الْبَحْثِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَدَلِيلُ الْجُمْهُورِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: وَافْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُ بِالْقِرَاءَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ، وَابْنِ حِبَّانَ: ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي إِيرَادِ الْبُخَارِيِّ لَهُ عَقِبَ حَدِيثِ عُبَادَةَ: وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ عَلَى الْمَأْمُومِ سَوَاءٌ أَسَرَّ الْإِمَامُ أَمْ جَهَرَ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ صَلَاةُ حَقِيقَةٍ فَتَنْتَفِي عِنْدَ انْتِفَاءِ الْقِرَاءَةِ إِلَّا إِنْ جَاءَ دَلِيلٌ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ فَيُقَدَّمُ، قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَسْقَطَهَا عَنِ الْمَأْمُومِ مُطْلَقًا كَالْحَنَفِيَّةِ بِحَدِيثِ: مَنْ صَلَّى خَلْفَ إِمَامٍ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ لَكِنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ عِنْدَ الْحُفَّاظِ، وَقَدِ اسْتَوْعَبَ طُرُقَهُ وَعَلَّلَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَسْقَطَهَا عَنْهُ فِي الْجَهْرِيَّةِ كَالْمَالِكِيَّةِ بِحَدِيثِ: وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ لِإِمْكَانِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ: فَيُنْصِتُ فِيمَا عَدَا الْفَاتِحَةَ، أَوْ يُنْصِتُ إِذَا قَرَأَ الْإِمَامُ وَيَقْرَأُ إِذَا سَكَتَ، وَعَلَى هَذَا فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْإِمَامِ السُّكُوتُ فِي الْجَهْرِيَّةِ لِيَقْرَأَ الْمَأْمُومُ لِئَلَّا يُوقِعَهُ فِي ارْتِكَابِ النَّهْيِ حَيْثُ لَا يُنْصِتُ إِذَا قَرَأَ الْإِمَامُ، وَقَدْ ثَبَتَ الْإِذْنُ بِقِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ الْفَاتِحَةَ فِي الْجَهْرِيَّةِ بِغَيْرِ قَيْدٍ، وَذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي جُزْءِ الْقِرَاءَةِ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُمَا
مِنْ رِوَايَةِ مَكْحُولٍ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ عُبَادَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ثَقُلَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ فِي الْفَجْرِ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: لَعَلَّكُمْ تَقْرَءُونَ خَلْفَ إِمَامِكُمْ؟ قُلْنَا: نَعَمْ. قَالَ: فَلَا تَفْعَلُوا إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ حَدِيثَ الْبَابِ مُخْتَصَرٌ
مِنْ هَذَا وَكَانَ هَذَا سَبَبَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: لَا بُدَّ مِنْ أُمِّ الْقُرْآنِ، وَلَكِنَّ مَنْ مَضَى كَانَ الْإِمَامُ يَسْكُتُ سَاعَةً قَدْرَ مَا يَقْرَأُ الْمَأْمُومُ بِأُمِّ الْقُرْآنِ.
(فَائِدَةٌ): زَادَ مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي آخِرِ حَدِيثِ الْبَابِ فَصَاعِدًا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ قَدْرٍ زَائِدٍ عَلَى الْفَاتِحَةِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ وَرَدَ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ قَصْرِ الْحُكْمِ عَلَى الْفَاتِحَةِ، قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي جُزْءِ الْقِرَاءَةِ: هُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: تُقْطَعُ الْيَدُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا، وَادَّعَى ابْنُ حِبَّانَ، وَالْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُمَا الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ قَدْرٍ زَائِدٍ عَلَيْهَا، وَفِيهِ نَظَرٌ لِثُبُوتِهِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ، وَلَعَلَّهُمْ أَرَادُوا أَنَّ الْأَمْرَ اسْتَقَرَّ عَلَى ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَبْوَابٍ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: وَإِنْ لَمْ تَزِدْ عَلَى أُمِّ الْقُرْآنِ أَجْزَأَتْ وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ بَعْدَ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ بَابًا، وَمَوْضِعُ الْحَاجَةِ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ: ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِإِيرَادِهِ عَقِبَ حَدِيثِ عُبَادَةَ أَنَّ الْفَاتِحَةَ إِنَّمَا تَتَحَتَّمُ عَلَى مَنْ يُحْسِنُهَا، وَأَنَّ مَنْ لَا يُحْسِنُهَا يَقْرَأُ بِمَا تَيَسَّرَ عَلَيْهِ، وَأَنَّ إِطْلَاقَ الْقِرَاءَةِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مُقَيَّدٌ بِالْفَاتِحَةِ كَمَا فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: قَوْلُهُ: ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ ظَاهِرُ الْإِطْلَاقِ التَّخْيِيرِ؛ لَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ لِمَنْ أَحْسَنَهَا بِدَلِيلِ حَدِيثِ عُبَادَةَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ثُمَّ عَيَّنَتِ السُّنَّةُ الْمُرَادَ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: قَوْلُهُ مَا تَيَسَّرَ مَحْمُولٌ عَلَى الْفَاتِحَةِ فَإِنَّهَا مُتَيَسِّرَةٌ، أَوْ عَلَى مَا زَادَ مِنَ الْفَاتِحَةِ بَعْدَ أَنْ يَقْرَأَهَا، أَوْ عَلَى مَنْ عَجَزَ عَنِ الْفَاتِحَةِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ قَوْلَهُ مَا تَيَسَّرَ لَا إِجْمَالَ فِيهِ حَتَّى يُبَيَّنَ بِالْفَاتِحَةِ، وَالتَّقْيِيدُ بِالْفَاتِحَةِ يُنَافِي التَّيْسِيرَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْإِطْلَاقُ فَلَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَيْهِ. وَأَيْضًا فَسُورَةُ الْإِخْلَاصِ مُتَيَسِّرَةٌ وَهِيَ أَقْصَرُ مِنَ الْفَاتِحَةِ فَلَمْ يَنْحَصِرِ التَّيْسِيرُ فِي الْفَاتِحَةِ، وَأَمَّا الْحَمْلُ عَلَى مَا زَادَ فَمَبْنِيٌّ عَلَى تَسْلِيمِ تَعَيُّنِ الْفَاتِحَةِ وَهِيَ مَحَلُّ النِّزَاعِ.
وَأَمَّا حَمْلُهُ عَلَى مَنْ عَجَزَ فَبَعِيدٌ، وَالْجَوَابُ الْقَوِيُّ عَنْ هَذَا أَنَّهُ وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ تَفْسِيرُ مَا تَيَسَّرَ بِالْفَاتِحَةِ كَمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ رَفَعَهُ: وَإِذَا قُمْتَ فَتَوَجَّهْتَ فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَبِمَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَقْرَأَ، وَإِذَا رَكَعْتَ فَضَعْ رَاحَتَيْكَ عَلَى رُكْبَتَيْكَ الْحَدِيثَ. وَوَقَعَ فِيهِ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ: ثُمَّ اقْرَأْ إِنْ كَانَ مَعَكَ قُرْآنٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَاحْمَدِ اللَّهَ وَكَبِّرْ وَهَلِّلْ، فَإِذَا جُمِعَ بَيْنَ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ كَانَ تَعَيُّنُ الْفَاتِحَةِ هُوَ الْأَصْلُ لِمَنْ مَعَهُ قُرْآنٌ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ تَعَلُّمِهَا وَكَانَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ قَرَأَ مَا تَيَسَّرَ، وَإِلَّا انْتَقَلَ إِلَى الذِّكْرِ. وَيُحْتَمَلُ الْجَمْعُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَاقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ أَيْ: بَعْدَ الْفَاتِحَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَقْرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَمَا تَيَسَّرَ.
96 - بَاب الْقِرَاءَةِ فِي الظُّهْرِ
759 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ يُطَوِّلُ فِي الْأُولَى وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ وَيُسْمِعُ الْآيَةَ أَحْيَانًا، وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الْعَصْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ وَكَانَ يُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ.
[الحديث 759 - أطرافه: 779. 778. 776. 762]
760 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنِي عُمَارَةُ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ قَالَ سَأَلْنَا خَبَّابًا أَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ قَالَ نَعَمْ قُلْنَا بِأَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تَعْرِفُونَ قَالَ بِاضْطِرَابِ لِحْيَتِهِ "
قَوْلُهُ: (بَابُ الْقِرَاءَةِ فِي الظُّهْرِ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ وَالَّتِي بَعْدَهَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِمَا إِثْبَاتُ الْقِرَاءَةِ فِيهِمَا وَأَنَّهَا تَكُونُ سِرًّا إِشَارَةً إِلَى مَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ كَابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا سَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ بَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَبْوَابٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ تَقْدِيرُ الْمَقْرُوءِ أَوْ تَعَيُّنُهُ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ لِكَوْنِهِ لَمْ يَتَعَرَّضْ فِي الْبَابَيْنِ لِإِخْرَاجِ شَيْءٍ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالِاحْتِمَالِ الثَّانِي، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثَ مُخْتَلِفَةً سَيَأْتِي بَعْضُهَا، وَجَمَعَ بَيْنَهَا بِوُقُوعِ ذَلِكَ فِي أَحْوَالٍ مُتَغَايِرَةٍ؛ إِمَّا لِبَيَانِ الْجَوَازِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَاسْتَدَلَّ ابْنُ الْعَرَبِيِّ بِاخْتِلَافِهَا عَلَى عَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ سُورَةٍ مُعَيَّنَةٍ فِي صَلَاةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَهُوَ وَاضِحٌ فِيمَا اخْتَلَفَ لَا فِيمَا لَمْ يَخْتَلِفْ كَتَنْزِيلِ وَهَلْ أَتَى فِي صُبْحِ الْجُمُعَةِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَيَحْيَى هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ) فِي رِوَايَةِ الْجَوْزَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، عَنْ شَيْبَانَ التَّصْرِيحُ بِالْإِخْبَارِ لِيَحْيَى مِنْ عَبْدِ اللَّهِ، وَلِعَبْدِ اللَّهِ مِنْ أَبِيهِ، وَكَذَا لِلنَّسَائِيِّ مِنْ رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى لَكِنْ بِلَفْظِ التَّحْدِيثِ فِيهِمَا، وَكَذَا عِنْدَهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ الْقَنَّادِ، عَنْ يَحْيَى، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ فَأُمِنَ بِذَلِكَ تَدْلِيسُ يَحْيَى.
قَوْلُهُ: (الْأُولَيَيْنِ) بِتَحْتَانِيَّتَيْنِ تَثْنِيَةُ الْأُولَى.
قَوْلُهُ: (صَلَاةُ الظُّهْرِ) فِيهِ جَوَازُ تَسْمِيَةِ الصَّلَاةِ بِوَقْتِهَا.
قَوْلُهُ: (وَسُورَتَيْنِ) أَيْ: فِي كُلِّ رَكْعَةٍ سُورَةٌ كَمَا سَيَأْتِي صَرِيحًا فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ قِرَاءَةَ سُورَةٍ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ قَدْرِهَا مِنْ طَوِيلَةٍ قَالَهُ النَّوَوِيُّ، وَزَادَ الْبَغَوِيُّ: وَلَوْ قَصُرَتِ السُّورَةُ عَنِ الْمَقْرُوءِ، كَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ كَانَ يَفْعَلُ؛ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الدَّوَامِ أَوِ الْغَالِبُ.
قَوْلُهُ: (يُطَوِّلُ فِي الْأُولَى وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ) قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: كَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ النَّشَاطَ فِي الْأُولَى يَكُونُ أَكْثَرَ فَنَاسَبَ التَّخْفِيفُ فِي الثَّانِيَةِ حَذَرًا مِنَ الْمَلَلِ. انْتَهَى.
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ يَحْيَى فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ: فَظَنَنَّا أَنَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يُدْرِكَ النَّاسُ الرَّكْعَةَ، وَلِأَبِي دَاوُدَ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ نَحْوُهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يُطَوِّلَ الْإِمَامُ الرَّكْعَةَ الْأُولَى مِنْ كُلِّ صَلَاةٍ حَتَّى يَكْثُرَ النَّاسُ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَطْوِيلِ الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَةِ وَسَيَأْتِي فِي بَابٍ مُفْرَدٍ، وَجَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ سَعْدٍ الْمَاضِي حَيْثُ قَالَ: أَمُدُّ فِي الْأُولَيَيْنِ أَنَّ الْمُرَادَ تَطْوِيلُهُمَا عَلَى الْأُخْرَيَيْنِ لَا التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي الطُّولِ.
وَقَالَ مَنِ اسْتَحَبَّ اسْتِوَاءَهُمَا: إِنَّمَا طَالَتِ الْأُولَى بِدُعَاءِ الِافْتِتَاحِ وَالتَّعَوُّذِ، وَأَمَّا فِي الْقِرَاءَةِ فَهُمَا سَوَاءٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ فِي الْأُولَيَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قَدْرَ ثَلَاثِينَ آيَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ مَاجَهْ أَنَّ الَّذِينَ حَزَرُوا ذَلِكَ كَانُوا ثَلَاثِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَادَّعَى ابْنُ حِبَّانَ أَنَّ الْأُولَى إِنَّمَا طَالَتْ عَلَى الثَّانِيَةِ بِالزِّيَادَةِ فِي التَّرْتِيلِ فِيهَا مَعَ اسْتِوَاءِ الْمَقْرُوءِ فِيهِمَا، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ حَفْصَةَ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُرَتِّلُ السُّورَةَ حَتَّى تَكُونَ أَطْوَلَ مِنْ أَطْوَلَ مِنْهَا، وَاسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى جَوَازِ تَطْوِيلِ الْإِمَامِ فِي الرُّكُوعِ لِأَجْلِ الدَّاخِلِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْحِكْمَةَ لَا يُعَلَّلُ بِهَا لِخَفَائِهَا أَوْ لِعَدَمِ انْضِبَاطِهَا؛ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ يُرِيدُ تَقْصِيرَ تِلْكَ الرَّكْعَةَ ثُمَّ يُطِيلُهَا لِأَجْلِ الْآتِي، وَإِنَّمَا كَانَ يَدْخُلُ فِيهَا لِيَأْتِيَ بِالصَّلَاةِ عَلَى سُنَّتِهَا مِنْ
تَطْوِيلِ الْأُولَى، فَافْتَرَقَ الْأَصْلُ وَالْفَرْعُ فَامْتَنَعَ الْإِلْحَاقُ. انْتَهَى.
وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي جُزْءِ الْقِرَاءَةِ كَلَامًا مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ فِي انْتِظَارِ الدَّاخِلِ فِي الرُّكُوعِ شَيْءٌ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -. وَلَمْ يَقَعْ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ هَذَا هُنَا ذِكْرُ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ، فَتَمَسَّكَ بِهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى إِسْقَاطِهَا فِيهِمَا؛ لَكِنَّهُ ثَبَتَ فِي حَدِيثِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ كَمَا سَيَأْتِي مِنْ حَدِيثِهِ بَعْدَ عَشَرَةِ أَبْوَابٍ.
قَوْلُهُ: (وَيُسْمِعُ الْآيَةَ أَحْيَانًا) فِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ وَيُسْمِعُنَا وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ شَيْبَانَ، وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ: كُنَّا نُصَلِّي خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ فَنَسْمَعُ مِنْهُ الْآيَةَ بَعْدَ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ لُقْمَانَ وَالذَّارِيَاتِ وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ نَحْوُهُ لَكِنْ قَالَ: بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ الْجَهْرِ فِي السِّرِّيَّةِ وَأَنَّهُ لَا سُجُودَ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ سَوَاءٌ قُلْنَا كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ عَمْدًا لِبَيَانِ الْجَوَازِ أَوْ بِغَيْرِ قَصْدٍ لِلِاسْتِغْرَاقِ فِي التَّدَبُّرِ، وَفِيهِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْإِسْرَارَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ السِّرِّيَّةِ. وَقَوْلُهُ أَحْيَانًا يَدُلُّ عَلَى تَكَرُّرِ ذَلِكَ مِنْهُ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاكْتِفَاءِ بِظَاهِرِ الْحَالِ فِي الْأَخْبَارِ دُونَ التَّوَقُّفِ عَلَى الْيَقِينِ؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَ إِلَى الْعِلْمِ بِقِرَاءَةِ السُّورَةِ فِي السِّرِّيَّةِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِسَمَاعِ كُلِّهَا، وَإِنَّمَا يُفِيدُ يَقِينُ ذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي الْجَهْرِيَّةِ، وَكَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ سَمَاعِ بَعْضِهَا مَعَ قِيَامِ الْقَرِينَةِ عَلَى قِرَاءَةِ بَاقِيهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُخْبِرُهُمْ عَقِبَ الصَّلَاةِ دَائِمًا أَوْ غَالِبًا بِقِرَاءَةِ السُّورَتَيْنِ، وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
760 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنِي عُمَارَةُ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ قَالَ: سَأَلْنَا خَبَّابًا أَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْنَا: بِأَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تَعْرِفُونَ؟ قَالَ: بِاضْطِرَابِ لِحْيَتِهِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عُمَرُ) هُوَ ابْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي عُمَارَةُ) هُوَ ابْنُ عُمَيْرٍ كَمَا فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَخْبَرَةَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ بَيْنَهُمَا خَاءٌ مُعْجَمَةٌ سَاكِنَةٌ، الْأَزْدِيُّ، وَأَفَادَ الدِّمْيَاطِيُّ أَنَّ لِأَبِيهِ صُحْبَةً، وَوَهَّمَهُ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ الصَّحَابِيَّ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ فِي سِيَاقِهِ: عَنْ سَخْبَرَةَ وَلَيْسَ بِالْأَزْدِيِّ. قُلْتُ: لَكِنْ جَزَمَ الْبُخَارِيُّ، وَابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ بِأَنَّهُ الْأَزْدِيُّ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ.
قَوْلُهُ: (بِاضْطِرَابِ لِحْيَتِهِ) فِيهِ الْحُكْمُ بِالدَّلِيلِ؛ لِأَنَّهُمْ حَكَمُوا بِاضْطِرَابِ لِحْيَتِهِ عَلَى قِرَاءَتِهِ، لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ قَرِينَةٍ تُعَيِّنُ الْقِرَاءَةَ دُونَ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ مَثَلًا؛ لِأَنَّ اضْطِرَابَ اللِّحْيَةِ يَحْصُلُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَكَأَنَّهُمْ نَظَرُوهُ بِالصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَحَلَّ مِنْهَا هُوَ مَحَلُّ الْقِرَاءَةِ لَا الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ، وَإِذَا انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي قَتَادَةَ: كَانَ يُسْمِعُنَا الْآيَةَ أَحْيَانًا قَوِيَ الِاسْتِدْلَالُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: احْتِمَالُ الذِّكْرِ مُمْكِنٌ لَكِنَّ جَزْمَ الصَّحَابِيِّ بِالْقِرَاءَةِ مَقْبُولٌ؛ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِأَحَدِ الْمُحْتَمَلَيْنِ فَيُقْبَلُ تَفْسِيرُهُ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ عَلَى مُخَافَتَتِهِ الْقِرَاءَةَ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ كَمَا سَيَأْتِي، وَعَلَى رَفْعِ بَصَرِ الْمَأْمُومِ إِلَى الْإِمَامِ كَمَا مَضَى، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْبَيْهَقِيُّ عَلَى أَنَّ الْإِسْرَارَ بِالْقِرَاءَةِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إِسْمَاعِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِتَحْرِيكِ اللِّسَانِ وَالشَّفَتَيْنِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَطْبَقَ شَفَتَيْهِ وَحَرَّكَ لِسَانَهُ بِالْقِرَاءَةِ فَإِنَّهُ لَا تَضْطَرِبُ بِذَلِكَ لِحْيَتُهُ فَلَا يُسْمِعُ نَفْسَهُ. انْتَهَى وَفِيهِ نَظَرٌ لَا يَخْفَى.
97 - بَاب الْقِرَاءَةِ فِي الْعَصْرِ
761 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ قَالَ: قُلْتُ لِخَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ: أَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: قُلْتُ: بِأَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ قِرَاءَتَهُ؟ قَالَ: بِاضْطِرَابِ لِحْيَتِهِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْقِرَاءَةِ فِي الْعَصْرِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ خَبَّابٍ الْمَذْكُورَ قَبْلَهُ، وَكَذَا حَدِيثَ أَبِي قَتَادَةَ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ وَعَلَى مَا يُؤْخَذُ مِنَ التَّرْجَمَةِ تَصْرِيحًا أَوْ إِشَارَةً.
قَوْلُهُ: (قُلْنَا) فِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي قُلْتُ لِخَبَّابٍ.
قَوْلُهُ: (ابْنُ الْأَرَتِّ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقَانِيَّةِ.
762 -
حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ سُورَةٍ وَيُسْمِعُنَا الْآيَةَ أَحْيَانًا.
قَوْلُهُ: (هِشَامٌ) هُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ.
98 - بَاب الْقِرَاءَةِ فِي الْمَغْرِبِ
763 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: إِنَّ أُمَّ الْفَضْلِ سَمِعَتْهُ وَهُوَ يَقْرَأُ: وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا، فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ وَاللَّهِ لَقَدْ ذَكَّرْتَنِي بِقِرَاءَتِكَ هَذِهِ السُّورَةَ إِنَّهَا لَآخِرُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ بِهَا فِي الْمَغْرِبِ.
[الحديث 763 - طرفه في: 4429]
764 -
حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ: قَالَ لِي زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: مَا لَكَ تَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارٍ، وَقَدْ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ بِطُولَى الطُّولَيَيْنِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْقِرَاءَةِ فِي الْمَغْرِبِ) الْمُرَادُ تَقْدِيرُهَا لَا إِثْبَاتُهَا لِكَوْنِهَا جَهْرِيَّةً، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْقِرَاءَةِ فِي الظُّهْرِ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ إِثْبَاتُهَا.
قَوْلُهُ: (أَنَّ أُمَّ الْفَضْلِ) هِيَ وَالِدَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ الرَّاوِي عَنْهَا، وَبِذَلِكَ صَرَّحَ التِّرْمِذِيُّ فِي رِوَايَتِهِ فَقَالَ: عَنْ أُمِّهِ أُمَّ الْفَضْلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ أَنَّ اسْمَهَا لُبَابَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةِ، وَيُقَالُ إِنَّهَا أَوَّلُ امْرَأَةٍ أَسْلَمَتْ بَعْدَ خَدِيجَةَ، وَالصَّحِيحُ أُخْتُ عُمَرَ زَوْجُ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ لِمَا سَيَأْتِي فِي الْمَنَاقِبِ مِنْ حَدِيثِهِ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَعُمَرَ مُوثِقِي وَأُخْتَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَاسْمُهَا فَاطِمَةُ.
قَوْلُهُ: (سَمِعَتْهُ) أَيْ: سَمِعَتِ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَفِيهِ الْتِفَاتٌ؛ لِأَنَّ السِّيَاقَ يَقْتَضِي أَنْ يَقُولَ سَمِعَتْنِي.
قَوْلُهُ: (لَقَدْ ذَكَّرْتَنِي) أَيْ: شَيْئًا نَسِيتُهُ، وَصَرَّحَ عَقِيلٌ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهَا آخِرُ صَلَوَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَفْظُهُ: ثُمَّ مَا صَلَّى لَنَا بَعْدَهَا حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ الْوَفَاةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ الصَّلَاةَ الَّتِي صَلَّاهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَصْحَابِهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ كَانَتِ الظُّهْرَ، وَأَشَرْنَا إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ أُمِّ الْفَضْلِ هَذَا بِأَنَّ الصَّلَاةَ الَّتِي حَكَتْهَا عَائِشَةُ كَانَتْ فِي الْمَسْجِدِ، وَالَّتِي حَكَتْهَا أُمُّ الْفَضْلِ كَانَتْ فِي بَيْتِهِ كَمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، لَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِلَفْظِ: خَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَاصِبٌ رَأْسَهُ فِي مَرَضِهِ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَيُمْكِنُ حَمْلُ قَوْلِهَا خَرَجَ إِلَيْنَا أَيْ: مِنْ مَكَانِهِ الَّذِي كَانَ رَاقِدًا فِيهِ إِلَى مَنْ فِي الْبَيْتِ فَصَلَّى بِهِمْ، فَتَلْتَئِمُ الرِّوَايَاتُ.
قَوْلُهُ: (يَقْرَأُ بِهَا) هُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ: سَمِعْتُهُ فِي حَالِ قِرَاءَتِهِ.
قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ وَمِنْ طَرِيقِهِ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عُرْوَةَ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّ مَرْوَانَ أَخْبَرَهُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ لِي زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مَا لَكَ تَقْرَأُ) كَانَ مَرْوَانُ حِينَئِذٍ أَمِيرًا عَلَى الْمَدِينَةِ مِنْ قِبَلِ مُعَاوِيَةَ.
قَوْلُهُ: (بِقِصَارٍ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالتَّنْوِينِ وَهُوَ عِوَضٌ عَنِ
الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ وَكَذَا لِلطَّبَرَانِيِّ، عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْكَجِّيِّ، وَلِلْبَيْهَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ الصَّغَانِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي عَاصِمٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، وَكَذَا فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِمَا، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ بِقِصَارِ السُّوَرِ وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الْأُسُودِ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَالَ لِمَرْوَانَ: أَبَا عَبْدِ الْمَلِكِ، أَتَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَإِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، وَصَرَّحَ الطَّحَاوِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِالْإِخْبَارِ بَيْنَ عُرْوَةَ، وَزَيْدٍ، فَكَأَنَّ عُرْوَةَ سَمِعَهُ مِنْ مَرْوَانَ، عَنْ زَيْدٍ ثُمَّ لَقِيَ زَيْدًا فَأَخْبَرَهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَدْ سَمِعْتُ) اسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ الْمُنِيرِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم نَادِرًا، قَالَ: لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَقَالَ كَانَ يَفْعَلُ، يُشْعِرُ بِأَنَّ عَادَتَهُ كَانَتْ كَذَلِكَ. انْتَهَى. وَغَفَلَ عَمَّا فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَاصِمٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ بِلَفْظِ: لَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ، وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ حَجَّاجٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ.
قَوْلُهُ: (بِطُولَى الطُّولَيَيْنِ) أَيْ: بِأَطْوَلِ السُّورَتَيْنِ الطَّوِيلَتَيْنِ وَطُولَى تَأْنِيثُ أَطْوَلَ، وَالطُّولَيَيْنِ بِتَحْتَانِيَّتَيْنِ تَثْنِيَةُ طُولَى، وَهَذِهِ رِوَايَةُ الْأَكْثَرِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ بِطُولِ بِضَمِّ الطَّاءِ وَسُكُونِ الْوَاوِ، وَوَجَّهَهُ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّهُ أَطْلَقَ الْمَصْدَرَ وَأَرَادَ الْوَصْفَ أَيْ: كَانَ يَقْرَأُ بِمِقْدَارِ طُولِ الطُّولَيَيْنِ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ قَرَأَ بِقَدْرِ السُّورَتَيْنِ، وَلَيْسَ هُوَ الْمُرَادُ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ. وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ أَنَّهُ ضَبَطَهُ عَنْ بَعْضِهِمْ بِكَسْرِ الطَّاءِ وَفَتْحِ الْوَاوِ. قَالَ: وَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الطِّوَلَ الْحَبْلُ وَلَا مَعْنَى لَهُ هُنَا. انْتَهَى.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ بِأَطْوَلِ الطُّولَيَيْنِ بِالتَّذْكِيرِ، وَلَمْ يَقَعْ تَفْسِيرُهُمَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَسْوَدِ الْمَذْكُورَةِ: بِأَطْوَلِ الطُّولَيَيْنِ المص وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: قَالَ: قُلْتُ وَمَا طُولَى الطُّولَيَيْنِ؟ قَالَ: الْأَعْرَافُ، وَبَيَّنَ النَّسَائِيُّ فِي رِوَايَةٍ لَهُ أَنَّ التَّفْسِيرَ مِنْ قَوْلِ عُرْوَةَ وَلَفْظُهُ: قَالَ: قُلْتُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَهِيَ كُنْيَةُ عُرْوَةَ.
وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِ: قَالَ فَقُلْتُ لِعُرْوَةَ. وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ وَمَا طُولَى الطُّولَيَيْنِ، زَادَ أَبُو دَاوُدَ: قَالَ - يَعْنِي ابْنَ جُرَيْجٍ - وَسَأَلْتُ أَنَا ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ فَقَالَ لِي مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ الْمَائِدَةُ وَالْأَعْرَافُ كَذَا رَوَاهُ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ. وَلِلْجَوْزَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ مِثْلُهُ لَكِنْ قَالَ الْأَنْعَامَ بَدَلَ الْمَائِدَةِ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَالصَّغَانِيُّ الْمَذْكُورَتَيْنِ، وَعِنْدَ أَبِي مُسْلِمٍ الْكَجِّيِّ، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ بَدَلَ الْأَنْعَامِ يُونُسَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ، فَحَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى تَفْسِيرِ الطُّولَى بِالْأَعْرَافِ، وَفِي تَفْسِيرِ الْأُخْرَى ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، الْمَحْفُوظُ مِنْهَا الْأَنْعَامُ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْبَقَرَةُ أَطْوَلُ السَّبْعِ الطِّوَالِ فَلَوْ أَرَادَهَا لَقَالَ طُولَى الطِّوَالِ، فَلَمَّا لَمْ يُرِدْهَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الْأَعْرَافَ؛ لِأَنَّهَا أَطْوَلُ السُّوَرِ بَعْدَ الْبَقَرَةِ.
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ النِّسَاءَ أَطْوَلُ مِنَ الْأَعْرَافِ، وَلَيْسَ هَذَا التَّعْقِيبُ بِمَرْضِيٍّ؛ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ عَدَدَ الْآيَاتِ، وَعَدَدُ آيَاتِ الْأَعْرَافِ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ آيَاتِ النِّسَاءِ وَغَيْرِهَا مِنَ السَّبْعِ بَعْدَ الْبَقَرَةِ، وَالْمُتَعَقِّبُ اعْتَبَرَ عَدَدَ الْكَلِمَاتِ؛ لِأَنَّ كَلِمَاتِ النِّسَاءِ تَزِيدُ عَلَى كَلِمَاتِ الْأَعْرَافِ بِمِائَتَيْ كَلِمَةٍ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: تَسْمِيَةُ الْأَعْرَافِ وَالْأَنْعَامِ بِالطُّولَيَيْنِ إِنَّمَا هُوَ لِعُرْفٍ فِيهِمَا لَا أَنَّهُمَا أَطْوَلُ مِنْ غَيْرِهِمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاسْتُدِلَّ بِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى امْتِدَادِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ، وَعَلَى اسْتِحْبَابِ الْقِرَاءَةِ فِيهَا بِغَيْرِ قِصَارِ الْمُفَصَّلِ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.
99 - بَاب الْجَهْرِ فِي الْمَغْرِبِ
765 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ.
[الحديث 765 - أطرافه في: 4854، 4023، 3050]
قَوْلُهُ: (بَابُ الْجَهْرِ فِي الْمَغْرِبِ) اعْتَرَضَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ عَلَى هَذِهِ التَّرْجَمَةِ وَالَّتِي بَعْدَهَا بِأَنَّ الْجَهْرَ فِيهِمَا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَهُوَ عَجِيبٌ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ مَوْضُوعٌ لِبَيَانِ الْأَحْكَامِ مِنْ حَيْثُ هِيَ، وَلَيْسَ هُوَ مَقْصُورًا عَلَى الْخِلَافِيَّاتِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرٍ.
قَوْلُهُ: (قَرَأَ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَسَاكِرَ يَقْرَأُ وَكَذَا هُوَ فِي الْمُوَطَّأِ وَعِنْدَ مُسْلِمٍ، زَادَ الْمُصَنِّفُ فِي الْجِهَادِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ الزُّهْرِيِّ: وَكَانَ جَاءَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ، وَلِابْنِ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ الزُّهْرِيِّ: فِي فِدَاءِ أَهْلِ بَدْرٍ، وَزَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ: وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ، وَلِلْمُصَنِّفِ فِي الْمَغَازِي مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ أَيْضًا فِي آخِرِهِ قَالَ: وَذَلِكَ أَوَّلَ مَا وَقَرَ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِي، وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ رِوَايَةِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ نَحْوَهُ وَزَادَ: فَأَخَذَنِي مِنْ قِرَاءَتِهِ الْكَرْبُ، وَلِسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: فَكَأَنَّمَا صُدِعَ قَلْبِي حِينَ سَمِعْتُ الْقُرْآنَ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى صِحَّةِ أَدَاءِ مَا تَحَمَّلَهُ الرَّاوِي فِي حَالِ الْكُفْرِ، وَكَذَا الْفِسْقُ إِذَا أَدَّاهُ فِي حَالِ الْعَدَالَةِ. وَسَتَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَى زَوَائِدَ أُخْرَى فِيهِ لِبَعْضِ الرُّوَاةِ.
قَوْلُهُ: (بِالطُّورِ) أَيْ بِسُورَةِ الطُّورِ، وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ بِمَعْنَى مِنْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} وَسَنَذْكُرُ مَا فِيهِ قَرِيبًا. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: ذُكِرَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُقْرَأَ فِي الْمَغْرِبِ بِالسُّوَرِ الطِّوَالِ نَحْوِ الطُّورِ وَالْمُرْسَلَاتِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا أَكْرَهُ ذَلِكَ بَلْ أَسْتَحِبُّهُ. وَكَذَا نَقَلَهُ الْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا كَرَاهِيَةَ فِي ذَلِكَ وَلَا اسْتِحْبَابَ. وَأَمَّا مَالِكٌ فَاعْتَمَدَ الْعَمَلَ بِالْمَدِينَةِ بَلْ وَبِغَيْرِهَا. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: اسْتَمَرَّ الْعَمَلُ عَلَى تَطْوِيلِ الْقِرَاءَةِ فِي الصُّبْحِ وَتَقْصِيرِهَا فِي الْمَغْرِبِ، وَالْحَقُّ عِنْدَنَا أَنَّ مَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ وَثَبَتَتْ مُوَاظَبَتُهُ عَلَيْهِ فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ، وَمَا لَمْ تَثْبُتْ مُوَاظَبَتُهُ عَلَيْهِ فَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ. قُلْتُ: الْأَحَادِيثُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْبُخَارِيُّ فِي الْقِرَاءَةِ هُنَا ثَلَاثَةٌ مُخْتَلِفَةُ الْمَقَادِيرِ لِأَنَّ الْأَعْرَافَ مِنَ السَّبْعِ الطِّوَالِ، وَالطُّورَ مِنْ طِوَالِ الْمُفَصَّلِ، وَالْمُرْسَلَاتِ مِنْ أَوْسَاطِهِ. وَفِي ابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَرَأَ بِهِمْ فِي الْمَغْرِبِ بِالَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَمْ أَرَ حَدِيثًا مَرْفُوعًا فِيهِ التَّنْصِيصُ عَلَى الْقِرَاءَةِ فِيهَا بِشَيْءٍ مِنْ قِصَارِ الْمُفَصَّلِ إِلَّا حَدِيثًا فِي ابْنِ مَاجَهْ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَصَّ فِيهِ عَلَى الْكَافِرُونَ وَالْإِخْلَاصِ، وَمِثْلُهُ لِابْنِ حِبَّانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ.
فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَظَاهِرُ إِسْنَادِهِ الصِّحَّةُ إِلَّا أَنَّهُ مَعْلُولٌ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: أَخْطَأَ فِيهِ بَعْضُ رُوَاتِهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ فَفِيهِ سَعِيدُ بْنُ سِمَاكٍ وَهُوَ مَتْرُوكٌ، وَالْمَحْفُوظُ أَنَّهُ قَرَأَ بِهِمَا فِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَاعْتَمَدَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَغَيْرُهُمْ حَدِيثَ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَشْبَهَ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ فُلَانٍ، قَالَ سُلَيْمَانُ: فَكَانَ يَقْرَأُ فِي الصُّبْحِ بِطِوَالِ الْمُفَصَّلِ وَفِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ. وَهَذَا يُشْعِرُ بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَى ذَلِكَ، لَكِنْ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ نَظَرٌ يَأْتِي مِثْلُهُ فِي بَابِ جَهْرِ الْإِمَامِ بِالتَّأْمِينِ بَعْدَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ بَابًا.
نَعَمْ حَدِيثُ رَافِعٍ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي الْمَوَاقِيتِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْتَضِلُونَ بَعْدَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ يَدُلُّ عَلَى تَخْفِيفِ الْقِرَاءَةِ فِيهَا، وَطَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَحْيَانًا يُطِيلُ الْقِرَاءَةَ فِي الْمَغْرِبِ إِمَّا لِبَيَانِ الْجَوَازِ وَإِمَّا لِعِلْمِهِ بِعَدَمِ الْمَشَقَّةِ عَلَى الْمَأْمُومِينَ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ تَكَرَّرَ مِنْهُ، وَأَمَّا حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فَفِيهِ إِشْعَارٌ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ أَنْكَرَ عَلَى مَرْوَانَ الْمُوَاظَبَةَ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ، وَلَوْ كَانَ مَرْوَانُ يَعْلَمُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَاظَبَ عَلَى ذَلِكَ لَاحْتَجَّ بِهِ عَلَى زَيْدٍ، لَكِنْ لَمْ يُرِدْ زَيْدٌ مِنْهُ فِيمَا يَظْهَرُ الْمُوَاظَبَةَ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِالطِّوَالِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ مِنْهُ أَنْ يَتَعَاهَدَ ذَلِكَ كَمَا رَآهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَفِي حَدِيثِ أُمِّ الْفَضْلِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي الصِّحَّةِ بِأَطْوَلَ مِنَ الْمُرْسَلَاتِ لِكَوْنِهِ كَانَ فِي
حَالِ شِدَّةِ مَرَضِهِ وَهُوَ مَظِنَّةُ التَّخْفِيفِ، وَهُوَ يَرُدُّ عَلَى أَبِي دَاوُدَ ادِّعَاءَ نَسْخِ التَّطْوِيلِ لِأَنَّهُ رَوَى عَقِبَ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالْقِصَارِ، قَالَ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى نَسْخِ حَدِيثِ زَيْدٍ، وَلَمْ يُبَيِّنْ وَجْهَ الدَّلَالَةِ، وَكَأَنَّهُ لَمَّا رَأَى عُرْوَةَ رَاوِيَ الْخَبَرِ عَمِلَ بِخِلَافِهِ حَمَلَهُ عَلَى أَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى نَاسِخِهِ، وَلَا يَخْفَى بُعْدُ هَذَا الْحَمْلِ، وَكَيْفَ تَصِحُّ دَعْوَى النَّسْخِ وَأُمُّ الْفَضْلِ تَقُولُ: إِنَّ آخِرَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا بِهِمْ قَرَأَ بِالْمُرْسَلَاتِ.
قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ: هَذَا مِنَ الِاخْتِلَافِ الْمُبَاحِ، فَجَائِزٌ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَقْرَأَ فِي الْمَغْرِبِ وَفِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا بِمَا أَحَبَّ، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا كَانَ إِمَامًا اسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يُخَفِّفَ فِي الْقِرَاءَةِ كَمَا تَقَدَّمَ اهـ.
وَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الْقُرْطُبِيِّ: مَا وَرَدَ فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ تَطْوِيلِ الْقِرَاءَةِ فِيمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ التَّقْصِيرُ أَوْ عَكْسُهُ فَهُوَ مَتْرُوكٌ، وَادَّعَى الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ عَلَى تَطْوِيلِ الْقِرَاءَةِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ قَرَأَ بَعْضَ السُّورَةِ. ثُمَّ اسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ هُشَيْمٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي حَدِيثِ جُبَيْرٍ بِلَفْظٍ: فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} ، قَالَ: فَأَخْبَرَ أَنَّ الَّذِي سَمِعَهُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ هِيَ هَذِهِ الْآيَةُ خَاصَّةً اهـ. وَلَيْسَ فِي السِّيَاقِ مَا يَقْتَضِي قَوْلَهُ خَاصَّةً مَعَ كَوْنِ رِوَايَةِ هُشَيْمٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِخُصُوصِهَا مُضَعَّفَةً، بَلْ جَاءَ فِي رِوَايَاتٍ أُخْرَى مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَرَأَ السُّورَةَ كُلَّهَا، فَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي التَّفْسِيرِ: سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ، فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الْآيَةَ:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} الْآيَاتِ إِلَى قَوْلِهِ: {الْمُصَيْطِرُونَ} كَادَ قَلْبِي يَطِيرُ، وَنَحْوُهُ لِقَاسِمِ بْنِ أَصْبَغَ، وَفِي رِوَايَةِ أُسَامَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ: سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} وَمِثْلُهُ لِابْنِ سَعْدٍ، وَزَادَ فِي أُخْرَى فَاسْتَمَعْتُ قِرَاءَتَهُ حَتَّى خَرَجْتُ مِنَ الْمَسْجِدِ.
ثُمَّ ادَّعَى الطَّحَاوِيُّ أَنَّ الِاحْتِمَالَ الْمَذْكُورَ يَأْتِي فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَكَذَا أَبْدَاهُ الْخَطَّابِيُّ احْتِمَالًا، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَرَأَ بِشَيْءٍ مِنْهَا يَكُونُ قَدْرَ سُورَةٍ مِنْ قِصَارِ الْمُفَصَّلِ لَمَا كَانَ لِإِنْكَارِ زَيْدٍ مَعْنًى. وَقَدْ رَوَى حَدِيثَ زَيْدٍ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِمَرْوَانَ: إِنَّكَ لَتُخِفُّ الْقِرَاءَةَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ مِنَ الْمَغْرِبِ فَوَاللَّهِ لَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِيهَا بِسُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَمِيعًا أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ. وَاخْتُلِفَ عَلَى هِشَامٍ فِي صَحَابِيِّهِ وَالْمَحْفُوظُ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَقَالَ أَكْثَرُ الرُّوَاةِ: عَنْ هِشَامٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَوْ أَبِي أَيُّوبَ، وَقِيلَ عَنْ عَائِشَةَ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مُقْتَصِرًا عَلَى الْمَتْنِ دُونَ الْقِصَّةِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى امْتِدَادِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ إِلَى غُرُوبِ الشَّفَقِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ مَنْ قَالَ إِنَّ لَهَا وَقْتًا وَاحِدًا لَمْ يَحُدَّهُ بِقِرَاءَةٍ مُعَيَّنَةٍ بَلْ قَالُوا: لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا عَنْ أَوَّلِ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَلَهُ أَنْ يَمُدَّ الْقِرَاءَةَ فِيهَا وَلَوْ غَابَ الشَّفَقُ. وَاسْتَشْكَلَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ إِطْلَاقَ هَذَا، وَحَمَلَهُ الْخَطَّابِيُّ قَبْلَهُ عَلَى أَنَّهُ يُوقِعُ رَكْعَةً فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَيُدِيمُ الْبَاقِيَ وَلَوْ غَابَ الشَّفَقُ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ، لِأَنَّ تَعَمُّدَ إِخْرَاجِ بَعْضِ الصَّلَاةِ عَنِ الْوَقْتِ مَمْنُوعٌ، وَلَوْ أَجْزَأَتْ فَلَا يُحْمَلُ مَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ.
وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْمُفَصَّلِ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ مُنْتَهَاهُ آخِرُ الْقُرْآنِ هَلْ هُوَ مِنْ أَوَّلِ الصَّافَّاتِ أَوِ الْجَاثِيَةِ أَوِ الْقِتَالِ أَوِ الْفَتْحِ أَوِ الْحُجُرَاتِ أَوْ ق أَوِ الصَّفِّ أَوْ تَبَارَكَ أَوْ سَبِّحْ أَوِ الضُّحَى إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ أَقْوَالٌ أَكْثَرُهَا مُسْتَغْرَبٌ اقْتَصَرَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ عَلَى أَرْبَعَةٍ مِنَ الْأَوَائِلِ سِوَى الْأَوَّلِ وَالرَّابِعِ، وَحَكَى الْأَوَّلَ وَالسَّابِعَ وَالثَّامِنَ ابْنُ أَبِي الصَّيْفِ الْيَمَنِيُّ، وَحَكَى الرَّابِعَ وَالثَّامِنَ الدِّزَّمَارِيُّ فِي شَرْحِ التَّنْبِيهِ وَحَكَى التَّاسِعَ الْمَرْزُوقِيُّ فِي شَرْحِهِ، وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ، وَالْمَاوَرْدِيُّ الْعَاشِرَ، وَالرَّاجِحُ الْحُجُرَاتُ
(1)
ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ. وَنَقَلَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ قَوْلًا شَاذًّا أَنَّ الْمُفَصَّلَ جَمِيعُ الْقُرْآنِ، وَأَمَّا
(1)
هذا فيه نظر، والراجح أن أوله في كما جزم بذلك الشارح من 259 ويدل على ذلك حديث أوس بن حذيفة في تجزء الصحابة للقرآن أخرجه أحمد وأبو داود وآخرون. والله أعلم
مَا أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى قَالَ: أَقْرَأَنِي أَبُو مُوسَى كِتَابَ عُمَرَ إِلَيْهِ: اقْرَأْ فِي الْمَغْرِبِ آخِرَ الْمُفَصَّلِ. وَآخِرُ الْمُفَصَّلِ مِنْ (لَمْ يَكُنْ) إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ فَلَيْسَ تَفْسِيرًا لِلْمُفَصَّلِ بَلْ لِآخِرِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَوَّلَهُ قَبْلَ ذَلِكَ.
100 - بَاب الْجَهْرِ فِي الْعِشَاءِ
766 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ بَكْرٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْعَتَمَةَ فَقَرَأَ: إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ، فَسَجَدَ فَقُلْتُ لَهُ قَالَ: سَجَدْتُ خَلْفَ أَبِي الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم فَلَا أَزَالُ أَسْجُدُ بِهَا حَتَّى أَلْقَاهُ.
[الحديث: 766 - أطرافه في: 1078، 1074، 768]
767 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيٍّ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي سَفَرٍ فَقَرَأَ فِي الْعِشَاءِ فِي إِحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ "
[الحديث 767 - أطرافه في: 7546، 4952، 769]
قَوْلُهُ: (بَابُ الْجَهْرِ فِي الْعِشَاءِ) قَدَّمَ تَرْجَمَةَ الْجَهْرِ عَلَى تَرْجَمَةِ الْقِرَاءَةِ عَكْسَ مَا صَنَعَ فِي الْمَغْرِبِ ثُمَّ الصُّبْحِ، وَالَّذِي فِي الْمَغْرِبِ أَوْلَى وَلَعَلَّهُ مِنَ النُّسَّاخِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ) هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ، وَبَكْرٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ، وَأَبُو رَافِعٍ هُوَ الصَّائِغُ، وَهُوَ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ رِجَالِ الْإِسْنَادِ بَصْرِيُّونَ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ وَبَكْرٌ مِنْ أَوْسَاطِهِمْ وَسُلَيْمَانُ مِنْ صِغَارِهِمْ.
قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ لَهُ) أَيْ فِي شَأْنِ السَّجْدَةِ يَعْنِي سَأَلْتُهُ عَنْ حُكْمِهَا، وَفِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَهَا فَقُلْتُ مَا هَذِهِ؟.
قَوْلُهُ: (سَجَدْتُ) زَادَ غَيْرُ أَبِي ذَرٍّ بِهَا أَيْ بِالسَّجْدَةِ، أَوِ الْبَاءُ لِلظَّرْفِ أَيْ فِيهَا يَعْنِي السُّورَةَ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ لِغَيْرِ الْكُشْمِيهَنِيِّ سَجَدْتُ فِيهَا.
قَوْلُهُ: (خَلْفَ أَبِي الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم أَيْ فِي الصَّلَاةِ، وَبِهِ يَتِمُّ اسْتِدْلَالُ الْمُصَنِّفِ لِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ وَالَّتِي بَعْدَهَا، وَنُوزِعَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ سُجُودَهُ فِي السُّورَةِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ دَاخِلَ الصَّلَاةِ أَوْ خَارِجَهَا فَلَا يَنْهَضُ الدَّلِيلُ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى مَالِكٍ حَيْثُ كَرِهَ السَّجْدَةَ فِي الْفَرِيضَةِ يَعْنِي فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مَرْفُوعًا، وَغَفَلَ عَنْ رِوَايَةِ أَبِي الْأَشْعَثِ، عَنْ مُعْتَمِرٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِلَفْظِ: صَلَّيْتُ خَلْفَ أَبِي الْقَاسِمِ فَسَجَدَ بِهَا أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ الْجَوْزَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ بِلَفْظِ: صَلَّيْتُ مَعَ أَبِي الْقَاسِمِ فَسَجَدَ فِيهَا.
قَوْلُهُ: (حَتَّى أَلْقَاهُ) كِنَايَةٌ عَنِ الْمَوْتِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ فَوَائِدِهِ فِي أَبْوَابِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَدِيٍّ) هُوَ ابْنُ ثَابِتٍ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ بَعْدَ بَابٍ.
قَوْلُهُ: (فِي سَفَرٍ) زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فَصَلَّى الْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ.
قَوْلُهُ: (فِي إِحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ) فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ: فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى.
قَوْلُهُ: (بِالتِّينِ) أَيْ بِسُورَةِ التِّينِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ وَالتِّينِ عَلَى الْحِكَايَةِ، وَإِنَّمَا قَرَأَ فِي الْعِشَاءِ بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ لِكَوْنِهِ كَانَ مُسَافِرًا وَالسَّفَرُ يُطْلَبُ فِيهِ التَّخْفِيفُ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَحْمُولٌ عَلَى الْحَضَرِ فَلِذَلِكَ قَرَأَ فِيهَا بِأَوْسَاطِ الْمُفَصَّلِ.
101 - بَاب الْقِرَاءَةِ فِي الْعِشَاءِ بِالسَّجْدَةِ
768 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ: حَدَّثَنِي التَّيْمِيُّ، عَنْ بَكْرِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: صَلَّيْتُ
مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْعَتَمَةَ فَقَرَأَ: إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ، فَسَجَدَ، فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ؟ قَالَ: سَجَدْتُ بِهَا خَلْفَ أَبِي الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم، فَلَا أَزَالُ أَسْجُدُ بِهَا حَتَّى أَلْقَاهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْقِرَاءَةِ فِي الْعِشَاءِ بِالسَّجْدَةِ) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ قَبْلُ، وَالْقَوْلُ فِي إِسْنَادِهِ كَالَّذِي قَبْلَهُ، (والتَّيْمِيُّ) هُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ طَرْخَانَ وَالِدُ الْمُعْتَمِرِ.
102 - بَاب الْقِرَاءَةِ فِي الْعِشَاءِ
769 -
حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ سَمِعَ الْبَرَاءَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، فِي الْعِشَاءِ، وَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ صَوْتًا مِنْهُ أَوْ قِرَاءَةً.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْقِرَاءَةِ فِي الْعِشَاءِ) تَقَدَّمَ أَيْضًا، وقَوْلُهُ فِيهِ:(وَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ صَوْتًا مِنْهُ) يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ التَّوْحِيدِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
103 - بَاب يُطَوِّلُ فِي الْأُولَيَيْنِ وَيَحْذِفُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ
770 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي عَوْنٍ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ، لِسَعْدٍ: لَقَدْ شَكَوْكَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى الصَّلَاةِ، قَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَمُدُّ فِي الْأُولَيَيْنِ وَأَحْذِفُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ، وَلَا آلُو مَا اقْتَدَيْتُ بِهِ مِنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: صَدَقْتَ، ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ، أَوْ ظَنِّي بِكَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ يُطَوِّلُ فِي الْأُولَيَيْنِ) أَيْ مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ سَعْدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ، وَوَجْهُهُ هُنَا إِمَّا الْإِشَارَةُ إِلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ صَلَاتَيِ الْعِشَاءِ أَوِ الْعَشِيِّ وَإِمَّا لِإِلْحَاقِ الْعِشَاءِ بِالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ لِكَوْنِ كُلٍّ مِنْهُنَّ رُبَاعِيَّةً.
104 - بَاب الْقِرَاءَةِ فِي الْفَجْرِ
وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: قَرَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالطُّورِ
771 -
حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَيَّارُ بْنُ سَلَامَةَ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَأَبِي عَلَى أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ فَسَأَلْنَاهُ عَنْ وَقْتِ الصَّلَوَاتِ فَقَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الظُّهْرَ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ، وَالْعَصْرَ وَيَرْجِعُ الرَّجُلُ إِلَى أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ، وَنَسِيتُ مَا قَالَ فِي الْمَغْرِبِ، وَلَا يُبَالِي بِتَأْخِيرِ الْعِشَاءِ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ، وَلَا يُحِبُّ النَّوْمَ قَبْلَهَا وَلَا الْحَدِيثَ بَعْدَهَا، وَيُصَلِّي الصُّبْحَ فَيَنْصَرِفُ الرَّجُلُ فَيَعْرِفُ جَلِيسَهُ، وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ أَوْ إِحْدَاهُمَا مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى الْمِائَةِ.
772 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: فِي كُلِّ صَلَاةٍ يُقْرَأُ، فَمَا أَسْمَعَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَسْمَعْنَاكُمْ، وَمَا أَخْفَى عَنَّا أَخْفَيْنَا عَنْكُمْ، وَإِنْ لَمْ تَزِدْ عَلَى أُمِّ الْقُرْآنِ أَجْزَأَتْ، وَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْقِرَاءَةِ فِي الْفَجْرِ) يَعْنِي صَلَاةَ الصُّبْحِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ قَرَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالطُّورِ) يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ) فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ الصَّلَوَاتُ وَالْمُرَادُ الْمَكْتُوبَاتُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ الْمَذْكُورِ فِي الْمَوَاقِيتِ، وَقَوْلُهُ هُنَا:(وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ أَوْ إِحْدَاهُمَا مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى الْمِائَةِ) أَيْ مِنَ الْآيَاتِ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ تَفَرَّدَ بِهَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ وَالشَّكُّ فِيهِ مِنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ تَقْدِيرُهَا بِالْحَاقَّةِ وَنَحْوِهَا، فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي كُلِّ الرَّكْعَتَيْنِ فَهُوَ مُنْطَبِقٌ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِرَاءَاتِهِ فِي صُبْحِ الْجُمُعَةِ تَنْزِيلُ السَّجْدَةَ وَهَلْ أَتَى، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَهُوَ مُنْطَبِقٌ عَلَى حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ فِي قِرَاءَاتِهِ فِي الصُّبْحِ بِـ ق أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ بِالصَّافَّاتِ، وَفِي أُخْرَى عِنْدَ الْحَاكِمِ بِالْوَاقِعَةِ. وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ قَصَدَ بِإِيرَادِ حَدِيثَيْ أُمِّ سَلَمَةَ وَأَبِي بَرْزَةَ فِي هَذَا الْبَابِ بَيَانَ حَالَتَيِ السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، ثُمَّ ثَلَّثَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الدَّالِّ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ قَدْرٍ مُعَيَّنٍ.
قَوْلُهُ: (إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هُوَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ عُلَيَّةَ، وَقَدْ تَكَلَّمَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ فِي حَدِيثِهِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ خَاصَّةً لَكِنْ تَابَعَهُ عَلَيْهِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، وَيَحْيَى بْنُ أَبِي الْحَجَّاجِ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ، وَغُنْدَرٌ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَخَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَابْنُ وَهْبٍ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ سِتَّتُهُمْ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، مِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ الْكَلَامَ الْأَخِيرَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَذْكُرْهُ. وَتَابَعَ ابْنَ جُرَيْجٍ، حَبِيبٌ الْمُعَلِّمُ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَحَبِيبُ بْنُ الشَّهِيدِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَحْمَدَ، وَرَقَبَةُ بْنُ مَصْقَلَةَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ، وَعُمَارَةُ بْنُ مَيْمُونٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَحُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ سِتَّتُهُمْ عَنْ عَطَاءٍ، مِنْهُمْ مَنْ طَوَّلَهُ وَمِنْهُمْ مَنِ اخْتَصَرَهُ.
قَوْلُهُ: (فِي كُلِّ صَلَاةٍ يُقْرَأُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ نَقْرَأُ بِنُونٍ مَفْتُوحَةٍ فِي أَوَّلِهِ كَذَا هُوَ مَوْقُوفٌ، وَكَذَا هُوَ عِنْدَ مَنْ ذَكَرْنَا رِوَايَتَهُ إِلَّا حَبِيبَ بْنَ الشَّهِيدِ فَرَوَاهُ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: لَا صَلَاةَ إِلَّا بِقِرَاءَةٍ هَكَذَا أَوْرَدَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ عَنْهُ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَلَى مُسْلِمٍ وَقَالَ: إِنَّ الْمَحْفُوظَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ وَقْفُهُ كَمَا رَوَاهُ أَصْحَابُ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ الْحَدَّادِ كِلَاهُمَا عَنْ حَبِيبٍ الْمَذْكُورِ مَوْقُوفًا، وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَبِي الْحَجَّاجِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ كَرِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ لَكِنْ زَادَ فِي آخِرِهِ: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: لَا صَلَاةَ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَظَاهِرُ سِيَاقِهِ أَنَّ ضَمِيرَ سَمِعْتُهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيَكُونُ مَرْفُوعًا، بِخِلَافِ رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ. نَعَمْ قَوْلُهُ: مَا أَسْمَعَنَا وَمَا أَخْفَى عَنَّا يُشْعِرُ بِأَنَّ جَمِيعَ مَا ذَكَرَهُ مُتَلَقًّى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيَكُونُ لِلْجَمِيعِ حُكْمُ الرَّفْعِ.
قَوْلُهُ: (وَإِنْ لَمْ تَزِدْ) بِلَفْظِ الْخِطَابِ، وَبَيَّنَتْهُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي خَيْثَمَةَ، وَعَمْرٍو النَّاقِدِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ: فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: إِنْ لَمْ أَزِدْ، وَكَذَا رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُسَدَّدٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَزَادَ أَبُو يَعْلَى فِي أَوَّلِهِ عَنْ أَبِي خَيْثَمَةَ بِهَذَا السَّنَدِ: إِذَا كُنْتَ إِمَامًا فَخَفِّفْ، وَإِذَا كُنْتَ وَحْدَكَ فَطَوِّلْ مَا بَدَا لَكَ، وَفِي كُلِّ صَلَاةٍ قِرَاءَةٌ. . . الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: (أَجْزَأَتْ) أَيْ كَفَتْ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ رِوَايَةً أُخْرَى جَزَتْ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَهِيَ رِوَايَةُ الْقَابِسِيِّ وَاسْتَشْكَلَهُ، ثُمَّ حَكَى عَنِ الْخَطَّابِيِّ قَالَ: يُقَالُ: جَزَى وَأَجْزَى مِثْلَ وَفَى وَأَوْفَى قَالَ: فَزَالَ الْإِشْكَالُ.
قَوْلُهُ: (فَهُوَ خَيْرٌ) فِي رِوَايَةِ حَبِيبٍ الْمُعَلِّمِ فَهُوَ أَفْضَلُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَقْرَأِ الْفَاتِحَةَ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، وَهُوَ شَاهِدٌ لِحَدِيثِ عُبَادَةَ الْمُتَقَدِّمِ. وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ السُّورَةِ أَوِ الْآيَاتِ مَعَ الْفَاتِحَةِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ فِي الصُّبْحِ وَالْجُمُعَةِ وَالْأُولَيَيْنِ مِنْ غَيْرِهِمَا، وَصَحَّ إِيجَابُ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ كَمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ، وَقَالَ بِهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَابْنُ كِنَانَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي الْفَرَّاءُ الْحَنْبَلِيُّ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ، وَقِيلَ: يُسْتَحَبُّ فِي جَمِيعِ الرَّكَعَاتِ وَهُوَ ظَاهِرُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
105 - بَاب الْجَهْرِ بِقِرَاءَةِ صَلَاةِ الْفَجْرِ
وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: طُفْتُ وَرَاءَ النَّاسِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي وَيَقْرَأُ بِالطُّورِ
773 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: انْطَلَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمْ الشُّهُبُ فَرَجَعَتْ الشَّيَاطِينُ إِلَى قَوْمِهِمْ فَقَالُوا: مَا لَكُمْ؟ فَقَالُوا: حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ، قَالُوا: مَا حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ إِلَّا شَيْءٌ حَدَثَ فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا فَانْظُرُوا مَا هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، فَانْصَرَفَ أُولَئِكَ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ تِهَامَةَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِنَخْلَةَ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ، فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ اسْتَمَعُوا لَهُ فَقَالُوا: هَذَا وَاللَّهِ الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، فَهُنَالِكَ حِينَ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ وَقَالُوا يَا قَوْمَنَا:{إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} وَإِنَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ قَوْلُ الْجِنِّ.
[الحديث 773 - طرفه في: 4921]
774 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَرَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا أُمِرَ وَسَكَتَ فِيمَا أُمِرَ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} .
قَوْلُهُ: (بَابُ الْجَهْرِ بِقِرَاءَةِ صَلَاةِ الصُّبْحِ) وَلِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلتَّرْجَمَةِ الْمَاضِيَةِ، وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ فَلَعَلَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّهَا تُسَمَّى بِالْأَمْرَيْنِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ إِلَخْ) وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ طَوَافِ النِّسَاءِ مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ زَيْنَبَ عَنْ أُمِّهَا أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: شَكَوْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنِّي أَشْتَكِي - أَيْ أَنَّ بِهَا مَرَضًا - فَقَالَ: طُوفِي وَرَاءَ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ. قَالَتْ: فَطُفْتُ حِينَئِذٍ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يصلي الْحَدِيثَ، وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُ أَنَّ الصَّلَاةَ حِينَئِذٍ كَانَتِ الصُّبْحَ، وَلَكِنْ تَبَيَّنَ ذَلِكَ مِنْ رِوَايَةٍ أُخْرَى أَوْرَدَهَا بَعْدَ سِتَّةِ أَبْوَابٍ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَبِي زَكَرِيَّا الْغَسَّانِيِّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ وَلَفْظُهُ: فَقَالَ: إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ لِلصُّبْحِ فَطُوفِي. وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ حَسَّانَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هِشَامٍ، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ، وَابْنِ لَهِيعَةَ جَمِيعًا عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ فِيهِ: قَالَتْ وَهُوَ يَقْرَأُ فِي الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ فَشَاذٌّ، وَأَظُنُّ سِيَاقَهُ لَفْظَ ابْنِ لَهِيعَةَ، لِأَنَّ ابْنَ وَهْبٍ رَوَاهُ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ مَالِكٍ فَلَمْ يُعَيِّنِ الصَّلَاةَ كَمَا رَوَاهُ أَصْحَابُ مَالِكٍ كُلُّهُمْ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْمُوَطَّآتِ لَهُ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ عَنْ مَالِكٍ، مِنْهَا رِوَايَةُ ابْنِ وَهْبٍ الْمَذْكُورَةُ.
وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَابْنُ لَهِيعَةَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ إِذَا انْفَرَدَ فَكَيْفَ إِذَا خَالَفَ، وَعُرِفَ بِهَذَا انْدِفَاعُ الِاعْتِرَاضِ الَّذِي حَكَاهُ ابْنُ التِّينِ عَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ حَيْثُ أَنْكَرَ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ الْمَذْكُورَةُ صَلَاةَ الصُّبْحِ فَقَالَ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ بَيَانُهَا، وَالْأَوْلَى أَنْ
تُحْمَلَ عَلَى النَّافِلَةِ لِأَنَّ الطَّوَافَ يَمْتَنِعُ إِذَا كَانَ الْإِمَامُ فِي صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ. انْتَهَى.
وَهُوَ رَدٌّ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ، بَلْ يُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ مَا مَنَعَهُ، بَلْ يُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ التَّفْصِيلُ فَنَقُولُ: إِنْ كَانَ الطَّائِفُ بِحَيْثُ يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّينَ فَيَمْتَنِعُ كَمَا قَالَ وَإِلَّا فَيَجُوزُ، وَحَالُ أُمِّ سَلَمَةَ هُوَ الثَّانِي لِأَنَّهَا طَافَتْ مِنْ وَرَاءِ الصُّفُوفِ. وَيُسْتَنْبَطُ مِنْهُ أَنَّ الْجَمَاعَةَ فِي الْفَرِيضَةِ لَيْسَتْ فَرْضًا عَلَى الْأَعْيَانِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: كَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ حِينَئِذٍ شَاكِيَةً فَهِيَ مَعْذُورَةٌ، أَوِ الْوُجُوبُ يَخْتَصُّ بِالرِّجَالِ. وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ مَبَاحِثِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: لَيْسَ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ نَصٌّ عَلَى مَا تُرْجِمَ لَهُ مِنَ الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ، إِلَّا أَنَّهُ يُؤْخَذُ بِالِاسْتِنْبَاطِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ قَوْلَهَا: طُفْتُ وَرَاءَ النَّاسِ يَسْتَلْزِمُ الْجَهْرَ بِالْقِرَاءَةِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ سَمَاعُهَا لِلطَّائِفِ مِنْ وَرَائِهِمْ إِلَّا إِنْ كَانَتْ جَهْرِيَّةً، قَالَ: وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ جَوَازُ إِطْلَاقِ قَرَأَ وَإِرَادَةُ جَهَرَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ سَمَاعِ الْجِنِّ الْقُرْآنَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِهِ مِنَ التَّفْسِيرِ، وَيَأْتِي بَيَانُ عُكَاظٍ فِي كِتَابِ الْحَجِّ فِي شَرْحِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: كَانَتْ عُكَاظٌ مِنْ أَسْوَاقِ الْجَاهِلِيَّةِ الْحَدِيثَ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ: وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ اسْتَمَعُوا لَهُ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي الْجَهْرِ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا قَالَ: قَرَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا أُمِرَ وَسَكَتَ فِيمَا أُمِرَ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} ، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ، وَوَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ مِنْهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِطْلَاقِ قَرَأَ عَلَى جَهَرَ، لَكِنْ كَانَ يَبْقَى خُصُوصُ تَنَاوُلِ ذَلِكَ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ فَيُسْتَفَادُ ذَلِكَ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: هَذَا الْإِجْمَالُ هُنَا مُفَسَّرٌ بِالْبَيَانِ فِي الَّذِي قَبْلَهُ، لِأَنَّ الْمُحَدِّثَ بِهِمَا وَاحِدٌ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ رَشِيدٍ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْبُخَارِيِّ بِهَذَا خَتْمَ تَرَاجِمِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَوَاتِ إِشَارَةً مِنْهُ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَمَدَ فِي ذَلِكَ هُوَ فِعْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُغَيِّرَ شَيْئًا مِمَّا صَنَعَهُ.
وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: إِيرَادُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هُنَا يُغَايِرُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِثْبَاتِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَوَاتِ، لِأَنَّ مَذْهَبَ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ تَرْكَ الْقِرَاءَةِ فِي السِّرِّيَّةِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى التَّرْكِ، وَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَكَانَ يَشُكُّ فِي ذَلِكَ تَارَةً وَيَنْفِي الْقِرَاءَةَ أُخْرَى وَرُبَّمَا أَثْبَتَهَا، أَمَّا نَفْيُهُ فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عَمِّهِ أَنَّهُمْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا لَهُ: هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ؟ قَالَ: لَا. قِيلَ: لَعَلَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي نَفْسِهِ؟ قَالَ: هَذِهِ شَرٌّ مِنَ الْأُولَى، كَانَ عَبْدًا مَأْمُورًا بَلَّغَ مَا أُمِرَ بِهِ وَأَمَّا شَكُّهُ فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا وَالطَّبَرِيُّ مِنْ رِوَايَةِ حُصَيْنٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا أَدْرِي أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ أَمْ لَا انْتَهَى.
وَقَدْ أَثْبَتَ قِرَاءَتَهُ فِيهِمَا خَبَّابٌ، وَأَبُو قَتَادَةَ وَغَيْرُهُمَا كَمَا تَقَدَّمَ، فَرِوَايَتُهُمْ مُقَدَّمَةٌ عَلَى مَنْ نَفَى، فَضْلًا عَلَى مَنْ شَكَّ. وَلَعَلَّ الْبُخَارِيَّ أَرَادَ بِإِيرَادِ هَذَا إِقَامَةَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فَيُقَالُ لَهُ: قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ قَرَأَ فَيَلْزَمُكَ أَنْ تَقْرَأَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِثْبَاتُ ذَلِكَ أَيْضًا رَوَاهُ أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ الْبَرَّاءِ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ: أَقَرَأَ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ؟ قَالَ: هُوَ أَمَامَكَ اقْرَأْ مِنْهُ مَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ. أَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُمَا.
774 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَرَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا أُمِرَ وَسَكَتَ فِيمَا أُمِرَ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} ، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ عُلَيَّةَ.
قَوْلُهُ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} وَ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مُرَادُهُ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُنَزِّلَ بَيَانَ أَحْوَالِ الصَّلَاةِ حَتَّى تَكُونَ قُرْآنًا يُتْلَى لَفَعَلَ وَلَمْ يَتْرُكْهُ عَنْ نِسْيَانٍ، وَلَكِنَّهُ وَكَلَ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ إِلَى بَيَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ شَرَعَ الِاقْتِدَاءَ بِهِ. قَالَ: وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ أَفْعَالِهِ الَّتِي هِيَ لِبَيَانِ مُجْمَلِ الْكِتَابِ. وَقَوْلُهُ: (أُسْوَةٌ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّهَا أَيْ قُدْوَةٌ.
106 - بَاب الْجَمْعِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ فِي الرَّكْعَةِ وَالْقِرَاءَةِ بِالْخَوَاتِيمِ وَبِسُورَةٍ قَبْلَ سُورَةٍ وَبِأَوَّلِ سُورَةٍ
وَيُذْكَرُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ: قَرَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمُؤْمِنُونَ فِي الصُّبْحِ، حَتَّى إِذَا جَاءَ ذِكْرُ مُوسَى وَهَارُونَ أَوْ ذِكْرُ عِيسَى أَخَذَتْهُ سَعْلَةٌ فَرَكَعَ.
وَقَرَأَ عُمَرُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ آيَةً مِنَ الْبَقَرَةِ وَفِي الثَّانِيَةِ بِسُورَةٍ مِنْ الْمَثَانِي. وَقَرَأَ الْأَحْنَفُ بِالْكَهْفِ فِي الْأُولَى وَفِي الثَّانِيَةِ بِيُوسُفَ أَوْ يُونُسَ. وَذَكَرَ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ عُمَرَ رضي الله عنه الصُّبْحَ بِهِمَا.
وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ بِأَرْبَعِينَ آيَةً مِنْ الْأَنْفَالِ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِسُورَةٍ مِنْ الْمُفَصَّلِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ - فِيمَنْ يَقْرَأُ سُورَةً وَاحِدَةً فِي رَكْعَتَيْنِ أَوْ يُرَدِّدُ سُورَةً وَاحِدَةً فِي رَكْعَتَيْنِ -: كُلٌّ كِتَابُ اللَّهِ.
774 م- وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه كَانَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ يَؤُمُّهُمْ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ وَكَانَ كُلَّمَا افْتَتَحَ سُورَةً يَقْرَأُ بِهَا لَهُمْ فِي الصَّلَاةِ مِمَّا يَقْرَأُ بِهِ افْتَتَحَ بِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا ثُمَّ يَقْرَأُ سُورَةً أُخْرَى مَعَهَا وَكَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَكَلَّمَهُ أَصْحَابُهُ فَقَالُوا إِنَّكَ تَفْتَتِحُ بِهَذِهِ السُّورَةِ ثُمَّ لَا تَرَى أَنَّهَا تُجْزِئُكَ حَتَّى تَقْرَأَ بِأُخْرَى فَإِمَّا تَقْرَأُ بِهَا وَإِمَّا أَنْ تَدَعَهَا وَتَقْرَأَ بِأُخْرَى فَقَالَ مَا أَنَا بِتَارِكِهَا إِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ أَؤُمَّكُمْ بِذَلِكَ فَعَلْتُ وَإِنْ كَرِهْتُمْ تَرَكْتُكُمْ وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْ أَفْضَلِهِمْ وَكَرِهُوا أَنْ يَؤُمَّهُمْ غَيْرُهُ فَلَمَّا أَتَاهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ فَقَالَ يَا فُلَانُ مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَفْعَلَ مَا يَأْمُرُكَ بِهِ أَصْحَابُكَ وَمَا يَحْمِلُكَ عَلَى لُزُومِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَقَالَ إِنِّي أُحِبُّهَا فَقَالَ حُبُّكَ إِيَّاهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ
775 -
حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ قَرَأْتُ الْمُفَصَّلَ اللَّيْلَةَ فِي رَكْعَةٍ فَقَالَ هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ لَقَدْ عَرَفْتُ النَّظَائِرَ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرُنُ بَيْنَهُنَّ فَذَكَرَ عِشْرِينَ سُورَةً مِنْ الْمُفَصَّلِ سُورَتَيْنِ من آل حاميم فِي كُلِّ رَكْعَةٍ
[الحديث 775 - طرفاه في: 5043، 49996]
قَوْلُهُ: (بَابُ الْجَمْعِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ، وَالْقِرَاءَةِ بِالْخَوَاتِمِ، وَبِسُورَةٍ قَبْلَ سُورَةٍ، وَبِأَوَّلِ سُورَةٍ) اشْتَمَلَ هَذَا الْبَابُ عَلَى أَرْبَعِ مَسَائِلَ: فَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ سُورَتَيْنِ فَظَاهِرٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَيْضًا، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالْخَوَاتِمِ فَيُؤْخَذُ بِالْإِلْحَاقِ مِنَ الْقِرَاءَةِ بِالْأَوَائِلِ وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا بَعْضُ سُورَةٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ قَوْلِهِ: قَرَأَ عُمَرُ بِمِائَةٍ مِنَ الْبَقَرَةِ، وَيَتَأَيَّدُ بِقَوْلِ قَتَادَةَ: كُلٌّ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَمَّا تَقْدِيمُ السُّورَةِ عَلَى السُّورَةِ عَلَى مَا فِي تَرْتِيبِ الْمُصْحَفِ فَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَيْضًا وَمِنْ فِعْلِ عُمَرَ فِي رِوَايَةِ الْأَحْنَفِ عَنْهُ، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِأَوَّلِ سُورَةٍ فَمِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ) أَيِ ابْنِ أبي السَّائِبِ بْنِ صَيْفِيِّ بْنِ عَابِدٍ بِمُوَحَّدَةٍ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، وَحَدِيثُهُ هَذَا وَصَلَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: سَمِعْتُ
مُحَمَّدَ بْنَ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ يَقُولُ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ سُفْيَانَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُسَيَّبِ الْعَابِدِيُّ كُلُّهُمْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ: صَلَّى لَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الصُّبْحَ بِمَكَّةَ فَاسْتَفْتَحَ بِسُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى جَاءَ ذِكْرُ مُوسَى وَهَارُونَ - أَوْ ذِكْرُ عِيسَى، شَكَّ مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ - أَخَذَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَعْلَةٌ فَرَكَعَ، وَفِي رِوَايَةٍ بِحَذْفِ فَرَكَعَ. وَقَوْلُهُ: ابْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَهَمٌ مِنْ بَعْضِ أَصْحَابِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَقَدْ رُوِّينَاهُ فِي مُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْهُ فَقَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو الْقَارِئُ وَهُوَ الصَّوَابُ. وَاخْتُلِفَ فِي إِسْنَادِهِ عَلَى ابْنِ جُرَيْجٍ فَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْهُ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ أَبُو عَاصِمٍ عَنْهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ سُفْيَانَ - أَوْ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ - وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ عَلَّقَهُ بِصِيغَةِ وَيُذْكَرُ لِهَذَا الِاخْتِلَافِ، مَعَ أَنَّ إِسْنَادَهُ مِمَّا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: قَوْلُهُ ابْنِ الْعَاصِ غَلَطٌ عِنْدَ الْحُفَّاظِ، فَلَيْسَ هَذَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ الصَّحَابِيَّ الْمَعْرُوفَ، بَلْ هُوَ تَابِعِيٌّ حِجَازِيٌّ، قَالَ: وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ قَطْعِ الْقِرَاءَةِ وَجَوَازُ الْقِرَاءَةِ بِبَعْضِ السُّورَةِ، وَكَرِهَهُ مَالِكٌ. انْتَهَى.
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الَّذِي كَرِهَهُ مَالِكٌ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى بَعْضِ السُّورَةِ مُخْتَارًا، وَالْمُسْتَدَلُّ بِهِ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ كَانَ لِلضَّرُورَةِ فَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ، وَكَذَا يُرَدُّ عَلَى مَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ قِرَاءَةُ بَعْضِ الْآيَةِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ: حَتَّى جَاءَ ذِكْرُ مُوسَى وَهَارُونَ أَوْ ذِكْرُ عِيسَى، لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْمَوْضِعَيْنِ يَقَعُ فِي وَسَطِ آيَةٍ وَفِيهِ مَا تَقَدَّمَ. نَعَمْ، الْكَرَاهَةُ لَا تَثْبُتُ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَأَدِلَّةُ الْجَوَازِ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ الْأَعْرَافَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ وَلَمْ يَذْكُرْ ضَرُورَةً فَفِيهِ الْقِرَاءَةُ بِالْأَوَّلِ وَبِالْأَخِيرِ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ أَمَّ الصَّحَابَةَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ فَقَرَأَهَا فِي الرَّكْعَتَيْنِ، وَهَذَا إِجْمَاعٌ مِنْهُمْ.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ الْخُشَنِيُّ بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ مَفْتُوحَةٌ خَفِيفَةٌ ثُمَّ نُونٌ - مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: غَزَوْنَا خُرَاسَانَ وَمَعَنَا ثَلَاثُمِائَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يُصَلِّي بِنَا فَيَقْرَأُ الْآيَاتِ مِنَ السُّورَةِ ثُمَّ يَرْكَعُ أَخْرَجَهُ ابْنُ حَزْمٍ مُحْتَجًّا بِهِ، وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ وَآيَةً مِنَ الْبَقَرَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ
(1)
.
قَوْلُهُ: (أَخَذَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَعْلَةٌ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مِنَ السُّعَالِ، وَيَجُوزُ الضَّمُّ، وَلِابْنِ مَاجَهْ شَرْقَةٌ بِمُعْجَمَةٍ وَقَافٍ. وَقَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَحَذَفَ أَيْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ. وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِرَمْيِ النُّخَامَةِ النَّاشِئَةِ عَنِ السَّعْلَةِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِقَوْلِهِ فَرَكَعَ وَلَوْ كَانَ أَزَالَ مَا عَاقَهُ عَنِ الْقِرَاءَةِ لَتَمَادَى فِيهَا. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ السُّعَالَ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَهُوَ وَاضِحٌ فِيمَا إِذَا غَلَبَهُ. وَقَالَ الرَّافِعِيُّ فِي شَرْحِ الْمُسْنَدِ: قَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ سُورَةَ الْمُؤْمِنِينَ مَكِّيَّةٌ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ، قَالَ: وَلِمَنْ خَالَفَ أَنْ يَقُولَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ بِمَكَّةَ أَيْ فِي الْفَتْحِ أَوْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ. قُلْتُ: قَدْ صَرَّحَ بِقَضِيَّةِ الِاحْتِمَالِ الْمَذْكُورِ النَّسَائِيُّ فِي رِوَايَتِهِ فَقَالَ فِي فَتْحِ مَكَّةَ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ قَطْعَ الْقِرَاءَةِ لِعَارِضِ السُّعَالِ وَنَحْوِهِ أَوْلَى مِنَ التَّمَادِي فِي الْقِرَاءَةِ مَعَ السُّعَالِ وَالتَّنَحْنُحِ، وَلَوِ اسْتَلْزَمَ تَخْفِيفَ الْقِرَاءَةِ فِيمَا اسْتُحِبَّ فِيهِ تَطْوِيلُهَا.
قَوْلُهُ: (وَقَرَأَ عُمَرُ إِلَخْ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ يَقْرَأُ فِي الصُّبْحِ بِمِائَةٍ مِنَ الْبَقَرَةِ وَيُتْبِعُهَا بِسُورَةٍ مِنَ الْمَثَانِي. انْتَهَى.
وَالْمَثَانِي قِيلَ مَا لَمْ يَبْلُغْ مِائَةَ آيَةٍ أَوْ بَلَغَهَا
(2)
(1)
ويدل على ما ذكره الشارح من جواز قراءة بعض السورة مارواه البخاري عن ابن عباس أن النبي ثلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي الفجر من البقرة وآل عمران {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} الاية، و {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا} الاية، وماجاز في النافلة جاز في الفريضة مالم يرد مخصص. والله أعلم
(2)
هذه الكلمة سقطت من المخطوطة، ولعل سقوطها أولى. والله أعلم
وَقِيلَ مَا عَدَا السَّبْعَ الطِّوَالَ إِلَى الْمُفَصَّلِ، قِيلَ سُمِّيَتْ مَثَانِيَ لِأَنَّهَا ثَنَّيتِ السَّبْعَ، وَسُمِّيَتِ الْفَاتِحَةُ الْمَثَانِيَ لِأَنَّهَا تُثَنَّى فِي كُلِّ صَلَاةٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ سبحانه وتعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} فَالْمُرَادُ بِهَا سُورَةُ الْفَاتِحَةِ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَقَرَأَ الْأَحْنَفُ) وَصَلَهُ جَعْفَرٌ الْفِرْيَابِيُّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ لَهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: صَلَّى بِنَا الْأَحْنَفُ فَذَكَرَهُ وَقَالَ: فِي الثَّانِيَةِ يُونُسُ وَلَمْ يَشُكَّ. قَالَ: وَزَعَمَ أَنَّهُ صَلَّى خَلْفَ عُمَرَ كَذَلِكَ. وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ.
قَوْلُهُ: (وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ إِلَخْ) وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِلَفْظِهِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ النَّخَعِيِّ عَنْهُ، وَأَخْرَجَهُ هُوَ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ
(1)
بِلَفْظِ: فَافْتَتَحَ الْأَنْفَالَ حَتَّى بَلَغَ {وَنِعْمَ النَّصِيرُ} . انْتَهَى.
وَهَذَا الْمَوْضِعُ هُوَ رَأْسُ أَرْبَعِينَ آيَةً، فَالرِّوَايَتَانِ مُتَوَافِقَتَانِ، وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّهُ قَرَأَ بِأَرْبَعِينَ مِنْ أَوَّلِهَا، فَانْدَفَعَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى قِرَاءَةِ خَاتِمَةِ السُّورَةِ بِخِلَافِ الْأَثَرِ عَنْ عُمَرَ فَإِنَّهُ مُحْتَمَلٌ. قَالَ ابْنُ التِّينِ إِنْ لَمْ تُؤْخَذِ الْقِرَاءَةُ بِالْخَوَاتِمِ مِنْ أَثَرِ عُمَرَ أَوِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَإِلَّا فَلَمْ يَأْتِ الْبُخَارِيُّ بِدَلِيلٍ عَلَى ذَلِكَ، وَفَاتَهُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِالْإِلْحَاقِ مُؤَيَّدٌ بِقَوْلِ قَتَادَةَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ قَتَادَةُ) وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَقَتَادَةُ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ يُسْتَدَلُّ لِقَوْلِهِ وَلَا يُسْتَدَلُّ بِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْبُخَارِيُّ مِنْهُ قَوْلَهُ:(كُلٌّ كِتَابُ اللَّهِ) فَإِنَّهُ يُسْتَنْبَطُ مِنْهُ جَوَازُ جَمِيعِ مَا ذُكِرَ فِي التَّرْجَمَةِ، وَأَمَّا قَوْلُ قَتَادَةَ فِي تَرْدِيدِ السُّورَةِ فَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّرْجَمَةِ، فَقَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: لَعَلَّهُ لَا يَقُولُ بِهِ، لِمَا رُوِيَ فِيهِ مِنَ الْكَرَاهَةِ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ. قُلْتُ: وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ لَا يُرَاعَى هَذَا الْقَدْرُ إِذَا صَحَّ لَهُ الدَّلِيلُ. قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: ذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنْ يَقْرَأَ الْمُصَلِّي فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِسُورَةٍ كَمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ: لِكُلِّ سُورَةٍ حَظُّهَا مِنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. قَالَ: وَلَا تُقْسَمُ السُّورَةُ فِي رَكْعَتَيْنِ، وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى بَعْضِهَا وَيَتْرُكُ الْبَاقِيَ، وَلَا يَقْرَأُ بِسُورَةٍ قَبْلَ سُورَةٍ يُخَالِفُ تَرْتِيبَ الْمُصْحَفِ، قَالَ: فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ، بَلْ هُوَ خِلَافُ الْأَوْلَى. قَالَ: وَجَمِيعُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ لَا يُخَالِفُ مَا قَالَ مَالِكٌ، لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ. انْتَهَى.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَفِيهِ إِشْعَارٌ بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ سُورَتَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَقَدْ نَقَلَ الْبَيْهَقِيُّ فِي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ عَنْهُ أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا، وَعَنْ أَحْمَدَ وَالْحَنَفِيَّةِ كَرَاهِيَةُ قِرَاءَةِ سُورَةٍ قَبْلَ سُورَةٍ تُخَالِفُ تَرْتِيبَ الْمُصْحَفِ، وَاخْتُلِفَ هَلْ رَتَّبَهُ الصَّحَابَةُ بِتَوْقِيفٍ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُمْ؟ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: الصَّحِيحُ الثَّانِي، وَأَمَّا تَرْتِيبُ الْآيَاتِ فَتَوْقِيفِيٌّ بِلَا خِلَافٍ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ؛ وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ التَّكْرِيرَ أَخَفُّ مِنْ قَسْمِ السُّورَةِ فِي رَكْعَتَيْنِ انْتَهَى.
وَسَبَبُ الْكَرَاهَةِ فِيمَا يَظْهَرُ أَنَّ السُّورَةَ مُرْتَبِطٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ فَأَيُّ مَوْضِعٍ قَطَعَ فِيهِ لَمْ يَكُنْ كَانْتِهَائِهِ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، فَإِنَّهُ إِنْ قَطَعَ فِي وَقْفٍ غَيْرِ تَامٍّ كَانَتِ الْكَرَاهَةُ ظَاهِرَةً، وَإِنْ قَطَعَ فِي وَقْفٍ تَامٍّ فَلَا يَخْفَى أَنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الطَّهَارَةِ قِصَّةُ الْأَنْصَارِيِّ الَّذِي رَمَاهُ الْعَدُوُّ بِسَهْمٍ فَلَمْ يَقْطَعْ صَلَاتَهُ وَقَالَ: كُنْتُ فِي سُورَةٍ فَكَرِهْتُ أَنْ أَقْطَعَهَا وَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ
(2)
.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ) أَيِ ابْنُ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، وَحَدِيثُهُ هَذَا وَصَلَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْبَزَّارُ، عَنِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُحْرِزِ بْنِ سَلَمَةَ كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الْعَزِيز الدَّرَاوَرْدِيِّ عَنْهُ بِطُولِهِ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ ثَابِتٍ، قَالَ: وَقَدْ رَوَى مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ ثَابِتٍ فَذَكَرَ طَرَفًا مِنْ آخِرِهِ، وَذَكَرَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ أَنَّ الدَّرَاوَرْدِيَّ تَفَرَّدَ بِهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ،
(1)
في المخطوطة "عبد الرحمن".
(2)
لكن سبق قريبا مايدل على عدم كراهة قسم السورة في ركعتين" فتنبه.
وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ أَنَّ حَمَّادَ بْنَ سَلَمَةَ خَالَفَ عُبَيْدَ اللَّهِ فِي إِسْنَادِهِ فَرَوَاهُ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ سُبَيْعَةَ مُرْسَلًا قَالَ: وَهُوَ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ، وَإِنَّمَا رَجَّحَهُ لِأَنَّ حَمَّادَ بْنَ سَلَمَةَ مُقَدَّمٌ فِي حَدِيثِ ثَابِتٍ، لَكِنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ حَافِظٌ حُجَّةٌ، وَقَدْ وَافَقَهُ مُبَارَكٌ فِي إِسْنَادِهِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِثَابِتٍ فِيهِ شَيْخَانِ.
قَوْلُهُ: (كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يَؤُمُّهُمْ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ) هُوَ كُلْثُومُ بْنُ الْهِدْمِ، رَوَاهُ ابْنُ مَنْدَهْ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، كَذَا أَوْرَدَهُ بَعْضُهُمْ. وَالْهِدْمُ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَسُكُونِ الدَّالِ، وَهُوَ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ سُكَّانِ قُبَاءٍ، وَعَلَيْهِ نَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَدِمَ فِي الْهِجْرَةِ إِلَى قُبَاءٍ.
قِيلَ وَفِي تَعْيِينِ الْمُبْهَمِ بِهِ هُنَا نَظَرٌ، لِأَنَّ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّهُ كَانَ أَمِيرَ سَرِيَّةٍ. وَكُلْثُومُ بْنُ الْهِدْمِ مَاتَ فِي أَوَائِلِ مَا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ فِيمَا ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ الْمَغَازِي، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَ السَّرَايَا. ثُمَّ رَأَيْتُ بِخَطِّ بَعْضِ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَى رِجَالِ الْعُمْدَةِ كُلْثُومَ بْنَ زَهْدَمٍ وَعَزَاهُ لِابْنِ مَنْدَهْ، لَكِنْ رَأَيْتُ أَنَا بِخَطِّ الْحَافِظِ رَشِيدِ الدِّينِ الْعَطَّارِ فِي حَوَاشِي مُبْهَمَاتِ الْخَطِيبِ نَقْلًا عَنْ صِفَةِ التَّصَوُّفِ لِابْنِ طَاهِرٍ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَنْدَهْ عَنْ أَبِيهِ فَسَمَّاهُ كُرْزَ بْنَ زَهْدَمٍ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَعَلَى هَذَا فَالَّذِي كَانَ يَؤُمُّ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ غَيْرُ أَمِيرِ السَّرِيَّةِ، وَيَدُلُّ عَلَى تَغَايُرِهِمَا أَنَّ فِي رِوَايَةِ الْبَابِ أَنَّهُ كَانَ يَبْدَأُ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَأَمِيرُ السَّرِيَّةِ كَانَ يَخْتِمُ بِهَا، وَفِي هَذَا أَنَّهُ كَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِذَلِكَ فِي قِصَّةِ الْآخَرِ، وَفِي هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَأَلَهُ وَأَمِيرَ السَّرِيَّةِ أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَسْأَلُوهُ، وَفِي هَذَا أَنَّهُ قَالَ إِنَّهُ يُحِبُّهَا فَبَشَّرَهُ بِالْجَنَّةِ وَأَمِيرُ السَّرِيَّةِ قَالَ إِنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ فَبَشَّرَهُ بِأَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ. وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا التَّغَايُرِ كُلِّهِ مُمْكِنٌ لَوْلَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِ كُلْثُومِ بْنِ الْهِدْمِ مَاتَ قَبْلَ الْبُعُوثِ وَالسَّرَايَا، وَأَمَّا مَنْ فَسَّرَهُ بِأَنَّهُ قَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ فَأَبْعَدَ جِدًّا، فَإِنَّ فِي قِصَّةِ قَتَادَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا فِي اللَّيْلِ يُرَدِّدُهَا، لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ أَمَّ بِهَا لَا فِي سَفَرٍ وَلَا فِي حَضَرٍ، وَلَا أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ وَلَا بُشِّرَ. وَسَيَأْتِي ذَلِكَ وَاضِحًا فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ. وَحَدِيثُ عَائِشَةَ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ التَّوْحِيدِ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (مِمَّا يَقْرَأُ بِهِ) أَيْ مِنَ السُّورَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ.
قَوْلُهُ: (افْتَتَحَ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ قَالَ: لَا يُشْتَرَطُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الرَّاوِيَ لَمْ يَذْكُرِ الْفَاتِحَةَ اعْتِنَاءً بِالْعِلْمِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهَا فَيَكُونُ مَعْنَاهُ افْتَتَحَ بِسُورَةٍ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ، أَوْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ وُرُودِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى اشْتِرَاطِ الْفَاتِحَةِ.
قَوْلُهُ: (فَكَلَّمَهُ أَصْحَابُهُ) يَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّ صَنِيعَهُ ذَلِكَ خِلَافُ مَا أَلِفُوهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (وَكَرِهُوا أَنْ يَؤُمَّهُمْ غَيْرُهُ) إِمَّا لِكَوْنِهِ مِنْ أَفْضَلِهِمْ كَمَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ، وَإِمَّا لِكَوْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هُوَ الَّذِي قَرَّرَهُ.
قَوْلُهُ: (مَا يَأْمُرُكُ بِهِ أَصْحَابُكُ) أَيْ يَقُولُونَ لَكَ، وَلَمْ يُرِدِ الْأَمْرَ بِالصِّيغَةِ الْمَعْرُوفَةِ لَكِنَّهُ لَازِمٌ مِنَ التَّخْيِيرِ الَّذِي ذَكَرُوهُ كَأَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ افْعَلْ كَذَا وَكَذَا.
قَوْلُهُ: (مَا يَمْنَعُكَ وَمَا يَحْمِلُكَ) سَأَلَهُ عَنْ أَمْرَيْنِ فَأَجَابَهُ بِقَوْلِهِ: إِنِّي أُحِبُّهَا، وَهُوَ جَوَابٌ عَنِ الثَّانِي مُسْتَلْزِمٌ لِلْأَوَّلِ بِانْضِمَامِ شَيْءٍ آخَرَ وَهُوَ إِقَامَةُ السُّنَّةِ الْمَعْهُودَةِ فِي الصَّلَاةِ، فَالْمَانِعُ مُرَكَّبٌ مِنَ الْمَحَبَّةِ وَالْأَمْرِ الْمَعْهُودِ، وَالْحَامِلُ عَلَى الْفِعْلِ الْمَحَبَّةُ وَحْدَهَا، وَدَلَّ تَبْشِيرُهُ لَهُ بِالْجَنَّةِ عَلَى الرِّضَا بِفِعْلِهِ، وَعَبَّرَ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ أَدْخَلَكَ وَإِنْ كَانَ دُخُولُ الْجَنَّةِ مُسْتَقْبَلًا تَحْقِيقًا لِوُقُوعِ ذَلِكَ، قَالَ نَاصِرُ الدِّينِ بْنُ الْمُنِيرِ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَقَاصِدَ تُغَيِّرُ أَحْكَامَ الْفِعْلِ لِأَنَّ الرَّجُلَ لَوْ قَالَ إِنَّ الْحَامِلَ لَهُ عَلَى إِعَادَتِهَا أَنَّهُ لَا يَحْفَظُ غَيْرَهَا لَأَمْكَنَ أَنْ يَأْمُرَهُ بِحِفْظِ غَيْرِهَا، لَكِنَّهُ اعْتَلَّ بِحُبِّهَا فَظَهَرَتْ صِحَّةُ قَصْدِهِ فَصَوَّبَهُ. قَالَ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَخْصِيصِ بَعْضِ الْقُرْآنِ بِمَيْلِ النَّفْسِ إِلَيْهِ وَالِاسْتِكْثَارِ مِنْهُ وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ هِجْرَانًا لِغَيْرِهِ، وَفِيهِ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ سُورَةَ الْإِخْلَاصِ مَكِّيَّةٌ.
775 -
حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: قَرَأْتُ الْمُفَصَّلَ اللَّيْلَةَ فِي رَكْعَةٍ، فَقَالَ: هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ، لَقَدْ عَرَفْتُ النَّظَائِرَ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرُنُ بَيْنَهُنَّ، فَذَكَرَ عِشْرِينَ سُورَةً مِنَ الْمُفَصَّلِ سُورَتَيْنِ من آل حاميم فِي كُلِّ رَكْعَةٍ.
قَوْلُهُ: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ) هُوَ نَهِيكٌ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْهَاءِ ابْنُ سِنَانٍ الْبَجْلِيُّ، سَمَّاهُ مَنْصُورٌ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ
أَبِي وَائِلٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَسَيَأْتِي مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.
قَوْلُهُ: (قَرَأْتُ الْمُفَصَّلَ) تَقَدَّمَ أَنَّهُ مِنْ ق إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَسُمِّيَ مُفَصَّلًا لِكَثْرَةِ الْفَصْلِ بَيْنَ سُوَرِهِ بِالْبَسْمَلَةِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَلِقَوْلِ هَذَا الرَّجُلِ قَرَأْتُ الْمُفَصَّلَ سَبَبٌ بَيَّنَهُ مُسْلِمٌ فِي أَوَّلِ حَدِيثِهِ مِنْ رِوَايَةِ وَكِيعٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ نَهِيكُ بْنُ سِنَانٍ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَيْفَ تَقْرَأُ هَذَا الْحَرْفَ: {مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} أَوْ غَيْرِ يَاسِنٍ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: كُلُّ الْقُرْآنِ أَحْصَيْتُ غَيْرَ هَذَا، قَالَ: إِنِّي لَأَقْرَأُ الْمُفَصَّلَ فِي رَكْعَةٍ.
قَوْلُهُ: (هَذًّا) بِفَتْحِ الْهَاءِ وَتَشْدِيدِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، أَيْ سَرْدًا وَإِفْرَاطًا فِي السُّرْعَةِ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَهُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ بِحَذْفِ أَدَاةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَهِيَ ثَابِتَةٌ فِي رِوَايَةِ مَنْصُورٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَقَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ تِلْكَ الصِّفَةَ كَانَتْ عَادَتَهُمْ فِي إِنْشَادِ الشِّعْرِ. وَزَادَ فِيهِ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ وَكِيعٍ أَيْضًا أَنَّ أَقْوَامًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، وَزَادَ أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، وَإِسْحَاقُ، عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، كِلَاهُمَا عَنِ الْأَعْمَشِ فِيهِ: وَلَكِنْ إِذَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ فَرَسَخَ فِيهِ نَفَعَ وَهُوَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ دُونَ قَوْلِهِ نَفَعَ
(1)
.
قَوْلُهُ: (لَقَدْ عَرَفْتُ النَّظَائِرَ) أَيِ السُّوَرَ الْمُتَمَاثِلَةَ فِي الْمَعَانِي كَالْمَوْعِظَةِ أَوِ الْحُكْمِ أَوِ الْقَصَصِ، لَا الْمُتَمَاثِلَةَ فِي عَدَدِ الْآيِ، لِمَا سَيَظْهَرُ عِنْدَ تَعْيِينِهَا. قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهَا مُتَسَاوِيَةٌ فِي الْعَدِّ، حَتَّى اعْتَبَرْتُهَا فَلَمْ أَجِدْ فِيهَا شَيْئًا مُتَسَاوِيًا.
قَوْلُهُ: (يَقْرُنُ) بِضَمِّ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا.
قَوْلُهُ: (عِشْرِينَ سُورَةً مِنَ الْمُفَصَّلِ وَسُورَتَيْنِ مِنَ آل حم فِي كُلِّ رَكْعَةٍ) وَقَعَ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ مِنْ رِوَايَةِ وَاصِلٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ: ثَمَانِي عَشْرَةَ سُورَةً مِنَ الْمُفَصَّلِ وَسُورَتَيْنِ مِنَ آل حم وَبَيَّنَ فِيهِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ أَنَّ قَوْلَهُ عِشْرِينَ سُورَةً إِنَّمَا سَمِعَهُ أَبُو وَائِلٍ مِنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَلَفْظُهُ: فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ وَدَخَلَ عَلْقَمَةُ مَعَهُ ثُمَّ خَرَجَ عَلْقَمَةُ فَسَأَلْنَاهُ فَقَالَ: عِشْرُونَ سُورَةً مِنَ الْمُفَصَّلِ عَلَى تَأْلِيفِ ابْنِ مَسْعُودٍ آخِرُهُنَّ حم الدُّخَانُ وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي خَالِدٍ الْأَحْمَرِ، عَنِ الْأَعْمَشِ مِثْلُهُ وَزَادَ فِيهِ: فَقَالَ الْأَعْمَشُ: أَوَّلُهُنَّ الرَّحْمَنُ وَآخِرُهُنَّ الدُّخَانُ ثُمَّ سَرَدَهَا، وَكَذَلِكَ سَرَدَهَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، وَالْأَسْوَدُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فِيمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مُتَّصِلًا بِالْحَدِيثِ بَعْدَ قَوْلِهِ: كَانَ يَقْرَأُ النَّظَائِرَ السُّورَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ: الرَّحْمَنَ وَالنَّجْمَ فِي رَكْعَةٍ وَاقْتَرَبَتْ وَالْحَاقَّةَ فِي رَكْعَةٍ وَالذَّارِيَاتِ وَالطُّورَ فِي رَكْعَةٍ وَالْوَاقِعَةَ وَنُونَ فِي رَكْعَةٍ وَسَأَلَ وَالنَّازِعَاتِ فِي رَكْعَةٍ وَوَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ وَعَبَسَ فِي رَكْعَةٍ وَالْمُدَّثِّرَ وَالْمُزَّمِّلَ فِي رَكْعَةٍ وَهَلْ أَتَى وَلَا أُقْسِمُ فِي رَكْعَةٍ وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ وَالْمُرْسَلَاتِ فِي رَكْعَةٍ وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَالدُّخَانَ فِي رَكْعَةٍ هَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ وَالْآخَرُ مِثْلُهُ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ فِي رَكْعَةٍ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، وَذَكَرَ السُّورَةَ الرَّابِعَةَ قَبْلَ الثَّالِثَةِ وَالْعَاشِرَةَ قَبْلَ التَّاسِعَةِ وَلَمْ يُخَالِفْهُ فِي الِاقْتِرَانِ، وَقَدْ سَرَدَهَا أَيْضًا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ
فِيمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ لَكِنْ قَدَّمَ وَأَخَّرَ فِي بَعْضٍ وَحَذَفَ بَعْضَهَا، وَمُحَمَّدٌ ضَعِيفٌ.
وَعُرِفَ بِهَذَا أَنَّ قَوْلَهُ فِي رِوَايَةِ وَاصِلٍ وَسُورَتَيْنِ مِنَ آل حم مُشْكِلٌ لِأَنَّ الرِّوَايَاتِ لَمْ تَخْتَلِفْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعِشْرِينَ مِنَ الْحَوَامِيمِ غَيْرُ الدُّخَانِ فَيُحْمَلُ عَلَى التَّغْلِيبِ. أَوْ فِيهِ حَذْفٌ كَأَنَّهُ قَالَ وَسُورَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا مِنَ آل حم، وَكَذَا قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَمْزَةَ: آخِرُهُنَّ حم الدُّخَانُ وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ مُشْكِلٌ لِأَنَّ حم الدُّخَانَ آخِرُهُنَّ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ. وَأَمَّا عَمَّ فَهِيَ فِي رِوَايَةِ أَبِي خَالِدٍ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي إِسْحَاقَ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ فَكَأَنَّ فِيهِ تَجَوُّزًا، لِأَنَّ عَمَّ وَقَعَتْ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ فِي الْجُمْلَةِ، وَيَتَبَيَّنُ بِهَذَا أَنَّ فِي قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ عِشْرِينَ سُورَةً مِنَ الْمُفَصَّلِ تَجَوُّزًا لِأَنَّ الدُّخَانَ لَيْسَتْ مِنْهُ، وَلِذَلِكَ فَصَلَهَا مِنَ الْمُفَصَّلِ فِي رِوَايَةِ وَاصِلٍ.
نَعَمْ يَصِحُّ
(1)
قوله " دون قوله نفع" هذا سهو من الشارح رحمه الله، بل هذا اللفظ موجود في صحيح مسلم، ولفظه " ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع " انتهى. والله أعلم
ذَلِكَ عَلَى أَحَدِ الْآرَاءِ فِي حَدِّ الْمُفَصَّلِ كَمَا تَقَدَّمَ وَكَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ أَيْضًا فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ كَرَاهَةُ الْإِفْرَاطِ فِي سُرْعَةِ التِّلَاوَةِ لِأَنَّهُ يُنَافِي الْمَطْلُوبَ مِنَ التَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ، وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ السَّرْدِ بِدُونِ تَدَبُّرٍ لَكِنَّ الْقِرَاءَةَ بِالتَّدَبُّرِ أَعْظَمُ أَجْرًا، وَفِيهِ جَوَازُ تَطْوِيلِ الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَوَّلُ حَدِيثٍ مَوْصُولٍ أَوْرَدَهُ فِي هَذَا الْبَابِ، فَلِهَذَا صَدَّرَ التَّرْجَمَةَ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ، وَفِيهِ مَا تَرْجَمَ لَهُ وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ السُّوَرِ لِأَنَّهُ إِذَا جُمِعَ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ سَاغَ الْجَمْعُ بَيْنَ ثَلَاثٍ فَصَاعِدًا لِعَدَمِ الْفَرْقِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ: أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ بَيْنَ السُّوَرِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ مِنَ الْمُفَصَّلِ، وَلَا يُخَالِفُ هَذَا مَا سَيَأْتِي فِي التَّهَجُّدِ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْبَقَرَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الطِّوَالِ، لِأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى النَّادِرِ.
وَقَالَ عِيَاضٌ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ كَانَ قَدْرَ قِرَاءَتِهِ غَالِبًا، وَأَمَّا تَطْوِيلُهُ فَإِنَّمَا كَانَ فِي التَّدَبُّرِ وَالتَّرْتِيلِ، وَمَا وَرَدَ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ قِرَاءَةِ الْبَقَرَةِ وَغَيْرِهَا فِي رَكْعَةٍ فَكَانَ نَادِرًا. قُلْتُ: لَكِنْ لَيْسَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُوَاظَبَةِ، بَلْ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَقْرُنُ بَيْنَ هَذِهِ السُّوَرِ الْمُعَيَّنَاتِ إِذَا قَرَأَ مِنَ الْمُفَصَّلِ، وَفِيهِ مُوَافَقَةٌ لِقَوْلِ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ صَلَاتَهُ بِاللَّيْلِ كَانَتْ عَشْرَ رَكَعَاتٍ غَيْرَ الْوِتْرِ، وَفِيهِ مَا يُقَوِّي قَوْلَ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْمُتَقَدِّمَ: إِنَّ تَأْلِيفَ السُّوَرِ كَانَ عَنِ اجْتِهَادٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، لِأَنَّ تَأْلِيفَ عَبْدِ اللَّهِ الْمَذْكُورَ مُغَايِرٌ لِتَأْلِيفِ مُصْحَفِ عُثْمَانَ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
107 - بَاب يَقْرَأُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ
776 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ فِي الْأُولَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ، وَيُسْمِعُنَا الْآيَةَ وَيُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مَا لَا يُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَهَكَذَا فِي الْعَصْرِ، وَهَكَذَا فِي الصُّبْحِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ يَقْرَأُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ) يَعْنِي بِغَيْرِ زِيَادَةٍ، وَسَكَتَ عَنْ ثَالِثَةِ الْمَغْرِبِ رِعَايَةً لِلَفْظِ الْحَدِيثِ مَعَ أَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الْأُخْرَيَيْنِ مِنَ الرُّبَاعِيَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَذْكُرْهَا لِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ مِنْ طَرِيقِ الصُّنَابِحِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ يَقْرَأُ فِيهَا:{رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} الْآيَةَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ يَحْيَى) هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ.
قَوْلُهُ: (بِأُمِّ الْكِتَابِ) فِيهِ مَا تَرْجَمَ لَهُ، وَفِيهِ التَّنْصِيصُ عَلَى قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ. قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: قَدْ كُنْتُ زَمَانًا أَحْسَبُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَمْ يَرْوِهِ عَنْ يَحْيَى غَيْرُ هَمَّامٍ وَتَابَعَهُ أَبَانُ، إِلَى أَنْ رَأَيْتُ الْأَوْزَاعِيَّ قَدْ رَوَاهُ أَيْضًا عَنْ يَحْيَى يَعْنِي أَنَّ أَصْحَابَ يَحْيَى اقْتَصَرُوا عَلَى قَوْلِهِ: كَانَ يَقْرَأُ فِي الْأَوَّلِيَّيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْهُ مِنْ طُرُقٍ، وَأَنَّ هَمَّامًا زَادَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ وَهِيَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْفَاتِحَةِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ، فَكَانَ يَخْشَى شُذُوذَهَا إِلَى أَنْ قَوِيَتْ عِنْدَهُ بِمُتَابَعَةِ مَنْ ذُكِرَ، لَكِنَّ أَصْحَابَ الْأَوْزَاعِيِّ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى ذِكْرِهَا كَمَا سَيَظْهَرُ ذَلِكَ بَعْدَ بَابٍ.
قَوْلُهُ: (مَا لَا يُطِيلُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِكَرِيمَةَ: مَا لَا يَطُولُ. وَمَا نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْحَموِيِّ: بِمَا لَا يُطِيلُ وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَطْوِيلِ الرَّكْعَةِ الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي: بَابِ الْقِرَاءَةِ فِي الظَّهْرِ وَسَيَأْتِي أَيْضًا.
108 - بَاب مَنْ خَافَتَ الْقِرَاءَةَ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ
777 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ قُلْتُ لِخَبَّابٍ: أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْنَا: مِنْ أَيْنَ عَلِمْتَ؟ قَالَ: بِاضْطِرَابِ لِحْيَتِهِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ خَافَتَ الْقِرَاءَةَ) أَيْ أَسَرَّ. وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ خَافَتَ بِالْقِرَاءَةِ وَهُوَ أَوْجَهُ.
وَدَلَالَةُ حَدِيثِ خَبَّابٍ لِلتَّرْجَمَةِ وَاضِحَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّة فَوَائِدِهِ قَرِيبًا.
109 - بَاب إِذَا أَسْمَعَ الْإِمَامُ الْآيَةَ
778 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ بِأُمِّ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ مَعَهَا فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، وَيُسْمِعُنَا الْآيَةَ أَحْيَانًا، وَكَانَ يُطِيلُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا سَمِعَ) وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ إِذَا سَمَّعَ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ (الْإِمَامُ الْآيَةَ) أَيْ فِي السِّرِّيَّةِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ إِنْ كَانَ سَاهِيًا، وَكَذَا لِمَنْ قَالَ يَسْجُدُ مُطْلَقًا.
وَحَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ وَاضِحٌ فِي التَّرْجَمَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ أَيْضًا.
110 - بَاب يُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى
779 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ وَيَفْعَلُ ذَلِكَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ يُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى) أَيْ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ أَيْضًا، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يُطَوِّلُ فِي أُولَى الصُّبْحِ خَاصَّةً، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ أَحَادِيثِ الْمَسْأَلَةِ: يُطَوِّلُ فِي الْأُولَى إِنْ كَانَ يَنْتَظِرُ أَحَدًا وَإِلَّا فَلْيُسَوِّ بَيْنَ الْأُولَيَيْنِ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ نَحْوَهُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يُطَوِّلَ الْإِمَامُ الْأُولَى مِنْ كُلِّ صَلَاةٍ حَتَّى يَكْثُرَ النَّاسُ، فَإِذَا صَلَّيْتُ لِنَفْسِي فَإِنِّي أَحْرِصُ عَلَى أَنْ أَجْعَلَ الْأُولَيَيْنِ سَوَاءً. وَذَهَبَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ إِلَى اسْتِحْبَابِ تَطْوِيلِ الْأُولَى مِنَ الصُّبْحِ دَائِمًا، وَأَمَّا غَيْرُهَا فَإِنْ كَانَ يُتَرَجَّى كَثْرَةُ الْمَأْمُومِينَ وَيُبَادِرُ هُوَ أَوَّلَ الْوَقْتِ فَيَنْتَظِرُ وَإِلَّا فَلَا. وَذُكِرَ فِي حِكْمَةِ اخْتِصَاصِ الصُّبْحِ بِذَلِكَ أَنَّهَا تَكُونُ عَقِبَ النَّوْمِ وَالرَّاحَةِ وَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يُوَاطِئُ السَّمْعُ وَاللِّسَانُ الْقَلْبُ لِفَرَاغِهِ وَعَدَمِ تَمَكُّنِ الِاشْتِغَالِ بِأُمُورِ الْمَعَاشِ وَغَيْرِهَا مِنْهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ. (تَنْبِيهٌ): أَبُو يَعْفُورٍ الْمَذْكُورُ فِي السَّنَدِ هُوَ الْأَكْبَرُ، وَاسْمُهُ وَاقِدٌ بِالْقَافِ، وَقِيلَ وَقْدَانُ، وَجَزَمَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ بِأَنَّهُ الْأَصْغَرُ وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُبَيْدٍ، وَبِالْأَوَّلِ جَزَمَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ، وَالْمِزِّيُّ وَغَيْرُهُمَا وَهُوَ الصَّوَابُ.
111 - بَاب جَهْرِ الْإِمَامِ بِالتَّأْمِينِ
وَقَالَ عَطَاءٌ: آمِينَ دُعَاءٌ. أَمَّنَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَمَنْ وَرَاءَهُ حَتَّى إِنَّ لِلْمَسْجِدِ لَلَجَّةً
وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُنَادِي الْإِمَامَ: لَا تَفُتْنِي بِآمِينَ
وَقَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يَدَعُهُ وَيَحُضُّهُمْ، وَسَمِعْتُ مِنْهُ فِي ذَلِكَ خَيْرًا
780 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُمَا أَخْبَرَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ. وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: آمِينَ.
[الحديث 780 - طرفه في: 6402]
قَوْلُهُ: (بَابُ جَهْرِ الْإِمَامِ بِالتَّأْمِينِ) أَيْ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ فِي الْجَهْرِ، وَالتَّأْمِينُ مَصْدَرُ أَمَّنَ بِالتَّشْدِيدِ أَيْ قَالَ آمِينَ وَهِيَ بِالْمَدِّ وَالتَّخْفِيفِ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ وَعَنْ جَمِيعِ الْقُرَّاءِ، وَحَكَى الْوَاحِدِيُّ، عَنْ حَمْزَةَ، وَالْكِسَائِيِّ الْإِمَالَةَ، وَفِيهَا ثَلَاثُ لُغَاتٍ أُخْرَى شَاذَّةٌ: الْقَصْرُ حَكَاهُ ثَعْلَبٌ وَأَنْشَدَ لَهُ شَاهِدًا، وَأَنْكَرَهُ ابْنُ دَرَسْتَوَيْهِ وَطَعَنَ فِي الشَّاهِدِ بِأَنَّهُ لِضَرُورَةِ الشِّعْرِ، وَحَكَى عِيَاضٌ وَمَنْ تَبِعَهُ عَنْ ثَعْلَبٍ أَنَّهُ إِنَّمَا أَجَازَهُ فِي الشِّعْرِ خَاصَّةً، وَالتَّشْدِيدُ مَعَ الْمَدِّ وَالْقَصْرِ، وَخَطَّأَهُمَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ.
وَآمِينَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ مِثْلَ صَهٍ لِلسُّكُوتِ، وَتُفْتَحُ فِي الْوَصْلِ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ مِثْلَ كَيْفَ، وَإِنَّمَا لَمْ تُكْسَرْ لِثِقَلِ الْكَسْرَةِ بَعْدَ الْيَاءِ وَمَعْنَاهَا اللَّهُمَّ اسْتَجِبْ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَرْجِعُ جَمِيعُهُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، كَقَوْلِ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ اللَّهُمَّ آمِنَّا بِخَيْرٍ، وَقِيلَ كَذَلِكَ يَكُونُ، وَقِيلَ دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ تَجِبُ لِقَائِلِهَا، وَقِيلَ لِمَنِ اسْتُجِيبَ لَهُ كَمَا اسْتُجِيبَ لِلْمَلَائِكَةِ، وَقِيلَ هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ وَعَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ التَّابِعِيِّ مِثْلُهُ، وَأَنْكَرَهُ جَمَاعَةٌ، وَقَالَ مَنْ مَدَّ وَشَدَّدَ: مَعْنَاهَا قَاصِدِينَ إِلَيْكَ وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ؛ وَقَالَ مَنْ قَصَرَ وَشَدَّدَ: هِيَ كَلِمَةٌ عِبْرَانِيَّةٌ أَوْ سُرْيَانِيَّةٌ. وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي زُهَيْرٍ النُّمَيْرِيِّ الصَّحَابِيِّ أَنَّ آمِينَ مِثْلُ الطَّابَعِ عَلَى الصَّحِيفَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم: إِنْ خَتَمَ بِآمِينَ فَقَدْ أَوْجَبَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَطَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ بِآمِينَ) وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: قُلْتُ لَهُ أَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يُؤَمِّنُ عَلَى أَثَرِ أُمِّ الْقُرْآنِ؟ قَالَ: نَعَمْ وَيُؤَمِّنُ مَنْ وَرَاءَهُ؛ حَتَّى إِنَّ لِلْمَسْجِدِ لَلَجَّةً، ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا آمِينَ دُعَاءٌ. قَالَ: وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ وَقَدْ قَامَ الْإِمَامُ فَيُنَادِيهِ فَيَقُولُ: لَا تَسْبِقْنِي بِآمِينَ. وَقَوْلُهُ حَتَّى إِنَّ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ لِلْمَسْجِدِ أَيْ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ لَلَجَّةً اللَّامُ لِلتَّأْكِيدِ وَاللَّجَّةُ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الصَّوْتُ الْمُرْتَفِعُ، وَرَوَى لَلَجَبَةً بِمُوَحَّدَةٍ وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ حَكَاهُ ابْنُ التِّينِ، وَهِيَ الْأَصْوَاتُ الْمُخْتَلِطَةُ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ لَرَجَّةً بِالرَّاءِ بَدَلَ اللَّامِ كَمَا سَيَأْتِي.
قَوْلُهُ: (لَا تَفُتْنِي) بِضَمِّ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ، وَحَكَى بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضِ النُّسَخِ بِالْفَاءِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَلَمْ أَرَ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ، وَإِنَّمَا فِيهَا بِالْمُثَنَّاةِ مِنَ الْفَوَاتِ وَهِيَ بِمَعْنَى مَا تَقَدَّمَ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ مِنَ السَّبْقِ، وَمُرَادُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنْ يُؤَمِّنَ مَعَ الْإِمَامِ دَاخِلَ الصَّلَاةِ، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ فِي أَنَّ الْإِمَامَ لَا يُؤَمِّنُ وَقَالَ: مَعْنَاهُ لَا تُنَازِعْنِي بِالتَّأْمِينِ الَّذِي هُوَ مِنْ وَظِيفَةِ الْمَأْمُومِ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ، وَقَدْ جَاءَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجْهٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: كَانَ أَبُو
هُرَيْرَةَ يُؤَذِّنُ لِمَرْوَانَ، فَاشْتَرَطَ أَنْ لَا يَسْبِقَهُ بِالضَّالِّينَ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ دَخَلَ فِي الصَّفِّ، وَكَأَنَّهُ كَانَ يَشْتَغِلُ بِالْإِقَامَةِ وَتَعْدِيلِ الصُّفُوفِ، وَكَانَ مَرْوَانُ يُبَادِرُ إِلَى الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ قَبْلَ فَرَاغِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، وَقَدْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ مَعَ غَيْرِ مَرْوَانَ: فَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِبنَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ مُؤَذِّنًا بِالْبَحْرَيْنِ وَأَنَّهُ اشْتَرَطَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ لَا يَسْبِقَهُ بِآمِينَ، وَالْإِمَامُ بِالْبَحْرَيْنِ كَانَ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ، بَيَّنَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْهُ.
وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ بِلَالٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ بِلَالٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا تَسْتَبِقْنِي بِآمِينَ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ. لَكِنْ قِيلَ إِنَّ أَبَا عُثْمَانَ لَمْ يَلْقَ بِلَالًا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ بِلَفْظِ أَنَّ بِلَالًا قَالَ وَهُوَ ظَاهِرُ الْإِرْسَالِ، وَرَجَّحَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى الْمَوْصُولِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يُضَعِّفُ التَّأْوِيلَ السَّابِقَ لِأَنَّ بِلَالًا لَا يَقَعُ مِنْهُ مَا حَمَلَ هَذَا الْقَائِلُ كَلَامَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَيْهِ، وَتَمَسَّكَ بِهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ الْإِمَامَ يَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ قَبْلَ فَرَاغِ الْمُؤَذِّنِ مِنَ الْإِقَامَةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهَا وَاقِعَةُ عَيْنٍ وَسَبَبُهَا مُحْتَمَلٌ فَلَا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِهَا، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: مُنَاسَبَةُ قَوْلِ عَطَاءٍ لِلتَّرْجَمَةِ أَنَّهُ حَكَمَ بِأَنَّ التَّأْمِينَ دُعَاءٌ فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَقُولَهُ الْإِمَامُ لِأَنَّهُ فِي مَقَامِ الدَّاعِي، بِخِلَافِ قَوْلِ الْمَانِعِ إِنَّهَا جَوَابٌ لِلدُّعَاءِ فَيَخْتَصُّ بِالْمَأْمُومِ، وَجَوَابُهُ أَنَّ التَّأْمِينَ قَائِمٌ مَقَامَ التَّلْخِيصِ بَعْدَ الْبَسْطِ، فَالدَّاعِي فَصَّلَ الْمَقَاصِدَ بِقَوْلِهِ:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إِلَى آخِرِهِ، وَالْمُؤْمِنُ أَتَى بِكَلِمَةٍ تَشْمَلُ الْجَمِيعَ فَإِنْ قَالَهَا الْإِمَامُ فَكَأَنَّهُ دَعَا مَرَّتَيْنِ مُفَصِّلًا ثُمَّ مُجْمِلًا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ نَافِعٌ إِلَخْ) وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا خَتَمَ أُمَّ الْقُرْآنِ قَالَ آمِينَ لَا يَدَعُ أَنْ يُؤَمِّنَ إِذَا خَتَمَهَا وَيَحُضُّهُمْ عَلَى قَوْلِهَا، قَالَ وَسَمِعْتُ مِنْهُ فِي ذَلِكَ خَيْرًا.
وَقَوْلُهُ: (وَيَحُضُّهُمْ) بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ، وَقَوْلُهُ:(خَيْرًا) بِسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ أَيْ فَضْلًا وَثَوَابًا وَهِيَ رِوَايَةُ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَلِغَيْرِهِ خَبَرًا بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ حَدِيثًا مَرْفُوعًا، وَيُشْعِرُ بِهِ مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا أَمَّنَ النَّاسُ أَمَّنَ مَعَهُمْ وَيَرَى ذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ. وَرِوَايَةُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ مِثْلُ الْأَوَّلِ، وَكَذَلِكَ رُوِّينَاهُ فِي فَوَائِدِ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَمُنَاسَبَةُ أَثَرِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ كَانَ يُؤَمِّنُ إِذَا خَتَمَ الْفَاتِحَةَ، وَذَلِكَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ إِمَامًا أَوْ مَأْمُومًا.
قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) فِي التِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ، عَنْ مَالِكٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ.
قَوْلُهُ: (أَنَّهُمَا أَخْبَرَاهُ) ظَاهِرُهُ أَنَّ لَفْظَهُمَا وَاحِدٌ، لَكِنْ سَيَأْتِي فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ مُغَايَرَةٌ يَسِيرَةٌ لِلَفْظِ الزُّهْرِيِّ.
قَوْلُهُ: (إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا) ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْإِمَامَ يُؤَمِّنُ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ إِذَا دَعَا، وَالْمُرَادُ دُعَاءُ الْفَاتِحَةِ مِنْ قَوْلِهِ:(اهْدِنَا) إِلَى آخِرِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّأْمِينَ دُعَاءٌ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ إِذَا بَلَغَ إِلَى مَوْضِعٍ اسْتَدْعَى التَّأْمِينَ وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَلا الضَّالِّينَ} وَيَرِدُ ذَلِكَ التَّصْرِيحُ بِالْمُرَادِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّأْمِينِ لِلْإِمَامِ، قِيلَ وَفِيهِ نَظَرٌ لِكَوْنِهَا قَضِيَّةً شَرْطِيَّةً، وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّعْبِيرَ بِإِذَا يُشْعِرُ بِتَحْقِيقِ الْوُقُوعِ، وَخَالَفَ مَالِكٌ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ فَقَالَ: لَا يُؤَمِّنُ الْإِمَامُ فِي الْجَهْرِيَّةِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ لَا يُؤَمِّنُ مُطْلَقًا.
وَأَجَابَ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ شِهَابٍ هَذَا بِأَنَّهُ لَمْ يَرَهُ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ، وَهِيَ عِلَّةٌ غَيْرُ قَادِحَةٍ فَإِنَّ ابْنَ شِهَابٍ إِمَامٌ لَا يَضُرُّهُ التَّفَرُّدُ، مَعَ مَا سَيُذْكَرُ قَرِيبًا أَنَّ ذَلِكَ جَاءَ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ، وَرَجَّحَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ كَوْنَ الْإِمَامِ لَا يُؤَمِّنُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى بِأَنَّهُ دَاعٍ فَنَاسَبَ أَنْ يَخْتَصَّ الْمَأْمُومُ بِالتَّأْمِينِ، وَهَذَا يَجِيءُ عَلَى قَوْلِهِمْ إِنَّهُ لَا قِرَاءَةَ عَلَى الْمَأْمُومِ، وَأَمَّا مَنْ أَوْجَبَهَا عَلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ: كَمَا اشْتَرَكَا فِي الْقِرَاءَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَشْتَرِكَا فِي التَّأْمِينِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَوَّلَ قَوْلَهُ إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَقَالَ: مَعْنَاهُ دَعَا، قَالَ وَتَسْمِيَةُ الدَّاعِي مُؤَمِّنًا سَائِغَةٌ لِأَنَّ الْمُؤَمِّنَ يُسَمَّى دَاعِيًا كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} وَكَانَ مُوسَى دَاعِيًا وَهَارُونُ مُؤَمِّنًا كَمَا رَوَاهُ
ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَتُعُقِّبَ بِعَدَمِ الْمُلَازَمَةِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَسْمِيَةِ الْمُؤَمِّنِ دَاعِيًا عَكْسُهُ قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ فِي الْأَصْلِ لَمْ يَصِحَّ، وَلَوْ صَحَّ فَإِطْلَاقُ كَوْنِ هَارُونَ دَاعِيًا إِنَّمَا هُوَ لِلتَّغْلِيبِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى قَوْلِهِ إِذَا أَمَّنَ بَلَغَ مَوْضِعَ التَّأْمِينِ كَمَا يُقَالُ أَنْجَدَ إِذَا بَلَغَ نَجْدًا وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْهَا، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذَا بَعِيدٌ لُغَةً وَشَرْعًا.
وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهَذَا مَجَازٌ، فَإِنْ وُجِدَ دَلِيلٌ يُرَجِّحُهُ عُمِلَ بِهِ وَإِلَّا فَالْأَصْلُ عَدَمُهُ. قُلْتُ: اسْتَدَلُّوا لَهُ بِرِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الْآتِيَةِ بَعْدَ بَابٍ بِلَفْظِ: إِذَا قَالَ الْإِمَامُ وَلَا الضَّالِّينَ فَقُولُوا آمِينَ قَالُوا فَالْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ يَقْتَضِي حَمْلَ قَوْلِهِ إِذَا أَمَّنَ عَلَى الْمَجَازِ. وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ - عَلَى تَسْلِيمِ الْمَجَازِ الْمَذْكُورِ - بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ إِذَا أَمَّنَ أَيْ أَرَادَ التَّأْمِينَ لِيَتَوَافَقَ تَأْمِينُ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ مَعًا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يَقُولَهَا الْإِمَامُ، وَقَدْ وَرَدَ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ الْإِمَامَ يَقُولُهَا وَذَلِكَ فِي رِوَايَةٍ، وَيَدُلُّ عَلَى خِلَافِ تَأْوِيلِهِمْ رِوَايَةُ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِلَفْظِ: إِذَا قَالَ الْإِمَامُ وَلَا الضَّالِّينَ فَقَالُوا آمِينَ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَقُولُ آمِينَ وَإِنَّ الْإِمَامَ يَقُولُ آمِينَ الْحَدِيثَ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالسَّرَّاجُ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي كَوْنِ الْإِمَامِ يُؤَمِّنُ. وَقِيلَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: إِذَا قَالَ وَلَا الضَّالِّينَ فَقُولُوا آمِينَ أَيْ وَلَوْ لَمْ يَقُلِ الْإِمَامُ آمِينَ، وَقِيلَ يُؤْخَذُ مِنَ الْخَبَرَيْنِ تَخْيِيرُ الْمَأْمُومِ فِي قَوْلِهَا مَعَ الْإِمَامِ أَوْ بَعْدَهُ قَالَهُ الطَّبَرِيُّ، وَقِيلَ الْأَوَّلُ لِمَنْ قَرُبَ مِنَ الْإِمَامِ وَالثَّانِي لِمَنْ تَبَاعَدَ عَنْهُ، لِأَنَّ جَهْرَ الْإِمَامِ بِالتَّأْمِينِ أَخْفَضُ مِنْ جَهْرِهِ بِالْقِرَاءَةِ، فَقَدْ يَسْمَعُ قِرَاءَتَهُ مَنْ لَا يَسْمَعُ تَأْمِينَهُ، فَمَنْ سَمِعَ تَأْمِينَهُ أَمَّنَ مَعَهُ، وَإِلَّا يُؤَمِّنْ إِذَا سَمِعَهُ يَقُولُ وَلَا الضَّالِّينَ لِأَنَّهُ وَقْتُ تَأْمِينِهِ قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ.
وَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا مُحْتَمَلَةٌ وَلَيْسَتْ بِدُونِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرُوهُ، وَقَدْ رَدَّهُ ابْنُ شِهَابٍ بِقَوْلِهِ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ آمِينَ كَأَنَّهُ اسْتَشْعَرَ التَّأْوِيلَ الْمَذْكُورَ فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ إِذَا أَمَّنَ حَقِيقَةُ التَّأْمِينِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا فَقَدِ اعْتُضِدَ بِصَنِيعِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَاوِيهِ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ، وَإِذَا تَرَجَّحَ أَنَّ الْإِمَامَ يُؤَمِّنُ فَيَجْهَرُ بِهِ فِي الْجَهْرِيَّةِ كَمَا تَرْجَمَ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، خِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ وَرِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ فَقَالَ: يُسِرُّ بِهِ مُطْلَقًا.
وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ التَّأْمِينُ مَسْمُوعًا لِلْمَأْمُومِ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ وَقَدْ عُلِّقَ تَأْمِينُهُ بِتَأْمِينِهِ، وَأَجَابُوا بِأَنَّ مَوْضِعَهُ مَعْلُومٌ فَلَا يَسْتَلْزِمُ الْجَهْرَ بِهِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُخِلَّ بِهِ فَلَا يَسْتَلْزِمُ عِلْمَ الْمَأْمُومِ بِهِ، وَقَدْ رَوَى رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، عَنْ مَالِكٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَالَ وَلَا الضَّالِّينَ جَهَرَ بِآمِينَ أَخْرَجَهُ السَّرَّاجُ، وَلِابْنِ حِبَّانَ مِنْ رِوَايَةِ الزُّبَيْدِيِّ فِي حَدِيثِ الْبَابِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ رَفَعَ صَوْتَهُ وَقَالَ آمِينَ وَلِلْحُمَيْدِيِّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوُهُ بِلَفْظِ: إِذَا قَالَ وَلَا الضَّالِّينَ وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عَمِّ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُهُ وَزَادَ: حَتَّى يَسْمَعَ مَنْ يَلِيهِ مِنَ الصَّفِّ الْأَوَّلِ وَلِأَبِي دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ نَحْوُ رِوَايَةِ الزُّبَيْدِيِّ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ أَوْمَأَ إِلَى النَّسْخِ فَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ صلى الله عليه وسلم يَجْهَرُ بِالتَّأْمِينِ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ لِيُعَلِّمَهُمْ فَإِنَّ وَائِلَ بْنَ حُجْرٍ إِنَّمَا أَسْلَمَ فِي أَوَاخِرِ الْأَمْرِ.
قَوْلُهُ: (فَأَمِّنُوا) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَأْخِيرِ تَأْمِينِ الْمَأْمُومِ عَنْ تَأْمِينِ الْإِمَامِ لِأَنَّهُ رَتَّبَ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ، لَكِنْ تَقَدَّمَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّ الْمُرَادَ الْمُقَارَنَةُ وَبِذَلِكَ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ: لَا تُسْتَحَبُّ مُقَارَنَةُ الْإِمَامِ فِي شَيْءٍ مِنَ الصَّلَاةِ غَيْرَهُ، قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: يُمْكِنُ تَعْلِيلُهُ بِأَنَّ التَّأْمِينَ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ لَا لِتَأْمِينِهِ، فَلِذَلِكَ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ وَهُوَ وَاضِحٌ. ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِلنَّدْبِ، وَحَكَى ابْنُ بَزِيزَةَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ وُجُوبَهُ عَلَى الْمَأْمُومِ عَمَلًا بِظَاهِرِ الْأَمْرِ، قَالَ: وَأَوْجَبَهُ الظَّاهِرِيَّةُ عَلَى كُلِّ مُصَلٍّ ثُمَّ فِي مُطْلَقِ أَمْرِ الْمَأْمُومِ بِالتَّأْمِينِ أَنَّهُ يُؤَمِّنُ وَلَوْ كَانَ مُشْتَغِلًا بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا هَلْ تَنْقَطِعُ بِذَلِكَ الْمُوَالَاةُ؟
عَلَى وَجْهَيْنِ: أَصَحُّهُمَا لَا تَنْقَطِعُ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ، بِخِلَافِ الْأَمْرِ الَّذِي لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا كَالْحَمْدِ لِلْعَاطِسِ
(1)
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ) زَادَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تُؤَمِّنُ قَبْلَ قَوْلِهِ فَمَنْ وَافَقَ وَكَذَا لِابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي الدَّعَوَاتِ، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْمُوَافَقَةُ فِي الْقَوْلِ وَالزَّمَانِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ الْمُرَادُ الْمُوَافَقَةُ فِي الْإِخْلَاصِ وَالْخُشُوعِ كَابْنِ حِبَّانَ فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ: يُرِيدُ مُوَافَقَةَ الْمَلَائِكَةِ فِي الْإِخْلَاصِ بِغَيْرِ إِعْجَابٍ، وَكَذَا جَنَحَ إِلَيْهِ غَيْرُهُ فَقَالَ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ الْمَحْمُودَةِ، أَوْ فِي إِجَابَةِ الدُّعَاءِ، أَوْ فِي الدُّعَاءِ بِالطَّاعَةِ خَاصَّةً، أَوِ الْمُرَادُ بِتَأْمِينِ الْمَلَائِكَةِ اسْتِغْفَارُهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: الْحِكْمَةُ فِي إِيثَارِ الْمُوَافَقَةِ فِي الْقَوْلِ وَالزَّمَانِ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُومُ عَلَى يَقَظَةٍ لِلْإِتْيَانِ بِالْوَظِيفَةِ فِي مَحَلِّهَا، لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا غَفْلَةَ عِنْدَهُمْ، فَمَنْ وَافَقَهُمْ كَانَ مُتَيَقِّظًا. ثُمَّ إِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ الْمُرَادَ بالْمَلَائِكَة جَمِيعُهُمْ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ بَزِيزَةَ. وَقِيلَ: الْحَفَظَةُ مِنْهُمْ، وَقِيلَ الَّذِينَ يَتَعَاقَبُونَ مِنْهُمْ إِذَا قُلْنَا إِنَّهُمْ غَيْرُ الْحَفَظَةِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ مَنْ يَشْهَدُ تِلْكَ الصَّلَاةَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مِمَّنْ فِي الْأَرْضِ أَوْ فِي السَّمَاءِ.
وَسَيَأْتِي فِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ بَعْدَ بَابٍ وَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ فِي السَّمَاءِ آمِينَ وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو الْآتِيَةِ أَيْضًا فَوَافَقَ ذَلِكَ قَوْلَ أَهْلِ السَّمَاءِ وَنَحْوِهَا لِسُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: صُفُوفُ أَهْلِ الْأَرْضِ عَلَى صُفُوفِ أَهْلِ السَّمَاءِ، فَإِذَا وَافَقَ آمِينَ فِي الْأَرْضِ آمِينَ فِي السَّمَاءِ غُفِرَ لِلْعَبْدِ انْتَهَى. وَمِثْلُهُ لَا يُقَالُ بِالرَّأْيِ فَالْمَصِيرُ إِلَيْهِ أَوْلَى.
قَوْلُهُ: (غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) ظَاهِرُهُ غُفْرَانُ جَمِيعِ الذُّنُوبِ الْمَاضِيَةِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ عَلَى الصَّغَائِرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ عُثْمَانَ فِيمَنْ تَوَضَّأَ كَوُضُوئِهِ صلى الله عليه وسلم فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ.
(فَائِدَةٌ): وَقَعَ فِي أَمَالِي الْجُرْجَانِيِّ، عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ الْأَصَمِّ، عَنْ بَحْرِ بْنِ نَصْرٍ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَمَا تَأَخَّرَ وَهِيَ زِيَادَةٌ شَاذَّةٌ وقَدْ رَوَاهُ ابْنُ الْجَارُودِ فِي الْمُنْتَقَى عَنْ بَحْرِ بْنِ نَصْرٍ بِدُونِهَا، وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ حَرْمَلَةَ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ وَهْبٍ وَكَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَّا أَنِّي وَجَدْتُهُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنِ ابْنِ مَاجَهْ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِإِثْبَاتِهَا، وَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَدْ رَوَاهُ فِي مُسْنَدِهِ وَمُصَنَّفِهِ بِدُونِهَا، وَكَذَلِكَ حُفَّاظُ أَصْحَابِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، الْحُمَيْدِيِّ، وَابْنِ الْمَدِينِيِّ وَغَيْرُهُمَا. وَلَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى ضَعِيفَةٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي فَرْوَةَ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُثْمَانَ، وَالْوَلِيدِ ابْنَيْ سَاجٍ، عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ) هُوَ مُتَّصِلٌ إِلَيْهِ بِرِوَايَةِ مَالِكٍ عَنْهُ، وَأَخْطَأَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُعَلَّقٌ. ثُمَّ هُوَ مِنْ مَرَاسِيلِ ابْنِ شِهَابٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا وَجْهَ اعْتِضَادِهِ. وَرُوِيَ عَنْهُ مَوْصُولًا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْغَرَائِبِ وَالْعِلَلِ مِنْ طَرِيقِ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ الْعَدَنِيِّ، عَنْ مَالِكٍ عَنْهُ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ حَفْصُ بْنُ عُمَرَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَفِي الْحَدِيثِ حُجَّةٌ عَلَى الْإِمَامِيَّةِ
(2)
فِي قَوْلِهِمْ إِنَّ التَّأْمِينَ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِلَفْظِ قُرْآنٍ وَلَا ذِكْرٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُهُمْ مَا نُقِلَ عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ أَنَّ مَعْنَى آمِينَ أَيْ قَاصِدِينَ إِلَيْكَ، وَبِهِ تَمَسَّكَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ بِالْمَدِّ وَالتَّشْدِيدِ، وَصَرَّحَ الْمُتَوَلِّي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ مَنْ قَالَهُ هَكَذَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَفِيهِ فَضِيلَةُ الْإِمَامِ لِأَنَّ تَأْمِينَ الْإِمَامِ يُوَافِقُ
(1)
الصواب أن تأمين المأموم وحده إذا عطس لايقطع عليه قراءته لكونه شيئا يسيرا مشروعا. والله أعلم
(2)
ما كان يحسن من الشارح أن يذكر خلاف الإمامية، لأنها طائفة ضالة، وهي من أخبث طوائف الشيعة. وقد سبق للشارح أن خلاف الزيدية لايعتبر، والإمامية شر من الزيدية وكلاهما من الشيعة وليسوا أهلا لأن يذكر خلافهم في مسائل الإجماع والخلاف. والله أعلم
تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ، وَلِهَذَا شُرِعَتْ لِلْمَأْمُومِ مُوَافَقَتُهُ. وَظَاهِرُ سِيَاقِ الْأَمْرِ أَنَّ الْمَأْمُومَ إِنَّمَا يُؤَمِّنُ إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ لَا إِذَا تَرَكَ، وَقَالَ بِهِ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الذَّخَائِرِ وَهُوَ مُقْتَضَى إِطْلَاقِ الرَّافِعِيِّ الْخِلَافَ.
وَادَّعَى النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ الِاتِّفَاقَ عَلَى خِلَافِهِ، وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُومَ يُؤَمِّنُ وَلَوْ تَرَكَهُ الْإِمَامُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْقُرْطُبِيُّ عَلَى تَعْيِينِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ لِلْإِمَامِ، وَعَلَى أَنَّ الْمَأْمُومَ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ فِيمَا جَهَرَ بِهِ إِمَامُهُ، فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ أَنَّ التَّأْمِينَ مُخْتَصٌّ بِالْفَاتِحَةِ فَظَاهِرُ السِّيَاقِ يَقْتَضِي أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ كَانَت أَمْرًا مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ، وَأَمَّا الثَّانِي فَقَدْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُومَ لَا يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ حَالَ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ لَهَا لَا أَنَّهُ لَا يَقْرَؤُهَا أَصْلًا.
112 - بَاب فَضْلِ التَّأْمِينِ
781 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا قَالَ أَحَدُكُمْ آمِينَ، وَقَالَتْ الْمَلَائِكَةُ فِي السَّمَاءِ آمِينَ فَوَافَقَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ التَّأْمِينِ) أَوْرَدَ فِيهِ رِوَايَةَ الْأَعْرَجِ لِأَنَّهَا مُطْلَقَةٌ غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ بِحَالِ الصَّلَاةِ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَأَيُّ فَضْلٍ أَعْظَمَ مِنْ كَوْنِهِ قَوْلًا يَسِيرًا لَا كُلْفَةَ فِيهِ، ثُمَّ قَدْ تَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ الْمَغْفِرَةُ، اهـ. ويؤخذ منه مشروعية التأمين لكل من قرأ الفاتحة سواء كان داخل الصلاة أو خارجها لقوله: إذا قال أحدكم، لكن في رواية مسلم من هذا الوجه: إذا قال أحدكم في صلاته فيحمل المطلق على المقيد. نعم في رواية همام عن أبي هريرة عند أحمد - وساق مسلم إسنادها -: إذا أمن القارئ فأمنوا فهذا يمكن حمله على الإطلاق فيستحب التأمين إذا أمن القارئ مطلقا لكل من سمعه من مصل أو غيره. ويمكن أن يقال: المراد بالقارئ الإمام إذا قرأ الفاتحة. فإن الحديث واحد اختلفت ألفاظه. واستدل به بعض المعتزلة على أن الملائكة أفضل من الآدميين، وسيأتي البحث في ذلك في باب الملائكة من بدء الخلق إن شاء الله تعالى.
113 - باب جَهْرِ الْمَأْمُومِ بِالتَّأْمِينِ
782 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا قَالَ الْإِمَامُ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فَقُولُوا: آمِينَ، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، تَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنُعَيْمٌ الْمُجْمِرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه.
[الحديث 782 - طرفه في: 4475]
قَوْلُهُ: (بَابُ جَهْرِ الْمَأْمُومِ بِالتَّأْمِينِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْحَمَوِيِّ جَهْرِ الْإِمَامِ بِآمِينَ وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ لِئَلَّا يَتَكَرَّرَ.
قَوْلُهُ: (مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ) أَيِ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ.
قَوْلُهُ: (إِذَا قَالَ الْإِمَامُ إِلَخْ) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ لَا يُؤَمِّنُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ قَبْلُ، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: مُنَاسَبَةُ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ
أَنَّ فِي الْحَدِيثِ الْأَمْرَ بِقَوْلِ آمِينَ، وَالْقَوْلُ إِذَا وَقَعَ بِهِ الْخِطَابُ مُطْلَقًا حُمِلَ عَلَى الْجَهْرِ، وَمَتَى أُرِيدَ بِهِ الْإِسْرَارُ أَوْ حَدِيثُ النَّفْسِ قُيِّدَ بِذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: تُؤْخَذُ الْمُنَاسَبَةُ مِنْهُ مِنْ جِهَاتٍ: مِنْهَا أَنَّهُ قَالَ: إِذَا قَالَ الْإِمَامُ فَقُولُوا فَقَابَلَ الْقَوْلَ بِالْقَوْلِ، وَالْإِمَامُ إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ جَهْرًا فَكَانَ الظَّاهِرُ الِاتِّفَاقَ فِي الصِّفَةِ. وَمِنْهَا أَنَّهُ قَالَ فَقُولُوا وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِجَهْرٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَهُوَ مُطْلَقٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ، وَقَدْ عُمِلَ بِهِ فِي الْجَهْرِ بِدَلِيلِ مَا تَقَدَّمَ يَعْنِي فِي مَسْأَلَةِ الْإِمَامِ، وَالْمُطْلَقُ إِذَا عُمِلَ بِهِ فِي صُورَةٍ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً فِي غَيْرِهَا بِاتِّفَاقٍ. وَمِنْهَا أَنَّهُ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَأْمُومَ مَأْمُورٌ بِالِاقْتِدَاءِ بِالْإِمَامِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْإِمَامَ يَجْهَرُ فَلَزِمَ جَهْرُهُ بِجَهْرِهِ اهـ.
وَهَذَا الْأَخِيرُ سَبَقَ إِلَيْهِ ابْنُ بَطَّالٍ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَجْهَرَ الْمَأْمُومُ بِالْقِرَاءَةِ لِأَنَّ الْإِمَامَ جَهَرَ بِهَا، لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يَنْفَصِلَ عَنْهُ بِأَنَّ الْجَهْرَ بِالْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ قَدْ نُهِيَ عَنْهُ، فَبَقِيَ التَّأْمِينُ دَاخِلًا تَحْتَ عُمُومِ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ الْإِمَامِ، وَيَتَقَوَّى ذَلِكَ بِمَا تَقَدَّمَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ مَنْ خَلْفَ ابْنِ الزُّبَيْرِ كَانُوا يُؤَمِّنُونَ جَهْرًا، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: أَدْرَكْتُ مِائَتَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْمَسْجِدِ إِذَا قَالَ الْإِمَامُ وَلَا الضَّالِّينَ سَمِعْتُ لَهُمْ رَجَّةً بِآمِينَ. وَالْجَهْرُ لِلْمَأْمُومِ ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: قَالَ الْأَكْثَرُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ يَجْهَرُ.
قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو) أَيْ ابن عَلْقَمَةُ اللَّيْثِيُّ، وَمُتَابَعَتُهُ وَصَلَهَا أَحْمَدُ، وَالدَّارِمِيُّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو نَحْوَ رِوَايَةِ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، وَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ: فَوَافَقَ ذَلِكَ قَوْلَ أَهْلِ السَّمَاءِ.
قَوْلُهُ: (وَنُعَيْمٌ الْمُجْمِرُ) بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلى مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، وَأَغْرَبَ الْكِرْمَانِيُّ فَقَالَ: حَاصِلُهُ أَنَّ سُمَيًّا وَمُحَمَّدَ بْنَ عَمْرٍو، وَنُعَيْمًا ثَلَاثَتُهُمْ رَوَى عَنْهُمْ مَالِكٌ هَذَا الْحَدِيثَ، لَكِنَّ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ رَوَيَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِالْوَاسِطَةِ وَنُعَيْمٌ بِدُونِهَا، وَهَذَا جَزْمٌ مِنْهُ بِشَيْءٍ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، وَلَمْ يَرْوِ مَالِكٌ طَرِيقَ نُعَيْمٍ وَلَا طَرِيقَ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو أَصْلًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَنْ وَصَلَ طَرِيقَ مُحَمَّدٍ، وَأَمَّا طَرِيقُ نُعَيْمٍ فَرَوَاهَا النَّسَائِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالسَّرَّاجُ، وَابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ عَنْ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ قَالَ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثُمَّ قَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ حَتَّى بَلَغَ وَلَا الضَّالِّينَ فَقَالَ آمِينَ وَقَالَ النَّاسُ آمِينَ، وَيَقُولُ كُلَّمَا سَجَدَ اللَّهُ أَكْبَرُ، وَإِذَا قَامَ مِنَ الْجُلُوسِ فِي الِاثْنَتَيْنِ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ، وَيَقُولُ إِذَا سَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لَأَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَوَّبَ النَّسَائِيُّ عَلَيْهِ الْجَهْرُ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَهُوَ أَصَحُّ حَدِيثٍ وَرَدَ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ تُعُقِّبَ اسْتِدْلَالُهُ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ أَشْبَهُكُمْ أَيْ فِي مُعْظَمِ الصَّلَاةِ لَا فِي جَمِيعِ أَجْزَائِهَا، وَقَدْ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ غَيْرُ نُعَيْمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِدُونِ ذِكْرِ الْبَسْمَلَةِ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا، وَالْجَوَابُ أَنَّ نُعَيْمًا ثِقَةٌ فَتُقْبَلُ زِيَادَتُهُ، وَالْخَبَرُ ظَاهِرٌ فِي جَمِيعِ الْأَجْزَاءِ فَيُحْمَلُ عَلَى عُمُومِهِ حَتَّى يَثْبُتَ دَلِيلٌ يُخَصِّصُهُ.
(تَنْبِيهٌ): عُرِفَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ مُتَابَعَةَ نُعَيْمٍ فِي أَصْلِ إِثْبَاتِ التَّأْمِينِ فَقَطْ، بِخِلَافِ مُتَابَعَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
114 - بَاب إِذَا رَكَعَ دُونَ الصَّفِّ
783 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ الْأَعْلَمِ - وَهُوَ زِيَادٌ - عَنْ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ رَاكِعٌ ف رَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الصَّفِّ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا رَكَعَ دُونَ الصَّفِّ) كَانَ اللَّائِقُ إِيرَادَ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ فِي أَبْوَابِ الْإِمَامَةِ، وَقَدْ سَبَقَ هُنَاكَ تَرْجَمَةُ الْمَرْأَةُ وَحْدَهَا تَكُونُ صَفًّا وَذَكَرْتُ هُنَاكَ أَنَّ ابْنَ بَطَّالٍ اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ أَنَسٍ الْمَذْكُورِ فِيهِ فِي صَلَاةِ أُمِّ سُلَيْمٍ لِصِحَّةِ صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ خَلْفَ الصَّفِّ إِلْحَاقًا لِلرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ، ثُمَّ وَجَدْتُهُ مَسْبُوقًا بِالِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ كِبَارِ الْأَئِمَّةِ، لَكِنَّهُ مُتَعَقَّبٌ، وَأَقْدَمُ مَنْ وَقَفْتُ عَلَى كَلَامِهِ مِمَّنْ تَعَقَّبَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فَقَالَ: لَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ لِأَنَّ صَلَاةَ الْمَرْءِ خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ مَنْهِيٌّ عَنْهَا بِاتِّفَاقٍ مِمَّنْ يَقُولُ تُجْزِئُهُ أَوْ لَا تُجْزِئُهُ، وَصَلَاةُ الْمَرْأَةِ وَحْدَهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ امْرَأَةٌ أُخْرَى مَأْمُورٌ بِهَا بِاتِّفَاقٍ، فَكَيْفَ يُقَاسُ مَأْمُورٌ عَلَى مَنْهِيٍّ؟ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ نَظَرَ إِلَى مُطْلَقِ الْجَوَازِ حَمْلًا لِلنَّهْيِ عَلَى التَّنْزِيهِ وَالْأَمْرِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَقَالَ نَاصِرُ الدِّينِ ابْنُ الْمُنِيرِ: هَذِهِ التَّرْجَمَةُ مِمَّا نُوزِعَ فِيهَا الْبُخَارِيُّ حَيْثُ لَمْ يَأْتِ: بِجَوَابِ إِذَا لِإِشْكَالِ الْحَدِيثِ وَاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ وَلَا تَعُدْ.
قَوْلُهُ: (عَنِ الْأَعْلَمِ هُوَ زِيَادٌ) فِي رِوَايَةٍ عَنْ عَفَّانَ عَنْ هَمَّامٍ، حَدَّثَنَا زِيَادٌ الْأَعْلَمُ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزِيَادٌ هُوَ ابْنُ حَسَّانَ بْنُ قُرَّةَ الْبَاهِلِيُّ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ، قِيلَ لَهُ الْأَعْلَمُ لِأَنَّهُ كَانَ مَشْقُوقَ الشَّفَةِ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.
قَوْلُهُ: (عَنِ الْحَسَنِ) هُوَ الْبَصْرِيُّ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي بَكْرَةَ) هُوَ الثَّقَفِيُّ، وَقَدْ أَعَلَّهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْحَسَنَ عَنْعَنَهُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي بَكْرَةَ وَإِنَّمَا يُرْوَى عَنِ الْأَحْنَفِ عَنْهُ، وَرُدَّ هَذَا الْإِعْلَالُ بِرِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنِ الْأَعْلَمِ قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَسَنُ أَنَّ أَبَا بَكْرَةَ حَدَّثَهُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.
قَوْلُهُ: (أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) فِي رِوَايَةِ سَعِيدٍ الْمَذْكُورَةِ أَنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ زَادَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ وَقَدْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَانْطَلَقَ يَسْعَى وَلِلطَّحَاوِيِّ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنِ الْأَعْلَمِ وَقَدْ حَفَزَهُ النَّفَسُ.
قَوْلُهُ: (فَذَكَرَ ذَلِكَ) فِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ: فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَيُّكُمْ دَخَلَ الصَّفَّ وَهُوَ رَاكِعٌ.
قَوْلُهُ: (زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا) أَيْ عَلَى الْخَيْرِ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: صَوَّبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِعْلَ أَبِي بَكْرَةَ مِنَ الْجِهَةِ الْعَامَّةِ وَهِيَ الْحِرْصُ عَلَى إِدْرَاكِ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ، وَخَطَّأَهُ مِنَ الْجِهَةِ الْخَاصَّةِ.
قَوْلُهُ: (وَلَا تَعُدْ) أَيْ إِلَى مَا صَنَعْتَ مِنَ السَّعْيِ الشَّدِيدِ ثُمَّ الرُّكُوعِ دُونَ الصَّفِّ ثُمَّ مِنَ الْمَشْيِ إِلَى الصَّفِّ، وَقَدْ وَرَدَ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ صَرِيحًا فِي طُرُقِ حَدِيثِهِ كَمَا تَقَدَّمَ بَعْضُهَا، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَذْكُورَةِ فَقَالَ مَنِ السَّاعِي. وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ عند الطَّبَرَانِيِّ: فَقَالَ أَيُّكُمْ صَاحِبُ هَذَا النَّفَسِ؟ قَالَ: خَشِيتُ أَنْ تَفُوتَنِي الرَّكْعَةُ مَعَكَ، وَلَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: صَلِّ مَا أَدْرَكْتَ وَاقْضِ مَا سَبَقَكَ، وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ: أَيُّكُم الرَّاكِعُ دُونَ الصَّفِّ وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَتِهِ قَرِيبًا: أَيُّكُمْ دَخَلَ الصَّفَّ وَهُوَ رَاكِعٌ وَتَمَسَّكَ الْمُهَلَّبُ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ الْأَخِيرَةِ فَقَالَ: إِنَّمَا قَالَ لَهُ لَا تَعُدْ لِأَنَّهُ مَثَّلَ بِنَفْسِهِ فِي مَشْيِهِ رَاكِعًا لِأَنَّهَا كَمِشْيَةِ الْبَهَائِمِ اهـ.
وَلَمْ يَنْحَصِرِ النَّهْيُ فِي ذَلِكَ كَمَا حَرَّرْتُهُ، وَلَوْ كَانَ مُنْحَصِرًا لَاقْتَضَى ذَلِكَ عَدَمَ الْكَرَاهَةِ فِي إِحْرَامِ الْمُنْفَرِدِ خَلْفَ الصَّفِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَقْلُ الِاتِّفَاقِ عَلَى كَرَاهِيَتِهِ، وَذَهَبَ إِلَى تَحْرِيمِهِ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ وَبَعْضُ مُحَدِّثِي الشَّافِعِيَّةِ كَابْنِ خُزَيْمَةَ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ. أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُمَا. وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ شَيْبَانَ نَحْوُهُ وَزَادَ: لَا صَلَاةَ لِمُنْفَرِدٍ خَلْفَ الصَّفِّ، وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ بِحَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِي حَدِيثِ وَابِصَةَ لِلِاسْتِحْبَابِ لِكَوْنِ أَبِي بَكْرَةَ أَتَى بِجُزْءٍ مِنَ الصَّلَاةِ خَلْفَ الصَّفِّ وَلَمْ يُؤْمَرْ بِالْإِعَادَةِ، لَكِنْ نُهِيَ عَنِ الْعَوْدِ إِلَى ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ أُرْشِدَ إِلَى مَا هُوَ الْأَفْضَلُ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِيمَنْ صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ فَقَالَ: صَلَاتُهُ تَامَّةٌ وَلَيْسَ لَهُ تَضْعِيفٌ،
وَجَمَعَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِوَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ حَدِيثَ أَبِي بَكْرَةَ مُخَصِّصٌ لِعُمُومِ حَدِيثِ وَابِصَةَ، فَمَنِ ابْتَدَأَ الصَّلَاةَ مُنْفَرِدًا خَلْفَ الصَّفِّ ثُمَّ دَخَلَ فِي الصَّفِّ قَبْلَ الْقِيَامِ مِنَ الرُّكُوعِ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ، وَإِلَّا فَتَجِبُ عَلَى عُمُومِ حَدِيثِ وَابِصَةَ، وَعَلِيِّ بْنِ شَيْبَانَ.
وَاسْتَنْبَطَ بَعْضُهُمْ مِنْ قَوْلِهِ لَا تَعُدْ أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ كَانَ جَائِزًا ثُمَّ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ لَا تَعُدْ، فَلَا يَجُوزُ الْعَوْدُ إِلَى مَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْبُخَارِيِّ فِي جُزْءِ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ وَيُؤْخَذُ مِمَّا حَرَّرْتُهُ جَوَابُ مَنْ قَالَ: لِمَ لَا دَعَا لَهُ بِعَدَمِ الْعَوْدِ إِلَى ذَلِكَ كَمَا دَعَا لَهُ بِزِيَادَةِ الْحِرْصِ؟ وَأَجَابَ بِأَنَّهُ جُوِّزَ أَنَّهُ رُبَّمَا تَأَخَّرَ فِي أَمْرٍ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ إِدْرَاكِ أَوَّلِ الصَّلَاةِ اهـ. وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا وَقَعَ عَنِ التَّأْخِيرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
(تَنْبِيهٌ): قَوْلُهُ وَلَا تَعُدْ ضَبَطْنَاهُ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ الْعَيْنِ مِنَ الْعَوْدِ، وَحَكَى بَعْضُ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ أَنَّهُ رُوِيَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ مِنَ الْإِعَادَةِ، وَيُرَجِّحُ الرِّوَايَةَ الْمَشْهُورَةَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي آخِرِهِ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ: صَلِّ مَا أَدْرَكْتَ وَاقْضِ مَا سَبَقَكَ، وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: إِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الصَّلَاةَ فَلَا يَرْكَعْ دُونَ الصَّفِّ حَتَّى يَأْخُذَ مَكَانَهُ مِنَ الصَّفِّ، وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى اسْتِحْبَابِ مُوَافَقَةِ الدَّاخِلِ لِلْإِمَامِ عَلَى أَيِّ حَالٍ وَجَدَهُ عَلَيْهَا، وَقَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِذَلِكَ صَرِيحًا فِي سُنَنِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنْ أُنَاسٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ وَجَدَنِي قَائِمًا أَوْ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا فَلْيَكُنْ مَعِي عَلَى الْحَالِ الَّتِي أَنَا عَلَيْهَا، وَفِي التِّرْمِذِيِّ نَحْوُهُ عَنْ عَلِيٍّ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ مَرْفُوعًا وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، لَكِنَّهُ يَنْجَبِرُ بِطَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ الْمَذْكُورَةِ.
115 - بَاب إِتْمَامِ التَّكْبِيرِ فِي الرُّكُوعِ
قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وفِيهِ مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ
784 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْوَاسِطِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: صَلَّى مَعَ عَلِيٍّ رضي الله عنه بِالْبَصْرَةِ فَقَالَ: ذَكَّرَنَا هَذَا الرَّجُلُ صَلَاةً كُنَّا نُصَلِّيهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ كُلَّمَا رَفَعَ وَكُلَّمَا وَضَعَ.
[الحديث 784 - طرفاه في: 826، 786]
785 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بِهِمْ فَيُكَبِّرُ كُلَّمَا خَفَضَ وَرَفَعَ فَإِذَا انْصَرَفَ قَالَ إِنِّي لَاشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "
[الحديث 785 - أطرافه في: 8003، 795، 789]
قَوْلُهُ: (بَابُ إِتْمَامِ التَّكْبِيرِ فِي الرُّكُوعِ) أَيْ مَدِّهِ بِحَيْثُ يَنْتَهِي بِتَمَامِهِ، أَوِ الْمُرَادُ إِتْمَامُ عَدَدِ تَكْبِيرَاتِ الصَّلَاةِ بِالتَّكْبِيرِ فِي الرُّكُوعِ قَالَهُ الْكِرْمَانِيُّ. قُلْتُ: وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِلَفْظِ الْإِتْمَامِ الْإِشَارَةَ إِلَى تَضْعِيفِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُتِمَّ التَّكْبِيرَ، وَقَدْ نَقَلَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ عَنْ أبي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ أَنَّهُ قَالَ: هَذَا عِنْدَنَا بَاطِلٌ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ، وَالْبَزَّارُ: تَفَرَّدَ بِهِ الْحَسَنُ بْنُ عِمْرَانَ وَهُوَ مَجْهُولٌ، وَأُجِيبَ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ بِأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، أَوِ الْمُرَادُ لَمْ يُتِمَّ الْجَهْرَ بِهِ أَوْ لَمْ يَمُدَّهُ.
قَوْلُهُ: (قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أَيِ الْإِتْمَامَ
وَمُرَادُهُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ بِالْمَعْنَى، لِأَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى حَدِيثِهِ الْمَوْصُولِ فِي آخِرِ الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ وَفِيهِ قَوْلُهُ لِعِكْرِمَةَ لَمَّا أَخْبَرَهُ عَنِ الرَّجُلِ الَّذِي كَبَّرَ فِي الظُّهْرِ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ تَكْبِيرَةً إِنَّهَا صَلَاةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ أَنَّهُ نُقِلَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِتْمَامُ التَّكْبِيرِ، لِأَنَّ الرُّبَاعِيَّةَ لَا يَقَعُ فِيهَا لِذَاتِهَا أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْ لَازِمِ ذَلِكَ التَّكْبِيرُ فِي الرُّكُوعِ. وَهَذَا يُبْعِدُ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ.
قَوْلُهُ: (وَفِيهِ مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ) أَيْ يَدْخُلُ فِي الْبَابِ حَدِيثُ مَالِكٍ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ الْمُؤَلِّفُ بَعْدَ أَبْوَابٍ فِي بَابِ الْمُكْثِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَلَفْظُهُ: فَقَامَ ثُمَّ رَكَعَ فَكَبَّرَ.
قَوْلُهُ: (أخبرنا خَالِدٌ) هُوَ الطَّحَّانُ، وَالْجَرِيرِيُّ هُوَ سَعِيدٌ، وَأَبُو الْعَلَاءِ هُوَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ أَخُو مُطَرِّفٍ الَّذِي رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْهُ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ وَفِيهِ رِوَايَةُ الْأَقْرَانِ وَالْإِخْوَةِ.
قَوْلُهُ: (صَلَّى) أَيْ عِمْرَانُ (مَعَ عَلِيٍّ) أَيِ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ (بِالْبَصْرَةِ) يَعْنِي بَعْدَ وَقْعَةِ الْجَمَلِ.
قَوْلُهُ: (ذَكرَنَا) بِتَشْدِيدِ الْكَافِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ التَّكْبِيرَ الَّذِي ذَكَرَهُ كَانَ قَدْ تُرِكَ، وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ، وَالطَّحَاوِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: ذَكَّرَنَا عَلِيٌّ صَلَاةً كُنَّا نُصَلِّيهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِمَّا نَسِينَاهَا وَإِمَّا تَرَكْنَاهَا عَمْدًا وَلِأَحْمَدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُطَرِّفٍ قَالَ: قُلْنَا - يَعْنِي لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - يَا أَبَا نُجَيْدٍ، هُوَ بِالنُّونِ وَالْجِيمِ مُصَغَّرٌ، مَنْ أَوَّلُ مَنْ تَرَكَ التَّكْبِيرَ؟ قَالَ: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ حِينَ كَبَّرَ وَضَعُفَ صَوْتُهُ. وَهَذَا يُحْتَمَلُ إِرَادَةَ تَرْكِ الْجَهْرِ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ تَرَكَ التَّكْبِيرَ مُعَاوِيَةُ. وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ تَرَكَهُ زِيَادٌ. وَهَذَا لَا يُنَافِي الَّذِي قَبْلَهُ لِأَنَّ زِيَادًا تَرَكَهُ بِتَرْكِ مُعَاوِيَةَ، وَكَأَنَّ مُعَاوِيَةَ تَرَكَهُ بِتَرْكِ عُثْمَانَ.
وَقَدْ حَمَلَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى الْإِخْفَاءِ، وَيُرَشِّحُهُ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْآتِي فِي بَابِ يُكَبِّرُ وَهُوَ يَنْهَضُ مِنَ السَّجْدَتَيْنِ، لَكِنْ حَكَى الطَّحَاوِيُّ أَنَّ قَوْمًا كَانُوا يَتْرُكُونَ التَّكْبِيرَ فِي الْخَفْضِ دُونَ الرَّفْعِ، قَالَ: وَكَذَلِكَ كَانَتْ بَنُو أُمَيَّةَ تَفْعَلُ، وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ نَحْوَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ كَانَ لَا يُكَبِّرُ سِوَى تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْمُنْفَرِدِ وَغَيْرِهِ، وَوَجَّهَهُ بِأَنَّ التَّكْبِيرَ شُرِعَ لِلْإِيذَانِ بِحَرَكَةِ الْإِمَامِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُنْفَرِدُ، لَكِنِ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّكْبِيرِ فِي الْخَفْضِ وَالرَّفْعِ لِكُلِّ مُصَلٍّ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى نَدْبِيَّةِ مَا عَدَا تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ. وَعَنْ أَحْمَدَ وَبَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالظَّاهِرِ يَجِبُ كُلُّهُ
(1)
قَالَ نَاصِرُ الدِّينِ بْنُ الْمُنِيرِ: الْحِكْمَةُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ التَّكْبِيرِ فِي الْخَفْضِ وَالرَّفْعِ أَنَّ الْمُكَلَّفَ أُمِرَ بِالنِّيَّةِ أَوَّلَ الصَّلَاةِ مَقْرُونَةً بِالتَّكْبِيرِ، وَكَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَسْتَصْحِبَ النِّيَّةَ إِلَى آخِرِ الصَّلَاةِ، فَأُمِرَ أَنْ يُجَدِّدَ الْعَهْدَ فِي أَثْنَائِهَا بِالتَّكْبِيرِ الَّذِي هُوَ شِعَارُ النِّيَّةِ
(2)
.
قَوْلُهُ: (كُلَّمَا رَفَعَ وَكُلَّمَا وَضَعَ) هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الِانْتِقَالَاتِ فِي الصَّلَاةِ، لَكِنْ خُصَّ مِنْهُ الرَّفْعُ مِنَ الرُّكُوعِ بِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّهُ شُرِعَ فِيهِ التَّحْمِيدُ، وَقَدْ جَاءَ بِهَذَا اللَّفْظِ الْعَامِّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْبَابِ، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عند الدَّارِمِيِّ، وَالطَّحَاوِيِّ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَمِنْ حَدِيثِ
(1)
وهذا القول أظهر من حيث الدليل، لأن الرسول ثلى الله عليه وسلم حافظ عليه وأمر به، وأصل الأمر للوجوب، وقد قال صلى الله عليه وسلم " صلوا كما رأيتموني أصلى ". وأما ماروى عن عثمان ومعاوية من عدم إتمام التكبير فهو محمول على عدم الجهر بذلك لا أنهما تركاه إحسانا للظن بهما، وعلى تسليم أن الترك وقع منهما فالحجة مقدمة على رأيهما رضي الله عنهما وعن سائر الصحابة أجمعين. والله أعلم.
(2)
ولو قيل إن الحكمة في شرعية تكرار التكبير تنبيه المصلي على أن الله سبحانه أكبر من كل كبير وأعظم من كل عظيم فلا ينبغى التشاغل عن طاعته من الأشياء، بل ينبغي الإقبال عليها بالقلب والقالب، والخشوع فيها تعظيما له سبحانه وطلبا لرضاه، لكان ذلك متوجها، والله أعلم.
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، وَمِنْ حَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ، وَمِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ الْبَزَّارِ، وَسَيَأْتِي مُفَسَّرًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيهِ.
785 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بِهِمْ فَيُكَبِّرُ كُلَّمَا خَفَضَ وَرَفَعَ، فَإِذَا انْصَرَفَ قَالَ: إِنِّي لَأَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ (يُصَلِّي بِهِمْ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ يُصَلِّي لَهُمْ.
116 - بَاب إِتْمَامِ التَّكْبِيرِ فِي السُّجُودِ
786 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ غَيْلَانَ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه أَنَا وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ فَكَانَ إِذَا سَجَدَ كَبَّرَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ كَبَّرَ، وَإِذَا نَهَضَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ كَبَّرَ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ أَخَذَ بِيَدِي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ فَقَالَ: قَدْ ذَكَّرَنِي هَذَا صَلَاةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَوْ قَالَ - لَقَدْ صَلَّى بِنَا صَلَاةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
787 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ قَالَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ رَأَيْتُ رَجُلًا عِنْدَ الْمَقَامِ يُكَبِّرُ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ وَإِذَا قَامَ وَإِذَا وَضَعَ فَأَخْبَرْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ أو ليس تِلْكَ صَلَاةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا أُمَّ لَكَ "
[الحديث 787 - طرفه: في 788]
قَوْلُهُ: (بَابُ إِتْمَامِ التَّكْبِيرِ فِي السُّجُودِ) فِيهِ مَا تَقَدَّمَ فِي الَّذِي قَبْلَهُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا حَمَّادٌ) هُوَ ابْنُ زَيْدٍ.
قَوْلُهُ: (صَلَّيْتُ خَلْفَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَا وَعِمْرَانُ) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَوْقِفَ الِاثْنَيْنِ يَكُونُ خَلْفَ الْإِمَامِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ يَجْعَلُ أَحَدَهُمَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرَ عَنْ شِمَالِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمَا غَيْرُهُمَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِالْبَصْرَةِ وَكَذَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ رِوَايَةِ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ عِمْرَانَ، وَوَقَعَ لِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ غَيْلَانَ بِالْكُوفَةِ، وَكَذَا لِعَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ وَغَيْرِ وَاحِدٍ عَنْ مُطَرِّفٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَقَعَ مِنْهُ بِالْبَلَدَيْنِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْعَلَاءِ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ وَهُنَا بِذِكْرِ السُّجُودِ وَالرَّفْعِ وَالنُّهُوضِ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ فَقَطْ فَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ الثَّلَاثَةَ هِيَ الَّتِي كَانَ تُرِكَ التَّكْبِيرُ فِيهَا حَتَّى تَذَكَّرَهَا عِمْرَانُ بِصَلَاةِ عَلِيٍّ.
قَوْلُهُ: (قَدْ ذَكَّرَنِي) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ لَقَدْ ذَكَّرَنِي.
قَوْلُهُ: (أَوْ قَالَ) هُوَ شَكٌّ مِنْ أَحَدِ رُوَاتِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَمَّادٍ فَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ بِلَفْظِ: صَلَّى بِنَا هَذَا مِثْلَ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَشُكَّ، وَفِي رِوَايَةِ قَتَادَةَ، عَنْ مُطَرِّفٍ قَالَ عِمْرَانُ: مَا صَلَّيْتُ مُنْذُ حِينٍ أَوْ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا أَشْبَهَ بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ هَذِهِ الصَّلَاةِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: تَرْكُ النَّكِيرِ عَلَى مَنْ تَرَكَ التَّكْبِيرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّلَفَ لَمْ يَتَلَقَّوْهُ عَلَى أَنَّهُ رُكْنٌ مِنَ الصَّلَاةِ، وَأَشَارَ الطَّحَاوِيُّ إِلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ اسْتَقَرَّ عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَهُ فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا تَقَدَّمَ عَنْ أَحْمَدَ، وَالْخِلَافُ فِي بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِتَرْكِهِ ثَابِتٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ إِجْمَاعًا سَابِقًا.
787 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: رَأَيْتُ رَجُلًا عِنْدَ الْمَقَامِ يُكَبِّرُ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ، وَإِذَا قَامَ وَإِذَا وَضَعَ، فَأَخْبَرْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: أَوَلَيْسَ تِلْكَ صَلَاةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا أُمَّ لَكَ؟.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي بِشْرٍ) صَرَّحَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ هُشَيْمٍ بِأَنَّ أَبَا بِشْرٍ حَدَّثَهُ.
قَوْلُهُ: (رَأَيْتُ رَجُلًا عِنْدَ الْمَقَامِ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: صَلَّيْتُ خَلْفَ شَيْخٍ بِالْأَبْطَحِ وَالْأُولَى أَصَحُّ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَبْطَحِ الْبَطْحَاءَ الَّتِي تُفْرَشُ فِي الْمَسْجِدِ، وَسَيَأْتِي فِي أَوَّلِ الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ بِلَفْظِ: صَلَّيْتُ خَلْفَ شَيْخٍ بِمَكَّةَ وَأَنَّهُ سَمَّاهُ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ أَبَا هُرَيْرَةَ، وَاتَّفَقَتْ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ عَلَى أَنَّهُ رَآهُ بِمَكَّةَ،
وَلِلسَّرَّاجِ مِنْ طَرِيقِ حَبِيبِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عِكْرِمَةَ: رَأَيْتُ رَجُلًا يُصَلِّي فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَإِنْ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى التَّجَوُّزِ وَإِلَّا فَهِيَ شَاذَّةٌ.
قَوْلُهُ: (أَوَ لَيْسَ تِلْكَ صَلَاةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) هُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ لِلْإِنْكَارِ الْمَذْكُورِ، وَمُقْتَضَاهُ الْإِثْبَاتُ لِأَنَّهُ نَفْيُ النَّفْيِ.
قَوْلُهُ: (لَا أُمَّ لَكَ) هِيَ كَلِمَةٌ تَقُولُهَا الْعَرَبُ عِنْدَ الزَّجْرِ، وَكَذَا قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَهَا ثَكِلَتْكَ أُمُّك فَكَأَنَّهُ دَعَا عَلَيْهِ أَنْ يَفْقِدَ أُمَّهُ أَوْ أَنْ تَفْقِدَهُ أُمُّهُ، لَكِنَّهُمْ قَدْ يُطْلِقُونَ ذَلِكَ وَلَا يُرِيدُونَ حَقِيقَتَهُ. وَاسْتَحَقَّ عِكْرِمَةُ ذَلِكَ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ لِكَوْنِهِ نَسَبَ ذَلِكَ الرَّجُلَ الْجَلِيلَ إِلَى الْحُمْقِ الَّذِي هُوَ غَايَةُ الْجَهْلِ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ ذَلِكَ.
117 - بَاب التَّكْبِيرِ إِذَا قَامَ مِنْ السُّجُودِ
788 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: أَخْبَرَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ شَيْخٍ بِمَكَّةَ فَكَبَّرَ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ تَكْبِيرَةً، فَقُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ أَحْمَقُ، فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، سُنَّةُ أَبِي الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ مُوسَى:، حَدَّثَنَا أَبَانُ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ التَّكْبِيرِ إِذَا قَامَ مِنَ السُّجُودِ).
789 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ، ثُمَّ يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنْ الرَّكْعَةِ، ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ - قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ اللَّيْثِ: وَلَكَ الْحَمْدُ - ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَهْوِي، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَسْجُدُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ كُلِّهَا حَتَّى يَقْضِيَهَا، وَيُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ مِنْ الثِّنْتَيْنِ بَعْدَ الْجُلُوسِ.
قَوْلُهُ: (صَلَّيْتُ خَلْفَ شَيْخٍ) زَادَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ الظُّهْرَ وَبِذَلِكَ يَصِحُّ عَدَدُ التَّكْبِيرِ الَّذِي ذَكَرَهُ، لِأَنَّ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ فَيَقَعُ فِي الرُّبَاعِيَّةِ عِشْرُونَ تَكْبِيرَةً مَعَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ وَتَكْبِيرَةِ الْقِيَامِ مِنَ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، وَلِأَحْمَدَ، وَالطَّحَاوِيِّ، وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ الدَّانَاجِ وَهُوَ بِالنُّونِ وَالْجِيمِ الْخَفِيفَتَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: صَلَّى بِنَا أَبُو هُرَيْرَةَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُوسَى) هُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ رَاوِي الْحَدِيثِ عَنْ هَمَّامٍ، وَهُوَ عِنْدَهُ مُتَّصِلٌ عَنْ هَمَّامٍ، وَأَبَانَ كِلَاهُمَا عَنْ قَتَادَةَ، وَإِنَّمَا أَفْرَدَهُمَا لِكَوْنِهِ عَلَى شَرْطِهِ فِي الْأُصُولِ، بِخِلَافِ أَبَانَ فَإِنَّهُ عَلَى شَرْطِهِ فِي الْمُتَابَعَاتِ. وَأَفَادَتْ رِوَايَةُ أَبَانَ تَصْرِيحَ قَتَادَةَ بِالتَّحْدِيثِ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُهُ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ الْمَذْكُورَةِ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ. وَقَوْلُهُ:(سُنَّةٌ) بِالرَّفْعِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ تِلْكَ سُنَّةٌ، وَثبت ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، عَنْ هَمَّامٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) كَذَا قَالَ عَقِيلٌ، وَتَابَعَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ ابن شِهَابٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَقَالَ مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَمَا تَقَدَّمَ قَبْلُ بِبَابٍ مُخْتَصَرًا، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ مُطَوَّلًا مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَتَابَعَهُ مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عِنْدَ السَّرَّاجِ، وَلَيْسَ هَذَا الِاخْتِلَافُ قَادِحًا بَلِ الْحَدِيثُ عِنْدَ ابْنِ شِهَابٍ عَنْهُمَا مَعًا كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ يَهْوِي بِالتَّكْبِيرِ مِنْ رِوَايَةِ شُعَيْبٍ عَنْهُ عَنْهُمَا جَمِيعًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قَوْلُهُ: (يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ) فِيهِ التَّكْبِيرُ قَائِمًا، وَهُوَ
بِالِاتِّفَاقِ فِي حَقِّ الْقَادِرِ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ) قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مُقَارَنَةِ التَّكْبِيرِ لِلْحَرَكَةِ وَبَسْطِهِ عَلَيْهَا، فَيَبْدَأُ بِالتَّكْبِيرِ حِينَ يَشْرَعُ فِي الِانْتِقَالِ إِلَى الرُّكُوعِ، وَيَمُدُّهُ حَتَّى يَصِلَ إِلَى حَدِّ الرَّاكِع. انْتَهَى. وَدَلَالَةُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى الْبَسْطِ الَّذِي ذَكَرَهُ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ.
قَوْلُهُ: (حِينَ يَرْفَعُ إِلَخْ) فِيهِ أَنَّ التَّسْمِيعَ ذِكْرُ النُّهُوضِ، وَأَنَّ التَّحْمِيدَ ذِكْرُ الِاعْتِدَالِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا خِلَافًا لِمَالِكٍ، لِأَنَّ صَلَاةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمَوْصُوفَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى حَالِ الْإِمَامَةِ لِكَوْنِ ذَلِكَ هُوَ الْأَكْثَرُ الْأَغْلَبُ مِنْ أَحْوَالِهِ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ بَعْدَ خَمْسَةِ أَبْوَابٍ.
قَوْلُهُ: (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، عَنِ اللَّيْثِ: وَلَكَ الْحَمْدُ) يَعْنِي أَنَّ ابْنَ صَالِحٍ زَادَ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ اللَّيْثِ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ وَلَكَ الْحَمْدُ، وَأَمَّا بَاقِي الْحَدِيثِ فَاتَّفَقَا فِيهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَسُقْهُ عَنْهُمَا مَعًا وَهُمَا شَيْخَاهُ لِأَنَّ يَحْيَى مِنْ شَرْطِهِ فِي الْأُصُولِ، وَابْنُ صَالِحٍ إِنَّمَا يُورِدُهُ فِي الْمُتَابَعَاتِ وَسَيَأْتِي مِنْ رِوَايَةِ شُعَيْبٍ أَيْضًا عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَيُونُسَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: الرِّوَايَةُ بِثُبُوتِ الْوَاوِ أَرْجَحُ، وَهِيَ زَائِدَةٌ وَقِيلَ عَاطِفَةٌ عَلَى مَحْذُوفٍ وَقِيلَ هِيَ وَاوُ الْحَالِ قَالَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ وَضَعَّفَ مَا عَدَاهُ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَهْوِي) يَعْنِي سَاجِدًا، وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، وَيَهْوِي ضَبَطْنَاهُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، أَيْ يَسْقُطُ.
قَوْلُهُ: (يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ مِنَ الثِّنْتَيْنِ) أَيِ الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، وَقَوْلُهُ:(بَعْدَ الْجُلُوسِ) أَيْ فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ مُفَسِّرٌ لِلْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ حَيْثُ قَالَ فِيهَا: كَانَ يُكَبِّرُ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ.
118 - بَاب وَضْعِ الْأَكُفِّ عَلَى الرُّكَبِ فِي الرُّكُوعِ
وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ فِي أَصْحَابِهِ: أَمْكَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ
790 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي يَعْفُورٍ قَالَ: سَمِعْتُ مُصْعَبَ بْنَ سَعْدٍ يَقُولُ: صَلَّيْتُ إِلَى جَنْبِ أَبِي فَطَبَّقْتُ بَيْنَ كَفَّيَّ ثُمَّ وَضَعْتُهُمَا بَيْنَ فَخِذَيَّ فَنَهَانِي أَبِي وَقَالَ: كُنَّا نَفْعَلُهُ فَنُهِينَا عَنْهُ وَأُمِرْنَا أَنْ نَضَعَ أَيْدِينَا عَلَى الرُّكَبِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ وَضْعِ الْأَكُفِّ عَلَى الرُّكَبِ فِي الرُّكُوعِ) أَيْ كُلِّ كَفٍّ عَلَى رُكْبَةٍ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ) سَيَأْتِي مَوْصُولًا مُطَوَّلًا فِي بَابِ سُنَّةِ الْجُلُوسِ فِي التَّشَهُّدِ وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا بَيَانُ الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الرُّكُوعِ. يُقَوِّيهِ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ سَعْدٌ مِنْ نَسْخِ التَّطْبِيقِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي يَعْفُورٍ) بِفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ وَبِالْفَاءِ وَآخِرُهُ رَاءٌ وَهُوَ الْأَكْبَرُ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْمِزِّيُّ وَهُوَ مُقْتَضَى صَنِيعِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ، وَصَرَّحَ الدَّارِمِيُّ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي يَعْفُورٍ بِأَنَّهُ الْعَبْدِيُّ، وَالْعَبْدِيُّ هُوَ الْأَكْبَرُ بِلَا نِزَاعٍ، وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ الْأَصْغَرُ، وَتُعُقِّبَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا اسْمَهُمَا فِي الْمُقَدِّمَةِ.
قَوْلُهُ: (مُصْعَبَ بْنَ سَعْدٍ) أَيِ ابْنِ أَبِي وَقَّاصٍ.
قَوْلُهُ: (فَط بَّقْتُ) أَيْ أَلْصَقْتُ بَيْنَ بَاطِنَيْ كَفِّي فِي حَالِ الرُّكُوعِ.
قَوْلُهُ: (كُنَّا نَفْعَلُهُ فَنُهِينَا عَنْهُ وَأُمِرْنَا) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى نَسْخِ التَّطْبِيقِ الْمَذْكُورِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآمِرِ وَالنَّاهِي فِي ذَلِكَ هُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَهَذِهِ الصِّيغَةُ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، وَالرَّاجِحُ أَنَّ حُكْمَهَا الرَّفْعُ، وَهُوَ مُقْتَضَى تَصَرُّفِ الْبُخَارِيِّ، وَكَذَا مُسْلِمٌ إِذْ أَخْرَجَهُ فِي صَحِيحِهِ. وَفِي رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ الْمَذْكُورَةِ عِنْدَ الدَّارِمِيِّ: كَانَ بَنُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ إِذَا رَكَعُوا جَعَلُوا أَيْدِيَهُمْ بَيْنَ أَفْخَاذِهِمْ، فَصَلَّيْتُ إِلَى جَنْبِ أَبِي فَضَرَبَ يَدِي الْحَدِيثَ، فَأَفَادَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ مُسْتَنَدَ مُصْعَبٍ فِي فِعْلِ ذَلِكَ، وَأَوْلَادُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَخَذُوهُ عَنْ أَبِيهِمْ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: التَّطْبِيقُ مَنْسُوخٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ إِلَّا مَا رُوِيَ
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَبَعْضِ أَصْحَابِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُطَبِّقُونَ. انْتَهَى.
وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مُتَّصِلًا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، وَالْأَسْوَدِ أَنَّهُمَا دَخَلَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ: فَوَضَعْنَا أَيْدِيَنَا عَلَى رُكَبِنَا، فَضَرَبَ أَيْدِيَنَا ثُمَّ طَبَّقَ بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ جَعَلَهُمَا بَيْنَ فَخِذَيْهِ، فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: هَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَحُمِلَ هَذَا عَلَى أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّسْخُ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ قَالَ: إِنَّمَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَرَّةً يَعْنِي التَّطْبِيقَ، وَرَوَى ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ طَبَّقَ يَدَيْهِ بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ فَرَكَعَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ سَعْدًا فَقَالَ: صَدَقَ أَخِي، كُنَّا نَفْعَلُ هَذَا ثُمَّ أُمِرْنَا بِهَذَا يَعْنِي الْإِمْسَاكَ بِالرُّكَبِ. فَهَذَا شَاهِدٌ قَوِيٌّ لِطَرِيقِ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ.
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ عُمَرَ مَا يُوَافِقُ قَوْلَ سَعْدٍ، أَخْرَجَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَلْقَمَةَ، وَالْأَسْوَدِ قَالَ: صَلَّيْنَا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ فَطَبَّقَ، ثُمَّ لَقِينَا عُمَرَ فَصَلَّيْنَا مَعَهُ فَطَبَّقْنَا، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: ذَلِكَ شَيْءٌ كُنَّا نَفْعَلُهُ ثُمَّ تُرِكَ، وَفِي التِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ قَالَ: قَالَ لَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِنَّ الرُّكَبَ سُنَّتْ لَكُمْ فَخُذُوا بِالرُّكَبِ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِلَفْظِ: كُنَّا إِذَا رَكَعْنَا جَعَلْنَا أَيْدِيَنَا بَيْنَ أَفْخَاذِنَا، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ مِنَ السُّنَّةِ الْأَخْذَ بِالرُّكَبِ، وَهَذَا أَيْضًا حُكْمُهُ حُكْمُ الرَّفْعِ لِأَنَّ الصَّحَابِيَّ إِذَا قَالَ السُّنَّةُ كَذَا أَوْ سُنَّ كَذَا كَانَ الظَّاهِرُ انْصِرَافَ ذَلِكَ إِلَى سُنَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا سِيَّمَا إِذَا قَالَهُ مِثْلُ عُمَرَ.
قَوْلُهُ: (فَنُهِينَا عَنْهُ) اسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ خُزَيْمَةَ عَلَى أَنَّ التَّطْبِيقَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِاحْتِمَالِ حَمْلِ النَّهْيِ عَلَى الْكَرَاهَةِ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: إِذَا رَكَعْتَ فَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ هَكَذَا - يَعْنِي وَضَعْتَ يَدَيْكَ عَلَى رُكْبَتَيْكَ - وَإِنْ شِئْتَ طَبَّقْتَ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ كَانَ يَرَى التَّخْيِيرَ، فَإِمَّا أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّهْيُ وَإِمَّا حَمَلَهُ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ كَوْنُ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ أَنْكَرَهُ لَمْ يَأْمُرْ مَنْ فَعَلَهُ بِالْإِعَادَةِ.
(فَائِدَةٌ): حَكَى ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الطَّحَاوِيِّ وَأَقَرَّهُ أَنَّ طَرِيقَ النَّظَرِ يَقْتَضِي أَنَّ تَفْرِيقَ الْيَدَيْنِ أَوْلَى مِنْ تَطْبِيقِهِمَا، لِأَنَّ السُّنَّةَ جَاءَتْ بِالتَّجَافِي فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَبِالْمُرَاوَحَةِ بَيْنَ الْقَدَمَيْنِ، قَالَ: فَلَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى أَوْلَوِيَّةِ تَفْرِيقِهِمَا فِي هَذَا وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَوَّلِ اقْتَضَى النَّظَرُ أَنْ يُلْحَقَ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ بِمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، قَالَ: فَثَبَتَ انْتِفَاءُ التَّطْبِيقِ وَوُجُوبُ وَضْعِ الْيَدَيْنِ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَتَعَقَّبَهُ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ مُعَارَضٌ بِالْمَوَاضِعِ الَّتِي سُنَّ فِيهَا الضَّمُّ كَوَضْعِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فِي حَالِ الْقِيَامِ، قَالَ: وَإِذَا ثَبَتَ مَشْرُوعِيَّةُ الضَّمِّ فِي بَعْضِ مَقَاصِدِ الصَّلَاةِ بَطَلَ مَا اعْتَمَدَهُ مِنَ الْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ. نَعَمْ لَوْ قَالَ إِنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ مَا
(1)
يَقْتَضِي مَزِيَّةَ التَّفْرِيجِ عَلَى التَّطْبِيقِ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ. قُلْتُ: وَقَدْ وَرَدَتِ الْحِكْمَةُ فِي إِثْبَاتِ التَّفْرِيجِ عَلَى التَّطْبِيقِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَوْرَدَ سَيْفٌ فِي الْفُتُوحِ مِنْ رِوَايَةِ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ سَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ فَأَجَابَتْ بِمَا مُحَصَّلُهُ: أَنَّ التَّطْبِيقَ مِنْ صَنِيعِ الْيَهُودِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهُ لِذَلِكَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْجِبُهُ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَمَرَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ بِمُخَالَفَتِهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (أَنْ نَضَعَ أَيْدِيَنَا) أَيْ أَكُفَّنَا مِنْ إِطْلَاقِ الْكُلِّ وَإِرَادَةِ الْجُزْءِ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ أَبِي يَعْفُورٍ بِلَفْظِ: وَأَمَرَنَا أَنْ نَضْرِبَ بِالْأَكُفِّ عَلَى الرُّكَبِ وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِلَفْظِ التَّرْجَمَةِ.
119 - بَاب إِذَا لَمْ يُتِمَّ الرُّكُوعَ
791 -
حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ قَالَ: رَأَى حُذَيْفَةُ
(1)
كذا في الاصلين، ولعله " إنما "
رَجُلًا لَا يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ قَالَ: مَا صَلَّيْتَ، وَلَوْ مُتَّ مُتَّ عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم. 119 - قوله: بَابُ إِذَا لَمْ يُتِمَّ الرُّكُوعَ أَفْرَدَ الرُّكُوعَ بِالذِّكْرِ مَعَ أَنَّ السُّجُودَ مِثْلَهُ لِكَوْنِهِ أَفْرَدَهُ بِتَرْجَمَةٍ تَأْتِي، وَغَرَضُهُ سِيَاقُ صِفَةِ الصَّلَاةِ عَلَى تَرْتِيبِ أَرْكَانِهَا، وَاكْتَفَى عَنْ جَوَابِ إِذَا بِمَا تَرْجَمَ بِهِ بَعْدُ مِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي لَمْ يُتِمَّ رُكُوعَهُ بِالْإِعَادَةِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ سُلَيْمَانَ) هُوَ الْأَعْمَشُ.
قَوْلُهُ: (رَأَى حُذَيْفَةُ رَجُلًا) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ لَكِنْ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَابْنِ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْأَعْمَشِ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ أَبْوَابِ كِنْدَةَ، وَمِثْلُهُ لِعَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ.
قَوْلُهُ: (لَا يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فَجَعَلَ يَنْقُرُ وَلَا يُتِمُّ رُكُوعَهُ. زَادَ أَحْمَدُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، فَقَالَ: مُنْذُ كَمْ صَلَّيْتَ؟ فَقَالَ: مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ، وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ مِثْلُهُ، وَفِي حَمْلِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ نَظَرٌ، وَأَظُنُّ ذَلِكَ هُوَ السَّبَبُ فِي كَوْنِ الْبُخَارِيِّ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ حُذَيْفَةَ مَاتَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ابْتِدَاءُ صَلَاةِ الْمَذْكُورِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِأَرْبَع سنين أَوْ أَكْثَرَ، وَلَعَلَّ الصَّلَاةَ لَمْ تَكُنْ فُرِضَتْ بَعْدُ، فَلَعَلَّهُ أَطْلَقَ وَأَرَادَ الْمُبَالَغَةَ، أَوْ لَعَلَّهُ مِمَّنْ كَادَ يُصَلِّي قَبْلَ إِسْلَامِهِ، ثُمَّ أَسْلَمَ فَحَصَلَتِ الْمُدَّةُ الْمَذْكُورَةُ مِنَ الْأَمْرَيْنِ.
قَوْلُهُ: (مَا صَلَّيْتَ) هُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِلْمُسِيءِ صَلَاتَهُ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ وَسَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ.
قَوْلُهُ: (فَطَرَ اللَّهُ مُحَمَّدًا) زَادَ الْكُشْمِيهَنِيُّ عَلَيْهَا وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ الطُّمَأْنِينَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَعَلَى أَنَّ الْإِخْلَالَ بِهَا مُبْطِلٌ لِلصَّلَاةِ، وَعَلَى تَكْفِيرِ تَارِكِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ حُذَيْفَةَ نَفَى الْإِسْلَامَ عَمَّنْ أَخَلَّ بِبَعْضِ أَرْكَانِهَا فَيَكُونُ نَفْيُهُ عَمَّنْ أَخَلَّ بِهَا كُلِّهَا أَوْلَى، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِطْرَةِ الدِّينُ، وَقَدْ أَطْلَقَ الْكُفْرَ عَلَى مَنْ لَمْ يُصَلِّ كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(1)
، وَهُوَ إِمَّا عَلَى حَقِيقَتِهِ عِنْدَ قَوْمٍ وَإِمَّا عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الزَّجْرِ عِنْدَ آخَرِينَ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْفِطْرَةُ الْمِلَّةُ أَوِ الدِّينُ، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا هُنَا السُّنَّةُ كَمَا جَاءَ خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ الْحَدِيثَ، وَيَكُونُ حُذَيْفَةُ قَدْ أَرَادَ تَوْبِيخَ الرَّجُلِ لِيَرْتَدِعَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَيُرَجِّحُهُ وُرُودُهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِلَفْظِ سُنَّةِ مُحَمَّدٍ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ عَشْرَةِ أَبْوَابٍ، وَهُوَ مُصَيَّرٌ مِنَ الْبُخَارِيِّ إِلَى أَنَّ الصَّحَابِيَّ إِذَا قَالَ سُنَّةَ مُحَمَّدٍ أَوْ فِطْرَتُهُ كَانَ حَدِيثًا مَرْفُوعًا، وَقَدْ خَالَفَ فِيهِ قَوْمٌ وَالرَّاجِحُ الْأَوَّلُ.
120 - بَاب اسْتِوَاءِ الظَّهْرِ فِي الرُّكُوعِ
وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ فِي أَصْحَابِهِ: رَكَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ هَصَرَ ظَهْرَهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ اسْتِوَاءِ الظَّهْرِ فِي الرُّكُوعِ) أَيْ مِنْ غَيْرِ مَيْلٍ فِي الرَّأْسِ عَنِ الْبَدَنِ وَلَا عَكْسِهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ) هُوَ السَّاعِدِيُّ.
قَوْلُهُ: (هَصَرَ ظَهْرَهُ) بِفَتْحِ الْهَاءِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ أَمَالَهُ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ حَنَى بِالْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ الْخَفِيفَةِ وَهُوَ بِمَعْنَاهُ، وَسَيَأْتِي حَدِيثُ أَبِي حُمَيْدٍ هَذَا مَوْصُولًا مُطَوَّلًا فِي بَابِ سُنَّةِ الْجُلُوسِ فِي التَّشَهُّدِ بِلَفْظِ ثُمَّ رَكَعَ فَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ هَصَرَ ظَهْرَهُ، زَادَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ وَوَتَّرَ يَدَيْهِ فَتَجَافَى عَنْ جَنْبَيْهِ، وَلَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: أَمْكَنَ كَفَّيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ وَفَرَّجَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، ثُمَّ هَصَرَ ظَهْرَهُ غَيْرَ مُقْنِعِ رَأْسِهِ وَلَا صَافِحَ بِخَدِّهِ.
121 - بَاب حَدِّ إِتْمَامِ الرُّكُوعِ وَالِاعْتِدَالِ فِيهِ وَالطُّمَأْنِينَةِ
(1)
ولفظه: بين الرجل وبين الكفر والفرك ترك الصلاة، انتهى. وقد ورد في معناه أحاديث، والصواب حمل الكفر فيها على الحقيقة وأن من ترك الصلاة خرج من الإسلام. وقد حكام عبد الله بن شقيق القبل من جميع الصحابة رضي الله عنهم وأدله من الكتاب والسنة كثيرة. والله أعلم
792 -
حَدَّثَنَا بَدَلُ بْنُ الْمُحَبَّرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي الْحَكَمُ، عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ الْبَرَاءِ، قَالَ: كَانَ رُكُوعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَسُجُودُهُ وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ مَا خَلَا الْقِيَامَ وَالْقُعُودَ قَرِيبًا مِنْ السَّوَاءِ.
[الحديث 792 - طرفاه في: 820، 801]
قَوْلُهُ: (وَحَدُّ إِتْمَامِ الرُّكُوعِ وَالِاعْتِدَالِ فِيهِ) وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عِنْدَ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَهُوَ لِلْأَصِيلِيِّ هُنَا بَابُ إِتْمَامِ الرُّكُوعِ، فَفَصَلَهُ عَنِ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ بِبَابٍ، وَعِنْدَ الْبَاقِينَ الْجَمِيعُ فِي تَرْجَمَةٍ وَاحِدَةٍ إِلَّا أَنَّهُمْ جَعَلُوا التَّعْلِيقَ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ فِي أَثْنَائِهَا لِاخْتِصَاصِهِ بِالْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَدَلَالَةُ حَدِيثِ الْبَرَاءِ عَلَى مَا بَعْدَهَا، وَبِهَذَا يُجَابُ عَنِ اعْتِرَاضِ نَاصِرِ الدِّينِ بْنِ الْمُنِيرِ، حَيْثُ قَالَ: حَدِيثُ الْبَرَاءِ لَا يُطَابِقُ التَّرْجَمَةَ لِلِاسْتِوَاءِ فِي الرُّكُوعِ السَّالِمِ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي حُنُوِّ الرَّأْسِ دُونَ بَقِيَّةِ الْبَدَنِ أَوِ الْعَكْسِ، وَالْحَدِيثُ فِي تَسَاوِي الرُّكُوعِ مَعَ السُّجُودِ وَغَيْرِهِ فِي الْإِطَالَةِ وَالتَّخْفِيفِ اهـ. وَكَأَنَّهُ لَمْ يَتَأَمَّلْ مَا بَعْدَ حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ مِنْ بَقِيَّةِ التَّرْجَمَةِ، وَمُطَابَقَةِ حَدِيثِ الْبَرَاءِ لِقَوْلِهِ حَدُّ إِتْمَامِ الرُّكُوعِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ دَالٌّ عَلَى تَسْوِيَةِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالِاعْتِدَالِ وَالْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ تَطْوِيلُ الِاعْتِدَالِ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ إِطَالَةُ الْجَمْيعِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَالِاطْمَأْنِينَةُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَيَجُوزُ الضَّمُّ وَسُكُونُ الطَّاءِ، ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ: وَالطُّمَأْنِينَةُ بِضَمِّ الطَّاءِ وَهِيَ أَكْثَرُ فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَالْمُرَادُ بِهَا السُّكُونُ، وَحَدُّهَا ذَهَابُ الْحَرَكَةِ الَّتِي قَبْلَهَا كَمَا سَيَأْتِي مُفَسَّرًا فِي حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا الْحَكَمُ) هُوَ ابْنُ عُتَيْبَةَ (عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى) هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَوَقَعَ التَّصْرِيحُ بِتَحْدِيثِهِ لَهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ.
قَوْلُهُ: (مَا خَلَا الْقِيَامَ وَالْقُعُودَ) بِالنَّصْبِ فِيهِمَا، قِيلَ الْمُرَادُ بِالْقِيَامِ الِاعْتِدَالُ وَبِالْقُعُودِ الْجُلُوسُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَجَزَمَ بِهِ بَعْضُهُمْ، وَتَمَسَّكَ بِهِ فِي أَنَّ الِاعْتِدَالَ وَالْجُلُوسَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ لَا يُطَوَّلَانِ، وَرَدَّهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كَلَامِهِ عَلَى حَاشِيَةِ السُّنَنِ، فَقَالَ: هَذَا سُوءُ فَهْمٍ مِنْ قَائِلِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَهُمَا بِعَيْنِهِمَا فَكَيْفَ يَسْتَثْنِيهِمَا؟ وَهَلْ يَحْسُنُ قَوْلُ الْقَائِلِ: جَاءَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو وَبَكْرٌ وَخَالِدٌ إِلَّا زَيْدًا وَعَمْرًا، فَإِنَّهُ مَتَى أَرَادَ نَفْيَ الْمَجِيءِ عَنْهُمَا كَانَ تَنَاقُضًا اهـ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِذِكْرِهَا إِدْخَالُهَا فِي الطُّمَأْنِينَةِ وَبِاسْتِثْنَاءِ بَعْضِهَا إِخْرَاجُ الْمُسْتَثْنَى مِنَ الْمُسَاوَاةِ، وَقَالَ بَعْضُ شُيُوخِ شُيُوخِنَا: مَعْنَى قَوْلِهِ قَرِيبًا مِنَ السَّوَاءِ أَنَّ كُلَّ رُكْنٍ قَرِيبٍ مِنْ مِثْلِهِ، فَالْقِيَامُ الْأَوَّلُ قَرِيبٌ مِنَ الثَّانِي وَالرُّكُوعُ فِي الْأُولَى قَرِيبٌ مِنَ الثَّانِيَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ اللَّذَيْنِ اسْتُثْنِيَا الِاعْتِدَالُ وَالْجُلُوسُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَلَا يَخْفَى تَكَلُّفُهُ. وَاسْتُدِلَّ بِظَاهِرِهِ عَلَى أَنَّ الِاعْتِدَالَ رُكْنٌ طَوِيلٌ وَلَا سِيَّمَا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ: حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ قَدْ نَسِيَ، وَفِي الْجَوَابِ عَنْهُ تَعَسُّفٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسَيَأْتِي هَذَا الْحَدِيثُ بَعْدَ أَبْوَابٍ بِغَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ الْقِيَامُ لِلْقِرَاءَةِ وَالْجُلُوسُ لِلتَّشَهُّدِ لِأَنَّ الْقِيَامَ لِلْقِرَاءَةِ أَطْوَلُ مِنْ جَمِيعِ الْأَرْكَانِ فِي الْغَالِبِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَطْوِيلِ الِاعْتِدَالِ وَالْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ الطُّمَأْنِينَةِ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، مَعَ بَقِيَّةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
122 - بَاب أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي لَا يُتِمُّ رُكُوعَهُ بِالْإِعَادَةِ
793 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَرَدَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عليه السلام، فَقَالَ: ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ، فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ ثَلَاثًا، فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ فَمَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ فَعَلِّمْنِي، قَالَ: إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا،
قَوْلُهُ: (بَابُ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي لَا يُتِمُّ الرُّكُوعَ بِالْإِعَادَةِ)، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: هَذِهِ مِنَ التَّرَاجِمِ الْخَفِيَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْخَبَرَ لَمْ يَقَعْ فِيهِ بَيَانُ مَا نَقَصَهُ الْمُصَلِّي الْمَذْكُورُ، لَكِنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَالَ لَهُ: ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا إِلَى آخِرِ مَا ذَكَرَ لَهُ مِنَ الْأَرْكَانِ، اقْتَضَى ذَلِكَ تَسَاوِيَهَا فِي الْحُكْمِ لِتَنَاوُلِ الْأَمْرِ كُلَّ فَرْدٍ مِنْهَا، فَكُلُّ مَنْ لَمْ يُتِمَّ رُكُوعَهُ أَوْ سُجُودَهُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا ذُكِرَ مَأْمُورٌ بِالْإِعَادَةِ. قُلْتُ: وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: دَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى صَلَاةً خَفِيفَةً لَمْ يُتِمَّ رُكُوعَهَا وَلَا سُجُودَهَا، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ بِالتَّرْجَمَةِ إِلَى ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِيهِ) قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: خَالَفَ يَحْيَى الْقَطَّانُ أَصْحَابَ عُبَيْدِ اللَّهِ كُلَّهُمْ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا عَنْ أَبِيهِ؛ وَيَحْيَى حَافِظٌ، قَالَ: فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ عُبَيْدُ اللَّهِ حَدَّثَ بِهِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ. وَقَالَ الْبَزَّارُ: لَمْ يُتَابَعْ يَحْيَى عَلَيْهِ، وَرَجَّحَ التِّرْمِذِيُّ رِوَايَةَ يَحْيَى. قُلْتُ: لِكُلٍّ مِنَ الرِّوَايَتَيْنِ وَجْهٌ مُرَجَّحٌ، أَمَّا رِوَايَةُ يَحْيَى فَلِلزِّيَادَةِ مِنَ الْحَافِظِ، وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى فَلِلْكَثْرَةِ، وَلِأَنَّ سَعِيدًا لَمْ يُوصَفْ بِالتَّدْلِيسِ وَقَدْ ثَبَتَ سَمَاعُهُ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمِنْ ثَمَّ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ الطَّرِيقَيْنِ. فَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ طَرِيقَ يَحْيَى هُنَا، وَفِي بَابِ وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ، وَأَخْرَجَ فِي الِاسْتِئْذَانِ طَرِيقَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ النُّمَيْرِ، وَفِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ طَرِيقَ أُسَامَةَ كِلَاهُمَا عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ لَيْسَ فِيهِ عَنْ أَبِيهِ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ الثَّلَاثَةِ.
وَلِلْحَدِيثِ طَرِيقٌ أُخْرَى مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، وَدَاوُدَ بْنِ قَيْسٍ كُلِّهِمْ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَلَّادِ بْنِ رَافِعٍ الزُّرَقِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمِّهِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُسَمِّ رِفَاعَةَ، قَالَ: عَنْ عَمٍّ لَهُ بَدْرِيٍّ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَقُلْ عَنْ أَبِيهِ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ رِفَاعَةَ، لَكِنْ لَمْ يَقُلِ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِيهِ، وَفِيهِ اخْتِلَافٌ آخَرُ نَذْكُرُهُ قَرِيبًا.
قَوْلُهُ: (فَدَخَلَ رَجُلٌ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ نُمَيْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ، وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ وَنَحْنُ حَوْلَهُ، وَهَذَا الرَّجُلُ هُوَ خَلَّادُ بْنُ رَافِعٍ جَدُّ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى رَاوِي الْخَبَرِ، بَيَّنَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ الْعَوَّامِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى، عَنْ رِفَاعَةَ أَنَّ خَلَّادًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ. وَرَوَى أَبُو مُوسَى فِي الذَّيْلِ مِنْ جِهَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلَّادٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ اهـ.
وَفِيهِ أَمْرَانِ: زِيَادَةُ عَبْدِ اللَّهِ فِي نَسَبِ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى، وَجَعْلُ الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ خَلَّادٍ جَدِّ عَلِيٍّ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَوَهْمٌ مِنَ الرَّاوِي عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَأَمَّا الثَّانِي فَمِنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ لِأَنَّ سَعِيدَ بْنَ مَنْصُورٍ قَدْ رَوَاهُ عَنْهُ كَذَلِكَ لَكِنْ بِإِسْقَاطِ عَبْدِ اللَّهِ، وَالْمَحْفُوظُ أَنَّهُ مِنْ حَدِيثِ رِفَاعَةَ، كَذَلِكَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ الْقَطَّانِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ. الْأَحْمَرِ كِلَاهُمَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ. وَأَمَّا مَا وَقَعَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ إِذْ
جَاءَ رَجُلٌ كَالْبَدْوِيِّ فَصَلَّى فَأَخَفَّ صَلَاتَهُ، فَهَذَا لَا يَمْنَعُ تَفْسِيرَهُ بِخَلَّادٍ؛ لِأَنَّ رِفَاعَةَ شَبَّهَهُ بِالْبَدْوِيِّ لِكَوْنِهِ أَخَفَّ الصَّلَاةَ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (فَصَلَّى) زَادَ النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ دَاوُدَ بْنِ قَيْسٍ رَكْعَتَيْنِ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ صَلَّى نَفْلًا. وَالْأَقْرَبُ أَنَّهَا تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَرْمُقُهُ فِي صَلَاتِهِ، زَادَ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ وَلَا نَدْرِي مَا يَعِيبُ مِنْهَا، وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي خَالِدٍ يَرْمُقُهُ وَنَحْنُ لَا نَشْعُرُ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى حَالِهِمْ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، وَهُوَ مُخْتَصَرٌ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا نَشْعُرُ بِمَا يَعِيبُ مِنْهَا.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ فَجَاءَ فَسَلَّمَ، وَهِيَ أَوْلَى لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ صَلَاتِهِ وَمَجِيئِهِ تَرَاخٍ.
قَوْلُهُ: (فَرَدَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ نُمَيْرٍ فِي الِاسْتِئْذَانِ، فَقَالَ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ. وَفِي هَذَا تَعَقُّبٌ عَلَى ابْنِ الْمُنِيرِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ أنَّ الْمَوْعِظَةَ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ أَهَمُّ مِنْ رَدِّ السَّلَامِ، وَلِأَنَّهُ لَعَلَّهُ لَمْ يَرُدَّ عليه السلام تَأْدِيبًا عَلَى جَهْلِهِ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ التَّأْدِيبُ بِالْهَجْرِ وَتَرْكِ السَّلَامِ اهـ. وَالَّذِي وَقَفْنَا عَلَيْهِ مِنْ نُسَخِ الصَّحِيحَيْنِ ثُبُوتُ الرَّدِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَغَيْرِهِ، إِلَّا الَّذِي فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ، وَقَدْ سَاقَ الْحَدِيثَ صَاحِبُ الْعُمْدَةِ بِلَفْظِ الْبَابِ إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ مِنْهُ فَرَدَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلَعَلَّ ابْنَ الْمُنِيرِ اعْتَمَدَ عَلَى النُّسْخَةِ الَّتِي اعْتَمَدَ عَلَيْهَا صَاحِبُ الْعُمْدَةِ.
قَوْلُهُ: (ارْجِعْ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَجْلَانَ، فَقَالَ أَعِدْ صَلَاتَكَ.
قَوْلُهُ: (فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ)، قَالَ عِيَاضٌ: فِيهِ أَنَّ أَفْعَالَ الْجَاهِلِ فِي الْعِبَادَةِ عَلَى غَيْرِ عِلْمٍ لَا تُجْزِئُ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْيِ نَفْيُ الْإِجْزَاءِ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى نَفْيِ الْكَمَالِ تَمَسَّكَ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْمُرْهُ بَعْدَ التَّعْلِيمِ بِالْإِعَادَةِ، فَدَلَّ عَلَى إِجْزَائِهَا وَإِلَّا لَزِمَ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ، كَذَا قَالَهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الْمُهَلَّبُ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَمَرَهُ فِي الْمَرَّةِ الْأَخِيرَةِ بِالْإِعَادَةِ، فَسَأَلَهُ التَّعْلِيمَ فَعَلَّمَهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُ أَعِدْ صَلَاتَكَ عَلَى هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ الْمُنِيرِ، وَسَيَأْتِي فِي آخِرِ الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ مَزِيدُ بَحْثٍ فِي ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (ثَلَاثًا) فِي رِوَايَةِ ابْنِ نُمَيْرٍ فَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ فِي الَّتِي بَعْدَهَا وَفِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ فَقَالَ فِي الثَّانِيَةِ أَوِ الثَّالِثَةِ، وَتَتَرَجَّحُ الْأُولَى لِعَدَمِ وُقُوعِ الشَّكِّ فِيهَا وَلِكَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ مِنْ عَادَتَهِ اسْتِعْمَالُ الثَّلَاثِ فِي تَعْلِيمِهِ غَالِبًا.
قَوْلُهُ: (فَعَلِّمْنِي) فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ عَلِيٍّ
(1)
، فَقَالَ الرَّجُلُ: فَأَرِنِي وَعَلِّمْنِي فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أُصِيبُ وَأُخْطِئُ، فَقَالَ: أَجَلْ.
قَوْلُهُ: (إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ نُمَيْرٍ: إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ، ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ. وَفِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ عَلِيٍّ فَتَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَكَ اللَّهُ، ثُمَّ تَشَهَّدْ وَأَقِمْ. وَفِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ: إِنَّهَا لَمْ تَتِمَّ صَلَاةُ أَحَدِكُمْ حَتَّى يُسْبِغَ الْوُضُوءَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ، فَيَغْسِلُ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَيَمْسَحُ رَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ يُكَبِّرُ اللَّهَ وَيَحْمَدُهُ وَيُمَجِّدُهُ. وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ بَدَلَ وَيُمَجِّدُهُ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ) لَمْ تَخْتَلِفِ الرِّوَايَاتُ فِي هَذَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَمَّا رِفَاعَةُ فَفِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ الْمَذْكُورَةِ وَيَقْرَأُ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ، وَفِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ عَلِيٍّ: فَإِنْ كَانَ مَعَكَ قُرْآنٌ فَاقْرَأْ وَإِلَّا فَاحْمَدِ اللَّهَ وَكَبِّرْهُ وَهَلِّلْهُ. وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ: ثُمَّ اقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ أَوْ بِمَا شَاءَ اللَّهُ. وَلِأَحْمَدَ، وَابْنِ حِبَّانَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: ثُمَّ اقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ ثُمَّ اقْرَأْ بِمَا شِئْتَ. تَرْجَمَ لَهُ ابْنُ حِبَّانَ بِبَابِ فَرْضِ الْمُصَلِّي قِرَاءَةَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ هَذِهِ الْقَرِيبَةِ: فَإِذَا رَكَعْتَ فَاجْعَلْ رَاحَتَيْكَ عَلَى رُكْبَتَيْكَ، وَامْدُدْ ظَهْركَ، وَتَمَكَّنْ لِرُكُوعِكَ. وَفِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ: ثُمَّ يُكَبِّرُ فَيَرْكَعُ حَتَّى تَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُهُ وَيَسْتَرْخِي.
قَوْلُهُ: (حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا) فِي رِوَايَةِ ابْنِ نُمَيْرٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ: حَتَّى تَطْمَئِنَّ قَائِمًا. أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ إِسْنَادَهُ
(1)
كذا في النسخ، ولفظه "على بن يحيى".
بِعَيْنِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَكِنْ لَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ فَهُوَ عَلَى شَرْطِهِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، وَهُوَ فِي مُسْتَخْرَجِ أَبِي نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِهِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ السَّرَّاجُ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مُوسَى أَحَدِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، فَثَبَتَ ذِكْرُ الطُّمَأْنِينَةِ فِي الِاعْتِدَالِ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَمِثْلُهُ فِي حَدِيثِ رِفَاعَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَابْنِ حِبَّانَ، وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ: فَأَقِمْ صُلْبَكَ حَتَّى تَرْجِعَ الْعِظَامُ إِلَى مَفَاصِلِهَا. وَعُرِفَ بِهَذَا أَنَّ قَوْلَ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ: فِي الْقَلْبِ مِنْ إِيجَابِهَا - أَيِ الطُّمَأْنِينَةَ فِي الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ - شَيْءٌ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُذْكَرْ فِي حَدِيثِ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ، دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقِفْ عَلَى هَذِهِ الطُّرُقِ الصَّحِيحَةِ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ اسْجُدْ) فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ: ثُمَّ يُكَبِّرُ فَيَسْجُدُ حَتَّى يُمَكِّنَ وَجْهَهُ أَوْ جَبْهَتَهُ، حَتَّى تَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُهُ وَتَسْتَرْخِيَ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ ارْفَعْ) فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ الْمَذْكُورَةِ، ثُمَّ يُكَبِّرُ فَيَرْكَعُ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِدًا عَلَى مَقْعَدَتَهِ وَيُقِيمَ صُلْبَهُ. وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو: فَإِذَا رَفَعْتَ رَأْسَكَ فَاجْلِسْ عَلَى فَخِذِكَ الْيُسْرَى. وَفِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ: فَإِذَا جَلَسْتَ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ فَاطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ افْتَرِشْ فَخِذَكَ الْيُسْرَى ثُمَّ تَشَهَّدْ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا) فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو: ثُمَّ اصْنَعْ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَسَجْدَةٍ.
(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ نُمَيْرٍ فِي الِاسْتِئْذَانِ بَعْدَ ذِكْرِ السُّجُودِ الثَّانِي: ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى إِيجَابِ جِلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، وَأَشَارَ الْبُخَارِيُّ إِلَى أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ وَهْمٌ، فَإِنَّهُ عَقَّبَهُ بِأَنْ قَالَ: قَالَ أَبُو أُسَامَةَ فِي الْأَخِيرِ: حَتَّى تَسْتَوِيَ قَائِمًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ إِنْ كَانَ مَحْفُوظًا عَلَى الْجُلُوسِ لِلتَّشَهُّدِ، وَيُقَوِّيهِ رِوَايَةُ إِسْحَاقَ الْمَذْكُورَةُ قَرِيبًا، وَكَلَامُ الْبُخَارِيِّ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ أَبَا أُسَامَةَ خَالَفَ ابْنَ نُمَيْرٍ، لَكِنْ رَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ كَمَا قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ بِلَفْظِ: ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ اقْعُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ قَاعِدًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ اقْعُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ قَاعِدًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَة. وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ، وَقَالَ: كَذَا قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ أَبِي قُدَامَةَ، وَيُوسُفَ بْنِ مُوسَى، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ بِلَفْظِ: ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِيَ قَائِمًا، ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ يُوسُفَ بْنِ مُوسَى كَذَلِكَ.
وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى وُجُوبِ الطُّمَأْنِينَةِ فِي أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَاشْتُهِرَ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ سُنَّةٌ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ مُصَنِّفِيهِمْ، لَكِنَّ كَلَامَ الطَّحَاوِيِّ كَالصَّرِيحِ فِي الْوُجُوبِ عِنْدَهُمْ، فَإِنَّهُ تَرْجَمَ مِقْدَارَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ فِي قَوْلِهِ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ ثَلَاثًا فِي الرُّكُوعِ وَذَلِكَ أَدْنَاهُ. قَالَ: فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ هَذَا مِقْدَارُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لَا يُجْزِئُ أَدْنَى مِنْهُ، قَالَ: وَخَالَفَهُمْ آخَرُونَ، فَقَالُوا: إِذَا اسْتَوَى رَاكِعًا وَاطْمَأَنَّ سَاجِدًا أَجْزَأَ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: تَكَرَّرَ مِنَ الْفُقَهَاءِ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى وُجُوبِ مَا ذُكِرَ فِيهِ وَعَلَى عَدَمِ وُجُوبِ مَا لَمْ يُذْكَرْ، أَمَّا الْوُجُوبُ فَلِتَعَلُّقِ الْأَمْرِ بِهِ، وَأَمَّا عَدَمُهُ فَلَيْسَ لِمُجَرَّدِ كَوْنِ الْأَصْلِ عَدَمُ الْوُجُوبِ، بَلْ لِكَوْنِ الْمَوْضِعِ تَعْلِيمٍ وَبَيَانٍ لِلْجَاهِلِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي انْحِصَارَ الْوَاجِبَاتِ فِيمَا ذُكِرَ، وَيَتَقَوَّى ذَلِكَ بِكَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ الْإِسَاءَةُ مِنْ هَذَا الْمُصَلِّي وَمَا لَمْ تَتَعَلَّقْ بِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُقْصِرِ الْمَقْصُودَ عَلَى مَا وَقَعَتْ بِهِ الْإِسَاءَةُ. قَالَ: فَكُلُّ مَوْضِعٍ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِهِ وَكَانَ مَذْكُورًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَلَنَا أَنْ نَتَمَسَّكَ بِهِ فِي وُجُوبِهِ، وَبِالْعَكْسِ. لَكِنْ يَحْتَاجُ أَوَّلًا إِلَى جَمْعِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ وَإِحْصَاءِ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ وَالْأَخْذِ بِالزَّائِدِ فَالزَّائِدِ، ثُمَّ إِنْ عَارَضَ الْوُجُوبَ أَوْ عَدَمَهُ دَلِيلٌ أَقْوَى مِنْهُ عُمِلَ بِهِ، وَإِنْ جَاءَتْ صِيغَةُ الْأَمْرِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ بِشَيْءٍ لَمْ يُذْكَرْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قُدِّمَتْ. قُلْتُ: قَدِ امْتَثَلْتُ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ وَجَمَعْتُ طُرُقَهُ الْقَوِيَّةَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرِفَاعَةَ،
وَقَدْ أَمْلَيْتُ الزِّيَادَاتِ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا. فَمِمَّا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ صْرِيحًا مِنَ الْوَاجِبَاتِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا: النِّيَّةُ، وَالْقُعُودُ الْأَخِيرُ وَمِنَ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ التَّشَهُّدُ الْأَخِيرُ وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ، وَالسَّلَامُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَ الرَّجُلِ اهـ.
وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى تَكْمِلَةٍ، وَهُوَ ثُبُوتُ الدَّلِيلِ عَلَى إِيجَابِ مَا ذُكِرَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ نَظَرٌ. قَالَ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِقَامَةَ وَالتَّعَوُّذَ وَدُعَاءَ الِافْتِتَاحِ وَرَفْعَ الْيَدَيْنِ فِي الْإِحْرَامِ وَغَيْرِهِ، وَوَضْعَ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، وَتَكْبِيرَاتِ الِانْتِقَالَاتِ وَتَسْبِيحَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَهَيْئَاتِ الْجُلُوسِ، وَوَضْعَ الْيَدِ عَلَى الْفَخِذِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ فِي الْحَدِيثِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ اهـ. وَهُوَ فِي مَعْرِضِ الْمَنْعِ لِثُبُوتِ بَعْضِ مَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، فَيَحْتَاجُ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِوُجُوبِهِ إِلَى دَلِيلٍ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَعَيُّنِ لَفْظِ التَّكْبِيرِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: يُجْزِئُ بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى التَّعْظِيمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي أَوَّلِ صِفَةِ الصَّلَاةِ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَيَتَأَيَّدُ ذَلِكَ بِأَنَّ الْعِبَادَاتِ مَحَلُّ التَّعَبُّدَاتِ، وَلِأَنَّ رُتَبَ هَذِهِ الْأَذْكَارِ مُخْتَلِفَةٌ، فَقَدْ لَا يَتَأَدَّى بِرُتْبَةٍ مِنْهَا مَا يُقْصَدُ بِرُتْبَةٍ أُخْرَى. وَنَظِيرُهُ الرُّكُوعُ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ التَّعْظِيمُ بِالْخُضُوعِ، فَلَوْ أَبْدَلَهُ بِالسُّجُودِ لَمْ يُجْزِئْ، مَعَ أَنَّهُ غَايَةُ الْخُضُوعِ.
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ لَا تَتَعَيَّنُ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَوَجْهُهُ أَنَّهُ إِذَا تَيَسَّرَ فِيهِ غَيْرُ الْفَاتِحَةِ فَقَرَأَهُ يَكُونُ مُمْتَثِلًا فَيَخْرُجُ عَنِ الْعُهْدَةِ، قَالَ: وَالَّذِينَ عَيَّنُوهَا أَجَابُوا بِأَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى تَعَيُّنِهَا تَقْيِيدٌ لِلْمُطْلَقِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَهُوَ مُتَعَقَّبٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُطْلَقٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بَلْ هُوَ مُقَيَّدٌ بِقَيْدِ التَّيْسِيرِ الَّذِي يَقْتَضِي التَّخْيِيرَ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُطْلَقًا لَوْ قَالَ: اقْرَأْ قُرْآنًا، ثُمَّ قَالَ: اقْرَأْ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ بَيَانٌ لِلْمُجْمَلِ، وَهُوَ مُتَعَقَّبٌ أَيْضًا، لِأَنَّ الْمُجْمَلَ مَا لَمْ تَتَّضِحْ دَلَالَتُهُ، وَقَوْلُهُ مَا تَيَسَّرَ مُتَّضِحٌ لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي التَّخْيِيرِ، قَالَ: وَإِنَّمَا يَقْرَبُ ذَلِكَ إِنْ جُعِلَتْ مَا مَوْصُولَةً، وَأُرِيدَ بِهَا شَيْءٌ مُعَيَّنٌ وَهُوَ الْفَاتِحَةُ لِكَثْرَةِ حِفْظِ الْمُسْلِمِينَ لَهَا، فَهِيَ الْمُتَيَسِّرَةُ. وَقِيلَ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ عَرَفَ مِنْ حَالِ الرَّجُلِ أَنَّهُ لَا يَحْفَظُ الْفَاتِحَةَ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ قِرَاءَةَ مَا تَيَسَّرَ. وَقِيلَ: مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِالدَّلِيلِ عَلَى تَعْيِينِ الْفَاتِحَةِ، وَلَا يَخْفَى ضَعْفُهُمَا. لَكِنَّهُ مُحْتَمَلٌ، وَمَعَ الِاحْتِمَالِ لَا يُتْرَكُ الصَّرِيحُ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ مَا تَيَسَّرَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا زَادَ عَلَى الْفَاتِحَةِ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ دَلِيلِ إِيجَابِ الْفَاتِحَةِ. وَيُؤَيِّدُهُ الرِّوَايَةُ الَّتِي تَقَدَّمَتْ لِأَحْمَدَ، وَابْنِ حِبَّانَ حَيْثُ قَالَ فِيهَا: اقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ، ثُمَّ اقْرَأْ بِمَا شِئْتَ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ الطُّمَأْنِينَةِ فِي الْأَرْكَانِ.
وَاعْتَذَرَ بَعْضُ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ بِأَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ، لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ مُطْلَقُ السُّجُودِ فَيَصْدُقُ بِغَيْرِ طُمَأْنِينَةٍ، فَالطُّمَأْنِينَةُ زِيَادَةٌ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ لَا تُعْتَبَرُ.
وَعُورِضَ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ زِيَادَةً لَكِنْ بَيَانٌ لِلْمُرَادِ بِالسُّجُودِ، وَأَنَّهُ خَالَفَ السُّجُودَ اللُّغَوِيَّ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ وَضْعِ الْجَبْهَةِ، فَبَيَّنَتِ السُّنَّةُ أَنَّ السُّجُودَ الشَّرْعِيَّ مَا كَانَ بِالطُّمَأْنِينَةِ. وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ تَأْكِيدًا لِوُجُوبِ السُّجُودِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ مَعَهُ يُصَلُّونَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِغَيْرِ طُمَأْنِينَةٍ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ: وُجُوبُ الْإِعَادَةِ عَلَى مَنْ أَخَلَّ بِشَيْءٍ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ. وَفِيهِ أَنَّ الشُّرُوعَ فِي النَّافِلَةِ مُلْزِمٌ، لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الصَّلَاةُ كَانَتْ فَرِيضَةً فَيَقِفُ الِاسْتِدْلَالُ. وَفِيهِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَحُسْنُ التَّعْلِيمِ بِغَيْرِ تَعْنِيفٍ، وَإِيضَاحُ الْمَسْأَلَةِ، وَتَخْلِيصُ الْمَقَاصِدِ، وَطَلَبُ الْمُتَعَلِّمِ مِنَ الْعَالِمِ أَنْ يُعَلِّمَهُ. وَفِيهِ تَكْرَارُ السَّلَامِ وَرَدُّهُ وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الْمَوْضِعِ إِذَا وَقَعَتْ صُورَةُ انْفِصَالٍ. وَفِيهِ أَنَّ الْقِيَامَ فِي الصَّلَاةِ لَيْسَ مَقْصُودًا لِذَاتِهِ، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ لِلْقِرَاءَةِ فِيهِ. وَفِيهِ جُلُوسُ الْإِمَامِ فِي الْمَسْجِدِ وَجُلُوسُ أَصْحَابِهِ مَعَهُ.
وَفِيهِ التَّسْلِيمُ لِلْعَالِمِ وَالِانْقِيَادُ لَهُ وَالِاعْتِرَافُ بِالتَّقْصِيرِ وَالتَّصْرِيحُ بِحُكْمِ الْبَشَرِيَّةِ فِي جَوَازِ الْخَطَأِ
وَفِيهِ أَنَّ فَرَائِضَ الْوُضُوءِ مَقْصُورَةٌ عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ لَا مَا زَادَتْهُ السُّنَّةُ فَيُنْدَبُ
(1)
. وَفِيهِ حُسْنُ خُلُقِهِ صلى الله عليه وسلم وَلُطْفُ مُعَاشَرَتِهِ، وَفِيهِ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ فِي الْمَجْلِسِ لِلْمَصْلَحَةِ. وَقَدِ اسْتُشْكِلَ تَقْرِيرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ عَلَى صَلَاتِهِ وَهِيَ فَاسِدَةٌ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ أَخَلَّ بِبَعْضِ الْوَاجِبَاتِ، وَأَجَابَ الْمَازِرِيُّ بِأَنَّهُ أَرَادَ اسْتِدْرَاجَهُ بِفِعْلِ مَا يَجْهَلُهُ مَرَّاتٍ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ فَعَلَهُ نَاسِيًا أَوْ غَافِلًا فَيَتَذَكَّرُهُ فَيَفْعَلُهُ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيمٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّقْرِيرِ الْخَطَأِ، بَلْ مِنْ بَابِ تَحَقُّقِ الْخَطَأِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ نَحْوَهُ، قَالَ: وَإِنَّمَا لَمْ يُعَلِّمْهُ أَوَّلًا لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي تَعْرِيفِهِ وَتَعْرِيفِ غَيْرِهِ بِصِفَةِ الصَّلَاةِ الْمُجْزِئَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَرْدِيدُهُ لِتَفْخِيمِ الْأَمْرِ وَتَعْظِيمِهِ عَلَيْهِ، وَرَأَى أَنَّ الْوَقْتَ لَمْ يَفُتْهُ، فَرَأَى إِيقَاظَ الْفِطْنَةِ لِلْمَتْرُوكِ.
وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَيْسَ التَّقْرِيرُ بِدَلِيلٍ عَلَى الْجَوَازِ مُطْلَقًا، بَلْ لَا بُدَّ مِنِ انْتِفَاءِ الْمَوَانِعِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي زِيَادَةِ قَبُولِ الْمُتَعَلِّمِ لِمَا يُلْقَى إِلَيْهِ بَعْدَ تَكْرَارِ فِعْلِهِ وَاسْتِجْمَاعِ نَفْسِهِ وَتَوَجُّهِ سُؤَالِهِ مَصْلَحَةً مَانِعَةً مِنْ وُجُوبِ الْمُبَادَرَةِ إِلَى التَّعْلِيمِ، لَا سِيَّمَا مَعَ عَدَمِ خَوْفِ الْفَوَاتِ، إِمَّا بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ الْحَالِ، أَوْ بِوَحْيٍ خَاصٍّ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: إِنَّمَا سَكَتَ عَنْ تَعْلِيمِهِ أَوَّلًا لِأَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ لَمْ يَسْتَكْشِفِ الْحَالَ مِنْ مَوْرِدِ الْوَحْيِ، وَكَأَنَّهُ اغْتَرَّ بِمَا عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ فَسَكَتَ عَنْ تَعْلِيمِهِ زَجْرًا لَهُ وَتَأْدِيبًا وَإِرْشَادًا إِلَى اسْتِكْشَافِ مَا اسْتَبْهَمَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا طَلَبَ كَشْفَ الْحَالِ مِنْ مَوْرِدِهِ أُرْشِدَ إِلَيْهِ. انْتَهَى.
لَكِنْ فِيهِ مُنَاقَشَةٌ، لِأَنَّهُ إِنْ تَمَّ لَهُ فِي الصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ لَمْ يَتِمَّ لَهُ فِي الْأُولَى، لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم بَدَأَهُ لَمَّا جَاءَ أَوَّلَ مَرَّةٍ بِقَوْلِهِ: ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ. فَالسُّؤَالُ وَارِدٌ عَلَى تَقْرِيرِهِ لَهُ عَلَى الصَّلَاةِ الْأُولَى: كَيْفَ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ فِي أَثْنَائِهَا؟ لَكِنَّ الْجَوَابَ يَصْلُحُ بَيَانًا لِلْحِكْمَةِ فِي تَأْخِيرِ الْبَيَانِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِيهِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ أَجَازَ الْقِرَاءَةَ بِالْفَارِسِيَّةِ لِكَوْنِ مَا لَيْسَ بِلِسَانِ الْعَرَبِ لَا يُسَمَّى قُرْآنًا، قَالَهُ عِيَاضٌ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِيهِ وُجُوبُ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا، وَأَنَّ الْمُفْتِيَ إِذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ وَكَانَ هُنَاكَ شَيْءٌ آخَرُ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ السَّائِلُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَذْكُرَهُ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ، وَيَكُونُ مِنْ بَابِ النَّصِيحَةِ لَا مِنَ الْكَلَامِ فِيمَا لَا مَعْنَى لَهُ. وَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ كَوْنُهُ قَالَ: عَلِّمْنِي؛ أَيِ الصَّلَاةَ. فَعَلَّمَهُ الصَّلَاةَ وَمُقَدِّمَاتِهَا.
123 - بَاب الدُّعَاءِ فِي الرُّكُوعِ
794 -
حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي.
[الحديث 794 - أطرافه في: 4968، 4967، 4293، 817]
قَوْلُهُ: (بَابُ الدُّعَاءِ فِي الرُّكُوعِ) تَرْجَمَ بَعْدَ هَذَا بِأَبْوَابِ التَّسْبِيحِ وَالدُّعَاءِ فِي السُّجُودِ، وَسَاقَ فِيهِ حَدِيثَ الْبَابِ، فَقِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي تَخْصِيصِ الرُّكُوعِ بِالدُّعَاءِ دُونَ التَّسْبِيحِ - مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ وَاحِدٌ -؛ أَنَّهُ قَصَدَ الْإِشَارَةَ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ كَرِهَ الدُّعَاءَ فِي الرُّكُوعِ كَمَالِكٍ، وَأَمَّا التَّسْبِيحُ فَلَا خِلَافَ فِيهِ، فَاهْتَمَّ هُنَا بِذِكْرِ الدُّعَاءِ لِذَلِكَ. وَحُجَّةُ الْمُخَالِفِ الْحَدِيثُ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، وَفِيهِ: فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ. لَكِنَّهُ لَا مَفْهُومَ لَهُ، فَلَا يَمْتَنِعُ الدُّعَاءُ فِي الرُّكُوعِ كَمَا لَا يَمْتَنِعُ التَّعْظِيمُ فِي السُّجُودِ. وَظَاهِرُ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ هَذَا الذِّكْرَ كُلَّهُ فِي الرُّكُوعِ وَكَذَا فِي السُّجُودِ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي الْبَابِ
(1)
في هذا نظر. والصواب وجوب ما دلت السنة على وجوبه من الضوء كالمضمضة والاستنشاق، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لأن السنة تفسر القرآن وما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو مما أمر الله به لقوله تعالى {من يطع الرسول فقد أطاع الله} الاية. والله أعلم
الْمَذْكُورِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
124 - بَاب مَا يَقُولُ الْإِمَامُ وَمَنْ خَلْفَهُ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ
795 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ؛ قَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ. وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا رَكَعَ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ يُكَبِّرُ، وَإِذَا قَامَ مِنْ السَّجْدَتَيْنِ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يَقُولُ الْإِمَامُ وَمَنْ خَلْفَهُ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ). وَقَعَ فِي شَرْحِ ابْنِ بَطَّالٍ هُنَا بَابُ الْقِرَاءَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَمَا يَقُولُ الْإِمَامُ وَمَنْ خَلْفَهُ إِلَخْ، وَتَعَقَّبَهُ بِأَنْ قَالَ: لَمْ يُدْخِلْ فِيهِ حَدِيثًا لِجَوَازِ الْقِرَاءَةِ وَلَا مَنْعِهَا. وَقَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: هَذِهِ الزِّيَادَةُ لَمْ تَقَعْ فِيمَا رَوَيْنَاهُ مِنْ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ. انْتَهَى.
وَكَذَلِكَ أَقُولُ، وَقَدْ تَبِعَ ابْنُ الْمُنِيرِ، ابْنُ بَطَّالٍ، ثُمَّ اعْتَذَرَ عَنِ الْبُخَارِيِّ بِأَنْ قَالَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَضَعَهَا لِلْأَمْرَيْنِ؛ فَذَكَرَ أَحَدَهُمَا وَأَخْلَى لِلْآخَرِ بَيَاضًا لِيَذْكُرْ فِيهِ مَا يُنَاسِبُهُ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ مَانِعٌ فَبَقِيَتِ التَّرْجَمَةُ بِلَا حَدِيثٍ. وَقَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَرْجَمَ بِحَدِيثٍ مُشِيرًا إِلَيْهِ وَلَمْ يُخَرِّجْهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى شَرْطِهِ لِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ اضْطِرَابًا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ، وَفِي آخِرِهِ: أَلَا وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، ثُمَّ تَعَقَّبَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّ ظَاهِرَ التَّرْجَمَةِ الْجَوَازُ وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ الْمَنْعُ. قَالَ: فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى التَّرْجَمَةِ بَابُ حُكْمِ الْقِرَاءَةِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْجَوَازِ أَوِ الْمَنْعِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ جَوَازًا وَمَنْعًا، فَلَعَلَّهُ كَانَ يَرَى الْجَوَازَ لِأَنَّ حَدِيثَ النَّهْيِ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَمَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ إِلَى هَذَا الْأَخِيرِ، لَكِنْ حَمَلَهُ عَلَى وَجْهٍ أَخَصَّ مِنْهُ؛ فَقَالَ: لَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّ الْحَمْدَ فِي الصَّلَاةِ لَا حَجْرَ فِيهِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ مَطَالِبِهَا ظَهَرَ تَسْوِيغُ ذَلِكَ فِي الرُّكُوعِ وَغَيْرِهِ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ آيَاتُ الْحَمْدِ كَمُفْتَتَحِ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِهَا.
فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ ذِكْرُ مَا يَقُولُهُ الْمَأْمُومُ، أَجَابَ ابْنُ رَشِيدٍ بِأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى التَّذْكِيرِ بِالْمُقَدِّمَاتِ لِتَكُونَ الْأَحَادِيثُ عِنْدَ الِاسْتِنْبَاطِ نُصْبَ عَيْنَيِ الْمُسْتَنْبِطِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ: إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، وَحَدِيثُ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي. قَالَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَاسَ الْمَأْمُومَ عَلَى الْإِمَامِ لَكِنْ فِيهِ ضَعْفٌ. قُلْتُ: وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِلَفْظِ: كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَقَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، قَالَ مَنْ وَرَاءَهُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَلَكِنْ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: الْمَحْفُوظُ فِي هَذَا فَلْيَقُلْ مَنْ وَرَاءَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ. وَسَنَذْكُرُ الِاخْتِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (إِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ) فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ: كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ؛ قَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ. وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ أَحَدَهُمَا ذَكَرَ مَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْآخَرُ.
قَوْلُهُ: (اللَّهُمَّ رَبَّنَا) ثَبَتَ فِي أَكْثَرِ الطُّرُقِ هَكَذَا، وَفِي بَعْضِهَا يحَذْفِ اللَّهُمَّ وَثُبُوتُهَا أَرْجَحُ، وَكِلَاهُمَا جَائِزٌ، وَفِي ثُبُوتِهَا تَكْرِيرُ النِّدَاءِ؛ كَأَنَّهُ قَالَ: يَا اللَّهُ يَا رَبَّنَا.
قَوْلُهُ: (وَلَكَ الْحَمْدُ) كَذَا ثَبَتَ زِيَادَةُ الْوَاوِ فِي طُرُقٍ كَثِيرَةٍ، وَفِي بَعْضِهَا كَمَا فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ بِحَذْفِهَا، قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُخْتَارُ لَا تَرْجِيحَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: كَأَنَّ إِثْبَاتَ الْوَاوِ دَالٌّ عَلَى مَعْنًى زَائِدٍ، لِأَنَّهُ يَكُونُ التَّقْدِيرُ مَثَلًا رَبَّنَا اسْتَجِبْ وَلَكَ الْحَمْدُ، فَيَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَى الدُّعَاءِ وَمَعْنَى الْخَبَرِ. انْتَهَى. وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَاوَ عَاطِفَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ التَّكْبِيرِ إِذَا قَامَ مِنَ السُّجُودِ قَوْلُ مَنْ جَعَلَهَا حَالِيَّةً، وَأَنَّ الْأَكْثَرَ رَجَّحُوا ثُبُوتَهَا. وَقَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ يُثْبِتُ
الْوَاوَ فِي رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ وَيَقُولُ: ثَبَتَ فِيهِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ.
قَوْلُهُ: (إِذَا رَكَعَ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ) أَيْ مِنَ السُّجُودِ، وَقَدْ سَاقَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْمَتْنَ مُخْتَصَرًا، وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ طَرِيقِ شَبَابَةَ وَأَوَّلُهُ عِنْدَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَالَ: أَنَا أَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يُكَبِّرُ إِذَا رَكَعَ، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ؛ قَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، وَكَانَ يُكَبِّرُ إِذَا سَجَدَ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ وَإِذَا قَامَ مِنَ السَّجْدَتَيْنِ. وَرَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ بِلَفْظِ: وَإِذَا قَامَ مِنَ الثِّنْتَيْنِ كَبَّرَ. وَرَوَاهُ الطَّيَالِسِيُّ بِلَفْظِ: وَكَانَ يُكَبِّرُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالثِّنْتَيْنِ الرَّكْعَتَانِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ إِذَا قَامَ إِلَى الثَّالِثَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ الرِّوَايَةُ الْمَاضِيَةُ فِي بَابِ التَّكْبِيرِ إِذَا قَامَ مِنَ السُّجُودِ بِلَفْظِ: وَيُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ مِنَ الثِّنْتَيْنِ بَعْدَ الْجُلُوسِ. وَأَمَّا رِوَايَةُ الطَّيَالِسِيِّ فَالْمُرَادُ بِهَا التَّكْبِيرُ لِلسَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ، وَكَأَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ ذَكَرَ مَا لَمْ يَذْكُرِ الْآخَرُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ) كَذَا وَقَعَ مُغَيَّرَ الْأُسْلُوبِ إِذْ عَبَّرَ أَوَّلًا بِلَفْظِ يُكَبِّرُ؛ قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: هُوَ لِلتَّفَنُّنِ أَوْ لِإِرَادَةِ التَّعْمِيمِ، لِأَنَّ التَّكْبِيرَ يَتَنَاوَلُ التَّعْرِيفَ وَنَحْوَهُ. انْتَهَى.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ، فَإِنَّ الرِّوَايَاتِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا جَاءَتْ كُلُّهَا عَلَى أُسْلُوبٍ وَاحِدٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ تَعْيِينَ هَذَا اللَّفْظِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أَلْفَاظِ التَّعْظِيمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ فَوَائِدِهِ فِي بَابِ التَّكْبِيرِ إِذَا قَامَ مِنَ السُّجُودِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى مَحَلِّ التَّكْبِيرِ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنَ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ بَعْدَ بِضْعَةَ عَشَرَ بَابًا.
125 - بَاب فَضْلِ اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ
796 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا قَالَ الْإِمَامُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ؛ فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ. فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ.
[الحديث 796 - أطرافه في: 3228]]
قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَلَكَ الْحَمْدُ بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى ابْنِ الْقَيِّمِ حَيْثُ جَزَمَ بِأَنَّهُ لَمْ يَرِدِ الْجَمْعُ بَيْنَ اللَّهُمَّ وَالْوَاوِ فِي ذَلِكَ. وَثَبَتَ لَفْظُ بَابٍ عِنْدَ مَنْ عَدَا أَبَا ذَرٍّ، وَالْأَصِيلِيَّ، وَالرَّاجِحُ حَذْفُهُ كَمَا سَيَأْتِي.
قَوْلُهُ: (إِذَا قَالَ الْإِمَامُ إِلَخْ) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَقُولُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، وَعَلَى أَنَّ الْمَأْمُومَ لَا يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ لِكَوْنِ ذَلِكَ لَمْ يُذْكَرْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ كَمَا حَكَاهُ الطَّحَاوِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ، بَلْ فِيهِ أَنَّ قَوْلَ الْمَأْمُومِ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ يَكُونُ عَقِبَ قَوْلِ الْإِمَامِ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، وَالْوَاقِعُ فِي التَّصْوِيرِ ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِمَامَ يَقُولُ التَّسْمِيعَ فِي حَالِ انْتِقَالِهِ، وَالْمَأْمُومَ يَقُولُ التَّحْمِيدَ فِي حَالِ اعْتِدَالِهِ، فَقَوْلُهُ يَقَعُ عَقِبَ قَوْلِ الْإِمَامِ كَمَا فِي الْخَبَرِ، وَهَذَا الْمَوْضِعُ يَقْرُبُ مِنْ مَسْأَلَةِ التَّأْمِينِ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِهِ إِذَا قَالَ وَلَا الضَّالِّينَ فَقُولُوا آمِينَ أَنَّ الْإِمَامَ لَا يُؤَمِّنُ بَعْدَ قَوْلِه وَلَا الضَّالِّينَ، وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ الْإِمَامَ يُؤَمِّنُ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا أَنَّهُ يَقُولُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، لَكِنَّهُمَا مُسْتَفَادَانِ مِنْ أَدِلَّةٍ أُخْرَى صَحِيحَةٍ صَرِيحَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي التَّأْمِينِ وَكَمَا مَضَى فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ وَفِي غَيْرِهِ، وَيَأْتِي أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ التَّسْمِيعِ وَالتَّحْمِيدِ. وَأَمَّا مَا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مِنْ أَنَّ مَعْنَى سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ طَلَبُ التَّحْمِيدِ فَيُنَاسِبُ حَالَ الْإِمَامِ، وَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَتُنَاسِبُهُ الْإِجَابَةُ بِقَوْلِهِ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، وَيُقَوِّيهِ حَدِيثُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، فَفِيهِ: وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ يَسْمَعُ
اللَّهُ لَكُمْ.
فَجَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ لَا يَدُلُّ مَا ذَكَرْتُمْ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَقُولُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، إِذْ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ طَالِبًا وَمُجِيبًا، وَهُوَ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ التَّأْمِينِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْإِمَامِ دَاعِيًا وَالْمَأْمُومِ مُؤَمِّنًا أَنْ لَا يَكُونَ الْإِمَامُ مُؤَمِّنًا، وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَيْعَلَةِ وَالْحَوْقَلَةِ لِسَامِعِ الْمُؤَذِّنِ، وَقَضِيَّةُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِمَامَ يَجْمَعُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ وَالْجُمْهُورِ، وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ تَشْهَدُ لَهُ، وَزَادَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الْمَأْمُومَ يَجْمَعُ بينهما أَيْضًا لَكِنْ لَمْ يَصِحَّ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ وَلَمْ يَثْبُتْ عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ أَنَّهُ قَالَ إِنَّ الشَّافِعِيَّ انْفَرَدَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ نُقِلَ فِي الْإِشْرَافِ عَنْ عَطَاءٍ، وَابْنِ سِيرِينَ وَغَيْرِهِمَا الْقَوْلُ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا لِلْمَأْمُومِ، وَأَمَّا الْمُنْفَرِدُ فَحَكَى الطَّحَاوِيُّ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنهمَا، وَجَعَلَهُ الطَّحَاوِيُّ حُجَّةً لِكَوْنِ الْإِمَامِ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا لِلِاتِّفَاقِ عَلَى اتِّحَادِ حُكْمِ الْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ، لَكِنْ أَشَارَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ إِلَى خِلَافٍ عِنْدَهُمْ فِي الْمُنْفَرِدِ.
قَوْلُهُ: (فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ) فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَقُولُ مَا يَقُولُ الْمَأْمُومُونَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَاقِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي بَابِ التَّأْمِينِ.
126 - بَاب
797 -
حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَأُقَرِّبَنَّ صَلَاةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقْنُتُ فِي رَّكْعَةِ الأخرى مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَصَلَاةِ الْعِشَاءِ وَصَلَاةِ الصُّبْحِ بَعْدَمَا يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَيَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَلْعَنُ الْكُفَّارَ.
[الحديث 798 - طرفه في: 1004]
799 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُجْمِرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَلَادٍ الزُّرَقِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزُّرَقِيِّ قَالَ كُنَّا يَوْمًا نُصَلِّي وَرَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرَّكْعَةِ قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ قَالَ رَجُلٌ وَرَاءَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ مَنْ الْمُتَكَلِّمُ قَالَ أَنَا قَالَ رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّلُ "
قَوْلُهُ: (بَابٌ) كَذَا لِلْجَمِيعِ بِغَيْرِ تَرْجَمَةٍ إِلَّا لِلْأَصِيلِيِّ فَحَذَفَهُ، وَعَلَيْهِ شَرْحُ ابْنِ بَطَّالٍ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَالرَّاجِحُ إِثْبَاتُهُ كَمَا أَنَّ الرَّاجِحَ حَذْفُ بَابٍ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْمَذْكُورَةَ فِيهِ لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى فَضْلِ اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ إِلَّا بِتَكَلُّفٍ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الْفَصْلِ مِنَ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ أَوَّلًا بَابُ مَا يَقُولُ الْإِمَامُ وَمَنْ خَلْفَهُ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، وَذَكَرَ فِيهِ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ. اسْتَطْرَدَ إِلَى ذِكْرِ فَضْلِ هَذَا الْقَوْلِ بِخُصُوصِهِ، ثُمَّ فَصَلَ بِلَفْظِ بَابٍ لِتَكْمِيلِ التَّرْجَمَةِ الْأُولَى، فَأَوْرَدَ بَقِيَّةَ مَا ثَبَتَ عَلَى شَرْطِهِ مِمَّا يُقَالُ فِي الِاعْتِدَالِ كَالْقُنُوتِ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ وَجَّهَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ دُخُولَ الْأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ تَحْتَ تَرْجَمَةِ فَضْلِ اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، فَقَالَ: وَجْهُ دُخُولِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْقُنُوتَ لَمَّا كَانَ مَشْرُوعًا فِي الصَّلَاةِ كانت هِيَ مِفْتَاحُهُ وَمُقَدِّمَتُهُ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ سَبَبُ تَخْصِيصِ الْقُنُوتِ بِمَا بَعْدَ ذِكْرِهَا. انْتَهَى.
وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ، وَقَدْ تُعُقِّبَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ
أَنَّ الْخَبَرَ الْمَذْكُورَ فِي الْبَابِ لَمْ يَقَعْ فِيهِ قَوْلُ: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، لَكِنْ لَهُ أَنْ يَقُولَ وَقَعَ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ اخْتِصَارٌ وَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي الْأَصْلِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِحَدِيثِ أَنَسٍ، لَكِنْ لَهُ أَنْ يَقُولَ إِنَّمَا أَوْرَدَهُ اسْتِطْرَادًا لِأَجْلِ ذِكْرِ الْمَغْرِبِ. قَالَ: وَأَمَّا حَدِيثُ رِفَاعَةَ فَظَاهِرٌ فِي أَنَّ الِابْتِدَارَ الَّذِي تَنْشَأُ عَنْهُ الْفَضِيلَةُ إِنَّمَا كَانَ لِزِيَادَةِ قَوْلِ الرَّجُلِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَتِ الزِّيَادَةُ الْمَذْكُورَةُ صِفَةً فِي التَّحْمِيدِ جَارِيَةً مَجْرَى التَّأْكِيدِ لَهُ تَعَيَّنَ جَعْلُ الْأَصْلِ سَبَبًا أَوْ سَبَبًا لِلسَّبَبِ فَثَبَتَتْ بِذَلِكَ الْفَضِيلَةُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ تَرْجَمَ بَعْضُهُمْ لَهُ بِبَابِ الْقُنُوتِ وَلَمْ أَرَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ رِوَايَتِنَا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا هِشَامٌ) هُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ، وَيَحْيَى هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُعَاذِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ يَحْيَى حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ.
قَوْلُهُ: (لَأُقَرِّبَنَّ صَلَاةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ الْمَذْكُورَةِ لَأُقَرِّبَنَّ لَكُمْ، وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ إِنِّي لَأَقْرَبُكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ إِلَى آخِرِهِ)، قِيلَ: الْمَرْفُوعُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ وُجُودُ الْقُنُوتِ لَا وُقُوعُهُ فِي الصَّلَوَاتِ الْمَذْكُورَةِ، فَإِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ. وَيُوَضِّحُهُ مَا سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ النِّسَاءِ مِنْ رِوَايَةِ شَيْبَانَ، عَنْ يَحْيَى مِنْ تَخْصِيصِ الْمَرْفُوعِ بِصَلَاةِ الْعِشَاءِ، وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي صَلَاةِ الْعَتَمَةِ شَهْرًا، وَنَحْوُهُ لِمُسْلِمٍ، لَك نْ لَا يُنَافِي هَذَا كَوْنَهُ صلى الله عليه وسلم قَنَتَ فِي غَيْرِ الْعِشَاءِ، وَالظَّاهِرُ سِيَاقُ حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّ جَمِيعَهُ مَرْفُوعٌ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي تَعَقُّبِ الْمُصَنِّفِ لَهُ بِحَدِيثِ أَنَسٍ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْقُنُوتَ فِي النَّازِلَةِ لَا يَخْتَصُّ بِصَلَاةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَاسْتَشْكَلَ التَّقْيِيدَ فِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ بِشَهْرٍ لِأَنَّ الْمَحْفُوظَ أَنَّهُ كَانَ فِي قِصَّةِ الَّذِينَ قَتَلُوا أَصْحَابَ بِئْرِ مَعُونَةَ كَمَا سَيَأْتِي فِي آخِرِ أَبْوَابِ الْوِتْرِ، وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُؤْمِنِينَ مَنْ كَانَ مَأْسُورًا بِمَكَّةَ، وَبِالْكَافِرِينَ قُرَيْشٌ، وَأَنَّ مُدَّتَهُ كَانَتْ طَوِيلَةً فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْيِيدُ بِشَهْرٍ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَتَعَلَّقُ بِصِفَةٍ مِنَ الدُّعَاءِ مَخْصُوصَةٍ، وَهِيَ قَوْلُهُ: اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ.
قَوْلُهُ: (فِي الرَّكْعَةِ الْأُخْرَى) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ الْآخِرَةِ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ الرُّكُوعِ، وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ بَيَانُ الْخِلَافِ فِي مُدَّةِ الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ وَالتَّنْبِيهُ عَلَى أَحْوَالِ مَنْ سَمَّى مِنْهُمْ. وَقَدِ اخْتَصَرَ يَحْيَى سِيَاقُ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَطَوَّلَهُ الزُّهْرِيُّ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ، وَسَيَأْتِي فِي الدَّعَوَاتِ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَتَمَّ مِمَّا سَاقَهُ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
798 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْأَسْوَدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسِ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ الْقُنُوتُ فِي الْمَغْرِبِ وَالْفَجْرِ.
قَوْلُهُ: (إِسْمَاعِيلُ) هُوَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ عُلَيَّةَ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْأَسْوَدِ نُسِبَ إِلَى جَدِّ أَبِيهِ، وَاسْمُ أَبِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ.
قَوْلُهُ: (كَانَ الْقُنُوتُ) أَيْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَاحْتُجَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ كُنَّا نَفْعَلُ كَذَا لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ وَإِنْ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِزَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا هُوَ قَوْلُ الْحَاكِمِ، وَقَدِ اتَّفَقَ الشَّيْخَانِ عَلَى إِخْرَاجِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الْمُسْنَدِ الصَّحِيحِ وَلَيْسَ فِيهِ تَقْيِيدٌ، وَسَنَذْكُرُ اخْتِلَافَ النَّقْلِ عَنْ أَنَسٍ فِي الْقُنُوتِ فِي مَحَلِّهِ مِنَ الصَّلَاةِ وَفِي أَيِّ الصَّلَوَاتِ شُرِعَ، وَهَلِ اسْتَمَرَّ مُطْلَقًا أَوْ مُدَّةً مُعَيَّنَةً أَوْ فِي حَالَةٍ دُونَ حَالَةٍ؛ حَيْثُ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ بَعْضَ ذَلِكَ فِي آخِرِ أَبْوَابِ الْوِتْرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
799 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُجْمِرِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَلَّادٍ الزُّرَقِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزُّرَقِيِّ، قَالَ: كُنَّا يَوْمًا نُصَلِّي وَرَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرَّكْعَةِ، قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، قَالَ رَجُلٌ وَرَاءَهُ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: مَنْ الْمُتَكَلِّمُ؟ قَالَ: أَنَا، قَالَ: رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّلُ.
قَوْلُهُ: (الْمُجْمِرِ) بِالْخَفْضِ وَهُوَ صِفَةٌ لِنُعَيْمٍ وَلِأَبِيهِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى) فِي رِوَايَةِ ابْنِ خُزَيْمَةَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ يَحْيَى حَدَّثَهُ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ، وَفِيهِ رِوَايَةُ الْأَكَابِرِ عَنِ الْأَصَاغِرِ لِأَنَّ نُعَيْمًا أَكْبَرُ سِنًّا مِنْ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى وَأَقْدَمُ سَمَاعًا، وَفِيهِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ وَهُمْ مِنْ بَيْنِ مَالِكٍ وَالصَّحَابِيِّ، هَذَا مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةِ وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ شَرَفِ الصُّحْبَةِ فَيَحْيَى بْنُ خَلَّادٍ وَالِدُ عَلِيٍّ مَذْكُورٌ فِي الصَّحَابَةِ؛ لِأَنَّهُ قِيلَ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَنَّكَهُ لَمَّا وُلِدَ.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ) ظَاهِرُهُ أَنَّ قَوْلَ التَّسْمِيعِ وَقَعَ بَعْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنَ الرُّكُوعِ فَيَكُونُ مِنْ أَذْكَارِ الِاعْتِدَالِ، وَقَدْ مَضَى فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ذَكَرَ الِانْتِقَالَ
وَهُوَ الْمَعْرُوفُ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ؛ أَيْ: فَلَمَّا شَرَعَ فِي رَفْعِ رَأْسِهِ ابْتَدَاء الْقَوْلَ الْمَذْكُورَ، وَأَتَمَّهُ بَعْدَ أَنِ اعْتَدَلَ.
قَوْلُهُ: (قَالَ رَجُلٌ)، زَادَ الْكُشْمِيهَنِيُّ وَرَاءَهُ، قَالَ ابْنُ بَشْكُوَالٍ: هَذَا الرَّجُلُ هُوَ رِفَاعَةُ بْنُ رَافِعٍ رَاوِي الْخَبَرِ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ يَحْيَى الزُّرَقِيِّ، عَنْ عَمِّ أَبِيهِ مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَعَطَسْتُ، فَقُلْتُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. الْحَدِيثَ، وَنُوزِعَ تَفْسِيرُهُ بِهِ لِاخْتِلَافِ سِيَاقِ السَّبَبِ وَالْقِصَّةِ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا، بَلْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ عُطَاسَهُ وَقَعَ عِنْدَ رَفْعِ رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا مَانِعَ أَنْ يَكُنِّي عَنْ نَفْسِهِ لِقَصْدِ إِخْفَاءِ عَمَلِهِ، أَوْ كَنَّى عَنْهُ لِنِسْيَانِ بَعْضِ الرُّوَاةِ لِاسْمِهِ، وَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الِاخْتِلَافِ فَلَا يَتَضَمَّنُ إِلَّا زِيَادَةً لَعَلَّ الرَّاوِيَ اخْتَصَرَهَا كَمَا سَنُبَيِّنُهُ، وَأَفَادَ بِشْرُ بْنُ عُمَرَ الزُّهْرَانِيُّ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ يَحْيَى أَنَّ تِلْكَ الصَّلَاةَ كَانَتِ الْمَغْرِبَ.
قَوْلُهُ: (مُبَارَكًا فِيهِ). زَادَ رِفَاعَةُ بْنُ يَحْيَى مُبَارَكًا عَلَيْهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، فَأَمَّا قَوْلُهُ مُبَارَكًا عَلَيْهِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَقِيلَ: الْأَوَّلُ بِمَعْنَى الزِّيَادَةِ وَالثَّانِي بِمَعْنَى الْبَقَاءِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} فَهَذَا يُنَاسِبُ الْأَرْضَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ النَّمَاءُ وَالزِّيَادَةُ لَا الْبَقَاءُ لِأَنَّهُ بِصَدَدِ التَّغَيُّرِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ} فَهَذَا يُنَاسِبُ الْأَنْبِيَاءَ لِأَنَّ الْبَرَكَةَ بَاقِيَةٌ لَهُمْ، وَلَمَّا كَانَ الْحَمْدُ يُنَاسِبُهُ الْمَعْنَيَانِ جَمَعَهُمَا، كَذَا قَرَّرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى فَفِيهِ مِنْ حُسْنِ التَّفْوِيضِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَا هُوَ الْغَايَةُ فِي الْقَصْدِ.
قَوْلُهُ: (مَنِ الْمُتَكَلِّمُ) زَادَ رِفَاعَةُ بْنُ يَحْيَى فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ، ثُمَّ قَالَهَا الثَّانِيَةَ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ، ثُمَّ قَالَهَا الثَّالِثَةَ؛ فَقَالَ رِفَاعَةُ بْنُ رَافِعٍ: أَنَا. قَالَ: كَيْفَ قُلْتُ؟ فَذَكَرَهُ. فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: (بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ) فِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ كَالْجَوْهَرِيِّ أَنَّ الْبِضْعَ يَخْتَصُّ بِمَا دُونَ الْعِشْرِينَ.
قَوْلُهُ: (أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّلَ) فِي رِوَايَةِ رِفَاعَةَ بْنِ يَحْيَى الْمَذْكُورَةِ: أَيُّهُمْ يَصْعَدُ بِهَا أَوَّلَ، ولِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ: أَيُّهُمْ يَرْفَعُهَا قَالَ السُّهَيْلِيُّ: رُوِيَ أَوَّلُ بِالضَّمِّ عَلَى الْبِنَاءِ؛ لِأَنَّهُ ظَرْفٌ قُطِعَ مِنَ الْإِضَافَةِ، وَبِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ. انْتَهَى.
وَأَمَّا أَيُّهُمْ فَرَوَيْنَاهُ بِالرَّفْعِ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ يَكْتُبُهَا، قَالَهُ الطِّيبِيُّ وَغَيْرُهُ تَبَعًا لِأَبِي الْبَقَاءِ فِي إِعْرَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} قَالَ: وَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَالْعَامِلُ فِيهِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ (يُلْقُونَ) وَأَيُّ اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: مَقُولٌ فِيهِمْ أَيُّهمْ يَكْتُبُهَا، وَيَجُوزُ فِي أَيِّهِمِ النَّصْبُ بِأَنْ يُقَدَّرَ الْمَحْذُوفُ فَيَنْظُرُونَ أَيَّهُمْ، وَعِنْدَ سِيبَوَيْهِ أَيٌّ مَوْصُولَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: يَبْتَدِرُونَ الَّذِي هُوَ يَكْتُبُهَا أَوَّلَ، وَأَنْكَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ ذَلِكَ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ رِوَايَتَيْ يَكْتُبُهَا وَيَصْعَدُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُمْ يَكْتُبُونَهَا ثُمَّ يَصْعَدُونَ بِهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةَ غَيْرُ الْحَفَظَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ الْحَدِيثَ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الطَّاعَاتِ قَدْ يَكْتُبُهَا غَيْرُ الْحَفَظَةِ، وَقَدِ اسْتَشْكَلَ تَأْخِيرُ رِفَاعَةَ إِجَابَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ كَرَّرَ سُؤَالَهُ ثَلَاثًا مَعَ أَنَّ إِجَابَتَهُ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ، بَلْ وَعَلَى كُلِّ مَنْ سَمِعَ رِفَاعَةَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَسْأَلِ الْمُتَكَلِّمَ وَحْدَهُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُعَيِّنْ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ لَمْ تَتَعَيَّنِ الْمُبَادَرَةُ بِالْجَوَابِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ وَلَا مِنْ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ، فَكَأَنَّهُمُ انْتَظَرُوا بَعْضُهُمْ لِيُجِيبَ، وَحَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ خَشْيَةَ أَنْ يَبْدُو فِي حَقِّهِ شَيْءٌ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ أَخْطَأَ فِيمَا فَعَلَ، وَرَجَوْا أَنْ يَقَعَ الْعَفْوُ عَنْهُ.
وَكَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا رَأَى سُكُوتَهُمْ فَهِمَ ذَلِكَ فَعَرَّفَهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بَأْسًا، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ يَحْيَى عِنْدَ ابْنِ قَانِعٍ، قَالَ رِفَاعَةُ: فَوَدِدْتُ أَنِّي خَرَجْتُ مِنْ مَالِي وَأَنِّي لَمْ أَشْهَدْ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تِلْكَ الصَّلَاةَ. وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ: مَنِ الْقَائِلُ الْكَلِمَةَ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ بَأْسًا. فَقَالَ: أَنَا قُلْتُهَا، لَمْ أُرِدْ بِهَا إِلَّا خَيْرًا. ولِلطَّبَرَانِيِّ
مِنْ حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ: فَسَكَتَ الرَّجُلُ وَرَأَى أَنَّهُ قَدْ هَجَمَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى شَيْءٍ كَرِهَهُ. فَقَالَ: مَنْ هُوَ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ إِلَّا صَوَابًا. فَقَالَ الرَّجُلُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْتُهَا، أَرْجُو بِهَا الْخَيْرَ. وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمُصَلُّونَ لَمْ يَعْرِفُوهُ بِعَيْنِهِ إِمَّا لِإِقْبَالِهِمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ وَإِمَّا لِكَوْنِهِ فِي آخِرِ الصُّفُوفِ؛ فَلَا يَرِدُ السُّؤَالُ فِي حَقِّهِمْ، وَالْعُذْرُ عَنْهُ هُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ، وَالْحِكْمَةُ فِي سُؤَالِهِ صلى الله عليه وسلم لَهُ عَمَّنْ قَالَ أَنْ يَتَعَلَّمَ السَّامِعُونَ كَلَامَهُ فَيَقُولُوا مِثْلَهُ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ إِحْدَاثِ ذِكْرٍ فِي الصَّلَاةِ غَيْرِ مَأْثُورٍ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُخَالِفٍ لِلْمَأْثُورِ
(1)
، وَعَلَى جَوَازِ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ مَا لَمْ يُشَوِّشْ عَلَى مَنْ مَعَهُ، وَعَلَى أَنَّ الْعَاطِسَ فِي الصَّلَاةِ يَحْمَدُ اللَّهَ بِغَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَأَنَّ الْمُتَلَبِّسَ بِالصَّلَاةِ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ
(2)
، وَعَلَى تَطْوِيلِ الِاعْتِدَالِ بِالذِّكْرِ كَمَا سَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.
وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ ابْنُ بَطَّالٍ جَوَازَ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالتَّبْلِيغِ خَلْفَ الْإِمَامِ، وَتَعَقَّبَهُ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ سَمَاعَهُ صلى الله عليه وسلم لِصَوْتِ الرَّجُلِ لَا يَسْتَلْزِمُ رَفْعَهُ لِصَوْتِهِ كَرَفْعِ صَوْتِ الْمُبَلِّغِ، وَفِي هَذَا التَّعَقُّبِ نَظَرٌ، لِأَنَّ غَرَضَ ابْنِ بَطَّالٍ إِثْبَاتُ جَوَازِ الرَّفْعِ فِي الْجُمْلَةِ، وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَيْهِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَاسْتُدِلَّ لَهُ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ الْأَجْنَبِيَّ يُبْطِلُ عَمْدُهُ الصَّلَاةَ وَلَوْ كَانَ سِرًّا، قَالَ: وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ الْمَشْرُوعُ فِي الصَّلَاةِ لَا يُبْطِلُهَا وَلَوْ كَانَ جَهْرًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَسْأَلَةِ الْمُبَلِّغِ فِي بَابِ مَنْ أَسْمَعَ النَّاسَ تَكْبِيرَ الْإِمَامِ.
(فَائِدَةٌ): قِيلَ الْحِكْمَةُ فِي اخْتِصَاصِ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِهَذَا الذِّكْرِ أَنَّ عَدَدَ حُرُوفِهِ مُطَابِقٌ لِلْعَدَدِ الْمَذْكُورِ، فَإِنَّ الْبِضْعَ مَعَ الثَّلَاثِ إِلَى التِّسْعِ وَعَدَدَ الذِّكْرِ الْمَذْكُورِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ حَرْفًا، وَيُعَكِّرُ عَلَى هَذَا الزِّيَادَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي رِوَايَةِ رِفَاعَةَ بْنِ يَحْيَى؛ وَهِيَ قَوْلُهُ: مُبَارَكًا عَلَيْهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُتَبَادَرُ إِلَيْهِ هُوَ الثَّنَاءُ الزَّائِدُ عَلَى الْمُعْتَادِ؛ وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِ: حَمْدًا كَثِيرًا إِلَخْ دُونَ قَوْلِهِ مُبَارَكًا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ كَمَا تَقَدَّمَ لِلتَّأْكِيدِ، وَعَدَدُ ذَلِكَ سَبْعَةٌ وَثَلَاثُونَ حَرْفًا، وَأَمَّا مَا وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: لَقَدْ رَأَيْتُ اثْنَيْ عَشَرَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا. وَفِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ: ثَلَاثَةَ عَشَرَ؛ فَهُوَ مُطَابِقٌ لِعَدَدِ الْكَلِمَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي سِيَاقِ رِفَاعَةَ بْنِ يَحْيَى وَلِعَدَدِهَا أَيْضًا فِي سِيَاقِ حَدِيثِ الْبَابِ، لَكِنْ عَلَى اصْطِلَاحِ النُّحَاةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
127 - بَاب الاطُّمَأْنِينَةِ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ
وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: رَفَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَاسْتَوَى جَالِسًا؛ حَتَّى يَعُودَ كُلُّ فَقَارٍ مَكَانَهُ.
800 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ ثَابِتٍ، قَالَ: كَانَ أَنَسٌ يَنْعَتُ لَنَا صَلَاةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فَكَانَ يُصَلِّي وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ قَامَ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ نَسِيَ.
[الحديث 800 - طرفه في: 821]
(1)
هذا فيه نظر، ولو قيده الشارح بزمن النبي صلى الله عليه وسلم لكان أوجه، لأنه في ذلك الزمن لايقر على باطل، خلاف الحال بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فان الوحي قد انقطع والشريعة قد كملت ولله الحمد فلا يجوز أن يرادفي المبادات مالم يردبه الشرع. والله أعلم
(2)
هذا فيه تسامح، والصواب أن يقال لايجوز. لأن التشميت من كلام الناس. والمصلى ممنوع منه كما في حديث معاويةبن الحكم أنه شمت إنسانا، وهو يصلى وأنكر عليه الناس ولما فرغ قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن هذه الصلاة لايصلح فيها شيء من كلام الناس، الحديث أخرجه مسلم
801 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْحَكَمِ، عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ الْبَرَاءِ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ رُكُوعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَسُجُودُهُ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ؛ قَرِيبًا مِنْ السَّوَاءِ. وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي بَابِ اسْتِوَاءِ الظَّهْرِ. وَقَوْلُهُ قَرِيبًا مِنَ السَّوَاءِ فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ فِيهَا تَفَاوُتًا لَكِنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْهُ، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى الطُّمَأْنِينَةِ فِي الِاعْتِدَالِ وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ لِمَا عُلِمَ مِنْ عَادَتِهِ مِنْ تَطْوِيلِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ.
802 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، قَالَ: كَانَ مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ يُرِينَا كَيْفَ كَانَ صَلَاةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَذَاكَ فِي غَيْرِ وَقْتِ صَلَاةٍ: فَقَامَ فَأَمْكَنَ الْقِيَامَ، ثُمَّ رَكَعَ فَأَمْكَنَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَأَنْصَبَ هُنَيَّةً، قَالَ: فَصَلَّى بِنَا صَلَاةَ شَيْخِنَا هَذَا أَبِي بُرَيْدٍ، وَكَانَ أَبُو بُرَيْدٍ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ الْآخِرَةِ اسْتَوَى قَاعِدًا، ثُمَّ نَهَضَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الِاطْمَأْنِينَةِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ الطُّمَأْنِينَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي بَابِ اسْتِوَاءِ الظَّهْرِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ) يَأْتِي مَوْصُولًا مُطَوَّلًا فِي بَابِ سُنَّةِ الْجُلُوسِ فِي التَّشَهُّدِ. وَقَوْلُهُ: رَفَعَ أَيْ مِنَ الرُّكُوعِ، فَاسْتَوَى أَيْ: قَائِمًا. كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ هُنَاكَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تُرْجِمَ لَهُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ جَالِسًا بَعْدَ قَوْلِهِ فَاسْتَوَى؛ فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ عَبَّرَ عَنِ السُّكُونِ بِالْجُلُوسِ وَفِيهِ بُعْدٌ، أَوْ لَعَلَّ الْمُصَنِّفَ أَرَادَ إِلْحَاقَ الِاعْتِدَالِ بِالْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ بِجَامِعِ كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا غَيْرَ مَقْصُودٍ لِذَاتِهِ، فَيُطَابِقُ التَّرْجَمَةَ.
قَوْلُهُ: (يَنْعَتُ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ، أَيْ يَصِفُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ سَاقَهُ شُعْبَةُ، عَنْ ثَابِتٍ مُخْتَصَرًا، وَرَوَاهُ عَنْهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ مُطَوَّلًا كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ الْمُكْثِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ؛ فَقَالَ فِي أَوَّلِهِ: عَنْ أَنَسٍ قَالَ: إِنِّي لَا آلُو أَنْ أُصَلِّيَ بِكُمْ كَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِنَا. فَصَرَّحَ بِوَصْفِ أَنَسٍ لِصَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْفِعْلِ، وَقَوْلُهُ لَا آلُو بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ بَعْدَ حَرْفِ النَّفْيِ وَلَامٍ مَضْمُومَةٍ بَعْدَهَا وَاوٌ خَفِيفَةٌ أَيْ: لَا أُقَصِّرُ. وَزَادَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ أَيْضًا قَالَ ثَابِتٌ: فَكَانَ أَنَسٌ يَصْنَعُ شَيْئًا لَا أَرَاكُمْ تَصْنَعُونَهُ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يُخِلُّونَ بِتَطْوِيلِ الِاعْتِدَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ أَنَسٍ وَإِنْكَارُهُ عَلَيْهِمْ فِي أَمْرِ الصَّلَاةِ فِي أَبْوَابِ الْمَوَاقِيتِ، وَقَوْلُهُ: حَتَّى نَقُولَ بِالنَّصْبِ. وَقَوْلُهُ: قَدْ نَسِيَ؛ أَيْ: نَسِيَ وُجُوبَ الْهُوِيِّ إِلَى السُّجُودِ. قَالَهُ الْكِرْمَانِيُّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ نَسِيَ أَنَّهُ فِي صَلَاةٍ، أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ وَقْتَ الْقُنُوتِ حَيْثُ كَانَ مُعْتَدِلًا أَوْ وَقْتَ التَّشَهُّدِ حَيْثُ كَانَ جَالِسًا. وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ: قُلْنَا: قَدْ نَسِيَ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ. أَيْ: لِأَجْلِ طُولِ قِيَامِهِ.
قَوْلُهُ: (وَإِذَا رَفَعَ) أَيْ وَرَفْعُهُ إِذَا رَفَعَ، وَكَذَا قَوْلُهُ وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ أَيْ وَجُلُوسُهُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ زَمَانَ رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ وَاعْتِدَالِهِ وَجُلُوسِهِ مُتَقَارِبٌ، وَلَمْ يَقَعْ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ الِاسْتِثْنَاءُ الَّذِي مَرَّ فِي بَابِ اسْتِوَاءِ الظَّهْرِ؛ وَهُوَ قَوْلُهُ: مَا خَلَا الْقِيَامَ وَالْقُعُودَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: فَوَجَدْتُ قِيَامَهُ فَرَكْعَتَهُ فَاعْتِدَالَهُ. الْحَدِيثَ، وَحَكَى ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ نَسَبَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ إِلَى الْوَهْمِ، ثُمَّ اسْتَبْعَدَهُ لِأَنَّ تَوْهِيمَ الرَّاوِي الثِّقَةِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ: فَلْيَنْظُرْ ذَلِكَ مِنَ الرِّوَايَاتِ وَيُحَقِّقِ الِاتِّحَادَ أَوِ الِاخْتِلَافَ مِنْ مَخَارِجِ الْحَدِيثِ اهـ.
وَقَدْ جَمَعْتُ طُرُقَهُ فَوَجَدْتُ مَدَارَهُ عَلَى ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْبَرَاءِ، لَكِنِ الرِّوَايَةُ الَّتِي فِيهَا زِيَادَةُ ذِكْرِ الْقِيَامِ مِنْ طَرِيقِ هِلَالِ بْنِ أَبِي حُمَيْدٍ عَنْهُ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْحَكَمُ عَنْهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا اخْتِلَافٌ فِي سِوَى ذَلِكَ، إِلَّا مَا زَادَهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ مِنْ
قَوْلِهِ: مَا خَلَا الْقِيَامَ وَالْقُعُودَ، وَإِذَا جُمِعَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ ظَهَرَ مِنَ الْأَخْذِ بِالزِّيَادَةِ فِيهِمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقِيَامِ الْمُسْتَثْنَى الْقِيَامُ لِلْقِرَاءَةِ، وَكَذَا الْقُعُودُ وَالْمُرَادُ بِهِ الْقُعُودُ لِلتَّشَهُّدِ كَمَا تَقَدَّمَ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: هَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاعْتِدَالَ رُكْنٌ طَوِيلٌ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ يَعْنِي الَّذِي قَبْلَهُ أَصْرَحُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ هُوَ نَصٌّ فِيهِ فَلَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ لِدَلِيلٍ ضَعِيفٍ؛ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: لَمْ يُسَنَّ فِيهِ تَكْرِيرُ التَّسْبِيحَاتِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. وَوَجْهُ ضَعْفِهِ أَنَّهُ قِيَاسٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ وَهُوَ فَاسِدٌ، وَأَيْضًا فَالذِّكْرُ الْمَشْرُوعُ فِي الِاعْتِدَالِ أَطْوَلُ مِنَ الذِّكْرِ الْمَشْرُوعِ فِي الرُّكُوعِ، فَتَكْرِيرُ سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ ثَلَاثًا يَجِيءُ قَدْرَ قَوْلِهِ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، وَقَدْ شُرِعَ فِي الِاعْتِدَالِ ذِكْرٌ أَطْوَلُ كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مِلْءَ السَّماوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ.
زَادَ فِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى: اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي بِالثَّلْجِ إِلَخْ، وَزَادَ فِي حَدِيثٍ الْآخَرَيْنِ: أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ إِلَخْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ تَرْكُ إِنْكَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَنْ زَادَ فِي الِاعْتِدَالِ ذِكْرًا غَيْرَ مَأْثُورٍ، وَمنْ ثَمَّ اخْتَارَ النَّوَوِيُّ جَوَازَ تَطْوِيلِ الرُّكْنِ الْقَصِيرِ بِالذِّكْرِ خِلَافًا لِلْمُرَجَّحِ فِي الْمَذْهَبِ، وَاسْتُدِلَّ لِذَلِكَ أَيْضًا بِحَدِيثِ حُذَيْفَةَ فِي مُسْلِمٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ فِي رَكْعَةٍ بِالْبَقَرَةِ أَوْ غَيْرِهَا، ثُمَّ رَكَعَ نَحْوًا مِمَّا قَرَأَ، ثُمَّ قَامَ بَعْدَ أَنْ قَالَ: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ قِيَامًا طَوِيلًا قَرِيبًا مِمَّا رَكَعَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ صَعْبٌ، وَالْأَقْوَى جَوَازُ الْإِطَالَةِ بِالذِّكْرِ اهـ. وَقَدْ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ إِلَى عَدَمِ الْبُطْلَانِ؛ فَقَالَ فِي تَرْجَمَةِ كَيْفَ الْقِيَامُ مِنَ الرُّكُوعِ: وَلَوْ أَطَالَ الْقِيَامَ بِذِكْرِ اللَّهِ أَوْ يَدْعُو أَوْ سَاهِيًا وَهُوَ لَا يَنْوِي بِهِ الْقُنُوتَ كَرِهْتُ لَهُ ذَلِكَ وَلَا إِعَادَةَ، إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ فِي ذَلِكَ. فَالْعَجَبُ مِمَّنْ يُصَحِّحُ مَعَ هَذَا بُطْلَانَ الصَّلَاةِ بِتَطْوِيلِ الِاعْتِدَالِ، وَتَوْجِيهُهُمْ ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا أُطِيلَ انْتَفَتِ الْمُوَالَاةُ مُعْتَرَضٌ بِأَنَّ مَعْنَى الْمُوَالَاةِ أَنْ لَا يَتَخَلَّلَ فَصْلٌ طَوِيلٌ بَيْنَ الْأَرْكَانِ بِمَا لَيْسَ مِنْهَا، وَمَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ لَا يَصِحُّ نَفْيُ كَوْنِهِ مِنْهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ عَنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ قَرِيبًا مِنَ السَّوَاءِ لَيْسَ أَنَّهُ كَانَ يَرْكَعُ بِقَدْرِ قِيَامِهِ وَكَذَا السُّجُودُ وَالِاعْتِدَالُ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ صَلَاتَهُ كَانَتْ قَرِيبًا مُعْتَدِلَةً؛ فَكَانَ إِذَا أَطَالَ الْقِرَاءَةَ أَطَالَ بَقِيَّةَ الْأَرْكَانِ، وَإِذَا أَخَفَّهَا أَخَفَّ بَقِيَّةَ الْأَرْكَانِ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ قَرَأَ فِي الصُّبْحِ بِالصَّافَّاتِ، وَثَبَتَ فِي السُّنَنِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُمْ حَزَرُوا فِي السُّجُودِ قَدْرَ عَشْرِ تَسْبِيحَاتٍ؛ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ قَرَأَ بِدُونِ الصَّافَّاتِ اقْتَصَرَ عَلَى دُونِ الْعَشْرِ، وَأَقَلُّهُ كَمَا وَرَدَ فِي السُّنَنِ أَيْضًا ثَلَاثُ تَسْبِيحَاتٍ.
قَوْلُهُ: (كَانَ مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ قَامَ، وَالْأَوَّلُ يُشْعِرُ بِتَكْرِيرِ ذَلِكَ مِنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي بَابِ مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ وَهُوَ لَا يُرِيدُ إِلَّا أَنْ يُعَلِّمَهُمْ. وَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي بَابِ الْمُكْثِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ.
قَوْلُهُ: (فَأَنْصت) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِهَمْزَةٍ مَقْطُوعَةٍ وَآخِرُهُ مُثَنَّاةٌ خَفِيفَةٌ. وَلِلْبَاقِينَ بِأَلِفٍ مَوْصُولَةٍ وَآخِرُهُ مُوَحَّدَةٌ مُشَدَّدَةٌ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّ بَعْضَهُمْ ضَبَطَهُ بِالْمُثَنَّاةِ الْمُشَدَّدَةِ بَدَلَ الْمُوَحَّدَةِ، وَوَجَّهَهُ بِأَنَّ أَصْلَهُ انْصَوَتَ فَأَبْدَلَ مِنَ الْوَاوِ تَاءً ثُمَّ أُدْغِمَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فِي الْأُخْرَى، وَقِيَاسُ إِعْلَالِهِ إنْصَاتَ تَحَرَّكَتِ الْوَاوُ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا فَانْقَلَبَتْ أَلِفًا، قَالَ: وَمَعْنَى إنْصَاتَ اسْتَوَتْ قَامَتُهُ بَعْدَ الِانْحِنَاءِ كَأَنَّهُ أَقْبَلَ شَبَابُهُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَعَمْرُو بْنُ دَهْمَانَ الْهُنَيْدَةَ عَاشَهَا
…
وَتِسْعِينَ عَامًا ثُمَّ قَوَّمَ فَأنْصَاتَا
وَعَادَ سَوَادُ الرَّأْسِ بَعْدَ ابْيِضَاضِهِ
…
وَعَاوَدَهُ شَرْخُ الشَّبَابِ الَّذِي فَاتَا
اهـ. وَعُرِفَ بِهَذَا أَنَّ مَنْ نَقَلَ عَنِ ابْنِ التِّينِ - وَهُوَ السَّفَاقُسِيُّ - أَنَّهُ ضَبَطَهُ بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ فَقَدْ صَحَّفَ، وَمَعْنَى رِوَايَةِ
الْكُشْمِيهَنِيِّ أَنْصَتَ أَيْ سَكَتَ فَلَمْ يُكَبِّرْ لِلْهُوِيِّ فِي الْحَالِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَفِيهِ نَظَرٌ، وَالْأَوْجَهُ أَنْ يُقَالَ هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ سُكُونِ أَعْضَائِهِ، عَبَّرَ عَنْ عَدَمِ حَرَكَتِهَا بِالْإِنْصَاتِ وَذَلِكَ دَالٌّ عَلَى الطُّمَأْنِينَةِ. وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ بِالْمُوَحَّدَةِ الْمُشَدَّدَةِ انْفَعَلَ مِنَ الصَّبِّ كَأَنَّهُ كَنَّى عَنْ رُجُوعِ أَعْضَائِهِ عَنِ الِانْحِنَاءِ إِلَى الْقِيَامِ بِالِانْصِبَابِ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فَانْتَصَبَ قَائِمًا؛ وَهِيَ أَوْضَحُ مِنَ الْجَمِيعِ.
قَوْلُهُ: (هُنَيَّةٌ) أَيْ قَلِيلًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ضَبْطُهَا فِي بَابِ مَا يَقُولُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ.
قَوْلُهُ: (صَلَاةُ شَيْخِنَا هَذَا أَبِي يَزِيدَ) هُوَ عَمْرُو بْنُ سَلَمَةَ الْجَرْمِيُّ، وَاخْتُلِفَ فِي ضَبْطِ كُنْيَتِهِ، وَوَقَعَ هُنَا لِلْأَكْثَرِ بِالتَّحْتَانِيَّةِ وَالزَّايِ، وَعِنْدَ الْحَمَوِيِّ وَكَرِيمَةَ بِالْمُوَحَّدَةِ وَالرَّاءِ مُصَغَّرًا وَكَذَا ضَبَطَهُ مُسْلِمٌ فِي الْكُنَى، وَقَالَ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ: لَمْ أَسْمَعْهُ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِالزَّايِ، لَكِنْ مُسْلِمٌ أَعْلَمُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
128 - بَاب يَهْوِي بِالتَّكْبِيرِ حِينَ يَسْجُدُ
وَقَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَضَعُ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ.
803 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يُكَبِّرُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ مِنْ الْمَكْتُوبَةِ وَغَيْرِهَا فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ، فَيُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ، ثُمَّ يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. ثُمَّ يَقُولُ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ. قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ. حِينَ يَهْوِي سَاجِدًا، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَسْجُدُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ مِنْ الْجُلُوسِ فِي الِاثْنَتَيْنِ، وَيَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ الصَّلَاةِ، ثُمَّ يَقُولُ حِينَ يَنْصَرِفُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لَأَقْرَبُكُمْ شَبَهًا بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِنْ كَانَتْ هَذِهِ لَصَلَاتَهُ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا.
804 -
قَالَا وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ يَدْعُو لِرِجَالٍ فَيُسَمِّيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَيَقُولُ اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ وَأَهْلُ الْمَشْرِقِ يَوْمَئِذٍ مِنْ مُضَرَ مُخَالِفُونَ لَهُ
805 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ غَيْرَ مَرَّةٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ سَقَطَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ فَرَسٍ وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ مِنْ فَرَسٍ فَجُحِشَ شِقُّهُ الأَيْمَنُ فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ نَعُودُهُ فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَصَلَّى بِنَا قَاعِدًا وَقَعَدْنَا وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً صَلَّيْنَا قُعُودًا فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ قَالَ إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا قَالَ سُفْيَانُ كَذَا جَاءَ بِهِ مَعْمَرٌ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ لَقَدْ
حَفِظَ كَذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ وَلَكَ الْحَمْدُ حَفِظْتُ مِنْ شِقِّهِ الأَيْمَنِ فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ الزُّهْرِيِّ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَأَنَا عِنْدَهُ فَجُحِشَ سَاقُهُ الأَيْمَنُ
قَوْلُهُ: (بَابُ يَهْوِي بِالتَّكْبِيرِ حِينَ يَسْجُدُ) قَالَ ابْنُ التِّينِ: رُوِّينَاهُ بِالْفَتْحِ وَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ بِالضَّمِّ وَالْفَتْحُ أَرْجَحُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَتِنَا بِالْوَجْهَيْنِ.
قَوْلُهُ: (كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِلَخْ) وَصَلَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ بِهَذَا، وَزَادَ فِي آخِرِهِ، وَيَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ ذَلِكَ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: كَذَا رَوَاهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ وَلَا أَرَاهُ إِلَّا وَهْمًا، يَعْنِي رَفْعَهُ. قَالَ: وَالْمَحْفُوظُ مَا اخْتَرْنَا. ثُمَّ أَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: إِذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَضَعْ يَدَيْهِ، وَإِذَا رَفَعَ فَلْيَرْفَعْهُمَا. اهـ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا الْمَوْقُوفُ غَيْرُ الْمَرْفُوعِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ فِي تَقْدِيمِ وَضْعِ الْيَدَيْنِ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ، وَالثَّانِي فِي إِثْبَاتِ وَضْعِ الْيَدَيْنِ فِي الْجُمْلَةِ. وَاسْتُشْكِلَ إِيرَادُ هَذَا الْأَثَرِ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ، وَأَجَابَ الزَّيْنُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِمَا حَاصِلُهُ: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ صِفَةَ الْهُوِيِّ إِلَى السُّجُودِ الْقَوْلِيَّةَ أَرْدَفَهَا بِصِفَتِهِ الْفِعْلِيَّةِ، وَقَالَ أَخُوهُ: أَرَادَ بِالتَّرْجَمَةِ وَصْفَ حَالِ الْهُوِيِّ مِنْ فِعَالٍ وَمَقَالٍ اهـ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ أَثَرَ ابْنِ عُمَرَ مِنْ جُمْلَةِ التَّرْجَمَةِ، فَهُوَ مُتَرْجَمٌ بِهِ لَا مُتَرْجَمٌ لَهُ، وَالتَّرْجَمَةُ قَدْ تَكُونُ مُفَسِّرَةً لِمُجْمَلِ الْح دِيثِ وَهَذَا مِنْهَا، وَهَذِهِ مِنَ الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا. قَالَ مَالِكٌ: هَذِهِ الصِّفَةُ أَحْسَنُ فِي خُشُوعِ الصَّلَاةِ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَفِيهِ حَدِيثٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ، وَعُورِضَ بِحَدِيثٍ عَنْهُ أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَقَدْ رَوَى الْأَثْرَمُ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِرُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ، وَلَا يَبْرُكْ بُرُوكَ الْفَحْلِ. وَلَكِنَّ إِسْنَادَهُ ضَعِيفٌ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ الْأَفْضَلُ أَنْ يَضَعَ رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ يَدَيْهِ، وَفِيهِ حَدِيثٌ فِي السُّنَنِ أَيْضًا عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ: لَا يَظْهَرُ تَرْجِيحُ أَحَدِ الْمَذْهَبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ مِنْ حَيْثُ السُّنَّةُ اهـ. وَعَنْ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ رِوَايَةٌ بِالتَّخْيِيرِ، وَادَّعَى ابْنُ خُزَيْمَةَ أَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ سَعْدٍ قَالَ: كُنَّا نَضَعُ الْيَدَيْنِ قَبْلَ الرُّكْبَتَيْنِ، فَأُمِرْنَا بِالرُّكْبَتَيْنِ قَبْلَ الْيَدَيْنِ. وَهَذَا لَوْ صَحَّ لَكَانَ قَاطِعًا لِلنِّزَاعِ، لَكِنَّهُ مِنْ أَفْرَادِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يَحْيَى بْنِ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ وَهُمَا ضَعِيفَانِ. وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: مُقْتَضَى تَأْخِيرِ وَضْعِ الرَّأْسِ عَنْهُمَا فِي الِانْحِطَاطِ وَرَفْعِهِ قَبْلَهُمَا أَنْ يَتَأَخَّرَ وَضْعُ الْيَدَيْنِ عَنِ الرُّكْبَتَيْنِ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى تَقْدِيمِ الْيَدَيْنِ عَلَيْهِمَا فِي الرَّفْعِ. وَأَبْدَى الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ لِتَقْدِيمِ الْيَدَيْنِ مُنَاسَبَةً؛ وَهِيَ أَنْ يَلْقَى الْأَرْضَ عَنْ جَبْهَتِهِ وَيَعْتَصِمَ بِتَقْدِيمِهِمَا عَلَى إِيلَامِ رُكْبَتَيْهِ إِذَا جَثَا عَلَيْهِمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يُكَبِّرُ)، زَادَ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: حِينَ اسْتَخْلَفَهُ مَرْوَانُ عَلَى الْمَدِينَةِ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ حِينَ يَهْوِي سَاجِدًا) فِيهِ أَنَّ التَّكْبِيرَ ذِكْرُ الْهُوِيِّ، فَيَبْتَدِئُ بِهِ مِنْ حِينِ يَشْرَعُ فِي الْهُوِيِّ بَعْدَ الِاعْتِدَالِ إِلَى حِينِ يَتَمَكَّنُ سَاجِدًا.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ مِنَ الْجُلُوسِ فِي الِاثْنَتَيْنِ) فِيهِ أَنَّهُ يَشْرَعُ فِي التَّكْبِيرِ مِنْ حِينِ ابْتِدَاءِ الْقِيَامِ إِلَى الثَّالِثَةِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ إِنَّهُ لَا يُكَبِّرُ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَائِمًا، وَسَيَأْتِي فِي بَابٍ مُفْرَدٍ بَعْدَ بِضْعَةَ عَشَرَ بَابًا.
قَوْلُهُ: (إِنْ كَانَتْ هَذِهِ لَصَلَاتَهُ)، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: هَذَا الْكَلَامُ يُؤَيِّدُ رِوَايَةَ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، يَعْنِي مُرْسَلًا. قُلْتُ: وَكَذَا أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يَكُونَ الزُّهْرِيُّ رَوَاهُ أَيْضًا عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ التَّكْبِيرِ إِذَا قَامَ مِنَ السُّجُودِ مِنْ طَرِيقِ عَقِيلٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ؛ فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الصِّفَةَ
الْمَذْكُورَةَ مَرْفُوعَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (قَالَا) يَعْنِي أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَبَا سَلَمَةَ الْمَذْكُورَيْنِ، وَهُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ إِلَيْهِمَا، وَالْكَلَامُ عَلَى الْمَتْنِ الْمَذْكُورِ يَأْتِي فِي تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ هُنَا اسْتِطْرَادًا.
وَقَدْ أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا فِي الْبَابِ الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ مَا يَقُولُ فِي الِاعْتِدَالِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَحَلَّ الْقُنُوتِ بَعْدَ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ، وَعَلَى أَنَّ تَسْمِيَةَ الرِّجَالِ بِأَسْمَائِهِمْ فِيمَا يُدْعَى لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ لَا تُفْسِدُ الصَّلَاةَ.
حَفِظَ كَذَا، قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَلَكَ الْحَمْدُ. حَفِظْتُ مِنْ شِقِّهِ الْأَيْمَنِ فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَأَنَا عِنْدَهُ: فَجُحِشَ سَاقُهُ الْأَيْمَنُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ فَرَسٍ وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ - وَهُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ - مِنْ فَرَسٍ) فِيهِ إِشْعَارٌ بِتَثَبُّتِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَمُحَافَظَتِهِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِأَلْفَاظِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابِ إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ وَأَنَّ قَوْلَهُ جُحِشَ أَيْ خُدِشَ، وَوَقَعَ فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِلَفْظِ فَجُحِشَ أَوْ خُدِشَ عَلَى الشَّكِّ.
قَوْلُهُ: (كَذَا جَاءَ بِهِ مَعْمَرٌ) الْقَائِلُ هُوَ سُفْيَانُ، وَالْمَقُولُ لَهُ عَلِيٌّ، وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ قَبْلَ كَذَا مُقَدَّرَةٌ.
قَوْلُهُ: (قُلْتُ نَعَمْ) كَأَنَّ مُسْتَنَدَ عَلِيٍّ فِي ذَلِكَ رِوَايَةُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ فَإِنَّهُ مِنْ مَشَايِخِهِ، بِخِلَافِ مَعْمَرٍ فَإِنَّهُ لَمْ يُدْرِكْهُ، وَإِنَّمَا يَرْوِي عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ، وَكَلَامُ الْكِرْمَانِيِّ يُوهِمُ خِلَافَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: لَقَدْ حَفِظَ) أَيْ حِفْظًا جَيِّدًا، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِقُوَّةِ حِفْظِ سُفْيَانَ بِحَيْثُ يَسْتَجِيدُ حِفْظَ مَعْمَرٍ إِذَا وَافَقَهُ، وَقَوْلُهُ: كَذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ وَلَكَ الْحَمْدُ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ لَمْ يَذْكُرِ الْوَاوَ فِي وَلَكَ الْحَمْدُ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ وَغَيْرِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ إِيجَابِ التَّكْبِيرِ.
قَوْلُهُ: (حَفِظْتُ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَسَاكِرَ وَحَفِظْتُ بِزِيَادَةِ وَاوٍ وَهِيَ أَوْضَحُ، وَقَوْلُهُ مِنْ شِقِّهِ الْأَيْمَنِ إِلَخْ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ جَوْدَةِ ضَبْطِ سُفْيَانَ، لِأَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ سَمِعَهُ مَعَهُمْ مِنَ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ شِقِّهِ فَحَدَّثَ بِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ سَاقِهِ وَهِيَ أَخَصُّ مِنْ شِقِّهِ، لَكِنَّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ عَرَفَ مِنَ الزُّهْرِيِّ فِي وَقْتٍ آخَرَ أَنَّ الَّذِي خُدِشَ هُوَ سَاقُهُ لِبُعْدِ أَنْ يَكُونَ نَسِيَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الدَّلَالَةَ عَلَى ذَلِكَ فِي بَابِ إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، وَقَوْلُهُ وَأَنَا عِنْدَهُ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ أَوْ جُمْلَةٍ حَالِيَّةٍ مِنْ فَاعِلِ قَالَ مُقَدَّرًا، إِذْ تَقْدِيرُهُ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَأَنَا عِنْدَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ مَقُولَ سُفْيَانَ، وَالضَّمِيرُ لِابْنِ جُرَيْجٍ. قُلْتُ: وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ، وَمَقُولُ ابْنِ جُرَيْجٍ هُوَ فَجُحِشَ إِلَخْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
129 - بَاب فَضْلِ السُّجُودِ
806 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُمَا أَنَّ النَّاسَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: هَلْ تُمَارُونَ فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ؟ قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَهَلْ تُمَارُونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ، يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتَّبِعْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الشَّمْسَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الْقَمَرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الطَّوَاغِيتَ، وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا، فَيَأْتِيهِمْ اللَّهُ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ. فَيَقُولُونَ: هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا، فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ. فَيَأْتِيهِمْ اللَّهُ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ. فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا. فَيَدْعُوهُمْ فَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُ مِنْ
الرُّسُلِ بِأُمَّتِهِ، وَلَا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ إِلَّا الرُّسُلُ، وَكَلَامُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ. وَفِي جَهَنَّمَ كَلَالِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، هَلْ رَأَيْتُمْ شَوْكَ السَّعْدَانِ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلَّا اللَّهُ، تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُوبَقُ بِعَمَلِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَرْدَلُ ثُمَّ يَنْجُو.
حَتَّى إِذَا أَرَادَ اللَّهُ رَحْمَةَ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَمَرَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ؛ فَيُخْرِجُونَهُمْ وَيَعْرِفُونَهُمْ بِآثَارِ السُّجُودِ، وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ؛ فَيَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ، فَكُلُّ ابْنِ آدَمَ تَأْكُلُهُ النَّارُ إِلَّا أَثَرَ السُّجُودِ، فَيَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ قَدْ امْتَحَشُوا، فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءُ الْحَيَاةِ، فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ، ثُمَّ يَفْرُغُ اللَّهُ مِنْ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ، وَيَبْقَى رَجُلٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَهُوَ آخِرُ أَهْلِ النَّارِ دُخُولًا الْجَنَّةَ، مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ قِبَلَ النَّارِ؛ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِي عَنْ النَّارِ، قَدْ قَشَبَنِي رِيحُهَا وَأَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا. فَيَقُولُ: هَلْ عَسَيْتَ إِنْ فُعِلَ ذَلِكَ بِكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: لَا وَعِزَّتِكَ. فَيُعْطِي اللَّهَ مَا يَشَاءُ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ، فَيَصْرِفُ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ، فَإِذَا أَقْبَلَ بِهِ عَلَى الْجَنَّةِ رَأَى بَهْجَتَهَا، سَكَتَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَبِّ قَدِّمْنِي عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ. فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ الْعُهُودَ وَالْمِيثَاقَ أَنْ لَا تَسْأَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنْتَ سَأَلْتَ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ لَا أَكُونُ أَشْقَى خَلْقِكَ. فَيَقُولُ: فَمَا عَسَيْتَ إِنْ أُعْطِيتَ ذَلِكَ أَنْ لَا تَسْأَلَ غَيْرَهُ. فَيَقُولُ: لَا، وَعِزَّتِكَ لَا أَسْأَلُ غَيْرَ ذَلِكَ. فَيُعْطِي رَبَّهُ مَا شَاءَ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ، فَيُقَدِّمُهُ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَإِذَا بَلَغَ بَابَهَا فَرَأَى زَهْرَتَهَا وَمَا فِيهَا مِنْ النَّضْرَةِ وَالسُّرُورِ فَيَسْكُتُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ.
فَيَقُولُ اللَّهُ: وَيْحَكَ يَا ابْنَ آدَمَ، مَا أَغْدَرَكَ! أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ الْعُهُودَ وَالْمِيثَاقَ أَنْ لَا تَسْأَلَ غَيْرَ الَّذِي أُعْطِيتَ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ لَا تَجْعَلْنِي أَشْقَى خَلْقِكَ. فَيَضْحَكُ اللَّهُ عز وجل مِنْهُ، ثُمَّ يَأْذَنُ لَهُ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: تَمَنَّ. فَيَتَمَنَّى، حَتَّى إِذَا انْقَطَعَ أُمْنِيَّتُهُ؛ قَالَ اللَّهُ عز وجل: مِنْ كَذَا وَكَذَا، أَقْبَلَ يُذَكِّرُهُ رَبُّهُ، حَتَّى إِذَا انْتَهَتْ بِهِ الْأَمَانيُّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، لِأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ اللَّهُ: لَكَ ذَلِكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَمْ أَحْفَظْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا قَوْلَهُ: لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: إِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ: ذَلِكَ لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ.
[الحديث 806 - طرفاه 6573، 7437]
قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ السُّجُودِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي صِفَةِ الْبَعْثِ وَالشَّفَاعَةِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ: وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ آثَارَ السُّجُودِ. وَقَدْ أَوْرَدَهُ بِتَمَامِهِ أَيْضًا فِي أَبْوَابِ صِفَةِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ مِنْ كِتَابِ الرِّقَاقِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ هُنَاكَ مُسْتَوْفًى إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، مَعَ ذِكْرِ اخْتِلَافِ أَلْفَاظِ رُوَاتِهِ.
وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: آثَارَ
السُّجُودِ؛ فَقِيلَ: هِيَ الْأَعْضَاءُ السَّبْعَةُ الْآتِي ذِكْرُهَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَرِيبًا وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَقَالَ عِيَاضٌ: الْمُرَادُ الْجَبْهَةُ خَاصَّةً، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّ قَوْمًا يُخْرَجُونَ مِنَ النَّارِ يَحْتَرِقُونَ فِيهَا إِلَّا دَارَاتِ وُجُوهِهِمْ؛ فَإِنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَخُصُّ الْعُمُومَ الَّذِي فِي الْأُولَى.
130 - بَاب يُبْدِي ضَبْعَيْهِ وَيُجَافِي فِي السُّجُودِ
807 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي بَكْرُ بْنُ مُضَرَ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ ابْنِ هُرْمُزَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ بْنِ بُحَيْنَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا صَلَّى فَرَجَ بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى يَبْدُوَ بَيَاضُ إِبْطَيْهِ. وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ نَحْوَهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ يُبْدِي ضَبْعَيْهِ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ، تَثْنِيَةُ ضَبْعٍ، وَهُوَ وَسَطُ الْعَضُدِ مِنْ دَاخِلٍ، وَقِيلَ: هُوَ لَحْمَةٌ تَحْتَ الْإِبِطِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ جَعْفَرٍ) هُوَ ابْنُ رَبِيعَةَ، وَابْنُ هُرْمُزَ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجُ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.
قَوْلُهُ: (فَرَّجَ بَيْنَ يَدَيْهِ) أَيْ: نَحَّى كُلَّ يَدٍ عَنِ الْجَنْبِ الَّذِي يَلِيهَا، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْحِكْمَةُ فِي اسْتِحْبَابِ هَذِهِ الْهَيْئَةِ فِي السُّجُودِ أَنَّهُ يَخِفُّ بِهَا اعْتِمَادُهُ عَنْ وَجْهِهِ وَلَا يَتَأَثَّرُ أَنْفُهُ وَلَا جَبْهَتُهُ، وَلَا يَتَأَذَّى بِمُلَاقَاةِ الْأَرْضِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ أَشْبَهُ بِالتَّوَاضُعِ وَأَبْلَغُ فِي تَمْكِينِ الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ مِنَ الْأَرْضِ مَعَ مُغَايَرَتِهِ لِهَيْئَةِ الْكَسْلَانِ، وَقَالَ نَاصِرُ الدِّينِ بْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: الْحِكْمَةُ فِيهِ أَنْ يَظْهَرَ كُلُّ عُضْوٍ بِنَفْسِهِ وَيَتَمَيَّزَ؛ حَتَّى يَكُونَ الْإِنْسَانُ الْوَاحِدُ فِي سُجُودِهِ كَأَنَّهُ عَدَدٌ، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنْ يَسْتَقِلَّ كُلُّ عُضْوٍ بِنَفْسِهِ وَلَا يَعْتَمِدَ بَعْضُ الْأَعْضَاءِ عَلَى بَعْضٍ فِي سُجُودِهِ، وَهَذَا ضِدُّ مَا وَرَدَ فِي الصُّفُوفِ مِنِ الْتِصَاقِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَاكَ إِظْهَارُ الِاتِّحَادِ بَيْنَ الْمُصَلِّينَ حَتَّى كَأَنَّهُمْ جَسَدٌ وَاحِدٌ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا تَفْتَرِشِ افْتِرَاشَ السَّبُعِ، وَادْعَمْ عَلَى رَاحَتَيْكَ وَأَبْدِ ضَبْعَيْكَ، فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ سَجَدَ كُلُّ عُضْوٍ مِنْكَ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَفْتَرِشَ الرَّجُلُ ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ السَّبُعِ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَرْقَمَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فَكُنْتُ أَنْظُرُ إِلَى عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ إِذَا سَجَدَ، وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: إِذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَفْتَرِشْ ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ الْكَلْبِ، وَلْيَضُمَّ فَخِذَيْهِ.
وَلِلْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَرْقَمَ، وَعَنْهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَجَدَ يُرَى وَضَحُ إِبْطَيْهِ. وَلَهُ مِنْ حَدِيثِهِ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ رَفَعَهُ: إِذَا سَجَدْتَ فَضَعْ كَفَّيْكَ وَارْفَعْ مِرْفَقَيْكَ. وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ - مَعَ حَدِيثِ مَيْمُونَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُجَافِي يَدَيْهِ، فَلَوْ أَنَّ بَهِيمَةً أَرَادَتْ أَنْ تَمُرَّ لَمَرَّتْ. مَعَ حَدِيثِ ابْنِ بُحَيْنَةَ الْمُعَلَّقِ هُنَا - ظَاهِرُهَا وُجُوبُ التَّفْرِيجِ الْمَذْكُورِ، لَكِنْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لِلِاسْتِحْبَابِ؛ وَهُوَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: شَكَا أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ مَشَقَّةَ السُّجُودِ عَلَيْهِمْ إِذَا انْفَرَجُوا، فَقَالَ: اسْتَعِينُوا بِالرُّكَبِ. وَتُرْجِمَ لَهُ الرُّخْصَةُ فِي ذَلِكَ؛ أَيْ: فِي تَرْكِ التَّفْرِيجِ، قَالَ ابْنُ عَجْلَانَ أَحَدُ رُوَاتِهِ: وَذَلِكَ أَنْ يَضَعَ مِرْفَقَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ إِذَا طَالَ السُّجُودُ وَأَعْيَا، وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ وَلَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَتِهِ: إِذَا انْفَرَجُوا.
فَتُرْجِمَ لَهُ مَا جَاءَ فِي الِاعْتِمَادِ إِذَا قَامَ مِنَ السُّجُودِ؛ فَجُعِلَ مَحَلُّ الِاسْتِعَانَةِ بِالرُّكَبِ لِمَنْ يَرْفَعُ مِنَ السُّجُودِ طَالِبًا لِلْقِيَامِ، وَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ مَا قَالَ، لَكِنَّ الزِّيَادَةَ الَّتِي أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ تُعَيِّنُ الْمُرَادَ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قَمِيصٌ لِانْكِشَافِ إِبْطَيْهِ، وَتُعُقِّبَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْقَمِيصُ
وَاسِعَ الْأَكْمَامِ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: كَانَ أَحَبَّ الثِّيَابِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْقَمِيصُ، أَوْ أَرَادَ الرَّاوِي أَنَّ مَوْضِعَ بَيَاضِهِمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ثَوْبٌ لَرُئِيَ. قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ إِبْطَيْهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمَا شَعْرٌ، وَفِيهِ نَظَرٌ. فَقَدْ حَكَى الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ فِي الِاسْتِسْقَاءِ مِنَ الْأَحْكَامِ لَهُ أَنَّ مِنْ خَصَائِصِهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْإِبِطَ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ مُتَغَيِّرُ اللَّوْنِ غَيْرَهُ
(1)
، وَاسْتَدَلَّ بِإِطْلَاقِهِ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّفْرِيجِ فِي الرُّكُوعِ أَيْضًا، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ فِي رِوَايَةِ قُتَيْبَةَ، عَنْ بَكْرِ بْنِ مُضَرَ التَّقْيِيدَ بِالسُّجُودِ، وَأَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْمَنَاقِبِ، وَالْمُطْلَقُ إِذَا اسْتُعْمِلَ فِي صُورَةٍ اكْتُفِيَ بِهَا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّيْثُ:، حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ نَحْوَهُ)، وَصَلَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِهِ بِلَفْظِ: كَانَ إِذَا سَجَدَ فَرَّجَ يَدَيْهِ عَنْ إِبْطَيْهِ، حَتَّى إِنِّي لَأَرَى بَيَاضَ إِبْطَيْهِ.
(تَنْبِيهٌ): تَقَدَّمَ قُبَيْلَ أَبْوَابِ الْقِبْلَةِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي كَثِيرٍ مِنَ النُّسَخِ وُقُوعُ هَاتَيْنِ التَّرْجَمَتَيْنِ هَذِهِ وَالَّتِي بَعْدَهَا هُنَاكَ وَأُعِيدَا هُنَا وَأَنَّ الصَّوَابَ إِثْبَاتُهُمَا هُنَا، وَذَكَرْنَا تَوْجِيهَ ذَلِكَ بِمَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَتِهِ.
131 - بَاب يَسْتَقْبِلُ بِأَطْرَافِ رِجْلَيْهِ الْقِبْلَةَ
قَالَهُ أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَوْلُهُ: (بَابٌ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ بِأَطْرَافِ رِجْلَيْهِ قَالَهُ أَبُو حُمَيْدٍ) يَأْتِي مَوْصُولًا فِي بَابِ سُنَّةِ الْجُلُوسِ فِي التَّشَهُّدِ قَرِيبًا وَأَنَّهُ وَرَدَ فِي صِفَةِ السُّجُودِ، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: الْمُرَادُ أَنْ يَجْعَلَ قَدَمَيْهِ قَائِمَتَيْنِ عَلَى بُطُونِ أَصَابِعِهِمَا وَعَقِبَاهُ مُرْتَفِعَانِ، فَيَسْتَقْبِلُ بِظُهُورِ قَدَمَيْهِ الْقِبْلَةَ، قَالَ أَخُوهُ: وَمِنْ ثَمَّ نُدِبَ ضَمُّ الْأَصَابِعِ فِي السُّجُودِ لِأَنَّهَا لَوْ تَفَرَّجَتِ انْحَرَفَتْ رُءُوسُ بَعْضِهَا عَنِ الْقِبْلَةِ.
132 - بَاب إِذَا لَمْ يُتِمَّ السُّجُودَ
808 -
حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ، عَنْ وَاصِلٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ: رَأَى رَجُلًا لَا يُتِمُّ رُكُوعَهُ وَلَا سُجُودَهُ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ قَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: مَا صَلَّيْتَ؟ قَالَ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ: وَلَوْ مُتَّ مُتَّ عَلَى غَيْرِ سُنَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا لَمْ يُتِمَّ سُجُودَهُ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ حُذَيْفَةَ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ إِذَا لَمْ يُتِمَّ الرُّكُوعَ.
133 - بَاب السُّجُودِ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ
809 -
حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أُمِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْضَاءٍ، وَلَا يَكُفَّ شَعَرًا وَلَا ثَوْبًا، الْجَبْهَةِ وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ.
[الحديث 809 - أطرافه في: 816، 815، 812، 810]
810 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أُمِرْنَا أَنْ نَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ، وَلَا نَكُفَّ ثَوْبًا وَلَا شَعَرًا.
811 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخَطْمِيِّ، حَدَّثَنَا الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَهُوَ غَيْرُ كَذُوبٍ، قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. لَمْ يَحْنِ أَحَدٌ مِنَّا
(1)
مثل هذا التخصيص يحتاج إلى دليل، ولا أعلم في الأحاديث مايدل على ما قاله المحب، فالأقرب ما قاله القرطبي، وهو ظاهر كثير من الأحاديث. ويحتمل أن يكون شعر إبطيه صلى الله عليه وسلم كان خفيفا فلا يتضح للناظر من سوى بياض الإبطين. والله أعلم
ظَهْرَهُ حَتَّى يَضَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَبْهَتَهُ عَلَى الْأَرْضِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ السُّجُودِ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ)، لَفْظُ الْمَتْنِ الَّذِي أَوْرَدَهُ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى سَبْعَةِ أَعْضَاءٍ، لَكِنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى لَفْظِ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَقَدْ أَوْرَدَهَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: يُسَمَّى كُلُّ وَاحِدٍ عَظْمًا بِاعْتِبَارِ الْجُمْلَةِ وَإِنِ اشْتَمَلَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى عِظَامٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الْجُمْلَةِ بِاسْمِ بَعْضِهَا.
قَوْلُهُ: (سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ.
قَوْلُهُ: (أُمِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) هُوَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ بِالْبِنَاءِ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَالْمُرَادُ بِهِ اللَّهُ جل جلاله، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: عُرِفَ ذَلِكَ بِالْعُرْفِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، قِيلَ: وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ صِيغَةُ أَفْعَلَ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا السِّيَاقُ يَحْتَمِلُ الْخُصُوصِيَّةَ عَقَّبَهُ الْمُصَنِّفُ بِلَفْظٍ آخَرَ دَالٍّ عَلَى أَنَّهُ لِعُمُومِ الْأُمَّةِ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَيْضًا بِلَفْظِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أُمِرْنَا وَعُرِفَ بِهَذَا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ تَلَقَّاهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِمَّا سَمَاعًا مِنْهُ وَإِمَّا بَلَاغًا عَنْهُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بِلَفْظِ إِذَا سَجَدَ الْعَبْدُ سَجَدَ مَعَهُ سَبْعَةُ آرَابٍ الْحَدِيثُ، وَهَذَا يُرَجِّحُ أَنَّ النُّونَ فِي أُمِرْنَا نُونُ الْجَمْعِ، وَالْآرَابُ بِالْمَدِّ جَمْعُ إِرْبٍ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَإِسْكَانِ ثَانِيهِ وَهُوَ الْعُضْوُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ تَلَقَّاهُ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه.
قَوْلُهُ: (وَلَا يَكُفَّ شَعْرًا وَلَا ثَوْبًا) جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُجْمَلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: سَبْعَةُ أَعْضَاءٍ، وَالْمُفَسَّرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: الْجَبْهَةِ إِلَخْ، وَذَكَرَهُ بَعْدَ بَابٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِلَفْظِ وَلَا نَكْفِتَ الثِّيَابَ وَالشَّعْرَ، وَالْكَفْتُ بِمُثَنَّاةٍ فِي آخِرِهِ هُوَ الضَّمُّ وَهُوَ بِمَعْنَى الْكَفِّ. وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَجْمَعُ ثِيَابَهُ وَلَا شَعْرَهُ، وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ فِي حَالِ الصَّلَاةِ، وَإِلَيْهِ جَنَحَ الدَّاوُدِيُّ، وَتَرْجَمَ الْمُصَنِّفُ بَعْدَ قَلِيلٍ بَابُ لَا يَكُفُّ ثَوْبَهُ فِي الصَّلَاةِ وَهِيَ تُؤَيِّدُ ذَلِكَ، وَرَدَّهُ عِيَاضٌ بِأَنَّهُ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، فَإِنَّهُمْ كَرِهُوا ذَلِكَ لِلْمُصَلِّي سَوَاءٌ فَعَلَهُ فِي الصَّلَاةِ أَوْ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ، لَكِنْ حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ الْحَسَنِ وُجُوبَ الْإِعَادَةِ، قِيلَ: وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا رَفَعَ ثَوْبَهُ وَشَعْرَهُ عَنْ مُبَاشَرَةِ الْأَرْضِ أَشْبَهَ الْمُتَكَبِّرَ.
قَوْلُهُ: (الْجَبْهَةِ) زَادَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ وَأَشَارَ بِيَدِهِ عَلَى أَنْفِهِ، كَأَنَّهُ ضَمَّنَ أَشَارَ مَعْنَى أَمَرَّ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ فَلِذَلِكَ عَدَّاهُ بِعَلَى دُونَ إِلَى، وَوَقَعَ فِي الْعُمْدَةِ بِلَفْظِ إِلَى وَهِيَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، فَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: قَالَ ابْنُ طَاوُسٍ: وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ وَأَمَرَّهَا عَلَى أَنْفِهِ، وَقَالَ: هَذَا وَاحِدٌ. فَهَذِهِ رِوَايَةٌ مُفَسِّرَةٌ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَبْهَةَ الْأَصْلُ فِي السُّجُودِ وَالْأَنْفَ تَبَعٌ، وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: قِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمَا جُعِلَا كَعُضْوٍ وَاحِدٍ وَإِلَّا لَكَانَتِ الْأَعْضَاءُ ثَمَانِيَةً، قَالَ: وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يُكْتَفَى بِالسُّجُودِ عَلَى الْأَنْفِ كَمَا يُكْتَفَى بِالسُّجُودِ عَلَى بَعْضِ الْجَبْهَةِ، وَقَدِ احْتُجَّ بِهَذَا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي الِاكْتِفَاءِ بِالسُّجُودِ عَلَى الْأَنْفِ، قَالَ: وَالْحَقُّ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُعَارِضُ التَّصْرِيحَ بِذِكْرِ الْجَبْهَةِ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّهُمَا كَعُضْوٍ وَاحِدٍ، فَذَاكَ فِي التَّسْمِيَةِ وَالْعِبَارَةِ لَا فِي الْحُكْمِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْإِشَارَةَ قَدْ لَا تُعَيِّنُ الْمُشَارَ إِلَيْهِ فَإِنَّهَا إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْجَبْهَةِ لِأَجْلِ الْعِبَادَةِ، فَإِذَا تَقَارَبَ مَا فِي الْجَبْهَةِ أَمْكَنَ أَنْ لَا يُعَيَّنَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ يَقِينًا، وَأَمَّا الْعِبَارَةُ فَإِنَّهَا مُعَيَّنَةٌ لِمَا وُضِعَتْ لَهُ فَتَقْدِيمُهُ أَوْلَى. انْتَهَى.
وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ جَوَازِ الِاقْتِصَارِ عَلَى بَعْضِ الْجَبْهَةِ قَالَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَكَأَنَّهُ أَخَذَ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ: إنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى بَعْضِ الْجَبْهَةِ يُكْرَهُ، وَقَدْ أَلْزَمَهُمْ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِمَا تَقَدَّمَ، وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ السُّجُودُ عَلَى الْأَنْفِ وَحْدَهُ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ عَلَى الْجَبْهَةِ وَحْدَهَا، وَعَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَابْنِ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ
يَجِبُ أَنْ يَجْمَعَهُمَا وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (وَالْيَدَيْنِ) قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الْمُرَادُ بِهِمَا الْكَفَّانِ لِئَلَّا يَدْخُلَ تَحْتَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مِنِ افْتِرَاشِ السَّبُعِ وَالْكَلْبِ. انْتَهَى. وَوَقَعَ بِلَفْظِ الْكَفَّيْنِ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ.
قَوْلُهُ: (وَالرِّجْلَيْنِ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ طَاوُسٍ الْمَذْكُورَةِ وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ وَهُوَ مُبَيِّنٌ لِلْمُرَادِ مِنَ الرِّجْلَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ كَيْفِيَّةُ السُّجُودِ عَلَيْهِمَا قَبْلُ بِبَابٍ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: ظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ السُّجُودِ عَلَى هَذِهِ الْأَعْضَاءِ. وَاحْتَجَّ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ الْجَبْهَةُ دُونَ غَيْرِهَا بِحَدِيثِ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ، حَيْثُ قَالَ فِيهِ: وَيُمَكِّنُ جَبْهَتَهُ. قَالَ: وَهَذَا غَايَتُهُ أَنَّهُ مَفْهُومُ لَقَبٍ، وَالْمَنْطُوقُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ. قَالَ: وَأَضْعَفُ مِنْ هَذَا اسْتِدْلَالُهُمْ بِحَدِيثِ سَجَدَ وَجْهِي، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ إِضَافَةِ السُّجُودِ إِلَى الْوَجْهِ انْحِصَارُ السُّجُودِ فِيهِ، وَأَضْعَفُ مِنْهُ قَوْلُهُمْ: إِنَّ مُسَمَّى السُّجُودِ يَحْصُلُ بِوَضْعِ الْجَبْهَةِ لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ زِيَادَةٍ عَلَى الْمُسَمَّى، وَأَضْعَفُ مِنْهُ الْمُعَارَضَةُ بِقِيَاسٍ شَبَهِيٍّ كَأَنْ يُقَالَ: أَعْضَاءٌ لَا يَجِبُ كَشْفُهَا فَلَا يَجِبُ وَضْعُهَا. قَالَ: وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ كَشْفُ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ لِأَنَّ مُسَمَّى السُّجُودِ يَحْصُلُ بِوَضْعِهَا دُونَ كَشْفِهَا، وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي أَنَّ كَشْفَ الرُّكْبَتَيْنِ غَيْرُ وَاجِبٍ لِمَا يُحْذَرُ فِيهِ مِنْ كَشْفِ الْعَوْرَةِ، وَأَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ كَشْفِ الْقَدَمَيْنِ فَلِدَلِيلٍ لَطِيفٍ وَهُوَ أَنَّ الشَّارِعَ وَقَّتَ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفِّ بِمُدَّةٍ تَقَعُ فِيهَا الصَّلَاةُ بِالْخُفِّ، فَلَوْ وَجَبَ كَشْفُ الْقَدَمَيْنِ لَوَجَبَ نَزْعُ الْخُفِّ الْمُقْتَضِي لِنَقْضِ الطَّهَارَةِ فَتَبْطُلُ الصَّلَاةُ. انْتَهَى.
وَفِيهِ نَظَرٌ، فَلِلْمُخَالِفِ أَنْ يَقُولَ: يُخَصُّ لَابِسُ الْخُفِّ لِأَجْلِ الرُّخْصَةِ. وَأَمَّا كَشْفُ الْيَدَيْنِ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ في بَابِ السُّجُودِ عَلَى الثَّوْبِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ قُبَيْلَ أَبْوَابِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، وَفِيهِ أَثَرُ الْحَسَنِ فِي نَقْلِهِ عَنِ الصَّحَابَةِ تَرْكُ الْكَشْفِ، ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ الْبَرَاءِ فِي الرُّكُوعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابِ مَتَى يَسْجُدُ مَنْ خَلْفَ الْإِمَامِ، وَمُرَادُهُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: حَتَّى يَضَعَ جَبْهَتَهُ عَلَى الْأَرْضِ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَمُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْعَادَةَ أَنَّ وَضْعَ الْجَبْهَةِ إِنَّمَا هُوَ بِاسْتِعَانَةِ الْأَعْظُمِ السِّتَّةِ غَالِبًا. انْتَهَى.
وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي مُرَادِهِ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى الْجَبْهَةِ كَهَذَا الْحَدِيثِ لَا تُعَارِضُ الْحَدِيثَ الْمَنْصُوصَ فِيهِ عَلَى الْأَعْضَاءِ السَّبْعَةِ، بَلْ الِاقْتِصَارُ عَلَى ذِكْرِ الْجَبْهَةِ إِمَّا لِكَوْنِهَا أَشْرَفَ الْأَعْضَاءِ الْمَذْكُورَةِ أَوْ أَشْهَرَهَا فِي تَحْصِيلِ هَذَا الرُّكْنِ، فَلَيْسَ فِيهِ مَا يَنْفِي الزِّيَادَةَ الَّتِي فِي غَيْرِهِ. وَقِيلَ: أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْجَبْهَةِ لِلْوُجُوبِ وَغَيْرِهَا لِلنَّدْبِ، وَلِهَذَا اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِهَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَالْأَوَّلُ أَلْيَقُ بِتَصَرُّفِهِ.
134 - بَاب السُّجُودِ عَلَى الْأَنْفِ
812 -
حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ عَلَى الْجَبْهَةِ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ عَلَى أَنْفِهِ وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ، وَلَا نَكْفِتَ الثِّيَابَ وَالشَّعَرَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ السُّجُودِ عَلَى الْأَنْفِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ جِهَةِ وُهَيْبٍ، وَهُوَ ابْنُ خَالِدٍ.
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ) وَقَدْ أَسْلَفْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ قَبْلُ.
قَوْلُهُ فِيهِ (عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ، عَلَى الْجَبْهَةِ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: عَلَى الثَّانِيَةِ بَدَلٌ مِنَ الْأُولَى الَّتِي فِي حُكْمِ الطَّرْحِ، أَوِ الْأُولَى مُتَعَلِّقَةٌ بِنَحْوِ: حَاصِلًا. أَيِ اسْجُدْ عَلَى الْجَبْهَةِ حَالَ كَوْنِ السُّجُودِ
عَلَى سَبْعَةِ أَعْضَاءٍ.
135 - بَاب السُّجُودِ عَلَى الْأَنْفِ وَالسُّجُودِ عَلَى الطِّينِ
813 -
حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: انْطَلَقْتُ إِلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، فَقُلْتُ: أَلَا تَخْرُجُ بِنَا إِلَى النَّخْلِ نَتَحَدَّثُ؟ فَخَرَجَ، فَقَالَ: قُلْتُ: حَدِّثْنِي مَا سَمِعْتَ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، قَالَ: اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ الْأُوَلِ مِنْ رَمَضَانَ وَاعْتَكَفْنَا مَعَهُ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ. فَاعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ فَاعْتَكَفْنَا مَعَهُ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ. قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا صَبِيحَةَ عِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، فَقَالَ: مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلْيَرْجِعْ، فَإِنِّي أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ وَإِنِّي نُسِّيتُهَا، وَإِنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فِي وِتْرٍ، وَإِنِّي رَأَيْتُ كَأَنِّي أَسْجُدُ فِي طِينٍ وَمَاءٍ، وَكَانَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ جَرِيدَ النَّخْلِ، وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ شَيْئًا، فَجَاءَتْ قَزْعَةٌ فَأُمْطِرْنَا، فَصَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ وَالْمَاءِ عَلَى جَبْهَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَرْنَبَتِهِ، تَصْدِيقَ رُؤْيَاهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ السُّجُودِ عَلَى الْأَنْفِ فِي الطِّينِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْمُسْتَمْلِي السُّجُودُ عَلَى الْأَنْفِ وَالسُّجُودُ عَلَى الطِّينِ، وَالْأَوَّلُ أَنْسَبُ لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّكْرَارُ، وَهَذِهِ التَّرْجَمَةُ أَخَصُّ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا، وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى تَأَكُّدِ أَمْرِ السُّجُودِ عَلَى الْأَنْفِ بِأَنَّهُ لَمْ يُتْرَكْ مَعَ وُجُودِ عُذْرِ الطِّينِ الَّذِي أَثَّرَ فِيهِ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِمَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ الِاكْتِفَاءِ بِالْأَنْفِ لِأَنَّ فِي سِيَاقِهِ أَنَّهُ سَجَدَ عَلَى جَبْهَتِهِ وَأَرْنَبَتِهِ، فَوَضَحَ أَنَّهُ إِنَّمَا قَصَدَ بِالتَّرْجَمَةِ مَا قَدَّمْنَاهُ وَهُوَ دَالٌّ عَلَى وُجُوبِ السُّجُودِ عَلَيْهِمَا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَصَانَهُمَا عَنْ لَوْثِ الطِّينِ، قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ، وَفِيهِ نَظَرٌ: وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ تَرْكِ الْإِسْرَاعِ إِلَى إِزَالَةِ مَا يُصِيبُ جَبْهَةَ السَّاجِدِ مِنْ غُبَارِ الْأَرْضِ وَنَحْوِهِ، وَسَنَذْكُرُ بَقِيَّةَ مَبَاحِثِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
136 - بَاب عَقْدِ الثِّيَابِ وَشَدِّهَا وَمَنْ ضَمَّ إِلَيْهِ ثَوْبَهُ إِذَا خَافَ أَنْ تَنْكَشِفَ عَوْرَتُهُ
814 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: كَانَ النَّاسُ يُصَلُّونَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ عَاقِدُو أُزْرِهِمْ مِنْ الصِّغَرِ عَلَى رِقَابِهِمْ، فَقِيلَ لِلنِّسَاءِ: لَا تَرْفَعْنَ رُءُوسَكُنَّ حَتَّى يَسْتَوِيَ الرِّجَالُ جُلُوسًا.
قَوْلُهُ: (بَابُ عَقْدِ الثِّيَابِ وَشَدِّهَا، وَمَنْ ضَمَّ إِلَيْهِ ثَوْبَهُ إِذَا خَافَ أَنْ تَنْكَشِفَ عَوْرَتُهُ) كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ الْوَارِدَ عَنْ كَفِّ الثِّيَابِ فِي الصَّلَاةِ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ حَالَةِ الِاضْطِرَارِ، وَوَجْهُ إِدْخَالِ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ فِي أَحْكَامِ السُّجُودِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ حَرَكَةَ السُّجُودِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ تَسْهُلُ مَعَ ضَمِّ الثِّيَابِ وَعَقْدِهَا لَا مَعَ إِرْسَالِهَا وَسَدْلِهَا، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي حَازِمٍ) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ إِذَا كَانَ الثَّوْبُ ضَيِّقًا فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى فَوَائِدِ الْمَتْنِ هُنَاكَ.
137 - بَاب لا يَكُفُّ شَعَرًا
815 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ وَهْوَ ابْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُمِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ، وَلَا يَكُفَّ ثَوْبَهُ وَلَا شَعَرَهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ لَا يَكُفُّ شَعْرًا) أَيِ الْمُصَلِّي، ويَكُفُّ ضَبَطْنَاهُ فِي رِوَايَتِنَا بِضَمِّ الْفَاءِ وَهُوَ الرَّاجِحُ، وَيَجُوزُ الْفَتْحُ، وَالْمُرَادُ بِالشَّعْرِ شَعْرُ الرَّأْسِ، وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ لِأَحْكَامِ السُّجُودِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الشَّعْرَ يَسْجُدُ مَعَ الرَّأْسِ إِذَا لَمْ يُكَفَّ أَوْ يُلَفَّ، وَجَاءَ فِي حِكْمَةِ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ غُرْزَةَ الشَّعْرِ يَقْعُدُ فِيهَا الشَّيْطَانُ حَالَةَ الصَّلَاةِ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ: أَنَّ أَبَا رَافِعٍ رَأَى الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ يُصَلِّي قَدْ غَرَزَ ضَفِيرَتَهُ فِي قَفَاهُ فَحَلَّهَا، وَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ذَلِكَ مَقْعَدُ الشَّيْطَانِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى قَبْلَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ.
138 - بَاب لا يَكُفُّ ثَوْبَهُ فِي الصَّلَاةِ
816 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةٍ، لَا أَكُفُّ شَعَرًا وَلَا ثَوْبًا.
قَوْلُهُ: (بَابُ لَا يَكُفُّ ثَوْبَهُ فِي الصَّلَاةِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ.
139 - بَاب التَّسْبِيحِ وَالدُّعَاءِ فِي السُّجُودِ
817 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْصُورُ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي. يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ التَّسْبِيحِ وَالدُّعَاءِ فِي السُّجُودِ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ التَّرْجَمَةِ فِي بَابِ الدُّعَاءِ فِي الرُّكُوعِ.
قَوْلُهُ: (يَحْيَى) هُوَ الْقَطَّانُ، وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ.
قَوْلُهُ: (يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ) كَذَا فِي رِوَايَةِ مَنْصُورٍ، وَقَدْ بَيَّنَ الْأَعْمَشُ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ أَبِي الضُّحَى كَمَا سَيَأْتِي فِي التَّفْسِيرِ ابْتِدَاءُ هَذَا الْفِعْلِ، وَأَنَّهُ وَاظَبَ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَفْظُهُ: مَا صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَلَاةً بَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إِلَّا يَقُولُ فِيهَا الْحَدِيثَ. قِيلَ: اخْتَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ لِهَذَا الْقَوْلِ لِأَنَّ حَالَهَا أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا. انْتَهَى.
وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَقُولُ ذَلِكَ خَارِجَ الصَّلَاةِ أَيْضًا، بَلْ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُوَاظِبُ عَلَى ذَلِكَ دَاخِلَ الصَّلَاةِ وَخَارِجَهَا، وَفِي رِوَايَةِ مَنْصُورٍ بَيَانُ الْمَحَلِّ الَّذِي كَانَ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِيهِ مِنَ الصَّلَاةِ، وَهُوَ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ.
قَوْلُهُ: (يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ) أَيْ يَفْعَلُ مَا أُمِرَ بِهِ فِيهِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقُرْآنِ بَعْضُهُ، وَهُوَ السُّورَةُ الْمَذْكُورَةُ وَالذِّكْرُ الْمَذْكُورُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ السَّكَنِ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} الْآيَةَ. وَفِي هَذَا تَعْيِينُ أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِسَبِّحْ نَفْسَ الْحَمْدِ، لِمَا تَضَمَّنَهُ الْحَمْدُ مِنْ مَعْنَى التَّسْبِيحِ الَّذِي هُوَ التَّنْزِيهُ، لِاقْتِضَاءِ الْحَمْدِ نِسْبَةَ الْأَفْعَالِ الْمَحْمُودِ عَلَيْهَا إِلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى، فَعَلَى هَذَا يَكْفِي فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْحَمْدِ
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فَسَبِّحْ مُتَلَبِّسًا بِالْحَمْدِ فَلَا يَمْتَثِلُ حَتَّى يَجْمَعَهُمَا وَهُوَ الظَّاهِرُ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ إِبَاحَةُ الدُّعَاءِ فِي الرُّكُوعِ وَإِبَاحَةُ التَّسْبِيحِ فِي السُّجُودِ، وَلَا يُعَارِضُهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: أَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِيهِ مِنَ الدُّعَاءِ. قَالَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ حَدِيثُ الْبَابِ عَلَى الْجَوَازِ، وَذَلِكَ عَلَى الْأَوْلَوِيَّةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَمَرَ فِي السُّجُودِ بِتَكْثِيرِ الدُّعَاءِ لِإِشَارَةِ قَوْلِهِ فَاجْتَهِدُوا وَالَّذِي وَقَعَ فِي الرُّكُوعِ مِنْ قَوْلِهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي لَيْسَ كَثِيرًا فَلَا يُعَارِضُ مَا أَمَرَ بِهِ فِي السُّجُودِ، انْتَهَى.
وَاعْتَرَضَهُ الْفَاكِهَانِيُّ بِأَنَّ قَوْلَ عَائِشَةَ: كَانَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ صَرِيحٌ فِي كَوْنِ ذَلِكَ وَقَعَ مِنْهُ كَثِيرًا، فَلَا يُعَارِضُ مَا أَمَرَ بِهِ فِي السُّجُودِ، هَكَذَا نَقَلَهُ عَنْهُ شَيْخُنَا ابْنُ الْمُلَقِّنِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ، وَقَالَ: فَلْيُتَأَمَّلْ. وَهُوَ عَجِيبٌ، فَإِنَّ ابْنَ دَقِيقِ الْعِيدِ أَرَادَ بِنَفْيِ الْكَثْرَةِ عَدَمَ الزِّيَادَةِ عَلَى قَوْلِهِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي فِي الرُّكُوعِ الْوَاحِدِ، فَهُوَ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى السُّجُودِ الْمَأْمُورِ فِيهِ بِالِاجْتِهَادِ فِي الدُّعَاءِ الْمُشْعِرِ بِتَكْثِيرِ الدُّعَاءِ، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الصَّلَوَاتِ دُونَ بَعْضٍ حَتَّى يُعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِقَوْلِ عَائِشَةَ: كَانَ يُكْثِرُ.
(تَنْبِيهٌ): الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: أَمَّا الرُّكُوعُ إِلَخْ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَفِيهِ بَعْدَ قَوْلِهِ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ: فَقَمَنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ، وَقَمَنٌ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالْمِيمِ وَقَدْ تُكْسَرُ مَعْنَاهُ حَقِيقٌ. وَجَاءَ الْأَمْرُ بِالْإِكْثَارِ مِنَ الدُّعَاءِ فِي السُّجُودِ، وَهُوَ أَيْضًا عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا فِيهِ مِنَ الدُّعَاءِ. وَالْأَمْرُ بِإِكْثَارِ الدُّعَاءِ فِي السُّجُودِ يَشْمَلُ الْحَثَّ عَلَى تَكْثِيرِ الطَّلَبَ لِكُلِّ حَاجَةٍ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ: لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ كُلَّهَا حَتَّى شِسْعَ نَعْلِهِ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَيَشْمَلُ التَّكْرَارَ لِلسُّؤَالِ الْوَاحِدِ وَالِاسْتِجَابَةُ تَشْمَلُ اسْتِجَابَةَ الدَّاعِي بِإِعْطَاءِ سُؤْلِهِ وَاسْتِجَابَةَ الْمُثْنِي بِتَعْظِيمِ ثَوَابِهِ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى تَفْسِيرِ سُورَةِ النَّصْرِ وَتَعْيِينِ الْوَقْتِ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ وَالْبَحْثِ فِي السُّؤَالِ الَّذِي أَوْرَدَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ عَلَى ظَاهِرِ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ: إِذَا جَاءَ، وَعَلَى قَوْلِ عَائِشَةَ: مَا صَلَّى صَلَاةً بَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ إِلَّا قَالَ إِلَخْ. وَالتَّوْفِيقُ بَيْنَ مَا ظَاهِرُهُ التَّعَارُضُ مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
140 - بَاب الْمُكْثِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ
818 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّ مَالِكَ بْنَ الْحُوَيْرِثِ، قَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَلَا أُنَبِّئُكُمْ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: وَذَاكَ فِي غَيْرِ حِينِ صَلَاةٍ، فَقَامَ ثُمَّ رَكَعَ فَكَبَّرَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَامَ هُنَيَّةً، ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ هُنَيَّةً، فَصَلَّى صَلَاةَ عَمْرِو بْنِ سَلِمَةَ شَيْخِنَا هَذَا. قَالَ أَيُّوبُ: كَانَ يَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ أَرَهُمْ يَفْعَلُونَهُ، كَانَ يَقْعُدُ فِي الثَّالِثَةِ أو الرَّابِعَةِ.
819 -
قَالَ: فَأَتَيْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: لَوْ رَجَعْتُمْ إِلَى أَهْلِيكُمْ صَلُّوا صَلَاةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا، صَلُّوا صَلَاةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا، فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ.
820 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ الْبَرَاءِ، قَالَ: كَانَ سُجُودُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرُكُوعُهُ وَقُعُودُهُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ
قَرِيبًا مِنْ السَّوَاءِ.
821 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ رضي الله عنه، قَالَ: إِنِّي لَا آلُو أَنْ أُصَلِّيَ بِكُمْ كَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِنَا، قَالَ ثَابِتٌ: كَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ يَصْنَعُ شَيْئًا لَمْ أَرَكُمْ تَصْنَعُونَهُ، كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ قَامَ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ: قَدْ نَسِيَ. وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ: قَدْ نَسِيَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْمُكْثِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ) فِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ بَيْنَ السُّجُودِ.
قَوْلُهُ: (أَلَا أُنَبِّئُكُمْ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) الْإِنْبَاءُ يُعَدَّى بِنَفْسِهِ وَبِالْبَاءِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا} ؟ وَقَالَ: {قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ}
قَوْلُهُ: (قَالَ) أَيْ أَبُو قِلَابَةَ (وَذَلِكَ فِي غَيْرِ حِينِ صَلَاةٍ)؛ أَيْ غَيْرِ وَقْتِ صَلَاةٍ مِنَ الْمَفْرُوضَةِ، وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى لَا يَدْخُلَ فِيهِ أَوْقَاتُ الْمَنْعِ مِنَ النَّافِلَةِ لِتَنْزِيهِ الصَّحَابِيِّ عَنِ التَّنَفُّلِ حِينَئِذٍ، وَلَيْسَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَقْتٌ أُجْمِعَ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَقْتٍ لِصَلَاةٍ مِنَ الْخَمْسِ إِلَّا مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى زَوَالِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي بَابِ الطُّمَأْنِينَةِ فِي الرُّكُوعِ وَفِي غَيْرِهِ. وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ: ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ هُنَيَّةً. بَعْدَ قَوْلِهِ: ثُمَّ سَجَدَ. لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْجُلُوسَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ قَدْرَ الِاعْتِدَالِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ أَيُّوبُ) أَيْ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (كَانَ يَقْعُدُ فِي الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ) هُوَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَالْمُرَادُ مِنْهُ بَيَانُ جِلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ، وَهِيَ تَقَعُ بَيْنَ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ كَمَا تَقَعُ بَيْنَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: كَانَ يَقْعُدُ فِي آخِرِ الثَّالِثَةِ أَوْ فِي أَوَّلِ الرَّابِعَةِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ فَشَكَّ الرَّاوِي أَيُّهُمَا قَالَ، وَسَيَأْتِي الْحَدِيثُ بَعْدَ بَابٍ وَاحِدٍ بِلَفْظِ: فَإِذَا كَانَ فِي وِتْرٍ مِنْ صَلَاتِهِ لَمْ يَنْهَضْ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِدًا.
قَوْلُهُ: (فَأَتَيْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) هُوَ مَقُولُ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، وَالْفَاءُ عَاطِفَةٌ عَلَى شَيْءٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ أَسْلَمْنَا فَأَتَيْنَا، أَوْ أَرْسَلْنَا قَوْمَنَا فَأَتَيْنَا وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَبْوَابِ الْإِمَامَةِ وَفِي الْأَذَانِ.
وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابِ اسْتِوَاءِ الظَّهْرِ فِي الرُّكُوعِ.
وَحَدِيثُ أَنَسٍ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابِ الطُّمَأْنِينَةِ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، وَفِي قَوْلِهِ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ قَالَ ثَابِتٌ: كَانَ أَنَسٌ يَصْنَعُ شَيْئًا لَمْ أَرَكُمْ تَصْنَعُونَهُ إِلَخْ إِشْعَارٌ بِأَنَّ مَنْ خَاطَبَهُمْ كَانُوا لَا يُطِيلُونَ الْجُلُوسَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَلَكِنَّ السُّنَّةَ إِذَا ثَبَتَتْ لَا يُبَالِي مَنْ تَمَسَّكَ بِهَا بِمُخَالَفَةِ مَنْ خَالَفَهَا، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
141 - بَاب يَفْتَرِشُ ذِرَاعَيْهِ فِي السُّجُودِ
وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: سَجَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَوَضَعَ يَدَيْهِ غَيْرَ مُفْتَرِشٍ وَلَا قَابِضِهِمَا
822 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ، وَلَا يَبْسُطْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ لَا يَفْتَرِشْ ذِرَاعَيْهِ فِي السُّجُودِ) يَجُوزُ فِي يَفْتَرِشُ الْجَزْمُ عَلَى النَّهْيِ وَالرَّفْعُ عَلَى النَّفْيِ وَهُوَ بِمَعْنَى النَّهْيِ، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: أُخِذَ لَفْظُ التَّرْجَمَةِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ، وَالْمَعْنَى مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الِافْتِرَاشَ الْمَذْكُورَ فِي حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ بِمَعْنَى الِانْبِسَاطِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ اهـ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، فَإِنَّهُ أَخْرَجَ الْبَابَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ وَلَا يَفْتَرِشْ بَدَلَ يَنْبَسِطْ. وَرَوَى أَحْمَدُ،
وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ نَحْوَهُ بِلَفْظِ: إِذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَعْتَدِلْ وَلَا يَفْتَرِشْ ذِرَاعَيْهِ. . الْحَدِيثَ، وَلِمُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ نَحْوُهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ إِلَخْ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ يَأْتِي مُطَوَّلًا بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ.
قَوْلُهُ: (وَلَا قَابِضِهِمَا) أَيْ بِأَنْ يَضُمَّهُمَا وَلَا يُجَافِيَهُمَا عَنْ جَنْبَيْهِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَنَسٍ) فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ مُعَاذٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ التَّصْرِيحُ بِسَمَاعِ قَتَادَةَ لَهُ مِنْ أَنَسٍ.
قَوْلُهُ: (اعْتَدِلُوا) أَيْ: كُونُوا مُتَوَسِّطِينَ بَيْنَ الِافْتِرَاشِ وَالْقَبْضِ، وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَعَلَّ الْمُرَادَ بِالِاعْتِدَالِ هُنَا وَضْعُ هَيْئَةِ السُّجُودِ عَلَى وَفْقِ الْأَمْرِ، لِأَنَّ الِاعْتِدَالَ الْحِسِّيَّ الْمَطْلُوبَ فِي الرُّكُوعِ لَا يَتَأَتَّى هُنَا، فَإِنَّهُ هُنَاكَ اسْتِوَاءُ الظَّهْرِ وَالْعُنُقِ، وَالْمَطْلُوبُ هُنَا ارْتِفَاعُ الْأَسَافِلِ عَلَى الْأَعَالِي، قَالَ: وَقَدْ ذُكِرَ الْحُكْمُ هُنَا مَقْرُونًا بِعِلَّتِهِ، فَإِنَّ التَّشبهَ بِالْأَشْيَاءِ الْخَسِيسَةِ يُنَاسِبُ تَرْكَهُ فِي الصَّلَاةِ. انْتَهَى. وَالْهَيْئَةُ الْمَنْهِيُّ عَنْهَا أَيْضًا مُشْعِرَةٌ بِالتَّهَاوُنِ وَقِلَّةِ الِاعْتِنَاءِ بِالصَّلَاةِ.
قَوْلُهُ: (وَلَا يَنْبَسِطْ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِنُونٍ سَاكِنَةٍ قَبْلَ الْمُوَحَّدَةِ وَلِلْحَمَوِيِّ يَبْتَسِطْ بِمُثَنَّاةٍ بَعْدَ مُوَحَّدَةٍ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَسَاكِرَ بِمُوَحَّدَةٍ سَاكِنَةٍ فَقَطْ وَعَلَيْهَا اقْتَصَرَ الْعُمْدَةُ، وَقَوْلُهُ انْبِسَاطَ بِالنُّونِ فِي الْأُولَى وَالثَّالِثَةِ وَبِالْمُثَنَّاةِ وَهِيَ ظَاهِرَةٌ وَالثَّالِثَةُ تَقْدِيرُهَا، وَلَا يَبْسُطْ ذِرَاعَيْهِ فَيَنْبَسِطَ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ.
142 - بَاب مَنْ اسْتَوَى قَاعِدًا فِي وِتْرٍ مِنْ صَلَاتِهِ ثُمَّ نَهَضَ
823 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ اللَّيْثِيُّ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي، فَإِذَا كَانَ فِي وِتْرٍ مِنْ صَلَاتِهِ لَمْ يَنْهَضْ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِدًا.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنِ اسْتَوَى قَاعِدًا فِي وِتْرٍ مِنْ صَلَاتِهِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ وَمُطَابَقَتُهُ وَاضِحَةٌ، وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ جِلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ، وَأَخَذَ بِهَا الشَّافِعِيُّ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ، وَذَكَرَ الْخَلَّالُ أَنَّ أَحْمَدَ رَجَعَ إِلَى الْقَوْلِ بِهَا، وَلَمْ يَسْتَحِبَّهَا الْأَكْثَرُ، وَاحْتَجَّ الطَّحَاوِيُّ بِخُلُوِّ حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ عَنْهَا فَإِنَّهُ سَاقَهُ بِلَفْظِ فَقَامَ وَلَمْ يَتَوَرَّكْ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا كَذَلِكَ، قَالَ: فَلَمَّا تَخَالَفَا احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَا فَعَلَهُ فِي حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ لِعِلَّةٍ كَانَتْ بِهِ فَقَعَدَ لِأَجْلِهَا، لَا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ سُنَّةِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ قَوَّى ذَلِكَ بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَقْصُودَةً لَشُرِعَ لَهَا ذِكْرٌ مَخْصُوصٌ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْعِلَّةِ وَبِأَنَّ مَالِكَ بْنَ الْحُوَيْرِثِ هُوَ رَاوِي حَدِيثِ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي؛ فَحِكَايَتُهُ لِصِفَاتِ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَاخِلَةٌ تَحْتَ هَذَا الْأَمْرِ. وَيُسْتَدَلُّ بِحَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ الْمَذْكُورِ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهَا فَكَأَنَّهُ تَرَكَهَا لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَتَمَسَّكَ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِاسْتِحْبَابِهَا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تُبَادِرُونِي بِالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ، فَإِنِّي قَدْ بَدَّنْتُ.
فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُهَا لِهَذَا السَّبَبِ، فَلَا يُشْرَعُ إِلَّا فِي حَقِّ مَنِ اتَّفَقَ لَهُ نَحْوُ ذَلِكَ، وَأَمَّا الذِّكْرُ الْمَخْصُوصُ فَإِنَّهَا جِلْسَةٌ خَفِيفَةٌ جِدًّا اسْتُغْنِيَ فِيهَا بِالتَّكْبِيرِ الْمَشْرُوعِ لِلْقِيَامِ، فَإِنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ النُّهُوضِ إِلَى الْقِيَامِ، وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى إِنَّ السَّاجِدَ يَضَعُ يَدَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَرَأْسَهُ مُمَيِّزًا لِكُلِّ عُضْوٍ وَضَعَ، فَكَذَا يَنْبَغِي إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ وَيَدَيْهِ أَنْ يُمَيِّزَ رَفْعَ رُكْبَتَيْهِ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ ذَلِكَ بِأَنْ يَجْلِسَ ثُمَّ يَنْهَضَ قَائِمًا، نَبَّهَ عَلَيْهِ نَاصِرُ الدِّينِ بْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ، وَلَمْ تَتَّفِقِ الرِّوَايَاتُ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ عَلَى نَفْيِ هَذِهِ الْجِلْسَةِ كَمَا يُفْهِمُهُ صَنِيعُ الطَّحَاوِيِّ، بَلْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ بِإِثْبَاتِهَا، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِهِ بَعْدَ بَابَيْنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: لَوْ كَانَتْ سُنَّةً لَذَكَرَهَا كُلُّ مَنْ وَصَفَ صَلَاتَهُ، فَيُقَوِّي أَنَّهُ فَعَلَهَا لِلْحَاجَةِ فَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ السُّنَنَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا لَمْ يَسْتَوْعِبْهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِمَّنْ وَصَفَ، وَإِنَّمَا أُخِذَ مَجْمُوعُهَا عَنْ مَجْمُوعِهِمْ.
143 - بَاب كَيْفَ يَعْتَمِدُ عَلَى الْأَرْضِ إِذَا قَامَ مِنْ الرَّكْعَةِ
824 -
حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ: جَاءَنَا مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ فَصَلَّى بِنَا فِي مَسْجِدِنَا هَذَا، فَقَالَ: إِنِّي لَأُصَلِّي بِكُمْ وَمَا أُرِيدُ الصَّلَاةَ، وَلَكِنْ أُرِيدُ أَنْ أُرِيَكُمْ كَيْفَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي. قَالَ أَيُّوبُ: فَقُلْتُ لِأَبِي قِلَابَةَ: وَكَيْفَ كَانَتْ صَلَاتُهُ؟ قَالَ: مِثْلَ صَلَاةِ شَيْخِنَا هَذَا يَعْنِي عَمْرَو بْنَ سَلِمَةَ، قَالَ أَيُّوبُ: وَكَانَ ذَلِكَ الشَّيْخُ يُتِمُّ التَّكْبِيرَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ عَنْ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ جَلَسَ وَاعْتَمَدَ عَلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ قَامَ.
قَوْلُه: (بَابُ كَيْفَ يَعْتَمِدُ عَلَى الْأَرْضِ إِذَا قَامَ مِنَ الرَّكْعَةِ) أَيْ أَيِّ رَكْعَةٍ كَانَتْ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، والْكُشْمِيهَنِيِّ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ أَيِ الْأُولَى وَالثَّالِثَةِ.
قَوْلُهُ: (عَنِ السَّجْدَةِ) فِي رِوَايَةِ الْمَذْكُورِينَ فِي السَّجْدَةِ، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ أَبِي ذَرٍّ مِنَ السَّجْدَةِ وَهِيَ رِوَايَةُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا ذِكْرُ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْأَرْضِ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنَ السُّجُودِ أَوِ الْجُلُوسِ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى رَدِّ مَا رُوِيَ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَعِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَنْهَضُ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلُهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى يَدَيْهِ إِذَا نَهَضَ. فَإِنْ قِيلَ تُرْجِمَ عَلَى كَيْفِيَّةِ الِاعْتِمَادِ، وَالَّذِي فِي الْحَدِيثِ إِثْبَاتُ الِاعْتِمَادِ فَقَطْ، أَجَابَ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّ بَيَانَ الْكَيْفِيَّةِ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ جَلَسَ وَاعْتَمَدَ عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ قَامَ، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالْكَيْفِيَّةِ أَنْ يَقُومَ مُعْتَمِدًا عَنْ جُلُوسٍ لَا عَنْ سُجُودٍ. وَقَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: أَفَادَ فِي التَّرْجَمَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ إِثْبَاتَ الْجُلُوسِ فِي الْأُولَى وَالثَّالِثَةِ، وَفِي هَذِهِ أَنَّ ذَلِكَ الْجُلُوسَ جُلُوسُ اعْتِمَادٍ عَلَى الْأَرْضِ بِتَمَكُّنٍ، بِدَلِيلِ الْإِتْيَانِ بِحَرْفِ ثُمَّ الدَّالِّ عَلَى الْمُهْلَةِ وَأَنَّهُ لَيْسَ جُلُوسَ اسْتِيفَازٍ، فَأَفَادَ فِي الْأُولَى مَشْرُوعِيَّةَ الْحُكْمِ، وَفِي الثَّانِيَةِ صِفَتَهُ اهـ مُلَخَّصًا.
وَفِيهِ شَيْءٌ إِذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ الْمُرَادَ لَقَالَ: كَيْفَ يَجْلِسُ مَثَلًا؟ وَقِيلَ: يُسْتَفَادُ مِنَ الِاعْتِمَادِ أَنَّهُ يَكُونُ بِالْيَدِ لِأَنَّهُ افْتِعَالٌ مِنَ الْعِمَادِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الِاتِّكَاءُ وَهُوَ بِالْيَدِ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُومُ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ مُعْتَمِدًا عَلَى يَدَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَهُمَا.
144 - بَاب يُكَبِّرُ وَهُوَ يَنْهَضُ مِنْ السَّجْدَتَيْنِ
وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يُكَبِّرُ فِي نَهْضَتِهِ
825 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: صَلَّى لَنَا أَبُو سَعِيدٍ، فَجَهَرَ بِالتَّكْبِيرِ حِينَ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ وَحِينَ سَجَدَ وَحِينَ رَفَعَ وَحِينَ قَامَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ، وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم.
826 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا غَيْلَانُ بْنُ جَرِيرٍ، عَنْ مُطَرِّفٍ، قَالَ: صَلَّيْتُ أَنَا وَعِمْرَانُ صَلَاةً خَلْفَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه، فَكَانَ إِذَا سَجَدَ كَبَّرَ، وَإِذَا رَفَعَ كَبَّرَ، وَإِذَا
نَهَضَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ كَبَّرَ؛ فَلَمَّا سَلَّمَ أَخَذَ عِمْرَانُ بِيَدِي، فَقَالَ: لَقَدْ صَلَّى بِنَا هَذَا صَلَاةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَوْ قَالَ: لَقَدْ ذَكَّرَنِي هَذَا صَلَاةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (بَابُ يُكَبِّرُ وَهُوَ يَنْهَضُ مِنَ السَّجْدَتَيْنِ) ذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ يَشْرَعُ فِي التَّكْبِيرِ أَوْ غَيْرِهِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْخَفْضِ أَوِ الرَّفْعِ، إِلَّا أَنَّهُ اخْتُلِفَ عَنْ مَالِكٍ فِي الْقِيَامِ إِلَى الثَّالِثَةِ مِنَ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، فَرَوَى فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ كَانُوا يُكَبِّرُونَ فِي حَالِ قِيَامِهِمْ، وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْهُ أَنَّ التَّكْبِيرَ بَعْدَ الِاسْتِوَاءِ أَوْلَى، وَفِي الْمُدَوَّنَةِ: لَا يُكَبِّرُ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَائِمًا. وَوَجَّهَهُ بَعْضُ أَتْبَاعِهِ بِأَنَّ تَكْبِيرَ الِافْتِتَاحِ يَقَعُ بَعْدَ الْقِيَامِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا نَظِيرَهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الصَّلَاةَ فُرِضَتْ أَوَّلًا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ زِيدَتِ الرُّبَاعِيَّةُ، فَيَكُونُ افْتِتَاحُ الْمَزِيدِ كَافْتِتَاحِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ. وَكَانَ يَنْبَغِي لِصَاحِبِ هَذَا الْكَلَامِ أَنْ يَسْتَحِبَّ رَفْعَ الْيَدَيْنِ حِينَئِذٍ لِتَكْمُلَ الْمُنَاسَبَةُ، وَلَا قَائِلَ مِنْهُمْ بِهِ
(1)
.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
قَوْلُهُ: (صَلَّى لَنَا أَبُو سَعِيدٍ) أَيِ الْخُدْرِيُّ بِالْمَدِينَةِ، وَبَيَّنَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ فُلَيْحٍ سَبَبَ ذَلِكَ، وَلَفْظُهُ: اشْتَكَى أَبُو هُرَيْرَةَ - أَوْ غَابَ - فَصَلَّى أَبُو سَعِيدٍ، فَجَهَرَ بِالتَّكْبِيرِ حِينَ افْتَتَحَ وَحِينَ رَكَعَ الْحَدِيثَ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ أَيْضًا: فَلَمَّا انْصَرَفَ قِيلَ لَهُ: قَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ عَلَى صَلَاتِكَ، فَقَامَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ فَقَالَ: إِنِّي وَاللَّهِ مَا أُبَالِي اخْتَلَفَتْ صَلَاتُكُمْ أَمْ لَمْ تَخْتَلِفْ، إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَكَذَا يُصَلِّي. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ كَانَ فِي الْجَهْرِ بِالتَّكْبِيرِ وَالْإِسْرَارِ بِهِ، وَكَانَ مَرْوَانُ وَغَيْرُهُ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ يُسِرُّونَهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ إِتْمَامِ التَّكْبِيرِ فِي الرُّكُوعِ، وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فِي إِمَارَةِ مَرْوَانَ عَلَى الْمَدِينَةِ. وَأَمَّا مَقْصُودُ الْبَابِ فَالْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ، وَلَا يُؤَخِّرُهُ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَائِمًا كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ الْمُوَطَّأِ، وَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ مَا يَقُولُ الْإِمَامُ وَمَنْ خَلْفَهُ مِنْ حَدِيثِهِ بِلَفْظِ: وَإِذَا قَامَ مِنَ السَّجْدَتَيْنِ قَال: اللَّهُ أَكْبَرُ. فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى إِذَا شَرَعَ فِي الْقِيَامِ، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: أَجْرَى الْبُخَارِيُّ التَّرْجَمَةَ، وَأَثَرَ ابْنِ الزُّبَيْرِ مَجْرَى التَّبْيِينِ لِحَدِيثَيِ الْبَابِ، لِأَنَّهُمَا لَيْسَا صَرِيحَيْنِ فِي أَنَّ ابْتِدَاءَ التَّكْبِيرِ يَكُونُ مَعَ أَوَّلِ النُّهُوضِ.
وَقَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِشْكَالٌ، لِأَنَّهُ تَرْجَمَ فِيمَا مَضَى بَابَ التَّكْبِيرِ إِذَا قَامَ مِنَ السُّجُودِ وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِيهِمَا التَّنْصِيصُ عَلَى أَنَّهُ يُكَبِّرُ فِي حَالَةِ النُّهُوضِ، وَهُوَ الَّذِي اقْتَضَتْهُ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ، فَكَانَ ظَاهِرُهَا التَّكْرَارَ، وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ مِنَ السَّجْدَتَيْنِ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ، لِأَنَّ الرَّكْعَةَ تُسَمَّى سَجْدَةً مَجَازًا، ثُمَّ اسْتَبْعَدَهُ، ثُمَّ رَجَّحَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ بَيَانُ مَحَلِّ التَّكْبِيرِ حِينَ يَنْهَضُ مِنَ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ بِأَنَّهُ إِذَا قَعَدَ عَلَى الْوِتْرِ يَكُونُ تَكْبِيرُهُ فِي الرَّفْعِ إِلَى الْقُعُودِ وَلَا يُؤَخِّرُهُ إِلَى مَا بَعْدَ الْقُعُودِ، وَيَتَوَجَّهُ ذَلِكَ بِأَنَّ التَّرْجَمَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُ فِيهِمَا بَيَانُ الْجُلُوسِ، ثُمَّ بَيَانُ الِاعْتِمَادِ، فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الثَّالِثَةِ مَحَلَّ التَّكْبِيرِ اهـ مُلَخَّصًا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ مِنَ السَّجْدَتَيْنِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ فَيَشْمَلُ مَا قِيلَ أَوَّلًا وَثَانِيًا، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ اشْتِمَالُ حَدِيثَيِ الْبَابِ عَلَى ذَلِكَ، فَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ حِينَ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ وَحِينَ قَامَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ، وَفِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَإِذَا رَفَعَ كَبَّرَ وَإِذَا نَهَضَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ كَبَّرَ، وَأَمَّا أَثَرُ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَيُمْكِنُ شُمُولُهُ الْأَمْرَيْنِ لِأَنَّ النَّهْضَةَ تَحْتَمِلُهُمَا، لَكِنَّ اسْتِعْمَالَهَا فِي الْقِيَامِ أَكْثَرُ، وَهَذَا يُرَجِّحُ الْحَمْلَ الْأَوَّلَ
(1)
يعني من المالكية. ولا ريب أن السنة في ذلك التكبير حين ينهض إلى الثالثة مع رفع اليدين كما ثبت ذلك من حديث ابن عمر وغيره. والله أعلم
الَّذِي اسْتَبْعَدَهُ ابْنُ رَشِيدٍ، وَلَا بُعْدَ فِيهِ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ خِلَافَ مَالِكٍ إِنَّمَا هُوَ فِي النُّهُوضِ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ.
وَالْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ إِتْمَامِ التَّكْبِيرِ فِي الرُّكُوعِ.
145 - بَاب سُنَّةِ الْجُلُوسِ فِي التَّشَهُّدِ
وَكَانَتْ أُمُّ الدَّرْدَاءِ تَجْلِسُ فِي صَلَاتِهَا جِلْسَةَ الرَّجُلِ وَكَانَتْ فَقِيهَةً
827 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ كَانَ يَرَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَتَرَبَّعُ فِي الصَّلَاةِ إِذَا جَلَسَ، فَفَعَلْتُهُ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ حَدِيثُ السِّنِّ، فَنَهَانِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَقَالَ: إِنَّمَا سُنَّةُ الصَّلَاةِ أَنْ تَنْصِبَ رِجْلَكَ الْيُمْنَى وَتَثْنِيَ الْيُسْرَى، فَقُلْتُ: إِنَّكَ تَفْعَلُ ذَلِكَ. فَقَالَ: إِنَّ رِجْلَيَّ لَا تَحْمِلَانِي.
828 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ خَالِدٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ وَحَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ وَيَزِيدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا مَعَ نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْنَا صَلَاةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ أَنَا كُنْتُ أَحْفَظَكُمْ لِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَيْتُهُ إِذَا كَبَّرَ جَعَلَ يَدَيْهِ حِذَاءَ مَنْكِبَيْهِ وَإِذَا رَكَعَ أَمْكَنَ يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ هَصَرَ ظَهْرَهُ فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ اسْتَوَى حَتَّى يَعُودَ كُلُّ فَقَارٍ مَكَانَهُ فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْهِ غَيْرَ مُفْتَرِشٍ وَلَا قَابِضِهِمَا وَاسْتَقْبَلَ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ الْقِبْلَةَ فَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَلَسَ عَلَى رِجْلِهِ الْيُسْرَى وَنَصَبَ الْيُمْنَى وَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ قَدَّمَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَنَصَبَ الأُخْرَى وَقَعَدَ عَلَى مَقْعَدَتِهِ وَسَمِعَ اللَّيْثُ يَزِيدَ بْنَ أَبِي حَبِيبٍ وَيَزِيدُ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَلْحَلَةَ وَابْنُ حَلْحَلَةَ مِنْ ابْنِ عَطَاءٍ قَالَ أَبُو صَالِحٍ عَنْ اللَّيْثِ كُلُّ فَقَارٍ وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ قَالَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَمْرٍو حَدَّثَهُ كُلُّ فَقَارٍ "
قَوْلُهُ: (بَابُ سُنَّةِ الْجُلُوسِ فِي التَّشَهُّدِ) أَيِ السُّنَّةُ فِي الْجُلُوسِ الْهَيْئَةُ الْآتِي ذِكْرُهَا، وَلَمْ يَرِدْ أَنَّ نَفْسَ الْجُلُوسِ سُنَّةٌ. وَيَحْتَمِلُ إِرَادَتَهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالسُّنَّةِ الطَّرِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي هِيَ أَهَمُّ مِنَ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ. وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: ضَمَّنَ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ سِتَّةَ أَحْكَامٍ، وَهِيَ أَنَّ هَيْئَةَ الْجُلُوسِ غَيْرُ مُطْلَقِ الْجُلُوسِ، وَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْجُلُوسِ لِلتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَالْأَخِيرِ وَبَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ سُنَّةٌ، وَأَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَأَنَّ ذَا الْعِلْمِ يُحْتَجُّ بِعَمَلِهِ اهـ.
وَهَذَا الْأَخِيرُ إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا ضُمَّ أَثَرُ أُمِّ الدَّرْدَاءِ إِلَى التَّرْجَمَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ، وَأَثَرُ أُمِّ الدَّرْدَاءِ الْمَذْكُورُ وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّارِيخِ الصَّغِيرِ مِنْ طَرِيقِ مَكْحُولٍ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُورِ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، لَكِنْ لَمْ يَقَعْ عِنْدَهُ قَوْلُ مَكْحُولٍ فِي آخِرِهِ وَكَانَتْ فَقِيهَةً، فَجَزَمَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْبُخَارِيِّ لَا مِنْ كَلَامِ مَكْحُولٍ، فَقَالَ مُغَلْطَايْ: الْقَائِلُ: وَكَانَتْ فَقِيهَةً هُوَ الْبُخَارِيُّ فِيمَا أَرَى. وَتَبِعَهُ شَيْخُنَا ابْنُ الْمُلَقِّنِ فَقَالَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ
قَوْلُ الْبُخَارِيِّ اهـ.
وَلَيْسَ كَمَا قَالَا، فَقَدْ رَوَيْنَاهُ تَامًّا فِي مُسْنَدِ الْفِرْيَابِيِّ أَيْضًا بِسَنَدِهِ إِلَى مَكْحُولٍ، وَمِنْ طَرِيقَةِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ الدَّلِيلَ إِذَا كَانَ عَامًّا وَعَمِلَ بِعُمُومِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ رُجِّحَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يُحْتَجَّ بِهِ بِمُجَرَّدِهِ، وَعُرِفَ مِنْ رِوَايَةِ مَكْحُولٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِأُمِّ الدَّرْدَاءِ الصُّغْرَى التَّابِعِيَّةُ لَا الْكُبْرَى الصَّحَابِيَّةُ؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ الصُّغْرَى وَلَمْ يُدْرِكِ الْكُبْرَى، وَعَمَلُ التَّابِعِيِّ بِمُفْرَدِهِ وَلَوْ لَمْ يُخَالِفْ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الْعَمَلِ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ كَذَلِكَ، وَلَمْ يُورِدِ الْبُخَارِيُّ أَثَرَ أُمِّ الدَّرْدَاءِ لِيَحْتَجَّ بِهِ بَلْ لِلتَّقْوِيَةِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ ابْنُ عُمَرَ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ سُمِّيَ بِاسْمِ أَبِيهِ وَكُنِّيَ بِكُنْيَتِهِ.
قَوْلُهُ: (أَنَّهُ أَخْبَرَهُ) صَرِيحٌ فِي أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ حَمَلَهُ عَنْهُ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الرُّوَاةُ عَنْ مَالِكٍ، فَأَدْخَلَ مَعْنُ بْنُ عِيسَى وَغَيْرُهُ عَنْهُ فِيهِ - بَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ وَالِدَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، بَيَّنَ ذَلِكَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَغَيْرُهُ، فَكَأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ سَمِعَهُ مِنْ أَبِيهِ عَنْهُ، ثُمَّ لَقِيَهُ أَوْ سَمِعَهُ مِنْهُ مَعَهُ وَثَبَّتَهُ فِيهِ أَبُوهُ.
قَوْلُهُ: (وَتَثْنِي الْيُسْرَى) لَمْ يُبَيِّنْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَا يَصْنَعُ بَعْدَ ثَنْيِهَا هَلْ يَجْلِسُ فَوْقَهَا أَوْ يَتَوَرَّكُ، وَوَقَعَ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ أَرَاهُمُ الْجُلُوسَ فِي التَّشَهُّدِ، فَنَصَبَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى وَثَنَى الْيُسْرَى وَجَلَسَ عَلَى وَرِكِهِ الْيُسْرَى وَلَمْ يَجْلِسْ عَلَى قَدَمِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَرَانِي هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَحَدَّثَنِي أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ. فَتَبَيَّنَ مِنْ رِوَايَةِ الْقَاسِمِ مَا أُجْمِلَ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ الْبُخَارِيُّ عَلَى رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لِتَصْرِيحِهِ فِيهَا بِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ السُّنَّةُ لِاقْتِضَاءِ ذَلِكَ الرَّفْعِ، بِخِلَافِ رِوَايَةِ الْقَاسِمِ، وَرَجَّحَ ذَلِكَ عِنْدَهُ حَدِيثُ أَبِي حُمَيْدٍ الْمُفَصَّلُ بَيْنَ الْجُلُوسِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، عَلَى أَنَّ الصِّفَةَ الْمَذْكُورَةَ قَدْ يُقَالُ إِنَّهَا لَا تُخَالِفُ حَدِيثَ أَبِي حُمَيْدٍ لِأَنَّ فِي الْمُوَطَّأِ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ التَّصْرِيحَ بِأَنَّ جُلُوسَ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورَ كَانَ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ الْقَاسِمَ حَدَّثَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: مِنْ سُنَّةِ الصَّلَاةِ أَنْ يَنْصِبَ الْيُمْنَى وَيَجْلِسَ عَلَى الْيُسْرَى. فَإِذَا حُمِلَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ عَلَى التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَرِوَايَةُ مَالِكٍ عَلَى التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ؛ انْتَفَى عَنْهُمَا التَّعَارُضُ وَوَافَقَ ذَلِكَ التَّفْصِيلَ الْمَذْكُورَ فِي حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ إِنَّكَ تَفْعَلُ ذَلِكَ) أَيِ التَّرَبُّعُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: اخْتَلَفُوا فِي التَّرَبُّعِ فِي النَّافِلَةِ وَفِي الْفَرِيضَةِ لِلْمَرِيضِ، وَأَمَّا الصَّحِيحُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّرَبُّعُ فِي الْفَرِيضَةِ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ، كَذَا قَالَ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَأَنْ أَقْعُدَ عَلَى رَضَفَتَيْنِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْعُدَ مُتَرَبِّعًا فِي الصَّلَاةِ. وَهَذَا يُشْعِرُ بِتَحْرِيمِهِ عِنْدَهُ، وَلَكِنَّ الْمَشْهُورَ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَيْئَةَ الْجُلُوسِ فِي التَّشَهُّدِ سُنَّةٌ، فَلَعَلَّ ابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ أَرَادَ بِنَفْيِ الْجَوَازِ إِثْبَاتَ الْكَرَاهَةِ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ رِجْلِي) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةٍ حَكَاهَا ابْنُ التِّينِ أن رِجْلَايَ، وَوَجَّهَهَا عَلَى أَنَّ إِنَّ بِمَعْنَى نَعَمْ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ، فَقَالَ: رِجْلَايَ لَا تَحْمِلَانِي أَوْ عَلَى اللُّغَةِ الْمَشْهُورَةِ لُغَةِ بَنِي الْحَارِثِ، وَلَهَا وَجْهٌ آخَرُ لَمْ يَذْكُرْهُ، وَقَدْ ذَكَرْتُ الْأَوْجُهَ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ:{إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ}
قَوْلُهُ: (لَا تَحْمِلَانِّي) بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَيَجُوزُ التَّخْفِيفُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ خَالِدٍ) هُوَ ابْنُ يَزِيدَ الْجُمَحِيُّ الْمِصْرِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَقْرَانِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ شَيْخِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ) قَائِلُ ذَلِكَ هُوَ يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ الْمَذْكُورُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ بَيْنَ اللَّيْثِ وَبَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى اثْنَيْنِ، وَبَيْنَهُمَا فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ وَاسِطَةٌ وَاحِدَةٌ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ مِصْرِيٌّ مَعْرُوفٌ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ، وَيَزِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ رَفِيقُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ بَنِي قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ بْنِ الْمُطَّلِبِ مَدَنِيٌّ سَكَنَ مِصْرَ، وَكُلُّ مَنْ فَوْقَهُمْ مَدَنِيٌّ أَيْضًا، فَالْإِسْنَادُ دَائِرٌ بَيْنَ مَدَنِيٍّ وَمِصْرِيٍّ. وَأَرْدَفَ الرِّوَايَةَ النَّازِلَةَ بِالرِّوَايَةِ الْعَالِيَةِ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَرُبَّمَا وَقَعَ لَهَا ضِدُّ ذَلِكَ لِمَعْنًى مُنَاسِبٍ.
قَوْلُهُ: (أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا فِي نَفَرٍ مِنْ
أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ مَعَ نَفَرٍ، وَكَذَا اخْتُلِفَ عَلَى عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، فَفِي رِوَايَةِ عَاصِمٍ عَنْهُ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ: سَمِعْتُ أَبَا حُمَيْدٍ فِي عَشَرَةٍ، وَفِي رِوَايَةِ هُشَيْمٍ عَنْهُ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ: رَأَيْتُ أَبَا حُمَيْدٍ مَعَ عَشَرَةٍ، وَلَفْظُ مَعَ يُرَجِّحُ أَحَدَ الِاحْتِمَالَيْنِ فِي لَفْظِ فِي لِأَنَّهَا مُحْتَمِلَةٌ لِأَنْ يَكُونَ أَبُو حُمَيْدٍ مِنَ الْعَشَرَةِ أَوْ زَائِدًا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ إِنَّ رِوَايَةَ اللَّيْثِ ظَاهِرَةٌ فِي اتِّصَالِهِ بَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، وَأَبِي حُمَيْدٍ، وَرِوَايَةُ عَبْدِ الْحَمِيدِ صَرِيحَةٌ فِي ذَلِكَ. وَزَعَمَ ابْنُ الْقَطَّانِ تَبَعًا لِلطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ غَيْرُ مُتَّصِلٍ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ عِيسَى بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ رَوَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ؛ فَأَدْخَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّحَابَةِ عَبَّاسَ بْنَ سَهْلٍ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ، ثَانِيهُمَا أَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ تَسْمِيَةَ أَبِي قَتَادَةَ فِي الصَّحَابَةِ الْمَذْكُورِينَ، وَأَبُو قَتَادَةَ قَدِيمُ الْمَوْتِ يَصْغُرُ سِنَّ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ عَنْ إِدْرَاكِهِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا يَضُرُّ الثِّقَةُ الْمُصَرَّحُ بِسَمَاعِهِ أَنْ يَدْخُلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَيْخِهِ وَاسِطَةٌ، إِمَّا لِزِيَادَةٍ فِي الْحَدِيثِ، وَإِمَّا لِيَثْبُتَ فِيهِ، وَقَدْ صَرَّحَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو الْمَذْكُورُ بِسَمَاعِهِ فَتَكُونُ رِوَايَةُ عِيسَى عَنْهُ مِنَ الْمَزِيدِ فِي مُتَّصِلِ الْأَسَانِيدِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَالْمُعْتَمَدُ فِيهِ قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ التَّارِيخِ إِنَّ أَبَا قَتَادَةَ مَاتَ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ وَصَلَّى عَلَيْهِ عَلِيٌّ، وَكَانَ قَتْلُ عَلِيٍّ سَنَةَ أَرْبَعِينَ وَأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ مَاتَ بَعْدَ سَنَةِ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ وَلَهُ نَيِّفٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً؛ فَعَلَى هَذَا لَمْ يُدْرِكْ أَبَا قَتَادَةَ، وَالْجَوَابُ أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ اخْتُلِفَ فِي وَقْتِ مَوْتِهِ، فَقِيلَ: مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ، وَعَلَى هَذَا فَلِقَاءُ مُحَمَّدٍ لَهُ مُمْكِنٌ، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَلَعَلَّ مَنْ ذَكَرَ مِقْدَارَ عُمْرِهِ أَوْ وَقْتَ وَفَاتِهِ وَهِمَ، أَوِ الَّذِي سَمَّى أَبَا قَتَادَةَ فِي الصَّحَابَةِ الْمَذْكُورِينَ وَهِمَ فِي تَسْمِيَتِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ غَلَطًا لِأَنَّ غَيْرَهُ مِمَّنْ رَوَاهُ مَعَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ أَوْ عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ قَدْ وَافَقَهُ.
(فَائِدَةٌ): سُمِّيَ مِنَ النَّفَرِ الْمَذْكُورِينَ فِي رِوَايَةِ فُلَيْحٍ، عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ مَعَ أَبِي حُمَيْدٍ، أَبُو الْعَبَّاسِ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ، وَأَبُو أُسَيْدٍ السَّاعِدِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ أَخْرَجَهَا أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، وَسُمِّيَ مِنْهُمْ فِي رِوَايَةِ عِيسَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورُونَ سِوَى مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ؛ فَذُكِرَ بَدَلَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ. أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ، وَسُمِّيَ مِنْهُمْ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبَّاسٍ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، أَبُو قَتَادَةَ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا عَشَرَةً كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَةِ الْبَاقِينَ.
وَقَدِ اشْتَمَلَ حَدِيثُ أَبِي حُمَيْدٍ هَذَا عَلَى جُمْلَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ صِفَةِ الصَّلَاةِ، وَسَأُبَيِّنُ مَا فِي رِوَايَةِ غَيْرِ اللَّيْثِ مِنَ الزِّيَادَةِ نَاسِبًا كُلَّ زِيَادَةٍ إِلَى مُخَرِّجِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ أَشَرْتُ قَبْلُ إِلَى مَخَارِجِ الْحَدِيثِ، لَكِنَّ سِيَاقَ اللَّيْثِ فِيهِ حِكَايَةُ أَبِي حُمَيْدٍ لِصِفَةِ الصَّلَاةِ بِالْقَوْلِ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ كُلِّ مَنْ رَوَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ، وَنَحْوُهُ رِوَايَةُ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، وَوَافَقَهُمَا فُلَيْحٌ، عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ، وَخَالَفَ الْجَمِيعَ عِيسَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ عَبَّاسٍ؛ فَحَكَى أَنَّ أَبَا حُمَيْدٍ وَصَفَهَا بِالْفِعْلِ وَلَفْظُهُ عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ، وَابْنِ حِبَّانَ: قَالُوا: فَأَرِنَا، فَقَامَ يُصَلِّي وَهُمْ يَنْظُرُونَ، فَبَدَأَ فَكَبَّرَ. الْحَدِيثَ. وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنْ يَكُونَ وَصَفَهَا مَرَّةً بِالْقَوْلِ وَمَرَّةً بِالْفِعْلِ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا جَمَعْنَا بِهِ أَوَّلًا، فَإِنَّ عِيسَى الْمَذْكُورَ هُوَ الَّذِي زَادَ عَبَّاسُ بْنُ سَهْلٍ بَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، وَأَبِي حُمَيْدٍ، فَكَأَنَّ مُحَمَّدًا شَهِدَ هُوَ وَعَبَّاسٌ حِكَايَةَ أَبِي حُمَيْدٍ بِالْقَوْلِ؛ فَحَمَلَهَا عَنْهُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَكَأَنَّ عَبَّاسًا شَهِدَهَا وَحْدَهُ بِالْفِعْلِ فَسَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَطَاءٍ فَحَدَّثَ بِهَا كَذَلِكَ، وَقَدْ وَافَقَ عِيسَى أَيْضًا عَنْهُ عَطَّافُ بْنُ خَالِدٍ لَكِنَّهُ أَبْهَمَ عَبَّاسَ بْنَ سَهْلٍ. أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ أَيْضًا، وَيُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّ ابْنَ خُزَيْمَةَ أَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ عَبَّاسَ بْنَ سَهْلٍ حَدَّثَهُ. . فَسَاقَ الْحَدِيثَ بِصِفَةِ الْفِعْلِ أَيْضًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (أَنَا كُنْتُ أَحْفَظَكُمْ)، زَادَ
عَبْدُ الْحَمِيدِ: قَالُوا: فَلِمَ؟ فَوَاللَّهِ مَا كُنْتَ بِأَكْثَرِنَا لَهُ اتِّبَاعًا - وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ إِتْيَانًا - وَلَا أَقْدَمَنَا لَهُ صُحْبَةً، وَفِي رِوَايَةِ عِيسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: قَالُوا: فَكَيْفَ؟ قَالَ: اتَّبَعْتُ ذَلِكَ مِنْهُ حَتَّى حَفِظْتُهُ. زَادَ عَبْدُ الْحَمِيدِ: قَالُوا: فَأَعْرَضَ. وَفِي رِوَايَتِهِ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ: اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، وَزَادَ فُلَيْحٌ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ فِيهِ ذِكْرُ الْوُضُوءِ.
قَوْلُهُ: (جَعَلَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ)، زَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ قَرَأَ بَعْضَ الْقُرْآنِ. وَنَحْوُهُ لِعَبْدِ الْحَمِيدِ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ هَصَرَ ظَهْرَهُ) بِالْهَاءِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ الْمَفْتُوحَتَيْنِ، أَيْ ثَنَاهُ فِي اسْتِوَاءٍ مِنْ غَيْرِ تَقْوِيسٍ ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ، وَفِي رِوَايَةِ عِيسَى: غَيْرَ مُقْنِعٍ رَأْسَهُ وَلَا مُصَوِّبَهُ. وَنَحْوُهُ لِعَبْدِ الْحَمِيدِ، وَفِي رِوَايَةِ فُلَيْحٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ: فَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ كَأنَهُ قَابِضٌ عَلَيْهِمَا، وَوَتَّرَ يَدَيْهِ فَتَجَافَى عَنْ جَنْبَيْهِ، وَلَهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ: وَفَرَّجَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ.
قَوْلُهُ: (فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ اسْتَوَى) زَادَ عِيسَى عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ: فَقَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ. وَنَحْوُهُ لِعَبْدِ الْحَمِيدِ، وَزَادَ: حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ مُعْتَدِلًا.
قَوْلُهُ: (حَتَّى يَعُودَ كُلُّ فَقَارٍ) الْفَقَارُ: بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالْقَافِ جَمْعُ فَقَارَةٍ وَهِيَ عِظَامُ الظَّهْرِ، وَهِيَ الْعِظَامُ الَّتِي يُقَالُ لَهَا خَرَزُ الظَّهْرِ قَالَهُ الْقَزَّازُ. وَقَالَ ابْنُ سِيدَهْ: هِيَ مِنَ الْكَاهِلِ إِلَى الْعَجْبِ، وَحَكَى ثَعْلَبٌ عَنْ نَوَادِرِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّ عِدَّتَهَا سَبْعَةَ عَشَرَ. وَفِي أَمَالِي الزَّجَّاجِ: أُصُولُهَا سَبْعٌ غَيْرُ التَّوَابِعِ. وَعَنِ الْأَصْمَعِيِّ: هِيَ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ، سَبْعٌ فِي الْعُنُقِ وَخَمْسٌ فِي الصُّلْبِ وَبَقِيَّتُهَا فِي أَطْرَافِ الْأَضْلَاعِ، وَحَكَى فِي الْمَطَالِعِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَلِابْنِ السَّكَنِ بِكَسْرِهَا، وَالصَّوَابُ بِفَتْحِهَا، وَسَيَأْتِي مَا فِيهِ فِي آخِرَ الْحَدِيثِ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ كَمَالُ الِاعْتِدَالِ. وَفِي رِوَايَةِ هُشَيْمٍ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ: ثُمَّ يَمْكُثُ قَائِمًا حَتَّى يَقَعَ كُلُّ عَظْمٍ مَوْقِعَهُ.
قَوْلُهُ: (فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْهِ غَيْرَ مُفْتَرِشٍ) أَيْ لَهُمَا، وَلِابْنِ حِبَّانَ مِنْ رِوَايَةِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ، عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ: غَيْرَ مُفْتَرِشٍ ذِرَاعَيْهِ.
قَوْلُهُ: (وَلَا قَابِضَهُمَا) أَيْ بِأَنْ يَضُمَّهُمَا إِلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةِ عِيسَى: فَإِذَا سَجَدَ فَرَّجَ بَيْنَ فَخِذَيْهِ غَيْرَ حَامِلٍ بَطْنَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُمَا. وَفِي رِوَايَةِ عُتْبَةَ الْمَذْكُورَةِ: وَلَا حَامِلٍ بَطْنَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَخِذَيْهِ. وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْحَمِيدِ: جَافَى يَدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ. وَفِي رِوَايَةِ فُلَيْحٍ: وَنَحَّى يَدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ، وَوَضَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ: فَاعْلَوْلَى عَلَى جَنْبَيْهِ وَرَاحَتَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَصُدُورِ قَدَمَيْهِ، حَتَّى رَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ مَا تَحْتَ مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ ثَبَتَ حَتَّى اطْمَأَنَّ كُلُّ عَظْمٍ مِنْهُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَاعْتَدَلَ. وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْحَمِيدِ: ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ. وَيَرْفَعُ رَأْسَهُ وَيُثْنِي رِجْلَهُ الْيُسْرَى، فَيَقْعُدُ عَلَيْهَا حَتَّى يَرْجِعَ كُلُّ عَظْمٍ إِلَى مَوْضِعِهِ. وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ عِيسَى بِلَفْظِ: ثُمَّ كَبَّرَ فَجَلَسَ فَتَوَرَّكَ، وَنَصَبَ قَدَمَهُ الْأُخْرَى ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ. وَهَذَا يُخَالِفُ رِوَايَةَ عَبْدِ الْحَمِيدِ فِي صِفَةِ الْجُلُوسِ، وَيُقَوِّي رِوَايَةَ عَبْدِ الْحَمِيدِ وَرِوَايَةَ فُلَيْحٍ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ بِلَفْظِ: كَانَ إِذَا جَلَسَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ افْتَرَشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَأَقْبَلَ بِصَدْرِ الْيُمْنَى عَلَى قِبْلَتِهِ. أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا هَكَذَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ لَهُ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ خِلَافُ الرِّوَايَتَيْنِ، وَلَفْظُهُ: فَاعْتَدَلَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَصُدُورِ قَدَمَيْهِ. فَإِنْ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى التَّعَدُّدِ، وَإِلَّا فَرِوَايَةُ عَبْدِ الْحَمِيدِ أَرْجَحُ.
قَوْلُهُ: (فَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ) أَيِ الْأُولَيَيْنِ لِيَتَشَهَّدَ، وَفِي رِوَايَةِ فُلَيْحٍ: ثُمَّ جَلَسَ فَافْتَرَشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَأَقْبَلَ بِصَدْرِ الْيُمْنَى عَلَى قِبْلَتِهِ، وَوَضَعَ كَفَّهُ اليمنى عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُمْنَى، وَكَفَّهُ الْيُسْرَى عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُسْرَى، وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ. وَفِي رِوَايَةِ عِيسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: ثُمَّ جَلَسَ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ، حَتَّى إِذَا هُوَ أَرَادَ أَنْ يَنْهَضَ إِلَى الْقِيَامِ قَامَ بِتَكْبِيرَةٍ. وَهَذَا يُخَالِفُ فِي الظَّاهِرِ رِوَايَةَ عَبْدِ الْحَمِيدِ؛ حَيْثُ قَالَ: إِذَا قَامَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ كَمَا كَبَّرَ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ. وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ التَّشْبِيهَ وَاقِعٌ عَلَى صِفَةِ التَّكْبِيرِ لَا عَلَى مَحَلِّهِ، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِذَا قَامَ أَيْ: أَرَادَ الْقِيَامَ أَوْ شَرَعَ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (وَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ إِلَخْ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْحَمِيدِ: حَتَّى إِذَا كَانَتِ السَّجْدَةُ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا
التَّسْلِيمُ. وَفِي رِوَايَتِهِ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ: الَّتِي تَكُونُ خَاتِمَةَ الصَّلَاةِ، أَخْرَجَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَقَعَدَ مُتَوَرِّكًا عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ. زَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي رِوَايَتِهِ: ثُمَّ سَلَّمَ. وَفِي رِوَايَةِ عِيسَى عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ: فَلَمَّا سَلَّمَ سَلَّمَ عَنْ يَمِينِهِ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، وَعَنْ شِمَالِهِ كَذَلِكَ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي عَاصِمٍ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ: قَالُوا - أَيِ الصَّحَابَةُ الْمَذْكُورُونَ - صَدَقْتَ، هَكَذَا كَانَ يُصَلِّي. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ حُجَّةٌ قَوِيَّةٌ لِلشَّافِعِيِّ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ فِي أَنَّ هَيْئَةَ الْجُلُوسِ فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ مُغَايِرَةٌ لِهَيْئَةِ الْجُلُوسِ فِي الْأَخِيرِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ؛ فَقَالُوا: يُسَوِّي بَيْنَهُمَا، لَكِنْ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَتَوَرَّكُ فِيهِمَا كَمَا جَاءَ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ، وَعَكَسَهُ الْآخَرُونَ.
وَقَدْ قِيلَ فِي حِكْمَةِ الْمُغَايَرَةِ بَيْنَهُمَا أنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى عَدَمِ اشْتِبَاهِ عَدَدِ الرَّكَعَاتِ، وَلِأَنَّ الْأَوَّلَ تَعْقُبُهُ حَرَكَةٌ بِخِلَافِ الثَّانِي، وَلِأَنَّ الْمَسْبُوقَ إِذَا رَآهُ عَلِمَ قَدْرَ مَا سُبِقَ بِهِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ تَشَهُّدَ الصُّبْحِ كَالتَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ مِنْ غَيْرِهِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ، وَاخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ أَحْمَدَ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ اخْتِصَاصُ التَّوَرُّكِ بِالصَّلَاةِ الَّتِي فِيهَا تَشَهُّدَانِ. وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ أَيْضًا جَوَازُ وَصْفِ الرَّجُلِ نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ أَعْلَمَ مِنْ غَيْرِهِ إِذَا أَمِنَ الْإِعْجَابَ وَأَرَادَ تَأْكِيدَ ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ سَمِعَهُ؛ لِمَا فِي التَّعْلِيمِ وَالْأَخْذِ عَنِ الْأَعْلَمِ مِنَ الْفَضْلِ. وَفِيهِ أَنَّ كَانَ تُسْتَعْمَلُ فِيمَا مَضَى وَفِيمَا يَأْتِي لِقَوْلِ أَبِي حُمَيْدٍ: كُنْتُ أَحْفَظَكُمْ. وَأَرَادَ اسْتِمْرَارَهُ عَلَى ذَلِكَ أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ التِّينِ. وَفِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَخْفَى عَلَى الْكَثِيرِ مِنَ الصَّحَابَةِ بَعْضُ الْأَحْكَامِ الْمُتَلَقَّاةِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَرُبَّمَا تَذَكَّرَهُ بَعْضُهُمْ إِذَا ذُكِرَ. وَفِي الطُّرُقِ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَى زِيَادَتِهَا جُمْلَةٌ مِنْ صِفَةِ الصَّلَاةِ ظَاهِرَةٌ لِمَنْ تَدَبَّرَ ذَلِكَ وَتَفَهَّمَهُ.
قَوْلُهُ: (وَسَمِعَ اللَّيْثُ إِلَخْ) إِعْلَامٌ مِنْهُ بِأَنَّ الْعَنْعَنَةَ الْوَاقِعَةَ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ بِمَنْزِلَةِ السَّمَاعِ، وَهُوَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ، وَوَهِمَ مَنْ جَزَمَ بِأَنَّهُ كَلَامُ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِتَحْدِيثِ ابْنِ حَلْحَلَةَ، لِيَزِيدَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ كَمَا سَيَأْتِي.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ، عَنِ اللَّيْثِ) يَعْنِي بِإِسْنَادِهِ الثَّانِي عَنِ الْيَزِيدَيْنِ، كَذَلِكَ وَصَلَهُ الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ مُطَّلِبِ بْنِ شُعَيْبٍ، وَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ طَرِيقِ قَاسِمِ بْنِ أَصْبَغَ؛ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ كَاتِبِ اللَّيْثِ، وَوَهِمَ مَنْ جَزَمَ بِأَنَّ أَبَا صَالِحٍ هُنَا هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْغَفَّارِ الْحَرَّانِيُّ.
قَوْلُهُ: (كُلُّ قَفَارٍ) ضُبِطَ فِي رِوَايَتِنَا بِتَقْدِيمِ الْقَافِ عَلَى الْفَاءِ، وَكَذَا لِلْأَصِيلِيِّ، وَعِنْدَ الْبَاقِينَ بِتَقْدِيمِ الْفَاءِ كَرِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، لَكِنْ ذَكَرَ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ أَنَّهُمْ كَسَرُوا الْفَاءَ، وَجَزَمَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ بِأَنَّ تَقْدِيمَ الْقَافِ تَصْحِيفٌ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: لَمْ يَتَبَيَّنْ لِي وَجْهُهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ إِلَخْ) وَصَلَهُ الْجَوْزَقِيُّ فِي جَمْعِهِ، وَإِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي غَرِيبِهِ، وَجَعْفَرٌ الْفِرْيَابِيُّ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَوَقَعَ عِنْدَهُمْ بِلَفْظِ: حَتَّى يَعُودَ كُلُّ فَقَارٍ مَكَانَهُ. وَهِيَ نَحْوُ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَحْدَهُ: كُلُّ فَقَارِهِ. وَاخْتُلِفَ فِي ضَبْطِهِ؛ فَقِيلَ: بِهَاءِ الضَّمِيرِ، وَقِيلَ: بِهَاءِ التَّأْنِيثِ أَيْ حَتَّى تَعُودَ كُلُّ عَظْمَةٍ مِنْ عِظَامِ الظَّهْرِ مَكَانَهَا، وَالْأَوَّلُ مَعْنَاهُ حَتَّى يَعُودَ جَمِيعُ عِظَامِ ظَهْرِهِ. وَأَمَّا رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ فَفِيهَا إِشْكَالٌ، وَكَأَنَّهُ ذَكَرَ الضَّمِيرَ لِأَنَّهُ أَعَادَهُ عَلَى لَفْظِ الْفَقَارِ، وَالْمَعْنَى حَتَّى يَعُودَ كُلُّ عِظَامٍ مَكَانَهَا، أَوِ اسْتَعْمَلَ الْفَقَارَ لِلْوَاحِدِ تَجَوُّزًا.
146 - بَاب مَنْ لَمْ يَرَ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ وَاجِبًا
لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَامَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ وَلَمْ يَرْجِعْ
829 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هُرْمُزَ مَوْلَى بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَقَالَ مَرَّةً: مَوْلَى رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بُحَيْنَةَ، وَهُوَ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ، وَهُوَ حَلِيفٌ لِبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهِمْ الظَّهْرَ؛ فَقَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ لَمْ
يَجْلِسْ؛ فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، حَتَّى إِذَا قَضَى الصَّلَاةَ وَانْتَظَرَ النَّاسُ تَسْلِيمَهُ كَبَّرَ وَهُوَ جَالِسٌ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ ثُمَّ سَلَّمَ.
[الحديث 829 - أطرافه في: 7381، 6328، 6265، 6230، 1202، 835]
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ لَمْ يَرَ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ وَاجِبًا لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَامَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ وَلَمْ يَرْجِعْ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: ذَكَرَ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ الْحُكْمَ وَدَلِيلَهُ، وَلَمْ يَثْبُتِ الْحُكْمُ مَعَ ذَلِكَ، كَأَنْ يَقُولَ: بَابُ لَا يَجِبُ التَّشَهُّدُ الْأَوَّلُ، وَسَبَبُهُ مَا يَطْرُقُ الدَّلِيلَ الْمَذْكُورَ مِنَ الِاحْتِمَالِ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى مُعَارَضَتِهِ فِي التَّرْجَمَةِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ حَيْثُ أَوْرَدَهَا بِنَظِيرِ مَا أَوْرَدَ بِهِ التَّرْجَمَةَ الَّتِي بَعْدَهَا، وَفِي لَفْظِ حَدِيثِ الْبَابِ فِيهَا مَا يُشْعِرُ بِالْوُجُوبِ؛ حَيْثُ قَالَ: وَعَلَيْهِ جُلُوسٌ وَهُوَ مُحْتَمَلٌ أَيْضًا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ التَّشَهُّدِ، وَوَرَدَ الْأَمْرُ بِالتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ أَيْضًا. وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَرَجَعَ إِلَيْهِ لَمَّا سَبَّحُوا بِهِ بَعْدَ أَنْ قَامَ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ الْبَابِ فِي أَبْوَابِ سُجُودِ السَّهْوِ، وَيُعْرَفُ مِنْهُ أَنَّ قَوْلَ نَاصِرِ الدِّينِ بْنِ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَسَبَّحُوا بِهِ وَلَمْ يُسَارِعُوا إِلَى الْمُوَافَقَةِ عَلَى التَّرْكِ، غَفْلَةٌ عَنِ الرِّوَايَةِ الْمَنْصُوصِ فِيهَا عَلَى أَنَّهُمْ سَبَّحُوا بِهِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ لَا يَنُوبُ عَنِ الْوَاجِبِ أَنَّهُ لَوْ نَسِيَ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ لَمْ تُجْبَرْ فَكَذَلِكَ التَّشَهُّدُ، وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ لَا يُجْهَرُ بِهِ بِحَالٍ فَلَمْ يَجِبْ كَدُعَاءِ الِافْتِتَاحِ، وَاحْتَجَّ غَيْرُهُ بِتَقْرِيرِهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ عَلَى مُتَابَعَتِهِ بَعْدَ أَنْ عَلِمَ أَنَّهُمْ تَعَمَّدُوا تَرْكَهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ.
وَمِمَّنْ قَالَ بِوُجُوبِهِ اللَّيْثُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَحْمَدُ فِي الْمَشْهُورِ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ، وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَاحْتَجَّ الطَّبَرِيُّ لِوُجُوبِهِ بِأَنَّ الصَّلَاةَ فُرِضَتْ أَوَّلًا رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ التَّشَهُّدُ فِيهَا وَاجِبًا، فَلَمَّا زِيدَتْ لَمْ تَكُنِ الزِّيَادَةُ مُزِيلَةً لِذَلِكَ الْوَاجِبِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَمْ تَتَعَيَّنْ فِي الْأَخِيرَتَيْنِ بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَا هُمَا الْفَرْضَ الْأَوَّلَ وَالْمَزِيدُ هُمَا الرَّكْعَتَانِ الْأُولَتانِ بِتَشَهُّدِهِمَا، وَيُؤَيِّدُهُ اسْتِمْرَارُ السَّلَامِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ كَمَا كَانَ، وَاحْتُجَّ أَيْضًا بِأَنَّ مَنْ تَعَمَّدْ تَرْكَ الْجُلُوسِ الْأَوَّلِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَهَذَا لَا يَرِدُ لِأَنَّ مَنْ لَا يُوجِبُهُ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ بِتَرْكِهِ.
قَوْلُهُ: (التَّشَهُّدَ) هُوَ تَفَعُّلٌ مِنْ تَشَهَّدَ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى النُّطْقِ بِشَهَادَةِ الْحَقِّ تَغْلِيبًا لَهَا عَلَى بَقِيَّةِ أَذْكَارِهِ لِشَرَفِهَا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هُرْمُزَ) هُوَ الْأَعْرَجُ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ الَّذِي بَعْدَهُ.
قَوْلُهُ: (مَوْلَى بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَقَالَ مَرَّةً) أَيِ الزُّهْرِيُّ (مَوْلَى رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ)، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ مَوْلَى رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَذَكَرَهُ أَوَّلًا بِجَدِّ مَوَالِيهِ الْأَعْلَى وَثَانِيًا بِمَوْلَاهُ الْحَقِيقِيِّ.
قَوْلُهُ: (أَزْدِ شَنُوءَةَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الزَّايِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ ثُمَّ مُعْجَمَةٌ مَفْتُوحَةٌ، ثُمَّ نُونٌ مَضْمُومَةٌ وَهَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ؛ وَزْنَ فَعُولَةٍ قَبِيلَةٌ مَشْهُورَةٌ.
قَوْلُهُ: (حَلِيفٌ لِبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ) صَوَابٌ؛ لِأَنَّ جَدَّهُ حَالَفَ الْمُطَّلِبَ بْنَ عَبْدِ مَنَافٍ، قَالَهُ ابْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُ، وَسَيَأْتِي مَا فِيهِ فِي أَبْوَابِ سُجُودِ السَّهْوِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (فَقَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ لَمْ يَجْلِسْ) أَيْ لِلتَّشَهُّدِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَسَاكِرَ: وَلَمْ يَجْلِسْ بِزِيَادَةِ وَاوٍ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: فَلَمْ يَجْلِسْ بِالْفَاءِ، وَسَيَأْتِي فِي السَّهْوِ كَذَلِكَ، قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: إِذَا أُطْلِقَ فِي الْأَحَادِيثِ الْجُلُوسُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ؛ فَالْمُرَادُ بِهِ جُلُوسُ التَّشَهُّدِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ مُنَاسَبَةِ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ.
147 - بَاب التَّشَهُّدِ فِي الْأُولَى
830 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَكْرٌ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ
بْنِ بُحَيْنَةَ، قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ؛ فَقَامَ وَعَلَيْهِ جُلُوسٌ، فَلَمَّا كَانَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ.
قَوْلُهُ (بَابُ التَّشَهُّدِ فِي الْأُولَى) أَيِ الْجِلْسَةُ الْأُولَى مِنْ ثُلَاثِيَّةٍ أَوْ رُبَاعِيَّةٍ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا أَنَّ الْأُولَى لِبَيَانِ عَدَمِ وُجُوبِ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، وَالثَّانِيَةَ لِبَيَانِ مَشْرُوعِيَّتِهِ؛ أَيْ وَالْمَشْرُوعِيَّةُ أَعَمُّ مِنَ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ.
قَوْلُهُ: (بَكْرٌ) هُوَ ابْنُ مُضَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَالِكِ بْنِ بُحَيْنَةَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ بُحَيْنَةَ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَبُحَيْنَةُ وَالِدَةُ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى الْمَشْهُورِ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ تُثْبَتَ الْأَلِفُ فِي ابْنِ بُحَيْنَةَ إِذَا ذُكِرَ مَالِكٌ، وَيُعْرَبُ إِعْرَابَ عَبْدِ اللَّهِ.
(فَائِدَةٌ): لَا خِلَافَ فِي أَنَّ أَلْفَاظَ التَّشَهُّدِ فِي الْأُولَى كَالَّتِي فِي الْأَخِيرَةِ، إِلَّا مَا رَوَى الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَالِمٍ، قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يُسَلِّمُ فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، كَانَ يَرَى ذَلِكَ نَسْخًا لِصَلَاتِهِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَأَمَّا أَنَا فَأُسَلِّمُ، يَعْنِي قَوْلَهُ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ - إِلَى - الصَّالِحِينَ. هَكَذَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ.
148 - بَاب التَّشَهُّدِ فِي الْآخِرَةِ
831 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قُلْنَا: السَّلَامُ عَلَى جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ. فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ؛ فَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ؛ فَإِنَّكُمْ إِذَا قُلْتُمُوهَا أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
[الحديث 831 - أطرافه في: 7381، 6328، 6265، 6230، 1202، 835]
قَوْلُه: (بَابُ التَّشَهُّدِ فِي الْآخِرَةِ) أَيِ الْجِلْسَةِ الْآخِرَةِ، قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: لَيْسَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ تَعْيِينُ مَحَلِّ الْقَوْلِ، لَكِنْ يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ؛ فَإِنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: إِذَا صَلَّى أَيْ أَتَمَّ صَلَاتَهُ، لَكِنْ تَعَذَّرَ الْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ التَّشَهُّدَ لَا يَكُونُ بَعْدَ السَّلَامِ، فَلَمَّا تَعَيَّنَ الْمَجَازُ كَانَ حَمْلُهُ عَلَى آخِرِ جُزْءٍ مِنَ الصَّلَاةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَقْرَبُ إِلَى الْحَقِيقَةِ. قُلْتُ: وَهَذَا التَّقْرِيرُ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ فِي أَنَّ السَّلَامَ جُزْءٌ مِنَ الصَّلَاةِ، لَا أَنَّهُ لِلتَّحَلُّلِ مِنْهَا فَقَطْ، وَالْأَشْبَهُ بِتَصَرُّفِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ مِنْ تَعْيِينِ مَحَلِّ الْقَوْلِ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا.
قَوْلُهُ: (عَنْ شَقِيقٍ) فِي رِوَايَةِ يَحْيَى الْآتِيَةِ بَعْدَ بَابٍ عَنِ الْأَعْمَشِ، حَدَّثَنِي شَقِيقٌ.
قَوْلُهُ: (كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا) فِي رِوَايَةِ يَحْيَى الْمَذْكُورَةِ: كُنَّا إِذَا كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّلَاةِ، وَلِأَبِي دَاوُدَ، عَنْ مُسَدَّدٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ: إِذَا جَلَسْنَا، وَمِثْلُهُ لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ خَلَّادٍ، عَنْ يَحْيَى، وَلَهُ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، وَلِابْنِ إِسْحَاقَ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ كِلَاهُمَا عَنِ الْأَعْمَشِ نَحْوُهُ.
قَوْلُهُ: (قُلْنَا: السَّلَامُ عَلَى جِبْرِيلَ) وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ اخْتِصَارٌ ثَبَتَ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى الْمَذْكُورَةِ، وَهُوَ: قُلْنَا: السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ مِنْ عِبَادِهِ. كَذَا وَقَعَ لِلْمُصَنِّفِ فِيهَا، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ مُسَدَّدٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ، فِيهِ: فَقَالَ: قَبْلَ عِبَادِهِ، وَكَذَا لِلْمُصَنِّفِ فِي الِاسْتِئْذَانِ مِنْ طَرِيقِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ؛ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ،
وَبِهَذِهِ الزِّيَادَةِ يَتَبَيَّنُ مَوْقِعُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ. وَلَفْظُهُ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى الْمَذْكُورَةِ: لَا تَقُولُوا: السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ.
قَوْلُهُ: (السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ يَعْنُونَ الْمَلَائِكَةَ، وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ: فَنَعُدُّ الْمَلَائِكَةَ، وَمِثْلُهُ لِلسَّرَّاجِ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِلَفْظِ: فَنَعُدُّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَا شَاءَ اللَّهُ.
قَوْلُهُ: (فَالْتَفَتَ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ كَلَّمَهُمْ بِذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ وَهُوَ شَقِيقٌ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ، فِي أَوَاخِرِ الصَّلَاةِ بِلَفْظِ: فَسَمِعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؛ فَقَالَ: قُولُوا لَكِنْ بَيَّنَ حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ فِي رِوَايَتِهِ الْمَذْكُورَةِ الْمَحَلَّ الَّذِي خَاطَبَهُمْ بِذَلِكَ فِيهِ، وَأَنَّهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ، وَلَفْظُهُ: فَلَمَّا انْصَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، وَفِي رِوَايَةِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ أَيْضًا: فَلَمَّا انْصَرَفَ مِنَ الصَّلَاةِ قَالَ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ)، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ مَا حَاصِلُهُ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَنْكَرَ التَّسْلِيمَ عَلَى اللَّهِ وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ عَكْسُ مَا يَجِبُ أَنْ يُقَالَ، فَإِنَّ كُلَّ سَلَامٍ وَرَحْمَةٍ لَهُ وَمِنْهُ وَهُوَ مَالِكُهَا وَمُعْطِيهَا. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَجْهُ النَّهْيِ عَنِ السَّلَامِ عَلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ الْمَرْجُوعُ إِلَيْهِ بِالْمَسَائِلِ الْمُتَعَالِي عَنِ الْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ؛ فَكَيْفَ يُدْعَى لَهُ وَهُوَ الْمَدْعُوُّ عَلَى الْحَالَاتِ؟! وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ ذُو السَّلَامِ؛ فَلَا تَقُولُوا السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ؛ فَإِنَّ السَّلَامَ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ، وَمَرْجِعُ الْأَمْرِ فِي إِضَافَتِهِ إِلَيْهِ أَنَّهُ ذُو السَّلَامِ مِنْ كُلِّ آفَةٍ وَعَيْبٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَرْجِعُهَا إِلَى حَظِّ الْعَبْدِ فِيمَا يَطْلُبُهُ مِنَ السَّلَامَةِ مِنَ الْآفَاتِ وَالْمَهَالِكِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّ السَّلَامَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، يَعْنِي السَّالِمَ مِنَ النَّقَائِصِ، وَيُقَالُ: الْمُسَلِّمُ أَوْلِيَاء، وَقِيلَ: الْمُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: أَمَرَهُمْ أَنْ يَصْرِفُوهُ إِلَى الْخَلْقِ لِحَاجَتِهِمْ إِلَى السَّلَامَةِ، وَغِنَاهُ سبحانه وتعالى عَنْهَا.
قَوْلُهُ: (فَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ)، بَيَّنَ حَفْصٌ فِي رِوَايَتِهِ الْمَذْكُورَةِ مَحَلَّ الْقَوْلِ، وَلَفْظُهُ: فَإِذَا جَلَسَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ. وَفِي رِوَايَةِ حُصَيْنٍ الْمَذْكُورَةِ: إِذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ، وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: كُنَّا لَا نَدْرِي مَا نَقُولُ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَلَّمَ فَوَاتِحَ الْخَيْرِ وَخَوَاتِمَهُ؛ فَقَالَ: إِذَا قَعَدْتُمْ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ؛ فَقُولُوا: وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: فَقُولُوا فِي كُلِّ جَلْسَةٍ، وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم التَّشَهُّدَ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ وَفِي آخِرِهَا. وَزَادَ الطَّحَاوِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فِي أَوَّلِهِ: وَأَخَذْتُ التَّشَهُّدَ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَقَّنَنِيهِ كَلِمَةً كَلِمَةً، وَلِلْمُصَنِّفِ فِي الِاسْتِئْذَانِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ: عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم التَّشَهُّدَ، وَكَفِّي بَيْنَ كَفَّيْهِ، كَمَا يُعَلِّمُنِي السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ. وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: فَلْيَقُلْ. عَلَى الْوُجُوبِ خِلَافًا لِمَنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ كَمَالِكٍ، وَأَجَابَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّ التَّسْبِيحَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مَنْدُوبٌ، وَقَدْ وَقَعَ الْأَمْرُ بِهِ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: لَمَّا نَزَلَتْ {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ. .
الْحَدِيثَ؛ فَكَذَلِكَ التَّشَهُّدُ، وَأَجَابَ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّ الْأَمْرَ حَقِيقَتُهُ الْوُجُوبُ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ إِلَّا إِذَا دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِهِ، وَلَوْلَا الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ التَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لَحَمَلْنَاهُ عَلَى الْوُجُوبِ. انْتَهَى.
وَفِي دَعْوَى هَذَا الْإِجْمَاعِ نَظَرٌ، فَإِنَّ أَحْمَدَ يَقُولُ بِوُجُوبِهِ وَيَقُولُ بِوُجُوبِ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ أَيْضًا، وَرِوَايَةُ أَبِي الْأَحْوَصِ الْمُتَقَدِّمَةُ وَغَيْرُهَا تُقَوِّيهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا فِيهِ قَبْلُ بِبَابٍ، وَقَدْ جَاءَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ التَّصْرِيحُ بِفَرْضِيَّةِ التَّشَهُّدِ، وَذَلِكَ فِيمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقِ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: كُنَّا لَا نَدْرِي مَا نَقُولُ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْنَا التَّشَهُّدُ.
قَوْلُهُ: (التَّحِيَّاتُ) جَمْعُ تَحِيَّةٍ، وَمَعْنَاهَا السَّلَامُ، وَقِيلَ: الْبَقَاءُ. وَقِيلَ: الْعَظَمَةُ. وَقِيلَ: السَّلَامَةُ مِنَ الْآفَاتِ وَالنَّقْصِ. وَقِيلَ: الْمَلِكُ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الضَّرِيرُ: لَيْسَتِ التَّحِيَّةُ الْمَلِكَ نَفْسَهُ لَكِنَّهَا الْكَلَامُ الَّذِي يُحَيَّا بِهِ الْمَلِكُ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: لَمْ يَكُنْ يُحَيَّا إِلَّا الْمَلِكُ خَاصَّةً، وَكَانَ لِكُلِّ مَلِكٍ تَحِيَّةٌ تَخُصُّهُ فَلِهَذَا جُمِعَتْ،
فَكَانَ الْمَعْنَى التَّحِيَّاتُ الَّتِي كَانُوا يُسَلِّمُونَ بِهَا عَلَى الْمُلُوكِ كُلُّهَا مُسْتَحَقَّةٌ لِلَّهِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ ثُمَّ الْبَغَوِيُّ: وَلَمْ يَكُنْ فِي تَحِيَّاتِهِمْ شَيْءٌ يَصْلُحُ لِلثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ، فَلِهَذَا أُبْهِمَتْ أَلْفَاظُهَا وَاسْتُعْمِلَ مِنْهَا مَعْنَى التَّعْظِيمِ؛ فَقَالَ: قُولُوا: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، أَيْ أَنْوَاعُ التَّعْظِيمِ لَهُ. وَقَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ التَّحِيَّةِ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْمَعَانِي الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهَا، وَكَوْنُهَا بِمَعْنَى السَّلَامِ أَنْسَبُ هُنَا.
قَوْلُهُ: (وَالصَّلَوَاتُ) قِيلَ الْمُرَادُ الْخَمْسُ، أَوْ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ فِي كُلِّ شَرِيعَةٍ، وَقِيلَ الْمُرَادُ الْعِبَادَاتُ كُلُّهَا، وَقِيلَ الدَّعَوَاتُ، وَقِيلَ الْمُرَادُ الرَّحْمَةُ، وَقِيلَ التَّحِيَّاتُ الْعِبَادَاتُ الْقَوْلِيَّةُ وَالصَّلَوَاتُ الْعِبَادَاتُ الْفِعْلِيَّةُ، وَالطَّيِّبَاتُ الصَّدَقَاتُ
(1)
المالية.
قَوْلُهُ: (وَالطَّيِّبَاتُ) أَيْ مَا طَابَ مِنَ الْكَلَامِ وَحَسُنَ أَنْ يُثْنَى بِهِ عَلَى اللَّهِ دُونَ مَا لَا يَلِيقُ بِصِفَاتِهِ مِمَّا كَانَ الْمُلُوكُ يُحَيَّوْنَ بِهِ، وَقِيلَ الطَّيِّبَاتُ ذِكْرُ اللَّهِ، وَقِيلَ الْأَقْوَالُ الصَّالِحَةُ كَالدُّعَاءِ وَالثَّنَاءِ، وَقِيلَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ وَهُوَ أَعَمُّ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: إِذَا حُمِلَ التَّحِيَّةُ عَلَى السَّلَامِ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ التَّحِيَّاتُ الَّتِي تُعَظَّمُ بِهَا الْمُلُوكُ مُسْتَمِرَّةٌ لِلَّهِ، وَإِذَا حُمِلَ عَلَى الْبَقَاءِ فَلَا شَكَّ فِي اخْتِصَاصِ اللَّهِ بِهِ، وَكَذَلِكَ الْمُلْكُ الْحَقِيقِيُّ وَالْعَظَمَةُ التَّامَّةُ، وَإِذَا حُمِلَتِ الصَّلَاةُ عَلَى الْعَهْدِ أَوِ الْجِنْسِ كَانَ التَّقْدِيرُ أَنَّهَا لِلَّهِ وَاجِبَةٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْصَدَ بِهَا غَيْرُهُ، وَإِذَا حُمِلَتْ عَلَى الرَّحْمَةِ فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ لِلَّهِ أَنَّهُ الْمُتَفَضِّلُ بِهَا؛ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ التَّامَّةَ لِلَّهِ يُؤْتِيهَا مَنْ يَشَاءُ. وَإِذَا حُمِلَتْ عَلَى الدُّعَاءِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الطَّيِّبَاتُ فَقَدْ فُسِّرَتْ بِالْأَقْوَالِ، وَلَعَلَّ تَفْسِيرَهَا بِمَا هُوَ أَعَمُّ أَوْلَى فَتَشْمَلُ الْأَفْعَالَ وَالْأَقْوَالَ وَالْأَوْصَافَ، وَطِيبُهَا كَوْنُهَا كَامِلَةً خَالِصَةً عَنِ الشَّوَائِبِ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَوْلُهُ لِلَّهِ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْإِخْلَاصِ فِي الْعِبَادَةِ، أَيْ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُفْعَلُ إِلَّا لِلَّهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الِاعْتِرَافُ بِأَنَّ مَلِكَ الْمُلُوكِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا ذُكِرَ كُلَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ عَطْفًا عَلَى التَّحِيَّاتِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الصَّلَوَاتُ مُبْتَدَأً وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، وَالطَّيِّبَاتُ مَعْطُوفَةٌ عَلَيْهَا وَالْوَاوُ الْأُولَى لِعَطْفِ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَالثَّانِيَةُ لِعَطْفِ الْمُفْرَدِ عَلَى الْجُمْلَةِ. وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: إِنْ جُعِلَتِ التَّحِيَّاتُ مُبْتَدَأً وَلَمْ تَكُنْ صِفَةً لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ كَانَ قَوْلُكَ وَالصَّلَوَاتُ مُبْتَدَأً؛ لِئَلَّا يُعْطَفَ نَعْتٌ عَلَى مَنْعُوتِهِ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْجُمَلِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَكُلُّ جُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٌ بِفَائِدَتِهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ عِنْدَ إِسْقَاطِ الْوَاوِ.
قَوْلُهُ: (السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ) قَالَ النَّوَوِيُّ: يَجُوزُ فِيهِ وَفِيمَا بَعْدَهُ أَيِ السَّلَامُ حَذْفُ اللَّامِ وَإِثْبَاتُهَا، وَالْإِثْبَاتُ أَفْضَلُ وَهُوَ الْمَوْجُودُ فِي رِوَايَاتِ الصَّحِيحَيْنِ. قُلْتُ: لَمْ يَقَعْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِحَذْفِ اللَّامِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَصْلُ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَلَّمْتُ سَلَامًا عَلَيْكَ، ثُمَّ حُذِفَ الْفِعْلُ وَأُقِيمَ الْمَصْدَرُ مَقَامَهُ، وَعُدِلَ عَنِ النَّصْبِ إِلَى الرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ثُبُوتِ الْمَعْنَى وَاسْتِقْرَارِهِ، ثُمَّ التَّعْرِيفُ إِمَّا لِلْعَهْدِ التَّقْدِيرِيِّ، أَيْ ذَلِكَ السَّلَامُ الَّذِي وُجِّهَ إِلَى الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ، وَكَذَلِكَ السَّلَامُ الَّذِي وُجِّهَ إِلَى الْأُمَمِ السَّالِفَةِ عَلَيْنَا وَعَلَى إِخْوَانِنَا، وَإِمَّا لِلْجِنْسِ وَالْمَعْنَى أَنَّ حَقِيقَةَ السَّلَامِ الَّذِي يَعْرِفُهُ كُلُّ وَاحِدٍ وَعَمَّنْ يَصْدُرُ وَعَلَى مَنْ يَنْزِلُ عَلَيْكَ وَعَلَيْنَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْعَهْدِ الْخَارِجِيِّ إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} قَالَ: وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ التَّقَادِيرَ أَوْلَى مِنْ تَقْدِيرِ النَّكِرَةِ. انْتَهَى.
وَحَكَى صَاحِبُ الْإِقْلِيدِ عَنْ أَبِي حَامِدٍ أَنَّ التَّنْكِيرَ فِيهِ لِلتَّعْظِيمِ، وَهُوَ وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ لَا يَقْصُرُ عَنِ الْوُجُوهِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: عَلَّمَهُمْ أَنْ يُفْرِدُوهُ صلى الله عليه وسلم بِالذِّكْرِ لِشَرَفِهِ وَمَزِيدِ حَقِّهِ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ عَلَّمَهُمْ أَنْ يُخَصِّصُوا أَنْفُسَهُمْ أَوَّلًا لِأَنَّ الِاهْتِمَامَ بِهَا أَهَمُّ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِتَعْمِيمِ السَّلَامِ عَلَى الصَّالِحِينَ إِعْلَامًا مِنْهُ بِأَنَّ الدُّعَاءَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ شَامِلًا لَهُمْ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ:
(1)
في المخطوطة"العبادات"
السَّلَامُ بِمَعْنَى السَّلَامَةِ كَالْمَقَامِ وَالْمَقَامَةِ، وَالسَّلَامُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وُضِعَ الْمَصْدَرُ مَوْضِعَ الِاسْمِ مُبَالَغَةً، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ سَالِمٌ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ وَآفَةٍ وَنَقْصٍ وَفَسَادٍ، وَمَعْنَى قَوْلِنَا السَّلَامُ عَلَيْكَ الدُّعَاءُ أَيْ سَلِمْتَ مِنَ الْمَكَارِهِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكَ كَأَنَّهُ تَبَرَّكَ عَلَيْهِ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى. فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ شُرِعَ هَذَا اللَّفْظُ وَهُوَ خِطَابُ بَشَرٍ مَعَ كَوْنِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنْ قِيلَ مَا الْحِكْمَةُ فِي الْعُدُولِ عَنِ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ مَعَ أَنَّ لَفْظَ الْغَيْبَةِ هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ السِّيَاقُ كَأَنْ يَقُولَ السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ؛ فَيَنْتَقِلُ مِنْ تَحِيَّةِ اللَّهِ إِلَى تَحِيَّةِ النَّبِيِّ ثُمَّ إِلَى تَحِيَّةِ النَّفْسِ ثُمَّ إِلَى الصَّالِحِينَ، أَجَابَ الطِّيبِيُّ بِمَا مُحَصَّلُهُ: نَحْنُ نَتَّبِعُ لَفْظَ الرَّسُولِ بِعَيْنِهِ الَّذِي كَانَ عَلَّمَهُ الصَّحَابَةَ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ عَلَى طَرِيقِ أَهْلِ الْعِرْفَانِ: إِنَّ الْمُصَلِّينَ لَمَّا اسْتَفْتَحُوا بَابَ الْمَلَكُوتِ بِالتَّحِيَّاتِ أُذِنَ لَهُمْ بِالدُّخُولِ فِي حَرِيمِ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ؛ فَقَرَّتْ أَعْيُنُهُمْ بِالْمُنَاجَاةِ؛ فَنُبِّهُوا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ وَبَرَكَةِ مُتَابَعَتِهِ؛ فَالْتَفَتُوا فَإِذَا الْحَبِيبُ فِي حَرَمِ الْحَبِيبِ حَاضِرٌ؛ فَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ قَائِلِينَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ اهـ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ هَذَا مَا يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ زَمَانِهِ صلى الله عليه وسلم فَيُقَالُ بِلَفْظِ الْخِطَابِ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَيُقَالُ بِلَفْظِ الْغَيْبَةِ، وَهُوَ مِمَّا يُخْدَشُ فِي وَجْهِ الِاحْتِمَالِ الْمَذْكُورِ، فَفِي الِاسْتِئْذَانِ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ التَّشَهُّدِ؛ قَالَ: وَهُوَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا، فَلَمَّا قُبِضَ قُلْنَا السَّلَامُ. يَعْنِي عَلَى النَّبِيِّ، كَذَا وَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ وَالسَّرَّاجُ، وَالْجَوْزَقِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ إِلَى أَبِي نُعَيْمٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ بِلَفْظِ: فَلَمَّا قُبِضَ قُلْنَا: السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ. بِحَذْفِ لَفْظِ يَعْنِي، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ، قَالَ السُّبْكِيُّ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ مِنْ عِنْدِ أَبِي عَوَانَةَ وَحْدَهُ: إِنْ صَحَّ هَذَا عَنِ الصَّحَابَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ فِي السَّلَامِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَيْرُ وَاجِبٍ، فَيُقَالُ: السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ.
قُلْتُ: قَدْ صَحَّ بِلَا رَيْبٍ، وَقَدْ وَجَدْتُ لَهُ مُتَابِعًا قَوِيًّا. قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَقُولُونَ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَيٌّ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ، فَلَمَّا مَاتَ قَالُوا: السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ. وَأَمَّا مَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَهُمُ التَّشَهُّدَ فَذَكَرَهُ، قَالَ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا كُنَّا نَقُولُ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذْ كَانَ حَيًّا، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هَكَذَا عَلَّمَنَا وَهَكَذَا نُعَلِّمُ، فَظَاهِرٌ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَهُ بَحْثًا وَأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ، لَكِنَّ رِوَايَةَ أَبِي مَعْمَرٍ أَصَحُّ لِأَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ وَالْإِسْنَادُ إِلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ ضَعِيفٌ، فَإِنْ قِيلَ لِمَ عَدَلَ عَنِ الْوَصْفِ بِالرِّسَالَةِ إِلَى الْوَصْفِ بِالنُّبُوَّةِ مَعَ أَنَّ الْوَصْفَ بِالرِّسَالَةِ أَعَمُّ فِي حَقِّ الْبَشَرِ؟ أَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْحِكْمَةَ فِي ذَلِكَ أَنْ يَجْمَعَ لَهُ الْوَصْفَيْنِ لِكَوْنِهِ وَصَفَهُ بِالرِّسَالَةِ فِي آخِرِ التَّشَهُّدِ، وَإِنْ كَانَ الرَّسُولُ الْبَشَرِيُّ يَسْتَلْزِمُ النُّبُوَّةَ، لَكِنَّ التَّصْرِيحَ بِهِمَا أَبْلَغُ.
قِيلَ: وَالْحِكْمَةُ فِي تَقْدِيمِ الْوَصْفِ بِالنُّبُوَّةِ أَنَّهَا كَذَا وُجِدَتْ فِي الْخَارِجِ لِنُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} قَبْلَ قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ} وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَرَحْمَتُ اللَّهِ) أَيْ إِحْسَانُهُ، (وَبَرَكَاتُهُ) أَيْ زِيَادَتُهُ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ.
قَوْلُهُ: (السَّلَامُ عَلَيْنَا) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْبَدَاءَةِ بِالنَّفْسِ فِي الدُّعَاءِ، وَفِي التِّرْمِذِيِّ مُصَحَّحًا مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا ذَكَرَ أَحَدًا فَدَعَا لَهُ بَدَأَ بِنَفْسِهِ. وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ عليهما السلام كَمَا فِي التَّنْزِيلِ.
قَوْلُهُ: (عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ) الْأَشْهَرُ فِي تَفْسِيرِ الصَّالِحِ أَنَّهُ الْقَائِمُ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ وَتَتَفَاوَتُ دَرَجَاتُهُ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَحْظَى بِهَذَا السَّلَامِ الَّذِي يُسَلِّمُهُ الْخَلْقُ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَكُنْ عَبْدًا صَالِحًا وَإِلَّا حُرِمَ هَذَا الْفَضْلُ الْعَظِيمُ. وَقَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: يَنْبَغِي
لِلْمُصَلِّي أَنْ يَسْتَحْضِرَ فِي هَذَا الْمَحَلِّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْمُؤْمِنِينَ، يَعْنِي لِيَتَوَافَقَ لَفْظُهُ مَعَ قَصْدِهِ.
قَوْلُهُ (فَإِنَّكُمْ إِذَا قُلْتُمُوهَا) أَيْ وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، وَهُوَ كَلَامٌ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ قَوْلِهِ الصَّالِحِينَ وَبَيْنَ قَوْلِهِ أَشْهَدُ إِلَخْ، وَإِنَّمَا قُدِّمَتْ لِلِاهْتِمَامِ بِهَا لِكَوْنِهِ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ عَدَّ الْمَلَائِكَةِ وَاحِدًا وَاحِدًا، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِيعَابُهُمْ لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ، فَعَلَّمَهُمْ لَفْظًا يَشْمَلُ الْجَمِيعَ مَعَ غَيْرِ الْمَلَائِكَةِ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَغَيْرِهِمْ بِغَيْرِ مَشَقَّةٍ، وَهَذَا مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ الَّتِي أُوتِيَهَا صلى الله عليه وسلم، وَإِلَى ذَلِكَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَلَّمَ فَوَاتِحَ الْخَيْرِ وَخَوَاتِمَهُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ سِيَاقُ التَّشَهُّدِ مُتَوَالِيًا وَتَأْخِيرُ الْكَلَامِ الْمَذْكُورِ بَعْدُ، وَهُوَ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ، وَسَيَأْتِي فِي أَوَاخِرِ الصَّلَاةِ.
قَوْلُهُ: (كُلَّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالِح) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْجَمْعَ الْمُضَافَ وَالْجَمْعَ الْمُحَلَّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يَعُمُّ، لِقَوْلِهِ أَوَّلًا عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، ثُمَّ قَالَ: أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ صَالِحٍ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ جَمْعَ التَّكْسِيرِ لِلْعُمُومِ، وَفِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ نَظَرٌ وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ لِلْعُمُومِ صِيغَةً، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ عِنْدَنَا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَتَصَرُّفَاتِ أَلْفَاظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، قَالَ: وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادٍ لَا تُحْصَى، لَا لِلِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) فِي رِوَايَةِ مُسَدَّدٍ عَنْ يَحْيَى: أَوْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالشَّكُّ فِيهِ مِنْ مُسَدَّدٍ، وَإِلَّا فَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُهُ عَنْ يَحْيَى بِلَفْظِ: مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَغَيْرُهُ.
قَوْلُهُ: (أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) زَادَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ، لَكِنْ ثَبَتَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى عِنْدَ مُسْلِمٍ وَفِي حَدِيثِ عَائِ شَةَ الْمَوْقُوفِ فِي الْمُوَطَّأِ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، إِلَّا أَنَّ سَنَدَهُ ضَعِيفٌ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ صَحِيحٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي التَّشَهُّدِ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: زِدْتُ فِيهَا وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَهَذَا ظَاهِرُهُ الْوَقْفُ.
قَوْلُهُ: (وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ) لَمْ تَخْتَلِفِ الطُّرُقُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي ذَلِكَ، وَكَذَا هُوَ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ الْمَذْكُورِ وَجَابِرٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ وَغَيْرِهِ: وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: بَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُ التَّشَهُّدَ إِذْ قَالَ رَجُلٌ: وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُهُ وَعَبْدُهُ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: لَقَدْ كُنْتُ عَبْدًا قَبْلَ أَنْ أَكُونَ رَسُولًا. قُلْ: عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ إِلَّا أَنَّهُ مُرْسَلٌ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَأَصْحَابِ السُّنَنِ: وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَذَفَ وَأَشْهَدُ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِلَفْظِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، وَهُوَ أَصَحُّ حَدِيثٍ رُوِيَ فِي التَّشَهُّدِ وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ. قَالَ: وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي التَّشَهُّدِ، وَقَالَ الْبَزَّارُ لَمَّا سُئِلَ عَنْ أَصَحِّ حَدِيثٍ فِي التَّشَهُّدِ قَالَ: هُوَ عِنْدِي حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَرُوِيَ مِنْ نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ طَرِيقًا، ثُمَّ سَرَدَ أَكْثَرَهَا، وَقَالَ: لَا أَعْلَمُ فِي التَّشَهُّدِ أَثْبَتَ مِنْهُ وَلَا أَصَحَّ أَسَانِيدَ وَلَا أَشْهَرَ رِجَالًا اهـ.
وَلَا اخْتِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي ذَلِكَ، وَمِمَّنْ جَزَمَ بِذَلِكَ الْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَمِنْ رُجْحَانِهِ أَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَأَنَّ الرُّوَاةَ عَنْهُ مِنَ الثِّقَاتِ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَلْفَاظِهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ، وَأَنَّهُ تَلَقَّاهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَلْقِينًا؛ فَرَوَى الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْهُ، قَالَ: أَخَذْتُ التَّشَهُّدَ مِنْ فِيِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَقَّنَنِيهِ كَلِمَةً كَلِمَةً. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي مَعْمَرٍ عَنْهُ: عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم التَّشَهُّدَ وَكَفِّي بَيْنَ كَفَّيْهِ. وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرِهِ مِنْ رِوَايَةِ جَامِعِ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ. وَقَدْ وَافَقَهُ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَسَاقَهُ بِلَفْظِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ، لَكِنْ هَذَا الْأَخِيرُ ثَبَتَ مِثْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ
وَرُجِّحَ أَيْضًا بِثُبُوتِ الْوَاوِ فِي الصَّلَوَاتِ وَالطَّيِّبَاتِ، وَهِيَ تَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَتَكُونُ كُلُّ جُمْلَةٍ ثَنَاءً مُسْتَقِلًّا، بِخِلَافِ مَا إِذَا حُذِفَتْ فَإِنَّهَا تَكُونُ صِفَةً لِمَا قَبْلَهَا، وَتَعَدُّدُ الثَّنَاءِ فِي الْأَوَّلِ صَرِيحٌ فَيَكُونُ أَوْلَى، وَلَوْ قِيلَ إِنَّ الْوَاوَ مُقَدَّرَةٌ فِي الثَّانِي، وَرُجِّحَ بِأَنَّهُ وَرَدَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ مُجَرَّدُ حِكَايَةٍ.
وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ وَأَمَرَهُ أَنْ يُعَلِّمَهُ النَّاسَ، وَلَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ، فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَزِيَّتِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ: رَوَيْتُ أَحَادِيثَ فِي التَّشَهُّدِ مُخْتَلِفَةً، وَكَانَ هَذَا أَحَبَّ إِلَيَّ لِأَنَّهُ أَكْمَلُهَا. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَقَدْ سُئِلَ عَنِ اخْتِيَارِهِ تَشَهُّدَ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمَّا رَأَيْتُهُ وَاسِعًا وَسَمِعْتُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ صَحِيحًا؛ كَانَ عِنْدِي أَجْمَعَ وَأَكْثَرَ لَفْظًا مِنْ غَيْرِهِ، وَأَخَذْتُ بِهِ غَيْرَ مُعَنِّفٍ لِمَنْ يَأْخُذُ بِغَيْرِهِ مِمَّا صَحَّ.
وَرَجَّحَهُ بَعْضُهُمْ بِكَوْنِهِ مُنَاسِبًا لِلَفْظِ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} وَأَمَّا مَنْ رَجَّحَهُ بِكَوْنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَحْدَاثِ الصَّحَابَةِ فَيَكُونُ أَضْبَطَ لِمَا رَوَى، أَوْ بِأَنَّهُ أَفْقَهُ مَنْ رَوَاهُ، أَوْ بِكَوْنِ إِسْنَادِ حَدِيثِهِ حِجَازِيًّا وَإِسْنَادِ ابْنِ مَسْعُودٍ كُوفِيًّا، وَهُوَ مِمَّا يُرَجَّحُ بِهِ فَلَا طَائِلَ فِيهِ لِمَنْ أَنْصَفَ، نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الزِّيَادَةَ الَّتِي فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهِيَ الْمُبَارَكَاتُ لَا تُنَافِي رِوَايَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَرُجِّحَ الْأَخْذُ بِهَا لِكَوْنِ أَخْذِهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي الْأَخِيرِ، وَقَدِ اخْتَارَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ تَشَهُّدَ عُمَرَ لِكَوْنِهِ عَلَّمَهُ لِلنَّاسِ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَلَمْ يُنْكِرُوهُ فَيَكُونُ إِجْمَاعًا، وَلَفْظُهُ نَحْوُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: الزَّاكِيَاتُ بَدَلَ الْمُبَارَكَاتُ وَكَأَنَّهُ بِالْمَعْنَى، لَكِنْ أَوْرَدَ عَلَى الشَّافِعِيِّ زِيَادَةَ بِسْمِ اللَّهِ فِي أَوَّلِ التَّشَهُّدِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُمَرَ الْمَذْكُورَةِ لَكِنْ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ لَا مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ الَّتِي أَخْرَجَهَا مَالِكٌ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَغَيْرُهُمَا وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مَعَ كَوْنِهِ مَوْقُوفًا، وَثَبَتَ فِي الْمُوَطَّأِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا وَوَقَعَ أَيْضًا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الْمَرْفُوعِ، تَفَرَّدَ بِهِ أَيْمَنُ بْنُ نَابِلٍ بِالنُّونِ ثُمَّ الْمُوَحَّدَةِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْهُ، وَحَكَمَ الْحُفَّاظُ - الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ - عَلَى أَنَّهُ أَخْطَأَ فِي إِسْنَادِهِ، وَأَنَّ الصَّوَابَ رِوَايَةُ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ طَاوُسٍ وَغَيْرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَفِي الْجُمْلَةِ لَمْ تَصِحَّ هَذِهِ الزِّيَادَةُ. وَقَدْ تَرْجَمَ الْبَيْهَقِيُّ عَلَيْهَا: مَنِ اسْتَحَبَّ أَوْ أَبَاحَ التَّسْمِيَةَ قَبْلَ التَّحِيَّةِ وَهُوَ وَجْهٌ لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَضُعِّفَ، وَيَدُلُّ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهَا أَنَّهُ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْمَرْفُوعِ فِي التَّشَهُّدِ وَغَيْرِهِ: فَإِذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ قَوْلِهِ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ الْحَدِيثَ. كَذَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ بِسَنَدِهِ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ هَذِهِ، وَقَدْ أَنْكَرَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمَا عَلَى مَنْ زَادَهَا، أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ. ثُمَّ إِنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْأَفْضَلِ وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ الْمُتَقَدِّمُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَنَقَلَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الِاتِّفَاقَ عَلَى جَوَازِ التَّشَهُّدِ بِكُلِّ مَا ثَبَتَ، لَكِنَّ كَلَامَ الطَّحَاوِيِّ يُشْعِرُ بِأَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ بِوُجُوبِ التَّشَهُّدِ الْمَرْوِيِّ عَنْ عُمَرَ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ مُحَدِّثِي الشَّافِعِيَّةِ كَابْنِ الْمُنْذِرِ إِلَى اخْتِيَارِ تَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ كَابْنِ خُزَيْمَةَ إِلَى عَدَمِ التَّرْجِيحِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ التَّشَهُّدَ مُطْلَقًا غَيْرُ وَاجِبٍ، وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ وَاجِبٌ لَا فَرْضٌ، بِخِلَافِ مَا يُوجَدُ عَنْهُمْ فِي كُتُبِ مُخَالِفِيهِمْ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ فَرْضٌ، لَكِنْ قَالَ: لَوْ لَمْ يَزِدْ رَجُلٌ عَلَى قَوْلِهِ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ سَلَامٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ إِلَخْ، كَرِهْتُ ذَلِكَ لَهُ وَلَمْ أَرَ عَلَيْهِ إِعَادَةً، هَذَا لَفْظُهُ فِي الْأُمِّ. وَقَالَ صَاحِبُ الرَّوْضَةِ تَبَعًا لِأَصْلِهِ: وَأَمَّا أَقَلُّ التَّشَهُّدِ فَنَصَّ الشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ الْأَصْحَابِ إِلَى أَنَّهُ. . فَذَكَرَهُ، لَكِنَّهُ قَالَ: وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: وَنَقَلَهُ ابْنُ كَجٍّ، وَالصَّيْدَلَانِيُّ فَقَالَا: وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ لَكِنْ أَسْقَطَا وَبَرَكَاتُهُ اهـ. وَقَدِ اسْتُشْكِلَ جَوَازُ حَذْفِ الصَّلَوَاتِ مَعَ ثُبُوتِهَا فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ وَكَذَلِكَ الطَّيِّبَاتُ مَعَ جَزْمِ جَمَاعَةٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ الْمُقْتَصَرَ
عَلَيْهِ هُوَ الثَّابِتُ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ وَجَّهَ الْحَذْفَ بِكَوْنِهِمَا صِفَتَيْنِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ سِيَاقِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَى هَذَا مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْبَحْثِ فِي ثُبُوتِ الْعَطْفِ فِيهِمَا فِي سِيَاقِ غَيْرِهِ وَهُوَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ.
(فَائِدَةٌ): قَالَ الْقَفَّالُ فِي فَتَاوِيهِ: تَرْكُ الصَّلَاةِ يَضُرُّ بِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ فِي التَّشَهُّدِ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، فَيَكُونُ مُقَصِّرًا بِخِدْمَةِ اللَّهِ وَفِي حَقِّ رَسُولِهِ وَفِي حَقِّ نَفْسِهِ وَفِي حَقِّ كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلِذَلِكَ عُظِّمَتِ الْمَعْصِيَةُ بِتَرْكِهَا. وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ السُّبْكِيُّ أَنَّ فِي الصَّلَاةِ حَقًّا لِلْعِبَادِ مَعَ حَقِّ اللَّهِ، وَأَنَّ مَنْ تَرَكَهَا أَخَلَّ بِحَقِّ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ مَضَى وَمَنْ يَجِيءُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لِوُجُوبِ قَوْلِهِ فِيهَا: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ.
(تَنْبِيهٌ): ذَكَرَ خَلَفٌ فِي الْأَطْرَافِ أَنَّ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَقِبَ حَدِيثِ الْبَابِ فِي التَّشَهُّدِ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الْأَعْمَشِ، وَمَنْصُورٍ، وَحَمَّادٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجِهِ، فَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ بِهِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ سُلَيْمَانَ وَقَالَ: أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ فِيمَا أَرَى اهـ. وَبِذَلِكَ جَزَمَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ، وَلَمْ أَرَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي اتَّصَلَتْ لَنَا هُنَا لَا عَنْ قَبِيصَةَ وَلَا عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ سَيْفٍ، نَعَمْ هُوَ فِي الِاسْتِئْذَانِ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ. بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
149 - بَاب الدُّعَاءِ قَبْلَ السَّلَامِ
832 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنَا عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَفِتْنَةِ الْمَمَاتِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنْ الْمَغْرَمِ! فَقَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ.
[الحديث 832 - أطرافه في: 7129، 6377، 6376، 6375، 6368، 2397، 833]
833 -
وَعَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَعِيذُ فِي صَلَاتِهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ "
834 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي قَالَ قُلْ اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَارْحَمْنِي إِنَّك أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
[الحديث 834 - طرفاه في: 7388، 6326]
قَوْلُهُ: (بَابُ الدُّعَاءِ قَبْلَ السَّلَامِ) أَيْ بَعْدَ التَّشَهُّدِ، هَذَا الَّذِي يَتَبَادَرُ مِنْ تَرْتِيبِهِ، لَكِنْ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ، لَا تَقْيِيدَ فِيهِ بِمَا بَعْدَ التَّشَهُّدِ. وَأَجَابَ الْكِرْمَانِيُّ، فَقَالَ: مِنْ حَيْثُ إِنَّ لِكُلِّ مَقَامٍ ذِكْرًا مَخْصُوصًا فَتَعَيَّنَ أَنْ
يَكُونَ مَحَلُّهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْكُلِّ اهـ. وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ التَّعْيِينَ الَّذِي ادَّعَاهُ لَا يَخْتَصُّ بِهَذَا الْمَحَلِّ لِوُرُودِ الْأَمْرِ بِالدُّعَاءِ فِي السُّجُودِ، فَكَمَا أَنَّ لِلسُّجُودِ ذِكْرًا مَخْصُوصًا وَمَعَ ذَلِكَ أُمِرَ فِيهِ بِالدُّعَاءِ، فَكَذَلِكَ الْجُلُوسُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ لَهُ ذِكْرٌ مَخْصُوصٌ وَأُمِرَ فِيهِ مَعَ ذَلِكَ بِالدُّعَاءِ إِذَا فَرَغَ مِنْهُ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا هُوَ تَرْتِيبُ الْبُخَارِيِّ، لَكِنَّهُ مُطَالَبٌ بِدَلِيلِ اخْتِصَاصِ هَذَا الْمَحَلِّ بِهَذَا الذِّكْرِ، وَلَوْ قُطِعَ النَّظَرُ عَنْ تَرْتِيبِهِ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ التَّرْجَمَةِ وَالْحَدِيثِ مُنَافَاةٌ، لِأَنَّ قَبْلَ السَّلَامِ يَصْدُقُ عَلَى جَمِيعِ الْأَرْكَانِ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ وَأَشَارَ إِلَيْهِ النَّوَوِيُّ، وَسَأَذْكُرُ كَلَامَهُ آخِرَ الْبَابِ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ - وَهُوَ ثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ -: هَذَا يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِهَذَا الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ تَعْينِ مَحَلِّهِ، وَلَعَلَّ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ فِي أَحَدِ مَوْطِنَيْنِ - السُّجُودِ أَوِ التَّشَهُّدِ - لِأَنَّهُمَا أُمِرَ فِيهِمَا بِالدُّعَاءِ. قُلْتُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ مِنْ تَعْيِينِهِ بِهَذَا الْمَحَلِّ، فَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ بَعْدَ ذِكْرِ التَّشَهُّدِ ثُمَّ لْيَتَخَيَّرْ مِنَ الدُّعَاءِ مَا شَاءَ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ. ثُمَّ قَدْ أَخْرَجَ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بَعْدَ التَّشَهُّدِ كَلِمَاتٍ يُعَظِّمُهُنَّ جِدًّا. قُلْتُ: فِي الْمَثْنَى
(1)
كِلَيْهِمَا؟ قَالَ بَلْ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ، قُلْتُ: مَا هِيَ؟ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الْحَدِيثُ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِيهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ فَذَكَرَ نَحْوَهُ.
هَذِهِ رِوَايَةُ وَكِيعٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْهُ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ بِلَفْظِ: إِذَا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ فَذَكَرَهُ، وَصَرَّحَ بِالتَّحْدِيثِ فِي جَمِيعِ الْإِسْنَادِ، فَهَذَا فِيهِ تَعْيِينُ هَذِهِ الِاسْتِعَاذَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ التَّشَهُّدِ، فَيَكُونُ سَابِقًا عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَدْعِيَةِ. وَمَا وَرَدَ الْإِذْنُ فِيهِ أَنَّ الْمُصَلِّيَ يَتَخَيَّرُ مِنَ الدُّعَاءِ مَا شَاءَ يَكُونُ بَعْدَ هَذِهِ الِاسْتِعَاذَةِ وَقَبْلَ السَّلَامِ.
قَوْلُهُ: (مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ) فِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَهُ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ) قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْفِتْنَةُ الِامْتِحَانُ وَالِاخْتِبَارُ، قَالَ عِيَاضٌ: وَاسْتِعْمَالُهَا فِي الْعُرْفِ لِكَشْفِ مَا يُكْرَهُ اهـ. وَتُطْلَقُ عَلَى الْقَتْلِ وَالْإِحْرَاقِ وَالنَّمِيمَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالْمَسِيحُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَخْفِيفِ الْمُهْمَلَةِ الْمَكْسُورَةِ وَآخِرُهُ حَاءٌ مُهْمَلَةٌ يُطْلَقُ عَلَى الدَّجَّالِ وَعَلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عليه السلام، لَكِنْ إِذَا أُرِيدَ الدَّجَّالُ قُيِّدَ بِهِ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي السُّنَنِ: الْمَسِيحُ مُثَقَّلٌ الدَّجَّالُ وَمُخَفَّفٌ عِيسَى، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ. وَأَمَّا مَا نَقَلَ الْفَرَبْرِيُّ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ عَنْهُ عَنْ خَلَفِ بْنِ عَامِرٍ وَهُوَ الْهَمْدَانِيُّ أَحَدُ الْحُفَّاظِ أَنَّ الْمَسِيحَ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ وَاحِدٌ، يُقَالُ لِلدَّجَّالِ وَيُقَالُ لِعِيسَى وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا بِمَعْنَى لَا اخْتِصَاصَ لِأَحَدِهِمَا بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ فَهُوَ رَأْيٌ ثَالِثٌ.
وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: مَنْ قَالَهُ بِالتَّخْفِيفِ فَلِمَسْحِهِ الْأَرْضَ، وَمَنْ قَالَهُ بِالتَّشْدِيدِ فَلِكَوْنِهِ مَمْسُوحَ الْعَيْنِ. وَحَكَى بَعْضُهُمْ أَنَّهُ قَالَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ فِي الدَّجَّالِ وَنُسِبَ قَائِلُهُ إِلَى التَّصْحِيفِ. وَاخْتُلِفَ فِي تَلْقِيبِ الدَّجَّالِ بِذَلِكَ، فَقِيلَ: لِأَنَّهُ مَمْسُوحُ الْعَيْنِ، وَقِيلَ لِأَنَّ أَحَدَ شِقَّيْ وَجْهِهِ خُلِقَ مَمْسُوحًا لَا عَيْنَ فِيهِ وَلَا حَاجِبَ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يَمْسَحُ الْأَرْضَ إِذَا خَرَجَ. وَأَمَّا عِيسَى فَقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ مَمْسُوحًا بِالدُّهْنِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ زَكَرِيَّا مَسَحَهُ، وَقِيلَ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَمْسَحُ ذَا عَاهَةٍ إِلَّا بَرِئَ، وَقِيلَ لِأَنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ الْأَرْضَ بِسِيَاحَتِهِ، وَقِيلَ لِأَنَّ رِجْلَهُ كَانَتْ لَا أَخْمُصَ لَهَا، وَقِيلَ لِلُبْسِهِ الْمُسُوحَ، وَقِيلَ: هُوَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَاشِيخَا فَعُرِّبَ الْمَسِيحَ، وَقِيلَ: الْمَسِيحُ الصِّدِّيقُ كَمَا سَيَأْتِي فِي التَّفْسِيرِ ذِكْرُ قَائِلِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَذَكَرَ شَيْخُنَا الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ الشِّيرَازِيُّ صَاحِبُ الْقَامُوسِ أَنَّهُ جَمَعَ فِي سَبَبِ تَسْمِيَةِ عِيسَى بِذَلِكَ خَمْسِينَ قَوْلًا أَوْرَدَهَا فِي
(1)
ليله: في الاثنين
شَرْحِ الْمَشَارِقِ.
قَوْلُهُ: (فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَفِتْنَةِ الْمَمَاتِ)، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: فِتْنَةُ الْمَحْيَا مَا يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ مِنَ الِافْتِتَانِ بِالدُّنْيَا وَالشَّهَوَاتِ وَالْجَهَالَاتِ، وَأَعْظَمُهَا وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ أَمْرُ الْخَاتِمَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ. وَفِتْنَةُ الْمَمَاتِ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْفِتْنَةُ عِنْدَ الْمَوْتِ أُضِيفَتْ إِلَيْهِ لِقُرْبِهَا مِنْهُ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِفِتْنَةِ الْمَحْيَا عَلَى هَذَا مَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا فِتْنَةُ الْقَبْرِ، وَقَدْ صَحَّ يَعْنِي فِي حَدِيثِ أَسْمَاءَ الْآتِي فِي الْجَنَائِزِ: إِنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي قُبُورِكُمْ مِثْلَ أَوْ قَرِيبًا مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، وَلَا يَكُونُ مَعَ هَذَا الْوَجْهِ مُتَكَرِّرًا مَعَ قَوْلِهِ: عَذَابِ الْقَبْرِ لِأَنَّ الْعَذَابَ مُرَتَّبٌ عَنِ الْفِتْنَةِ وَالسَّبَبُ غَيْرُ الْمُسَبَّبِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِفِتْنَةِ الْمَحْيَا الِابْتِلَاءَ مَعَ زَوَالِ الصَّبْرِ، وَبِفِتْنَةِ الْمَمَاتِ السُّؤَالَ فِي الْقَبْرِ مَعَ الْحِيرَةِ، وَهَذَا مِنَ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ، لِأَنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ دَاخِلٌ تَحْتَ فِتْنَةِ الْمَمَاتِ، وَفِتْنَةُ الدَّجَّالِ دَاخِلَةٌ تَحْتَ فِتْنَةِ الْمَحْيَا. وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّ الْمَيِّتَ إِذَا سُئِلَ: مَنْ رَبُّكَ تَرَاءَى لَهُ الشَّيْطَانُ فَيُشِيرُ إِلَى نَفْسِهِ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ، فَلِهَذَا وَرَدَ سُؤَالُ التَّثَبُّتِ لَهُ حِينَ يُسْأَلُ. ثُمَّ أَخْرَجَ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ إِلَى عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ: كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ إِذَا وُضِعَ الْمَيِّتُ فِي الْقَبْرِ أَنْ يَقُولُوا: اللَّهُمَّ أَعِذْهُ مِنَ الشَّيْطَانِ.
قَوْلُهُ: (وَالْمَغْرَمِ) أَيِ الدَّيْنِ، يُقَالُ غَرِمَ بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيِ ادَّانَ. قِيلَ: وَالْمُرَادُ بِهِ مَا يُسْتَدَانُ فِيمَا لَا يَجُوزُ وَفِيمَا يَجُوزُ ثُمَّ يَعْجِزُ عَنْ أَدَائِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدِ اسْتَعَاذَ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْمَغْرَمُ الْغُرْمُ، وَقَدْ نَبَّهَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى الضَّرَرِ اللَّاحِقِ مِنَ الْمَغْرَمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، ثُمَّ وَجَدْتُ فِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ السَّائِلَ عَنْ ذَلِكَ عَائِشَةُ، وَلَفْظُهَا: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ إِلَخْ.
قَوْلُهُ: (مَا أَكْثَرَ) بِفَتْحِ الرَّاءِ عَلَى التَّعَجُّبِ. وقَوْلُهُ: (إِذَا غَرِمَ) بِكَسْرِ الرَّاءِ.
قَوْلُهُ: (وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَالْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ شَأْنُ مَنْ يَسْتَدِينُ غَالِبًا.
قَوْلُهُ: (وَعَنِ الزُّهْرِيِّ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، فَكَأَنَّ الزُّهْرِيَّ حَدَّثَ بِهِ مُطَوَّلًا وَمُخْتَصَرًا، لَكِنْ لَمْ أَرَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَسَانِيدِ وَالْمُسْتَخْرَجَاتِ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبٍ عَنْهُ إِلَّا مُطَوَّلًا وَرَأَيْتُهُ بِاللَّفْظِ الْمُخْتَصَرِ الْمَذْكُورِ سَنَدًا وَمَتْنًا عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ مِنْ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ صَالِحٍ. وَقَدِ اسْتُشْكِلَ دُعَاؤُهُ صلى الله عليه وسلم بِمَا ذُكِرَ مَعَ أَنَّهُ مَعْصُومٌ مَغْفُورٌ لَهُ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ، وَأُجِيبَ بِأَجْوِبَةٍ،
أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَصَدَ التَّعْلِيمَ لِأُمَّتِهِ.
ثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ السُّؤَالُ مِنْهُ لِأُمَّتِهِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى هُنَا أَعُوذُ بِكَ لِأُمَّتِي.
ثَالِثُهَا: سُلُوكُ طَرِيقِ التَّوَاضُعِ وَإِظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ وَإِلْزَامُ خَوْفِ اللَّهِ وَإِعْظَامِهِ وَالِافْتِقَارُ إِلَيْهِ وَامْتِثَالُ أَمْرِهِ فِي الرَّغْبَةِ إِلَيْهِ، وَلَا يَمْتَنِعُ تَكْرَارُ الطَّلَبِ مَعَ تَحَقُّيقِ الْإِجَابَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُحَصِّلُ الْحَسَنَاتِ وَيَرْفَعُ الدَّرَجَاتِ، وَفِيهِ تَحْرِيضٌ لِأُمَّتِهِ عَلَى مُلَازَمَةِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَعَ تَحَقُّقِ الْمَغْفِرَةِ لَا يَتْرُكُ التَّضَرُّعَ فَمَنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ ذَلِكَ أَحْرَى بِالْمُلَازَمَةِ. وَأَمَّا الِاسْتِعَاذَةُ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ مَعَ تَحَقُّقِهِ أَنَّهُ لَا يُدْرِكُهُ فَلَا إِشْكَالَ فِيهِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، وَقِيلَ عَلَى الثَّالِثِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ تَحَقُّيقِ عَدَمِ إِدْرَاكِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ عِنْدَ مُسْلِمٍ: إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ، الْحَدِيثَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي الْخَيْرِ) هُوَ الْيَزَنِيُّ بِالتَّحْتَانِيَّةِ وَالزَّايِ الْمَفْتُوحَتَيْنِ ثُمَّ نُونٌ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ سِوَى طَرَفَيْهِ مِصْرِيُّونَ، وَفِيهِ تَابِعِيٌّ عَنْ تَابِعِيٍّ وَهُوَ يَزِيدُ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، وَصَحَابِيٌّ عَنْ صَحَابِيٍّ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه، هَذِهِ رِوَايَةُ اللَّيْثِ، عَنْ يَزِيدَ وَمُقْتَضَاهَا أَنَّ الْحَدِيثَ مِنْ مُسْنَدِ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه، وَأَوْضَحُ مِنْ ذَلِكَ رِوَايَةُ أَبِي الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ اللَّيْثِ، فَإِنَّ لَفْظَهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِهِ. وَخَالَفَ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، اللَّيْثَ فَجَعَلَهُ مِنْ مُسْنَدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَلَفْظُهُ:
عَنْ أَبِي الْخَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرٍو، وَلَا يَقْدَحُ هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْمُصَنِّفُ طَرِيقَ عَمْرٍو مُعَلَّقَةً فِي الدَّعَوَاتِ وَمَوْصُولَةً فِي التَّوْحِيدِ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ الطَّرِيقَيْنِ طَرِيقَ اللَّيْثِ وَطَرِيقَ ابْنِ وَهْبٍ، وَزَادَ مَعَ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ رَجُلًا مُبْهَمًا، وَبَيَّنَ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي رِوَايَتِهِ أَنَّهُ ابْنُ لَهِيعَةَ.
قَوْلُهُ: (ظَلَمْتُ نَفْسِي) أَيْ بِمُلَابَسَةِ مَا يَسْتَوْجِبُ الْعُقُوبَةَ أَوْ يُنْقِصُ الْحَظَّ. وَفِيهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَعْرَى عَنْ تَقْصِيرٍ وَلَوْ كَانَ صِدِّيقًا: قَوْلُهُ: (وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ) فِيهِ إِقْرَارٌ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَاسْتِجْلَابٌ لِلْمَغْفِرَةِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} الْآيَةُ، فَأَثْنَى عَلَى الْمُسْتَغْفِرِينَ وَفِي ضِمْنِ ثَنَائِهِ عَلَيْهِمْ بِالِاسْتِغْفَارِ لَوَّحَ بِالْأَمْرِ بِهِ كَمَا قِيلَ: إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ أَثْنَى اللَّهُ عَلَى فَاعِلِهِ فَهُوَ آمِرٌ بِهِ، وَكُلُّ شَيْءٍ ذَمَّ فَاعِلَهُ فَهُوَ نَاهٍ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ) قَالَ الطِّيبِيُّ: دَلَّ التَّنْكِيرُ عَلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ غُفْرَانٌ عَظِيمٌ لَا يُدْرَكُ كُنْهُهُ، وَوَصَفَهُ بِكَوْنِهِ مِنْ عِنْدِهِ سبحانه وتعالى مُرِيدًا لِذَلِكَ الْعِظَمِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَكُونُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَا يُحِيطُ بِهِ وَصْفٌ.
وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا الْإِشَارَةُ إِلَى التَّوْحِيدِ الْمَذْكُورِ كَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَفْعَلُ هَذَا إِلَّا أَنْتَ فَافْعَلْهُ لِي أَنْتَ، وَالثَّانِي - وَهُوَ أَحْسَنُ - أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى طَلَبِ مَغْفِرَةٍ مُتَفَضَّلٍ بِهَا لَا يَقْتَضِيهَا سَبَبٌ مِنَ الْعَبْدِ مِنْ عَمَلٍ حَسَنٍ وَلَا غَيْرِهِ. انْتَهَى. وَبِهَذَا الثَّانِي جَزَمَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ؛ فَقَالَ: الْمَعْنَى هَبْ لِيَ الْمَغْفِرَةَ تَفَضُّلًا وَإِنْ لَمْ أَكُنْ لَهَا أَهْلًا بِعَمَلِي.
قَوْلُهُ: (إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) هُمَا صِفَتَانِ ذُكِرَتَا خَتْمًا لِلْكَلَامِ عَلَى جِهَةِ الْمُقَابَلَةِ لِمَا تَقَدَّمَ، فَالْغَفُورُ مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ اغْفِرْ لِي، وَالرَّحِيمُ مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ ارْحَمْنِي، وَهِيَ مُقَابَلَةٌ مُرَتَّبَةٌ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ أَيْضًا اسْتِحْبَابُ طَلَبِ التَّعْلِيمِ مِنَ الْعَالِمِ، خُصُوصًا فِي الدَّعَوَاتِ الْمَطْلُوبُ فِيهَا جَوَامِعُ الْكَلِمِ. وَلَمْ يُصَرِّحْ فِي الْحَدِيثِ بِتَعْيِينِ مَحَلِّهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ كَلَامُ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي ذَلِكَ فِي أَوَائِلِ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، قَالَ: وَلَعَلَّهُ تَرَجَّحَ كَوْنُهُ فِيمَا بَعْدَ التَّشَهُّدِ لِظُهُورِ الْعِنَايَةِ بِتَعْلِيمِ دُعَاءٍ مَخْصُوصٍ فِي هَذَا الْمَحَلِّ. وَنَازَعَهُ الْفَاكِهَانِيُّ فَقَالَ: الْأَوْلَى الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَحَلَّيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، أَيِ السُّجُودِ وَالتَّشَهُّدِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: اسْتِدْلَالُ الْبُخَارِيِّ صَحِيحٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ فِي صَلَاتِي يَعُمُّ جَمِيعَهَا، وَمِنْ مَظَانِّهِ هَذَا الْمَوْطِنُ. قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سُؤَالُ أَبِي بَكْرٍ عَنْ ذَلِكَ كَانَ عِنْدَ قَوْلِهِ لَمَّا عَلَّمَهُمُ التَّشَهُّدَ: ثُمَّ لْيَتَخَيَّرْ مِنَ الدُّعَاءِ مَا شَاءَ، وَمِنْ ثَمَّ أَعْقَبَ الْمُصَنِّفُ التَّرْجَمَةَ بِذَلِكَ.
150 - بَاب مَا يُتَخَيَّرُ مِنْ الدُّعَاءِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ
835 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ الْأَعْمَشِ، حَدَّثَنِي شَقِيقٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كُنَّا إِذَا كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّلَاةِ قُلْنَا: السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ مِنْ عِبَادِهِ، السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا تَقُولُوا السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ، وَلَكِنْ قُولُوا: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَة اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ؛ فَإِنَّكُمْ إِذَا قُلْتُمْ: أَصَابَ كُلَّ عَبْدٍ فِي السَّمَاءِ أَوْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنْ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ فَيَدْعُو.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يَتَخَيَّرُ مِنَ الدُّعَاءِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ) يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الدُّعَاءَ السَّابِقَ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ لَا
يَجِبُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَرَدَ بِصِيغةِ الْأَمْرِ كَمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ، لِقَوْلِهِ فِي آخِرِ حَدِيثِ التَّشَهُّدِ: ثُمَّ لْيَتَخَيَّرْ، وَالْمَنْفِيُّ وُجُوبُهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءَ الَّذِي لَا يَجِبُ دُعَاءٌ مَخْصُوصٌ، وَهَذَا وَاضِحٌ مُطَابِقٌ لِلْحَدِيثِ، وَإِنْ كَانَ التَّخْيِيرُ مَأْمُورًا بِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَنْفِيُّ التَّخْيِيرَ، وَيُحْمَلُ الْأَمْرُ الْوَارِدُ بِهِ عَلَى النَّدْبِ، وَيَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ.
قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: لَيْسَ التَّخْيِيرُ فِي آحَادِ الشَّيْءِ بِدَالٍّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ، فَقَدْ يَكُونُ أَصْلُ الشَّيْءِ وَاجِبًا وَيَقَعُ التَّخْيِيرُ فِي وَصْفِهِ. وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: قَوْلُهُ: ثُمَّ لْيَتَخَيَّرْ، وَإِنْ كَانَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ لَكِنَّهَا كَثِيرًا مَا تَرِدُ لِلنَّدْبِ، وَادَّعَى بَعْضُهُمُ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ طَاوُسٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَرَى وُجُوبَ الِاسْتِعَاذَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَهُ: هَلْ قَالَهَا بَعْدَ التَّشَهُّدِ؟ فَقَالَ: لَا، فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ. وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ. وَأَفْرَطَ ابْنُ حَزْمٍ فَقَالَ بِوُجُوبِهَا فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ أَيْضًا، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَوْلَا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ: ثُمَّ لْيَتَخَيَّرْ مِنَ الدُّعَاءِ، لَقُلْتُ بِوُجُوبِهَا، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ التَّشَهُّدِ، وَادَّعَى أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ مِنْ أَتْبَاعِهِ وَالطَّحَاوِيُّ وَآخَرُونَ أَنَّهُ لَمْ يُسْبَقْ إِلَى ذَلِكَ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى نَدْبِيَّتِهَا بِحَدِيثِ الْبَابِ مَعَ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ وَرَدَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ، وَالشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِمَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْقَوْلِ بِالْوُجُوبِ.
وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ صَحَّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَاوِي حَدِيثِ الْبَابِ مَا يَقْتَضِيهِ، فَعِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى أَبِي الْأَحْوَصِ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: يَتَشَهَّدُ الرَّجُلُ فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ يَدْعُو لِنَفْسِهِ بَعْدُ.
وَقَدْ وَافَقَ الشَّافِعِيُّ، أَحْمَدَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَبَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ أَيْضًا بِالْوُجُوبِ، لَكِنْ قَالَ: إِنْ تَرَكَهَا نَاسِيًا رَجَوْتُ أَنْ يُجْزِئَهُ، فَقِيلَ: إِنَّ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَيْنِ كَأَحْمَدَ، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ يَرَاهَا وَاجِبَةً لَا شَرْطًا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَيَّدَ تَفَرُّدَ الشَّافِعِيِّ بِكَوْنِهِ عَيَّنَهَا بَعْدَ التَّشَهُّدِ لَا قَبْلَهُ وَلَا فِيهِ، حَتَّى لَوْ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي أَثْنَاءِ التَّشَهُّدِ مَثَلًا لَمْ يُجْزِئْ عِنْدَهُ. وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِهَذَا فِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ لْيَتَخَيَّرْ مِنَ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ فَيَدْعُو)، زَادَ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ مُسَدَّدٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ: فَيَدْعُو بِهِ، وَنَحْوَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِلَفْظِ: فَلْيَدْعُ بِهِ، وَلِإِسْحَاقَ، عَنْ عِيسَى، عَنْ الْأَعْمَشِ: ثُمَّ لْيَتَخَيَّرْ مِنَ الدُّعَاءِ مَا أَحَبَّ، وَفِي رِوَايَةِ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الدَّعَوَاتِ: ثُمَّ لْيَتَخَيَّرْ مِنَ الثَّنَاءِ مَا شَاءَ، وَنَحْوُهُ لِمُسْلِمٍ بِلَفْظِ: مِنَ الْمَسْأَلَةِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ بِمَا اخْتَارَ الْمُصَلِّي مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: خَالَفَ فِي ذَلِكَ النَّخَعِيُّ، وَطَاوُسٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ؛ فَقَالُوا: لَا يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ إِلَّا بِمَا يُوجَدُ فِي الْقُرْآنِ، كَذَا أَطْلَقَ هُوَ وَمَنْ تَبِعَهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْمَعْرُوفُ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ إِلَّا بِمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ، وَعِبَارَةُ بَعْضِهِمْ: مَا كَانَ مَأْثُورًا، قَالَ قَائِلهُمْ: وَالْمَأْثُورُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا أَوْ غَيْرَ مَرْفُوعٍ، لَكِنَّ ظَاهِرَ حَدِيثِ الْبَابِ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ، وَكذا يَرُدُّ عَلَى قَوْلِ ابْنِ سِيرِينَ: لَا يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ إِلَّا بِأَمْرِ الْآخِرَةِ، وَاسْتَثْنَى بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ مَا يُقَبَّحُ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا، فَإِنْ أَرَادَ الْفَاحِشَ مِنَ اللَّفْظِ فَمُحْتَمَلٌ، وَإِلَّا فَلَا شَكَّ أَنَّ الدُّعَاءَ بِالْأُمُورِ الْمُحَرَّمَةِ مُطْلَقًا لَا يَجُوزُ، وَقَدْ وَرَدَ فِيمَا يُقَالُ بَعْدَ التَّشَهُّدِ أَخْبَارٌ مِنْ أَحْسَنِهَا مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عُمَيْرِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ - يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ - يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ يَقُولُ: إِذَا
فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنَ التَّشَهُّدِ فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ. اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَكَ مِنْهُ عِبَادُكَ الصَّالِحُونَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا اسْتَعَاذَكَ مِنْهُ عِبَادُكَ الصَّالِحُونَ. {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} الْآيَةُ. قَالَ: وَيَقُولُ: لَمْ
يَدْعُ نَبِيٌّ وَلَا صَالِحٌ بِشَيْءٍ إِلَّا دَخَلَ فِي هَذَا الدُّعَاءِ. وَهَذَا مِنَ الْمَأْثُورِ غَيْرِ مَرْفُوعٍ، وَلَيْسَ هُوَ مِمَّا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْبَيْهَقِيُّ بِالْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: ثُمَّ لْيَتَخَيَّرْ مِنَ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ فَيَدْعُو بِهِ. وَبِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: إِذَا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنَ التَّشَهُّدِ فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ. . الْحَدِيثَ. وَفِي آخِرِهِ: ثُمَّ يَدْعُو لِنَفْسِهِ بِمَا بَدَا لَهُ، هَكَذَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَأَصْلُ الْحَدِيثِ فِي مُسْلِمٍ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ صَحِيحَةٌ لِأَنَّهَا مِنَ الطَّرِيقِ الَّتِي أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ.
151 - بَاب مَنْ لَمْ يَمْسَحْ جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ حَتَّى صَلَّى
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: رَأَيْتُ الْحُمَيْدِيَّ يَحْتَجُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْ لَا يَمْسَحَ الْجَبْهَةَ فِي الصَّلَاةِ
836 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، فَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْجُدُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ، حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ فِي جَبْهَتِهِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ لَمْ يَمْسَحْ جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ حَتَّى صَلَّى)، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ مَا حَاصِلُهُ: ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ الْمُسْتَدَلَّ وَدَلِيلَهُ، ووَكَّلَ الْأَمْرَ فِيهِ لِنَظَرِ الْمُجْتَهِدِ هَلْ يُوَافِقُ الْحُمَيْدِيَّ أَوْ يُخَالِفُهُ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِمَا يَتَطَرَّقُ إِلَى الدَّلِيلِ مِنَ الِاحْتِمَالَاتِ، لِأَنَّ بَقَاءَ أَثَرِ الطِّينِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ مَسْحِ الْجَبْهَةِ، إِذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَسَحَهَا وَبَقِيَ الْأَثَرُ بَعْدَ الْمَسْحِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَرَكَ الْمَسْحَ نَاسِيًا أَوْ تَرَكَهُ عَامِدًا لِتَصْدِيقِ رُؤْيَاهُ، أَوْ لِكَوْنِهِ لَمْ يَشْعُرْ بِبَقَاءِ أَثَرِ الطِّينِ فِي جَبْهَتِهِ، أَوْ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، أَوْ لِأَنَّ تَرْكَ الْمَسْحِ أَوْلَى لِأَنَّ الْمَسْحَ عَمَلٌ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا، وَإِذَا تَطَرَّقَتْ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتُ لَمْ يَنْهَضْ الِاسْتِدْلَالُ، لَا سِيَّمَا وَهُوَ فِعْلٌ مِنَ الْجِبِلِّيَّاتِ لَا مِنَ الْقُرَبِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ الْمُصَنِّفُ، وَالْحُمَيْدِيُّ هُوَ شَيْخُهُ الْمَشْهُورُ أَحَدُ تَلَامِذَةِ الشَّافِعِيِّ.
قَوْلُهُ: (يَحْتَجُّ بِهَذَا) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ يُوَافِقُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَتَعَقَّبْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ وَأَنَّهُ إِنِ احْتَجَّ بِهِ عَلَى الْمَنْعِ جُمْلَةً لَمْ يَسْلَمْ مِنَ الِاعْتِرَاضِ وَأَنَّ التَّرْكَ أَوْلَى.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا هِشَامٌ) هُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ، وَيَحْيَى هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ) هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَثَرٍ خَفِيفٍ لَا يَمْنَعُ مُبَاشَرَةَ الْجَبْهَةِ لِلسُّجُودِ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَى فَوَائِدِهِ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
152 - بَاب التَّسْلِيمِ
837 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ هِنْدٍ بِنْتِ الْحَارِثِ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَلَّمَ قَامَ النِّسَاءُ حِينَ يَقْضِي تَسْلِيمَهُ، وَمَكَثَ يَسِيرًا قَبْلَ أَنْ يَقُومَ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأُرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ مُكْثَهُ لِكَيْ يَنْفُذَ النِّسَاءُ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُنَّ مَنْ انْصَرَفَ مِنْ الْقَوْمِ.
[الحديث 837 - طرفاه في: 850، 849]
قَوْلُهُ: (بَابُ التَّسْلِيمِ) أَيْ مِنَ الصَّلَاةِ، قِيلَ: لَمْ يَذْكُرِ الْمُصَنِّفُ حُكْمَهُ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ عِنْدَهُ فِي الْوُجُوبِ وَعَدَمِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ الْوُجُوبُ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ حَيْثُ جَاءَ فِيهِ: كَانَ إِذَا سَلَّمَ؛ لِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِتَحَقُّقِ مُوَاظَبَتِهِ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي. وَحَدِيثِ تَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ. أَمَّا حَدِيثُ: إِذَا
أَحْدَثَ وَقَدْ جَلَسَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ فَقَدْ جَازَتْ صَلَاتُهُ. فَقَدْ ضَعَّفَهُ الْحُفَّاظُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ فَوَائِدِهِ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ.
(تَنْبِيهٌ): لَمْ يَذْكُرْ عَدَدَ التَّسْلِيمِ، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَاصٍّ التَّسْلِيمَتَيْنِ، وَذَكَرَ الْعُقَيْلِيُّ وَابْنُ عَبْدِ البر أَنَّ حَدِيثَ التَّسْلِيمَةِ الْوَاحِدَةِ مَعْلُولٌ، وَبَسَطَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ.
153 - بَاب يُسَلِّمُ حِينَ يُسَلِّمُ الْإِمَامُ
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَسْتَحِبُّ إِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ أَنْ يُسَلِّمَ مَنْ خَلْفَهُ
838 -
حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ عِتْبَانَ، قَالَ: صَلَّيْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فَسَلَّمْنَا حِينَ سَلَّمَ.
قَوْلُهُ: (بَابٌ يُسَلِّمُ) أَيِ الْمَأْمُومُ (حِينَ يُسَلِّمُ الْإِمَامُ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: تُرْجِمَ بِلَفْظِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَبْتَدِئُ السَّلَامَ بَعْدَ ابْتِدَاءِ الْإِمَامِ لَهُ، فَيَشْرَعُ الْمَأْمُومُ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يُتِمَّهُ الْإِمَامُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الْمَأْمُومَ يَبْتَدِئُ السَّلَامَ إِذَا أَتَمَّهُ الْإِمَامُ، قَالَ: فَلَمَّا كَانَ مُحْتَمِلًا لِلْأَمْرَيْنِ وُكِّلَ النَّظَرُ فِيهِ إِلَى الْمُجْتَهِدِ. انْتَهَى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَنَّ الثَّانِيَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُ الصُّورَتَيْنِ، فَأَيَّهُمَا فَعَلَ الْمَأْمُومُ جَازَ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ الْمَأْمُومُ فِي سَلَامِهِ بَعْدَ الْإِمَامِ مُتَشَاغِلًا بِدُعَاءٍ وَغَيْرِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَالْأَثَرُ الْمَذْكُورُ لَمْ أَقِفْ عَلَى مَنْ وَصَلَهُ، لَكِنْ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَا يُعْطِي مَعْنَاهُ.
وقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ عِتْبَانَ مُطَوَّلًا فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ، وَأَوْرَدَهُ هُنَا مُخْتَصَرًا جِدًّا. وَفِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ أَتَمَّ مِنْهُ، وَكِلَاهُمَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ.
154 - بَاب مَنْ لَمْ يَرَ رَدَّ السَّلَامِ عَلَى الْإِمَامِ وَاكْتَفَى بِتَسْلِيمِ الصَّلَاةِ
839 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ عَقَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَعَقَلَ مَجَّةً مَجَّهَا مِنْ دَلْوٍ كَانَ فِي دَارِهِمْ.
840 -
قَالَ: سَمِعْتُ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ الْأَنْصارِيَّ، ثُمَّ أَحَدَ بَنِي سَالِمٍ، قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي لِقَوْمِي بَنِي سَالِمٍ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم؛ فَقُلْتُ: إِنِّي أَنْكَرْتُ بَصَرِي، وَإِنَّ السُّيُولَ تَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَ مَسْجِدِ قَوْمِي، فَوَدِدْتُ أَنَّكَ جِئْتَ فَصَلَّيْتَ فِي بَيْتِي مَكَانًا حَتَّى أَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا. فَقَالَ: أَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَغَدَا عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ مَعَهُ بَعْدَمَا اشْتَدَّ النَّهَارُ، فَاسْتَأْذَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَأَذِنْتُ لَهُ، فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى قَالَ: أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ؟ فَأَشَارَ إِلَيْهِ مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي أَحَبَّ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ؛ فَقَامَ فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ، ثُمَّ سَلَّمَ وَسَلَّمْنَا حِينَ سَلَّمَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ لَمْ يَرُدَّ السَّلَامَ عَلَى الْإِمَامِ وَاكْتَفَى بِتَسْلِيمِ الصَّلَاةِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ عِتْبَانَ كَمَا ذَكَرْنَا، وَاعْتِمَادُهُ فِيهِ عَلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ سَلَّمَ وَسَلَّمْنَا حِينَ سَلَّمَ؛ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُمْ سَلَّمُوا نَظِيرَ سَلَامِهِ، وَسَلَامُهُ إِمَّا وَاحِدَةٌ وَهِيَ الَّتِي يَتَحَلَّلُ
بِهَا مِنَ الصَّلَاةِ وَإِمَّا هِيَ وَأُخْرَى مَعَهَا، فَيَحْتَاجُ مَنِ اسْتَحَبَّ تَسْلِيمَةً ثَالِثَةً عَلَى الْإِمَامِ بَيْنَ التَّسْلِيمَتَيْنِ - كَمَا تَقُولُهُ الْمَالِكِيَّةُ - إِلَى دَلِيلٍ خَاصٍّ، وَإِلَى رَدِّ ذَلِكَ أَشَارَ الْبُخَارِيُّ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَظُنُّهُ قَصَدَ الرَّدَّ عَلَى مَنْ يُوجِبُ التَّسْلِيمَةَ الثَّانِيَةَ، وَقَدْ نَقَلَهُ الطَّحَاوِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ. انْتَهَى. وَفِي هَذَا الظَّنِّ بُعْدٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَزَعَمَ) الزَّعْمُ يُطْلَقُ عَلَى الْقَوْلِ الْمُحَقَّقِ وَعَلَى الْقَوْلِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ وَعَلَى الْكَذِبِ، وَيَنْزِلُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُنَا الْأَوَّلُ، لِأَنَّ مَحْمُودَ بْنَ الرَّبِيعِ مُوَثَّقٌ عِنْدَ الزُّهْرِيِّ، فَقَوْلُهُ عِنْدَهُ مَقْبُولٌ.
قَوْلُهُ: (مِنْ دَلْوٍ كَانَتْ فِي دَارِهِمْ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: كَانَتْ صِفَةً لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ أَيْ مِنْ بِئْرٍ كَانَتْ فِي دَارِهِمْ، وَلَفْظُ الدَّلْوِ يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلِ الدَّلْوُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ.
قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيَّ ثُمَّ أَحَدَ بَنِي سَالِمٍ) بِنَصْبِ أَحَدٍ عَطْفًا عَلى قَوْلِهِ الْأَنْصَارِيَّ، وَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ الْأَنْصَارِيَّ ثُمَّ السَّالِمِيَّ، هَذَا الَّذِي يَكَادُ مَنْ لَهُ أَدْنَى مُمَارَسَةٍ بِمَعْرِفَةِ الرِّجَالِ أَنْ يَقْطَعَ بِهِ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى عِتْبَانَ يَعْنِي سَمِعْتُ عِتْبَانَ، ثُمَّ سَمِعْتُ أَحَدَ بَنِي سَالِمٍ أَيْضًا، قَالَ: وَالْمُرَادُ بِهِ فِيمَا يَظْهَرُ الْحُصَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، فَكَأَنَّ مَحْمُودًا سَمِعَ مِنْ عِتْبَانَ، وَمِنْ الْحُصَيْنِ. قَالَ: وَهُوَ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْمَسَاجِدِ فِي الْبُيُوتِ أَنَّ الزُّهْرِيَّ هُوَ الَّذِي سَمِعَ مَحْمُودًا، وَالْحُصَيْنَ، قَالَ: وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا لِاحْتِمَالِ أَنَّ الزُّهْرِيَّ، وَمَحْمُودًا سَمِعَا جَمِيعًا مِنَ الْحُصَيْنِ، قَالَ: وَلَوْ رُوِيَ بِرَفْعِ أَحَدٍ بِأَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى مَحْمُودٍ لَسَاغَ وَوَافَقَ الرِّوَايَةَ الْأُولَى، يَعْنِي فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ: قَالَ الزُّهْرِيُّ:، أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ ثُمَّ أَخْبَرَنِي أَحَدُ بَنِي سَالِمٍ أَيِ الْحُصَيْنُ. انْتَهَى.
وَكَأَنَّ الْحَامِلَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ فِي الرِّوَايَةِ السَّابِقَةِ: ثُمَّ سَأَلْتُ الْحُصَيْنَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْأَنْصَارِيَّ وَهُوَ أَحَدُ بَنِي سَالِمٍ؛ فَكَأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ ثُمَّ أَحَدَ بَنِي سَالِمٍ هُنَا؛ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ أَحَدُ بَنِي سَالِمٍ هُنَاكَ، وَلَا حَاجَةَ لِذَلِكَ، فَإِنَّ عِتْبَانَ مِنْ بَنِي سَالِمٍ أَيْضًا، وَهُوَ عِتْبَانُ بْنُ مَالِكِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَجْلَانِ بْنِ زِيَادِ بْنِ غُنْمِ بْنِ سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ، وَقِيلَ فِي نَسَبِهِ غَيْرُ ذَلِكَ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ بَنِي سَالِمٍ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّقْدِيرِ فِي إِدْخَالِ أَخْبَرَنِي بَيْنَ ثُمَّ وَأَحَدٍ، وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الَّذِي ذَكَرَهُ إِشْكَالٌ آخَرُ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الْحُصَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ هُوَ صَاحِبَ الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ، أَوْ أَنَّهَا تَعَدَّدَتْ لَهُ وَلِعِتْبَانَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْحُصَيْنَ الْمَذْكُورَ لَا صُحْبَةَ لَهُ، بَلْ لَمْ أَرَ مَنْ ذَكَرَ أَبَاهُ فِي الصَّحَابَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، الْحُصَيْنَ بْنَ مُحَمَّدٍ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ شَيْخًا غَيْرَ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ، وَنُقِلَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رِوَايَتَهُ عَنْهُ مُرْسَلَةٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي الرِّجَالِ لِمَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ رِوَايَةً عَنِ الْحُصَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (فَلَوَدِدْتُ) أَيْ فَوَاللَّهِ لَوَدِدْتُ.
قَوْلُهُ: (اشْتَدَّ النَّهَارُ) أَيِ ارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ.
قَوْلُهُ: (فَأَشَارَ إِلَيْهِ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي أَحَبَّ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ)، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: فَاعِلُ أَشَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَمِنْ لِلتَّبْعِيضِ، قَالَ: وَلَا يُنَافِي مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ قَالَ: فَأَشَرْتُ لَهُ إِلَى الْمَكَانِ، لَا مَكَانَ وُقُوعِ الْإِشَارَتَيْنِ مِنْهُ وَمِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِمَّا مَعًا وَإِمَّا سَابِقًا وَلَاحِقًا. قُلْتُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ فَاعِلَ أَشَارَ هُوَ عِتْبَانُ، لَكِنْ فِيهِ الْتِفَاتٌ، إِذْ ظَاهِرُ السِّيَاقِ أَنْ يَقُولَ: فَأَشَرْتُ إِلَخْ، وَبِهَذَا تَتَوَافَقُ الرِّوَايَاتُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
155 - بَاب الذِّكْرِ بَعْدَ الصَّلَاةِ
841 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرٌو أَنَّ أَبَا مَعْبَدٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ حِينَ
يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنْ الْمَكْتُوبَةِ كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُنْتُ أَعْلَمُ إِذَا انْصَرَفُوا بِذَلِكَ إِذَا سَمِعْتُهُ.
الحديث 841 - طرفه 842]
842 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو مَعْبَدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ كُنْتُ أَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالتَّكْبِيرِ
843 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ سُمَيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ جَاءَ الْفُقَرَاءُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ مِنْ الأَمْوَالِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَا وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ وَلَهُمْ فَضْلٌ مِنْ أَمْوَالٍ يَحُجُّونَ بِهَا وَيَعْتَمِرُونَ وَيُجَاهِدُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ قَالَ أَلَا أُحَدِّثُكُمْ إِنْ أَخَذْتُمْ أَدْرَكْتُمْ مَنْ سَبَقَكُمْ وَلَمْ يُدْرِكْكُمْ أَحَدٌ بَعْدَكُمْ وَكُنْتُمْ خَيْرَ مَنْ أَنْتُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ إِلاَّ مَنْ عَمِلَ مِثْلَهُ تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ وَتُكَبِّرُونَ خَلْفَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ فَاخْتَلَفْنَا بَيْنَنَا فَقَالَ بَعْضُنَا نُسَبِّحُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَنَحْمَدُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَنُكَبِّرُ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ تَقُولُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ حَتَّى يَكُونَ مِنْهُنَّ كُلِّهِنَّ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ
[الحديث 843 - طرفه في: 6329]
844 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ وَرَّادٍ كَاتِبِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ أَمْلَى عَلَيَّ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فِي كِتَابٍ إِلَى مُعَاوِيَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ"
وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ بِهَذَا وَعَنْ الْحَكَمِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ عَنْ وَرَّادٍ بِهَذَا وَقَالَ الْحَسَنُ الْجَدُّ غِنًى "
[الحديث 844 - أطرافه في: 7292، 6615، 6473، 6330، 5975، 2408، 1477]
قَوْلُهُ: (بَابُ الذِّكْرِ بَعْدَ الصَّلَاةِ) أَوْرَدَ فِيهِ أَوَّلًا حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهمَا أَتَمُّ مِنَ الْآخِرِ، وَأَغْرَبَ الْمِزِّيُّ فَجَعَلَهُمَا حَدِيثَيْنِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُمَا حَدِيثٌ وَاحِدٌ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي عَمْرٌو) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ الْمَكِّيُّ.
قَوْلُهُ: (كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ يُحْكَمُ لَهُ بِالرَّفْعِ خِلَافًا لِمَنْ شَذَّ وَمَنَعَ ذَلِكَ، وَقَدْ وَافَقَهُ مُسْلِمٌ وَالْجُمْهُورُ عَلَى ذَلِكَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْجَهْرِ
(1)
بِالذِّكْرِ عَقِبَ الصَّلَاةِ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: فِيهِ الْإِبَانَةُ عَنْ صِحَّةِ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ مِنَ التَّكْبِيرِ عَقِبَ الصَّلَاةِ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ بَطَّالٍ بِأَنَّهُ لَمْ يَقِفْ عَلَى ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ
(1)
لو قال " على شرعية الجهر " لكان أصح، والله أعلم
السَّلَفِ إِلَّا مَا حَكَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ فِي الْوَاضِحَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ التَّكْبِيرَ فِي الْعَسَاكِرِ عَقِبَ الصُّبْحِ وَالْعِشَاءِ تَكْبِيرًا عَالِيًا ثَلَاثًا، قَالَ: وَهُوَ قَدِيمٌ مِنْ شَأْنِ النَّاسِ.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَفِي الْعُتْبِيَّةِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ ذَلِكَ مُحْدَثٌ. قَالَ: وَفِي السِّيَاقِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُونُوا يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالذِّكْرِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي قَالَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا قَالَ. قُلْتُ: فِي التَّقْيِيدِ بِالصَّحَابَةِ نَظَرٌ، بَلْ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: حَمَلَ الشَّافِعِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّهُمْ جَهَرُوا بِهِ وَقْتًا يَسِيرًا لِأَجْلِ تَعْلِيمِ صِفَةِ الذِّكْرِ، لَا أَنَّهُمْ دَاوَمُوا عَلَى الْجَهْرِ بِهِ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْإِمَامَ وَالْمَأْمُومَ يُخْفِيَانِ الذِّكْرَ إِلَّا إِنِ احْتِيجَ إِلَى التَّعْلِيمِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمُبْدَأِ بِهِ
(1)
كَمَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ.
قَوْلُهُ: (كُنْتُ أَعْلَمُ) فِيهِ إِطْلَاقُ الْعِلْمِ عَلَى الْأَمْرِ الْمُسْتَنِدِ إِلَى الظَّنِّ الْغَالِبِ.
قَوْلُهُ: (إِذَا انْصَرَفُوا) أَيْ أَعْلَمُ انْصِرَافَهُمْ بِذَلِكَ أَيْ بِرَفْعِ الصَّوْتِ إِذَا سَمِعْتُهُ أَيِ الذِّكْرَ، وَالْمَعْنَى كُنْتُ أَعْلَمُ بِسَمَاعِ الذِّكْرِ انْصِرَافَهُمْ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي عَلِيٌّ) هُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ، وَسُفْيَانُ هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَعَمْرٌو هُوَ ابْنُ دِينَارٍ.
قَوْلُهُ: (كُنْتُ أَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالتَّكْبِيرِ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ، وَلَفْظُهُ: مَا كُنَّا نَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا بِالتَّكْبِيرِ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، عَنْ سُفْيَانَ، وَاخْتُلِفَ فِي كَوْنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ ذَلِكَ، فَقَالَ عِيَاضٌ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَحْضُرُ الْجَمَاعَةَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ صَغِيرًا مِمَّنْ لَا يُوَاظِبُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يُلْزَمُ بِهِ، فَكَانَ يَعْرِفُ انْقِضَاءَ الصَّلَاةِ بِمَا ذَكَرَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا فِي أَوَاخِرِ الصُّفُوفِ فَكَانَ لَا يَعْرِفُ انْقِضَاءَهَا بِالتَّسْلِيمِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَعْرِفُهُ بِالتَّكْبِيرِ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُبَلِّغٌ جَهِيرُ الصَّوْتِ يُسْمِعُ مَنْ بَعُدَ.
قَوْلُهُ: (بِالتَّكْبِيرِ) هُوَ أَخَصُّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ الَّتِي قَبْلَهَا، لِأَنَّ الذِّكْرَ أَعَمُّ مِنَ التَّكْبِيرِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ مُفَسِّرَةً لِذَلِكَ فَكَانَ الْمُرَادُ أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ أَيْ بِالتَّكْبِيرِ، وَكَأَنَّهُمْ كَانُوا يَبْدَءُونَ بِالتَّكْبِيرِ بَعْدَ الصَّلَاةِ قَبْلَ التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ عَلِيٌّ) هُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ الْمَذْكُورُ، وَثَبَتَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، والْكُشْمِيهَنِيِّ، وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ الْمَذْكُورَةِ: قَالَ عَمْرٌو - يَعْنِي ابْنَ دِينَارٍ - وَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِأَبِي مَعْبَدٍ بَعْدُ فَأَنْكَرَهُ، وَقَالَ: لَمْ أُحَدِّثْكَ بِهَذَا. قَالَ عَمْرٌو: قَدْ أَخْبَرْتَنِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ بَعْدَ أَنْ رَوَاهُ عَنْ سُفْيَانَ كَأَنَّهُ نَسِيَهُ بَعْدَ أَنْ حَدَّثَهُ بِهِ. انْتَهَى.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُسْلِمًا كَانَ يَرَى صِحَّةَ الْحَدِيثِ وَلَوْ أَنْكَرَهُ رَاوِيهِ إِذَا كَانَ النَّاقِلُ عَنْهُ عَدْلًا، وَلِأَهْلِ الْحَدِيثِ فِيهِ تَفْصِيلٌ: قَالُوا إِمَّا أَنْ يَجْزِمَ بِرَدِّهِ أَوْ لَا، وَإِذَا جَزَمَ فَإِمَّا أَنْ يُصَرِّحَ بِتَكْذِيبِ الرَّاوِي عَنْهُ أَوْ لَا فَإِنْ لَمْ يَجْزِمْ بِالرَّدِّ كَأَنْ قَالَ لَا أَذْكُرُهُ؛ فَهُوَ مُتَّفَقٌ عِنْدَهُمْ عَلَى قَبُولِهِ
(2)
؛ لِأَنَّ الْفَرْعَ ثِقَةٌ وَالْأَصْلَ لَمْ يَطْعَنْ فِيهِ، وَإِنْ جَزَمَ وَصَرَّحَ بِالتَّكْذِيبِ فَهُوَ مُتَّفَقٌ عِنْدَهُمْ عَلَى رَدِّهِ لِأَنَّ جَزْمَ الْفَرْعِ بِكَوْنِ الْأَصْلِ حَدَّثَهُ يَسْتَلْزِمُ تَكْذِيبَ الْأَصْلِ فِي دَعْوَاهُ أَنَّهُ كَذَبَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ قَبُولُ قَوْلِ أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، وَإِنْ جَزَمَ بِالرَّدِّ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالتَّكْذِيبِ فَالرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ قَبُولُهُ. وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَاخْتَلَفُوا: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ إِلَى الْقَبُولِ، وَعَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ لَا يُقْبَلُ قِيَاسًا عَلَى الشَّاهِدِ، وَلِلْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ نَحْوُ مَا تَقَدَّمَ وَزَادَ.
فَإِنْ كَانَ الْفَرْعُ مُتَرَدِّدًا فِي سَمَاعِهِ وَالْأَصْلُ جَازِمًا بِعَدَمِهِ سَقَطَ لِوُجُودِ التَّعَارُضِ، وَمُحَصَّلُ كَلَامِهِ آنِفًا أَنَّهُمَا إِنْ تَسَاوَيَا فَالرَّدُّ، وَإِنْ رُجِّحَ أَحَدُهُمَا عُمِلَ بِهِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَمْثِلَتِهِ، وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ إِنَّمَا نَفَى أَبُو
(1)
كذا في الأصلين ولعله " المبدوء به"
(2)
في حكاية الإتفاق نظر، فقد حكى المؤلف في النخبة وشرحها والوراق في الأفية اختلاف في ذلك
مَعْبَدٍ التَّحْدِيثَ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ نَفْيُ الْإِخْبَارِ، وَهُوَ الَّذِي وَقَعَ مِنْ عَمْرٍو وَلَا مُخَالَفَةَ، وَتَرُدُّهُ الرِّوَايَةُ الَّتِي فِيهَا فَأَنْكَرَهُ، وَلَوْ كَانَ كَمَا زَعَمَ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إِنْكَارٌ، وَلِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ التَّحْدِيثِ وَالْإِخْبَارِ إِنَّمَا حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَفِي كُتُبِ الْأُصُولِ حِكَايَةُ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ، وَسُمَيٌّ هُوَ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَهُمَا مَدَنِيَّانِ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ، وَلَمْ أَقِفْ لِسُمَيٍّ عَلَى رِوَايَةٍ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ الْكَبِيرِ عَنِ الصَّغِيرِ، وَهُمَا مَدَنِيَّانِ وَكَذَا أَبُو صَالِحٍ.
قَوْلُهُ: (جَاءَ الْفُقَرَاءُ) سُمِّيَ مِنْهُمْ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَبُو ذَرٍّ الْغِفَارِيُّ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَأَخْرَجَهُ جَعْفَرٌ الْفِرْيَابِيُّ فِي كِتَابِ الذِّكْرِ لَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ نَفْسِهِ، وَسُمِّيَ مِنْهُمْ أَبُو الدَّرْدَاءِ عِنْدَ النَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ طُرُقٍ عَنْهُ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ مِنْهُمْ. وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: أُمِرْنَا أَنْ نُسَبِّحَ الْحَدِيثَ كَمَا سَيَأْتِي لَفْظُهُ، وَهَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ إِنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ كَانَ مِنْهُمْ، وَلَا يُعَارِضُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ سُمَيٍّ عِنْدَ مُسْلِمٍ: جَاءَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ لِكَوْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مِنَ الْأَنْصَارِ لِاحْتِمَالِ التَّغْلِيبِ.
قَوْلُهُ: (الدُّثُورِ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُثَلَّثَةِ جَمْعُ دَثْرٍ بِفَتْحٍ ثُمَّ سُكُونٍ هُوَ الْمَالُ الْكَثِيرُ، وَمِنْ فِي قَوْلِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ لِلْبَيَانِ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْخَطَّابِيِّ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّورِ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَقَالَ: كَذَا وَقَعَ الدُّورُ جَمْعُ دَارٍ وَالصَّوَابُ الدُّثُورُ. انْتَهَى. وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ عَنْ رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ أَيْضًا الدُّورَ.
قَوْلُهُ: (بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى) بِضَمِّ الْعَيْنِ جَمْعُ الْعَلْيَاءِ وَهِيَ تَأْنِيثُ الْأَعْلَى، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ حِسِّيَّةً، وَالْمُرَادُ دَرَجَاتُ الْجَنَّاتِ، أَوْ مَعْنَوِيَّةً وَالْمُرَادُ عُلُوُّ الْقَدْرِ عِنْدَ اللَّهِ.
قَوْلُهُ: (وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ) وَصَفَهُ بِالْإِقَامَةِ إِشَارَةً إِلَى ضِدِّهِ وَهُوَ النَّعِيمُ الْعَاجِلُ، فَإِنَّهُ قَلَّ مَا يَصْفُو، وَإِنْ صَفَا فَهُوَ بِصَدَدِ الزَّوَالِ. وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَائِشَةَ الْمَذْكُورَةِ ذَهَبَ أَصْحَابُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ، وَكَذَا لِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ، زَادَ الْمُصَنِّفُ فِي الدَّعَوَاتِ مِنْ رِوَايَةِ وَرْقَاءَ، عَنْ سُمَيٍّ قَالَ: كَيْفَ ذَلِكَ؟ وَنَحْوُهُ لِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ سُمَيٍّ.
قَوْلُهُ: (وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ) زَادَ فِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ الْمَذْكُورِ وَيَذْكُرُونَ كَمَا نَذْكُرُ، وَلِلْبَزَّارِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ صَدَّقُوا تَصْدِيقَنَا، وَآمَنُوا إِيمَانَنَا.
قَوْلُهُ: (وَلَهُمْ فَضْلُ أَمْوَالٍ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالْإِضَافَةِ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ فَضْلُ الْأَمْوَالِ ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ فَضْلٌ مِنْ أَمْوَالٍ.
قَوْلُهُ: (يَحُجُّونَ بِهَا) أَيْ وَلَا نَحُجُّ، يُشْكِلُ عَلَيْهِ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ جَعْفَرٍ الْفِرْيَابِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ: وَيَحُجُّونَ كَمَا نَحُجُّ، وَنَظِيرُهُ مَا وَقَعَ هُنَا وَيُجَاهِدُونَ، وَوَقَعَ فِي الدَّعَوَاتِ مِنْ رِوَايَةِ وَرْقَاءَ، عَنْ سُمَيٍّ: وَجَاهَدُوا كَمَا جَاهَدْنَا لَكِنَّ الْجَوَابَ عَنْ هَذَا الثَّانِي ظَاهِرٌ؛ وَهُوَ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْجِهَادِ الْمَاضِي فَهُوَ الَّذِي اشْتَرَكُوا فِيهِ وَبَيْنَ الْجِهَادِ الْمُتَوَقَّعِ، فَهُوَ الَّذِي تَقْدِرُ عَلَيْهِ أَصْحَابُ الْأَمْوَالِ غَالِبًا. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ مِثْلُهُ فِي الْحَجِّ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقْرَأَ يُحِجُّونَ بِهَا بِضَمِّ أَوَّلِهِ مِنَ الرُّبَاعِيِّ أَيْ يُعِينُونَ غَيْرَهُمْ عَلَى الْحَجِّ بِالْمَالِ.
قَوْلُهُ: (وَيَتَصَدَّقُونَ) عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ سُمَيٍّ: وَيَتَصَدَّقُونَ وَلَا نَتَصَدَّقُ، وَيُعْتِقُونَ وَلَا نُعْتِقُ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ بِمَا إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ؟!) فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ بِأَمْرٍ إِنْ أَخَذْتُمْ وَكَذَا لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَسَقَطَ قَوْلُهُ: بِمَا مِنْ أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، وَكَذَا قَوْلُهُ بِهِ وَقَدْ فُسِّرَ السَّاقِطُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَفَلَا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ تَقُولُهُنَّ؟.
قَوْلُهُ: (أَدْرَكْتُمْ مَنْ سَبَقَكُمْ) أَيْ مِنْ أَهْلِ الْأَمْوَالِ الَّذِينَ امْتَازُوا عَلَيْكُمْ بِالصَّدَقَةِ، وَالسَّبْقِيَّةُ هُنَا يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مَعْنَوِيَّةً وَأَنْ تَكُونَ حِسِّيَّةً، قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ وَسَقَطَ قَوْلُهُ مَنْ سَبَقَكُمْ مِنْ رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ.
قَوْلُهُ: (وَكُنْتُمْ خَيْرَ مَنْ أَنْتُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ) بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ
التَّحْتَانِيَّةِ، وَفِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَأَبِي الْوَقْتِ ظَهْرَانَيْهِ بِالْإِفْرَادِ، وَكَذَا لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ. وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَجْلَانَ وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ قِيلَ ظَاهِرُهُ يُخَالِفُ مَا سَبَقَ لِأَنَّ الْإِدْرَاكَ ظَاهِرُهُ الْمُسَاوَاةُ، وَهَذَا ظَاهِرُهُ الْأَفْضَلِيَّةُ. وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْإِدْرَاكَ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْمُسَاوَاةُ فَقَدْ يُدْرِكُ ثُمَّ يَفُوقُ، وَعَلَى هَذَا فَالتَّقَرُّبُ بِهَذَا الذِّكْرِ رَاجِحٌ عَلَى التَّقَرُّبِ بِالْمَالِ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: الضَّمِيُرُ فِي كُنْتُمْ لِلْمَجْمُوعِ مِنَ السَّابِقِ وَالْمُدْرِكِ، وَكَذَا قَوْلُهُ إِلَّا مَنْ عَمِلَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ أَيْ مِنَ الْفُقَرَاءِ فَقَالَ الذِّكْرُ، أَوْ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ فَتَصَدَّقَ، أَوْ أَنَّ الْخِطَابَ لِلْفُقَرَاءِ خَاصَّةً لَكِنْ يُشَارِكُهُمُ الْأَغْنِيَاءُ فِي الْخَيْرِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فَيَكُونُ كُلٌّ مِنَ الصِّنْفَيْنِ خَيْرًا مِمَّنْ لَا يَتَقَرَّبُ بِذِكْرٍ وَلَا صَدَقَةٍ، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ الْبَزَّارِ أَدْرَكْتُمْ مِثْلَ فَضْلِهِمْ، وَلِمُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ لَكُمْ مَا تَتَصَدَّقُونَ؟ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَبِكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً الْحَدِيثُ. وَاسْتُشْكِلَ تَسَاوِي فَضْلِ هَذَا الذِّكْرِ بِفَضْلِ التَّقَرُّبِ بِالْمَالِ مَعَ شِدَّةِ الْمَشَقَّةِ فِيهِ، وَأَجَابَ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الثَّوَابُ عَلَى قَدْرِ الْمَشَقَّةِ فِي كُلِّ حَالَةٍ، وَاسْتُدِلَّ لِذَلِكَ بِفَضْلِ كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ مَعَ سُهُولَتِهَا عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ الشَّاقَّةِ.
قَوْلُهُ: (وَتُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ وَتُكَبِّرُونَ) كَذَا وَقَعَ فِي أَكْثَرِ الْأَحَادِيثِ تَقْدِيمُ التَّسْبِيحِ عَلَى التَّحْمِيدِ وَتَأْخِيرُ التَّكْبِيرِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَجْلَانَ تَقْدِيمُ التَّكْبِيرِ عَلَى التَّحْمِيدِ خَاصَّةً، وَفِيهِ أَيْضًا قَوْلُ أَبِي صَالِحٍ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَمِثْلُهُ لِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ الْحَكَمِ، وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ تُكَبِّرُ وَتَحْمَدُ وَتُسَبِّحُ وَكَذَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. وَهَذَا الِاخْتِلَافُ دَالٌّ عَلَى أَنْ لَا تَرْتِيبَ فِيهَا، وَيُسْتَأْنَسُ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ، لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْأَوْلَى الْبَدَاءَةُ بِالتَّسْبِيحِ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ نَفْيَ النَّقَائِضِ عَنِ الْبَارِي سبحانه وتعالى، ثُمَّ التَّحْمِيدُ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إِثْبَاتَ الْكَمَالِ لَهُ، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ النَّقَائِضِ إِثْبَاتُ الْكَمَالِ. ثُمَّ التَّكْبِيرُ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ النَّقَائِضِ وَإِثْبَاتِ الْكَمَالِ أَنْ يَكُونَ
(1)
هُنَاكَ كَبِيرٌ آخَرُ، ثُمَّ يَخْتِمُ بِالتَّهْلِيلِ الدَّالِّ عَلَى انْفِرَادِهِ سبحانه وتعالى بِجَمِيعِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (خَلْفَ كُلِّ صَلَاةٍ) هَذِهِ الرِّوَايَةُ مُفَسِّرَةٌ لِلرِّوَايَةِ الَّتِي عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الدَّعَوَاتِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ، وَلِجَعْفَرٍ الْفِرْيَابِيِّ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ أَثَرَ كُلِّ صَلَاةٍ، وَأَمَّا رِوَايَةُ دُبُرَ فَهِيَ بِضَمَّتَيْنِ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: دُبُرُ الْأَمْرِ يَعْنِي بِضَمَّتَيْنِ وَدَبْرُهُ يَعْنِي بِفَتْحٍ ثُمَّ سُكُونٍ: آخِرُهُ. وَادَّعَى أَبُو عَمْرٍو الزَّاهِدُ أَنَّهُ لَا يُقَالُ بِالضَّمِّ إِلَّا لِلْجَارِحَةِ، وَرَدَ بِمِثْلِ قَوْلِهِمْ أَعْتَقَ غُلَامَهُ عَنْ دُبُرٍ، وَمُقْتَضَى الْحَدِيثِ أَنَّ الذِّكْرَ الْمَذْكُورَ يُقَالُ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ، فَلَوْ تَأَخَّرَ ذَلِكَ عَنِ الْفَرَاغِ فَإِنْ كَانَ يَسِيرًا بِحَيْثُ لَا يُعَدُّ مُعْرِضًا أَوْ كَانَ نَاسِيًا أَوْ مُتَشَاغِلًا بِمَا وَرَدَ أَيْضًا بَعْدَ الصَّلَاةِ كَآيَةِ الْكُرْسِيِّ فَلَا يَضُرُّ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ كُلِّ صَلَاةٍ يَشْمَلُ الْفَرْضَ وَالنَّفْلَ، لَكِنْ حَمَلَهُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْفَرْضِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ التَّقْيِيدُ بِالْمَكْتُوبَةِ، وَكَأَنَّهُمْ حَمَلُوا الْمُطْلَقَاتِ عَلَيْهَا، وَعَلَى هَذَا هَلْ يَكُونُ التَّشَاغُلُ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ بِالرَّاتِبَةِ بَعْدَهَا فَاصِلًا بَيْنَ الْمَكْتُوبَةِ وَالذِّكْرِ أَوْ لَا؟ مَحَلُّ النَّظَرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَجْمُوعُ لِلْجَمِيعِ فَإِذَا وُزِّعَ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ إِحْدَى عَشْرَةَ، وَهُوَ الَّذِي فَهِمَهُ سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْهُ، لَكِنْ لَمْ يُتَابَعْ سُهَيْلٌ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ لَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْحَدِيثِ كُلِّهَا التَّصْرِيحَ بِإِحْدَى عَشْرَةَ إِلَّا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ الْبَزَّارِ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْمَجْمُوعَ لِكُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ، فَعَلَى هَذَا فَفِيهِ تَنَازُعُ ثلاثة أَفْعَالٍ فِي ظَرْفٍ وَمَصْدَرٍ، وَالتَّقْدِيرُ: تُسَبِّحُونَ خَلْفَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَتَحْمَدُونَ وَتُكَبِّرُونَ كَذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (فَاخْتَلَفْنَا بَيْنَنَا) ظَاهِرُهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ هُوَ
(1)
كذا في الأصلين والصواب "أن لا يكون".
الْقَائِلُ، وَكَذَا قَوْلُهُ فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ وَأَنَّ الَّذِي رَجَعَ أَبُو هُرَيْرَةَ إِلَيْهِ هُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَعَلَى هَذَا فَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ وَقَعَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، لَكِنْ بَيَّنَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ سُمَيٍّ أَنَّ الْقَائِلَ فَاخْتَلَفْنَا هُوَ سُمَيٌّ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي رَجَعَ إِلَى أَبِي صَالِحٍ، وَأَنَّ الَّذِي خَالَفَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ وَلَفْظُهُ: قَالَ سُمَيٌّ: فَحَدَّثْتُ بَعْضَ أَهْلِ هَذَا الْحَدِيثِ، قَالَ: وَهِمْتُ، فَذَكَرَ كَلَامَهُ. قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى أَبِي صَالِحٍ وَعَلَى رِوَايَةِ مُسْلِمٍ اقْتَصَرَ صَاحِبُ الْعُمْدَةٍ، لَكِنْ لَمْ يُوصِلْ مُسْلِمٌ هَذِهِ الزِّيَادَةَ، فَإِنَّهُ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، ثُمَّ قَالَ: زَادَ غَيْرُ قُتَيْبَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنِ اللَّيْثِ، فَذَكَرَهَا. وَالْغَيْرُ الْمَذْكُورُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ شُعَيْبَ بْنَ اللَّيْثِ أَوْ سَعِيدَ بْنَ أَبِي مَرْيَمَ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي مُسْتَخْرَجِهِ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ شُعَيْبٍ، وَأَخْرَجَهُ الْجَوْزَقِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ سُمَيٍّ فِي حَدِيثِ الْبَابِ إِدْرَاجًا، وَقَدْ رَوَى ابْنُ حِبَّانَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ فَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَهُ فَاخْتَلَفْنَا إِلَخْ.
قَوْلُهُ: (وَنُكَبِّرُ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ) هُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ سُمَيٍّ كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ احْتِمَالُ كَوْنِهِ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ جَاءَ مِثْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَكَذَا عِنْدَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ، وَمِثْلُهُ لِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، وَنَحْوُهُ لِابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ لَكِنْ شَكَّ بَعْضُ رُوَاتِهِ فِي أَنَّهُنَّ أَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ، وَيُخَالِفُ ذَلِكَ مَا فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ؛ فَفِيهِ: وَيَخْتِمُ الْمِائَةَ بِـ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ). . إِلَخْ، وَكَذَا لِمُسْلِمٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمِثْلُهُ لِأَبِي دَاوُدَ فِي حَدِيثِ أُمِّ الْحَكَمِ، وَلِجَعْفَرٍ الْفِرْيَابِيِّ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ النَّوَوِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنْ يُكَبِّرَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ وَيَقُولَ مَعَهَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ إِلَخْ. وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلْ يُجْمَعُ بِأَنْ يَخْتِمَ مَرَّةً بِزِيَادَةِ تَكْبِيرَةٍ وَمَرَّةً بِـ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) عَلَى وَفْقِ مَا وَرَدَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى يَكُونَ مِنْهُنَّ كُلِّهِنَّ) بِكَسْرِ اللَّامِ تَأْكِيدًا لِلضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ.
قَوْلُهُ: (ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ) بِالرَّفْعِ وَهُوَ اسْمُ كَانَ، وَفِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَالْأَصِيلِيِّ، وَأَبِي الْوَقْتِ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتَوَجَّهَ بِأَنَّ اسْمَ كَانَ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ حَتَّى يَكُونَ الْعَدَدُ مِنْهُنَّ كُلِّهِنَّ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَفِي قَوْلِهِ مِنْهُنَّ كُلِّهِنَّ الِاحْتِمَالُ الْمُتَقَدِّمُ: هَلِ الْعَدَدُ لِلْجَمِيعِ أَوِ الْمَجْمُوعِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَجْلَانَ ظَاهِرُهَا أَنَّ الْعَدَدَ لِلْجَمِيعِ لَكِنْ يَقُولُ ذَلِكَ مَجْمُوعًا، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي صَالِحٍ. لَكِنَّ الرِّوَايَةَ الثَّابِتَةَ عَنْ غَيْرِهِ الْإِفْرَادُ، قَالَ عِيَاضٌ: وَهُوَ أَوْلَى. وَرَجَّحَ بَعْضُهُمُ الْجَمْعَ لِلْإِتْيَانِ فِيهِ بِوَاوِ الْعَطْفِ وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْأَمْرَيْنِ حَسَنٌ، إِلَّا أَنَّ الْإِفْرَادَ يَتَمَيَّزُ بِأَمْرٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الذَّاكِرَ يَحْتَاجُ إِلَى الْعَدَدِ، وَلَهُ عَلَى كُلِّ حَرَكَةٍ لِذَلِكَ - سَوَاءٌ كَانَ بِأَصَابِعِهِ أَوْ بِغَيْرِهَا - ثَوَابٌ لَا يَحْصُلُ لِصَاحِبِ الْجَمْعِ مِنْهُ إِلَّا الثُّلُثُ.
(تَنْبِيهَانِ): الْأَوَّلُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ وَرْقَاءَ، عَنْ سُمَيٍّ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الدَّعَوَاتِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ تُسَبِّحُونَ عَشْرًا وَتَحْمَدُونَ عَشْرًا وَتُكَبِّرُونَ عَشْرًا، وَلَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى مَنْ تَابَعَ وَرْقَاءَ عَلَى ذَلِكَ لَا عَنْ سُمَيٍّ وَلَا عَنْ غَيْرِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَأَوَّلَ مَا تَأَوَّلَ سُهَيْلٌ مِنَ التَّوْزِيعِ، ثُمَّ أَلْغَى الْكَسْرَ. وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّ السِّيَاقَ صَرِيحٌ فِي كَوْنِهِ كَلَامَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَقَدْ وَجَدْتُ لِرِوَايَةِ الْعَشْرِ شَوَاهِدَ: مِنْهَا عَنْ عَلِيٍّ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عِنْدَهُ، وَعَنْ أَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عِنْدَ الْبَزَّارِ، وَعَنْ أُمِّ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيَّةِ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ. وَجَمَعَ الْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ بَيْنَ هَذَا الِاخْتِلَافِ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ صَدَرَ فِي أَوْقَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ أَوَّلُهَا عَشْرًا عَشْرًا ثُمَّ إِحْدَى عَشْرَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ ثُمَّ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيرِ، أَوْ يَفْتَرِقَ بِافْتِرَاقِ الْأَحْوَالِ.
وَقَدْ جَاءَ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُمْ
أَنْ يَقُولُوا كُلَّ ذِكْرٍ مِنْهَا خَمْسًا وَعِشْرِينَ وَيَزِيدُوا فِيهَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ، وَلَفْظُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أُمِرْنَا أَنْ نُسَبِّحَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَنَحْمَدَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَنُكَبِّرَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ، فَأُتِيَ رَجُلٌ فِي مَنَامِهِ فَقِيلَ لَهُ: أَمَرَكُمْ مُحَمَّدٌ أَنْ تُسَبِّحُوا - فَذَكَرَهُ -، قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: اجْعَلُوهَا خَمْسًا وَعِشْرِينَ، وَاجْعَلُوا فِيهَا التَّهْلِيلَ. فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَخْبَرَهُ؛ فَقَالَ: فَافْعَلُوهُ. أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَلَفْظُ ابْنِ عُمَرَ: رَأَى رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فِيمَا يُرَى النَّائِمُ - فَذَكَرَ نَحْوَهُ وَفِيهِ -؛ فَقِيلَ لَهُ: سَبِّحْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ، وَاحْمَدْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ، وَكَبِّرْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ، وَهَلِّلْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ؛ فَتِلْكَ مِائَةٌ. فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَفْعَلُوا كَمَا قَالَ. أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَجَعْفَرٌ الْفِرْيَابِيُّ. وَاسْتُنْبِطَ مِنْ هَذَا أَنَّ مُرَاعَاةَ الْعَدَدِ الْمَخْصُوصِ فِي الْأَذْكَارِ مُعْتَبَرَةٌ وَإِلَّا لَكَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: أَضِيفُوا لَهَا التَّهْلِيلَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ.
وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ: إِنَّ الْأَعْدَادَ الْوَارِدَةَ كَالذِّكْرِ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ إِذَا رُتِّبَ عَلَيْهَا ثَوَابٌ مَخْصُوصٌ؛ فَزَادَ الْآتِي بِهَا عَلَى الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ لَا يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ الثَّوَابُ الْمَخْصُوصُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لِتِلْكَ الْأَعْدَادِ حِكْمَةٌ وَخَاصِّيَّةٌ تَفُوتُ بِمُجَاوَزَةِ ذَلِكَ الْعَدَدِ، قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو الْفَضْلِ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ: وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ أَتَى بِالْمِقْدَارِ الَّذِي رُتِّبَ الثَّوَابُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ فَحَصَلَ لَهُ الثَّوَابُ بِذَلِكَ، فَإِذَا زَادَ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسِهِ كَيْفَ تَكُونُ الزِّيَادَةُ مُزِيلَةً لِذَلِكَ الثَّوَابِ بَعْدَ حُصُولِهِ؟ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَفْتَرِقَ الْحَالُ فِيهِ بِالنِّيَّةِ، فَإِنْ نَوَى عِنْدَ الِانْتِهَاءِ إِلَيْهِ امْتِثَالَ الْأَمْرِ الْوَارِدِ ثُمَّ أَتَى بِالزِّيَادَةِ فَالْأَمْرُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا لَا مَحَالَةَ، وَإِنْ زَادَ بِغَيْرِ نِيَّةٍ بِأَنْ يَكُونَ الثَّوَابُ رُتِّبَ عَلَى عَشَرَةٍ مَثَلًا فَرَتَّبَهُ هُوَ عَلَى مِائَةٍ فَيَتَّجِهُ الْقَوْلُ الْمَاضِي. وَقَدْ بَالَغَ الْقَرَافِيُّ فِي الْقَوَاعِدِ؛ فَقَالَ: مِنَ الْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ الزِّيَادَةُ فِي الْمَنْدُوبَاتِ الْمَحْدُودَةِ شَرْعًا، لِأَنَّ شَأْنَ الْعُظَمَاءِ إِذَا حَدُّوا شَيْئًا أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ وَيُعَدَّ الْخَارِجُ عَنْهُ مُسِيئًا لِلْأَدَبِ اهـ. وَقَدْ مَثَّلَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِالدَّوَاءِ يَكُونُ مَثَلًا فِيهِ أُوقِيَّةُ سُكَّرٍ فَلَوْ زِيدَ فِيهِ أُوقِيَّةٌ أُخْرَى لَتَخَلَّفَ الِانْتِفَاعُ بِهِ، فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الْأُوقِيَّةِ فِي الدَّوَاءِ ثُمَّ اسْتَعْمَلَ مِنَ السُّكَّرِ بَعْدَ ذَلِكَ مَا شَاءَ لَمْ يَتَخَلَّفْ الِانْتِفَاعُ.
وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَذْكَارَ الْمُتَغَايِرَةَ إِذَا وَرَدَ لِكُلٍّ مِنْهَا عَدَدٌ مَخْصُوصٌ مَعَ طَلَبِ الْإِتْيَانِ بِجَمِيعِهَا مُتَوَالِيَةً لَمْ تَحْسُنِ الزِّيَادَةُ عَلَى الْعَدَدِ الْمَخْصُوصِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ قَطْعِ الْمُوَالَاةِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لِلْمُوَالَاةِ فِي ذَلِكَ حِكْمَةٌ خَاصَّةٌ تَفُوتُ بِفَوَاتِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(التَّنْبِيهُ الثَّانِي): زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ سُمَيٍّ: قَالَ أَبُو صَالِحٍ: فَرَجَعَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَقَالُوا: سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الْأَمْوَالِ بِمَا فَعَلْنَاهُ فَفَعَلُوا مِثْلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ. ثُمَّ سَاقَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَذَكَرَ طَرَفًا مِنْهُ ثُمَّ قَالَ بِمِثْلِ حَدِيثِ قُتَيْبَةَ، قَالَ: إِلَّا أَنَّهُ أَدْرَجَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَوْلَ أَبِي صَالِحٍ: فَرَجَعَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ. قُلْتُ: وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ سُهَيْلٍ مُدْرَجًا أَخْرَجَهُ جَعْفَرٌ الْفِرْيَابِيُّ، وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الزِّيَادَةَ الْمَذْكُورَةَ مُرْسَلَةٌ، وَقَدْ رَوَى الْحَدِيثَ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَفِيهِ فَرَجَعَ الْفُقَرَاءُ فَذَكَرَهُ مَوْصُولًا لَكِنْ قَدْ قَدَّمْتُ أَنَّ إِسْنَادَهُ ضَعِيفٌ. وَرَوَاهُ جَعْفَرٌ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ رِوَايَةِ حَرَامِ بْنِ حَكِيمٍ وَهُوَ بِحَاءٍ وَرَاءٍ مُهْمَلَتَيْنِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَقَالَ فِيهِ: فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُمْ قَدْ قَالُوا مِثْلَ مَا نَقُولُ. فَقَالَ: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَنَقَلَ الْخَطِيبُ أَنَّ حَرَامَ بْنَ حَكِيمٍ يُرْسِلُ الرِّوَايَةَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، فَعَلَى هَذَا لَمْ يَصِحَّ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ إِسْنَادٌ، إِلَّا أَنَّ هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ يَقْوَى بِهِمَا مُرْسَلُ أَبِي صَالِحٍ.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الْمُهَلَّبِ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَضْلُ الْغَنِيِّ نَصًّا لَا تَأْوِيلًا، إِذَا اسْتَوَتْ أَعْمَالُ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ فِيمَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا، فَلِلْغَنِيِّ حِينَئِذٍ فَضْلُ عَمَلِ الْبِرِّ مِنَ الصَّدَقَةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَا سَبِيلَ لِلْفَقِيرِ إِلَيْهِ.
قَالَ: وَرَأَيْتُ بَعْضَ الْمُتَكَلِّمِينَ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ هَذَا الْفَضْلَ يَخُصُّ الْفُقَرَاءَ دُونَ غَيْرِهِمْ، أَيِ الْفَضْلُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى الذِّكْرِ الْمَذْكُورِ، وَغَفَلَ
عَنْ قَوْلِهِ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ: إِلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ فَجَعَلَ الْفَضْلَ لِقَائِلِهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: تَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ} بِأَنْ قَالَ: الْإِشَارَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى الثَّوَابِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ التَّفْضِيلُ عِنْدَ اللَّهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: ذَاكَ الثَّوَابُ الَّذِي أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ لَا يَسْتَحِقُّهُ أَحَدٌ بِحَسَبِ الذِّكْرِ وَلَا بِحَسَبِ الصَّدَقَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِفَضْلِ اللَّهِ. قَالَ: وَهَذَا التَّأْوِيلُ فِيهِ بُعْدٌ، وَلَكِنِ اضْطَرَّهُ إِلَيْهِ مَا يُعَارِضُهُ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يُعَارِضُهُ مُمْكِنٌ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى التَّعَسُّفِ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ الْقَرِيبُ مِنَ النَّصِّ أَنَّهُ فَضَّلَ الْغَنِيَّ، وَبَعْضُ النَّاسِ تَأَوَّلَهُ بِتَأْوِيلٍ مُسْتَكْرَهٍ كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ. قَالَ: وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أَنَّهُمَا إِنْ تَسَاوَيَا وَفُضِّلَتِ الْعِبَادَةُ الْمَالِيَّةُ أَنَّهُ يَكُونُ الْغَنِيُّ أَفْضَلَ، وَهَذَا لَا شَكَّ فِيهِ، وَإِنَّمَا النَّظَرُ إِذَا تَسَاوَيَا وَانْفَرَدَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِمَصْلَحَةِ مَا هُوَ فِيهِ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ إِنْ فُسِّرَ الْفَضْلُ بِزِيَادَةِ الثَّوَابِ فَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَصَالِحَ الْمُتَعَدِّيَةَ أَفْضَلُ مِنَ الْقَاصِرَةِ فَيَتَرَجَّحُ الْغَنِيُّ، وَإِنْ فُسِّرَ بِالْأَشْرَفِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى صِفَاتِ النَّفْسِ فَالَّذِي يَحْصُلُ لَهَا مِنَ التَّطْهِيرِ بِسَبَبِ الْفَقْرِ أَشْرَفُ فَيَتَرَجَّحُ الْفَقْرُ، وَمِنْ ثَمَّ ذَهَبَ جُمْهُورُ الصُّوفِيَّةِ إِلَى تَرْجِيحِ الْفَقِيرِ الصَّابِرِ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لِلْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ، ثَالِثُهَا الْأَفْضَلُ الْكَفَافُ، رَابِعُهَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ، خَامِسُهَا التَّوَقُّفُ.
وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: قَضِيَّةُ الْحَدِيثِ أَنَّ شَكْوَى الْفَقْرِ تَبْقَى بِحَالِهَا. وَأَجَابَ بِأَنَّ مَقْصُودَهُمْ كَانَ تَحْصِيلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَا وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ لَهُمْ أَيْضًا لَا نَفْيَ الزِّيَادَةِ عَنْ أَهْلِ الدُّثُورِ مُطْلَقًا اهـ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مَقْصُودَهُمْ إِنَّمَا كَانَ طَلَبَ الْمُسَاوَاةِ.
وَيَظْهَرُ أَنَّ الْجَوَابَ وَقَعَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ مُتَمَنِّيَ الشَّيْءِ يَكُونُ شَرِيكًا لِفَاعِلِهِ فِي الْأَجْرِ كَمَا سَبَقَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي أَوَّلُهُ: لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ، فَإِنَّ فِي رِوَايَةَ التِّرْمِذِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ التَّصْرِيحَ بِأَنَّ الْمُنْفِقَ وَالْمُتَمَنِّيَ إِذَا كَانَ صَادِقَ النِّيَّةِ فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ، وَكَذَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ يَعْمَلُ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ فَإِنَّ الْفُقَرَاءَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ كَانُوا السَّبَبَ فِي تَعَلُّمِ الْأَغْنِيَاءِ الذِّكْرَ الْمَذْكُورَ، فَإِذَا اسْتَوَوْا مَعَهُمْ فِي قَوْلِهِ امْتَازَ الْفُقَرَاءُ بِأَجْرِ السَّبَبِ مُضَافًا إِلَى التَّمَنِّي، فَلَعَلَّ ذَلِكَ يُقَاوِمُ التَّقَرُّبَ بِالْمَالِ، وَتَبْقَى الْمُقَايَسَةُ بَيْنَ صَبْرِ الْفَقِيرِ عَلَى شَظَفِ الْعَيْشِ وَشُكْرِ الْغَنِيِّ عَلَى التَّنَعُّمِ بِالْمَالِ، وَمِنْ ثَمَّ وَقَعَ التَّرَدُّدُ فِي تَفْضِيلِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَسَيَكُونُ لَنَا عَوْدَةٌ إِلَى ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ: الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ مِثْلُ الصَّائِمِ الصَّابِرِ فِي كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْعَالِمَ إِذَا سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ يَقَعُ فِيهَا الْخِلَافُ أَنْ يُجِيبَ بِمَا يَلْحَقُ بِهِ الْمَفْضُولُ دَرَجَةَ الْفَاضِلِ، وَلَا يُجِيبُ بِنَفْسِ الْفَاضِلِ لِئَلَّا يَقَعَ الْخِلَافُ، كَذَا قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ، وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ كَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم أَجَابَ بِقَوْلِهِ: أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَمْرٍ تُسَاوُونَهُمْ فِيهِ وَعَدَلَ عَنْ قَوْلِهِ نَعَمْ هُمْ أَفْضَلُ مِنْكُمْ بِذَلِكَ.
وَفِيهِ التَّوْسِعَةُ فِي الْغِبْطَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي كِتَابِ الْعِلْمِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحَسَدِ الْمَذْمُومِ. وَفِيهِ الْمُسَابَقَةُ إِلَى الْأَعْمَالِ الْمُحَصِّلَةِ لِلدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ لِمُبَادَرَةِ الْأَغْنِيَاءِ إِلَى الْعَمَلِ بِمَا بَلَغَهُمْ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ صلى الله عليه وسلم فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا مَنْ عَمِلَ عَامٌّ لِلْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ خِلَافًا لِمَنْ أَوَّلَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ. وَفِيهِ أَنَّ الْعَمَلَ السَّهْلَ قَدْ يُدْرِكُ بِهِ صَاحِبُهُ فَضْلَ الْعَمَلِ الشَّاقِّ. وَفِيهِ فَضْلُ الذِّكْرِ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ عَلَى فَضْلِ الدُّعَاءِ عُقَيْبَ الصَّلَاةِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الدَّعَوَاتِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهَا، وَلِأَنَّهَا أَوْقَاتٌ فَاضِلَةٌ يُرْتَجَى فِيهَا إِجَابَةُ الدُّعَاءِ. وَفِيهِ أَنَّ الْعَمَلَ الْقَاصِرَ قَدْ يُسَاوِي الْمُتَعَدِّيَ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ إِنَّ الْمُتَعَدِّيَ أَفْضَلُ مُطْلَقًا، نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَرِجَالُ الْإِسْنَادِ كُلُّهُمْ كُوفِيُّونَ إِلَّا مُحَمَّدَ بْنَ يُوسُفَ وَهُوَ الْفِرْيَابِيُّ.
قَوْلُهُ: (عَنْ وَرَّادٍ) فِي رِوَايَةِ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ سُفْيَانَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ حَدَّثَنِي
وَرَّادٌ.
قَوْلُهُ: (أَمْلَى عَلَيَّ الْمُغِيرَةُ) أَيِ ابْنُ شُعْبَةَ (فِي كِتَابٍ إِلَى مُعَاوِيَةَ) كَانَ الْمُغِيرَةُ إِذْ ذَاكَ أَمِيرًا عَلَى الْكُوفَةِ مِنْ قِبَلِ مُعَاوِيَةَ وَسَيَأْتِي فِي الدَّعَوَاتِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ وَرَّادٍ بَيَانُ السَّبَبِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَيْهِ: اكْتُبْ لِي بِحَدِيثٍ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِي الْقَدَرِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدَةَ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ، عَنْ وَرَّادٍ قَالَ كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْمُغِيرَةِ: اكْتُبْ إِلَيَّ مَا سَمِعْتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ خَلْفَ الصَّلَاةِ. وقَدْ قَيَّدَهَا فِي رِوَايَةِ الْبَابِ بِالْمَكْتُوبَةِ فَكَأَنَّ الْمُغِيرَةَ فَهِمَ ذَلِكَ مِنْ قَرِينَةٍ فِي السُّؤَالِ وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى الْعَمَلِ بِالْمُكَاتَبَةِ وَإِجْرَائِهَا مَجْرَى السَّمَاعِ فِي الرِّوَايَةِ وَلَوْ لَمْ تَقْتَرِنْ بِالْإِجَازَةِ. وَعَلَى الِاعْتِمَادِ عَلَى خَبَرِ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ. وَسَيَأْتِي فِي الْقَدَرِ فِي آخِرِهِ أَنَّ وَرَّادًا قَالَ: ثُمَّ وَفَدْتُ بَعْدُ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَسَمِعْتُهُ يَأْمُرُ النَّاسَ بِذَلِكَ وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ قَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ اسْتِثْبَاتَ الْمُغِيرَةِ وَاحْتَجَّ بِمَا فِي الْمُوَطَّأِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى اللَّهُ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ اللَّهُ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْهُ الْجَدُّ. مِنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ. ثُمَّ يَقُولُ: سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى هَذِهِ الْأَعْوَادِ.
قَوْلُهُ: (لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ) زَادَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ الْمُغِيرَةِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ - إِلَى - قَدِيرٌ وَرُوَاتُهُ مُوَثَّقُونَ. وَثَبَتَ مِثْلُهُ عِنْدَ الْبَزَّارِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، لَكِنْ فِي الْقَوْلِ إِذَا أَصْبَحَ وَإِذَا أَمْسَى.
قَوْلُهُ: (وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْجَدُّ الْغِنَى وَيُقَالُ الْحَظُّ، قَالَ: وَمِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْكَ بِمَعْنَى الْبَدَلِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَيْتَ لَنَا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ شَرْبَةً
…
مُبَرَّدَةً بَاتَتْ عَلَى الطَّهَيَانِ
(1)
يُرِيدُ: لَيْتَ لَنَا بَدَلَ مَاءِ زَمْزَمَ اهـ. وَفِي الصِّحَاحِ: مَعْنَى مِنْكَ هُنَا عِنْدَكَ، أَيْ لَا يَنْفَعُ ذَا الْغِنَى عِنْدَكَ غِنَاهُ، إِنَّمَا يَنْفَعُهُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: الصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَعْنَى الْبَدَلِ وَلَا عِنْدَ، بَلْ هُوَ كَمَا تَقُولُ: وَلَا يَنْفَعُكَ مِنِّي شَيْءٌ إِنْ أَنَا أَرَدْتُكَ بِسُوءٍ. وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْ كَلَامِهِ مَعْنًى، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهَا بِمَعْنَى عِنْدَ، أَوْ فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: مِنْ قَضَائِي أَوْ سَطْوَتِي أَوْ عَذَابِي. وَاخْتَارَ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ فِي الْمُغْنِي الْأَوَّلَ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: قَوْلُهُ مِنْكَ يَجِبُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِـ يَنْفَعُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ يَنْفَعُ قَدْ ضُمِّنَ مَعْنَى يَمْنَعُ وَمَا قَارَبَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ مِنْكَ بِالْجَدِّ كَمَا يُقَالُ: حَظِّي مِنْكَ كَثِيرٌ لِأَنَّ ذَلِكَ نَافِعٌ اهـ. وَالْجَدُّ مَضْبُوطٌ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَمَعْنَاهُ الْغِنَى كَمَا نَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ عَنِ الْحَسَنِ، أَوِ الْحَظُّ.
وَحَكَى الرَّاغِبُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُنَا أَبُو الْأَبِ، أَيْ لَا يَنْفَعُ أَحَدًا نَسَبُهُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: حُكِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ أَنَّهُ رَوَاهُ بِالْكَسْرِ وَقَالَ: مَعْنَاهُ لَا يَنْفَعُ ذَا الِاجْتِهَادِ اجْتِهَادُهُ. وَأَنْكَرَهُ الطَّبَرِيُّ. وَقَالَ الْقَزَّازُ فِي تَوْجِيهِ إِنْكَارِهِ: الِاجْتِهَادُ فِي الْعَمَلِ نَافِعٌ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ دَعَا الْخَلْقَ إِلَى ذَلِكَ، فَكَيْفَ لَا يَنْفَعُ عِنْدَهُ؟ قَالَ: فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ الِاجْتِهَادُ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا وَتَضْيِيعِ أَمْرِ الْآخِرَةِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ بِمُجَرَّدِهِ مَا لَمْ يُقَارِنْهُ الْقَبُولُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ: لَا يُدْخِلُ أَحَدًا مِنْكُمُ الْجَنَّةَ عَمَلُهُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ عَلَى رِوَايَةِ الْكَسْرِ السَّعْيُ التَّامُّ فِي الْحِرْصِ أَوِ الْإِسْرَاعُ فِي الْهَرَبِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ بِالْفَتْحِ وَهُوَ الْحَظُّ فِي الدُّنْيَا بِالْمَالِ أَوِ الْوَلَدِ أَوِ الْعَظَمَةِ أَوِ السُّلْطَانِ، وَالْمَعْنَى لَا يُنَجِّيهِ حَظُّهُ مِنْكَ، وَإِنَّمَا يُنَجِّيهِ فَضْلُكَ وَرَحْمَتُكَ. وَفِي الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُ هَذَا الذِّكْرِ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ أَلْفَاظِ التَّوْحِيدِ
(1)
في طبعة بولاق "على الظمآن" والتصحيح من لسان العرب (مادة طهي) ومن مخطوطة الرياض
وَنِسْبَةِ الْأَفْعَالِ إِلَى اللَّهِ وَالْمَنْعِ وَالْإِعْطَاءِ وَتَمَامِ الْقُدْرَةِ، وَفِيهِ الْمُبَادَرَةُ إِلَى امْتِثَالِ السُّنَنِ وَإِشَاعَتِهَا.
(فَائِدَةٌ): اشْتُهِرَ عَلَى الْأَلْسِنَةِ فِي الذِّكْرِ الْمَذْكُورِ زِيَادَةُ وَلَا رَادَّ لِمَا قَضَيْتَ وَهِيَ فِي مُسْنَدِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ مِنْ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، لَكِنْ حَذَفَ قَوْلَهُ: وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَوَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ تَامًّا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَوَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ هُشَيْمٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الذِّكْرَ الْمَذْكُورَ أَوَّلًا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ بِهَذَا) وَصَلَهُ السَّرَّاجُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الدُّعَاءِ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ مُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ شُعْبَةَ وَلَفْظُهُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ: سَمِعْتُ وَرَّادًا كَاتِبَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّ الْمُغِيرَةَ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَذَكَرَهُ. وَفِي قَوْلِهِ كَتَبَ تَجَوُّزٌ لِمَا تَبَيَّنَ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْكَاتِبَ هُوَ وَرَّادٌ، لَكِنَّهُ كَتَبَ بِأَمْرِ الْمُغِيرَةِ وَإِمْلَائِهِ عَلَيْهِ. وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدَةَ، عَنْ وَرَّادٍ قَالَ: كَتَبَ الْمُغِيرَةُ إِلَى مُعَاوِيَةَ، كَتَبَ ذَلِكَ الْكِتَابَ لَهُ وَرَّادٌ فَجَمَعَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَسَنُ جَدُّ غِنَى) الْأَوْلَى فِي قِرَاءَةِ هَذَا الْحَرْفِ أَنْ يُقْرَأَ بِالرَّفْعِ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ عَلَى الْحِكَايَةِ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ مِنْ لَفْظِ الْحَسَنِ، فَقَدْ وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي رَجَاءٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} قَالَ: غِنَى رَبِّنَا. وَعَادَةُ الْبُخَارِيِّ إِذَا وَقَعَ فِي الْحَدِيثِ لَفْظَةٌ غَرِيبَةٌ وَقَعَ مِثْلُهَا فِي الْقُرْآنِ يَحْكِي قَوْلَ أَهْلِ التَّفْسِيرِ فِيهَا وَهَذَا مِنْهَا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ: قَالَ الْحَسَنُ: الْجَدُّ غِنَى وَسَقَطَ هَذَا الْأَثَرُ مِنْ أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ.
قَوْلُهُ: (وَعَنِ الْحَكَمِ) هَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ التَّعْلِيقُ عَنِ الْحَكَمِ مُؤَخَّرًا عَنْ أَثَرِ الْحَسَنِ، وَفِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ بِالْعَكْسِ وَهُوَ الْأَصْوَبُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَعَنِ الْحَكَمِ، مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ السَّرَّاجُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ إِلَى شُعْبَةَ وَلَفْظُهُ كَلَفْظِ عَبْدِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فِيهِ: كَانَ إِذَا قَضَى صَلَاتَهُ وَسَلَّمَ قَالَ فَذَكَرَهُ، وَوَقَعَ نَحْوُ هَذَا التَّصْرِيحِ لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ وَرَّادٍ بِهِ.
156 - بَاب يَسْتَقْبِلُ الْإِمَامُ النَّاسَ إِذَا سَلَّ
مَ
845 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ.
[الحديث"845 - أطرافه في: 7047، 6096، 4674، 3354، 2125، 2791، 2085، 1386، 1143]
846 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنْ اللَّيْلَةِ فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ؛ فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي وَمُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ.
[الحديث 846 - 7503، 4147، 1038]
847 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ سَمِعَ يَزِيدَ قَالَ: أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسِ قَالَ: أَخَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ ذَاتَ لَيْلَةٍ إِلَى شَطْرِ اللَّيْلِ ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا، فَلَمَّا صَلَّى أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا وَرَقَدُوا وَإِنَّكُمْ لَنْ تَزَالُوا فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرْتُمْ الصَّلَاةَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ يَسْتَقْبِلُ الْإِمَامُ النَّاسَ إِذَا سَلَّمَ) أَوْرَدَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ: أَحَدُهَا حَدِيثُ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ، وَسَيَأْتِي مُطَوَّلًا فِي أَوَاخِرِ الْجَنَائِزِ، ثَانِيهَا: حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الِاسْتِسْقَاءِ، ثَالِثُهَا: حَدِيثُ أَنَسٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْمَوَاقِيتِ وَفِي فَضْلِ انْتِظَارِ الصَّلَاةِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَمَاعَةِ. وَالْأَحَادِيثُ الثَّلَاثَةُ مُطَابِقَةٌ لِمَا تَرْجَمَ لَهُ، وَأَصْرَحُهَا حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: فَلَمَّا انْصَرَفَ وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ سَمُرَةَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَالْمَعْنَى إِذَا صَلَّى صَلَاةً فَفَرَغَ مِنْهَا أَقْبَلَ عَلَيْنَا، لِضَرُورَةِ أَنَّهُ لَا يَتَحَوَّلُ عَنِ الْقِبْلَةِ قَبْلَ فَرَاغِ الصَّلَاةِ. وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ: فَلَمَّا صَلَّى أَقْبَلَ يَأْتِي فِيهِ نَحْوُ ذَلِكَ، وَسِيَاقُ سَمُرَةَ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ كَانَ يُوَاظِبُ عَلَى ذَلِكَ. قِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي اسْتِقْبَالِ الْمَأْمُومِينَ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، فَعَلَى هَذَا يَخْتَصُّ بِمَنْ كَانَ فِي مِثْلِ حَالِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَصْدِ التَّعْلِيمِ وَالْمَوْعِظَةِ. وَقِيلَ: الْحِكْمَةُ فِيهِ تَعْرِيفُ الدَّاخِلِ بِأَنَّ الصَّلَاةَ انْقَضَتْ، إِذْ لَوِ اسْتَمَرَّ الْإِمَامُ عَلَى حَالِهِ لَأَوْهَمَ أَنَّهُ فِي التَّشَهُّدِ مَثَلًا. وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: اسْتِدْبَارُ الْإِمَامِ الْمَأْمُومِينَ إِنَّمَا هُوَ لِحَقِّ الْإِمَامَةِ، فَإِذَا انْقَضَتِ الصَّلَاةُ زَالَ السَّبَبُ، فَاسْتِقْبَالُهُمْ حِينَئِذٍ يَرْفَعُ الْخُيَلَاءَ وَالتَّرَفُّعَ عَلَى الْمَأْمُومِينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
157 - بَاب مُكْثِ الْإِمَامِ فِي مُصَلَّاهُ بَعْدَ السَّلَامِ
848 -
وَقَالَ لَنَا آدَمُ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي فِي مَكَانِهِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ الْفَرِيضَةَ، وَفَعَلَهُ الْقَاسِمُ، وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: لَا يَتَطَوَّعُ الْإِمَامُ فِي مَكَانِهِ، وَلَمْ يَصِحَّ.
849 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ هِنْدٍ بِنْتِ الْحَارِثِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا سَلَّمَ يَمْكُثُ فِي مَكَانِهِ يَسِيرًا قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَنُرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، لِكَيْ يَنْفُذَ مَنْ يَنْصَرِفُ مِنْ النِّسَاءِ.
850 -
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ قَالَ أَخْبَرَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ كَتَبَ إِلَيْهِ قَالَ حَدَّثَتْنِي هِنْدُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْفِرَاسِيَّةُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَتْ مِنْ صَوَاحِبَاتِهَا قَالَتْ كَانَ يُسَلِّمُ فَيَنْصَرِفُ النِّسَاءُ فَيَدْخُلْنَ بُيُوتَهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَنْصَرِفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَتْنِي هِنْدُ الْفِرَاسِيَّةُ وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَتْنِي هِنْدُ الْفِرَاسِيَّةُ وَقَالَ الزُّبَيْدِيُّ أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ أَنَّ هِنْدَ بِنْتَ الْحَارِثِ الْقُرَشِيَّةَ أَخْبَرَتْهُ وَكَانَتْ تَحْتَ مَعْبَدِ بْنِ الْمِقْدَادِ وَهُوَ حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ وَكَانَتْ تَدْخُلُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَتْنِي هِنْدُ الْقُرَشِيَّةُ وَقَالَ ابْنُ
أَبِي عَتِيقٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ هِنْدٍ الْفِرَاسِيَّةِ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَهُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ حَدَّثَتْهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
قَوْلُهُ: (بَابُ مُكْثِ الْإِمَامِ فِي مُصَلَّاهُ بَعْدَ السَّلَامِ) أَيْ وَبَعْدَ اسْتِقْبَالِ الْقَوْمِ، فَيُلَائِمُ مَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ إِنَّ الْمُكْثَ لَا يَتَقَيَّدُ بِحَالٍ مِنْ ذِكْرٍ أَوْ دُعَاءٍ أَوْ تَعْلِيمٍ أَوْ صَلَاةِ نَافِلَةٍ، وَلِهَذَا ذَكَرَ فِي الْبَابِ مَسْأَلَةَ تَطَوُّعِ الْإِمَامِ فِي مَكَانِهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ لَنَا آدَمُ إِلَخْ) هُوَ مَوْصُولٌ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِقَوْلِهِ: قَالَ لَنَا، لِكَوْنِهِ مَوْقُوفًا مُغَايَرَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَرْفُوعِ، هَذَا الَّذِي عَرَفْتُهُ بِالِاسْتِقْرَاءِ مِنْ صَنِيعِهِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَا يَقُولُ ذَلِكَ إِلَّا فِيمَا حَمَلَهُ مُذَاكَرَةً، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُطَّرِدٍ، لِأَنِّي وَجَدْتُ كَثِيرًا مِمَّا قَالَ فِيهِ: قَالَ لَنَا، فِي الصَّحِيحِ قَدْ أَخْرَجَهُ فِي تَصَانِيفَ أُخْرَى بِصِيغَةِ: حَدَّثَنَا، وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَثَرَ ابْنِ عُمَرَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي سُبْحَتَهُ مَكَانَهُ.
قَوْلُهُ: (وَفَعَلَهُ الْقَاسِمُ) أَيِ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَقَدْ وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ مُعْتَمِرٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: رَأَيْتُ الْقَاسِمَ وَسَالِمًا يُصَلِّيَانِ الْفَرِيضَةَ ثُمَّ يَتَطَوَّعَانِ فِي مَكَانِهِمَا.
قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفْعُهُ) أَيْ قَالَ فِيهِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
قَوْلُهُ: (لَا يَتَطَوَّعُ الْإِمَامُ فِي مَكَانِهِ) ذَكَرَهُ بِالْمَعْنَى، وَلَفْظُهُ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ: أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ أَوْ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ فِي الصَّلَاةِ، وَلِابْنِ مَاجَهْ: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ زَادَ أَبُو دَاوُدَ: يَعْنِي فِي السُّبْحَةِ
(1)
، وَلِلْبَيْهَقِيِّ: إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَتَطَوَّعَ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ فَلْيَتَقَدَّمْ الْحَدِيثُ.
قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَصِحَّ) هُوَ كَلَامُ الْبُخَارِيِّ، وَذَلِكَ لِضَعْفِ إِسْنَادِهِ وَاضْطِرَابُهُ تَفَرَّدَ بِهِ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَاخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِيهِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ الِاخْتِلَافَ فِيهِ فِي تَارِيخِهِ وَقَالَ: لَمْ يَثْبُتْ هَذَا الْحَدِيثُ وَفِي الْبَابِ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ مَرْفُوعًا أَيْضًا بِلَفْظِ: لَا يُصَلِّي الْإِمَامُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ حَتَّى يَتَحَوَّلَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَإِسْنَادُهُ مُنْقَطِعٌ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: مِنَ السُّنَّةِ أَنْ لَا يَتَطَوَّعَ الْإِمَامُ حَتَّى يَتَحَوَّلَ مِنْ مَكَانِهِ، وَحَكَى ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ وَقَالَ: لَا أَعْرِفُهُ عَنْ غَيْرِ عَلِيٍّ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَا الْمُغِيرَةِ، وَكَانَ الْمَعْنَى فِي كَرَاهَةِ ذَلِكَ خَشْيَةَ الْتِبَاسِ النَّافِلَةِ بِالْفَرِيضَةِ. وَفِي مُسْلِمٍ: عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ مُعَاوِيَةَ الْجُمُعَةَ فَتَنَفَّلَ بَعْدَهَا، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: إِذَا صَلَّيْتَ الْجُمُعَةَ فَلَا تَصِلْهَا بِصَلَاةٍ حَتَّى تَتَكَلَّمَ أَوْ تَخْرُجَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَنَا بِذَلِكَ فَفِي هَذَا إِرْشَادٌ إِلَى طَرِيقِ الْأَمْنِ مِنَ الِالْتِبَاسِ، وَعَلَيْهِ تُحْمَلُ الْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ.
وَيُؤْخَذُ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَدِلَّةِ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَحْوَالًا لِأَنَّ الصَّلَاةَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِمَّا يُتَطَوَّعُ بَعْدَهَا أَوْ لَا يُتَطَوَّعُ، الْأَوَّلُ اخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ يَتَشَاغَلُ قَبْلَ التَّطَوُّعِ بِالذِّكْرِ الْمَأْثُورِ ثُمَّ يَتَطَوَّعُ؟ وَهَذَا الَّذِي عَلَيْهِ عَمَلُ الْأَكْثَرِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَبْدَأُ بِالتَّطَوُّعِ. وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَا يَتَعَيَّنُ الْفَصْلُ بَيْنَ الْفَرِيضَةِ وَالنَّافِلَةِ بِالذِّكْرِ، بَلْ إِذَا تَنَحَّى مِنْ مَكَانِهِ كَفَى. فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يَثْبُتِ الْحَدِيثُ فِي التَّنَحِّي، قُلْنَا: قَدْ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ أَوْ تَخْرُجَ وَيَتَرَجَّحُ تَقْدِيمُ الذِّكْرِ الْمَأْثُورِ بِتَقْيِيدِهِ فِي الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ بِدُبُرِ الصَّلَاةِ.
وَزَعَمَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِدُبُرِ الصَّلَاةِ مَا قَبْلَ السَّلَامِ، وَتُعُقِّبَ بِحَدِيثِ: ذَهَبَ أَهْلَ الدُّثُورِ فَإِنَّ فِيهِ: تُسَبِّحُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ وَهُوَ بَعْدَ السَّلَامِ جَزْمًا، فَكَذَلِكَ مَا شَابَهَهُ.
وَأَمَّا الصَّلَاةُ الَّتِي لَا يُتَطَوَّعُ بَعْدَهَا فَيَتَشَاغَلُ الْإِمَامُ وَمَنْ مَعَهُ بِالذِّكْرِ الْمَأْثُورِ وَلَا يَتَعَيَّنُ لَهُ مَكَانٌ بَلْ إِنْ شَاءُوا انْصَرَفُوا وَذَكَرُوا، وَإِنْ شَاءُوا مَكَثُوا وَذَكَرُوا. وَعَلَى الثَّانِي إِنْ كَانَ لِلْإِمَامِ عَادَةٌ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ
(1)
في المخطوطة" المسجد"
أَوْ يَعِظَهُمْ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُقْبِلَ عَلَيْهِمْ بِوَجْهِهِ جَمِيعًا، وَإِنْ كَانَ لَا يَزِيدُ عَلَى الذِّكْرِ الْمَأْثُورِ فَهَلْ يُقْبِلُ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا أَوْ يَنْفَتِلُ فَيَجْعَلُ يَمِينَهُ مِنْ قِبَلِ الْمَأْمُومِينَ وَيَسَارَهُ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ وَيَدْعُو؟ الثَّانِي هُوَ الَّذِي جَزَمَ بِهِ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ. وَيَحْتَمِلُ إِنْ قَصُرَ زَمَنُ ذَلِكَ أَنْ يَسْتَمِرَّ مُسْتَقْبِلًا لِلْقِبْلَةِ
(1)
مِنْ أَجْلِ أَنَّهَا أَلْيَقُ بِالدُّعَاءِ، وَيُحْمَلُ الْأَوَّلُ عَلَى مَا لَوْ طَالَ الذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ هِنْدِ بِنْتِ الْحَارِثِ) هِيَ تَابِعِيَّةٌ وَلَا أَعْرِفُ عَنْهَا رَاوِيًا غَيْرَ الزُّهْرِيِّ، وَهِيَ مِنْ أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ مُسْلِمٍ، وَسَيَأْتِي الْخِلَافُ فِي نِسْبَتِهَا.
قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ) هُوَ الزُّهْرِيُّ، وَهُوَ مَوْصُولًا بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ. وقَوْلُهُ:(فَنُرَى) بِضَمِّ النُّونِ أَيْ نُظَنُّ.
قَوْلُهُ: (مِنَ النِّسَاءِ) زَادَ فِي بَابِ التَّسْلِيمِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُنَّ مَنِ انْصَرَفَ مِنَ الْقَوْمِ أَيِ الرِّجَالِ، وَهُوَ لَفْظُهُ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ قَزَعَةَ الْآتِيَةِ بَعْدَ أَبْوَابٍ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ) رَوَيْنَاهُ مَوْصُولًا فِي الزُّهْرِيَّاتِ لِمُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ فَذَكَرَهُ.
قَوْلُهُ: (مِنْ صَوَاحِبَاتِهَا) جَمْعُ صَاحِبَةٍ وَهِيَ لُغَةٌ، وَالْمَشْهُورُ صَوَاحِبُ كَضَوَارِبَ وَضَارِبَةٍ، وَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ صَوَاحِبَ وَهُوَ جَمْعُ صَاحِبَةٍ.
قَوْلُهُ: (كَانَ يُسَلِّمُ) أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَأَفَادَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ الْإِشَارَةَ إِلَى أَقَلِّ مِقْدَارٍ كَانَ يَمْكُثُهُ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ إِلَخْ) وَصَلَهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْهُ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ وَلَفْظُهُ: أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ إِذَا سَلَّمْنَ قُمْنَ وَثَبَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ صَلَّى مِنَ الرِّجَالِ مَا شَاءَ اللَّهُ، فَإِذَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ الرِّجَالُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ) سَيَأْتِي مَوْصُولًا بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ مِنْ طَرِيقِهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الزُّبَيْدِيُّ) وَصَلَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُسْنَدِ الشَّامِيِّينَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَالِمٍ عَنْهُ بِتَمَامِهِ، وَفِيهِ: أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يَشْهَدْنَ الصَّلَاةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا سَلَّمَ قَامَ النِّسَاءُ فَانْصَرَفْنَ إِلَى بُيُوتِهِنَّ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ الرِّجَالُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ شُعَيْبٌ) هُوَ ابْنُ أَبِي حَمْزَةَ، وَابْنُ أَبِي عَتِيقٍ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَرِوَايَتُهُمَا مَوْصُولَةٌ فِي الزُّهْرِيَّاتِ أَيْضًا. وَمُرَادُ الْبُخَارِيِّ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي نَسَبِ هِنْدٍ وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْفِرَاسِيَّةُ، نِسْبَةً إِلَى بَنِي فِرَاسٍ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ آخِرُهُ مُهْمَلَةٌ وَهُمْ بَطْنٌ مِنْ كِنَانَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْقُرَشِيَّةُ، فَمَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ النَّسَبِ إِنَّ كِنَانَةَ جِمَاعُ قُرَيْشٍ فَلَا مُغَايَرَةَ بَيْنَ النِّسْبَتَيْنِ، وَمَنْ قَالَ إِنَّ جِمَاعَ قُرَيْشٍ فِهْرُ بْنُ مَالِكٍ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اجْتِمَاعُ النِّسْبَتَيْنِ لِهِنْدٍ عَلَى أَنَّ إِحْدَاهُمَا بِالْأَصَالَةِ وَالْأُخْرَى بِالْمُخَالَفَةِ
(2)
. وَأَشَارَ الْبُخَارِيُّ بِرِوَايَةِ اللَّيْثِ الْأَخِيرَةِ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: الْقُرَشِيَّةَ تَصْحِيفٌ مِنَ الْفِرَاسِيَّةِ، لِقَوْلِهِ فِيهِ: عَنِ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: أَنَّ امْرَأَةً وَقَوْلُهُ فِيهِ: عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَيْرُ مَوْصُولَةٍ لِأَنَّهَا تَابِعِيَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَأَنَّ التَّقْصِيرَ فِيهِ مِنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَهُوَ الْأَنْصَارِيُّ، وَرِوَايَتُهُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ مِنْ رِوَايَةِ الْأَقْرَانِ: وَفِي الْحَدِيثِ مُرَاعَاةُ الْإِمَامِ أَحْوَالَ الْمَأْمُومِينَ، وَالِاحْتِيَاطُ فِي اجْتِنَابِ مَا قَدْ يُفْضِي إِلَى الْمَحْذُورِ. وَفِيهِ اجْتِنَابُ مَوَاضِعِ التُّهَمِ، وَكَرَاهَةُ مُخَالَطَةِ الرِّجَالِ لِلنِّسَاءِ فِي الطُّرُقَاتِ فَضْلًا عَنْ الْبُيُوتِ.
وَمُقْتَضَى التَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ أَنَّ الْمَأْمُومِينَ إِذَا كَانُوا رِجَالًا فَقَطْ أَنْ لَا يُسْتَحَبَّ هَذَا الْمُكْثُ، وَعَلَيْهِ حَمَلَ ابْنُ قُدَامَةَ حَدِيثَ عَائِشَةَ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا سَلَّمَ لَمْ يَقْعُدْ إِلَّا مِقْدَارَ مَا يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَفِيهِ: أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يَحْضُرْنَ الْجَمَاعَةَ فِي الْمَسْجِدِ، وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ قَرِيبًا.
(1)
الصواب أن المشروع إقبال الإمام على المأمومين بوجهه بعد السلام والإستغفار وقول " اللهم أنت السلام الخ"مطلقا لما تقدم في الأحاديث الصحيحة. والله أعلم
(2)
كذا في المطبوعة والمخطوطة، ولعله " بالمحالفة"
158 - بَاب مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ فَذَكَرَ حَاجَةً فَتَخَطَّاهُمْ
851 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عُقْبَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ الْعَصْرَ فَسَلَّمَ ثُمَّ قَامَ مُسْرِعًا فَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ إِلَى بَعْضِ حُجَرِ نِسَائِهِ، فَفَزِعَ النَّاسُ مِنْ سُرْعَتِهِ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ فَرَأَى أَنَّهُمْ عَجِبُوا مِنْ سُرْعَتِهِ فَقَالَ: ذَكَرْتُ شَيْئًا مِنْ تِبْرٍ عِنْدَنَا فَكَرِهْتُ أَنْ يَحْبِسَنِي فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ.
[الحديث 851 - أطرافه في: 6275، 1430، 1221]
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ فَذَكَرَ حَاجَةً فَتَخَطَّاهُمْ) الْغَرَضُ مِنْ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ بَيَانُ أَنَّ الْمُكْثَ الْمَذْكُورَ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ مَحِلُّهُ مَا إِذَا لَمْ يَعْرِضْ مَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى الْقِيَامِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ) أَيِ: ابْنُ مَيْمُونٍ الْعَلَّافُ، وَثَبَتَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَسَاكِرَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ) أَيِ: ابْنِ أَبِي حُسَيْنٍ الْمَكِّيِّ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عُقْبَةَ) هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ النَّوْفَلِيُّ، وَلِلْمُصَنِّفِ فِي الزَّكَاةِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عَاصِمٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ الْحَارِثِ حَدَّثَهُ.
قَوْلُهُ: (فَسَلَّمَ فَقَامَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: ثُمَّ قَامَ.
قَوْلُهُ: (فَفَزِعَ النَّاسُ) أَيْ: خَافُوا، وَكَانَتْ تِلْكَ عَادَتَهَمْ إِذَا رَأَوْا مِنْهُ غَيْرَ مَا يَعْهَدُونَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَنْزِلَ فِيهِمْ شَيْءٌ يَسُوءُهُمْ.
قَوْلُهُ: (فَرَأَى أَنَّهُمْ قَدْ عَجِبُوا) فِي رِوَايَةِ أَبِي عَاصِمٍ: فَقُلْتُ أَوْ فَقِيلَ لَهُ، وَهُوَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ فَقُلْتُ مَحْفُوظًا فَقَدْ تَعَيَّنَ الَّذِي سَأَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الصَّحَابَةِ عَنْ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (ذَكَرْتُ شَيْئًا مِنْ تِبْرٍ) فِي رِوَايَةِ رَوْحٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ فِي أَوَاخِرِ الصَّلَاةِ: ذَكَرْتُ وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي عَاصِمٍ: تِبْرًا مِنَ الصَّدَقَةِ، وَالتِّبْرُ بِكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ: الذَّهَبُ الَّذِي لَمْ يُصَفَّ وَلَمْ يُضْرَبْ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: لَا يُقَالُ إِلَّا لِلذَّهَبِ. وَقَدْ قَالَهُ بَعْضُهُمْ فِي الْفِضَّةِ. انْتَهَى. وَأَطْلَقَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى جَمِيعِ جَوَاهِرِ الْأَرْضِ قَبْلَ أَنْ تُصَاغَ أَوْ تُضْرَبَ، حَكَاهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، عَنِ الْكِسَائِيِّ، وَكَذَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ دُرَيْدٍ. وَقِيلَ: هُوَ الذَّهَبُ الْمَكْسُورُ، حَكَاهُ ابْنُ سِيدَهْ.
قَوْلُهُ: (يَحْبِسُنِي) أَيْ: يَشْغَلُنِي التَّفَكُّرُ فِيهِ عَنِ التَّوَجُّهِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَفَهِمَ مِنْهُ ابْنُ بَطَّالٍ مَعْنَى آخَرُ فَقَالَ فِيهِ: إِنَّ تَأْخِيرَ الصَّدَقَةِ تَحْبِسُ صَاحِبَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
قَوْلُهُ: (فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي عَاصِمٍ: فَقَسَمْتُهُ، وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ الْمُكْثَ بَعْدَ الصَّلَاةِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَأَنَّ التَّخَطِّيَ لِلْحَاجَةِ مُبَاحٌ، وَأَنَّ التَّفَكُّرَ فِي الصَّلَاةِ فِي أَمْرٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّلَاةِ لَا يُفْسِدُهَا وَلَا يُنْقِصُ مِنْ كَمَالِهَا، وَأَنَّ إِنْشَاءَ الْعَزْمِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ عَلَى الْأُمُورِ الْجَائِزَةِ لَا يَضُرُّ، وَفِيهِ إِطْلَاقُ الْفِعْلِ عَلَى مَا يَأْمُرُ بِهِ الْإِنْسَانُ، وَجَوَازُ الِاسْتِنَابَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمُبَاشَرَةِ.
159 - بَاب الِانْفِتَالِ وَالِانْصِرَافِ عَنْ الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ
وَكَانَ أَنَسُ يَنْفَتِلُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ وَيَعِيبُ عَلَى مَنْ يَتَوَخَّى أَوْ مَنْ يَعْمِدُ الِانْفِتَالَ عَنْ يَمِينِهِ
852 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ الْأَسْوَدِ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَا يَجْعَلْ أَحَدُكُمْ لِلشَّيْطَانِ شَيْئًا مِنْ صَلَاتِهِ يَرَى أَنَّ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ لَا يَنْصَرِفَ إِلَّا عَنْ يَمِينِهِ، لَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَثِيرًا يَنْصَرِفُ عَنْ يَسَارِهِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الِانْفِتَالِ وَالِانْصِرَافِ عَنِ الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: جَمَعَ فِي التَّرْجَمَةِ بَيْنَ الِانْفِتَالِ وَالِانْصِرَافِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الْمَاكِثِ فِي مُصَلَّاهُ إِذَا انْفَتَلَ لِاسْتِقْبَالِ الْمَأْمُومِينَ، وَبَيْنَ الْمُتَوَجِّهِ لِحَاجَتِهِ إِذَا انْصَرَفَ إِلَيْهَا.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ
…
إِلَخْ) وَصَلَهُ مُسَدَّدٌ فِي مُسْنَدِهِ الْكَبِيرِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ أَنَسٌ فَذَكَرَهُ وَقَالَ فِيهِ: وَيَعِيبُ عَلَى مَنْ يَتَوَخَّى ذَلِكَ أَنْ لَا يَنْفَتِلَ إِلَّا عَنْ يَمِينِهِ وَيَقُولُ: يَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ. وَقَوْلُهُ: يَتَوَخَّى بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ مُشَدَّدَةٍ أَيْ يَقْصِدُ، وَقَوْلُهُ:(أَوْ يَعْمِدُ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي.
قُلْتُ: وَظَاهِرُ هَذَا الْأَثَرِ عَنْ أَنَسٍ يُخَالِفُ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسًا كَيْفَ أَنْصَرِفُ إِذَا صَلَّيْتُ، عَنْ يَمِينِي أَوْ عَنْ يَسَارِي؟ قَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَكْثَرُ مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَنْصَرِفُ عَنْ يَمِينِهِ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ أَنَسًا عَابَ مَنْ يَعْتَقِدُ تَحَتُّمَ ذَلِكَ وَوُجُوبَهُ، وَأَمَّا إِذَا اسْتَوَى الْأَمْرَانِ فَجِهَةُ الْيَمِينِ أَوْلَى.
قَوْلُهُ: (عَنْ سُلَيْمَانَ) هُوَ الْأَعْمَشُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عُمَارَةَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ سَمِعْتُ عُمَارَةَ بْنَ عُمَيْرٍ وَفِي الْإِسْنَادِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ كُوفِيُّونَ فِي نَسَقٍ آخِرُهُمُ الْأَسْوَدُ وَهُوَ ابْنُ يَزِيدَ النَّخَعِيُّ.
قَوْلُهُ: (لَا يَجْعَلْ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: لَا يَجْعَلَنَّ، بِزِيَادَةِ نُونِ التَّأْكِيدِ.
قَوْلُهُ: (شَيْئًا مِنْ صَلَاتِهِ) فِي رِوَايَةِ وَكِيعٍ وَغَيْرِهِ عَنِ الْأَعْمَشِ عِنْدَ مُسْلِمٍ: جُزْءًا مِنْ صَلَاتِهِ.
قَوْلُهُ: (يَرَى) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ أَيْ: يَعْتَقِدُ، وَيَجُوزُ الضَّمُّ أَيْ: يُظَنُّ. وَقَوْلُهُ: (أَنَّ حَقًّا عَلَيْهِ) هُوَ بَيَانٌ لِلْجَعْلِ فِي قَوْلِهِ: لَا يَجْعَلْ.
قَوْلُهُ: (أَنْ لَا يَنْصَرِفَ) أَيْ يَرَى أَنَّ عَدَمَ الِانْصِرَافِ حَقٌّ عَلَيْهِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْقَلْبِ، قَالَهُ الْكِرْمَانِيُّ فِي الْجَوَابِ عَنِ ابْتِدَائِهِ بِالنَّكِرَةِ، قَالَ: أَوْ لِأَنَّ النَّكِرَةَ الْمَخْصُوصَةَ كَالْمَعْرُوفَةِ.
قَوْلُهُ: (كَثِيرًا يَنْصَرِفُ عَنْ يَسَارِهِ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: أَكْثَرُ مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْصَرِفُ عَنْ شِمَالِهِ، فَأَمَّا رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ فَلَا تُعَارِضُ حَدِيثَ أَنَسٍ الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَمَّا رِوَايَةُ مُسْلِمٍ فَظَاهِرَةُ التَّعَارُضِ لِأَنَّهُ عَبَّرَ فِي كُلِّ مِنْهُمَا بِصِيغَةِ أَفْعَلَ، قَالَ النَّوَوِيُّ: يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُ تَارَةً هَذَا وَتَارَةً هَذَا، فَأَخْبَرَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِمَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ الْأَكْثَرُ، وَإِنَّمَا كَرِهَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنْ يُعْتَقَدَ وُجُوبُ الِانْصِرَافِ عَنِ الْيَمِينِ.
قُلْتُ: وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلْأَثَرِ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا عَنْ أَنَسٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا بِوَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يُحْمَلَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى حَالَةِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ، لِأَنَّ حُجْرَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ مِنْ جِهَةِ يَسَارِهِ، وَيُحْمَلَ حَدِيثُ أَنَسٍ عَلَى مَا سِوَى ذَلِكَ كَحَالِ السَّفَرِ. ثُمَّ إِذَا تَعَارَضَ اعْتِقَادُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَنَسٍ رُجِّحَ ابْنُ مَسْعُودٍ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ وَأَسَنُّ وَأَجَلُّ وَأَكْثَرُ مُلَازَمَةً لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَقْرَبُ إِلَى مَوْقِفِهِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ أَنَسٍ، وَبَأنَ فِي إِسْنَادِ حَدِيثِ أَنَسٍ مَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ وَهُوَ السُّدِّيُّ، وَبِأَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بِخِلَافِ حَدِيثِ أَنَسٍ فِي الْأَمْرَيْنِ، وَبِأَنَّ رِوَايَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ تُوَافِقُ ظَاهِرَ الْحَالِ لِأَنَّ حُجْرَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ عَلَى جِهَةِ يَسَارِهِ كَمَا تَقَدَّمَ.
ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِوَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ قَالَ: كَانَ أَكْثَرُ انْصِرَافِهِ عَنْ يَسَارِهِ، نَظَرَ إِلَى هَيْئَتِهِ فِي حَالِ الصَّلَاةِ، وَمَنْ قَالَ: كَانَ أَكْثَرُ انْصِرَافِهِ عَنْ يَمِينِهِ، نَظَرَ إِلَى هَيْئَتِهِ فِي حَالَةِ اسْتِقْبَالِهِ الْقَوْمَ بَعْدَ سَلَامِهِ مِنَ الصَّلَاةِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَخْتَصُّ الِانْصِرَافُ بِجِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْعُلَمَاءُ: يُسْتَحَبُّ الِانْصِرَافُ إِلَى جِهَةِ حَاجَتِهِ. لَكِنْ قَالُوا: إِذَا اسْتَوَتِ الْجِهَتَانِ فِي حَقِّهِ فَالْيَمِينُ أَفْضَلُ لِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ الْمُصَرِّحَةِ بِفَضْلِ التَّيَامُنِ؛ كَحَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمِ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: فِيهِ أَنَّ الْمَنْدُوبَاتِ قَدْ تَنْقَلِبُ مَكْرُوهَاتٍ إِذَا رُفِعَتْ عَنْ رُتْبَتِهَا، لِأَنَّ التَّيَامُنَ مُسْتَحَبٌّ فِي كُلِّ شَيْءٍ، أَيْ: مِنْ أُمُورِ الْعِبَادَةِ، لَكِنْ لَمَّا خَشِيَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنْ يَعْتَقِدُوا وُجُوبَهُ أَشَارَ إِلَى كَرَاهَتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
160 - بَاب مَا جَاءَ فِي الثُّومِ النِّيِّء وَالْبَصَلِ وَالْكُرَّاثِ
وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَكَلَ الثُّومَ أَوْ الْبَصَلَ مِنْ الْجُوعِ أَوْ غَيْرِهِ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا
583 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ يَعْنِي الثُّومَ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا
[الحديث 853 - أطرافه في: 7359، 5452، 855]
584 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ يُرِيدُ الثُّومَ فَلَا يَغْشَانَا فِي مَسَاجِدِنَا قُلْتُ مَا يَعْنِي بِهِ قَالَ مَا أُرَاهُ يَعْنِي إِلاَّ نِيئَهُ وَقَالَ مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ إِلاَّ نَتْنَهُ
585 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ زَعَمَ عَطَاءٌ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ زَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا فَلْيَعْتَزِلْنَا أَوْ قَالَ فَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِقِدْرٍ فِيهِ خَضِرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا فَسَأَلَ فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنْ الْبُقُولِ فَقَالَ قَرِّبُوهَا إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ كَانَ مَعَهُ فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا قَالَ كُلْ فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي "
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ أُتِيَ بِبَدْرٍ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ يَعْنِي طَبَقًا فِيهِ خَضِرَاتٌ وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّيْثُ وَأَبُو صَفْوَانَ عَنْ يُونُسَ قِصَّةَ الْقِدْرِ فَلَا أَدْرِي هُوَ مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ أَوْ فِي الْحَدِيثِ
586 -
حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ سَأَلَ رَجُلٌ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ مَا سَمِعْتَ نَبِيَّ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي الثُّومِ فَقَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَلَا يَقْرَبْنَا أَوْ لَا يُصَلِّيَنَّ مَعَنَا "
[الحديث 856 - طرفه في: 5451]
قَوْلُهُ: (بَابُ مَا جَاءَ فِي الثُّومِ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ وَالَّتِي بَعْدَهَا مِنْ أَحْكَامِ الْمَسَاجِدِ. وَأَمَّا التَّرَاجِمُ الَّتِي قَبْلَهَا فَكُلُّهَا مِنْ صِفَةِ الصَّلَاةِ. لَكِنْ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ وَمَا بَعْدَهَا لِذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ بَنَى صِفَةَ الصَّلَاةِ عَلَى الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ، وَلِهَذَا لَمْ يُفْرِدْ مَا بَعْدَ كِتَابِ الْأَذَانِ بِكِتَابٍ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ أَحْكَامَ الْإِقَامَةِ ثُمَّ الْإِمَامَةِ ثُمَّ الصُّفُوفِ ثُمَّ الْجَمَاعَةِ ثُمَّ صِفَةَ الصَّلَاةِ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ مُرْتَبِطًا بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَاقْتَضَى فَضْلَ حُضُورِ الْجَمَاعَةِ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ نَاسَبَ أَنْ يُورِدَ فِيهِ مَنْ قَامَ بِهِ عَارِضٌ كَأَكْلِ الثُّومِ، وَمَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ كَالصِّبْيَانِ، وَمَنْ تُنْدَبُ لَهُ فِي حَالَةٍ دُونَ حَالَةٍ كَالنِّسَاءِ، فَذَكَرَ هَذِهِ التَّرَاجِمَ فَخَتَمَ بِهَا صِفَةَ الصَّلَاةِ.
قَوْلُهُ: (الثُّومِ) بِضَمِّ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ، (وَالنِّيءِ) بِكَسْرِ النُّونِ وَبَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ ثُمَّ هَمْزَةٌ وَقَدْ تُدْغَمُ، وَتَقْيِيدُهُ بِالنِّيءِ حَمْلٌ مِنْهُ لِلْأَحَادِيثِ الْمُطْلَقَةِ فِي الثُّومِ عَلَى غَيْرِ النَّضِيجِ منْهُ. وَقَوْلُهُ فِي التَّرْجَمَةِ: وَالْكُرَّاثِ، لَمْ يَقَعْ ذِكْرُهُ فِي أَحَادِيثِ الْبَابِ الَّتِي ذَكَرَهَا، لَكِنَّهُ أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ جَابِرٍ كَمَا سَأَذْكُرُهُ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ
قَوْلِ بَعْضِهِمْ: إِنَّهُ قَاسَهُ عَلَى الْبَصَلِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اسْتَنْبَطَ الْكُرَّاثَ مِنْ عُمُومِ الْخَضِرَاتِ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهَا دُخُولًا أَوْلَوِيًّا لِأَنَّ رَائِحَتَهُ أَشَدُّ.
قَوْلُهُ: (وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) هُوَ بِكَسْرِ اللَّامِ، وقَوْلُهُ:(مِنَ الْجُوعِ أَوْ غَيْرِهِ) لَمْ أَرَ التَّقْيِيدَ بِالْجُوعِ وَغَيْرِهِ صَرِيحًا لَكِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِ الصَّحَابِيِّ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ جَابِرٍ وَغَيْرِهِ، فَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكْلِ الْبَصَلِ وَالْكُرَّاثِ، فَغَلَبَتْنَا الْحَاجَةُ الْحَدِيثَ. وَلَهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: لَمْ نَعُدْ أَنْ فُتِحَتْ خَيْبَرُ فَوَقَعْنَا فِي هَذِهِ الْبَقْلَةِ وَالنَّاسُ جِيَاعٌ الْحَدِيثَ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: أَلْحَقَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْمَجْذُومَ وَغَيْرَهُ بِآكِلِ الثُّومِ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْمَسْجِدِ، قَالَ: وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ آكِلَ الثُّومِ أَدْخَلَ عَلَى نَفْسِهِ بِاخْتِيَارِهِ هَذَا الْمَانِعَ، وَالْمَجْذُومُ عِلَّتُهُ سَمَاوِيَّةٌ. قَالَ: لَكِنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ جُوعٍ أَوْ غَيْرِهِ، يَدُلُّ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا. انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ رَأَى قَوْلَ الْبُخَارِيِّ فِي التَّرْجَمَةِ وَقَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَخْ، فَظَنَّهُ لَفْظَ حَدِيثٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ مِنْ تَفَقُّهِ الْبُخَارِيِّ وَتَجْوِيزِهِ لِذِكْرِ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى.
قَوْلُهُ: (مَنْ أَكَلَ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى إِبَاحَةِ أَكْلِ الثُّومِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَنْ أَكَلَ لَفْظُ إِبَاحَةٍ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ إِنَّمَا تُعْطِي الْوُجُودَ لَا الْحُكْمَ، أَيْ مَنْ وُجِدَ مِنْهُ الْأَكْلُ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ مُبَاحًا أَوْ غَيْرَ مُبَاحٍ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ الدَّلَالَةُ عَلَى عَدَمِ تَحْرِيمِهِ كَمَا سَيَأْتِي.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) هُوَ الْقَطَّانُ، وَعُبَيْدُ اللهِ: هُوَ ابْنُ عُمَرَ.
قَوْلُهُ: (قَالَ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ) قَالَ الدَّاوُدِيُّ: أَيْ حِينَ أَرَادَ الْخُرُوجَ، أَوْ حِينَ قَدِمَ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّ الصَّوَابَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ وَهُوَ فِي الْغَزَاةِ نَفْسِهَا، قَالَ: وَلَا ضَرُورَةَ تَمْنَعُ أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِذَلِكَ فِي السَّفَرِ. انْتَهَى.
فَكَأَنَّ الَّذِي حَمَلَ الدَّاوُدِيَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ فَلِهَذَا حُمِلَ الْخَبَرَ عَلَى ابْتِدَاءِ التَّوَجُّهِ إِلَى خَيْبَرَ أَوِ الرُّجُوعِ إِلَى الْمَدِينَةِ، لَكِنْ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ الْمَذْكُورَ صَدَرَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم عَقِبَ فَتْحِ خَيْبَرَ فَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: مَسْجِدَنَا يُرِيدُ بِهِ الْمَكَانَ الَّذِي أُعِدَّ لِيُصَلِّيَ فِيهِ مُدَّةَ إِقَامَتِهِ هُنَاكَ أَوِ الْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ الْجِنْسُ وَالْإِضَافَةُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ أَيْ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَ الْمُسْلِمِينَ. وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ أَحْمَدَ، عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ فِيهِ بِلَفْظِ فَلَا يَقْرَبَنَّ الْمَسَاجِدَ وَنَحْوُهُ لِمُسْلِمٍ وَهَذَا يَدْفَعُ قَوْلَ مَنْ خَصَّ النَّهْيَ بِمَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا سَيَأْتِي، وَقَدْ حَكَاهُ ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَوَهَّاهُ. وَفِي مُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ هَلِ النَّهْيُ لِلْمَسْجِدِ الْحَرَامِ خَاصَّةً أَوْ فِي الْمَسَاجِدِ؟ قَالَ: لَا بَلْ فِي الْمَسَاجِدِ.
قَوْلُهُ: (مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ يَعْنِي الثُّومَ) لَمْ أَعْرِفِ الْقَائِلَ: يَعْنِي، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، فَقَدْ رَوَاهُ السَّرَّاجُ مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ الْهَادِي، عَنْ نَافِعٍ بِدُونِهَا وَلَفْظُهُ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكْلِ الثُّومِ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَزَادَ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ: حَتَّى يَذْهَبَ رِيحُهَا. وَفِي قَوْلِهِ: شَجَرَةٌ، مَجَازٌ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ فِي اللُّغَةِ أَنَّ الشَّجَرَةَ مَا كَانَ لَهَا سَاقٌ وَمَا لَا سَاقَ لَهُ يُقَالُ لَهُ: نَجْمٌ، وَبِهَذَا فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} ; وَمِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ مَنْ قَالَ: كُلُّ مَا ثَبَتَتْ لَهُ أَرُومَةٌ، أَيْ أَصْلٌ فِي الْأَرْضٌ يَخْلُفُ مَا قُطِعَ مِنْهُ فَهُوَ شَجَرٌ، وَإِلَّا فَنَجْمٌ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِطْلَاقُ الشَّجَرِ عَلَى الثُّومِ وَالْعَامَّةُ لَا تَعْرِفُ الشَّجَرَ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ سَاقٌ اهـ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَيْنَ الشَّجَرِ وَالنَّجْمِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ، فَكُلُّ نَجْمٍ شَجَرٌ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ كَالشَّجَرِ وَالنَّخْلِ، فَكُلُّ نَخْلٍ شَجَرٌ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٌ) هُوَ الْمُسْنَدِيُّ، وَأَبُو عَاصِمٍ هُوَ النَّبِيلِيُّ وَهُوَ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ، وَرُبَّمَا رَوَى عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ كَمَا هُنَا.
قَوْلُهُ: (يُرِيدُ الثُّومَ) لَمْ أَعْرِفِ الَّذِي فَسَّرَهُ أَيْضًا وَأَظُنُّهُ ابْنَ جُرَيْجٍ فَإِنَّ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ الْجَزْمَ بِذِكْرِ الثُّومِ. عَلَى أَنَّهُ قَدِ اخْتُلِفَ فِي سِيَاقِهِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِلَفْظِ:
مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الْبَقْلَةِ الثُّومِ، وَقَالَ مَرَّةً: مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ، وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ مِثْلَهُ وَعَيَّنَ الَّذِي قَالَ، وَقَالَ مَرَّةً وَلَفْظُهُ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَقَالَ عَطَاءٌ فِي وَقْتٍ آخَرَ: الثُّومُ وَالْبَصَلُ وَالْكُرَّاثُ وَرَوَاهُ أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ بِلَفْظِ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكْلِ الْبَصَلِ وَالْكُرَّاثِ قَالَ: وَلَمْ يَكُنْ بِبَلَدِنَا يَوْمَئِذٍ الثُّومُ هَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ. قُلْتُ: وهَذَا لَا يُنَافِي التَّفْسِيرَ الْمُتَقَدِّمَ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِهِمْ أَنْ لَا يُجْلَبَ إِلَيْهِمْ، حَتَّى لَوِ امْتَنَعَ هَذَا الْحَمْلُ لَكَانَتْ رِوَايَةُ الْمُثْبِتِ مُقَدَّمَةً عَلَى رِوَايَةِ النَّافِي، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (فَلَا يَغْشَانَا) كَذَا فِيهِ بِصِيغَةِ النَّفْيِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا النَّهْيُ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: أَوْ عَلَى لُغَةِ مَنْ يُجْرِي الْمُعْتَلَّ مَجْرَى الصَّحِيحِ، أَوْ أَشْبَعَ الرَّاوِي الْفَتْحَةَ فَظَنَّ أَنَّهَا أَلِفٌ. وَالْمُرَادُ بِالْغَشَيَانِ الْإِتْيَانُ، أَيْ فَلَا يَأْتِنَا.
قَوْلُهُ: (فِي مَسْجِدِنَا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَأَبِي الْوَقْتِ: مَسَاجِدِنَا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ.
قَوْلُهُ: (قُلْتُ مَا يَعْنِي بِهِ) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِ الْقَائِلِ وَالْمَقُولِ لَهُ، وَأَظُنُّ السَّائِلَ ابْنَ جُرَيْجٍ وَالْمَسْئُولَ عَطَاءً، وفِي مُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ مَا يُرْشِدُ إِلَى ذَلِكَ، وَجَزَمَ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّ الْقَائِلَ عَطَاءٌ وَالْمَسْئُولَ جَابِرٌ، وَعَلَى هَذَا فَالضَّمِيرُ فِي أُرَاهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، أَيْ أَظُنُّهُ، ونَيِّئَهُ تَقَدَّمَ ضَبْطُهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ إِلَّا نَتْنَهُ) بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقَ بَعْدَهَا نُونٌ أُخْرَى، وَلَمْ أَجِدْ طَرِيقَ مَخْلَدٍ هَذِهِ مَوْصُولَةً بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ أَخْرَجَ السَّرَّاجُ، عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنْ مَخْلَدٍ هَذَا الْحَدِيثَ لَكِنْ قَالَ: عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ بَدَلَ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّعْلِيقِ الْمَذْكُورِ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فِيهِ: أَلَمْ أَنْهَكُمْ عَنْ هَذِهِ الْبَقْلَةِ الْخَبِيثَةِ أَوِ الْمُنْتِنَةِ، فَإِنْ كَانَ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ وَإِلَّا فَمَا أَظُنُّهُ إِلَّا تَصْحِيفًا، فَقَدْ رَوَاهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ كَمَا قَالَ أَبُو عَاصِمٍ، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ بِلَفْظِ: أُرَاهُ يَعْنِي النِّيئَةَ الَّتِي لَمْ تُطْبَخْ وَكَذَا لِأَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِلَفْظِ: يُرِيدُ النِّيءَ الَّذِي لَمْ يُطْبَخْ وَهُوَ تَفْسِيرٌ لِلنِّيءِ بِأَنَّهُ الَّذِي لَمْ يُطْبَخْ وَهُوَ حَقِيقَتُهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ مَا لَمْ يَنْضَجْ فَيَدْخُلُ فِيهِ مَا طُبِخَ قَلِيلًا وَلَمْ يَبْلُغِ النُّضْجَ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ: أُتِيَ بِبَدْرٍ، وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: يَعْنِي طَبَقًا فِيهِ خَضِرَاتٌ، وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّيْثُ وَأَبُو صَفْوَانَ عَنْ يُونُسَ قِصَّةَ الْقِدْرِ، فَلَا أَدْرِي هُوَ مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ أَوْ فِي الْحَدِيثِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ يُونُسَ) هُوَ ابْنُ يَزِيدَ.
قَوْلُهُ: (زَعَمَ عَطَاءٌ) هُوَ ابْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ: عَنْ عَطَاءٍ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ: حَدَّثَنِي عَطَاءٌ.
قَوْلُهُ: (أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ زَعَمَ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَمْ يَقُلْ زَعَمَ عَلَى وَجْهِ التُّهْمَةِ، لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ أَمْرًا مُخْتَلَفًا فِيهِ أَتَى بِلَفْظِ الزَّعْمِ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا يَكَادُ يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي أَمْرٍ يُرْتَابُ بِهِ أَوْ يُخْتَلَفُ فِيهِ. قُلْتُ: وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْقَوْلِ الْمُحَقَّقِ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَلَامُ الْخَطَّابِيِّ لَا يَنْفِي ذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ الْآتِيَةِ عَنْ جَابِرٍ وَلَمْ يَقُلْ زَعَمَ.
قَوْلُهُ: (فَلْيَعْتَزِلْنَا أَوْ فَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي وَهُوَ الزُّهْرِيُّ، وَلَمْ تَخْتَلِفِ الرُّوَاةُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (أَوْ لِيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ بِالشَّكِّ أَيْضًا، وَلِغَيْرِهِ: وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ بِوَاوِ الْعَطْفِ، وَكَذَا لِمُسْلِمٍ، وَهِيَ أَخَصُّ مِنَ الِاعْتِزَالِ لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي الْبَيْتِ أَوْ غَيْرِهِ.
قَوْلُهُ: (وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) هَذَا حَدِيثٌ آخَرُ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَحَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ، وَقَدْ تَرَدَّدَ الْبُخَارِيُّ فِيهِ هَلْ هُوَ مَوْصُولٌ أَوْ مُرْسَلٌ كَمَا سَيَأْتِي وَهَذَا الْحَدِيثُ الثَّانِي كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ بِسِتِّ سِنِينَ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ وَقَعَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ وَكَانَتْ سَنَةَ سَبْعٍ، وَهَذَا وَقَعَ فِي السَّنَةِ الْأُولَى عِنْدَ قُدُومِهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ وَنُزُولِهِ فِي بَيْتِ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ.
قَوْلُهُ: (أُتِيَ بِقِدْرٍ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَهُوَ مَا يُطْبَخُ فِيهِ، وَيَجُوزُ
فِيهِ التَّأْنِيثُ وَالتَّذْكِيرُ، وَالتَّأْنِيثُ أَشْهَرُ، لَكِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: فِيهِ خَضِرَاتٌ يَعُودُ عَلَى الطَّعَامِ الَّذِي فِي الْقِدْرِ، فَالتَّقْدِيرُ أُتِيَ بِقِدْرٍ مِنْ طَعَامٍ فِيهِ خَضِرَاتٌ، وَلِهَذَا لَمَّا أَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَى الْقِدْرِ أَعَادَهُ بِالتَّأْنِيثِ حَيْثُ قَالَ: فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا وَحَيْثُ قَالَ: قَرِّبُوهَا وَقَوْلُهُ: خُضَرَاتٌ بِضَمِّ الْخَاءِ وَفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَتَيْنِ كَذَا ضُبِطَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ ثَانِيهِ وَهُوَ جَمْعُ خَضِرَةٍ، وَيَجُوزُ مَعَ ضَمِّ أَوَّلِهِ ضَمُّ الضَّادِ وَتَسْكِينُهَا أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: فِيهِ النَّقْلُ بِالْمَعْنَى، إِذِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقُلْهُ بِهَذَا اللَّفْظِ بَلْ قَالَ قَرِّبُوهَا إِلَى فُلَانٍ مَثَلًا، أَوْ فِيهِ حَذْفٌ أَيْ قَالَ قَرِّبُوهَا مُشِيرًا أَوْ أَشَارَ إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ.
قُلْتُ وَالْمُرَادُ بِالْبَعْضِ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ فِي قِصَّةِ نُزُولِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ قَالَ فَكَانَ يَصْنَعُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا فَإِذَا جِيءَ بِهِ إِلَيْهِ - أَيْ بَعْدَ أَنْ يَأْكُلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ سَأَلَ عَنْ مَوْضِعِ أَصَابِعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَصَنَعَ ذَلِكَ مَرَّةً فَقِيلَ لَهُ: لَمْ يَأْكُلْ، وَكَانَ الطَّعَامُ فِيهِ ثُومٌ، فَقَالَ: أَحَرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا وَلَكِنْ أَكْرَهُهُ.
قَوْلُهُ: (كُلْ فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي) أَيْ الْمَلَائِكَةَ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَابْنِ حِبَّانَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُرْسِلَ إِلَيْهِ بِطَعَامٍ مِنْ خَضِرَةٍ فِيهِ بَصَلٌ أَوْ كُرَّاثٌ فَلَمْ يَرَ فِيهِ أَثَرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فأبى أَنْ يَأْكُلَ، فَقَالَ لَهُ: مَا مَنَعَكَ؟ قَالَ: لَمْ أَرَ أَثَرَ يَدِكَ. قَالَ: أَسْتَحِي مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ وَلَيْسَ بِمُحَرَّمٍ وَلَهُمَا مِنْ حَدِيثِ أُمِّ أَيُّوبَ قَالَتْ: نَزَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَكَلَّفْنَا لَهُ طَعَامًا فِيهِ بَعْضُ الْبُقُولِ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ نَحْوَهُ وَقَالَ فِيهِ: كُلُوا، فَإِنِّي لَسْتُ كَأَحَدٍ مِنْكُمْ، إِنِّي أَخَافُ أُوذِيَ صَاحِبِي.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ ابْنِ وَهْبٍ أُتِيَ بِبَدْرٍ) مُرَادُهُ أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ صَالِحٍ خَالَفَ سَعِيدَ بْنَ عُفَيْرٍ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ فَقَطْ وَشَارَكَهُ فِي سَائِرِ الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ بِإِسْنَادِهِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الِاعْتِصَامِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ: أُتِيَ بِبَدْرٍ وَفِيهِ قَوْلُ ابْنِ وَهْبٍ: يَعْنِي طَبَقًا فِيهِ خَضِرَاتٌ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ، لَكِنْ أَخَّرَ تَفْسِيرَ ابْنِ وَهْبٍ فَذَكَرَهُ بَعْدَ فَرَاغِ الْحَدِيثِ. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي الطَّاهِرِ وَحَرْمَلَةَ كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ وَهْبٍ فَقَالَ: بِقِدْرٍ بِالْقَافِ، وَرَجَّحَ جَمَاعَةٌ مِنَ الشُّرَّاحِ رِوَايَةَ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ لِكَوْنِ ابْنِ وَهْبٍ فَسَّرَ الْبَدْرَ بِالطَّبَقِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ حَدَّثَ بِهِ كَذَلِكَ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ لَفْظَةَ بِقِدْرٍ تَصْحِيفٌ لِأَنَّهَا تُشْعِرُ بِالطَّبْخِ، وَقَدْ وَرَدَ الْإِذْنُ بِأَكْلِ الْبُقُولِ مَطْبُوخَةً، بِخِلَافِ الطَّبَقِ فَظَاهِرُهُ أَنَّ الْبُقُولَ كَانَتْ فِيهِ نَيِّئَةً.
وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ رِوَايَةَ الْقِدْرِ أَصَحُّ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ وَأُمِّ أَيُّوبَ جَمِيعًا، فَإِنَّ فِيهِ التَّصْرِيحَ بِالطَّعَامِ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ امْتِنَاعِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَكْلِ الثُّومِ وَغَيْرِهِ مَطْبُوخًا وَبَيْنَ إِذْنِهِ لَهُمْ فِي أَكْلِ ذَلِكَ مَطْبُوخًا، فَقَدْ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنِّي لَسْتُ كَأَحَدٍ مِنْكُمْ وَتَرْجَمَ ابْنُ خُزَيْمَةَ عَلَى حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ ذَكَرَ مَا خَصَّ اللَّهُ نَبِيَّهُ بِهِ مِنْ تَرْكِ أَكْلِ الثُّومِ وَنَحْوِهِ مَطْبُوخًا، وَقَدْ جَمَعَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنَّ الَّذِي فِي الْقِدْرِ لَمْ يَنْضَجْ حَتَّى تَضْمَحِلَّ رَائِحَتُهُ فَبَقِيَ فِي حُكْمِ النِّيءِ.
قَوْلُهُ: (بِبَدْرٍ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَهُوَ الطَّبَقُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِاسْتِدَارَتِهِ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْقَمَرِ عِنْدَ كَمَالِهِ.
قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّيْثُ، وَأَبُو صَفْوَانَ، عَنْ يُونُسَ قِصَّةَ الْقِدْرِ) أَمَّا رِوَايَةُ اللَّيْثِ فَوَصَلَهَا الذُّهْلِيُّ فِي الزُّهْرِيَّاتِ وَأَمَّا رِوَايَةُ أَبِي صَفْوَانَ وَهُوَ الْأُمَوِيُّ فَوَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي الْأَطْعِمَةِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ عَنْهُ وَاقْتَصَرَ عَلَى الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَكَذَا اقْتَصَرَ عُقَيْلٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ كَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ.
قَوْلُهُ: (فَلَا أَدْرِي إِلَخْ) هُوَ مِنْ كَلَامِ الْبُخَارِيِّ، وَوَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ كَلَامُ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ أَوْ مَنْ فَوْقَهُ، وَقَدْ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: الْأَصْلُ أَنَّ مَا كَانَ مِنَ الْحَدِيثِ مُتَّصِلًا بِهِ فَهُوَ مِنْهُ حَتَّى يَجِيءَ الْبَيَانُ الْوَاضِحُ بِأَنَّهُ مُدْرَجٌ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ) هُوَ ابْنُ صُهَيْبٍ.
قَوْلُهُ: (سَأَلَ رَجُلٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَتِهِ،
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى إِطْلَاقِ الشَّجَرَةِ عَلَى الثُّومِ، وَقَوْلُهُ: فَلَا يَقْرَبَنَّ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ، وَلَيْسَ فِي هَذَا تَقْيِيدُ النَّهْيِ بِالْمَسْجِدِ فَيُسْتَدَلُّ بِعُمُومِهِ عَلَى إِلْحَاقِ الْمَجَامِعِ بِالْمَسَاجِدِ كَمُصَلَّى الْعِيدِ وَالْجِنَازَةِ وَمَكَانِ الْوَلِيمَةِ، وَقَدْ أَلْحَقَهَا بَعْضُهُمْ بِالْقِيَاسِ، وَالتَّمَسُّكِ بِهَذَا الْعُمُومِ أَوْلَى، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، لَكِنْ قَدْ عُلِّلَ الْمَنْعُ فِي الْحَدِيثِ بِتَرْكِ أَذَى الْمَلَائِكَةِ وَتَرْكِ أَذَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا جُزْءَ عِلَّةٍ اخْتَصَّ النَّهْيُ بِالْمَسَاجِدِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ، وَإِلَّا لَعَمَّ النَّهْيُ كُلَّ مَجْمَعٍ كَالْأَسْوَاقِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْبَحْثَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ شَيْئًا فَلَا يَقْرَبْنَا فِي الْمَسْجِدِ قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ: ذِكْرُ الصِّفَةِ فِي الْحُكْمِ يَدُلُّ عَلَى التَّعْلِيلِ بِهَا، وَمِنْ ثَمَّ رَدَّ عَلَى الْمَازِرِيِّ حَيْثُ قَالَ: لَوْ أَنَّ جَمَاعَةَ مَسْجِدٍ أَكَلُوا كُلُّهمْ مَا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ لَمْ يُمْنَعُوا مِنْهُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا أَكَلَ بَعْضُهُمْ، لِأَنَّ الْمَنْعَ لَمْ يَخْتَصَّ بِهِمْ بَلْ بِهِمْ وَبِالْمَلَائِكَةِ، وَعَلَى هَذَا يَتَنَاوَلُ الْمَنْعُ مَنْ تَنَاوَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ مُطْلَقًا وَلَوْ كَانَ وَحْدَهُ. وَاسْتُدِلَّ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ لَيْسَتْ فَرْضَ عَيْنٍ.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ لِأَنَّ اللَّازِمَ مِنْ مَنْعِهِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَكْلُ هَذِهِ الْأُمُورِ مُبَاحًا فَتَكُونُ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ لَيْسَتْ فَرْضَ عَيْنٍ، أَوْ حَرَامًا فَتَكُونُ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ فَرْضًا. وَجُمْهُورُ الْأُمَّةِ عَلَى إِبَاحَةِ أَكْلِهَا فَيَلْزَمُ أَنْ لَا تَكُونَ الْجَمَاعَةُ فَرْضَ عَيْنٍ. وَتَقْرِيرُهُ أَنْ يُقَالَ: أَكْلُ هَذِهِ الْأُمُورِ جَائِزٌ، وَمِنْ لَوَازِمِهِ تَرْكُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَتَرْكُ الْجَمَاعَةِ فِي حَقِّ آكِلِهَا جَائِزٌ، وَلَازِمُ الْجَائِزِ جَائِزٌ وَذَلِكَ يُنَافِي الْوُجُوبَ
(1)
. وَنُقِلَ عَنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ أَوْ بَعْضِهِمْ تَحْرِيمُهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ فَرْضُ عَيْنٍ، وَتَقْرِيرُهُ أَنْ يُقَالَ: صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ فَرْضُ عَيْنٍ، وَلَا تَتِمُّ إِلَّا بِتَرْكِ أَكْلِهَا، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، فَتَرْكُ أَكْلِ هَذَا وَاجِبٌ فَيَكُونُ حَرَامًا اهـ. وَكَذَا نَقَلَهُ غَيْرُهُ عَنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ، لَكِنْ صَرَّحَ ابْنُ حَزْمٍ مِنْهُمْ بِأَنَّ أَكْلَهَا حَلَالٌ مَعَ قَوْلِهِ بِأَنَّ الْجَمَاعَةَ فَرْضُ عَيْنٍ، وَانْفَصَلَ عَنِ اللُّزُومِ الْمَذْكُورِ بِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ أَكْلِهَا مُخْتَصٌّ بِمَنْ عَلِمَ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ قَبْلَ زَوَالِ الرَّائِحَةِ. وَنَظِيرُهُ أَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ فَرْضُ عَيْنٍ بِشُرُوطِهَا، وَمَعَ ذَلِكَ تَسْقُطُ بِالسَّفَرِ. وَهُوَ فِي أَصْلِهِ مُبَاحٌ، لَكِنْ يَحْرُمُ عَلَى مَنْ أَنْشَأَهُ بَعْدَ سَمَاعِ النِّدَاءِ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ أَيْضًا: قَدْ يُسْتَدَلُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ أَكْلَ هَذِهِ الْأُمُورِ مِنَ الْأَعْذَارِ الْمُرَخِّصَةِ فِي تَرْكِ حُضُورِ الْجَمَاعَةِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ خَرَجَ مَخْرَجَ الزَّجْرِ عَنْهَا فَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عُذْرًا فِي تَرْكِهَا إِلَّا أَنْ تَدْعُوَ إِلَى أَكْلِهَا ضَرُورَةٌ.
قَالَ: وَيَبْعُدُ هَذَا مِنْ وَجْهِ تَقْرِيبِهِ إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَنْفِي الزَّجْرَ اهـ. وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى حَالَتَيْنِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الزَّجْرَ وَقَعَ فِي حَقِّ مَنْ أَرَادَ إِتْيَانَ الْمَسْجِدِ، وَالْإِذْنُ فِي التَّقْرِيبِ وَقَعَ فِي حَالَةٍ لَمْ يَكُنْ فِيهَا ذَلِكَ، بَلْ لَمْ يَكُنِ الْمَسْجِدُ النَّبَوِيُّ إِذْ ذَاكَ بُنِيَ، فَقَدْ قَدَّمْتُ أَنَّ الزَّجْرَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ قِصَّةِ التَّقْرِيبِ بِسِتِّ سِنِينَ.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: تَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ أَكْلَ الثُّومِ عُذْرٌ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجَمَاعَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ عُقُوبَةٌ لِآكِلِهِ عَلَى فِعْلِهِ إِذْ حُرِمَ فَضْلَ الْجَمَاعَةِ اهـ. وَكَأَنَّهُ يَخُصُّ الرُّخْصَةَ بِمَا لَا سَبَبَ لِلْمَرْءِ فِيهِ كَالْمَطَرِ مَثَلًا، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكْلُهَا حَرَامًا، وَلَا أَنَّ الْجَمَاعَةَ فَرْضُ عَيْنٍ.
وَاسْتَدَلَّ الْمُهَلَّبُ بِقَوْلِهِ: فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَفْضَلُ مِنَ الْآدَمِيِّينَ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَفْضِيلِ بَعْضِ
(1)
ليس هذا التقرير بجيد، والصواب أن إباحة أكل هذه الخضروات ذوات الرائحة الكريهة لاينافي كون الجماعة فرض عين، كما أن حضور الطعام يسوغ ترك الجماعة لمن قدم بين يديه مع كون ذلك مباحا. وخلاصة الكلام أن الله سبحانه يسر على عباده، وجعل مثل هذه المباحات عذرا في ترك الجماعة لمصلحة شرعية، فإذا أراد أحد أن يتخذها حيلة لترك الجماعة حرم عليه ذلك. والله أعلم
الْأَفْرَادِ عَلَى بَعْضِ تَفْضِيلُ الْجِنْسِ عَلَى الْجِنْسِ، وَاخْتُلِفَ هَلْ كَانَ أَكْلُ ذَلِكَ حَرَامًا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ لَا؟ وَالرَّاجِحُ الْحِلُّ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ بِمُحَرَّمٍ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ. وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ، عَنْ مَالِكٍ قَالَ: الْفُجْلُ إِنْ كَانَ يَظْهَرُ رِيحُهُ فَهُوَ كَالثُّومِ. وَقَيَّدَهُ عِيَاضٌ بِالْجُشَاءِ. قُلْتُ: وَفِي الطَّبَرَانِيِّ الصَّغِيرِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ التَّنْصِيصُ عَلَى ذِكْرِ الْفُجْلِ فِي الْحَدِيثِ، لَكِنْ فِي إِسْنَادِهِ يَحْيَى بْنُ رَاشِدٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَأَلْحَقَ بَعْضُهُمْ بِذَلِكَ مَنْ بِفِيهِ بَخْرٌ أَوْ بِهِ جُرْحٌ لَهُ رَائِحَةٌ. وَزَادَ بَعْضُهُمْ فَأَلْحَقَ أَصْحَابَ الصَّنَائِعِ كَالسَّمَّاكِ، وَالْعَاهَاتِ كَالْمَجْذُومِ، وَمَنْ يُؤْذِي النَّاسَ بِلِسَانِهِ، وَأَشَارَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ تَوَسُّعٌ غَيْرُ مَرْضِيٍّ.
(فَائِدَةٌ): حُكْمُ رَحْبَةِ الْمَسْجِدِ وَمَا قَرُبَ مِنْهَا حُكْمُهُ، وَلِذَلِكَ كَانَ صلى الله عليه وسلم إِذَا وَجَدَ رِيَحهَا فِي الْمَسْجِدِ أَمَرَ بِإِخْرَاجِ مَنْ وُجِدَتْ مِنْهُ إِلَى الْبَقِيعِ كَمَا ثَبَتَ فِي مُسْلِمٍ، عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه.
(تَنْبَيهٌ): وَقَعَ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ: مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الْبَقْلَةِ الْخَبِيثَةِ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، ثَلَاثًا. وَبَوَّبَ عَلَيْهِ: تَوْقِيتَ النَّهْيِ عَنْ إِتْيَانِ الْجَمَاعَةِ لِآكِلِ الثُّومِ وَفِيهِ نَظَرٌ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ثَلَاثًا يَتَعَلَّقُ بِالْقَوْلِ، أَيْ: قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثًا، بَلْ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، لِأَنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ وُجُودُ الرَّائِحَةِ وَهِيَ لَا تَسْتَمِرُّ هَذِهِ الْمُدَّةَ.
161 - بَاب وُضُوءِ الصِّبْيَانِ وَمَتَى يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْغُسْلُ وَالطُّهُورُ؟
وَحُضُورِهِمْ الْجَمَاعَةَ وَالْعِيدَيْنِ وَالْجَنَائِزَ وَصُفُوفِهِمْ
857 -
حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنِي غُنْدَرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ الشَّيْبَانِيَّ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ مَرَّ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ فَأَمَّهُمْ وَصَفُّوا عَلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَمْرٍو، مَنْ حَدَّثَكَ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ.
[الحديث 857 - أطرافه في: 2665، 895، 880، 879]
858 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ.
[الحديث 858 - أطرافه: 22665، 895، 880، 879]
859 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو قَالَ: أَخْبَرَنِي كُرَيْبٌ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ لَيْلَةً فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَوَضَّأَ مِنْ شَنٍّ مُعَلَّقٍ وُضُوءًا خَفِيفًا يُخَفِّفُهُ عَمْرٌو وَيُقَلِّلُهُ جِدًّا ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، فَقُمْتُ فَتَوَضَّأْتُ نَحْوًا مِمَّا تَوَضَّأَ، ثُمَّ جِئْتُ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ فَحَوَّلَنِي فَجَعَلَنِي من يَمِينِهِ، ثُمَّ صَلَّى مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ اضْطَجَعَ فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ فَأَتَاهُ الْمُنَادِي يؤذنه بِالصَّلَاةِ فَقَامَ مَعَهُ إِلَى الصَّلَاةِ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، قُلْنَا لِعَمْرٍو: إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَنَامُ عَيْنُهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ؟ قَالَ عَمْرٌو: سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ: إِنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ، ثُمَّ قَرَأَ:{إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}
860 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِطَعَامٍ صَنَعَتْهُ، فَأَكَلَ مِنْهُ فَقَالَ: قُومُوا فَلِأُصَلِّيَ بِكُمْ، فَقُمْتُ إِلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدْ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لَبِثَ، فَنَضَحْتُهُ بِمَاءٍ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْيَتِيمُ مَعِي وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ.
861 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الِاحْتِلَامَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِمِنًى إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ فَنَزَلْتُ وَأَرْسَلْتُ الْأَتَانَ تَرْتَعُ وَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ أَحَدٌ.
862 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَعْتَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. . . وَقَالَ عَيَّاشٌ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: أَعْتَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْعِشَاءِ حَتَّى نَادَاهُ عُمَرُ قَدْ نَامَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ يُصَلِّي هَذِهِ الصَّلَاةَ غَيْرُكُمْ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَوْمَئِذٍ يُصَلِّي غَيْرَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.
683 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَابِسٍ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ لَهُ رَجُلٌ: شَهِدْتَ الْخُرُوجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَوْلَا مَكَانِي مِنْهُ مَا شَهِدْتُهُ، يَعْنِي مِنْ صِغَرِهِ، أَتَى الْعَلَمَ الَّذِي عِنْدَ دَارِ كَثِيرِ بْنِ الصَّلْتِ ثُمَّ خَطَبَ ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ أَنْ يَتَصَدَّقْنَ فَجَعَلَتْ الْمَرْأَةُ تُهْوِي بِيَدِهَا إِلَى حَلْقِهَا تُلْقِي فِي ثَوْبِ بِلَالٍ ثُمَّ أَتَى هُوَ وَبِلَالٌ الْبَيْتَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ وُضُوءِ الصِّبْيَانِ) قَالَ الزَّيْنُ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَمْ يَنُصَّ عَلَى حُكْمِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ عَبَّرَ بِالنَّدْبِ لَاقْتَضَى صِحَّةَ صَلَاةِ الصَّبِيِّ بِغَيْرِ وُضُوءٍ، وَلَوْ عَبَّرَ بِالْوُجُوبِ لَاقْتَضَى أَنَّ الصَّبِيَّ يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ كَمَا هُوَ حَدُّ الْوَاجِبِ، فَأَتَى بِعِبَارَةٍ سَالِمَةٍ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرِ الْغُسْلَ لِنُدُورِ مُوجِبِهِ مِنَ الصَّبِيِّ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ، ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِذِكْرِ الْوَقْتِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَقَالَ: وَمَتَى يَجِبُ عَلَيْهِمُ الْغُسْلُ وَالطَّهُورُ وَقَوْلُهُ: وَالطَّهُورُ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، وَلَيْسَ فِي أَحَادِيثِ الْبَابِ تَعْيِينُ وَقْتِ الْإِيجَابِ إِلَّا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فَإِنَّ مَفْهُومَهُ أَنَّ غُسْلَ الْجُمُعَةِ لَا يَجِبُ عَلَى غَيْرِ الْمُحْتَلِمِ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الِاحْتِلَامَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْغُسْلِ، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَكَذَا ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا: عَلِّمُوا الصَّبِيَّ الصَّلَاةَ ابْنَ سَبْعٍ، وَاضْرِبُوهُ عَلَيْهَا ابْنَ عَشْرٍ. فَهُوَ وَإِنِ اقْتَضَى تَعْيِينَ وَقْتِ الْوُضُوءِ لِتَوَقُّفِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَلَمْ يَقُلْ بِظَاهِرِهِ إِلَّا بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالُوا: تَجِبُ الصَّلَاةُ
عَلَى الصَّبِيِّ لِلْأَمْرِ بِضَرْبِهِ عَلَى تَرْكِهَا، وَهَذِهِ صِفَةُ الْوُجُوبِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ، وَحَكَى الْبَنْدَنِيجِيُّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَوْمَأَ إِلَيْهِ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ إِلَّا بِالْبُلُوغِ، وَقَالُوا: الْأَمْرُ بِضَرْبِهِ لِلتَّدْرِيبِ. وَجَزَمَ الْبَيْهَقِيُّ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ رُفِعَ الْقَلَمُ عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ لِأَنَّ الرَّفْعَ يَسْتَدْعِي سَبْقَ وَضْعٍ.
وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ. وَيُؤْخَذُ مِنْ إِطْلَاقِ الصَّبِيِّ عَلَى ابْنِ سَبْعٍ الرَّدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى صَبِيًّا إِلَّا إِذَا كَانَ رَضِيعًا، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ غُلَامٌ إِلَى أَنْ يَصِيرَ ابْنَ سَبْعٍ، ثُمَّ يَصِيرَ يَافِعًا إِلَى عَشْرٍ، وَيُوَافِقُ الْحَدِيثَ قَوْلُ الْجَوْهَرِيِّ: الصَّبِيُّ الْغُلَامُ.
قَوْلُهُ: (وَحُضُورِهِمْ) بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: وُضُوءِ الصِّبْيَانِ وَكَذَا قَوْلُهُ: وَصُفُوفِهِمْ.
ثُمَّ أَوْرَدَ فِي الْبَابِ سَبْعَةَ أَحَادِيثَ:
أَوَّلُهَا: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ صَلَاةُ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ إِذْ ذَاكَ بَالِغًا كَمَا سَيَأْتِي دَلِيلُهُ فِي خَامِسِ أَحَادِيثِ الْبَابِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ثَانِيهَا: حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُ إِيرَادِهِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ثَالِثُهَا: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي مَبِيتِهِ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ، وَفِيهِ وُضُوءُهُ وَصَلَاتُهُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَقْرِيرُهُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ حَوَّلَهُ فَجَعَلَهُ عَنْ يَمِينِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الطَّهَارَةِ، وَيَأْتِي بَقِيَّةُ مَبَاحِثِهِ فِي كِتَابِ الْوِتْرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
رَابِعُهَا: حَدِيثُ أَنَسٍ فِي صَفِّ الْيَتِيمِ مَعَهُ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَمُطَابَقَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْيُتْمَ دَالٌّ عَلَى الصِّبَا إِذْ لَا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلَامٍ، وَقَدْ أَقَرَّهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ.
خَامِسُهَا: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي مَجِيئِهِ إِلَى مِنًى وَمُرُورِهِ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ، وَدُخُولِهِ مَعَهُمْ وَتَقْرِيرِهِ عَلَى ذَلِكَ وَقَالَ فِيهِ: إِنَّهُ كَانَ نَاهَزَ الِاحْتِلَامَ، أَيْ قَارَبَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُهُ فِي أَبْوَابِ سُتْرَةِ الْمُصَلِّي.
سَادِسُهَا: حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي تَأْخِيرِ الْعِشَاءِ حَتَّى قَالَ عُمَرُ: نَامَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: فَهِمَ مِنْهُ الْبُخَارِيُّ أَنَّ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ الَّذِينَ نَامُوا كَانُوا حُضُورًا فِي الْمَسْجِدِ، وَلَيْسَ الْحَدِيثُ صَرِيحًا فِي ذَلِكَ، إِذْ يَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ نَامُوا فِي الْبُيُوتِ، لَكِنَّ الصِّبْيَانَ جَمْعٌ مُحَلَّى بِاللَّامِ فَيَعُمُّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مَعَ أُمِّهِ أَوْ غَيْرِهَا فِي الْبُيُوتِ وَمَنْ كَانَ مَعَ أُمِّهِ فِي الْمَسْجِدِ، وَقَدْ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ حَدِيثَ أَبِي قَتَادَةَ رَفَعَهُ: إِنِّي لَأَقُومُ إِلَى الصَّلَاةِ الْحَدِيثُ وَفِيهِ فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي شَرْحِهِ فِي أَبْوَابِ الْجَمَاعَةِ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الصَّبِيَّ كَانَ مَعَ أُمِّهِ فِي الْمَسْجِدِ وَأَنَّ احْتِمَالَ أَنَّهَا كَانَتْ تَرَكَتْهُ نَائِمًا فِي بَيْتِهَا وَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَاسْتَيْقَظَ فِي غَيْبَتِهَا فَبَكَى بُعَيْدُ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ الَّذِي فَهِمَهُ أَنَّ الْقَضَاءَ بِالْمَرْئِيِّ أَوْلَى مِنَ الْقَضَاءِ بِالْمُقَدَّرِ. انْتَهَى.
وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُهُ فِي أَبْوَابِ الْمَوَاقِيتِ، وَسَاقَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَا مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، وَشُعَيْبٍ بِلَفْظِ مَعْمَرٍ ثُمَّ سَاقَ لَفْظَ شُعَيْبٍ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَقَوْلُهُ: قَالَ عَيَّاشٌ وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: قَالَ لِي عَيَّاشٌ وَهُوَ بِالتَّحْتَانِيَّةِ وَالْمُعْجَمَةِ، وَتَحَوَّلَ الْإِسْنَادُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ مِنْ بَعْدِ الزُّهْرِيِّ، وَأَتَمَّهُ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، ثُمَّ خَتَمَ الْبَابَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي شُهُودِهِ صَلَاةَ الْعِيدِ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ صَرَّحَ فِيهِ بِأَنَّهُ كَانَ صَغِيرًا وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْعِيدَيْنِ، وَتَرْجَمَ لَهُ هُنَاكَ بَابَ خُرُوجِ الصِّبْيَانِ إِلَى الْمُصَلَّى وَاسْتُشْكِلَ قَوْلُهُ فِي التَّرْجَمَةِ: وَصُفُوفِهِمْ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِلصِّبْيَانِ صُفُوفٌ تَخُصُّهُمْ وَلَيْسَ فِي الْبَابِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِصُفُوفِهِمْ وُقُوفُهُمْ فِي الصَّفِّ مَعَ غَيْرِهِمْ، وَفِقْهُ ذَلِكَ هَلْ يَخْرُجُ مَنْ وَقَفَ مَعَهُ الصَّبِيُّ فِي الصَّفِّ عَنْ أَنْ يَكُونَ فَرْدًا حَتَّى يَسْلَمَ مِنْ بُطْلَانِ صَلَاتِهِ عِنْدَ مَنْ يَمْنَعُهُ أَوْ كَرَاهَتِهِ وَظَاهِرُ حَدِيثِ أَنَسٍ يَقْتَضِي الْإِجْزَاءَ، فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ مُطْلَقًا، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ فِي النَّفْلِ دُونَ الْفَرْضِ وَفِيهِ مَا فِيهِ
(1)
.
(1)
الصواب صحة مصافة الصبي في الفرض والنفل، لحديثي أنس وأبن عباس المذكورين في هذا الباب، والأصل أن الفريضة والنافلة سواء في الأحكام إلا ماخصه الدليل، وليس هنا دليل يمنع من مصافة الصبي في الفرض فوحبت التسوية بينهما. والله أعلم
162 - بَاب خُرُوجِ النِّسَاءِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِاللَّيْلِ وَالْغَلَسِ
864 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: أَعْتَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْعَتَمَةِ حَتَّى نَادَاهُ عُمَرُ نَامَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا يَنْتَظِرُهَا أَحَدٌ غَيْرُكُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ وَلَا، يُصَلَّى يَوْمَئِذٍ إِلَّا بِالْمَدِينَةِ، وَكَانُوا يُصَلُّونَ الْعَتَمَةَ فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ الْأَوَّلِ.
865 -
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ حَنْظَلَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا اسْتَأْذَنَكُمْ نِسَاؤُكُمْ بِاللَّيْلِ إِلَى الْمَسْجِدِ فَأْذَنُوا لَهُنَّ، تَابَعَهُ شُعْبَةُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
[الحديث 865 - أطرافه في 873، 899، 900، 5238]
قَوْلُهُ: (بَابُ خُرُوجِ النِّسَاءِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِاللَّيْلِ وَالْغَلَسِ) أَوْرَدَ فِيهِ سِتَّةَ أَحَادِيثَ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا إِلَّا الثَّانِي وَالْأَخِيرُ، وَبَعْضُهَا مُطْلَقٌ فِي الزَّمَانِ وَبَعْضُهَا مُقَيَّدٌ بِاللَّيْلِ أَوِ الْغَلَسِ، فَحُمِلَ الْمُطْلَقُ فِي التَّرْجَمَةِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ تَفَاصِيلُ سَتَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَى بَعْضِهَا.
فَأَوَّلُ: أَحَادِيثِ الْبَابِ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي تَأْخِيرِ الْعِشَاءِ حَتَّى نَادَى عُمَرَ: نَامَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ سَادِسًا لِأَحَادِيثِ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ.
ثَانِيهَا: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي النَّهْيِ عَنْ مَنْعِ النِّسَاءِ عَنِ الْمَسْجِدِ.
ثَالِثُهَا: حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ فِي مُكْثِ الْإِمَامِ بَعْدَ السَّلَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ النِّسَاءُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ قَبْلَ أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ.
رَابِعُهَا: حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ بِغَلَسٍ وَرُجُوعِ النِّسَاءِ مُتَلَفِّعَاتٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ قَبْلُ فِي الْمَوَاقِيتِ.
خَامِسُهَا: حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ فِي تَخْفِيفِ الصَّلَاةِ حِينَ بَكَى الصَّبِيُّ لِأَجْلِ أُمِّهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْإِمَامَةِ.
سَادِسُهَا: حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي مَنْعِ نِسَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْمَسَاجِدَ، وَسَأَذْكُرُ فَوَائِدَهُ بَعْدَ الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ الثَّانِي وَهُوَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ حَنْظَلَةَ) هُوَ ابْنُ أَبِي سُفْيَانَ الْجُمَحِيُّ، وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَيِ ابْنُ عُمَرَ.
قَوْلُهُ: (إِذَا اسْتَأْذَنَكُمْ نِسَاؤُكُمْ بِاللَّيْلِ إِلَى الْمَسْجِدِ) لَمْ يَذْكُرْ أَكْثَرُ الرُّوَاةِ عَنْ حَنْظَلَةَ قَوْلَهُ: بِاللَّيْلِ، كَذَلِكَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ أَيْضًا، فَأَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ بَعْدَ بَابَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، وَأَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ عَقِيلٍ، وَالسَّرَّاجُ مِنْ رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ، كُلُّهُمْ عن الزُّهْرِيِّ بِغَيْرِ تَقْيِيدٍ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي النِّكَاحِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِغَيْرِ قَيْدٍ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ مِثْلُهُ لَكِنْ قَالَ فِي آخِرِهِ: يَعْنِي بِاللَّيْلِ، وَبَيَّنَ ابْنُ خُزَيْمَةَ، عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ الْعَلَاءِ أَنَّ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ هُوَ الْقَائِلُ يَعْنِي، وَلَهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: قَالَ نَافِعٌ بِاللَّيْلِ، وَلَهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ حَكِيمٍ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: جَاءَنَا رَجُلٌ فَحَدَّثَنَا عَنْ نَافِعٍ قَالَ: إِنَّمَا هُوَ بِاللَّيْلِ وَسَمَّى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ الرَّجُلَ الْمُبْهَمَ فَقَالَ بَعْدَ رِوَايَتِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ: قَالَ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْغَفَّارِ - يَعْنِي ابْنَ الْقَاسِمِ - أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا جَعْفَرٍ يَعْنِي الْبَاقِرَ يُخْبِرُ بِمِثْلِ هَذَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ نَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ: إِنَّمَا ذَلِكَ بِاللَّيْلِ، وَكَأَنَّ اخْتِصَاصَ اللَّيْلِ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ أَسْتَرَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحِلَّ ذَلِكَ إِذَا أُمِنَتِ الْمَفْسَدَةُ مِنْهُنَّ وَعَلَيْهِنَّ، قَالَ النَّوَوِيُّ: اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَخْرُجُ مِنْ
بَيْتِ زَوْجِهَا إِلَّا
بِإِذْنِهِ لِتَوَجُّهِ الْأَمْرِ إِلَى الْأَزْوَاجِ بِالْإِذْنِ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ بِأَنَّهُ إِنْ أُخِذَ مِنَ الْمَفْهُومِ فَهُوَ مَفْهُومُ لَقَبٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ، لَكِنْ يَتَقَوَّى بِأَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَنْعَ الرِّجَالِ نِسَاءَهُمْ أَمْرٌ مُقَرَّرٌ، وَإِنَّمَا عُلِّقَ الْحُكْمُ بِالْمَسَاجِدِ لِبَيَانِ مَحَلِّ الْجَوَازِ فَيَبْقَى مَا عَدَاهُ عَلَى الْمَنْعِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِذْنَ الْمَذْكُورَ لِغَيْرِ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَانْتَفَى مَعْنَى الِاسْتِئْذَانِ، لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ إِذَا كَانَ الْمُسْتَأْذَنُ مُخَيَّرًا فِي الْإِجَابَةِ أَوِ الرَّدِّ.
قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ شُعْبَةُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ) ذَكَرَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ تَبَعًا لِخَلَفٍ، وَأَبِي مَسْعُودٍ أَنَّ هَذِهِ الْمُتَابَعَةَ وَقَعَتْ بَعْدَ رِوَايَةِ وَرْقَاءَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي اتَّصَلَتْ لَنَا مِنَ الْبُخَارِيِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَإِنَّمَا وَقَعَتِ الْمُتَابَعَةُ الْمَذْكُورَةُ عَقِبَ رِوَايَةِ حَنْظَلَةَ، عَنْ سَالِمٍ، وَقَدْ وَصَلَهَا أَحْمَدُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِزِيَادَةٍ سَيَأْتِي ذِكْرُهَا قَرِيبًا.
نَعَمْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ رِوَايَةَ وَرْقَاءَ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْجُمُعَةِ بِلَفْظِ: ائْذَنُوا لِلنِّسَاءِ بِاللَّيْلِ إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَلَمْ يَذْكُرْ بَعْدَهُ مُتَابَعَةً وَلَا غَيْرَهَا، وَوَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا وَزَادَ فِيهِ: فَقَالَ لَهُ ابْنٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ وَاقِدٌ: إِذًا يَتَّخِذْنَهُ دَغَلًا، قَالَ: فَضَرَبَ فِي صَدْرِهِ وَقَالَ: أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَقُولُ لَا وَلَمْ أَرَ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ ذِكْرًا فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ الَّتِي أَخْرَجَهَا الْبُخَارِيُّ لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَوْهَمَ صَنِيعُ صَاحِبِ الْعُمْدَةِ خِلَافَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِبَيَانِ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ شُرَّاحِهِ، وَأَظُنُّ الْبُخَارِيَّ اخْتَصَرَهَا لِلِاخْتِلَافِ فِي تَسْمِيَةِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، فَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَسَمَّى الِابْنَ بِلَالًا فَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ كَعْبِ بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ بِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ بِلَفْظِ: لَا تَمْنَعُوا النِّسَاءَ حُظُوظَهُنَّ الْمَسَاجِدَ إِذَا اسْتَأْذَنَّكُمْ، فَقَالَ بِلَالٌ: وَاللَّهِ لَنَمْنَعُهُنَّ، الْحَدِيثُ. ولِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هُبَيْرَةَ، عَنْ بِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ نَحْوُهُ وَفِيهِ: فَقُلْتُ أَمَّا أَنَا فَسَأَمْنَعُ أَهْلِي، فَمَنْ شَاءَ فَلْيُسَرِّحْ أَهْلَهُ وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: قَالَ: فَقَالَ بِلَالُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: وَاللَّهِ لَنَمْنَعُهُنَّ وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ عَقِيلٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَعِنْدَهُ فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ الْمَذْكُورَةِ فَقَالَ سَالِمٌ أَوْ بَعْضُ بَنِيهِ: وَاللَّهِ لَا نَدَعُهُنَّ يَتَّخِذْنَهُ دَغَلًا الْحَدِيثَ.
وَالرَّاجِحُ مِنْ هَذَا أَنَّ صَاحِبَ الْقِصَّةِ بِلَالٌ لِوُرُودِ ذَلِكَ مِنْ رِوَايَتِهِ نَفْسِهِ وَمِنْ رِوَايَةِ أَخِيهِ سَالِمٍ، وَلَمْ يُخْتَلَفْ عَلَيْهِمَا فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا هَذِهِ الرِّوَايَةُ الْأَخِيرَةُ فَمَرْجُوحَةٌ لِوُقُوعِ الشَّكِّ فِيهَا، وَلَمْ أَرَهُ مَعَ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ عَنِ الْأَعْمَشِ مُسَمًّى وَلَا عَنْ شَيْخِهِ مُجَاهِدٍ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، وَابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، وَلَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ كُلِّهِمْ عَنْ مُجَاهِدٍ وَلَمْ يُسَمِّهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَإِنْ كَانَتْ رِوَايَةُ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مَحْفُوظَةً فِي تَسْمِيَتِهِ وَاقِدًا فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْ بِلَالٍ، وَوَاقِدٍ وَقَعَ مِنْهُ ذَلِكَ إِمَّا فِي مَجْلِسٍ أَوْ فِي مَجْلِسَيْنِ، وَأَجَابَ ابْنُ عُمَرَ كُلًّا مِنْهُمَا بِجَوَابٍ يَلِيقُ بِهِ، وَيُقَوِّيهِ اخْتِلَافُ النَّقْلَةِ فِي جَوَابِ ابْنِ عُمَرَ، فَفِي رِوَايَةِ بِلَالٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ فَسَبَّهُ سَبًّا سَيِّئًا مَا سَمِعْتُهُ يَسُبُّهُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَفَسَّرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هُبَيْرَةَ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ السَّبَّ الْمَذْكُورَ بِاللَّعْنِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَفِي رِوَايَةِ زَائِدَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ: فَانْتَهَرَهُ وَقَالَ: أُفٍّ لَكَ، وَلَهُ عَنِ ابْنِ نُمَيْرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ: فَعَلَ اللَّهُ بِكَ وَفَعَلَ، وَمِثْلُهُ لِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ رِوَايَةِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ: فَزَبَرَهُ، وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ جَرِيرٍ: فَسَبَّهُ وَغَضِبَ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِلَالٌ الْبَادِئَ فَلِذَلِكَ أَجَابَهُ بِالسَّبِّ الْمُفَسَّرِ بِاللَّعْنِ، وَأَنْ يَكُونَ وَاقِدٌ بَدَأَهُ فَلِذَلِكَ أَجَابَهُ بِالسَّبِّ الْمُفَسَّرِ بِالتَّأْفِيفِ مَعَ الدَّفْعِ فِي صَدْرِهِ، وَكَأَنَّ السِّرَّ فِي ذَلِكَ أَنَّ بِلَالًا عَارَضَ الْخَبَرَ
بِرَأْيِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ عِلَّةَ الْمُخَالَفَةِ، وَوَافَقَهُ وَاقِدٌ لَكِنْ ذَكَرَهَا بِقَوْلِهِ: يَتَّخِذْنَهُ دَغَلًا وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ الْمُعْجَمَةِ وَأَصْلُهُ الشَّجَرُ الْمُلْتَفُّ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي الْمُخَادَعَةِ لِكَوْنِ الْمُخَادِعِ
يَلُفُّ فِي ضَمِيرِهِ أَمْرًا وَيُظْهِرُ غَيْرَهُ، وَكَأَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ لَمَّا رَأَى مِنْ فَسَادِ بَعْضِ النِّسَاءِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَحَمَلَتْهُ عَلَى ذَلِكَ الْغَيْرَةُ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ ابْنُ عُمَرَ لِتَصْرِيحِهِ بِمُخَالَفَةِ الْحَدِيثِ، وَإِلَّا فَلَوْ قَالَ مَثَلًا إِنَّ الزَّمَانَ قَدْ تَغَيَّرَ وَإِنَّ بَعْضَهُنَّ رُبَّمَا ظَهَرَ مِنْهُ قَصْدُ الْمَسْجِدِ وَإِضْمَارُ غَيْرِهِ لَكَانَ يَظْهَرُ أَنْ لَا يُنْكِرَ عَلَيْهِ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَتْ عَائِشَةُ بِمَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ الْأَخِيرِ. وَأُخِذَ مِنْ إِنْكَارِ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى وَلَدِهِ تَأْدِيبُ الْمُعْتَرِضِ عَلَى السُّنَنِ بِرَأْيِهِ، وَعَلَى الْعَالِمِ بِهَوَاهُ، وَتَأْدِيبُ الرَّجُلِ وَلَدَهُ وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا إِذَا تَكَلَّمَ بِمَا لَا يَنْبَغِي لَهُ، وَجَوَازُ التَّأْدِيبِ بِالْهِجْرَانِ، فَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: فَمَا كَلَّمَهُ عَبْدُ اللَّهِ حَتَّى مَاتَ، وَهَذَا إِنْ كَانَ مَحْفُوظًا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَاتَ عَقِبَ هَذِهِ الْقِصَّةِ بِيَسِيرٍ.
163 - باب انتظار الناس قيام الإمام العالم
866 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَتْنِي هِنْدُ بِنْتُ الْحَارِثِ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهَا أَنَّ النِّسَاءَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُنَّ إِذَا سَلَّمْنَ مِنْ الْمَكْتُوبَةِ قُمْنَ وَثَبَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ صَلَّى مِنْ الرِّجَالِ مَا شَاءَ اللَّهُ فَإِذَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ الرِّجَالُ.
867 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ ح. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيُصَلِّي الصُّبْحَ فَيَنْصَرِفُ النِّسَاءُ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ مَا يُعْرَفْنَ مِنْ الْغَلَسِ.
868 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِسْكِينٍ قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ، أَخْبَرَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي لَأَقُومُ إِلَى الصَّلَاةِ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي كَرَاهةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ.
869 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَوْ أَدْرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ قُلْتُ لِعَمْرَةَ أَوَمُنِعْنَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ.
ثم ذكر المصنف في الباب أحاديث في مطلق حضور النساء الجماعة مع الرجال وهي:
حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ إِذَا سَلَّمْنَ مِنَ الصَّلَاةِ قُمْنَ وَثَبَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَوَاخِرِ صِفَةِ الصَّلَاةِ.
وحديث عَائِشَةَ إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيُصَلِّي الصُّبْحَ فَيَنْصَرِفُ النِّسَاءُ مُتَلَفِّعَاتٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْمَوَاقِيتِ.
وحَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ رَفَعَهُ إِنِّي لَأَقُومُ فِي الصَّلَاةِ الْحَدِيثُ وَفِيهِ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَبْوَابِ الْإِمَامَةِ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: هَذَا الْحَدِيثُ عَامٌّ فِي النِّسَاءِ، إِلَّا أَنَّ الْفُقَهَاءَ خَصُّوهُ بِشُرُوطٍ: مِنْهَا أَنْ لَا تَتَطَيَّبَ، وَهُوَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: وَلْيَخْرُجْنَ تَفِلَاتٍ، قُلْتُ: هُوَ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَكَسْرِ الْفَاءِ أَيْ غَيْرَ مُتَطَيِّبَاتٍ، وَيُقَالُ: امْرَأَةٌ تَفِلَةٌ، إِذَا كَانَتْ مُتَغَيِّرَةَ الرِّيحِ، وَهُوَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ
زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ وَأَوَّلُهُ: لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ زَيْنَبَ امْرَأَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِذَا شَهِدَتْ إِحْدَاكُنَّ الْمَسْجِدَ فَلَا تَمَسَّنَّ طِيبًا انْتَهَى.
قَالَ: وَيَلْحَقُ بِالطِّيبِ مَا فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّ سَبَبَ الْمَنْعِ مِنْهُ مَا فِيهِ مِنْ تَحْرِيكِ دَاعِيَةِ الشَّهْوَةِ كَحُسْنِ الْمَلْبَسِ وَالْحُلِيِّ الَّذِي يَظْهَرُ وَالزِّينَةِ الْفَاخِرَةِ وَكَذَا الِاخْتِلَاطُ بِالرِّجَالِ، وَفَرَّقَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ بَيْنَ الشَّابَّةِ وَغَيْرِهَا وَفِيهِ نَظَرٌ، إِلَّا إِنْ أُخِذَ الْخَوْفُ عَلَيْهَا مِنْ جِهَتِهَا لِأَنَّهَا إِذَا عَرِيَتْ مِمَّا ذُكِرَ وَكَانَتْ مُسْتَتِرَةً حَصَلَ الْأَمْنُ عَلَيْهَا وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ ذَلِكَ بِاللَّيْلِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي الْمَسْجِدِ، وَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: لَا تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمُ الْمَسَاجِدَ، وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ.
وَلِأَحْمَدَ، وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ حُمَيْدٍ السَّاعِدِيَّةِ أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُحِبُّ الصَّلَاةَ مَعَكَ. قَالَ: قَدْ عَلِمْتُ، وَصَلَاتُكِ فِي بَيْتِكِ خَيْرٌ لَكِ مِنْ صَلَاتِكِ فِي حُجْرَتِكِ، وَصَلَاتُكِ فِي حُجْرَتِكِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِكِ فِي دَارِكِ، وَصَلَاتُكِ فِي دَارِكِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِكِ فِي مَسْجِدِ قَوْمِكِ، وَصَلَاتُكِ فِي مَسْجِدِ قَوْمِكِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِكِ فِي مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ وَإِسْنَادُ أَحْمَدَ حَسَنٌ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ. وَوَجْهُ كَوْنِ صَلَاتِهَا فِي الْإِخْفَاءِ أَفْضَلَ تَحَقُّقُ الْأَمْنِ فِيهِ مِنَ الْفِتْنَةِ، وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ بَعْدَ وُجُودِ مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ مِنَ التَّبَرُّجِ وَالزِّينَةِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَتْ عَائِشَةُ مَا قَالَتْ، وَتَمَسَّكَ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِ عَائِشَةَ فِي مَنْعِ النِّسَاءِ مُطْلَقًا وَفِيهِ نَظَرٌ، إِذْ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ تَغَيُّرُ الْحُكْمِ لِأَنَّهَا عَلَّقَتْهُ عَلَى شَرْطٍ لَمْ يُوجَدْ بِنَاءً عَلَى ظَنٍّ ظَنَّتْهُ فَقَالَتْ: لَوْ رَأَى لَمَنَعَ فَيُقَالُ عَلَيْهِ: لَمْ يَرَ وَلَمْ يَمْنَعْ، فَاسْتَمَرَّ الْحُكْمُ حَتَّى أَنَّ عَائِشَةَ لَمْ تُصَرِّحْ بِالْمَنْعِ وَإِنْ كَانَ كَلَامُهَا يُشْعِرُ بِأَنَّهَا كَانَتْ تَرَى الْمَنْعَ.
وَأَيْضًا فَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَا سَيُحْدِثْنَ فَمَا أَوْحَى إِلَى نَبِيِّهِ بِمَنْعِهِنَّ، وَلَوْ كَانَ مَا أَحْدَثْنَ يَسْتَلْزِمُ مَنْعَهُنَّ مِنَ الْمَسَاجِدِ لَكَانَ مَنْعُهُنَّ مِنْ غَيْرِهَا كَالْأَسْوَاقِ أَوْلَى. وَأَيْضًا فَالْإِحْدَاثُ إِنَّمَا وَقَعَ مِنْ بَعْضِ النِّسَاءِ لَا مِنْ جَمِيعِهِنَّ، فَإِنْ تَعَيَّنَ الْمَنْعُ فَلْيَكُنْ لِمَنْ أَحْدَثَتْ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُنْظَرَ إِلَى مَا يُخْشَى مِنْهُ الْفَسَادُ فَيُجْتَنَبُ لِإِشَارَتِهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى ذَلِكَ بِمَنْعِ التَّطَيُّبِ وَالزِّينَةِ، وَكَذَلِكَ التَّقَيُّدُ بِاللَّيْلِ كَمَا سَبَقَ.
قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ آخِرِ أَحَادِيثِ الْبَابِ (كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ) وَقَوْلُ عَمْرَةَ (نَعَمْ) فِي جَوَابِ سُؤَالِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ لَهَا يَظْهَرُ أَنَّهَا تَلَقَّتْهُ عَنْ عَائِشَةَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَنْ غَيْرِهَا، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ مَوْقُوفًا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَلَفْظُهُ: قَالَتْ: كُنَّ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَتَّخِذْنَ أَرْجُلًا مِنْ خَشَبٍ يَتَشَرَّفْنَ لِلرِّجَالِ فِي الْمَسَاجِدِ، فَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِنَّ الْمَسَاجِدَ، وَسُلِّطَتْ عَلَيْهِنَّ الْحَيْضَةُ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَوْقُوفًا فَحُكْمُهُ حُكْمُ الرَّفْعِ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ بِالرَّأْيِ
(1)
، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَيْضًا نَحْوَهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَدْ أَشَرْتُ إِلَى ذَلِكَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْحَيْضِ. (تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ عَقِبَ الْحَدِيثِ الثَّانِي مِنْ هَذَا الْبَابِ بَابُ انْتِظَارِ النَّاسِ قِيَامَ الْإِمَامِ الْعَالِمِ وَكَذَا فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُعْتَمَدٍ إِذْ لَا تَعَلُّقَ لِذَلِكَ بِهَذَا الْمَوْضِعِ، بَلْ قَدْ تَقَدَّمَ فِي مَوْضِعِهِ مِنَ الْإِمَامَةِ بِمَعْنَاهُ.
164 - بَاب صَلَاةِ النِّسَاءِ خَلْفَ الرِّجَالِ
870 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ هِنْدٍ بِنْتِ الْحَارِثِ عَنْ أُمِّ
(1)
هذا فيه نظر، والاقرب أنها تلقت ما ذكر عن نساء بني اسرائيل. ويدل إنكار الرفع قولها " وسلطت عليهن الحيضة " والحيض موجود في بني اسرائيل وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة لما حاضت في حجة الوداع " ان هذا شيء كتب الله على بنات آدم " في اثر ابن مسعود المذكور كالكلام في أثر عائشة. والله أعلم.
سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَلَّمَ قَامَ النِّسَاءُ حِينَ يَقْضِي تَسْلِيمَهُ وَيَمْكُثُ هُوَ فِي مَقَامِهِ يَسِيرًا قَبْلَ أَنْ يَقُومَ قَالَ: نَرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِكَيْ يَنْصَرِفَ النِّسَاءُ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُنَّ أَحَدٌ مِنْ الرِّجَالِ
871 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِسْحَاقَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِ أُمِّ سُلَيْمٍ فَقُمْتُ وَيَتِيمٌ خَلْفَهُ وَأُمُّ سُلَيْمٍ خَلْفَنَا.
قَوْلُهُ: (بَابُ صَلَاةِ النِّسَاءِ خَلْفَ الرِّجَالِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ فِي مُكْثِ الرِّجَالِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ وَمُطَابَقَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ صَفَّ النِّسَاءِ لَوْ كَانَ أَمَامَ الرِّجَالِ أَوْ بَعْضِهِمْ لَلَزِمَ مِنَ انْصِرَافِهِنَّ قَبْلَهُمْ أَنْ يَتَخَطَّيْنَهُمْ وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. ثُمَّ أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي صَلَاةِ أُمِّ سُلَيْمٍ خَلْفَهُ وَالْيَتِيمُ مَعَهُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تُرْجِمَ لَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي آخِرِ أَبْوَابِ الصُّفُوفِ. وَقَوْلُهُ فِيهِ: فَقُمْتُ وَيَتِيمٌ خَلْفَهُ فِيهِ شَاهِدٌ لِمَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ فِي إِجَازَةِ الْعَطْفِ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ الْمُتَّصِلِ بِدُونِ التَّأْكِيدِ.
165 - بَاب سُرْعَةِ انْصِرَافِ النِّسَاءِ مِنْ الصُّبْحِ وَقِلَّةِ مَقَامِهِنَّ فِي الْمَسْجِدِ
872 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي الصُّبْحَ بِغَلَسٍ فَيَنْصَرِفْنَ نِسَاءُ الْمُؤْمِنِينَ لَا يُعْرَفْنَ مِنْ الْغَلَسِ، أَوْ لَا يَعْرِفُ بَعْضُهُنَّ بَعْضًا.
قَوْلُهُ: (بَابُ سُرْعَةِ انْصِرَافِ النِّسَاءِ مِنَ الصُّبْحِ) قَيَّدَ بِالصُّبْحِ لِأَنَّ طُولَ التَّأْخِيرِ فِيهِ يُفْضِي إِلَى الْإِسْفَارِ، فَنَاسَبَ الْإِسْرَاعَ، بِخِلَافِ الْعِشَاءِ فَإِنَّهُ يُفْضِي إِلَى زِيَادَةِ الظُّلْمَةِ فَلَا يَضُرُّ الْمُكْثُ.
قَوْلُهُ: (سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ) هُوَ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَرُبَّمَا رَوَى عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ كَمَا هُنَا.
قَوْلُهُ: (فَيَنْصَرِفْنَ) هُوَ عَلَى لُغَةِ بَنِي الْحَارِثِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: لَا يَعْرِفْنَ بَعْضُهُنَّ بَعْضًا وَهَذَا فِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ، والْكُشْمِيهَنِيِّ وَلِغَيْرِهِمَا: لَا يَعْرِفُ بِالْإِفْرَادِ عَلَى الْجَادَّةِ.
قَوْلُهُ: (نِسَاءُ الْمُؤْمِنِينَ) ذَكَرَ الْكِرْمَانِيُّ أَنَّ فِي بَعْضِ النُّسَخِ: نِسَاءُ الْمُؤْمِنَاتِ وَذَكَرَ تَوْجِيهَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي أَبْوَابِ الْمَوَاقِيتِ.
166 - باب اسْتِئْذَانِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا بِالْخُرُوجِ إِلَى الْمَسْجِدِ
873 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِذَا اسْتَأْذَنَتْ امْرَأَةُ أَحَدِكُمْ فَلَا يَمْنَعْهَا.
قَوْلُهُ: (بَابُ اسْتِئْذَانِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا بِالْخُرُوجِ إِلَى الْمَسْجِدِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ قَرِيبًا، لَكِنْ أَوْرَدَهُ هُنَا مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ مَعْمَرٍ وَلَيْسَ فِيهِ تَقْيِيدٌ بِالْمَسْجِدِ. نَعَمْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِذِكْرِ الْمَسْجِدِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ مَعْمَرٍ وَزَادَ فِيهِ زِيَادَةً سَتَأْتِي قَرِيبًا. وَمُقْتَضَى التَّرْجَمَةِ أَنَّ جَوَازَ الْخُرُوجِ يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنِ الزَّوْجِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ أَيْضًا، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
167 - باب صلاة النساء خلف الرجال
(1)
874 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ إِسْحَاقَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِ أُمِّ سُلَيْمٍ فَقُمْتُ وَيَتِيمٌ خَلْفَهُ وَأُمُّ سُلَيْمٍ خَلْفَنَا.
875 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ هِنْدٍ بِنْتِ الْحَارِثِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَلَّمَ قَامَ النِّسَاءُ حِينَ يَقْضِي تَسْلِيمَهُ، وَهو يَمْكُثُ فِي مَقَامِهِ يَسِيرًا قَبْلَ أَنْ يَقُومَ. قَالَ: نَرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِكَيْ يَنْصَرِفَ النِّسَاءُ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُنَّ الرِّجَال.
(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَتْ أَبْوَابُ صِفَةِ الصَّلَاةِ إِلَى هُنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى مِائَةٍ وَثَمَانِينَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْهَا ثَمَانِيَةٌ وَثَلَاثُونَ حَدِيثًا، وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ. الْمُكَرَّرُ مِنْهَا - فِيهَا وَفِيمَا مَضَى - مِائَةُ حَدِيثٍ وَخَمْسَةُ أَحَادِيثَ وَهِيَ جُمْلَةُ الْمُعَلَّقِ إِلَّا ثَلَاثَةً مِنْهُ وَسَبْعُونَ أُخْرَى مَوْصُولَةٌ، فَالْخَالِصُ مِنْهَا خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ مِنْهَا الثَّلَاثَةُ الْمُعَلَّقَةُ، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ حَدِيثًا وَهِيَ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي الرَّفْعِ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ فِي النَّهْي عَنْ رَفْعِ الْبَصَرِ فِي الصَّلَاةِ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِي أَنَّ الِالْتِفَاتَ اخْتِلَاسٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَحَدِيثُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي قِرَاءَةِ الْأَعْرَافِ فِي الْمَغْرِبِ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ فِي قِرَاءَةِ الرَّجُلِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَهُوَ مُعَلَّقٌ، وَحَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ فِي الرُّكُوعِ دُونَ الصَّفِّ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي جَمْعِ الْإِمَامِ بَيْنَ التَّسْمِيعِ وَالتَّحْمِيدِ، وَحَدِيثُ رِفَاعَةَ فِي الْقَوْلِ فِي الِاعْتِدَالِ، وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فِي الْجَهْرِ بِالتَّكْبِيرِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي سُنَّةِ الْجُلُوسِ فِي التَّشَهُّدِ، وَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ فِي سُرْعَةِ انْصِرَافِ النِّسَاءِ بَعْدَ السَّلَامِ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يَتَطَوَّعُ الْإِمَامُ فِي مَكَانِهِ وَهُوَ مُعَلَّقٌ، وَحَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ فِي قِسْمَةِ التِّبْرِ.
وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ الْمَوْقُوفَةِ عَلَى الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ سِتَّةَ عَشَرَ أَثَرًا مِنْهَا ثَلَاثَةٌ مَوْصُولَةٌ وَهِيَ: حَدِيثُ أَبِي يَزِيدَ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ فِي مُوَافَقَتِهِ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ لِحَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ وَقَدْ كَرَّرَهُ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي صَلَاتِهِ مُتَرَبِّعًا ذَكَرَهُ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثِهِ فِي سُنَّةِ الْجُلُوسِ فِي التَّشَهُّدِ، وَحَدِيثُهُ فِي تَطَوُّعِهِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ الْفَرِيضَةَ وَالْبَقِيَّةُ مُعَلَّقَاتٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
(1)
هذه الترجمة تقدمت قريبا برقم الباب 164، وكذلك حديثا الباب تقدما في ذلك الموضع برقم 871 و 870 فالتكرير وقع في الترجمة والحديثين معا
بسم الله الرحمن الرحيم
11 - كِتَاب الْجُمُعَةِ
(كِتَابُ الْجُمُعَةِ) ثَبَتَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ لِلْأَكْثَرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّمَهَا عَلَى الْبَسْمَلَةِ، وَسَقَطَتْ لِكَرِيمَةَ وَأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْحَمَوِيِّ. وَالْجُمُعَةُ بِضَمِّ الْمِيمِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقَدْ تُسَكَّنُ وَقَرَأَ بِهَا الْأَعْمَشُ، وَحَكَى الْوَاحِدِيُّ، عَنِ الْفَرَّاءِ فَتْحَهَا، وَحَكَى الزَّجَّاجُ الْكَسْرَ أَيْضًا. وَالْمُرَادُ بَيَانُ أَحْكَامِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ. وَاخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَةِ الْيَوْمِ بِذَلِكَ - مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُسَمَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْعَرُوبَةَ - بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ الرَّاءِ وَبِالْمُوَحَّدَةِ - فَقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ كَمَالَ الْخَلَائِقِ جُمِعَ فِيهِ، ذَكَرَهُ أَبُو حُذَيْفَةَ النَّجَّارِيُّ فِي الْمُبْتَدَأِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. وَقِيلَ: لِأَنَّ خَلْقَ آدَمَ جُمِعَ فِيهِ وَرُدَّ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُمَا فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ، وَلَهُ شَاهِدٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مَوْقُوفًا بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ، وَأَحْمَدُ مَرْفُوعًا بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.
وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ، وَيَلِيهِ مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ إِلَيْهِ فِي قِصَّةِ تَجْمِيعِ الْأَنْصَارِ مَعَ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، وَكَانُوا يُسَمُّونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَوْمَ الْعَرُوبَةِ، فَصَلَّى بِهِمْ وَذَكَّرَهُمْ فَسَمَّوْهُ الْجُمُعَةَ حِينَ اجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مَوْقُوفًا. وَقِيلَ: لِأَنَّ كَعْبَ بْنَ لُؤَيٍّ كَانَ يَجْمَعُ قَوْمَهُ فِيهِ فَيُذَكِّرُهُمْ وَيَأْمُرُهُمْ بِتَعْظِيمِ الْحَرَمِ وَيُخْبِرُهُمْ بِأَنَّهُ سَيُبْعَثُ مِنْهُ نَبِيٌّ، رَوَى ذَلِكَ الزُّبَيْرُ فِي كِتَابِ النَّسَبِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ مَقْطُوعًا وَبِهِ جَزَمَ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: إِنَّ قُصَيًّا هُوَ الَّذِي كَانَ يَجْمَعُهُمْ ذَكَرَهُ ثَعْلَبٌ فِي أَمَالِيهِ. وَقِيلَ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ لِلصَّلَاةِ فِيهِ، وَبِهَذَا جَزَمَ ابْنُ حَزْمٍ فَقَالَ: إِنَّهُ اسْمٌ إِسْلَامِيٌّ لَمْ يَكُنْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَإِنَّمَا كَانَ يُسَمَّى الْعَرُوبَةَ. انْتَهَى.
وَفِيهِ نَظَرٌ، فَقَدْ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: إِنَّ الْعَرُوبَةَ اسْمٌ قَدِيمٌ كَانَ لِلْجَاهِلِيَّةِ، وَقَالُوا فِي الْجُمُعَةِ هُوَ يَوْمُ الْعَرُوبَةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ غَيَّرُوا أَسْمَاءَ الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ تُسَمَّى: أَوَّلَ، أَهْوَنَ، جُبَارَ، دُبَارَ، مُؤْنِسَ، عَرُوبَةَ، شِبارَ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: كَانَتْ الْعَرَبُ تُسَمِّي يَوْمَ الِاثْنَيْنِ أَهْوَنَ فِي أَسْمَائِهِمُ الْقَدِيمَةِ، وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُمْ أَحْدَثُوا لَهَا أَسْمَاءً، وَهِيَ هَذِهِ الْمُتَعَارَفَةُ الْآنَ كَالسَّبْتِ وَالْأَحَدِ إِلَى آخِرِهَا. وَقِيلَ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ سَمَّى الْجُمُعَةَ الْعَرُوبَةَ كَعْبُ بْنُ لُؤَيٍّ وَبِهِ جَزَمَ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ، فَيَحْتَاجُ مَنْ قَالَ إِنَّهُمْ غَيَّرُوهَا إِلَّا الْجُمُعَةَ فَأَبْقَوْهُ عَلَى تَسْمِيَةِ الْعَرُوبَةِ إِلَى نَقْلٍ خَاصٍّ. وَذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ خُصُوصِيَّةً، وَفِيهَا أَنَّهَا يَوْمُ عِيدٍ وَلَا يُصَامُ مُنْفَرِدًا، وَقِرَاءَةُ {الم * تَنْزِيلُ} وَهَلْ أَتَى فِي صَبِيحَتِهَا وَالْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقِينَ فِيهَا، وَالْغُسْلُ لَهَا وَالطِّيبُ وَالسِّوَاكُ وَلُبْسُ أَحْسَنِ الثِّيَابِ، وَتَبْخِيرُ الْمَسْجِدِ وَالتَّبْكِيرُ وَالِاشْتِغَالُ بِالْعِبَادَةِ حَتَّى يَخْرُجَ الْخَطِيبُ، وَالْخُطْبَةُ وَالْإِنْصَاتُ، وَقِرَاءَةُ الْكَهْفِ، وَنَفْيُ كَرَاهِيَةِ النَّافِلَةِ وَقْتَ الِاسْتِوَاءِ، وَمَنْعُ السَّفَرِ قَبْلَهَا، وَتَضْعِيفُ أَجْرِ الذَّاهِبِ إِلَيْهَا بِكُلِّ خُطْوَةٍ أَجْرَ سَنَةٍ، وَنَفْيُ تَسْجِيرِ جَهَنَّمَ فِي يَوْمِهَا، وَسَاعَةُ الْإِجَابَةِ، وَتَكْفِيرُ الْآثَامِ، وَأَنَّهَا يَوْمُ الْمَزِيدِ وَالشَّاهِدُ الْمُدَّخَرُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، وَخَيْرُ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ، وَتَجْتَمِعُ فِيهِ الْأَرْوَاحُ إِنْ ثَبَتَ الْخَبَرُ فِيهِ، وَذَكَرَ أَشْيَاءَ أُخَرَ فِيهَا نَظَرٌ، وَتَرَكَ أَشْيَاءَ يَطُولُ تَتَبُّعُهَا.
انْتَهَى مُلَخَّصًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
1 - بَاب فَرْضِ الْجُمُعَةِ
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {سورة الجمعة: 9}
876 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ هُرْمُزَ الْأَعْرَجَ مَوْلَى رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، ثُمَّ هَذَا يَوْمُهُمْ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْهِمْ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ: الْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ.
قَوْلُهُ: (بَابُ فَرْضِ الْجُمُعَةِ) لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} إِلَى هُنَا عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَسِيَاقُ بَقِيَّةِ الْآيَةِ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَأَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (فَاسْعَوْا فَامْضُوا) هَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْحَمَوِيِّ وَحْدَهُ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ مِنْهُ لِلْمُرَادِ بِالسَّعْيِ هُنَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ: فَلَا تَأْتُوهَا تَسْعَوْنَ فَالْمُرَادُ بِهِ الْجَرْيُ. وَسَيَأْتِي فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ عُمَرَ قَرَأَ فَامْضُوا وَهُوَ يُؤَيِّدُ ذَلِكَ. وَاسْتِدْلَالُ الْبُخَارِيِّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى فَرْضِيَّةِ الْجُمُعَةِ سَبَقَهُ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ، وَكَذَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ ثُمَّ قَالَ: فَالتَّنْزِيلُ ثُمَّ السُّنَّةُ يَدُلَّانِ عَلَى إِيجَابِهَا، قَالَ: وَعُلِمَ بِالْإِجْمَاعِ أَنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ هُوَ الَّذِي بَيْنَ الْخَمِيسِ وَالسَّبْتِ. وَقَالَ الشَّيْخُ الْمُوَفَّقُ: الْأَمْرُ بِالسَّعْيِ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ إِذْ لَا يَجِبُ السَّعْيُ إِلَّا إِلَى وَاجِبٍ. وَاخْتُلِفَ فِي وَقْتِ فَرْضِيَّتِهَا فَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهَا فُرِضَتْ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ مُقْتَضَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّ فَرْضِيَّتَهَا بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: فُرِضَتْ بِمَكَّةَ، وَهُوَ غَرِيبٌ. وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: وَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَشْرُوعِيَّةُ النِّدَاءِ لَهَا، إِذِ الْأَذَانُ مِنْ خَوَاصِّ الْفَرَائِضِ، وَكَذَا النَّهْيُ عَنِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ لَا يَنْهَى عَنِ الْمُبَاحِ - يَعْنِي نَهْيَ تَحْرِيمٍ - إِلَّا إِذَا أَفْضَى إِلَى تَرْكِ وَاجِبٍ، وَيُضَافُ إِلَى ذَلِكَ التَّوْبِيخُ عَلَى قَطْعِهَا. قَالَ: وَأَمَّا وَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنَ الْحَدِيثِ فَهُوَ مِنَ التَّعْبِيرِ بِالْفَرْضِ لِأَنَّهُ لِلْإِلْزَامِ، وَإِنْ أُطْلِقَ عَلَى غَيْرِ الْإِلْزَامِ كَالتَّقْدِيرِ لَكِنَّهُ مُتَعَيَّنٌ لَهُ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى ذِكْرِ الصَّرْفِ لِأَهْلِ الْكِتَابِ عَنِ اخْتِيَارِهِ وَتَعْيِينِهِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ وَقَعَ لَهُمْ بِالتَّنْصِيصِ أَمْ بِالِاجْتِهَادِ.
وَفِي سِيَاقِ الْقِصَّةِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ فَرْضِيَّتَهَا عَلَى الْأَعْيَانِ لَا عَلَى الْكِفَايَةِ، وَهُوَ مِنْ جِهَةِ إِطْلَاقِ الْفَرْضِيَّةِ وَمِنَ التَّعْمِيمِ فِي قَوْلِهِ: فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ وَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ.
قَوْلُهُ: (نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عِنْدَ مُسْلِمٍ: نَحْنُ الْآخِرُونَ وَنَحْنُ السَّابِقُونَ أَيِ الْآخِرُونَ زَمَانًا الْأَوَّلُونَ مَنْزِلَةً، وَالْمُرَادُ أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ وَإِنْ تَأَخَّرَ وُجُودُهَا فِي الدُّنْيَا عَنِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ فَهِيَ سَابِقَةٌ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِأَنَّهُمْ أَوَّلُ مَنْ يُحْشَرُ وَأَوَّلُ مَنْ يُحَاسَبُ وَأَوَّلُ مَنْ يُقْضَى بَيْنَهُمْ وَأَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ. وَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: نَحْنُ الْآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمَقْضِيُّ لَهُمْ قَبْلَ الْخَلَائِقِ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالسَّبْقِ هُنَا إِحْرَازُ فَضِيلَةِ الْيَوْمِ السَّابِقِ بِالْفَضْلِ، وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَيَوْمُ الْجُمُعَةِ وَإِنْ كَانَ مَسْبُوقًا بِسَبْتٍ قَبْلَهُ أَوْ أَحَدٍ لَكِنْ لَا يُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ مُتَوَالِيَةً إِلَّا وَيَكُونُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ سَابِقًا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالسَّبْقِ أَيْ إِلَى الْقَبُولِ وَالطَّاعَةِ الَّتِي حُرِمَهَا أَهْلُ الْكِتَابِ فَقَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا، وَالْأَوَّلُ أَقْوَى.
قَوْلُهُ: (بَيْدَ) بِمُوَحَّدَةٍ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ سَاكِنَةٍ مِثْلُ غَيْرَ وَزْنًا وَمَعْنًى، وَبِهِ جَزَمَ الْخَلِيلُ وَالْكِسَائِيُّ وَرَجَّحَهُ ابْنُ سِيدَهْ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ، عَنِ الرَّبِيعِ عَنْهُ أَنَّ مَعْنَى بَيْدَ مِنْ أَجْلِ، وَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْبَغَوِيُّ، عَنِ الْمُزَنِيِّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ. وَقَدِ اسْتَبْعَدَهُ عِيَاضٌ وَلَا بُعْدَ فِيهِ، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّا سَبَقْنَا بِالْفَضْلِ إذ هُدِينَا لِلْجُمُعَةِ مَعَ تَأَخُّرِنَا فِي الزَّمَانِ، بِسَبَبِ أَنَّهُمْ ضَلُّوا عَنْهَا مَعَ تَقَدُّمِهِمْ، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا وَقَعَ فِي فَوَائِدِ ابْنِ الْمُقْرِي مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: نَحْنُ الْآخِرُونَ فِي الدُّنْيَا وَنَحْنُ السَّابِقُونَ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لِأَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَفِي
مُوَطَّأِ سَعِيدِ بْنِ عُفَيْرٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ بِلَفْظِ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: هِيَ بِمَعْنَى عَلَى أَوْ مَعَ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى غَيْرِ فَنُصِبَ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى مَعَ فَنُصِبَ عَلَى الظَّرْفِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هِيَ لِلِاسْتِثْنَاءِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ تَأْكِيدِ الْمَدْحِ بِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ، وَالْمَعْنَى: نَحْنُ السَّابِقُونَ لِلْفَضْلِ غَيْرَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، وَوَجْهُ التَّأْكِيدِ فِيهِ مَا أُدْمِجَ فِيهِ مِنْ مَعْنَى النَّسْخِ، لِأَنَّ النَّاسِخَ هُوَ السَّابِقُ فِي الْفَضْلِ وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا فِي الْوُجُودِ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَظْهَرُ مَوْقِعُ قَوْلِهِ: نَحْنُ الْآخِرُونَ مَعَ كَوْنِهِ أَمْرًا وَاضِحًا.
قَوْلُهُ: (أُوتُوا الْكِتَابَ) اللَّامُ لِلْجِنْسِ، وَالْمُرَادُ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، وَالضَّمِيرُ فِي أُوتِينَاهُ لِلْقُرْآنِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ التَّوْرَاةُ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِقَوْلِهِ: وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ فَأَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَى الْكِتَابِ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ التَّوْرَاةَ لَمَا صَحَّ الْإِخْبَارُ، لِأَنَّا إِنَّمَا أُوتِينَا الْقُرْآنَ. وَسَقَطَ مِنَ الْأَصْلِ قَوْلُهُ: وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهِيَ ثَابِتَةٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيِّ، عَنْ أَبِي الْيَمَانِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُسْنَدِ الشَّامِيِّينَ عَنْهُ، وَكَذَا لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، وَسَيَأْتِي تَامًّا عِنْدَ الْمُصَنِّفِ بَعْدَ أَبْوَابٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ هَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْهِمْ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْحَمَوِيِّ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَالْمُرَادُ بِالْيَوْمِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْيَوْمِ بِفَرْضِهِ فَرْضُ تَعْظِيمِهِ، وَأُشِيرَ إِلَيْهِ بِهَذَا لِكَوْنِهِ ذُكِرَ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ كَمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَضَلَّ اللَّهُ عَنِ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا الْحَدِيثَ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فُرِضَ عَلَيْهِمْ بِعَيْنِهِ فَتَرَكُوهُ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ فُرِضَ عَلَيْهِمْ يَوْمٌ مِنَ الْجُمُعَةِ وُكِّلَ إِلَى اخْتِيَارِهِمْ لِيُقِيمُوا فِيهِ شَرِيعَتَهُمْ، فَاخْتَلَفُوا فِي أَيِّ الْأَيَّامِ هُوَ وَلَمْ يَهْتَدُوا لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَمَالَ عِيَاضٌ إِلَى هَذَا وَرَشَّحَهُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فُرِضَ عَلَيْهِمْ بِعَيْنِهِ لَقِيلَ: فَخَالَفُوا، بَدَلَ فَاخْتَلَفُوا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا أُمِرُوا بِهِ صَرِيحًا فَاخْتَلَفُوا هَلْ يَلْزَمُ تَعَيُّنُهُ أَمْ يَسُوغُ إِبْدَالُهُ بِيَوْمٍ آخَرَ فَاجْتَهَدُوا فِي ذَلِكَ فَأَخْطَئُوا. انْتَهَى.
وَيَشْهَدُ لَهُ مَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} قَالَ: أَرَادُوا الْجُمُعَةَ فَأَخْطَئُوا وَأَخَذُوا السَّبْتَ مَكَانَهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِالِاخْتِلَافِ اخْتِلَافُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي ذَلِكَ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَسْبَاطَ بْنِ نَصْرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ التَّصْرِيحَ بِأَنَّهُمْ فُرِضَ عَلَيْهِمْ يَوْمُ الْجُمُعَةِ بِعَيْنِهِ فَأَبَوْا، وَلَفْظُهُ: إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَى الْيَهُودِ الْجُمُعَةَ فَأَبَوْا وَقَالُوا: يَا مُوسَى إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ يَوْمَ السَّبْتِ شَيْئًا فَاجْعَلْهُ لَنَا، فَجُعِلَ عَلَيْهِمْ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِعَجِيبٍ مِنْ مُخَالَفَتِهِمْ كَمَا وَقَعَ لَهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَيْفَ لَا وَهُمُ الْقَائِلُونَ {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} .
قَوْلُهُ: (فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ) يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِأَنْ نَصَّ لَنَا عَلَيْهِ، وَأَنْ يُرَادَ الْهِدَايَةُ إِلَيْهِ بِالِاجْتِهَادِ، وَيَشْهَدُ لِلثَّانِي مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: جَمَعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْجُمُعَةُ، فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: إِنَّ لِلْيَهُودِ يَوْمًا يَجْتَمِعُونَ فِيهِ كُلَّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ، وَلِلنَّصَارَى كَذَلِكَ، فَهَلُمَّ فَلْنَجْعَلْ يَوْمًا نَجْتَمِعُ فِيهِ فَنَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى وَنُصَلِّي وَنَشْكُرهُ. فَجَعَلُوهُ يَوْمَ الْعَرُوبَةِ، وَاجْتَمَعُوا إِلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ فَصَلَّى بِهِمْ يَوْمَئِذٍ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} الْآيَةُ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا فَلَهُ شَاهِدٌ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ أَوَّلُ مَنْ صَلَّى بِنَا الْجُمُعَةَ قَبْلَ مَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ الْحَدِيثَ.
فَمُرْسَلُ ابْنِ سِيرِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُولَئِكَ الصَّحَابَةَ اخْتَارُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالِاجْتِهَادِ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلِمَهُ بِالْوَحْيِ وَهُوَ
بِمَكَّةَ فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إِقَامَتِهَا، ثُمَّ فَقَدْ وَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَلِذَلِكَ جَمَعَ بِهِمْ أَوَّلَ مَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ، وَعَلَى هَذَا فَقَدْ حَصَلَتِ الْهِدَايَةُ لِلْجُمُعَةِ بِجِهَتَيِ الْبَيَانِ وَالتَّوْفِيقِ. وَقِيلَ فِي الْحِكْمَةِ فِي اخْتِيَارِهِمُ الْجُمُعَةَ: وُقُوعُ خَلْقِ آدَمَ فِيهِ، وَالْإِنْسَانُ إِنَّمَا خُلِقَ لِلْعِبَادَةِ فَنَاسَبَ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالْعِبَادَةِ فِيهِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَكْمَلَ فِيهِ الْمَوْجُودَاتِ وَأَوْجَدَ فِيهِ الْإِنْسَانَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهَا فَنَاسَبَ أَنْ يَشْكُرَ عَلَى ذَلِكَ بِالْعِبَادَةِ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (الْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ) فِي رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ: فَهُوَ لَنَا، وَلِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ وَالنَّصَارَى يَوْمُ الْأَحَدِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَنَا بِهِدَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَهُمْ بِاعْتِبَارِ اخْتِيَارِهِمْ وَخَطَئِهِمْ فِي اجْتِهَادِهِمْ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: غَدًا هُنَا مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وَتَقْدِيرُهُ: الْيَهُودُ يُعَظِّمُونَ غَدًا، وَكَذَا قَوْلُهُ: بَعْدَ غَدٍ وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا التَّقْدِيرِ لِأَنَّ ظَرْفَ الزَّمَانِ لَا يَكُونُ خَبَرًا عَنِ الْجُثَّةِ. انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: الْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ بِظَرْفِ الزَّمَانِ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَعَانِي كَقَوْلِكَ: غَدًا، لِلتَّأَهُّبِ، وَبَعْدَ غَدٍ لِلرَّحِيلِ، فَيُقَدَّرُ هُنَا مُضَافَانِ يَكُونُ ظَرْفَا الزَّمَانِ خَبَرَيْنِ عَنْهُمَا، أَيْ تَعْيِيدُ الْيَهُودِ غَدًا وَتَعْيِيدُ النَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ اهـ. وَسَبَقَهُ إِلَى نَحْوِ ذَلِكَ عِيَاضٌ، وَهُوَ أَوْجَهُ مِنْ كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ. وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى فَرْضِيَّةِ الْجُمُعَةِ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ، لِقَوْلِهِ: فُرِضَ عَلَيْهِمْ فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ فَإِنَّ التَّقْدِيرَ: فُرِضَ عَلَيْهِمْ وَعَلَيْنَا فَضَلُّوا وَهُدِينَا، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ: كُتِبَ عَلَيْنَا. وَفِيهِ أَنَّ الْهِدَايَةَ وَالْإِضْلَالَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا هُوَ قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَأَنَّ سَلَامَةَ الْإِجْمَاعِ مِنَ الْخَطَأِ مَخْصُوصٌ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَنَّ اسْتِنْبَاطَ مَعْنًى مِنَ الْأَصْلِ يَعُودُ عَلَيْهِ بِالْإِبْطَالِ بَاطِلٌ، وَأَنَّ الْقِيَاسَ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ فَاسِدٌ، وَأَنَّ الِاجْتِهَادَ فِي زَمَنِ نُزُولِ الْوَحْيِ جَائِزٌ، وَأَنَّ الْجُمُعَةَ أَوَّلُ الْأُسْبُوعِ شَرْعًا، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَسْمِيَةُ الْأُسْبُوعِ كُلِّهِ جُمُعَةً وَكَانُوا يُسَمُّونَ الْأُسْبُوعَ سَبْتًا كَمَا سَيَأْتِي فِي الِاسْتِسْقَاءِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُجَاوِرِينَ لِلْيَهُودِ فَتَبِعُوهُمْ فِي ذَلِكَ، وَفِيهِ بَيَانٌ وَاضِحٌ لِمَزِيدِ فَضْلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى الْأُمَمِ السَّابِقَةِ زَادَهَا اللَّهُ تَعَالَى.
2 - بَاب فَضْلِ الْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهَلْ عَلَى الصَّبِيِّ شُهُودُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَوْ عَلَى النِّسَاءِ
877 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ.
[الحديث 877 - طرفاه في: 919، 894]
878 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ قَالَ أَخْبَرَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ فِي الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَادَاهُ عُمَرُ أَيَّةُ سَاعَةٍ هَذِهِ قَالَ إِنِّي شُغِلْتُ فَلَمْ أَنْقَلِبْ إِلَى أَهْلِي حَتَّى سَمِعْتُ التَّأْذِينَ فَلَمْ أَزِدْ أَنْ تَوَضَّأْتُ فَقَالَ وَالْوُضُوءُ أَيْضًا وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْمُرُ بِالْغُسْلِ "
[الحديث 878 - طرفه في: 882]
879 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ "
قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ الْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: لَمْ يَذْكُرِ الْحُكْمَ لِمَا وَقَعَ فِيهِ مِنَ الْخِلَافِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى الْفَضْلِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ التَّرْغِيبُ فِيهِ وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي تَتَّفِقُ الْأَدِلَّةُ عَلَى ثُبُوتِهِ.
قَوْلُهُ: (وَهَلْ عَلَى الصَّبِيِّ شُهُودُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَوْ عَلَى النِّسَاءِ) اعْتَرَضَ أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ التِّينِ عَلَى هَذَا الشِّقِّ الثَّانِي مِنَ التَّرْجَمَةِ فَقَالَ: تَرْجَمَ هَلْ عَلَى الصَّبِيِّ أَوِ النِّسَاءِ جُمُعَةٌ؟ وَأَوْرَدَ: إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ وُجُوبِ شُهُودٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَأَجَابَ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّهُ أَرَادَ سُقُوطَ الْوُجُوبِ عَنْهُمْ، أَمَّا الصِّبْيَانُ فَبِالْحَدِيثِ الثَّالِثِ فِي الْبَابِ حَيْثُ قَالَ: عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَى الصِّبْيَانِ، قَالَ: وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى سُقُوطِهَا عَنِ النِّسَاءِ لِأَنَّ الْفُرُوضَ تَجِبُ عَلَيْهِنَّ فِي الْأَكْثَرِ بِالْحَيْضِ لَا بِالِاحْتِلَامِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْحَيْضَ فِي حَقِّهِنَّ عَلَامَةٌ لِلْبُلُوغِ كَالِاحْتِلَامِ، وَلَيْسَ الِاحْتِلَامُ مُخْتَصًّا بِالرِّجَالِ وَإِنَّمَا ذُكِرَ فِي الْخَبَرِ لِكَوْنِهِ الْغَالِبَ وَإِلَّا فَقَدْ لَا يَحْتَلِمُ الْإِنْسَانُ أَصْلًا وَيَبْلُغُ بِالْإِنْزَالِ أَوِ السِّنِّ وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُحْتَلِمِ. وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: إِنَّمَا أَشَارَ إِلَى أَنَّ غُسْلَ الْجُمُعَةِ شُرِعَ لِلرَّوَاحِ إِلَيْهَا كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَخْبَارُ، فَيَحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَةِ مَنْ يُطْلَبُ رَوَاحُهُ فَيُطْلَبُ غُسْلُهُ، وَاسْتُعْمِلَ الِاسْتِفْهَامُ فِي التَّرْجَمَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى وُقُوعِ الِاحْتِمَالِ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: أَحَدُكُمْ لَكِنْ تَقَيُّدُهُ بِالْمُحْتَلِمِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ يُخْرِجُهُ، وَأَمَّا النِّسَاءُ فَيَقَعُ فِيهِنَّ الِاحْتِمَالُ بِأَنْ يَدْخُلْنَ فِي أَحَدُكُمْ بِطَرِيقِ التَّبَعِ، وَكَذَا احْتِمَالُ عُمُومِ النَّهْيِ فِي مَنْعِهِنَّ الْمَسَاجِدَ، لَكِنْ تَقَيُّدُهُ بِاللَّيْلِ يُخْرِجُ الْجُمُعَةَ اهـ.
وَلَعَلَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ بِذِكْرِ النِّسَاءِ إِلَى مَا سَيَأْتِي قَرِيبًا فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ نَافِعٍ، وَإِلَى الْحَدِيثِ الْمُصَرِّحِ بِأَنْ لَا جُمُعَةَ عَلَى امْرَأَةٍ وَلَا صَبِيٍّ لِكَوْنِهِ لَيْسَ عَلَى شَرْطِهِ وَإِنْ كَانَ الْإِسْنَادُ صَحِيحًا، وَهُوَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، لَكِنْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: لَمْ يَسْمَعْ طَارِقٌ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا أَنَّهُ رَآهُ اهـ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ طَرِيقِ طَارِقٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: وَنُقِلَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ مَنْ يَحْضُرُ الْجُمُعَةَ مِنْ غَيْرِ الرِّجَالِ إِنْ حَضَرَهَا لِابْتِغَاءِ الْفَضْلِ شُرِعَ لَهُ الْغُسْلُ وَسَائِرُ آدَابِ الْجُمُعَةِ، وَإِنْ حَضَرَهَا لِأَمْرٍ اتِّفَاقِيٍّ فَلَا. ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ.
أحدها: حَدِيثُ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ عَنْهُ بِلَفْظِ إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ أَنَّ نَافِعًا حَدَّثَهُمْ فَذَكَرَهُ، أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْغُسْلَ يَعْقُبُ الْمَجِيءَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ الْمُرَادَ وَإِنَّمَا التَّقْدِيرُ: إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ، وَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ، عَنْ نَافِعٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَلَفْظُهُ: إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْتِيَ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} فَإِنَّ الْمَعْنَى إِذَا أَرَدْتُمُ الْمُنَاجَاةَ بِلَا خِلَافٍ.
وَيُقَوِّي رِوَايَةَ اللَّيْثِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْآتِي قَرِيبًا بِلَفْظِ: مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ رَاحَ فَهُوَ صَرِيحٌ فِي تَأْخِيرِ الرَّوَاحِ عَنِ الْغُسْلِ، وَعُرِفَ بِهَذَا فَسَادُ قَوْلِ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَاحْتُجَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْغُسْلَ لِلْيَوْمِ لَا لِلصَّلَاةِ، لِأَنَّ الْحَدِيثَ وَاحِدٌ وَمُخَرِّجُهُ وَاحِدٌ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّيْثُ فِي رِوَايَتِهِ الْمُرَادَ، وَقَوَّاهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرِوَايَةُ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ لِهَذَا الْحَدِيثِ مَشْهُورَةٌ جِدًّا فَقَدِ اعْتَنَى بِتَخْرِيجِ طُرُقِهِ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ فَسَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ سَبْعِينَ نَفْسًا رَوَوْهُ عَنْ نَافِعٍ، وَقَدْ تَتَبَّعْتُ مَا فَاتَهُ وَجَمَعْتُ مَا وَقَعَ لِي مِنْ طُرُقِهِ فِي جُزْءٍ مُفْرَدٍ لِغَرَضٍ اقْتَضَى ذَلِكَ فَبَلَغَتْ أَسْمَاءُ مَنْ رَوَاهُ عَنْ نَافِعٍ مِائَةً وَعِشْرِينَ نَفْسًا، فَمَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ هُنَا ذِكْرُ سَبَبِ
الْحَدِيثِ، فَفِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ نَافِعٍ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ، وَقَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ: كَانَ النَّاسُ يَغْدُونَ فِي أَعْمَالِهِمْ، فَإِذَا كَانَتِ الْجُمُعَةُ جَاءُوا وَعَلَيْهِمْ ثِيَابٌ مُتَغَيِّرَةٌ، فَشَكَوْا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَنْ جَاءَ مِنْكُمُ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ وَمِنْهَا ذِكْرُ مَحَلِّ الْقَوْلِ، فَفِي رِوَايَةِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَعْوَادِ هَذَا الْمِنْبَرِ بِالْمَدِينَةِ يَقُولُ: أَخْرَجَهُ يَعْقُوبُ الْجَصَّاصُ فِي فَوَائِدِهِ مِنْ رِوَايَةِ الْيَسَعِ بْنِ قَيْسٍ، عَنِ الْحَكَمِ، وَطَرِيقُ الْحَكَمِ عِنْدَ النَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ عَنْهُ بِدُونِ هَذَا السِّيَاقِ بِلَفْظِ حَدِيثِ الْبَابِ إِلَّا قَوْلَهُ: جَاءَ، فَعِنْدَهُ: رَاحَ، وَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ، عَنْ أَيُّوبَ، وَمَنْصُورٌ، وَمَالِكٌ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ نَافِعٍ، وَمِنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى تَكْرَارِ ذَلِكَ فَفِي رِوَايَةِ صَخْرِ بْنِ جُوَيْرِيَةَ، عَنْ نَافِعٍ عِنْدَ أَبِي مُسْلِمٍ الْكَجِّيِّ بِلَفْظِ: كَانَ إِذَا خَطَبَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَالَ الْحَدِيثَ. وَمِنْهَا زِيَادَةٌ فِي الْمَتْنِ، فَفِي رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ وَاقِدٍ، عَنْ نَافِعٍ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ، وَابْنِ حِبَّانَ فِي صِحَاحِهِمْ بِلَفْظِ مَنْ أَتَى الْجُمُعَةَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَلْيَغْتَسِلْ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِهَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ غُسْلٌ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، لَكِنْ قَالَ الْبَزَّارُ: أَخْشَى أَنْ يَكُونَ عُثْمَانُ بْنُ وَاقِدٍ وَهِمَ فِيهِ.
وَمِنْهَا زِيَادَةٌ فِي الْمَتْنِ وَالْإِسْنَادِ أَيْضًا، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ طُرُقٍ عَنْ مُفَضَّلِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنْ عَيَّاشِ بْنِ عَبَّاسٍ الْقِتْبَانِيِّ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ حَفْصَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْجُمُعَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ، وَعَلَى مَنْ رَاحَ إِلَى الْجُمُعَةِ الْغُسْلُ قَالَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ: لَمْ يَرْوِهِ عَنْ نَافِعٍ بِزِيَادَةِ حَفْصَةَ إِلَّا بُكَيْرٌ، وَلَا عَنْهُ إِلَّا عَيَّاشٌ تَفَرَّدَ بِهِ مُفَضَّلٌ. قُلْتُ: رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَهُوَ حَدِيثٌ آخَرُ وَلَا مَانِعَ أَنْ يَسْمَعَهُ ابْنُ عُمَرَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمِنْ غَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَسَيَأْتِي فِي ثَانِي أَحَادِيثِ الْبَابِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا سِيَّمَا مَعَ اخْتِلَافِ الْمُتُونِ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى تَعْلِيقِ الْأَمْرِ بِالْغُسْلِ بِالْمَجِيءِ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ لِمَالِكٍ فِي أَنَّهُ يُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ الْغُسْلُ مُتَّصِلًا بِالذَّهَابِ، وَوَافَقَهُ الْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ وَالْجُمْهُورُ قَالُوا: يُجْزِئُ مِنْ بَعْدِ الْفَجْرِ، وَيَشْهَدُ لَهُمْ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْآتِي قَرِيبًا.
وَقَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ سُئِلَ عَمَّنِ اغْتَسَلَ ثُمَّ أَحْدَثَ هَلْ يَكْفِيهِ الْوُضُوءُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. وَلَمْ أَسْمَعْ فِيهِ أَعْلَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبْزَى، يُشِيرُ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ أَبِيهِ وَلَهُ صُحْبَةٌ أَنَّهُ كَانَ يَغْتَسِلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ يُحْدِثُ فَيَتَوَضَّأُ وَلَا يُعِيدُ الْغُسْلَ وَمُقْتَضَى النَّظَرِ أَنْ يُقَالَ: إِذَا عُرِفَ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي الْأَمْرِ بِالْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالتَّنْظِيفِ رِعَايَةُ الْحَاضِرِينَ مِنَ التَّأَذِّي بِالرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ، فَمَنْ خَشِيَ أَنْ يُصِيبَهُ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ مَا يُزِيلُ تَنْظِيفَهُ اسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الْغُسْلَ لِوَقْتِ ذَهَابِهِ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الَّذِي لَحَظَهُ مَالِكٌ فَشَرَطَ اتِّصَالَ الذَّهَابِ بِالْغُسْلِ لِيَحْصُلَ الْأَمْنُ مِمَّا يُغَايِرُ التَّنْظِيفَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَلَقَدْ أَبْعَدَ الظَّاهِرِيُّ إِبْعَادًا يَكَادُ أَنْ يَكُونَ مَجْزُومًا بِبُطْلَانِهِ حَيْثُ لَمْ يَشْتَرِطْ تَقَدُّمَ الْغُسْلِ عَلَى إِقَامَةِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ حَتَّى لَوِ اغْتَسَلَ قَبْلَ الْغُرُوبِ كَفَى عِنْدَهُ تَعَلُّقًا بِإِضَافَةِ الْغُسْلِ إِلَى الْيَوْمِ، يَعْنِي كَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ الْبَابِ الثَّالِثِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ مِنْ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ الْغُسْلَ لِإِزَالَةِ الرَّوَائِحِ الْكَرِيهَةِ يَعْنِي كَمَا سَيَأْتِي مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ بَعْدَ أَبْوَابٍ، قَالَ: وَفُهِمَ مِنْهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ عَدَمُ تَأَذِّي الْحَاضِرِينَ وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى بَعْدَ إِقَامَةِ الْجُمُعَةِ، وَكَذَلِكَ أَقُولُ لَوْ قَدَّمَهُ بِحَيْثُ لَا يَتَحَصَّلُ هَذَا الْمَقْصُودُ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ. وَالْمَعْنَى إِذَا كَانَ مَعْلُومًا كَالنَّصِّ قَطْعًا أَوْ ظَنًّا مُقَارِنًا لِلْقَطْعِ فَاتِّبَاعُهُ وَتَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِهِ أَوْلَى مِنَ اتِّبَاعِ مُجَرَّدِ اللَّفْظِ. قُلْتُ: وَقَدْ حَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ مَنِ اغْتَسَلَ بَعْدَ الصَّلَاةِ لَمْ يَغْتَسِلْ لِلْجُمُعَةِ وَلَا فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ. وَادَّعَى ابْنُ حَزْمٍ أَنَّهُ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَطَالَ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ بِمَا هُوَ بِصَدَدِ الْمَنْعِ، وَالرَّدُّ يُفْضِي إِلَى التَّطْوِيلِ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ،
وَلَمْ يُورِدْ عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ ذَكَرَ التَّصْرِيحَ بِإِجْزَاءِ الِاغْتِسَالِ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ عَنْهُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ اتِّصَالُ الْغُسْلِ بِالذَّهَابِ إِلَى الْجُمُعَةِ، فَأَخَذَ هُوَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ كَالشَّمْسِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاسْتُدِلَّ مِنْ مَفْهُومِ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْغُسْلَ لَا يُشْرَعُ لِمَنْ لَمْ يَحْضُرِ الْجُمُعَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّصْرِيحُ بِمُقْتَضَاهُ فِي آخِرِ رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ وَاقِدٍ، عَنْ نَافِعٍ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ خِلَافًا لِأَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَوْلُهُ فِيهِ الْجُمُعَةَ الْمُرَادُ بِهِ الصَّلَاةُ أَوِ الْمَكَانُ الَّذِي تُقَامُ فِيهِ، وَذَكَرَ الْمَجِيءَ لِكَوْنِهِ الْغَالِبَ وَإِلَّا فَالْحُكْمُ شَامِلٌ لِمَنْ كَانَ مُجَاوِرًا لِلْجَامِعِ أَوْ مُقِيمًا بِهِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْوُجُوبِ إِلَّا بِقَرِينَةٍ لِقَوْلِهِ كَانَ يَأْمُرنَا مَعَ أَنَّ الْجُمْهُورَ حَمَلُوهُ عَلَى النَّدْبِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ الثَّالِثِ، وَهَذَا بِخِلَافِ صِيغَةِ افْعَلْ فَإِنَّهَا عَلَى الْوُجُوبِ حَتَّى تَظْهَرَ قَرِينَةٌ عَلَى النَّدْبِ.
الحديث الثاني: حَدِيثُ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بنْ عُمَرَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بَيْنَا هُوَ قَائِمٌ فِي الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الْحَدِيثَ أَوْرَدَهُ مِنْ رِوَايَةِ جُوَيْرِيَةَ بْنِ أَسْمَاءَ، عَنْ مَالِكٍ وَهُوَ عِنْدَ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ عَنْ مَالِكٍ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ ابْنِ عُمَرَ، فَحَكَى الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنِ الْبَغَوِيِّ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ، عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ غَيْرُ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ، وَجُوَيْرِيَةَ اهـ.
وَقَدْ تَابَعَهُمَا أَيْضًا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلَ عَنْهُ بِذِكْرِ ابْنِ عُمَرَ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْمُوَطَّأِ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ الثِّقَاتِ عَنْهُ خَارِجَ الْمُوَطَّأِ مَوْصُولًا عَنْهُمْ فَذَكَرَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ ثُمَّ قَالَ: وَأَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، وَالْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَعَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ، وَذَكَرَ جَمَاعَةً غَيْرَهُمْ فِي بَعْضِهِمْ مَقَالٌ، ثُمَّ سَاقَ أَسَانِيدَهُمْ إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ، وَزَادَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِيمَنْ وَصَلَهُ عَنْ مَالِكٍ الْقَعْنَبِيِّ فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ الْقَاضِي عَنْهُ، وَرَوَاهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ مَوْصُولًا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَمَعْمَرٌ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبُو أُوَيْسٍ عِنْدَ قَاسِمِ بْنِ أَصْبَغَ، وَلِجُوَيْرِيَةَ بن أَسْمَاءَ فِيهِ إِسْنَادٌ آخَرُ أَعْلَى مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ مَالِكٍ أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي غَسَّانَ عَنْهُ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما.
قَوْلُهُ: (بَيْنَا) أَصْلُهُ بَيْنَ وَأُشْبِعَتِ الْفَتْحَةُ، وَقَدْ تَبْقَى بِلَا إِشْبَاعٍ وَيُزَادُ فِيهَا مَا فَتَصِيرُ بَيْنَمَا وَهِيَ رِوَايَةُ يُونُسَ، وَهِيَ ظَرْفُ زَمَانٍ فِيهِ مَعْنَى الْمُفَاجَأَةِ.
قَوْلُهُ: (إِذْ جَاءَ رَجُلٌ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ إِذْ دَخَلَ.
قَوْلُهُ: (مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ) قِيلَ فِي تَعْرِيفِهِمْ: مَنْ صَلَّى إِلَى الْقِبْلَتَيْنِ، وَقِيلَ: مَنْ شَهِدَ بَدْرًا، وَقِيلَ: مَنْ شَهِدَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ. وَلَا شَكَّ أَنَّهَا مَرَاتِبُ نِسْبِيَّةٌ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى فِي التَّعْرِيفِ لِسَبْقِهِ، فَمَنْ هَاجَرَ بَعْدَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ وَقَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ هُوَ آخِرُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ هَاجَرَ قَبْلَ التَّحْوِيلِ، وَقَدْ سَمَّى ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ الْقَاسِمِ فِي رِوَايَتِهِمَا عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ الرَّجُلَ الْمَذْكُورَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، وَكَذَا سَمَّاهُ مَعْمَرٌ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ، وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي ذَلِكَ، وَقَدْ سَمَّاهُ أَيْضًا أَبُو هُرَيْرَةَ فِي رِوَايَتِهِ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ عِنْدَ مُسْلِمٍ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ بَابَيْنِ.
قَوْلُهُ: (فَنَادَاهُ) أَيْ قَالَ لَهُ يَا فُلَانُ.
قَوْلُهُ: (أَيَّةُ سَاعَةٍ هَذِهِ) أَيَّةُ بِتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ تَأْنِيثُ أَيٍّ يُسْتَفْهَمُ بِهَا، وَالسَّاعَةُ اسْمٌ لِجُزْءٍ مِنَ النَّهَارِ مُقَدَّرٌ وَتُطْلَقُ عَلَى الْوَقْتِ الْحَاضِرِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ اسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٍ وَإِنْكَارٍ، وَكَأَنَّهُ يَقُولُ: لِمَ تَأَخَّرْتَ إِلَى هَذِهِ السَّاعَةِ؟ وَقَدْ وَرَدَ التَّصْرِيحُ بِالْإِنْكَارِ فِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ عُمَرُ: لِمَ تَحْتَبِسُونَ عَنِ الصَّلَاةِ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَعَرَضَ عَنْهُ عُمَرُ فَقَالَ: مَا بَالُ رِجَالٍ يَتَأَخَّرُونَ بَعْدَ النِّدَاءِ وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ عُمَرَ قَالَ ذَلِكَ كُلَّهُ فَحَفِظَ بَعْضُ الرُّوَاةِ مَا لَمْ يَحْفَظِ الْآخَرُ، وَمُرَادُ عُمَرَ التَّلْمِيحُ إِلَى سَاعَاتِ التَّبْكِيرِ الَّتِي وَقَعَ التَّرْغِيبُ فِيهَا وَأَنَّهَا إِذَا انْقَضَتْ طَوَتِ الْمَلَائِكَةُ الصُّحُفَ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا،
وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ التَّعْوِيضَاتِ وَأَرْشَقِ الْكِنَايَاتِ، وَفَهِمَ عُثْمَانُ ذَلِكَ فَبَادَرَ إِلَى الِاعْتِذَارِ عَنِ التَّأَخُّرِ.
قَوْلُهُ: (إِنِّي شُغِلْتُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ جِهَةَ شَغْلِهِ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ حَيْثُ قَالَ انْقَلَبْتُ مِنَ السُّوقِ فَسَمِعْتُ النِّدَاءَ وَالْمُرَادُ بِهِ الْأَذَانُ بَيْنَ يَدَيِ الْخَطِيبِ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ.
قَوْلُهُ: (فَلَمْ أَزِدْ عَلَى أَنْ تَوَضَّأْتُ) لَمْ أَشْتَغِلْ بِشَيْءٍ بَعْدَ أَنْ سَمِعْتُ النِّدَاءَ إِلَّا بِالْوُضُوءِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فِي ابْتِدَاءِ شُرُوعِ عُمَرَ فِي الْخُطْبَةِ.
قَوْلُهُ: (وَالْوُضُوءُ أَيْضًا؟) فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ قِبَلَ عُذْرَهُ فِي تَرْكِ التَّبْكِيرِ لَكِنَّهُ اسْتُنْبِطَ مِنْهُ مَعْنًى آخَرُ اتُّجِهَ لَهُ عَلَيْهِ فِيهِ إِنْكَارٌ ثَانٍ مُضَافٌ إِلَى الْأَوَّلِ، وَقَوْلُهُ: وَالْوُضُوء فِي رِوَايَتِنَا بِالنَّصْبِ، وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، أَيْ: وَالْوُضُوءَ أَيْضًا اقْتَصَرْتَ عَلَيْهِ أَوِ اخْتَرْتَهُ دُونَ الْغُسْلِ؟ وَالْمَعْنَى: مَا اكْتَفَيْتَ بِتَأْخِيرِ الْوَقْتِ وَتَفْوِيتِ الْفَضِيلَةِ حَتَّى تَرَكْتَ الْغُسْلَ وَاقْتَصَرْتَ عَلَى الْوُضُوءِ؟ وَجَوَّزَ الْقُرْطُبِيُّ الرَّفْعَ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ: وَالْوُضُوءُ أَيْضًا يُقْتَصَرُ عَلَيْهِ، وَأَغْرَبَ السُّهَيْلِيُّ فَقَالَ: اتَّفَقَ الرُّوَاةُ عَلَى الرَّفْعِ لِأَنَّ النَّصْبَ يُخْرِجُهُ إِلَى مَعْنَى الْإِنْكَارِ، يَعْنِي وَالْوُضُوءُ لَا يُنْكَرُ، وَجَوَابُهُ مَا تَقَدَّمَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوَاوَ عَاطِفَةٌ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هِيَ عِوَضٌ عَنْ هَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ كَقِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ: قَالَ فِرْعَوْنُ وَآمَنْتُمْ بِهِ وَقَوْلُهُ: أَيْضًا أَيْ أَلَمْ يَكْفِكَ أَنْ فَاتَكَ فَضْلُ التَّبْكِيرِ إِلَى الْجُمُعَةِ حَتَّى أَضَفْتَ إِلَيْهِ تَرْكَ الْغُسْلِ الْمُرَغَّبِ فِيهِ؟ وَلَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ عَلَى جَوَابِ عُثْمَانَ عَنْ ذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ سَكَتَ عَنْهُ اكْتِفَاءً بِالِاعْتِذَارِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ قَدْ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ كَانَ ذَاهِلًا عَنِ الْوَقْتِ، وَأَنَّهُ بَادَرَ عِنْدَ سَمَاعِ النِّدَاءِ، وَإِنَّمَا تَرَكَ الْغُسْلَ لِأَنَّهُ تَعَارَضَ عِنْدَهُ إِدْرَاكُ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ وَالِاشْتِغَالُ بِالْغُسْلِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُرَغَّبٌ فِيهِ فَآثَرَ سَمَاعَ الْخُطْبَةِ، وَلَعَلَّهُ كَانَ يَرَى فَرْضِيَّتَهُ فَلِذَلِكَ آثَرَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (كَانَ يَأْمُرُ بِالْغُسْلِ) كَذَا فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ لَمْ يَذْكُرِ الْمَأْمُورَ، إِلَّا أَنَّ فِي رِوَايَةِ جُوَيْرِيَةَ، عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ: كُنَّا نُؤْمَرُ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: أَنَّ عُمَرَ قَالَ لَهُ: لَقَدْ عَلِمَ أَنَّا أُمِرْنَا بِالْغُسْلِ. قُلْتُ: أَنْتُمُ الْمُهَاجِرُونَ الْأَوَّلُونَ أَمِ النَّاسُ جَمِيعًا؟ قَالَ: لَا أَدْرِي رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، إِلَّا أَنَّهُ مَعْلُولٌ. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: أَنَّ عُمَرَ قَالَ: أَلَمْ تَسْمَعُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا رَاحَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ كَذَا هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي عَدَمِ التَّخْصِيصِ بِالْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ الْقِيَامُ فِي الْخُطْبَةِ وَعَلَى الْمِنْبَرِ، وَتَفَقُّدُ الْإِمَامِ رَعِيَّتَهُ، وَأَمْرُهُ لَهُمْ بِمَصَالِحِ دِينِهِمْ، وَإِنْكَارُهُ عَلَى مَنْ أَخَلَّ بِالْفَضْلِ وَإِنْ كَانَ عَظِيمَ الْمَحَلِّ، وَمُوَاجَهَتُهُ بِالْإِنْكَارِ لِيَرْتَدِعَ مَنْ هُوَ دُونَهُ بِذَلِكَ، وَأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ لَا يُفْسِدُهَا، وَسُقُوطُ مَنْعِ الْكَلَامِ عَنِ الْمُخَاطَبِ بِذَلِكَ. وَفِيهِ الِاعْتِذَارُ إِلَى وُلَاةِ الْأَمْرِ، وَإِبَاحَةُ الشَّغْلِ وَالتَّصَرُّفِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ النِّدَاءِ وَلَوْ أَفْضَى إِلَى تَرْكِ فَضِيلَةِ الْبُكُورِ إِلَى الْجُمُعَةِ، لِأَنَّ عُمَرَ لَمْ يَأْمُرْ بِرَفْعِ السُّوقِ بَعْدَ هَذِهِ الْقِصَّةِ. وَاسْتَدَلَّ بِهِ مَالِكٌ عَلَى أَنَّ السُّوقَ لَا تُمْنَعُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ النِّدَاءِ لِكَوْنِهَا كَانَتْ فِي زَمَنِ عُمَرَ، وَلِكَوْنِ الذَّاهِبِ إِلَيْهَا مِثْلَ عُثْمَانَ. وَفِيهِ شُهُودُ الْفُضَلَاءِ السُّوقَ، وَمُعَانَاةُ الْمَتْجَرِ فِيهَا. وَفِيهِ أَنَّ فَضِيلَةَ التَّوَجُّهِ إِلَى الْجُمُعَةِ إِنَّمَا تَحْصُلُ قَبْلَ التَّأْذِينِ.
وَقَالَ عِيَاضٌ: فِيهِ حُجَّةٌ لِأَنَّ السَّعْيَ إِنَّمَا يَجِبُ بِسَمَاعِ الْأَذَانِ، وَأَنَّ شُهُودَ الْخُطْبَةِ لَا يَجِبُ، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ أَكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ التَّأْخِيرِ إِلَى سَمَاعِ النِّدَاءِ فَوَاتُ الْخُطْبَةِ، بَلْ تَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَفُتْ عُثْمَانَ مِنَ الْخُطْبَةِ شَيْءٌ. وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ فَاتَهُ مِنْهَا شَيْءٌ فَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ شُهُودُهَا عَلَى مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمُعَةُ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ غُسْلَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ لِقَطْعِ عُمَرَ الْخُطْبَةَ وَإِنْكَارِهِ عَلَى عُثْمَانَ تَرْكَهُ، وَهُوَ مُتَعَقَّبٌ لِأَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ تَرْكَ السُّنَّةِ الْمَذْكُورَةِ وَهِيَ التَّبْكِيرُ إِلَى الْجُمُعَةِ فَيَكُونُ الْغُسْلُ كَذَلِكَ، وَعَلَى أَنَّ الْغُسْلَ لَيْسَ
شَرْطًا لِصِحَّةِ الْجُمُعَةِ. وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي الْحَدِيثِ بَعْدَهُ.
الحديث الثالث: حَدِيثُ مَالِكٍ أَيْضًا عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، لَمْ تَخْتَلِفْ رُوَاةُ الْمُوَطَّأِ عَلَى مَالِكٍ فِي إِسْنَادِهِ، وَرِجَالُهُ مَدَنِيُّونَ كَالْأَوَّلِ، وَفِيهِ رِوَايَةُ تَابِعِيٍّ عَنْ تَابِعِيٍّ صَفْوَانَ، عَنْ عَطَاءٍ، وَقَدْ تَابَعَ مَالِكًا عَلَى رِوَايَتِهِ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ صَفْوَانَ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ، وَخَالَفَهُمَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ فَرَوَاهُ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ أَبُو بَكْرٍ الْمَرُّوِذِيُّ فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ لَهُ.
قَوْلُهُ: (غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) اسْتُدِلَّ بِهِ لِمَنْ قَالَ الْغُسْلُ لِلْيَوْمِ لِلْإِضَافَةِ إِلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ، وَاسْتُنْبِطَ مِنْهُ أَيْضًا أَنَّ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ غُسْلًا مَخْصُوصًا حَتَّى لَوْ وُجِدَتْ صُورَةُ الْغُسْلِ فِيهِ لَمْ يَجُزْ عَنْ غُسْلِ الْجُمُعَةِ إِلَّا بِالنِّيَّةِ، وَقَدْ أَخَذَ بِذَلِكَ أَبُو قَتَادَةَ فَقَالَ لِابْنِهِ وَقَدْ رَآهُ يَغْتَسِلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: إِنْ كَانَ غُسْلُكَ عَنْ جَنَابَةٍ فَأَعِدْ غُسْلًا آخَرَ لِلْجُمُعَةِ أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُمَا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ الْبَابِ الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَكَذَا هُوَ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا، وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْغُسْلَ حَيْثُ وُجِدَ فِيهِ كَفَى لِكَوْنِ الْيَوْمِ جُعِلَ ظَرْفًا لِلْغُسْلِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اللَّامُ لِلْعَهْدِ فَتَتَّفِقُ الرِّوَايَتَانِ.
قَوْلُهُ: (وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ) أَيْ بَالِغٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الِاحْتِلَامَ لِكَوْنِهِ الْغَالِبَ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى دُخُولِ النِّسَاءِ فِي ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَبْوَابٍ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ وَاجِبٌ عَلَى فَرْضِيَّةِ غُسْلِ الْجُمُعَةِ، وَقَدْ حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَغَيْرِهِمَا، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَحَكَاهُ ابْنُ حَزْمٍ، عَنْ عُمَرَ وَجَمْعٍ جَمٍّ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، ثُمَّ سَاقَ الرِّوَايَةَ عَنْهُمْ لَكِنْ لَيْسَ فِيهَا عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمُ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ إِلَّا نَادِرًا، وَإِنَّمَا اعْتَمَدَ فِي ذَلِكَ عَلَى أَشْيَاءَ مُحْتَمَلَةٍ كَقَوْلِ سَعْدٍ: مَا كُنْتُ أَظُنُّ مُسْلِمًا يَدَعُ غُسْلَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْخَطَّابِيُّ، عَنْ مَالِكٍ، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ لَيْسَ ذَلِكَ بِمَعْرُوفٍ فِي مَذْهَبِهِ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: قَدْ نَصَّ مَالِكٌ عَلَى وُجُوبِهِ فَحَمَلَهُ مَنْ لَمْ يُمَارِسْ مَذْهَبَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَبَى ذَلِكَ أَصْحَابُهُ اهـ.
وَالرِّوَايَةُ عَنْ مَالِكٍ بِذَلِكَ فِي التَّمْهِيدِ. وَفِيهِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَشْهَبَ، عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْهُ فَقَالَ: حَسَنٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَحَكَاهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَنِ ابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ غَلَطٌ عَلَيْهِ فَقَدْ صَرَّحَ فِي صَحِيحِهِ بِأَنَّهُ عَلَى الِاخْتِيَارِ، وَاحْتَجَّ لِكَوْنِهِ مَنْدُوبًا بِعِدَّةِ أَحَادِيثَ فِي عِدَّةِ تَرَاجِمَ. وَحَكَاهُ شَارِحُ الْغُنْيَةِ لِابْنِ سُرَيْجٍ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ وَاسْتُغْرِبَ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ حَدِيثَيِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي سَعِيدٍ: احْتَمَلَ قَوْلُهُ وَاجِبٌ مَعْنَيَيْنِ، الظَّاهِرُ مِنْهُمَا أَنَّهُ وَاجِبٌ فَلَا تَجْزِي الطَّهَارَةُ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ إِلَّا بِالْغُسْلِ، وَاحْتَمَلَ أَنَّهُ وَاجِبٌ فِي الِاخْتِيَارِ وَكَرَمِ الْأَخْلَاقِ وَالنَّظَافَةِ. ثُمَّ اسْتُدِلَّ لِلِاحْتِمَالِ الثَّانِي بِقِصَّةِ عُثْمَانَ مَعَ عُمَرَ الَّتِي تَقَدَّمَتْ قَالَ: فَلَمَّا لَمْ يَتْرُكْ عُثْمَانُ الصَّلَاةَ لِلْغُسْلِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ عُمَرُ بِالْخُرُوجِ لِلْغُسْلِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمَا قَدْ عَلِمَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالْغُسْلِ لِلِاخْتِيَارِ اهـ.
وَعَلَى هَذَا الْجَوَابِ عَوَّلَ أَكْثَرُ الْمُصَنِّفِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَابْنِ خُزَيْمَةَ، وَالطَّبَرِيِّ، وَالطَّحَاوِيِّ، وَابْنِ حِبَّانَ، وَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَهَلُمَّ جَرًّا، وَزَادَ بَعْضُهُمْ فِيهِ أَنَّ مَنْ حَضَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَافَقُوهُمَا عَلَى ذَلِكَ فَكَانَ إِجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْغُسْلَ لَيْسَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ قَوِيٌّ، وَقَدْ نَقَلَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ بِدُونِ الْغُسْلِ مُجْزِئَةٌ، لَكِنْ حَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُمْ قَالُوا بِوُجُوبِهِ وَلَمْ يَقُولُوا إِنَّهُ شَرْطٌ بَلْ هُوَ وَاجِبٌ مُسْتَقِلٌّ تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِدُونِهِ، كَأَنَّ أَصْلَهُ قَصْدُ التَّنْظِيفِ وَإِزَالَةُ الرَّوَائِحِ الْكَرِيهَةِ الَّتِي يَتَأَذَّى بِهَا الْحَاضِرُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: يَحْرُمُ أَكْلُ الثُّومِ عَلَى مَنْ قَصَدَ الصَّلَاةَ فِي الْجَمَاعَةِ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَأْثِيمُ عُثْمَانَ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ كَانَ مَعْذُورًا لِأَنَّهُ إِنَّمَا تَرَكَهُ ذَاهِلًا عَنِ الْوَقْتِ، مَعَ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَدِ اغْتَسَلَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، لِمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ حُمْرَانَ أَنَّ عُثْمَانَ لَمْ يَكُنْ يَمْضِي عَلَيْهِ يَوْمٌ حَتَّى يُفِيضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ، وَإِنَّمَا لَمْ يَعْتَذِرْ بِذَلِكَ لِعُمَرَ كَمَا اعْتَذَرَ عَنِ التَّأَخُّرِ
لِأَنَّهُ لَمْ يَتَّصِلْ غُسْلَهُ بِذَهَابِهِ إِلَى الْجُمُعَةِ كَمَا هُوَ الْأَفْضَلُ.
وَعَنْ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ التَّفْصِيلُ بَيْنَ ذِي النَّظَافَةِ وَغَيْرِهِ، فَيَجِبُ عَلَى الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ نَظَرًا إِلَى الْعِلَّةِ، حَكَاهُ صَاحِبُ الْهَدْيِ، وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ أَنَّ قِصَّةَ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ لَا عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ مِنْ جِهَةِ تَرْكِ عُمَرَ الْخُطْبَةَ وَاشْتِغَالِهِ بِمُعَاتَبَةِ عُثْمَانَ وَتَوْبِيخِ مِثْلِهِ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ، فَلَوْ كَانَ تَرْكُ الْغُسْلِ مُبَاحًا لَمَا فَعَلَ عُمَرُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا لَمْ يَرْجِعْ عُثْمَانُ لِلْغُسْلِ لِضِيقِ الْوَقْتِ إِذْ لَوْ فَعَلَ لَفَاتَتْهُ الْجُمُعَةُ أَوْ لِكَوْنِهِ كَانَ اغْتَسَلَ كَمَا تَقَدَّمَ.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى اسْتِحْبَابِ غُسْلِ الْجُمُعَةِ وَهُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَى الِاعْتِذَارِ عَنْ مُخَالَفَةِ هَذَا الظَّاهِرِ، وَقَدْ أَوَّلُوا صِيغَةَ الْأَمْرِ عَلَى النَّدْبِ وَصِيغَةَ الْوُجُوبِ عَلَى التَّأْكِيدِ كَمَا يُقَالُ: إِكْرَامُكَ عَلَيَّ وَاجِبٌ، وَهُوَ تَأْوِيلٌ ضَعِيفٌ إِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ الْمُعَارِضُ رَاجِحًا عَلَى هَذَا الظَّاهِرِ. وَأَقْوَى مَا عَارَضُوا بِهِ هَذَا الظَّاهِرَ حَدِيثَ مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَمَنِ اغْتَسَلَ فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ وَلَا يُعَارِضُ سَنَدُهُ سَنَدَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، قَالَ: وَرُبَّمَا تَأَوَّلُوهُ تَأْوِيلًا مُسْتَكْرَهًا كَمَنْ حَمَلَ لَفْظَ الْوُجُوبِ عَلَى السُّقُوطِ. انْتَهَى.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ فَعَوَّلَ عَلَى الْمُعَارَضَةِ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ قَوْلُهُ: فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي اشْتَرَاكَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ فِي أَصْلِ الْفَضْلِ، فَيَسْتَلْزِمُ إِجْزَاءَ الْوُضُوءِ.
وَلِهَذَا الْحَدِيثِ طُرُقٌ أَشْهَرُهَا وَأَقْوَاهَا رِوَايَةُ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ أَخْرَجَهَا أَصْحَابُ السُّنَنِ الثَّلَاثَةُ وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَلَهُ عِلَّتَانِ: إِحْدَاهُمَا أَنَّهُ مِنْ عَنْعَنَةِ الْحَسَنِ، وَالْأُخْرَى أَنَّهُ اخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِيهِ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، وَالْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَابْنُ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَكُلُّهَا ضَعِيفَةٌ. وَعَارَضُوا أَيْضًا بِأَحَادِيثَ، مِنْهَا الْحَدِيثُ الْآتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ فَإِنَّ فِيهِ وَأَنْ يَسْتَنَّ، وَأَنْ يَمَسَّ طِيبًا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ظَاهِرُهُ وُجُوبُ الِاسْتِنَانِ وَالطِّيبِ لِذِكْرِهِمَا بِالْعَاطِفِ، فَالتَّقْدِيرُ الْغُسْلُ وَاجِبٌ وَالِاسْتِنَانُ وَالطِّيبُ كَذَلِكَ، قَالَ: وَلَيْسَا بِوَاجِبَيْنِ اتِّفَاقًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْغُسْلَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، إِذْ لَا يَصِحُّ تَشْرِيكُ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ مَعَ الْوَاجِبِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ. انْتَهَى.
وَقَدْ سَبَقَ إِلَى ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ، وَالطَّحَاوِيُّ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ عَطْفُ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى الْوَاجِبِ، لَا سِيَّمَا وَلَمْ يَقَعِ التَّصْرِيحُ بِحُكْمِ الْمَعْطُوفِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: إِنْ سَلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَاجِبِ الْفَرْضُ لَمْ يَنْفَعْ دَفْعُهُ بِعِطْفِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ لِأَنَّ لِلْقَائِلِ أَنْ يَقُولَ: أُخْرِجَ بِدَلِيلٍ فَبَقِيَ مَا عَدَاهُ عَلَى الْأَصْلِ، وَعَلَى أَنَّ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ فِي الطِّيبِ مَرْدُودَةٌ، فَقَدْ رَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فِي جَامِعِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يُوجِبُ الطِّيبَ يَوْم الْجُمُعَة وَإِسْنَاده صَحِيح، وَكَذَا قَالَ بِوُجُوبِهِ بَعْض أَهْل الظَّاهِر. وَمِنْهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: مَنْ توضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ فَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ غُفِرَ لَهُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ذَكَرَ الْوُضُوءَ وَمَا مَعَهُ مُرَتِّبًا عَلَيْهِ الثَّوَابَ الْمُقْتَضِي لِلصِّحَّةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ كَافٍ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نَفْيُ الْغُسْلِ.
وَقَدْ وَرَدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِلَفْظِ: مَنِ اغْتَسَلَ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرَ الْوُضُوءَ لِمَنْ تَقَدَّمَ غُسْلُهُ عَلَى الذَّهَابِ فَاحْتَاجَ إِلَى إِعَادَةِ الْوُضُوءِ. وَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ: سُئِلَ عَنْ غُسْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَوَاجِبٌ هُوَ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنَّهُ أَطْهَرُ لِمَنِ اغْتَسَلَ، وَمَنْ لَمْ يَغْتَسِلْ فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ. وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنْ بَدْءِ الْغُسْلِ: كَانَ النَّاسُ مَجْهُودِينَ يَلْبَسُونَ الصُّوفَ وَيَعْمَلُونَ، وَكَانَ مَسْجِدُهُمْ ضَيِّقًا، فَلَمَّا آذَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّهَا النَّاسُ، إِذَا كَانَ هَذَا الْيَوْمُ فَاغْتَسِلُوا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ثُمَّ جَاءَ اللَّهُ بِالْخَيْرِ، وَلَبِسُوا غَيْرَ الصُّوفِ، وَكُفُوا الْعَمَلَ، وَوَسِعَ الْمَسْجِدُ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالطَّحَاوِيُّ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، لَكِنَّ الثَّابِتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ خِلَافُهُ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا.
وَعَلَى تَقْدِيرِ الصِّحَّةِ فَالْمَرْفُوعُ مِنْهُ وَرَدَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ الدَّالَّةِ عَلَى الْوُجُوبِ، وَأَمَّا نَفْيُ الْوُجُوبِ فَهُوَ مَوْقُوفٌ
لِأَنَّهُ مِنِ اسْتِنْبَاطِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ زَوَالِ السَّبَبِ زَوَالُ الْمُسَبَّبِ كَمَا فِي الرَّمَلِ وَالْجِمَارِ، عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِ، فَلِمَنْ قَصَرَ الْوُجُوبَ عَلَى مَنْ بِهِ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهِ.
وَمِنْهَا حَدِيثُ طَاوُسٍ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: زَعَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اغْتَسِلُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْسِلُوا رُءُوسَكُمُ، الَّا أَنْ تَكُونُوا جُنُبًا الْحَدِيثَ. قَالَ ابْنُ حِبَّانَ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُ: فِيهِ أَنَّ غُسْلَ الْجُمُعَةِ يُجْزِئُ عَنْهُ غُسْلُ الْجَنَابَةِ، وَأَنَّ غُسْلَ الْجُمُعَةِ لَيْسَ بِفَرْضٍ، إِذْ لَوْ كَانَ فَرْضًا لَمْ يُجْزِ عَنْهُ غَيْرُهُ. انْتَهَى.
وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ: إِلَّا أَنْ تَكُونُوا جُنُبًا تَفَرَّدَ بِهَا ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَقَدْ رَوَاهُ شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ: وَأَنْ تَكُونُوا جُنُبًا وَهَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ عَنِ الزُّهْرِيِّ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ بَابَيْنِ.
وَمِنْهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ الْآتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ بِلَفْظِ: لَوِ اغْتَسَلْتُمْ فَفِيهِ عَرْضٌ وَتَنْبِيهٌ لَا حَتْمَ وَوُجُوبٌ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نَفْيُ الْوُجُوبِ، وَبِأَنَّهُ سَابِقٌ عَلَى الْأَمْرِ بِهِ وَالْإِعْلَامِ بِوُجُوبِهِ. وَنَقَلَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ بَعْدَ قَوْلِ الطَّحَاوِيِّ لَمَّا ذَكَرَ حَدِيثَ عَائِشَةَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْغُسْلِ لَمْ يَكُنْ لِلْوُجُوبِ، وَإِنَّمَا كَانَ لِعِلَّةٍ ثُمَّ ذَهَبَتْ تِلْكَ الْعِلَّةُ فَذَهَبَ الْغُسْلُ: وَهَذَا مِنَ الطَّحَاوِيِّ يَقْتَضِي سُقُوطَ الْغُسْلِ أَصْلًا فَلَا يُعَدُّ فَرْضًا وَلَا مَنْدُوبًا لِقَوْلِهِ: زَالَتِ الْعِلَّةُ إِلَخْ، فَيَكُونُ مَذْهَبًا ثَالِثًا فِي الْمَسْأَلَةِ. انْتَهَى.
وَلَا يَلْزَمُ مِنْ زَوَالِ الْعِلَّةِ سُقُوطُ النَّدْبِ تَعَبُّدًا، وَلَا سِيَّمَا مَعَ احْتِمَالِ وُجُودِ الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ. ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ كُلَّهَا لَوْ سَلِمَتْ لَمَا دَلَّتْ إِلَّا عَلَى نَفْيِ اشْتِرَاطِ الْغُسْلِ لَا عَلَى الْوُجُوبِ الْمُجَرَّدِ
(1)
كَمَا تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ مِنْ أَنَّ بَعْضَهُمْ أَوَّلَهُ بِتَأْوِيلٍ مُسْتَكْرَهٍ فَقَدْ نَقَلَهُ ابْنُ دِحْيَةَ، عَنِ الْقَدُورِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَأَنَّهُ قَالَ: قَوْلُهُ وَاجِبٌ، أَيْ: سَاقِطٌ، وَقَوْلُهُ: عَلَى، بِمَعْنَى: عَنْ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ.
وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: أَصْلُ الْوُجُوبِ فِي اللُّغَةِ السُّقُوطُ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْخِطَابِ عَلَى الْمُكَلَّفِ عِبْءٌ ثَقِيلٌ كَانَ كُلُّ مَا أُكِّدَ طَلَبُهُ مِنْهُ يُسَمَّى وَاجِبًا كَأَنَّهُ سَقَطَ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ فَرْضًا أَوْ نَدْبًا. وَهَذَا سَبَقَهُ ابْنُ بَزِيزَةَ إِلَيْهِ، ثُمَّ تَعَقَّبَهُ بِأَنَّ اللَّفْظَ الشَّرْعِيَّ خَاصٌّ بِمُقْتَضَاهُ شَرْعًا لَا وَضْعًا، وَكَأَنَّ الزَّيْنَ اسْتَشْعَرَ هَذَا الْجَوَابَ فَزَادَ أَنَّ تَخْصِيصَ الْوَاجِبِ بِالْفَرْضِ اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ وَجَبَ فِي اللُّغَةِ لَمْ يَنْحَصِرْ فِي السُّقُوطِ، بَلْ وَرَدَ بِمَعْنَى مَاتَ، وَبِمَعْنَى اضْطَرَبَ، وَبِمَعْنَى لَزِمَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالَّذِي يَتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْهَا فِي الْأَحَادِيثِ أَنَّهَا بِمَعْنَى لَزِمَ، لَا سِيَّمَا إِذَا سِيقَتْ لِبَيَانِ الْحُكْمِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: الْجُمُعَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ، وَهُوَ بِمَعْنَى اللُّزُومِ قَطْعًا، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ الْبَابِ: وَاجِبٌ كَغُسْلِ الْجَنَابَةِ أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، وَظَاهِرُهُ اللُّزُومُ، وَأَجَابَ عَنْهُ بَعْضُ الْقَائِلِينَ بِالنَّدْبِيَّةِ بِأَنَّ التَّشْبِيهَ فِي الْكَيْفِيَّةِ لَا فِي الْحُكْمِ، وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ لَفْظَةُ: الْوُجُوبِ مُغَيَّرَةً مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ أَوْ ثَابِتَةً وَنُسِخَ الْوُجُوبُ، وَرُدَّ بِأَنَّ الطَّعْنَ فِي الرِّوَايَاتِ الثَّابِتَةِ بِالظَّنِّ الَّذِي لَا مُسْتَنَدَ لَهُ لَا يُقْبَلُ، وَالنَّسْخُ لَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَمَجْمُوعُ الْأَحَادِيثِ يَدُلُّ عَلَى اسْتِمْرَارِ الْحُكْمِ، فَإِنَّ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي أَوَّلِ الْحَالِ حَيْثُ كَانُوا مَجْهُودِينَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّمَا صَحِبَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ أَنْ حَصَلَ التَّوَسُّعُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا كَانُوا فِيهِ أَوَّلًا، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ سَمِعَ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنْهُ صلى الله عليه وسلم الْأَمْرَ بِالْغُسْلِ وَالْحَثَّ عَلَيْهِ وَالتَّرْغِيبَ فِيهِ فَكَيْفَ يُدَّعَى النَّسْخُ بَعْدَ ذَلِكَ؟
(فَائِدَةٌ): حَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُ أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِهِمْ قَالُوا: يُجْزِئُ عَنْ الِاغْتِسَالِ لِلْجُمُعَةِ التَّطَيُّبُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ النَّظَافَةُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُشْتَرَطُ لَهُ الْمَاءُ الْمُطْلَقُ بَلْ يُجْزِئُ بِمَاءِ الْوَرْدِ وَنَحْوِهِ، وَقَدْ عَابَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ ذَلِكَ وَقَالَ: هَؤُلَاءِ وَقَفُوا مَعَ الْمَعْنَى وَأَغْفَلُوا الْمُحَافَظَةَ عَلَى التَّعَبُّدِ بِالْمُعَيَّنِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ التَّعَبُّدِ وَالْمَعْنَى أَوْلَى. انْتَهَى.
(1)
كذا في الأصلين. ولعله " لاعلى نفي الوجوب المجرد"
وَعَكْسُ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ بِالتَّيَمُّمِ، فَإِنَّهُ تَعَبُّدٌ دُونَ نَظَرٍ إِلَى الْمَعْنَى، أَمَّا الِاكْتِفَاءُ بِغَيْرِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ فَمَرْدُودٌ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ لِثُبُوتِ التَّرْغِيبِ فِيهَا فَيَحْتَاجُ إِلَى النِّيَّةِ وَلَوْ كَانَ لِمَحْضِ النَّظَافَةِ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
3 - بَاب الطِّيبِ لِلْجُمُعَةِ
880 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بَكرِ بْنِ الْمُنكَدِرِ قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ سُلَيْمٍ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ، وَأَنْ يَسْتَنَّ، وَأَنْ يَمَسَّ طِيبًا إِنْ وَجَدَ. قَالَ عَمْرٌو: أَمَّا الْغُسْلُ فَأَشْهَدُ أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَأَمَّا الِاسْتِنَانُ وَالطِّيبُ فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَوَاجِبٌ هُوَ أَمْ لَا، وَلَكِنْ هَكَذَا فِي الْحَدِيثِ. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: هُوَ أَخُو مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، وَلَمْ يُسَمَّ أَبُو بَكْرٍ هَذَا. رَوَاهُ عَنْهُ بُكَيْرُ بْنُ الْأَشَجِّ وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ وَعِدَّةٌ. وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ يُكْنَى بِأَبِي بَكْرٍ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الطِّيبِ لِلْجُمُعَةِ) لَمْ يَذْكُرْ حُكْمَهُ أَيْضًا لِوُقُوعِ الِاحْتِمَالِ فِيهِ كَمَا سَبَقَ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ) كَذَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَسَاكِرَ، وَهُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ، وَاقْتَصَرَ الْبَاقُونَ عَلَى حَدَّثَنَا عَلِيٌّ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ) ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: أَرَادَ بِهَذَا اللَّفْظِ التَّأْكِيدَ لِلرِّوَايَةِ. انْتَهَى. وَقَدْ أَدْخَلَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الْقَائِلُ أَشْهَدُ وَبَيْنَ أَبِي سَعِيدٍ رَجُلًا كَمَا سَيَأْتِي.
قَوْلُهُ: (وَأَنْ يَسْتَنَّ) أَيْ يُدَلِّكَ أَسْنَانَهُ بِالسِّوَاكِ.
قَوْلُهُ: (وَأَنْ يَمَسَّ) بِفَتْحِ الْمِيمِ عَلَى الْأَفْصَحِ.
قَوْلُهُ: (إِنْ وَجَدَ) مُتَعَلِّقٌ بِالطِّيبِ، أَيْ: إِنْ وَجَدَ الطِّيبَ مَسَّهُ، وَيَحْتَمِلُ تَعَلُّقُهُ بِمَا قَبْلَهُ أَيْضًا. وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: وَيَمَسُّ مِنَ الطِّيبِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَفِي رِوَايَةِ: وَلَوْ مِنْ طِيبِ الْمَرْأَةِ قَالَ عِيَاضٌ: يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِرَادَةَ التَّأْكِيدِ لِيَفْعَلَ مَا أَمْكَنَهُ، وَيَحْتَمِلُ إِرَادَةَ الْكَثْرَةِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: وَلَوْ مِنْ طِيبِ الْمَرْأَةِ، لِأَنَّهُ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ لِلرَّجُلِ، وَهُوَ مَا ظَهَرَ لَوْنُهُ وَخَفِيَ رِيحُهُ، فَإِبَاحَتُهُ لِلرَّجُلِ لِأَجْلِ عَدَمِ غَيْرِهِ يَدُلُّ عَلَى تَأَكُّدِ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ. وَيُؤْخَذُ مِنِ اقْتِصَارِهِ عَلَى الْمَسِّ الْأَخْذُ بِالتَّخْفِيفِ فِي ذَلِكَ. قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الرِّفْقِ، وَعَلَى تَيْسِيرِ الْأَمْرِ فِي التَّطَيُّبِ بِأَنْ يَكُونَ بِأَقَلِّ مَا يُمْكِنُ حَتَّى إِنَّهُ يُجْزِئُ مَسُّهُ مِنْ غَيْرِ تَنَاوُلِ قَدْرٍ يُنْقِصُهُ تَحْرِيضًا عَلَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ عَمْرٌو)، أَيِ: ابْنُ سُلَيْمٍ رَاوِي الْخَبَرِ، وَهُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (وَأَمَّا الِاسْتِنَانُ وَالطِّيبُ فَاللَّهُ أَعْلَمُ) هَذَا يُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْعَطْفَ لَا يَقْتَضِي التَّشْرِيكَ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَكَأَنَّ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ تَأْكِيدُ الطَّلَبِ لِلثَّلَاثَةِ، وَكَأَنَّهُ جَزَمَ بِوُجُوبِ الْغُسْلِ دُونَ غَيْرِهِ لِلتَّصْرِيحِ بِهِ فِي الْحَدِيثِ، وَتَوَقَّفَ فِيمَا عَدَاهُ لِوُقُوعِ الِاحْتِمَالِ فِيهِ. قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَأَنْ يَسْتَنَّ مَعْطُوفًا عَلَى الْجُمْلَةِ الْمُصَرِّحَةِ بِوُجُوبِ الْغُسْلِ فَيَكُونُ وَاجِبًا أَيْضًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَأَنْ يَسْتَنَّ وَيَتَطَيَّبَ اسْتِحْبَابًا، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا سَيَأْتِي فِي آخِرِ الْبَابِ مِنْ رِوَايَةِ اللَّيْثِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ حَيْثُ قَالَ فِيهَا: إِنَّ الْغُسْلَ وَاجِبٌ ثُمَّ قَالَ: وَالسِّوَاكُ وَأَنْ يَمَسَّ مِنَ الطِّيبِ وَيَأْتِي فِي شَرْحِ بَابِ الدَّهْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَأَصِيبُوا مِنَ الطِّيبِ وَفِيهِ تَرَدُّدُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي وُجُوبِ الطِّيبِ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَأَنْ يَسْتَنَّ إِلَخْ مِنْ كَلَامِ أَبِي سَعِيدٍ خَلَطَهُ الرَّاوِي بِكَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم انْتَهَى.
وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ سَاقَهُ بِلَفْظِ قَالَ
أَبُو سَعِيدٍ وَأَنْ يَسْتَنَّ وَهَذَا لَمْ أَرَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ نُسَخِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ الَّذِي تَكَلَّمَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَلَيْهِ. وَلَا فِي وَاحِدٍ مِنَ الصَّحِيحَيْنِ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَسَانِيدِ وَالْمُسْتَخْرَجَاتِ، بَلْ لَيْسَ فِي جَمِيعِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ فَدَعْوَى الْإِدْرَاجِ فِيهِ لَا حَقِيقَةَ لَهَا.
وَيَلْتَحِقُ بِالِاسْتِنَانِ وَالتَّطَيُّبِ التَّزَيُّنُ بِاللِّبَاسِ، وَسَيَأْتِي اسْتِعْمَالُ الْخَمْسِ الَّتِي عُدَّتْ مِنَ الْفِطْرَةِ، وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِهِ فَقَالَ: يَلْزَمُ الْآتِي الْجُمُعَةَ جَمِيعُ ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ الدَّهْنِ لِلْجُمُعَةِ: وَيَدْهُنُ مِنْ دُهْنِهِ وَيَمَسُّ مِنْ طِيبِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ: الْبُخَارِيُّ، وَمُرَادُهُ بِمَا ذُكِرَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُنْكَدِرِ وَإِنْ كَانَ يُكَنَّى أَيْضًا أَبَا بَكْرٍ لَكِنَّهُ مِمَّنْ كَانَ مَشْهُورًا بِاسْمِهِ دُونَ كُنْيَتِهِ، بِخِلَافِ أَخِيهِ أَبِي بَكْرٍ رَاوِي هَذَا الْخَبَرِ فَإِنَّهُ لَا اسْمَ لَهُ إِلَّا كُنْيَتَهُ، وَهُوَ مَدَنِيٌّ تَابِعِيٌّ كَشَيْخِهِ.
قَوْلُهُ: (رَوَى عَنْهُ بُكَيْرُ بْنُ الْأَشَجِّ، وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ) كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ رَوَاهُ عَنْهُ وَكَأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ شُعْبَةَ لَمْ يَنْفَرِدْ بِرِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْهُ لَكِنْ بَيْنَ رِوَايَةِ بُكَيْرٍ، وَسَعِيدٍ مُخَالَفَةٌ فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْإِسْنَادِ، فَرِوَايَةُ بُكَيْرٍ مُوَافِقَةٌ لِرِوَايَةِ شُعْبَةَ وَرِوَايَةُ سَعِيدٍ أَدْخَلَ فِيهَا بَيْنَ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ وَاسِطَةً، كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ أَبِي هِلَالٍ، وَبُكَيْرَ بْنَ الْأَشَجِّ حَدَّثَاهُ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ أَبِيهِ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَقَالَ فِي آخِرِهِ: إِلَّا أَنَّ بُكَيْرًا لَمْ يَذْكُرْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ وَكَذَلِكَ أَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ بُكَيْرٍ لَيْسَ فِيهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَغَفَلَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ الْأَخِيرِ فَجَزَمَ بِأَنَّ بُكَيْرًا، وَسَعِيدًا خَالَفَا شُعْبَةَ فَزَادَا فِي الْإِسْنَادِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ وَقَالَ: إِنَّهُمَا ضَبَطَا إِسْنَادَهُ وَجَوَّدَاهُ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، بَلِ الْمُنْفَرِدُ بِزِيَادَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ هُوَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ، وَقَدْ وَافَقَ شُعْبَةَ، وَبُكَيْرًا عَلَى إِسْقَاطِهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ أَخُو أَبِي بَكْرٍ أَخْرَجَهُ ابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِهِ، وَالْعَدَدُ الْكَثِيرُ أَوْلَى بِالْحِفْظِ مِنْ وَاحِدٍ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ عَمْرَو بْنَ سُلَيْمٍ سَمِعَهُ مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ، ثُمَّ لَقِيَ أَبَا سَعِيدٍ فَحَدَّثَهُ، وَسَمَاعُهُ مِنْهُ لَيْسَ بِمُنْكَرٍ لِأَنَّهُ قَدِيمٌ وُلِدَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَلَمْ يُوصَفْ بِالتَّدْلِيسِ. وَحَكَى الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ فِيهِ اخْتِلَافًا آخَرَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، فَذَكَرَ أَنَّ الْبَاغَنْدِيَّ حَدَّثَ بِهِ عَنْهُ بِزِيَادَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَيْضًا، وَخَالَفَهُ تَمَّامٌ عَنْهُ فَلَمْ يَذْكُرْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَفِيمَا قَالَ نَظَرٌ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنِ الْبَاغَنْدِيِّ بِإِسْقَاطِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ بْنِ حَمْزَةَ، وَأَبِي أَحْمَدَ الْغِطْرِيفِيِّ، كِلَاهُمَا عَنِ الْبَاغَنْدِيِّ، فَهَؤُلَاءِ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ حَدَّثُوا بِهِ عَنْ الْبَاغَنْدِيِّ فَلَمْ يَذْكُرُوا عَبْدَ الرَّحْمَنِ فِي الْإِسْنَادِ، فَلَعَلَّ الْوَهْمَ فِيهِ مِمَّنْ حَدَّثَ بِهِ الدَّارَقُطْنِيُّ، عَنْ الْبَاغَنْدِيِّ، وَقَدْ وَافَقَ الْبُخَارِيُّ عَلَى تَرْكِ ذِكْرِهِ مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى الذُّهْلِيَّ عِنْدَ الْجَوْزَقِيِّ، وَمُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحِيمِ صَاعِقَةَ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَعَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ سَلَّامٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَإِسْمَاعِيلَ الْقَاضِيَ عِنْدَ ابْنِ مَنْدَهْ فِي غَرَائِبِ شُعْبَةَ، كُلُّهُمْ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، وَوَافَقَ عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيَّ عَلَى تَرْكِ ذِكْرِهِ أَيْضًا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَرْعَرَةَ، عَنْ حَرَمِيِّ بْنِ عُمَارَةَ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ الْمَرُّوِذِيِّ فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ لَهُ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ حَرَمِيٍّ، وَأَشَارَ ابْنُ مَنْدَهْ إِلَى أَنَّهُ تَفَرَّدَ بِهِ عَنْهُ.
(تَنْبِيهٌ): ذَكَرَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ أَنَّ الْبُخَارِيَّ قَالَ عَقِبَ رِوَايَةِ شُعْبَةَ هَذِهِ: وَقَالَ اللَّيْثُ، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى هَذَا التَّعْلِيقِ فِي شَيْءٍ مِنَ النُّسَخِ الَّتِي وَقَعَتْ لَنَا مِنَ الصَّحِيحِ، وَلَا ذَكَرَهُ أَبُو مَسْعُودٍ وَلَا خَلَفَ، وَقَدْ وَصَلَهُ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ كَذَلِكَ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ بِلَفْظِ: أَنَّ الْغُسْلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ، وَالسِّوَاكَ، وَأَنْ يَمَسَّ مِنَ الطِّيبِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ.
4 - بَاب فَضْلِ الْجُمُعَةِ
881 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ حَضَرَتْ الْمَلَائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ الْجُمُعَةِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: مَنِ اغْتَسَل يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ رَاحَ الْحَدِيثَ. وَإِسْنَادُهُ مَدَنِيُّونَ، وَمُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ مَا اقْتَضَاهُ الْحَدِيثُ مِنْ مُسَاوَاةِ الْمُبَادِرِ إِلَى الْجُمُعَةِ لِلْمُتَقَرِّبِ بِالْمَالِ فَكَأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ عِبَادَتَيْنِ بَدَنِيَّةٍ وَمَالِيَّةٍ، وَهَذِهِ خُصُوصِيَّةٌ لِلْجُمُعَةِ لَمْ تَثْبُتْ لِغَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ.
قَوْلُهُ: (مَنِ اغْتَسَلَ) يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَنْ يَصِحُّ التَّقَرُّبُ مِنْهُ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ.
قَوْلُهُ: (غُسْلَ الْجَنَابَةِ) بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: غُسْلًا كَغُسْلِ الْجَنَابَةِ، وَهُوَ كَقولِهِ تعالى:{وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ سُمَيٍّ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: فَاغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ كَمَا يَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ وَظَاهِرُهُ أَنَّ التَّشْبِيهَ لِلْكَيْفِيَّةِ لَا لِلْحُكْمِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ، وَقِيلَ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْجِمَاعِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِيَغْتَسِلَ فِيهِ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنْ تَسْكُنَ نَفْسُهُ فِي الرَّوَاحِ إِلَى الصَّلَاةِ وَلَا تَمْتَدُّ عَيْنُهُ إِلَى شَيْءٍ يَرَاهُ، وَفِيهِ حَمْلُ الْمَرْأَةِ أَيْضًا عَلَى الِاغْتِسَالِ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَعَلَيْهِ حَمَلَ قَائِلُ ذَلِكَ حَدِيثُ: مَنْ غَسَّلَ وَاغْتَسَلَ الْمُخَرَّجُ فِي السُّنَنِ عَلَى رِوَايَةِ مَنْ رَوَى غَسَّلَ بِالتَّشْدِيدِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى هَذَا وَهُوَ ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ. انْتَهَى.
وَقَدْ حَكَاهُ ابْنُ قُدَامَةَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَثَبَتَ أَيْضًا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّهُ أَنْسَبُ الْأَقْوَالِ فَلَا وَجْهَ لِادِّعَاءِ بُطْلَانِهِ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَرْجَحَ
(1)
وَلَعَلَّهُ عَنَى أَنَّهُ بَاطِلٌ فِي الْمَذْهَبِ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ رَاحَ) زَادَ أَصْحَابُ الْمُوَطَّأِ عَنْ مَالِكٍ: فِي السَّاعَةِ الْأُولَى.
قَوْلُهُ: (فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً) أَيْ: تَصَدَّقَ بِهَا مُتَقَرِّبًا إِلَى اللَّهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّ لِلْمُبَادِرِ فِي أَوَّلِ سَاعَةٍ نَظِيرَ مَا لِصَاحِبِ الْبَدَنَةِ مِنَ الثَّوَابِ مِمَّنْ شُرِعَ لَهُ الْقُرْبَانُ، لِأَنَّ الْقُرْبَانَ لَمْ يُشْرَعْ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى الْكَيْفِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ لِلْأُمَمِ السَّالِفَةِ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ الْمَذْكُورَةِ: فَلَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ الْجَزُورِ وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الثَّوَابَ لَوْ تَجَسَّدَ لَكَانَ قَدْرَ الْجَزُورِ
(2)
. وَقِيلَ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ إِلَّا بَيَانَ تَفَاوُتِ الْمُبَادِرِينَ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَأَنَّ نِسْبَةَ الثَّانِي مِنَ الْأَوَّلِ نِسْبَةُ الْبَقَرَةِ إِلَى الْبَدَنَةِ فِي الْقِيمَةِ مَثَلًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ فِي مُرْسَلِ طَاوُسٍ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: كَفَضْلِ صَاحِبِ الْجَزُورِ عَلَى صَاحِبِ الْبَقَرَةِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ الْآتِيَةِ فِي بَابِ الِاسْتِمَاعِ إِلَى الْخُطْبَةِ بِلَفْظِ: كَمِثْلِ الَّذِي يُهْدِي بَدَنَةً فَكَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْقُرْبَانِ فِي رِوَايَةِ الْبَابِ الْإِهْدَاءُ إِلَى الْكَعْبَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي لَفْظِ الْإِهْدَاءِ إِدْمَاجٌ بِمَعْنَى التَّعْظِيمِ لِلْجُمُعَةِ، وَأَنَّ الْمُبَادِرَ إِلَيْهَا كَمَنْ سَاقَ الْهَدْيَ،
(1)
في مخطوطة الرياض " راجحا"
(2)
ليس هذا بشيء، والصواب أن معنى رواية ابن جريج موافق لمعنى بقية الروايات، وأن المراد بذلك بيان فضل المبادر إلى الجمعة، وأنه بمنزلة من قرب بدنة إلخ. والله أعلم
وَالْمُرَادُ بِالْبَدَنَةِ الْبَعِيرُ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَالْهَاءُ فِيهَا لِلْوَحْدَةِ لَا لِلتَّأْنِيثِ، وَكَذَا فِي بَاقِي مَا ذُكِرَ. وَحَكَى ابْنُ التِّينِ، عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَانَ يَتَعَجَّبُ مِمَّنْ يَخُصُّ الْبَدَنَةَ بِالْأُنْثَى، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ فِي شَرْحِ أَلْفَاظِ الْمُخْتَصَرِ: الْبَدَنَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنَ الْإِبِلِ، وَصَحَّ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ، وَأَمَّا الْهَدْيُ فَمِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، هَذَا لَفْظُهُ.
وَحَكَى النَّوَوِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْبَدَنَةُ تَكُونُ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَكَأَنَّهُ خَطَأٌ نَشَأَ عَنْ سَقْطٍ. وَفِي الصِّحَاحِ: الْبَدَنَةُ نَاقَةٌ أَوْ بَقَرَةٌ تُنْحَرُ بِمَكَّةَ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمِّنُونَهَا. انْتَهَى.
وَالْمُرَادُ بِالْبَدَنَةِ هُنَا النَّاقَةُ بِلَا خِلَافٍ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْبَدَنَةَ تَخْتَصُّ بِالْإِبِلِ لِأَنَّهَا قُوبِلَتْ بِالْبَقَرَةِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَقَسْمُ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ قَسِيمَهُ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الْبَدَنَةُ مِنَ الْإِبِلِ، ثُمَّ الشَّرْعُ قَدْ يُقِيمُ مَقَامَهَا الْبَقَرَةَ وَسَبْعًا مِنَ الْغَنَمِ. وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ هَذَا فِيمَا إِذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ بَدَنَةٌ، وَفِيهِ خِلَافٌ، الْأَصَحُّ تَعَيُّنُ الْإِبِلِ إِنْ وُجِدَتْ، وَإِلَّا فَالْبَقَرَةُ أَوْ سَبْعٌ مِنَ الْغَنَمِ. وَقِيلَ: تَتَعَيَّنُ الْإِبِلُ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: يَتَخَيَّرُ مُطْلَقًا.
قَوْلُهُ: (دَجَاجَةً) بِالْفَتْحِ، وَيَجُوزُ الْكَسْرُ، وَحَكَى اللَّيْثُ الضَّمَّ أَيْضًا. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَبِيبٍ أَنَّهَا بِالْفَتْحِ مِنَ الْحَيَوَانِ وَبِالْكَسْرِ مِنَ النَّاسِ. وَاسْتُشْكِلَ التَّعْبِيرُ فِي الدَّجَاجَةِ وَالْبَيْضَةِ بِقَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ: كَالَّذِي يُهْدِي لِأَنَّ الْهَدْيَ لَا يَكُونُ مِنْهُمَا، وَأَجَابَ الْقَاضِي عِيَاضٌ تَبَعًا لِابْنِ بَطَّالٍ بِأَنَّهُ لَمَّا عَطَفَهُ عَلَى مَا قَبْلِهِ أَعْطَاهُ حُكْمَهُ فِي اللَّفْظِ فَيَكُونُ مِنَ الِاتِّبَاعِ كَقَوْلِهِ: مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ بِأَنَّ شَرْطَ الِاتِّبَاعِ أَنْ لَا يُصَرِّحَ بِاللَّفْظِ فِي الثَّانِي فَلَا يَسُوغُ أَنْ يُقَالَ: مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَمُتَقَلِّدًا رُمْحًا. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمُشَاكَلَةِ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ ابْنُ الْعَرَبِيُّ بِقَوْلِهِ: هُوَ مِنْ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ قَرِينِهِ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: قَوْلُهُ قَرَّبَ بَيْضَةً وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى كَالَّذِي يُهْدِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّقْرِيبِ الْهَدْيُ، وَيَنْشَأُ مِنْهُ أَنَّ الْهَدْيَ يُطْلَقُ عَلَى مِثْلِ هَذَا حَتَّى لَوِ الْتَزَمَ هَدْيًا هَلْ يَكْفِيهِ ذَلِكَ أَوْ لَا؟ انْتَهَى.
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الثَّانِي، وَكَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ النَّذْرَ هَلْ يَسْلُكُ بِهِ مَسْلَكَ جَائِزِ الشَّرْعِ أَوْ وَاجِبِهِ؟ فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكْفِي أَقَلُّ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ، وَعَلَى الثَّانِي يُحْمَلُ عَلَى أَقَلِّ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ، وَيُقَوِّي الصَّحِيحَ أَيْضًا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْهَدْيِ هُنَا التَّصَدُّقُ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ التَّقَرُّبِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ حَضَرَتِ الْمَلَائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ) اسْتَنْبَطَ مِنْهُ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ التَّبْكِيرَ لَا يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ، قَالَ: وَيَدْخُلُ لِلْمَسْجِدِ مِنْ أَقْرَبِ أَبْوَابِهِ إِلَى الْمِنْبَرِ، وَمَا قَالَهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ لِإِمْكَانِ أَنْ يَجْمَعَ الْأَمْرَيْنِ بِأَنْ يُبَكِّرَ وَلَا يَخْرُجُ مِنَ الْمَكَانِ الْمُعَدِّ لَهُ فِي الْجَامِعِ إِلَّا إِذَا حَضَرَ الْوَقْتُ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى مَنْ لَيْسَ لَهُ مَكَانٌ مُعَدٌّ. وَزَادَ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ الْآتِيَةِ: طَوَوْا صُحُفَهُمْ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِهِ: فَإِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ طَوَوُا الصُّحُفَ وَجَاءُوا يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ، وَكَأَنَّ ابْتِدَاءَ طَيِّ الصُّحُفِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ خُرُوجِ الْإِمَامِ، وَانْتِهَاءَهُ بِجُلُوسِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَهُوَ أَوَّلُ سَمَاعِهِمْ لِلذِّكْرِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا فِي الْخُطْبَةِ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَغَيْرِهَا. وَأَوَّلُ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَقَفَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ يَكْتُبُونَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ سُمَيٍّ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ: عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ مَلَكَانِ يَكْتُبَانِ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، فَكَأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ: عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ جِنْسُ الْبَابِ، وَيَكُونُ مِنْ مُقَابَلَةِ الْمَجْمُوعِ بِالْمَجْمُوعِ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِمَنْ أَجَازَ التَّعْبِيرَ عَنْ الِاثْنَيْنِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ.
وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ صِفَةُ الصُّحُفِ الْمَذْكُورَةِ، أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِليَةِ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ بَعَثَ اللَّهُ مَلَائِكَةً بِصُحُفٍ مِنْ نُورٍ وَأَقْلَامٍ مِنْ نُورٍ، الْحَدِيثَ، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ الْمَذْكُورِينَ غَيْرُ الْحَفَظَةِ، وَالْمُرَادُ بِطَيِّ الصُّحُفِ: طَيُّ صُحُفِ الْفَضَائِلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمُبَادَرَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ وَإِدْرَاكِ الصَّلَاةِ
وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالْخُشُوعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَكْتُبهُ الْحَافِظَانِ قَطْعًا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي آخِرِ حَدِيثِهِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ: فَمَنْ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا يَجِيءُ لِحَقِّ الصَّلَاةِ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ سُمَيٍّ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي آخِرِهِ: ثُمَّ إِذَا اسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَ الْجُمُعَتَيْنِ وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ: فَيَقُولُ بَعْضُ الْمَلَائِكَةِ لِبَعْضٍ: مَا حَبَسَ فُلَانًا؟ فَتَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ ضَالًّا فَاهْدِهِ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنِهِ، وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا فَعَافِهِ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ الْحَضُّ عَلَى الِاغْتِسَالِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَفَضْلُهُ، وَفَضْلُ التَّبْكِيرِ إِلَيْهَا، وَأَنَّ الْفَضْلَ الْمَذْكُورَ إِنَّمَا يَحْصُلُ لِمَنْ جَمَعَهُمَا. وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ مَا أُطْلِقَ فِي بَاقِي الرِّوَايَاتِ مِنْ تَرَتُّبِ الْفَضْلِ عَلَى التَّبْكِيرِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِالْغُسْلِ.
وَفِيهِ أَنَّ مَرَاتِبَ النَّاسِ فِي الْفَضْلِ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمْ، وَأَنَّ الْقَلِيلَ مِنَ الصَّدَقَةِ غَيْرُ مُحْتَقَرٍ فِي الشَّرْعِ، وَأَنَّ التَّقَرُّبَ بِالْإِبِلِ أَفْضَلُ مِنَ التَّقَرُّبِ بِالْبَقَرِ وَهُوَ بِالِاتِّفَاقِ فِي الْهَدْيِ، وَاخْتُلِفَ فِي الضَّحَايَا، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا كَذَلِكَ. وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: فَرَّقَ مَالِكٌ بَيْنَ التَّقَرُّبَيْنِ بِاخْتِلَافِ الْمَقْصُودَيْنِ، لِأَنَّ أَصْلَ مَشْرُوعِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ التَّذْكِيرُ بِقِصَّةِ الذَّبِيحِ، وَهُوَ قَدْ فُدِيَ بِالْغَنَمِ، وَالْمَقْصُودُ بِالْهَدْيِ التَّوْسِعَةُ عَلَى الْمَسَاكِينِ فَنَاسَبَ الْبُدْنَ.
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ تَصِحُّ قَبْلَ الزَّوَالِ كَمَا سَيَأْتِي نُقِلَ الْخِلَافُ فِيهِ بَعْدَ أَبْوَابٍ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ تَقْسِيمُ السَّاعَةِ إِلَى خَمْسٍ. ثُمَّ عُقِّبَ بِخُرُوجِ الْإِمَامِ، وَخُرُوجُهُ عِنْدَ أَوَّلِ وَقْتِ الْجُمُعَةِ، فَيَقْتَضِي أَنَّهُ يَخْرُجُ فِي أَوَّلِ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ وَهِيَ قَبْلَ الزَّوَالِ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ ذِكْرَ الْإِتْيَانِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، فَلَعَلَّ السَّاعَةَ الْأُولَى مِنْهُ جُعِلَتْ لِلتَّأَهُّبِ بِالِاغْتِسَالِ وَغَيْرِهِ، وَيَكُونُ مَبْدَأُ الْمَجِيءِ مِنْ أَوَّلِ الثَّانِيَةِ فَهِيَ أُولَى بِالنِّسْبَةِ لِلْمَجِيءِ ثَانِيَةً بِالنِّسْبَةِ لِلنَّهَارِ، وَعَلَى هَذَا فَآخِرُ الْخَامِسَةِ أَوَّلُ الزَّوَالِ فَيَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الصَّيْدَلَانِيُّ شَارِحُ الْمُخْتَصَرِ حَيْثُ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ التَّبْكِيرِ يَكُونُ مِنِ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ، وَهُوَ أَوَّلُ الضُّحَى، وَهُوَ أَوَّلُ الْهَاجِرَةِ. وَيُؤَيِّدُهُ الْحَثُّ عَلَى التَّهْجِيرِ إِلَى الْجُمُعَةِ.
وَلِغَيْرِهِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ اخْتَلَفَ فِيهِمَا التَّرْجِيحُ، فَقِيلَ: أَوَّلُ التَّبْكِيرِ طُلُوعُ الشَّمْسِ، وَقِيلَ: طُلُوعُ الْفَجْرِ، وَرَجَّحَهُ جَمْعٌ، وَفِيهِ نَظَرٌ إِذْ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ التَّأَهُّبُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: يُجْزِئُ الْغُسْلُ إِذَا كَانَ بَعْدَ الْفَجْرِ فَأَشْعَرَ بِأَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَقَعَ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ لَمْ يَذْكُرْهُ الرَّاوِي، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ سُمَيٍّ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ عَنْهُ زِيَادَةُ مَرْتَبَةٍ بَيْنَ الدَّجَاجَةِ وَالْبَيْضَةِ وَهِيَ الْعُصْفُورُ، وَتَابَعَهُ صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، أَخْرَجَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ الْخُشَنِيُّ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَخْرَجَهُ حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ فِي التَّرْغِيبِ لَهُ بِلَفْظِ: فَكَمُهْدِي الْبَدَنَةِ إِلَى الْبَقَرَةِ إِلَى الشَّاةِ إِلَى عِلْيَةِ الطَّيْرِ إِلَى الْعُصْفُورِ الْحَدِيثَ، وَنَحْوُهُ فِي مُرْسَلِ طَاوُسٍ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، وَوَقَعَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ أَيْضًا فِي حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ مَعْمَرٍ زِيَادَةُ الْبَطَّةِ بَيْنَ الْكَبْشِ وَالدَّجَاجَةِ، لَكِنْ خَالَفَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَهُوَ أَثْبَتُ مِنْهُ فِي مَعْمَرٍ فَلَمْ يَذْكُرْهَا، وَعَلَى هَذَا فَخُرُوجُ الْإِمَامِ يَكُونُ عِنْدَ انْتِهَاءِ السَّادِسَةِ، وَهَذَا كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّاعَاتِ مَا يَتَبَادَرُ الذِّهْنُ إِلَيْهِ مِنَ الْعُرْفِ فِيهَا، وَفِيهِ نَظَرٌ إِذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ الْمُرَادَ لَاخْتَلَفَ الْأَمْرُ فِي الْيَوْمِ الشَّاتِي وَالصَّائِفِ، لِأَنَّ النَّهَارَ يَنْتَهِي فِي الْقِصَرِ إِلَى عَشْرِ سَاعَاتٍ وَفِي الطُّولِ إِلَى أَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَهَذَا الْإِشْكَالُ لِلْقَفَّالِ، وَأَجَابَ عَنْهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّاعَاتِ مَا لَا يَخْتَلِفُ عَدَدُهُ بِالطُّولِ وَالْقِصَرِ، فَالنَّهَارُ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَاعَةً لَكِنْ يَزِيدُ كُلٌّ مِنْهَا وَيَنْقُصُ وَاللَّيْلُ كَذَلِكَ، وَهَذِهِ تُسَمَّى السَّاعَاتِ الْآفَاقِيَّةَ عِنْدَ أَهْلِ الْمِيقَاتِ وَتِلْكَ التَّعْدِيلِيَّةِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا
يَوْمُ الْجُمُعَةِ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَاعَةً وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَرِدْ فِي حَدِيثِ التَّبْكِيرِ فَيُسْتَأْنَسُ بِهِ فِي الْمُرَادِ
بِالسَّاعَاتِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالسَّاعَاتِ بَيَانُ مَرَاتِبِ الْمُبَكِّرِينَ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَى الزَّوَالِ وَأَنَّهَا تَنْقَسِمُ إِلَى خَمْسٍ، وَتَجَاسَرَ الْغَزَالِيُّ فَقَسَّمَهَا بِرَأْيِهِ فَقَالَ: الْأُولَى مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَالثَّانِيَةُ إِلَى ارْتِفَاعِهَا، وَالثَّالِثَةُ إِلَى انْبِسَاطِهَا، وَالرَّابِعَةُ إِلَى أَنْ تَرْمَضَ الْأَقْدَامُ، وَالْخَامِسَةُ إِلَى الزَّوَالِ.
وَاعْتَرَضَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ بِأَنَّ الرَّدَّ إِلَى السَّاعَاتِ الْمَعْرُوفَةِ أَوْلَى وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ هَذَا الْعَدَدِ بِالذِّكْرِ مَعْنًى لِأَنَّ الْمَرَاتِبَ مُتَفَاوِتَةٌ جِدًّا، وَأَوْلَى الْأَجْوِبَةِ الْأَوَّلُ إِنْ لَمْ تَكُنْ زِيَادَةُ ابْنِ عَجْلَانَ مَحْفُوظَةً، وَإِلَّا فَهِيَ الْمُعْتَمَدَةُ. وَانْفَصَلَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ عَنِ الْإِشْكَالِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّاعَاتِ الْخَمْسِ لَحَظَاتٌ لَطِيفَةٌ أَوَّلُهَا زَوَالُ الشَّمْسِ وَآخِرُهَا قُعُودُ الْخَطِيبِ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ السَّاعَةَ تُطْلَقُ عَلَى جُزْءٍ مِنَ الزَّمَانِ غَيْرِ مَحْدُودٍ، تَقُولُ: جِئْتُ سَاعَةَ كَذَا، وَبِأَنَّ قَوْلَهُ فِي الْحَدِيثِ ثُمَّ رَاحَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ الذَّهَابِ إِلَى الْجُمُعَةِ مِنَ الزَّوَالِ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الرَّوَاحِ مِنَ الزَّوَالِ إِلَى آخَرِ النَّهَارِ، وَالْغُدُوُّ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى الزَّوَالِ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: تَمَسَّكَ مَالِكٌ بِحَقِيقَةِ الرَّوَاحِ وَتَجَوَّزَ فِي السَّاعَةِ وَعَكَسَ غَيْرُهُ. انْتَهَى.
وَقَدْ أَنْكَرَ الْأَزْهَرِيُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الرَّوَاحَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ، وَنَقَلَ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ رَاحَ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ بِمَعْنَى ذَهَبَ، قَالَ: وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَنَقَلَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي الْغَرِيبَيْنِ نَحْوَهُ. قُلْتُ: وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الزَّيْنِ بْنِ الْمُنِيرِ حَيْثُ أَطْلَقَ أَنَّ الرَّوَاحِ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْمُضِيِّ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ بِوَجْهٍ، وَحَيْثُ قَالَ: إِنَّ اسْتِعْمَالَ الرَّوَاحِ بِمَعْنَى الْغُدُوِّ لَمْ يُسْمَعْ وَلَا ثَبَتَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. ثُمَّ إِنِّي لَمْ أَرَ التَّعْبِيرَ بِالرَّوَاحِ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ إِلَّا فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ هَذِهِ عَنْ سُمَيٍّ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ سُمَيٍّ بِلَفْظِ غَدَا وَرَوَاهُ أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: الْمُتَعَجِّلُ إِلَى الْجُمُعَةِ كَالْمُهْدِي بَدَنَةً الْحَدِيثَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَفِي حَدِيثِ سَمُرَةَ: ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَثَلَ الْجُمُعَةِ فِي التَّبْكِيرِ كَنَاحِرِ
(1)
الْبَدَنَةِ الْحَدِيثَ، أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ غَدَتِ الشَّيَاطِينُ بِرَايَاتِهَا إِلَى الْأَسْوَاقِ، وَتَغْدُو الْمَلَائِكَةُ فَتَجْلِسُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَتَكْتُبُ الرَّجُلُ مِنْ سَاعَةٍ وَالرَّجُلُ مِنْ سَاعَتَيْنِ، الْحَدِيثَ، فَدَلَّ مَجْمُوعُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّوَاحِ الذَّهَابُ، وَقِيلَ: النُّكْتَةُ فِي التَّعْبِيرِ بِالرَّوَاحِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ الْفِعْلَ الْمَقْصُودَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الزَّوَالِ، فَيُسَمَّى الذَّاهِبُ إِلَى الْجُمُعَةِ رَائِحًا وَإِنْ لَمْ يَجِئْ وَقْتُ الرَّوَاحِ، كَمَا سُمِّيَ الْقَاصِدُ إِلَى مَكَّةَ حَاجًّا.
وَقَدِ اشْتَدَّ إِنْكَارُ أَحْمَدَ، وَابْنِ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ مَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ مِنْ كَرَاهِيَةِ التَّبْكِيرِ إِلَى الْجُمُعَةِ وَقَالَ أَحْمَدُ: هَذَا خِلَافُ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَاحْتَجَّ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ مَثَلُ الْمُهَجِّرِ لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ التَّهْجِيرِ وَهُوَ السَّيْرُ فِي وَقْتِ الْهَاجِرَةِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّهْج يرِ هُنَا التَّبْكِيرُ، كَمَا تَقَدَّمَ نَقْلُهُ عَنِ الْخَلِيلِ فِي الْمَوَاقِيتِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مِنَ الْهِجِّيرِ بِالْكَسْرِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ وَهُوَ مُلَازَمَةُ ذِكْرِ الشَّيْءِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ هَجَرَ الْمَنْزِلَ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ مَصْدَرَهُ الْهَجْرُ لَا التَّهْجِيرُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْحَقُّ أَنَّ التَّهْجِيرَ هُنَا مِنَ الْهَاجِرَةِ وَهُوَ السَّيْرُ وَقْتَ الْحَرِّ، وَهُوَ صَالِحٌ لِمَا قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِمَالِكٍ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: جُعِلَ الْوَقْتُ الَّذِي يَرْتَفِعُ فِيهِ النَّهَارُ وَيَأْخُذُ الْحَرُّ فِي الِازْدِيَادِ مِنَ الْهَاجِرَةِ تَغْلِيبًا، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ فَإِنَّ الْحَرَّ يَأْخُذُ فِي الِانْحِطَاطِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى اسْتِعْمَالِهِمُ التَّهْجِيرَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ مَا أَنْشَدَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ فِي نَوَادِرِهِ لِبَعْضِ الْعَرَبِ: تَهْجُرُونَ تَهْجِيرَ الْفَجْرِ
(2)
، وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ السَّاعَةَ لَوْ لَمْ تَطُلْ للَزِمَ تَسَاوِي الْآتِينَ فِيهَا، وَالْأَدِلَّةُ تَقْتَضِي رُجْحَانَ السَّابِقِ،
(1)
في مخطوطة الرياض " كأجر "
(2)
في المخطوطة "تهجيرالعرب "
بِخِلَافِ مَا إِذَا قُلْنَا إِنَّهَا لَحْظَةٌ لَطِيفَةٌ. وَالْجَوَابُ مَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ: إنَّ التَّسَاوِيَ وَقَعَ فِي مُسَمَّى الْبَدَنَةِ وَالتَّفَاوُتَ فِي صِفَاتِهَا، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَجْلَانَ تَكْرِيرَ كُلٍّ مِنَ الْمُتَقَرَّبِ بِهِ مَرَّتَيْنِ حَيْثُ قَالَ كَرَجُلٍ قَدَّمَ بَدَنَةً، وَكَرَجُلٍ قَدَّمَ بَدَنَةً الْحَدِيثَ وَلَا يَرِدُ عَلَى هَذَا أَنَّ فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ
(1)
، وَأَوَّلُ السَّاعَةِ وَآخِرُهَا سَوَاءٌ لِأَنَّ هَذِهِ التَّسْوِيَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَدَنَةِ كَمَا تَقَرَّرَ.
وَاحْتَجَّ مَنْ كَرِهَ التَّبْكِيرَ أَيْضًا بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ تَخَطِّي الرِّقَابِ فِي الرُّجُوعِ لِمَنْ عَرَضَتْ لَهُ حَاجَةٌ فَخَرَجَ لَهَا ثُمَّ رَجَعَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِأَنَّهُ قَاصِدٌ لِلْوُصُولِ لِحَقِّهِ. وَإِنَّمَا الْحَرَجُ عَلَى مَنْ تَأَخَّرَ عَنِ الْمَجِيءِ ثُمَّ جَاءَ فَتَخَطَّى، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
5 - بَاب
882 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه بَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ فَقَالَ عُمَرُ: لِمَ تَحْتَبِسُونَ عَنْ الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: مَا هُوَ إِلَّا أَنْ سَمِعْتُ النِّدَاءَ تَوَضَّأْتُ. فَقَالَ: أَلَمْ تَسْمَعُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا رَاحَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ.
قَوْلُهُ: (بَابٌ) كَذَا فِي الْأَصْلِ بِغَيْرِ تَرْجَمَةٍ، وَهُوَ كَالْفَصْلِ مِنَ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَوَجْهُ تَعَلُّقِهِ بِهِ أَنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنَ ادَّعَى إِجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى تَرْكِ التَّبْكِيرِ إِلَى الْجُمُعَةِ لِأَنَّ عُمَرَ أَنْكَرَ عَدَمَ التَّبْكِيرِ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَكِبَارِ التَّابِعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَوَجْهُ دُخُولِهِ فِي فَضْلِ الْجُمُعَةِ مَا يَلْزَمُ مِنْ إِنْكَارِ عُمَرَ عَلَى الدَّاخِلِ احْتِبَاسَهُ مَعَ عِظَمِ شَأْنِهِ، فَإِنَّهُ لَوْلَا عِظَمُ الْفَضْلِ فِي ذَلِكَ لَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ، وَإِذَا ثَبَتَ الْفَضْلُ فِي التَّبْكِيرِ إِلَى الْجُمُعَةِ ثَبَتَ الْفَضْلُ لَهَا.
قَوْلُهُ: (إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ) سَمَّاهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى فِي رِوَايَتِهِ عَنْ شَيْبَانَ: عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ، عَنْ شَيْبَانَ عِنْدَ قَاسِمِ بْنِ أَصْبَغَ، وَكَذَا سَمَّاهُ الْأَوْزَاعِيُّ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَحَرْبِ بْنِ شَدَّادٍ عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، وَصَرَّحَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ بِالتَّحْدِيثِ فِي جَمِيعِ الْإِسْنَادِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ بَقِيَّةُ مَبَاحِثِهِ فِي بَابِ فَضْلِ الْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ.
6 - بَاب الدُّهْنِ لِلْجُمُعَةِ
883 -
حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ ابْنِ وَدِيعَةَ، عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ وَيَدَّهِنُ مِنْ دُهْنِهِ أَوْ يَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ فَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ يُنْصِتُ إِذَا تَكَلَّمَ الْإِمَامُ، إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى.
[الحديث 883 - طرفه في: 910]
884 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ طَاوُسٌ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ ذَكَرُوا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ اغْتَسِلُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْسِلُوا رُءُوسَكُمْ وَإِنْ لَمْ تَكُونُوا جُنُبًا وَأَصِيبُوا مِنْ الطِّيبِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
(1)
في المخطوطة"ابن عجلان"
أَمَّا الْغُسْلُ فَنَعَمْ، وَأَمَّا الطِّيبُ فَلَا أَدْرِي".
[الحديث 884 - طرفه في: 885]
885 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى قَالَ: أَخْبَرَنَا هِشَامٌ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ: أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ ذَكَرَ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَيَمَسُّ طِيبًا أَوْ دُهْنًا إِنْ كَانَ عِنْدَ أَهْلِهِ؟ فَقَالَ: لَا أَعْلَمُهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الدَّهْنِ لِلْجُمُعَةِ) أَيِ اسْتِعْمَالُ الدُّهْنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِفَتْحِ الدَّالِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ.
قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ وَدِيعَةَ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ، سَمَّاهُ أَبُو عَلِيٍّ الْحَنَفِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ عِنْدَ الدَّارِمِيِّ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الصَّحَابَةِ، وَكَذَا ابْنُ مَنْدَهْ، وَعَزَاهُ لِأَبِي حَاتِمٍ. وَمُسْتَنَدُهُمْ أَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ لَمْ يَذْكُرْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدًا، لَكِنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِسَمَاعِهِ، فَالصَّوَابُ إِثْبَاتُ الْوَاسِطَةِ. وَهَذَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي تَتَبَّعَهَا الدَّارَقُطْنِيُّ عَلَى الْبُخَارِيِّ وَذَكَرَ أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ فَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْهُ هَكَذَا، وَرَوَاهُ ابْنُ عَجْلَانَ عَنْهُ فَقَالَ: عَنْ أَبِي ذَرٍّ، بَدَلُ سَلْمَانَ، وَأَرْسَلَهُ أَبُو مَعْشَرٍ عَنْهُ فَلَمْ يَذْكُرْ سَلْمَانَ وَلَا أَبَا ذَرٍّ، وَرَوَاهُ عُبَيْدُ اللَّهِ الْعُمَرِيُّ عَنْهُ فَقَالَ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ اهـ.
وَرِوَايَةُ ابْنِ عَجْلَانَ الْمَذْكُورِ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ وَرِوَايَةُ أَبِي مَعْشَرٍ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ وَرِوَايَةُ الْعُمَرِيِّ عِنْدَ أَبِي يَعْلَى، فَأَمَّا ابْنُ عَجْلَانَ فَهُوَ دُونَ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ فِي الْحِفْظِ فَرِوَايَتُهُ مَرْجُوحَةٌ، مَعَ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ وَدِيعَةَ سَمِعَهُ مِنْ أَبِي ذَرٍّ، وَسَلْمَانَ جَمِيعًا، وَيُرَجِّحُ كَوْنَهُ عَنْ سَلْمَانَ وُرُودُهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ قَرْثَعٍ الضَّبِّيِّ، وَهُوَ بِقَافٍ مَفْتُوحَةِ وَرَاءٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ مُثَلَّثَةٍ، قَالَ: وَكَانَ مِنَ الْقُرَّاءِ الْأَوَّلِينَ، وَعَنْ سَلْمَانَ نَحْوُهُ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَأَمَّا أَبُو مَعْشَرٍ فَضَعِيفٌ، وَقَدْ قَصَّرَ فِيهِ بِإِسْقَاطِ الصَّحَابِيِّ، وَأَمَّا الْعُمَرِيُّ فَحَافِظٌ وَقَدْ تَابَعَهُ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، عَنْ سَعِيدٍ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ رَجُلٍ عَنْ سَعِيدٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ السَّكَنِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَزَادَ فِيهِ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ، عُمَارَةَ بْنَ عَامِرٍ الْأَنْصَارِيَّ اهـ.
وَقَوْلُهُ ابْنُ عَامِرٍ خَطَأٌ، فَقَدْ رَوَاهُ اللَّيْثُ، عَنِ ابْنُ عَجْلَانَ، عَنْ سَعِيدٍ فَقَالَ: عُمَارَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَبَيَّنَ الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ سَعِيدٍ أَنَّ عُمَارَةَ إِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ سَلْمَانَ ذَكَرَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ. وَأَفَادَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ سَعِيدًا حَضَرَ أَبَاهُ لَمَّا سَمِعَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنِ ابْنِ وَدِيعَةَ، وَسَاقَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ مَسْعَدَةَ، وَقَاسِمِ بْنِ يَزِيدَ الْجَرْمِيِّ كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ وَدِيعَةَ لَيْسَ فِيهِ عَنْ أَبِيهِ، فَكَأَنَّهُ سَمِعَهُ مَعَ أَبِيهِ مِنِ ابْنِ وَدِيعَةَ، ثُمَّ اسْتَثْبَتَ أَبَاهُ فِيهِ فَكَانَ يَرْوِيهِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ. وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ عُرِفَ أَنَّ الطَّرِيقَ الَّتِي اخْتَارَهَا الْبُخَارِيُّ أَتْقَنُ الرِّوَايَاتِ، وَبَقِيَّتُهَا إِمَّا مُوَافِقَةٌ لَهَا أَوْ قَاصِرَةٌ عَنْهَا أَوْ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهَمَا. وَفِي الْإِسْنَادِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ فِي نَسَقٍ، فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ لِابْنِ وَدِيعَةَ صُحْبَةً فَفِيهِ تَابِعِيَّانِ وَصَحَابِيَّانِ كُلُّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.
قَوْلُهُ: (وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنَ الطُّهْرِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مِنْ طُهْرٍ وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّنْظِيفِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ عَطْفِهِ عَلَى الْغُسْلِ أَنَّ إِفَاضَةَ الْمَاءِ تَكْفِي فِي حُصُولِ الْغُسْلِ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ التَّنْظِيفُ بِأَخْذِ الشَّارِبِ وَالظُّفْرِ وَالْعَانَةِ، أَوْ الْمُرَادُ بِالْغُسْلِ غَسْلُ الْجَسَدِ، وَبِالتَّطْهِيرِ غَسْلُ الرَّأْسِ.
قَوْلُهُ: (وَيَدَّهِنُ) الْمُرَادُ بِهِ إِزَالَةُ شَعَثَ الشَّعْرِ بِهِ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّزَيُّنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ.
قَوْلُهُ: (أَوْ يَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ) أَيْ: إِنْ لَمْ يَجِدْ دُهْنًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَوْ
بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْبَيْتِ تُؤْذِنُ بِأَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَتَّخِذَ الْمَرْءُ لِنَفْسِهِ طِيبًا وَيَجْعَلُ اسْتِعْمَالَهُ لَهُ عَادَةً فَيَدَّخِرُهُ فِي الْبَيْتِ. كَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَيْتِ حَقِيقَتُهُ، لَكِنْ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ: أَوْ يَمَسُّ مِنْ طِيبِ امْرَأَتِهِ، فَعَلَى هَذَا فَالْمَعْنَى: إِنْ لَمْ يَتَّخِذْ لِنَفْسِهِ طِيبًا فَلْيَسْتَعْمِلْ مِنْ طِيبِ امْرَأَتِهِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَاضِي ذِكْرُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: وَلَوْ مِنْ طِيبِ الْمَرْأَةِ. وَفِيهِ أَنَّ بَيْتَ الرَّجُلِ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ امْرَأَتُهُ. وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو الْمَذْكُورِ مِنَ الزِّيَادَةِ: وَيَلْبَسُ مِنْ صَالِحِ ثِيَابِهِ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ يَخْرُجُ) زَادَ فِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ إِلَى الْمَسْجِدِ وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ: ثُمَّ يَمْشِي وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ.
قَوْلُهُ: (فَلَا يُفَرِّقْ بَيْنَ اثْنَيْنِ) فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو الْمَذْكُورِ: ثُمَّ لَمْ يَتَخَطَّ رِقَابَ النَّاسِ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ: وَلَمْ يَتَخَطَّ أَحَدًا وَلَمْ يُؤْذِهِ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ) فِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ: ثُمَّ يَرْكَعُ مَا قُضِيَ لَهُ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ فَيَرْكَعُ إِنْ بَدَا لَهُ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ يُنْصِتُ إِذَا تَكَلَّمَ الْإِمَامُ) زَادَ فِي رِوَايَةِ قَرْثَعٍ الضَّبِّيِّ: حَتَّى يَقْضِيَ صَلَاتُهُ، وَنَحْوَهُ فِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ.
قَوْلُهُ: (غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى) فِي رِوَايَةِ قَاسِمِ بْنِ يَزِيدَ: حُطَّ عَنْهُ ذُنُوبُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى، وَالْمُرَادُ بِالْأُخْرَى: الَّتِي مَضَتْ، بَيَّنَهُ اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ فِي رِوَايَتِهِ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَلَفْظُهُ: غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَلِابْنِ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنَ الَّتِي بَعْدَهَا، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ سَعِيدٍ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ سَلْمَانَ، لَكِنْ لَمْ يَقُلْ: مِنَ الَّتِي بَعْدَهَا، وَأَصْلُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِاخْتِصَارٍ وَزَادَ ابْنُ مَاجَهْ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: مَا لَمْ يَغْشَ الْكَبَائِرَ، وَنَحْوُهُ لِمُسْلِمٍ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ أَيْضًا: كَرَاهَةُ التَّخَطِّي يَوْمَ الْجُمُعَةِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَكْرَهُ التَّخَطِّيَ إِلَّا لِمَنْ لَا يَجِدُ السَّبِيلَ إِلَى الْمُصَلَّى إِلَّا بِذَلِكَ اهـ. وَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ الْإِمَامُ وَمَنْ يُرِيدُ وَصْلَ الصَّفِّ الْمُنْقَطِعِ إِنْ أَبَى السَّابِقُ مِنْ ذَلِكَ، وَمَنْ يُرِيدُ الرُّجُوعَ إِلَى مَوْضِعِهِ الَّذِي قَامَ مِنْهُ لِضَرُورَةٍ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَاسْتَثْنَى الْمُتَوَلِّي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ مَنْ يَكُونُ مُعَظَّمًا لِدِينِهِ أَوْ عِلْمِهِ أَوْ أَلِفَ مَكَانًا
(1)
يَجْلِسُ فِيهِ أَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ فِي حَقِّهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَكَانَ مَالِكٌ يَقُولُ: لَا يُكْرَهُ التَّخَطِّي إِلَّا إِذَا كَانَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ. وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ النَّافِلَةِ قَبْلَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ لِقَوْلِهِ: صَلَّى مَا كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ يُنْصِتُ إِذَا تَكَلَّمَ الْإِمَامُ، فَدَلَّ عَلَى تَقَدُّمِ ذَلِكَ عَلَى الْخُطْبَةِ، وَقَدْ بَيَّنَهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ بِلَفْظِ: فَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْإِمَامَ خَرَجَ صَلَّى مَا بَدَا لَهُ وَفِيهِ جَوَازُ النَّافِلَةِ نِصْفَ النَّهَارِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ التَّبْكِيرَ لَيْسَ مِنِ ابْتِدَاءِ الزَّوَالِ لِأَنَّ خُرُوجَ الْإِمَامِ يَعْقُبُ الزَّوَالَ فَلَا يَسَعُ وَقْتًا يَتَنَفَّلُ فِيهِ.
وَتَبَيَّنَ بِمَجْمُوعِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ تَكْفِيرَ الذُّنُوبِ مِنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ مَشْرُوطٌ بِوُجُودِ جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ غُسْلٍ، وَتَنْظِيفٍ، وَتَطَيُّبٍ أَوْ دَهْنٍ، وَلُبْسِ أَحْسَنِ الثِّيَابِ، وَالْمَشْيِ بِالسَّكِينَةِ، وَتَرْكِ التَّخَطِّي وَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ، وَتَرْكِ الْأَذَى، وَالتَّنَفُّلِ، وَالْإِنْصَاتِ، وَتَرْكِ اللَّغْوِ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: فَمَنْ تَخَطَّى أَوْ لَغَا كَانَتْ لَهُ ظُهْرًا وَدَلَّ التَّقْيِيدُ بِعَدَمِ غِشْيَانِ الْكَبَائِرِ عَلَى أَنَّ الَّذِي يُكَفَّرُ مِنَ الذُّنُوبِ هُوَ الصَّغَائِرُ فَتُحْمَلُ الْمُطْلَقَاتُ كُلُّهَا عَلَى هَذَا الْمُقَيَّدِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: مَا لَمْ تُغْشَ الْكَبَائِرُ، أَيْ: فَإِنَّهَا إِذَا غُشِيَتْ لَا تُكَفَّرُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ تَكْفِيرَ الصَّغَائِرِ شَرْطُهُ اجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ إِذِ اجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ
(2)
بِمُجَرَّدِهِ يُكَفِّرُهَا كَمَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يُكَفِّرَهَا إِلَّا اجْتِنَابُ
(1)
في المخطوطة "إذا ألف".
(2)
ولفظه: بين الرجل وبين الكفر والفرك ترك الصلاة، انتهى. وقد ورد في معناه أحاديث، والصواب حمل الكفر فيها على الحقيقة وأن من ترك الصلاة خرج من الإسلام. وقد حكام عبد الله بن شقيق القبل من جميع الصحابة رضي الله عنهم وأدله من الكتاب والسنة كثيرة. والله أعلم
الْكَبَائِرِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَرْءِ صَغَائِرُ تُكَفَّرُ رُجِيَ لَهُ أَنْ يُكَفَّرَ عَنْهُ بِمِقْدَارِ ذَلِكَ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَإِلَّا أُعْطِيَ مِنَ الثَّوَابِ بِمِقْدَارِ ذَلِكَ، وَهُوَ جَارٍ فِي جَمِيعِ مَا وَرَدَ فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (ذَكَرُوا) لَمْ يُسَمِّ طَاوُسٌ مَنْ حَدَّثَهُ بِذَلِكَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ أَبُو هُرَيْرَةَ فَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ، وَثَبَتَ ذِكْرُ الطِّيبِ أَيْضًا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَسَلْمَانَ، وَأَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ.
قَوْلُهُ: (اغْتَسِلُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُونُوا جُنُبًا) مَعْنَاهُ: اغْتَسِلُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا لِلْجَنَابَةِ، وَإِنْ لَمْ تَكُونُوا جُنُبًا لِلْجُمُعَةِ. وَأُخِذَ مِنْهُ أَنَّ الِاغْتِسَالَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِلْجَنَابَةِ يُجْزِئُ عَنِ الْجُمُعَةِ سَوَاءٌ نَوَاهُ لِلْجُمُعَةِ أَمْ لَا، وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى ذَلِكَ بُعْدٌ. نَعَمْ رَوَى ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: اغْتَسِلُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا جُنُبًا، وَهَذَا أَوْضَحُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ، لَكِنَّ رِوَايَةَ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَصَحُّ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: حَفِظْنَا الْإِجْزَاءَ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ اهـ. وَالْخِلَاف فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُنْتَشِرٌ فِي الْمَذَاهِبِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لِقَوْلِهِ: يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَطُلُوعُ الْفَجْرِ أَوَّلُ الْيَوْمِ شَرْعًا.
قَوْلُهُ: (وَاغْسِلُوا رُءُوسَكُمْ) هُوَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ؛ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ الْغُسْلُ التَّامُّ لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّ إِفَاضَةَ الْمَاءِ دُونَ حَلِّ الشَّعْرِ مَثَلًا يُجْزِئُ فِي غُسْلِ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: كَغُسْلِ الْجَنَابَةِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِالثَّانِي الْمُبَالَغَةُ فِي التَّنْظِيفِ.
قَوْلُهُ: (وَأَصِيبُوا مِنَ الطِّيبِ) لَيْسَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ ذِكْرُ الدُّهْنِ الْمُتَرْجَمُ بِهِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَتِ الْعَادَةُ تَقْتَضِي اسْتِعْمَالَ الدُّهْنِ بَعْدَ غَسْلِ الرَّأْسِ أَشْعَرَ ذَلِكَ بِهِ، كَذَا وَجَّهَهُ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ جَوَابًا لِقَوْلِ الدَّاوُدِيِّ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى التَّرْجَمَةِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَرَادَ أَنَّ حَدِيثَ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاحِدٌ ذَكَرَ فِيهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْسَرَةَ الدُّهْنَ وَلَمْ يَذْكُرْهُ الزُّهْرِيُّ، وَزِيَادَةُ الثِّقَةِ الْحَافِظِ مَقْبُولَةٌ. وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِإِيرَادِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَقِبَ حَدِيثِ سَلْمَانَ الْإِشَارَةَ إِلَى أَنَّ مَا عَدَا الْغُسْلَ مِنَ الطِّيبِ وَالدُّهْنِ وَالسِّوَاكِ وَغَيْرِهَا لَيْسَ هُوَ فِي التَّأَكُّدِ كَالْغُسْلِ، وَإِنْ كَانَ التَّرْغِيبُ وَرَدَ فِي الْجَمِيعِ، لَكِنَّ الْحُكْمَ يَخْتَلِفُ إِمَّا بِالْوُجُوبِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ أَوْ بِتَأْكِيدِ بَعْضِ الْمَنْدُوبَاتِ عَلَى بَعْضِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَّا الْغُسْلُ فَنَعَمْ، وَأَمَّا الطِّيبُ فَلَا أَدْرِي) هَذَا يُخَالِفُ مَا رَوَاهُ عُبَيْدُ بْنُ السَّبَّاقِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: مَنْ جَاءَ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ وَإِنْ كَانَ لَهُ طِيبٌ فَلْيَمَسَّ مِنْهُ، أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ صَالِحِ بْنِ أَبِي الْأَخْضَرِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدٍ، وَصَالِحٌ ضَعِيفٌ، وَقَدْ خَالَفَهُ مَالِكٌ فَرَوَاهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ بِمَعْنَاهُ مُرْسَلًا، فَإِنْ كَانَ صَالِحٌ حَفِظَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ احْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ ذَكَرَهُ بَعْدَمَا نَسِيَهُ أَوْ عَكْسَ ذَلِكَ، وَهِشَامٌ الْمَذْكُورُ فِي طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ الثَّانِيَةُ هُوَ ابْنُ يُوسُفَ الصَّنْعَانِيُّ.
7 - بَاب يَلْبَسُ أَحْسَنَ مَا يَجِدُ
886 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَأَى حُلَّةً سِيَرَاءَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ اشْتَرَيْتَ هَذِهِ فَلَبِسْتَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلِلْوَفْدِ إِذَا قَدِمُوا عَلَيْكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ. ثُمَّ جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا حُلَلٌ فَأَعْطَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه مِنْهَا حُلَّةً فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَسَوْتَنِيهَا وَقَدْ قُلْتَ فِي حُلَّةِ
عُطَارِدٍ مَا قُلْتَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا. فَكَسَاهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَخًا لَهُ بِمَكَّةَ مُشْرِكًا.
[الحديث 886 - أطرافه في: 6081. 9581. 5841. 3054. 2619. 2104. 948]
قَوْلُهُ: (بَابُ يَلْبَسُ أَحْسَنَ مَا يَجِدُ) أَيْ: يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنَ الْجَائِزِ. أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ رَأَى حُلَّةً سِيَرَاءَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ: يَا رَسُولُ اللَّهِ، لَوِ اشْتَرَيْتَ هَذِهِ فَلَبِسْتَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ الْحَدِيثَ. وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ مِنْ جِهَةِ تَقْرِيرِهِ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ عَلَى أَصْلِ التَّجَمُّلِ لِلْجُمُعَةِ، وَقَصْرِ الْإِنْكَارِ عَلَى لُبْسِ مِثْلِ تِلْكَ الْحُلَّةِ لِكَوْنِهَا كَانَتْ حَرِيرًا. وَقَدْ تَعَقَّبَهُ الدَّاوُدِيُّ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى التَّرْجَمَةِ. وَأَجَابَ ابْنُ بَطَّالٍ بِأَنَّهُ كَانَ مَعْهُودًا عِنْدَهُمْ أَنْ يَلْبَسَ الْمَرْءُ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ لِلْجُمُعَةِ، وَتَبِعَهُ ابْنُ التِّينِ، وَمَا تَقَدَّمَ أَوْلَى. وَقَدْ وَرَدَ التَّرْغِيبُ فِي ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ بِلَفْظِ: وَلَبِسَ مِنْ خَيْرِ ثِيَابِهِ وَنَحْوِهِ فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَأَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَ حَدِيثِ سَلْمَانَ وَفِيهِ: وَلَبِسَ مِنْ أَحْسَنِ ثِيَابِهِ وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا عَلَى أَحَدِكُمْ لَوِ اتَّخَذَ ثَوْبَيْنِ لِجُمُعَتِهِ سِوَى ثَوْبَيْ مِهْنَتِهِ.
وَوَصَلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأُمَوِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، وَفِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ، فَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، وَسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ مُرْسَلًا، وَوَصَلَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَّامٍ، وَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ طَرِيقٌ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَابْنِ مَاجَهْ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ. وَقَوْلُهُ سِيَرَاءَ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ ثُمَّ رَاءٍ ثُمَّ مَدٍّ، أَيْ: حَرِيرٍ.
قَالَ ابْنُ قُرْقُولٌ: ضَبَطْنَاهُ عَنِ الْمُتْقِنِينَ بِالْإِضَافَةِ كَمَا يُقَالُ: ثَوْبُ خَزٍّ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ بِالتَّنْوِينِ عَلَى الصِّفَةِ أَوِ الْبَدَلِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُقَالُ: حُلَّةٌ سِيَرَاءُ، كَنَاقَةٍ عُشَرَاءَ. وَوَجَّهَهُ ابْنُ التِّينِ فَقَالَ: يُرِيدُ أَنَّ عُشَرَاءَ مَأْخُوذٌ مِنْ عَشَرَةِ أَيْ أَكْمَلَتِ النَّاقَةُ عَشَرَةَ أَشْهُرٍ فَسُمِّيَتْ عُشَرَاءَ، وَكَذَلِكَ الْحُلَّةُ سُمِّيَتْ سِيَرَاءَ لِأَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنَ السُّيُورِ، هَذَا وَجْهُ التَّشْبِيهِ، وَعُطَارِدٌ صَاحِبُ الْحُلَّةِ هُوَ ابْنُ حَاجِبٍ التَّمِيمِيُّ. وَقَوْلُهُ فَكَسَاهَا أَخًا لَهُ بِمَكَّةَ مُشْرِكًا سَيَأْتِي أَنَّ اسْمَهُ عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ، وَكَانَ أَخَا عُمَرَ مِنْ أُمِّهِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي إِسْلَامِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
8 - باب السِّوَاكِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَنُّ
887 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي، أَوْ عَلَى النَّاسِ، لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلَاةٍ.
[الحديث 887 - طرفه في: 7240]
888 -
حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ الْحَبْحَابِ، حَدَّثَنَا أَنَسٌ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَكْثَرْتُ عَلَيْكُمْ فِي السِّوَاكِ.
889 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، وَحُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ السِّوَاكِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثًا مُعَلَّقًا وَثَلَاثَةً مَوْصُولَةً، وَالْمُعَلَّقُ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَذْكُورِ فِي بَابِ الطِّيبِ لِلْجُمُعَةِ فَإِنَّ فِيهِ: وَأَنْ يَسْتَنَّ أَيْ: يُدَلِّكُ أَسْنَانَهُ بِالسِّوَاكِ. وَأَمَّا الْمَوْصُولَةُ فَأَوَّلُهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ وَمُطَابَقَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ انْدِرَاجِ الْجُمُعَةِ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: كُلِّ صَلَاةٍ وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: لَمَّا خُصَّتِ الْجُمُعَةِ بِطَلَبِ تَحْسِينِ الظَّاهِرِ مِنَ الْغُسْلِ وَالتَّنْظِيفِ وَالتَّطَيُّبِ نَاسَبَ ذَلِكَ تَطْيِيبُ الْفَمِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الذِّكْرِ وَالْمُنَاجَاةِ، وَإِزَالَةُ مَا يَضُرُّ الْمَلَائِكَةَ وَبَنِي آدَمَ. ثَانِي الْمَوْصُولَةِ حَدِيثُ أَنَسٍ: أَكْثَرْتُ عَلَيْكُمْ فِي السِّوَاكِ قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: مُنَاسَبَتُهُ لِلَّذِي قَبْلَهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ سَبَبَ مَنْعِهِ مِنْ إِيجَابِ السِّوَاكِ وَاحْتِيَاجِهِ إِلَى الِاعْتِذَارِ عَنْ إِكْثَارِهِ عَلَيْهِمْ فِيهِ وُجُودُ الْمَشَقَّةِ، وَلَا مَشَقَّةَ فِي فِعْلِ ذَلِكَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ. ثَالِثُ الْمَوْصُولَةِ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ. وَوَجْهُ مُنَاسَبَتِهِ أَنَّهُ شُرِعَ فِي اللَّيْلِ لِتَجَمُّلِ الْبَاطِنِ فَيَكُونُ فِي الْجُمُعَةِ أَحْرَى؛ لِأَنَّهُ شُرِعَ لَهَا التَّجَمُّلُ فِي الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ حُذَيْفَةَ فِي آخِرِ كِتَابِ الْوُضُوءِ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَلَمْ يُخْتَلَفْ عَلَى مَالِكٍ فِي إِسْنَادِهِ وَإِنْ كَانَ لَهُ فِي أَصْلِ الْحَدِيثِ إِسْنَادٌ آخَرُ بِلَفْظٍ آخَرَ سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (أَوْ لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى النَّاسِ) هُوَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ عَنْ مَالِكٍ وَلَا عَنْ غَيْرِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْمُوَطَّآتِ مِنْ طَرِيقِ الْمُوَطَّأِ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِلَفْظِ: أَوْ عَلَى النَّاسِ لَمْ يُعِدْ قَوْلَهُ: لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ وَكَذَا رَوَاهُ كَثِيرٌ مِنْ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ، وَرَوَاهُ أَكْثَرُهُمْ بِلَفْظِ: الْمُؤْمِنِينَ بَدَلُ أُمَّتِي وَرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى اللَّيْثَيُّ بِلَفْظِ: عَلَى أُمَّتِي دُونَ الشَّكِّ.
قَوْلُهُ: (لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ) أَيْ: بِاسْتِعْمَالِ السِّوَاكِ، لِأَنَّ السِّوَاكَ هُوَ الْآلَةُ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الْفِعْلِ أَيْضًا، فَعَلَى هَذَا لَا تَقْدِيرَ، وَالسِّوَاكُ مُذَكَّرٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَحَكَى فِي الْحِكَمِ تَأْنِيثَهُ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْأَزْهَرِيُّ.
قَوْلُهُ: (مَعَ كُلِّ صَلَاةٍ) لَمْ أَرَهَا أَيْضًا فِي شَيْءٍ مِنْ رِوَايَاتِ الْمُوَطَّأِ إِلَّا عَنْ مَعْنِ بْنِ عِيسَى لَكِنْ بِلَفْظِ: عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ وَكَذَا النَّسَائِيُّ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ مَالِكٍ، وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، وَخَالَفَهُ سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ، عَنِ الْأَعْرَجِ فَقَالَ: مَعَ الْوُضُوءِ بَدَلَ الصَّلَاةِ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِهِ، قَالَ الْقَاضِي الْبَيْضَاوِيُّ: لَوْلَا كَلِمَةٌ تَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الشَّيْءِ لِثُبُوتِ غَيْرِهِ، وَالْحَقُّ أَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ لَوْ الدَّالَّةِ عَلَى انْتِفَاءِ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ غَيْرِهِ وَلَا النَّافِيَةِ، فَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى انْتِفَاءِ الْأَمْرِ لِثُبُوتِ الْمَشَقَّةِ لِأَنَّ انْتِفَاءَ النَّفْيِ ثُبُوتٌ، فَيَكُونُ الْأَمْرُ مَنْفِيًّا لِثُبُوتِ الْمَشَقَّةِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ نَفْيُ الْأَمْرِ مَعَ ثُبُوتِ النَّدْبِيَّةِ، وَلَوْ كَانَ لِلنَّدْبِ لَمَا جَازَ النَّفْيُ، ثَانِيهُمَا أَنَّهُ جَعَلَ الْأَمْرَ مَشَقَّةً عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ إِذَا كَانَ الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، إِذِ النَّدْبُ لَا مَشَقَّةَ فِيهِ لِأَنَّهُ جَائِزُ التَّرْكِ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي اللُّمَعِ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاسْتِدْعَاءَ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ لَيْسَ بِأَمْرٍ حَقِيقَةٍ لِأَنَّ السِّوَاكَ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، وَقَدْ أَخْبَرَ الشَّارِعُ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِهِ اهـ.
وَيُؤَكِّدُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ بِلَفْظِ: لَفَرَضْتُ عَلَيْهِمْ بَدَلَ لَأَمَرْتَهُمْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السِّوَاكَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَأَمَرَهُمْ شَقَّ عَلَيْهِمْ بِهِ أَوْ لَمْ يَشُقَّ اهـ. وَإِلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ وُجُوبِهِ صَارَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ، بَلِ ادَّعَى بَعْضُهُمْ فِيهِ الْإِجْمَاعَ، لَكِنْ حَكَى الشَّيْخُ
أَبُو حَامِدٍ وَتَبِعَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ قَالَ: هُوَ وَاجِبٌ لِكُلِّ صَلَاةٍ، فَمَنْ تَرَكَهُ عَامِدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. وَعَنْ دَاوُدَ أَنَّهُ قَالَ: وَهُوَ وَاجِبٌ لَكِنْ لَيْسَ شَرْطًا. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِهِ بِوُرُودِ الْأَمْرِ بِهِ، فَعِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا: تَسَوَّكُوا وَلِأَحْمَدَ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ، وَفِي الْمُوَطَّأِ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثِ: عَلَيْكُمْ بِالسِّوَاكِ وَلَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْهَا، وَعَلَى تَقْدِيرِ الصِّحَّةِ فَالْمَنْفِيُّ فِي مَفْهُومِ حَدِيثِ الْبَابِ الْأَمْرُ بِهِ مُقَيَّدًا بِكُلِّ صَلَاةٍ لَا مُطْلَقُ الْأَمْرِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْمُقَيَّدِ نَفْيُ الْمُطْلَقِ وَلَا مِنْ ثُبُوتِ الْمُطْلَقِ التَّكْرَارُ كَمَا سَيَأْتِي.
وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: كُلِّ صَلَاةٍ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ لِلْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةَ وَمَا ضَاهَاهَا مِنَ النَّوَافِلِ الَّتِي لَيْسَتْ تَبَعًا لِغَيْرِهَا كَصَلَاةِ الْعِيدِ، وَهَذَا اخْتَارَهُ أَبُو شَامَةَ، وَيَتَأَيَّدُ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أُمِّ حَبِيبَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ بِلَفْظِ: لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلَّ صَلَاةٍ كَمَا يَتَوَضَّئُونَ، وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ بِوُضُوءٍ، وَمَعَ كُلِّ وُضُوءٍ بِسِوَاكٍ، فَسَوَّى بَيْنَهُمَا. وَكَمَا أَنَّ الْوُضُوءَ لَا يُنْدَبُ لِلرَّاتِبَةِ الَّتِي بَعْدَ الْفَرِيضَةِ إِلَّا إِنْ طَالَ الْفَصْلُ مَثَلًا، فَكَذَلِكَ السِّوَاكُ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْوُضُوءَ أَشَقُّ مِنَ السِّوَاكِ، وَيَتَأَيَّدُ بِمَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَيَسْتَاكُ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، لَكِنَّهُ مُخْتَصَرٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ أَوْرَدَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَبَيَّنَ فِيهِ أَنَّهُ تَخَلَّلَ بَيْنَ الِانْصِرَافِ وَالسِّوَاكِ نَوْمٌ، وَأَصْلُ الْحَدِيثِ فِي مُسْلِمٍ مُبَيَّنًا أَيْضًا، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، لِأَنَّ الْحَدِيثَ دَلَّ عَلَى كَوْنَ الْمَشَقَّةِ هِيَ الْمَانِعَةَ مِنَ الْأَمْرِ بِالسِّوَاكِ، وَلَا مَشَقَّةَ فِي وُجُوبِهِ مَرَّةً، وَإِنَّمَا الْمَشَقَّةُ فِي وُجُوبِ التَّكْرَارِ.
وَفِي هَذَا الْبَحْثِ نَظَرٌ، لِأَنَّ التَّكْرَارَ لَمْ يُؤْخَذْ هُنَا مِنْ مُجَرَّدِ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا أُخِذَ مِنْ تَقْيِيدِهِ بِكُلِّ صَلَاةٍ.
وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: فِيهِ أَنَّ الْمَنْدُوبَاتِ تَرْتَفِعُ إِذَا خُشِيَ مِنْهَا الْحَرَجُ. وَفِيهِ مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ مِنَ الشَّفَقَةِ عَلَى أُمَّتِهِ. وَفِيهِ جَوَازُ الِاجْتِهَادِ مِنْهُ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ فِيهِ نَصٌّ، لِكَوْنِهِ جَعَلَ الْمَشَقَّةَ سَبَبًا لِعَدَمِ أَمْرِهِ، فَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ مُتَوَقِّفًا عَلَى النَّصِّ لَكَانَ سَبَبُ انْتِفَاءِ الْوُجُوبِ عَدَمَ وُرُودِ النَّصِّ لَا وُجُودَ الْمَشَقَّةِ.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَفِيهِ بَحْثٌ، وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا مِنْهُ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ سَبَبَ عَدَمِ وُرُودِ النَّصِّ وُجُودُ الْمَشَقَّةِ، فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ لَأَمَرْتُهُمْ أَيْ: عَنِ اللَّهِ بِأَنَّهُ وَاجِبٌ. وَاسْتَدَلَّ بِهِ النَّسَائِيُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ السِّوَاكِ لِلصَّائِمِ بَعْدَ الزَّوَالِ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ: كُلِّ صَلَاةٍ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ.
(فَائِدَةٌ): قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الْحِكْمَةُ فِي اسْتِحْبَابِ السِّوَاكِ عِنْدَ الْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ كَوْنُهَا حالا تقرب إِلَى اللَّهِ، فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ حَالَ كَمَالٍ وَنَظَافَةٍ إِظْهَارًا لِشَرَفِ الْعِبَادَةِ، وَقَدْ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ عِنْدَ الْبَزَّارِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لِأَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِالْمَلَكِ الَّذِي يَسْتَمِعُ الْقُرْآنَ مِنَ الْمُصَلِّي، فَلَا يَزَالُ يَدْنُو مِنْهُ حَتَّى يَضَعَ فَاهُ عَلَى فِيهِ، لَكِنَّهُ لَا يُنَافِي مَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فَرِجَالُ إِسْنَادِهِ بَصْرِيُّونَ، وَقَوْلُهُ: أَكْثَرْتُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: لَقَدْ أَكْثَرْتُ إِلَخْ أَيْ: بَالَغْتُ فِي تَكْرِيرِ طَلَبِهِ مِنْكُمْ، أَوْ فِي إِيرَادِ الأخبار فِي التَّرْغِيبِ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: مَعْنَاهُ: أَكْثَرْتُ عَلَيْكُمْ، وَحَقِيقٌ أَنْ أَفْعَلَ، وَحَقِيقٌ أَنْ تُطِيعُوا. وَحَكَى الْكِرْمَانِيُّ أَنَّهُ رُوِيَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ، أَيْ: بُلِّغْتُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِطَلَبِهِ مِنْكُمْ. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ إِلَى الْآنَ صَرِيحَةً.
(تَنْبِيهٌ): ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِلَفْظِ: عَلَيْكُمْ بِالسِّوَاكِ وَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ تَعَقَّبَهُ ابْنُ رَشِيدٍ. وَاللَّفْظُ الْمَذْكُورُ وَقَعَ فِي الْمُوَطَّأِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ مُرْسَلًا، وَهُوَ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ وَصَلَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ أَبِي الْأَخْضَرِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ يَذْكُرُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيهِ، وَسَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي آخِرِ بَابِ الدُّهْنِ لِلْجُمُعَةِ وَرَوَاهُ مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ لَا
أَتَّهِمُ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ سَمِعُوهُ يَقُولُ ذَلِكَ.
9 - بَاب مَنْ تَسَوَّكَ بِسِوَاكِ غَيْرِهِ
890 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ قَالَ: قَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ:، أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَمَعَهُ سِوَاكٌ يَسْتَنُّ بِهِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ لَهُ: أَعْطِنِي هَذَا السِّوَاكَ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ. فَأَعْطَانِيهِ، فَقَصَمْتُهُ ثُمَّ مَضَغْتُهُ، فَأَعْطَيْتُهُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَنَّ بِهِ، وَهُوَ مُسْتَسْنِدٌ إِلَى صَدْرِي.
[الحديث 890 - أطرافه في: [6510. 5217. 4451. 4450. 4449. 4446. 4438. 3774. 3100. 1389]
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ تَسَوَّكَ بِسِوَاكِ غَيْرِهِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ دُخُولِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ سِوَاكٌ، وَأَنَّهَا أَخَذَتْهُ مِنْهُ فَاسْتَاكَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ أَنْ مَضَغْتْهُ. وَهُوَ مُطَابِقٌ لِمَا تَرْجَمَ لَهُ، وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ يُذْكَرُ مُسْتَوْفًى إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي عِنْدَ ذِكْرِ وَفَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّ الْقِصَّةَ كَانَتْ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ. وَقَوْلُهَا فِيهِ: فَقَصَمْتُهُ بِقَافٍ وَصَادٍ مُهْمَلَةٍ لِلْأَكْثَرِ، أَيْ كَسَرْتُهُ، وَفِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَابْنِ السَّكَنِ بِضَادٍ مُعْجَمَةٍ، وَالْقَضْمُ بِالْمُعْجَمَةِ الْأَكْلُ بِأَطْرَافِ الْأَسْنَانِ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَهُوَ أَصَحُّ. قُلْتُ: وَيُحْمَلُ الْكَسْرُ عَلَى كَسْرِ مَوْضِعِ الِاسْتِيَاكِ، فَلَا يُنَافِي الثَّانِيَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ أَوْرَدَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ عَلَى مُطَابَقَةِ التَّرْجَمَةِ بِأَنَّ تَعْيِينَ عَائِشَةَ مَوْضِعَ الِاسْتِيَاكِ بِالْقَطْعِ، وَأَجَابَ أَنَّ اسْتِعْمَالَهُ بَعْدَ أَنْ مَضَغَتْهُ وَافٍ بِالْمَقْصُودِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ إِطْلَاقٌ فِي مَوْضِعِ التَّقْيِيدِ، فَيَنْبَغِي تَقْيِيدُ الْغَيْرِ بِأَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا يُعَاف أَثَرُ فَمِهِ، إِذْ لَوْلَا ذَلِكَ مَا غَيَّرَتْهُ عَائِشَةُ. وَلَا يُقَالُ لَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهِ اسْتِعْمَالٌ، لِأَنَّ فِي نَفْسِ الْخَبَرِ يَسْتَنُّ بِهِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى تَأَكُّدِ أَمْرِ السِّوَاكِ لِكَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُخِلَّ بِهِ مَعَ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ شَاغِلِ الْمَرَضِ.
(فَائِدَةٌ): رِجَالُ الْإِسْنَادِ مَدَنِيُّونَ، وَإِسْمَاعِيلُ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، وَلَمْ أَرَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ عَنْهُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَدْ ضَاقَ عَلَى الْإِسْمَاعِيلِيِّ مَخْرَجُهُ فَاسْتَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَفْسِهِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَكَأَنَّ إِسْمَاعِيلَ تَفَرَّدَ بِهِ أَيْضًا فَإِنَّنِي لَمْ أَرَهُ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، إِلَّا أَنَّ أَبَا نُعَيْمٍ أَوْرَدَهُ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْمَدَنِيِّ، عَنْ سُلَيْمَانَ، وَمُحَمَّدٌ ضَعِيفٌ جِدًّا. فَكَانَ مَا صَنَعَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَوْلَى. وَقَدْ سَمِعَ إِسْمَاعِيلُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَيَرْوِي عَنْهُ أَيْضًا بِوَاسِطَةٍ كَثِيرًا.
10 - بَاب مَا يُقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
891 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ - هُوَ ابْنُ هُرْمُزَ -، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْجُمُعَةِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ: الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةَ، وَهَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ.
[الحديث 891 - طرفه في: [1068]
قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُقْرَأُ) بِضَمِّ الْيَاءِ - وَيَجُوزُ فَتْحُهَا أَيِ الرَّجُلُ - وَلَمْ يَقَعْ قَوْلُهُ: (يَوْمَ الْجُمُعَةِ) فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ
فِي التَّرْجَمَةِ. وَهُوَ مُرَادٌ. قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ مَا فِي قَوْلِهِ: مَا يُقْرَأُ الظَّاهِرُ أَنَّهَا مَوْصُولَةٌ لَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ) فِي نُسْخَةٍ مِنْ رِوَايَةِ كَرِيمَةَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَيِ: الْفِرْيَابِيُّ، وَذُكِرَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ جَمِيعًا. وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ. وَسَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَيِ: ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، نَسَبَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، وَغَيْرِهِ عَنِ الثَّوْرِيِّ. وَهُوَ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ، وَشَيْخُهُ تَابِعِيٌّ كَبِيرٌ، وَهُمَا مَعًا مَدَنِيَّانِ.
قَوْلُهُ: (فِي الْفَجْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ) فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَالْأَصِيلِيُّ: فِي الْجُمُعَةِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ.
قَوْلُهُ: (الم تَنْزِيلُ) بِضَمِّ اللَّامِ عَلَى الْحِكَايَةِ، زَادَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ: السَّجْدَةَ وَهُوَ بِالنَّصْبِ.
قَوْلُهُ: (وَهَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ) زَادَ الْأَصِيلِيُّ فِي رِوَايَتِهِ: حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ وَالْمُرَادُ أَنْ يَقْرَأَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِسُورَةٍ، وَكَذَا بَيَّنَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ بِلَفْظِ: الم تَنْزِيلُ، فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَفِي الثَّانِيَةِ: هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ قِرَاءَةِ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ مِنْ هَذَا الْيَوْمِ لِمَا تُشْعِرُ الصِّيغَةُ بِهِ مِنْ مُوَاظَبَتِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ أَوْ إِكْثَارِهِ مِنْهُ، بَلْ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ التَّصْرِيحُ بِمُدَاوَمَتِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَلَفْظُهُ: يُدِيمُ ذَلِكَ وَأَصْلُهُ فِي ابْنِ مَاجَهْ بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، لَكِنْ صَوَّبَ أَبُو حَاتِمٍ إِرْسَالَهُ. وَكَأَنَّ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ لَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ فَقَالَ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ الْبَابِ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَقْتَضِي فِعْلَ ذَلِكَ دَائِمًا اقْتِضَاءً قَوِيًّا، وَهُوَ كَمَا قَالَ بِالنِّسْبَةِ لِحَدِيثِ الْبَابِ، فَإِنَّ الصِّيغَةَ لَيْسَتْ نَصًّا فِي الْمُدَاوَمَةِ لَكِنَّ الزِّيَادَةَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا نَصٌّ فِي ذَلِكَ.
وَقَدْ أَشَارَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ فِي رِجَالِ الْبُخَارِيِّ إِلَى الطَّعْنِ فِي سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ لِرِوَايَتِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَأَنَّ مَالِكًا امْتَنَعَ مِنَ الرِّوَايَةِ عَنْهُ لِأَجْلِهِ، وَأَنَّ النَّاسَ تَرَكُوا الْعَمَلَ بِهِ لَا سِيَّمَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ اهـ.
وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، فَإِنَّ سَعْدًا لَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ مُطْلَقًا، فَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ، وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ. وَأَمَّا دَعْوَاهُ أَنَّ النَّاسَ تَرَكُوا الْعَمَلَ بِهِ فَبَاطِلَةٌ، لِأَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ قَدْ قَالُوا بِهِ كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ، حَتَّى إِنَّهُ ثَابِتٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالِدِ سَعْدٍ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنَّهُ أَمَّ النَّاسَ بِالْمَدِينَةِ بِهِمَا فِي الْفَجْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَكَلَامُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ يُشْعِرُ بِأَنَّ تَرْكَ ذَلِكَ أَمْرٌ طَرَأَ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ لِأَنَّهُ قَالَ: وَهُوَ أَمْرٌ لَمْ يُعْلَمْ بِالْمَدِينَةِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ قَطَعَهُ كَمَا قَطَعَ غَيْرَهُ اهـ.
وَأَمَّا امْتِنَاعُ مَالِكٍ مِنَ الرِّوَايَةِ عَنْ سَعْدٍ فَلَيْسَ لِأَجْلِ هَذَا الْحَدِيثِ، بَلْ لِكَوْنِهِ طَعَنَ فِي نَسَبِ مَالِكٍ، كَذَا حَكَاهُ ابْنُ الْبَرْقِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، وَحَكَى أَبُو حَاتِمٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ قَالَ: كَانَ سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ لَا يُحَدِّثُ بِالْمَدِينَةِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَكْتُبْ عَنْهُ أَهْلُهَا. وَقَالَ السَّاجِيُّ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى صِدْقِهِ. وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ، عَنْ شُعْبَةَ عَنْهُ، فَصَحَّ أَنَّهُ حُجَّةٌ بِاتِّفَاقِهِمْ. قَالَ: وَمَالِكٌ إِنَّمَا لَمْ يَرْوِ عَنْهُ لِمَعْنًى مَعْرُوفٍ، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ تَكَلَّمَ فِيهِ فَلَا أَحْفَظُ ذَلِكَ اهـ. وَقَدِ اخْتَلَفَ تَعْلِيلُ الْمَالِكِيَّةِ بِكَرَاهَةِ قِرَاءَةِ السَّجْدَةِ فِي الصَّلَاةِ، فَقِيلَ: لِكَوْنِهَا تَشْتَمِلُ عَلَى زِيَادَةِ سُجُودٍ فِي الْفَرْضِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهُوَ تَعْلِيلٌ فَاسِدٌ بِشَهَادَةِ هَذَا الْحَدِيثِ. وَقِيلَ: لِخَشْيَةِ التَّخْلِيطِ عَلَى الْمُصَلِّينَ، وَمِنْ ثَمَّ فَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْجَهْرِيَّةِ وَالسَّرِيَّةِ لِأَنَّ الْجَهْرِيَّةَ يُؤْمَنُ مَعَهَا التَّخْلِيطُ، لَكِنْ صَحَّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ
(1)
أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ سُورَةً فِيهَا سَجْدَةٌ
(1)
قوله" لكن صح من حديث ابن عمر " في تصحيحة نظر، والصواب أنه ضعيف، لأن في إسناده عند أبي داود رجلا مجهولا يدعي أمية كما نص على ذلك أبو داود الرملي عنه ونبه عليه الشوكاني في نيل الأوطان، والله أعلم.
فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ فَسَجَدَ بِهِمْ فِيهَا، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ، فَبَطَلَتِ التَّفْرِقَةُ. وَمِنْهُمْ مَنْ عَلَّلَ الْكَرَاهَةَ بِخَشْيَةِ اعْتِقَادِ الْعَوَامِّ أَنَّهَا فَرْضٌ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: أَمَّا الْقَوْلُ بِالْكَرَاهَةِ مُطْلَقًا فَيَأْبَاهُ الْحَدِيثُ، لَكِنْ إِذَا انْتَهَى الْحَالُ إِلَى وُقُوعِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ تُتْرَكَ أَحْيَانًا لِتَنْدَفِعَ، فَإِنَّ الْمُسْتَحَبَّ قَدْ يُتْرَكُ لِدَفْعِ الْمَفْسَدَةِ الْمُتَوَقَّعَةِ، وَهُوَ يَحْصُلُ بِالتَّرْكِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ اهـ.
وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ بِقَوْلِهِ: يَنْبَغِي أَنْ يُفْعَلَ ذَلِكَ فِي الْأَغْلَبِ لِلْقُدْوةِ، وَيُقْطَعُ أَحْيَانًا لِئَلَّا تَظُنَّهُ الْعَامَّةُ سُنَّةً اهـ. وَهَذَا عَلَى قَاعِدَتِهِمْ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْمُسْتَحَبِّ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْمُحِيطِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: يُسْتَحَبُّ قِرَاءَةُ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ فِي صُبْحِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِشَرْطِ أَنْ يَقْرَأَ غَيْرَ ذَلِكَ أَحْيَانًا لِئَلَّا يَظُنَّ الْجَاهِلُ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ غَيْرُهُ. وَأَمَّا صَاحِبُ الْهِدَايَةِ مِنْهُمْ فَذَكَرَ أَنَّ عِلَّةَ الْكَرَاهَةِ هِجْرَانُ الْبَاقِي وَإِيهَامُ التَّفْضِيلِ. وَقَوْلُ الطَّحَاوِيِّ يُنَاسِبُ قَوْلَ صَاحِبِ الْمُحِيطِ، فَإِنَّهُ خَصَّ الْكَرَاهَةَ بِمَنْ يَرَاهُ حَتْمًا لَا يُجْزِئُ غَيْرُهُ أَوْ يَرَى الْقِرَاءَةَ بِغَيْرِهِ مَكْرُوهَةً.
(فَائِدَتَانِ) الْأُولَى: لَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ التَّصْرِيحَ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم سَجَدَ لَمَّا قَرَأَ سُورَةَ تَنْزِيلٌ السَّجْدَةَ فِي هَذَا الْمَحَلِّ إِلَّا فِي كِتَابِ الشَّرِيعَةِ لِابْنِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: غَدَوْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ فَقَرَأَ سُورَةً فِيهَا سَجْدَةٌ فَسَجَدَ، الْحَدِيثَ، وَفِي إِسْنَادِهِ مَنْ يُنْظَرُ فِي حَالِهِ. ولِلطَّبَرَانِيِّ فِي الصَّغِيرِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَجَدَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ فِي تَنْزِيلٌ السَّجْدَةَ لَكِنْ فِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ.
الثَّانِيَةُ: قِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي اخْتِصَاصِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِقِرَاءَةِ سُورَةِ السَّجْدَةِ قَصْدُ السُّجُودِ الزَّائِدِ، حَتَّى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ هَذِهِ السُّورَةَ بِعَيْنِهَا أَنْ يَقْرَأَ سُورَةً غَيْرَهَا فِيهَا سَجْدَةٌ، وَقَدْ عَابَ ذَلِكَ عَلَى فَاعِلِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَنَسَبَهُمْ صَاحِبُ الْهَدْيِ إِلَى قِلَّةِ الْعِلْمِ وَنَقْصِ الْمَعْرِفَةِ، لَكِنْ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الصُّبْحِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِسُورَةٍ فِيهَا سَجْدَةٌ. وَعِنْدَهُ مِنْ طَرِيقِهِ أَيْضًا أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَرَأَ سُورَةَ مَرْيَمَ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَوْنٍ قَالَ: كَانُوا يَقْرَءُونَ فِي الصُّبْحِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِسُورَةٍ فِيهَا سَجْدَةٌ. وَعِنْدَهُ مِنْ طَرِيقِهِ أَيْضًا قَالَ: وَسَأَلْتُ مُحَمَّدًا - يَعْنِي ابْنَ سِيرِينَ - عَنْهُ فَقَالَ: لَا أَعْلَمُ بِهِ بَأْسًا اهـ.
فَهَذَا قَدْ ثَبَتَ عَنْ بَعْضِ عُلَمَاءِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ فَلَا يَنْبَغِي الْقَطْعُ بِتَزْيِيفِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي زِيَادَاتِ الرَّوْضَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَقَالَ: لَمْ أَرَ فِيهَا كَلَامًا لِأَصْحَابِنَا، ثُمَّ قَالَ: وَقِيَاسُ مَذْهَبِنَا أَنَّهُ يُكْرَهُ فِي الصَّلَاةِ إِذَا قَصَدَهُ اهـ. وَقَدْ أَفْتَى ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ قَبْلَهُ بِالْمَنْعِ وَبِبُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِقَصْدِ ذَلِكَ، قَالَ صَاحِبُ الْمُهِمَّاتِ: مُقْتَضَى كَلَامِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ الْجَوَازُ. وَقَالَ الْفَارِقِيُّ فِي فَوَائِدِ الْمُهَذَّبِ: لَا تُسْتَحَبُّ قِرَاءَةُ سَجْدَةٍ غَيْرِ تَنْزِيلٌ، فَإِنْ ضَاقَ الْوَقْتُ عَنْ قِرَاءَتِهَا قَرَأَ بِمَا أَمْكَنَ مِنْهَا وَلَوْ بِآيَةِ السَّجْدَةِ مِنْهَا، وَوَافَقَهُ ابْنُ أَبِي عَصْرُونَ فِي كِتَابِ الِانْتِصَارِ وَفِيهِ نَظَرٌ.
(تَكْمِلَةٌ): قَالَ الزَّيْنُ ابْنُ الْمُنِيرِ: مُنَاسَبَةُ تَرْجَمَةِ الْبَابِ لِمَا قَبْلِهَا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِفَضْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِاخْتِصَاصِ صُبْحِهَا بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَى قِرَاءَةِ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْحِكْمَةَ فِي هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا فِيهِمَا مِنْ ذِكْرِ خَلْقِ آدَمَ وَأَحْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ وَسَيَقَعُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، ذَكَرَهُ ابْنُ دِحْيَةَ فِي الْعَلَمِ الْمَشْهُورِ وَقَرَّرَهُ تَقْرِيرًا حَسَنًا.
11 - باب الْجُمُعَةِ فِي الْقُرَى وَالْمُدُنِ
892 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ الضُّبَعِيِّ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ بَعْدَ جُمُعَةٍ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَسْجِدِ عَبْدِ الْقَيْسِ بِجُوَاثَى مِنْ الْبَحْرَيْنِ.
[الحديث 893 - طرفه في: 4317]
893 -
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيُّ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنَا سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَزَادَ اللَّيْثُ قَالَ يُونُسُ كَتَبَ رُزَيْقُ بْنُ حُكَيْمٍ إِلَى ابْنِ شِهَابٍ وَأَنَا مَعَهُ يَوْمَئِذٍ بِوَادِي الْقُرَى هَلْ تَرَى أَنْ أُجَمِّعَ وَرُزَيْقٌ عَامِلٌ عَلَى أَرْضٍ يَعْمَلُهَا وَفِيهَا جَمَاعَةٌ مِنْ السُّودَانِ وَغَيْرِهِمْ وَرُزَيْقٌ يَوْمَئِذٍ عَلَى أَيْلَةَ فَكَتَبَ ابْنُ شِهَابٍ وَأَنَا أَسْمَعُ يَأْمُرُهُ أَنْ يُجَمِّعَ يُخْبِرُهُ أَنَّ سَالِمًا حَدَّثَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ قَالَ وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ "
[الحديث 893 - أطرافه في: 7138. 5200. 5188. 2751. 2558. 2554]
قَوْلُهُ: (بَابُ الْجُمُعَةِ فِي الْقُرَى وَالْمُدُنِ) فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِشَارَةٌ إِلَى خِلَافِ مَنْ خَصَّ الْجُمُعَةَ بِالْمُدُنِ دُونَ الْقُرَى، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ. وَأَسْنَدَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ حُذَيْفَةَ، وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمَا، وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْبَحْرَيْنِ أَنَّ جَمِّعُوا حَيْثُمَا كُنْتُمْ، وَهَذَا يَشْمَلُ الْمُدُنَ وَالْقُرَى، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ عُمَرَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ سَأَلْتُ اللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ فَقَالَ: كُلُّ مَدِينَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ فِيهَا جَمَاعَةٌ أُمِرُوا بِالْجُمُعَةِ، فَإِنَّ أَهْلَ مِصْرَ وَسَوَاحِلِهَا كَانُوا يُجَمِّعُونَ الْجُمُعَةَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ بِأَمْرِهِمَا وَفِيهِمَا رِجَالٌ مِنْ الصَّحَابَةِ. وَعِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَرَى أَهْلَ الْمِيَاهِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ يُجَمِّعُونَ فَلَا يَعِيبُ عَلَيْهِمْ. فَلَمَّا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ وَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَى الْمَرْفُوعِ
(1)
.
قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) كَذَا رَوَاهُ الْحُفَّاظُ مِنْ أَصْحَابِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ عَنْهُ، وَخَالَفَهُمِ الْمُعَافَى بْنُ عِمْرَانَ فَقَالَ: عَنِ ابْنِ طَهْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَهُوَ خَطَأٌ مِنَ الْمُعَافَى، وَمِنْ ثَمَّ تَكَلَّمَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمَّارٍ فِي إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ وَلَا ذَنْبَ لَهُ فِيهِ، كَمَا قَالَهُ صَالِحٌ جَزَرَةُ، وَإِنَّمَا الْخَطَأُ فِي إِسْنَادِهِ مِنِ الْمُعَافَى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِإِبْرَاهِيمَ فِيهِ إِسْنَادَانِ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ أَوَّلَ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ) زَادَ وَكِيعٌ عَنِ ابْنِ طَهْمَانَ: فِي الْإِسْلَامِ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.
قَوْلُهُ: (بَعْدَ جُمُعَةِ) زَادَ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي: جُمِّعَتْ.
قَوْلُهُ: (فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) فِي رِوَايَةِ وَكِيعٍ: بِالْمَدِينَةِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُعَافَى الْمَذْكُورَةِ: بِمَكَّةَ وَهُوَ خَطَأٌ بِلَا مِرْيَةٍ.
قَوْلُهُ: (بِجُوَاثَى) بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ، وَقَدْ تُهْمَزُ، ثُمَّ مُثَلَّثَةٍ خَفِيفَةٍ.
قَوْلُهُ: (مِنَ الْبَحْرَيْنِ) فِي رِوَايَةِ وَكِيعٍ: قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى الْبَحْرَيْنِ وَفِي أُخْرَى عَنْهُ: مِنْ قُرَى عَبْدِ الْقَيْسِ وَكَذَا لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ، عَنِ ابْنِ طَهْمَانَ، وَبِهِ يَتِمُّ مُرَادُ التَّرْجَمَةِ. وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمْ يُجَمِّعُوا إِلَّا بِأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِمَا عُرِفَ مِنْ عَادَةِ الصَّحَابَةِ مِنْ عَدَمِ الِاسْتِبْدَادِ بِالْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ فِي زَمَنِ نُزُولِ الْوَحْيِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَنَزَلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، كَمَا اسْتَدَلَّ جَابِرٌ، وَأَبُو سَعِيدٍ عَلَى جَوَازِ الْعَزْلِ بِأَنَّهُمْ فَعَلُوهُ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ فَلَمْ
(1)
وهو فصل الجمعة كما فعل أهل جواثي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك يدل على مشروعية إقامة الجمعة بالقرى. والله أعلم
يُنْهُوا عَنْهُ.
وَحَكَى الْجَوْهَرِيُّ، والزَّمَخْشَرِيُّ، وَابْنُ الْأَثِيرِ أَنَّ جُوَاثَى اسْمُ حِصْنٍ بِالْبَحْرَيْنِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي كَوْنَهَا قَرْيَةً. وَحَكَى ابْنُ التِّينِ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ اللَّخْمِيِّ أَنَّهَا مَدِينَةٌ، وَمَا ثَبَتَ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ مِنْ كَوْنِهَا قَرْيَةً أَصَحُّ، مَعَ احْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ فِي الْأَوَّلِ قَرْيَةً ثُمَّ صَارَتْ مَدِينَةً، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِتَقَدُّمِ إِسْلَامِ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى، وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا قَرَّرْتُهُ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْإِيمَانِ.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَيُونُسُ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ الْأَيْلِيُّ.
قَوْلُهُ: (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَزَادَ اللَّيْثُ إِلَخْ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ رِوَايَةَ اللَّيْثِ مُتَّفِقَةٌ مَعَ ابْنِ الْمُبَارَكِ إِلَّا فِي الْقِصَّةِ فَإِنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِرِوَايَةِ اللَّيْثِ، وَرِوَايَةُ اللَّيْثِ مُعَلَّقَةٌ، وَقَدْ وَصَلَهَا الذُّهْلِيُّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ كَاتِبِ اللَّيْثِ عَنْهُ، وَقَدْ سَاقَ الْمُصَنِّفُ رِوَايَةَ ابْنِ الْمُبَارَكِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا، فَلَمْ يُخَالِفْ رِوَايَةَ اللَّيْثِ إِلَّا فِي إِعَادَةِ قَوْلِهِ فِي آخِرِهِ: وَكُلُّكُمْ رَاعٍ إِلَخْ.
قَوْلُهُ: (وَكَتَبَ رُزَيْقُ بْنُ حُكَيْمٍ) هُوَ بِتَقْدِيمِ الرَّاءِ عَلَى الزَّايِ، وَالتَّصْغِيرُ فِي اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ فِي رِوَايَتِنَا، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي غَيْرِهَا، وَقِيلَ: بِتَقْدِيمِ الزَّايِ وَبِالتَّصْغِيرِ فِيهِ دُونَ أَبِيهِ.
قَوْلُهُ: (أُجَمِّعُ) أَيْ: أُصَلِّي بِمَنْ مَعِي الْجُمُعَةَ.
قَوْلُهُ: (عَلَى أَرْضٍ يَعْمَلُهَا) أَيْ: يَزْرَعُ فِيهَا.
قَوْلُهُ: (وَرُزَيْقٌ يَوْمَئِذٍ عَلَى أَيْلَةَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا لَامٌ، بَلْدَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي طَرِيقِ الشَّامِ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَمِصْرَ عَلَى سَاحِلِ الْقُلْزُمِ، وَكَانَ رُزَيْقٌ أَمِيرًا عَلَيْهَا مِنْ قِبَلِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْأَرْضَ الَّتِي كَانَ يَزْرَعُهَا مِنْ أَعْمَالِ أَيْلَةَ، وَلَمْ يَسْأَلْ عَنْ أَيْلَةَ نَفْسِهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ مَدِينَةً كَبِيرَةً ذَاتَ قَلْعَةٍ، وَهِيَ الْآنَ خَرَابٌ يَنْزِلُ بِهَا الْحَاجُّ الْمِصْرِيُّ وَالْغَزِّيُّ وَبَعْضُ آثَارِهَا ظَاهِرٌ.
قَوْلُهُ: (وَأَنَا أَسْمَعُ) هُوَ قَوْلُ يُونُسَ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، وَقَوْلُهُ: يَأْمُرُهُ حَالَةٌ أُخْرَى، وَقَوْلُهُ: يُخْبِرُهُ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ يَأْمُرُهُ، وَالْمَكْتُوبُ هُوَ الْحَدِيثُ، وَالْمَسْمُوعُ الْمَأْمُورُ بِهِ، قَالَهُ الْكِرْمَانِيُّ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمَكْتُوبَ هُوَ عَيْنُ الْمَسْمُوعِ، وَهُوَ الْأَمْرُ وَالْحَدِيثُ مَعًا، وَفِي قَوْلِهِ: كَتَبَ تَجَوُّزٌ كَأَنَّ ابْنَ شِهَابٍ أَمْلَاهُ عَلَى كَاتِبِهِ فَسَمِعَهُ يُونُسُ مِنْهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الزُّهْرِيُّ كَتَبَهُ بِخَطِّهِ وَقَرَأَهُ بِلَفْظِهِ فَيَكُونُ فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَكَتَبَ ابْنُ شِهَابٍ وَقَرَأَهُ وَأَنَا أَسْمَعُ، وَوَجْهُ مَا احْتُجَّ بِهِ عَلَى التَّجْمِيعِ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم كُلُّكُمْ رَاعٍ أَنَّ عَلَى مَنْ كَانَ أَمِيرًا إِقَامَةَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ - وَالْجُمُعَةُ مِنْهَا - وَكَانَ رُزَيْقٌ عَامِلًا عَلَى الطَّائِفَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا، وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُرَاعِيَ حُقُوقَهُمْ وَمِنْ جُمْلَتِهَا إِقَامَةُ الْجُمُعَةِ.
قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ تَنْعَقِدُ بِغَيْرِ إِذْنٍ مِنَ السُّلْطَانِ إِذَا كَانَ فِي الْقَوْمِ مَنْ يَقُومُ بِمَصَالِحِهِمْ. وَفِيهِ إِقَامَةُ الْجُمُعَةِ فِي الْقُرَى خِلَافًا لِم نْ شَرَطَ لَهَا الْمُدُنَ، فَإِنْ قِيلَ ; قَوْلُهُ: كُلُّكُمْ رَاعٍ يَعُمُّ جَمِيعَ النَّاسِ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْمَرْعِيُّ أَيْضًا، فَالْجَوَابُ أَنَّهُ مَرْعِيٌّ بِاعْتِبَارٍ، رَاعٍ بِاعْتِبَارٍ، حَتَّى وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَحَدٌ كَانَ رَاعِيًا لِجَوَارِحِهِ وَحَوَاسِّهِ، لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ بِحَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ عِبَادِهِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ فِيهِ: (قَالَ وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ) جَزَمَ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّ فَاعِلَ قَالَ هُنَا هُوَ يُونُسُ، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ سَالِمٌ، ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّهُ ابْنُ عُمَرَ. وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الِاسْتِقْرَاضِ بَيَانُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ رَوَاهُ اللَّيْثُ أَيْضًا عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
12 - بَاب هَلْ عَلَى مَنْ لَمْ يَشْهَدْ الْجُمُعَةَ غُسْلٌ مِنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَغَيْرِهِمْ؟ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّمَا الْغُسْلُ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ
894 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ.
895 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ.
896 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، فَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ؛ فَغَدًا لِلْيَهُودِ وَبَعْدَ غَدٍ لِلنَّصَارَى، فَسَكَتَ.
897 -
ثُمَّ قَالَ: حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا؛ يَغْسِلُ فِيهِ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ.
[الحديث 897 - طرفاه في: 3487. 898]
898 -
رَوَاهُ أَبَانُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ حَقٌّ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا.
13 - باب
899 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ائْذَنُوا لِلنِّسَاءِ بِاللَّيْلِ إِلَى الْمَسَاجِدِ.
900 -
حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَتْ امْرَأَةٌ لِعُمَرَ تَشْهَدُ صَلَاةَ الصُّبْحِ وَالْعِشَاءِ فِي الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ فَقِيلَ لَهَا: لِمَ تَخْرُجِينَ وَقَدْ تَعْلَمِينَ أَنَّ عُمَرَ يَكْرَهُ ذَلِكَ وَيَغَارُ؟ قَالَتْ: وَمَا يَمْنَعُهُ أَنْ يَنْهَانِي. قَالَ: يَمْنَعُهُ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ هَلْ عَلَى مَنْ لَمْ يَشْهَدِ الْجُمُعَةَ غُسْلٌ مِنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَغَيْرِهِمْ؟) تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ فِي بَابِ فَضْلِ الْغُسْلِ وَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ: وَغَيْرِهِمْ الْعَبْدُ وَالْمُسَافِرُ وَالْمَعْذُورُ، وَكَأَنَّهُ اسْتَعْمَلَ الِاسْتِفْهَامَ فِي التَّرْجَمَةِ لِلِاحْتِمَالِ الْوَاقِعِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ، فَإِنَّهُ شَامِلٌ لِلْجَمِيعِ، وَالتَّقْيِيدُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِمَنْ جَاءَ مِنْكُمْ يُخْرِجُ مَنْ لَمْ يَجِئْ، وَالتَّقْيِيدُ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ بِالْمُحْتَلِمِ يُخْرِجُ الصِّبْيَانَ، وَالتَّقْيِيدُ فِي النَّهْيِ عَنْ مَنْعِ النِّسَاءِ الْمَسَاجِدَ بِاللَّيْلِ يُخْرِجُ الْجُمُعَةَ. وَعُرِفَ بِهَذَا وَجْهُ إِيرَادِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَكْثَرِهَا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّمَا الْغُسْلُ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ،) وَصَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْهُ وَزَادَ: وَالْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ يَأْتِي أَهْلَهُ، وَمَعْنَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ أَنَّ الْجُمُعَةَ تَجِبُ عِنْدَهُ عَلَى مَنْ يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ إِلَى مَوْضِعِهِ قَبْلَ دُخُولِ اللَّيْلِ، فَمَنْ كَانَ فَوْقَ هَذِهِ الْمَسَافَةِ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَهُ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ بَعْدَ بَابٍ. وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْآثَارَ الَّتِي يُورِدُهَا الْبُخَارِيُّ فِي
التَّرَاجُمِ تَدُلُّ عَلَى اخْتِيَارِ مَا تَضَمَّنَتْهُ عِنْدَهُ، فَهَذَا مَصِيرٌ مِنْهُ إِلَى أَنَّ الْغُسْلَ لِلْجُمُعَةِ لَا يُشْرَعُ إِلَّا لِمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ (فَسَكَتَ ثُمَّ قَالَ: حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، إِلَخْ) فَاعِلُ سَكَتَ هُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَدْ أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ فِي ذِكْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ وُهَيْبٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ دُونَ قَوْلِهِ: فَسَكَتَ، ثُمَّ قَالَ: وَيُؤَكِّدُ كَوْنَهُ مَرْفُوعًا رِوَايَةُ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُسٍ الْمُقْتَصِرَةُ عَلَى الْحَدِيثِ الثَّانِي، وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ أَوْرَدَهُ بَعْدَهُ فَقَالَ: رَوَاهُ أَبَانُ بْنُ صَالِحٍ إِلَخْ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ وُهَيْبٍ مُقْتَصَرًا، وَهَذَا التَّعْلِيقُ عَنْ مُجَاهِدٍ قَدْ وَصَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ أَبَانٍ الْمَذْكُورِ، وَأَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ طَاوُسٍ وَصَرَّحَ فِيهِ بِسَمَاعِهِ لَهُ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُسٍ، وَزَادَ فِيهِ: وَيَمَسُّ طِيبًا إِنْ كَانَ لِأَهْلِهِ، وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: لِلَّهِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ حَقٌّ لِلْقَائِلِ بِالْوُجُوبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا) هَكَذَا أُبْهِمَ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ، وَقَدْ عَيَّنَهُ جَابِرٌ فِي حَدِيثِهِ عِنْدَ النَّسَائِيِّ بِلَفْظِ: الْغُسْلُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، فِي أُسْبُوعِ يَوْمًا، وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ. وَلِسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، وَأَبِي بَكْرٍ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ مَرْفُوعًا نَحْوُهُ وَلَفْظُهُ: إِنَّ مِنَ الْحَقِّ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَغْتَسِلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الْحَدِيثَ. وَنَحْوُهُ لِلطَّحَاوِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنْصَارِيٍّ مَرْفُوعًا.
قوله: (عن مجاهد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد) هكذا ذكره مختصرا، وأورده مسلم من طريق مجاهد عن ابن عمر مطولا، وقد تقدم ذكره في (باب خروج النساء إلى المساجد)، وهو قبيل كتاب الجمعة، وتقدم هناك ما يتعلق به مطولا.
وقوله: بالليل في إشارة إلى أنهم ما كانوا يمنعونهن بالنهار؛ لأن الليل مظنة الريبة، ولأجل ذلك قال ابن عبد الله بن عمر: لا نأذن لهن يتخذنه دغلا، كما تقدم ذكره من عند مسلم. وقال الكرماني: عادة البخاري إذا ترجم بشيء ذكر ما يتعلق به وما يناسب التعلق، فلذلك أورد حديث ابن عمر هذا في ترجمته هل على من لم يشهد الجمعة غسل؟. قال: فإن قيل: مفهوم التقييد بالليل يمنع النهار، والجمعة نهارية، وأجاب بأنه من مفهوم الموافقة لأنه إذا إذن لهن بالليل - مع أن الليل مظنة الريبة - فالإذن بالنهار بطريق الأولى. وقد عكس هذا بعض الحنفية فجرى على ظاهر الخبر فقال: التقييد بالليل لكون الفساق فيه في شغل بفسقهم ونومهم، بخلاف النهار؛ فإنهم ينتشرون فيه. وهذا وإن كان ممكن لكن مظنة الريبة في الليل أشد، وليس لكلهم في الليل ما يجد ما يشتغل به، وأما النهار فالغالب أنه يفضحهم غالبا، ويصدهم عن التعرض لهن ظاهرا لكثرة انتشار الناس ورؤية من يتعرض فيه لما لا يحل له فينكر عليه، والله أعلم.
قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ (قَالَ كَانَتْ امْرَأَةٌ لِعُمَرَ) هِيَ عَاتِكَةُ بِنْتُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، أُخْتُ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، أَحَدَ الْعَشَرَةِ، سَمَّاهَا الزُّهْرِيُّ فِيمَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْهُ قَالَ: كَانَتْ عَاتِكَةُ بِنْتُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَكَانَتْ تَشْهَدُ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ لَهَا: وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَعْلَمِينَ أَنِّي مَا أُحِبُّ هَذَا. قَالَتْ: وَاللَّهِ لَا أَنْتَهِي حَتَّى تَنْهَانِي. قَالَ: فَلَقَدْ طُعِنَ عُمَرُ وَإِنَّهَا لَفِي الْمَسْجِدِ كَذَا ذَكَرَهُ مُرْسَلًا، وَوَصَلَهُ عَبْدُ الْأَعْلَى، عَنْ مَعْمَرٍ بِذِكْرِ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ، لَكِنْ أَبْهَمَ الْمَرْأَةَ.
أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْهُ، وَسَمَّاهَا أَحْمَدُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سَالِمٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ رَجُلًا غَيُورًا، وَكَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّبَعَتْهُ عَاتِكَةُ بِنْتُ زَيْدٍ الْحَدِيثَ، وَهُوَ مُرْسَلٌ أَيْضًا، وَعُرِفَ مِنْ هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ: فَقِيلَ لَهَا: لِمَ تَخْرُجِينَ؟ إِلَخْ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ كُلِّهِ هُوَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَلَا مَانِعَ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ عُمَرَ إِلَخْ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ التَّجْرِيدِ أَوِ الِالْتِفَاتِ، وَعَلَى هَذَا فَالْحَدِيثُ مِنْ مُسْنَدِ عُمَرَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ سَالِمٍ
الْمُرْسَلَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْمُخَاطَبَةُ دَارَتْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا لِأَنَّ الْحَدِيثَ مَشْهُورٌ مِنْ رِوَايَتِهِ، وَلَا مَانِعَ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ نَفْسِهِ بِقِيلَ لَهَا إِلَخْ، وَهَذَا مُقْتَضَى مَا صَنَعَ الْحُمَيْدِيُّ وَأَصْحَابُ الْأَطْرَافِ، فَإِنَّهُمْ أَخْرَجُوا هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فِي مُسْنَدِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى فَوَائِدِهِ مُسْتَوْفًى قُبَيْلَ كِتَابِ الْجُمُعَةِ.
(تَنْبِيهٌ): قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: أَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: ائْذَنُوا لِلنِّسَاءِ بِاللَّيْلِ إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الْإِذْنَ إِنَّمَا وَقَعَ لَهُنَّ بِاللَّيْلِ فَلَا تَدْخُلُ فِيهِ الْجُمُعَةُ. قَالَ: وَرِوَايَةُ أَبِي أُسَامَةَ الَّتِي أَوْرَدَهَا بَعْدَ ذَلِكَ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، يَعْنِي قَوْلَهُ فِيهَا: لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ، انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ جَنَحَ إِلَى أَنَّ هَذَا الْمُطْلَقَ يُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ الْمُقَيَّدِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
14 - بَاب الرُّخْصَةِ إِنْ لَمْ يَحْضُرْ الْجُمُعَةَ فِي الْمَطَرِ
901 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ صَاحِبُ الزِّيَادِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ ابْنُ عَمِّ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِمُؤَذِّنِهِ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ: إِذَا قُلْتَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَلَا تَقُلْ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، قُلْ: صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ. فَكَأَنَّ النَّاسَ اسْتَنْكَرُوا قَالَ: فَعَلَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي، إِنَّ الْجُمْعَةَ عَزْمَةٌ، وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُحْرِجَكُمْ فَتَمْشُونَ فِي الطِّينِ وَالدَّحَضِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الرُّخْصَةِ إِنْ لَمْ يَحْضُرِ الْجُمُعَةَ فِي الْمَطَرِ) ضُبِطَ فِي رِوَايَتِنَا بِكَسْرِ إِنْ وَهِيَ الشَّرْطِيَّةُ، وَيَحْضُرُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ أَيِ الرَّجُلُ. وَضَبَطَهُ الْكِرْمَانِيُّ بِفَتْحِ أَنْ وَيَحْضُرُ بِلَفْظِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ، وَهُوَ مُتَّجَهٌ أَيْضًا. وَأَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ هُنَا حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ عُلَيَّةَ، وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِمَا تَرْجَمَ لَهُ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ قَلِيلِ الْمَطَرِ وَكَثِيرِهِ. وَعَنْ مَالِكٍ: لَا يُرَخَّصُ فِي تَرْكِهَا بِالْمَطَرِ. وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا حُجَّةٌ فِي الْجَوَازِ. وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: الظَّاهِرُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَا يُرَخِّصُ فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ فَإِشَارَةٌ مِنْهُ إِلَى الْعَصْرِ، فَرَخَّصَ لَهُمْ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ فِيهَا، وَأَمَّا الْجُمُعَةُ فَقَدْ جَمَعَهُمْ لَهَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ جَمَّعَ بِهِمْ فِيهَا. قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ جَمَّعَهُمْ لِلْجُمُعَةِ لِيُعْلِمَهُمْ بِالرُّخْصَةِ فِي تَرْكِهَا فِي مِثْلِ ذَلِكَ لِيَعْمَلُوا بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ لَمْ يُجَمِّعْهُمْ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ: صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ مُخَاطَبَةَ مَنْ لَمْ يَحْضُرْ وَتَعْلِيمَ مَنْ حَضَرَ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ الْجُمُعَةَ عَزْمَةٌ) اسْتَشْكَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فَقَالَ: لَا أَخَالُهُ صَحِيحًا، فَإِنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ بِلَفْظِ: إِنَّهَا عَزْمَةٌ أَيْ: كَلِمَةُ الْمُؤَذِّنِ وَهِيَ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، لِأَنَّهَا دُعَاءٌ إِلَى الصَّلَاةِ تَقْتَضِي لِسَامِعِهِ الْإِجَابَةَ، وَلَوْ كَانَ مَعْنَى الْجُمُعَةُ عَزْمَةٌ لَكَانَتْ الْعَزِيمَةُ لَا تَزُولُ بِتَرْكِ بَقِيَّةِ الْأَذَانِ. انْتَهَى.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ بَقِيَّةَ الْأَذَانِ، وَإِنَّمَا أَبْدَلَ قَوْلِهِ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ بِقَوْلِهِ: صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الْجُمُعَةَ عَزْمَةٌ أَيْ: فَلَوْ تَرَكْتَ الْمُؤَذِّنَ يَقُولُ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، لَبَادَرَ مَنْ سَمِعَهُ إِلَى الْمَجِيءِ فِي الْمَطَرِ فَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ فَأَمَرْتُهُ أَنْ يَقُولَ: صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ، لِتَعْلَمُوا أَنَّ الْمَطَرَ مِنَ الْأَعْذَارِ الَّتِي تُصِيرُ الْعَزِيمَةَ رُخْصَةً.
قَوْلُهُ: (وَالدَّحْضُ) بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ - وَيَجُوزُ فَتْحُهَا - وَآخِرِهِ ضَادٌ مُعْجَمَةٌ هُوَ الزَّلِقُ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّ فِي رِوَايَةِ الْقَابِسِيِّ بِالرَّاءِ بَدَلَ الدَّالِ وَهُوَ الْغُسْلُ، قَالَ: وَلَا مَعْنَى لَهُ هُنَا إِلَّا إِنْ حُمِلَ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ حِينَ أَصَابَهَا الْمَطَرُ كَالْمُغْتَسَلِ وَالْجَامِعِ بَيْنَهُمَا الزَّلِقُ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ بَقِيَّةُ مَبَاحِثِ الْحَدِيثِ فِي أَبْوَابِ الْأَذَانِ.
(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي السِّيَاقِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ ابْنِ عَمِّ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، وَأَنْكَرَهُ الدِّمْيَاطِيُّ فَقَالَ: كَانَ زَوْجَ
بِنْتِ سِيرِينَ فَهُوَ صِهْرُ ابْنِ سِيرِينَ لَا ابْنُ عَمِّهِ. قُلْتُ: مَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ سِيرِينَ، وَالْحَارِثِ أُخُوَّةٌ مِنْ رَضَاعٍ وَنَحْوِهِ، فَلَا يَنْبَغِي تَغْلِيطُ الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ مَعَ وُجُودِ الِاحْتِمَالِ الْمَقْبُولِ.
15 - بَاب مِنْ أَيْنَ تُؤْتَى الْجُمُعَةُ وَعَلَى مَنْ تَجِبُ؟
لِقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} وَقَالَ عَطَاءٌ: إِذَا كُنْتَ فِي قَرْيَةٍ جَامِعَةٍ فَنُودِيَ بِالصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَحَقٌّ عَلَيْكَ أَنْ تَشْهَدَهَا سَمِعْتَ النِّدَاءَ أَوْ لَمْ تَسْمَعْهُ، وَكَانَ أَنَسٌ رضي الله عنه فِي قَصْرِهِ أَحْيَانًا يُجَمِّعُ وَأَحْيَانًا لَا يُجَمِّعُ وَهُوَ بِالزَّاوِيَةِ عَلَى فَرْسَخَيْنِ
902 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ حَدَّثَهُ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: كَانَ النَّاسُ يَنْتَابُونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ مَنَازِلِهِمْ وَالْعَوَالِيِّ فَيَأْتُونَ فِي الْغُبَارِ يُصِيبُهُمْ الْغُبَارُ وَالْعَرَقُ، فَيَخْرُجُ مِنْهُمْ الْعَرَقُ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنْسَانٌ مِنْهُمْ - وَهُوَ عِنْدِي - فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَوْ أَنَّكُمْ تَطَهَّرْتُمْ لِيَوْمِكُمْ هَذَا.
قَوْلُهُ: (بَابُ مِنْ أَيْنَ تُؤْتَى الْجُمُعَةُ، وَعَلَى مَنْ تَجِبُ؟ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} يَعْنِي أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ صَرِيحَةً فِي وُجُوبِ بَيَانِ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ، فَلِذَلِكَ أَتَى فِي التَّرْجَمَةِ بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ. وَالَّذِيِ ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ أَوْ كَانَ فِي قُوَّةِ السَّامِعِ سَوَاءٌ كَانَ دَاخِلَ الْبَلَدِ أَوْ خَارِجَهُ، وَمَحَلُّهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيُّ مَا إِذَا كَانَ الْمُنَادِي صَيِّتًا وَالْأَصْوَاتُ هَادِئَةً وَالرَّجُلُ سَمِيعًا. وَفِي السُّنَنِ لِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا: إِنَّمَا الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ. وَقَالَ: إِنَّهُ اخْتُلِفَ فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ. وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ: أَتَسْمَعُ النِّدَاءَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَجِبْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ ذِكْرُ مَنِ احْتَجَّ بِهِ عَلَى وُجُوبِهَا، فَيَكُونُ فِي الْجُمُعَةِ أَوْلَى لِثُبُوتِ الْأَمْرِ بِالسَّعْيِ إِلَيْهَا. وَأَمَّا حَدِيثُ: الْجُمُعَةِ عَلَى مَنْ آوَاهُ اللَّيْلُ إِلَى أَهْلِهِ فَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ شَيْئًا، وَقَالَ لِمَنْ ذَكَرَهُ: اسْتَغْفِرْ رَبَّكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلُ بِبَابٍ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى مَنْ يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ إِلَى أَهْلِهِ قَبْلَ دُخُولِ اللَّيْلِ، وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّهُ يَجِبُ السَّعْيُ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ وَهُوَ بِخِلَافِ الْآيَةِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَطَاءٌ إِلَخْ) وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْهُ، وَقَوْلُهُ: سَمِعْتَ النِّدَاءَ أَوْ لَمْ تَسْمَعْهُ، يَعْنِي إِذَا كُنْتَ دَاخِلَ الْبَلَدِ، وَبِهَذَا صَرَّحَ أَحْمَدُ، وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ، وَزَادَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي هَذَا الْأَثَرِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ أَيْضًا قُلْتُ لِعَطَاءٍ: مَا الْقَرْيَةُ الْجَامِعَةُ؟ قَالَ: ذَاتُ الْجَمَاعَةِ وَالْأَمِيرِ وَالْقَاضِي وَالدُّورُ الْمُجْتَمِعَةِ الْآخِذُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، مِثْلُ جَدَّةَ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ أَنَسٌ - إِلَى قَوْلِهِ - لَا يُجَمِّعُ) وَصَلَهُ مُسَدَّدٌ فِي مُسْنَدِهِ الْكَبِيرِ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ بِهَذَا. وَقَوْلُهُ يُجَمِّعُ أَيْ يُصَلِّي بِمَنْ مَعَهُ الْجُمُعَةَ، أَوْ يَشْهَدُ الْجُمُعَةَ بِجَامِعِ الْبَصْرَةِ.
قَوْلُهُ: (وَهُوَ) أَيِ الْقَصْرُ، وَالزَّاوِيَةُ مَوْضِعٌ ظَاهِرُ الْبَصْرَةِ مَعْرُوفٌ، كَانَتْ فِيهِ وَقْعَةٌ كَبِيرَةٌ بَيْنَ الْحَجَّاجِ، وَابْنِ الْأَشْعَثِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْبَكْرِيُّ: هُوَ بِكَسْرِ الْوَاوِ، مَوْضِعٌ دَانٍ مِنْ الْبَصْرَةِ. وَقَوْلُهُ: عَلَى فَرْسَخَيْنِ أَيْ مِنْ الْبَصْرَةِ. وَهَذَا وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ
أَنَسٍ أَنَّهُ كَانَ يَشْهَدُ الْجُمُعَةَ مِنَ الزَّاوِيَةَ وَهِيَ عَلَى فَرْسَخَيْنِ مِنْ الْبَصْرَةِ، وَهَذَا يَرُدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الزَّاوِيَةَ مَوْضِعٌ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ كَانَ فِيهِ قَصْرٌ لِأَنَسٍ عَلَى فَرْسَخَيْنِ مِنْهَا، وَيُرَجَّحُ الِاحْتِمَالُ الثَّانِي، وَعُرِفَ بِهَذَا أَنَّ التَّعْلِيقَ الْمَذْكُورَ مُلَفَّقٌ مِنْ أَثَرَيْنِ، وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ ثَابِتٍ قَالَ: كَانَ أَنَسٌ يَكُونُ فِي أَرْضِهِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَصْرَةِ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ فَيَشْهَدُ الْجُمُعَةَ بِالْبَصْرَةِ لِكَوْنِ الثَّلَاثَةِ أَمْيَالٍ فَرْسَخًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ يُجْمَعُ بِأَنَّ الْأَرْضَ الْمَذْكُورَةَ غَيْرُ الْقَصْرِ، وَبِأَنَّ أَنَسًا كَانَ يَرَى التَّجْمِيعَ حَتْمًا إِنْ كَانَ عَلَى فَرْسَخٍ وَلَا يَرَاهُ حَتْمًا إِذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَلِهَذَا لَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ التَّخْيِيرُ فِي رِوَايَةِ حُمَيْدٍ.
قَوْلُهُ. (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ) كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَوَافَقَهُ ابْنُ السَّكَنِ، وعند غَيْرِهِمَا: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ غَيْرُ مَنْسُوبٍ، وَجَزَمَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ بِأَنَّهُ ابْنُ عِيسَى، وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ وَفِي هَذَا الْإِسْنَادِ لَطِيفَةٌ، وَهُوَ أَنَّ فِيهِ ثَلَاثَةً دُونَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، وَثَلَاثَةً فَوْقَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.
قَوْلُهُ: (يَنْتَابُونَ الْجُمُعَةَ) أَيْ يَحْضُرُونَهَا نَوْبًا، وَالِانْتِيَابُ افْتِعَالٌ مِنَ النَّوْبَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ يَتَنَاوَبُونَ.
قَوْلُهُ: (وَالْعَوَالِيَ) تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي الْمَوَاقِيتِ وَأَنَّهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ فَصَاعِدًا مِنَ الْمَدِينَةِ.
قَوْلُهُ: (فَيَأْتُونَ فِي الْغُبَارِ فَيُصِيبُهُمُ الْغُبَارُ) كَذَا وَقَعَ لِلْأَكْثَرِ، وَعِنْدَ الْقَابِسِيِّ: فَيَأْتُونَ فِي الْعَبَاءِ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمَدِّ وَهُوَ أَصْوَبُ، وَكَذَا هُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ.
قَوْلُهُ: (إِنْسَانٌ مِنْهُمْ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ نَاسٌ مِنْهُمْ.
قَوْلُهُ: (لَوْ أَنَّكُمْ تَطَهَّرْتُمْ لِيَوْمِكُمْ هَذَا) لَوْ لِلتَّمَنِّي فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى جَوَابٍ، أَوْ لِلشَّرْطِ وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ لَكَانَ حَسَنًا. وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ أَنَّ هَذَا كَانَ مَبْدَأَ الْأَمْرِ بِالْغُسْلِ لِلْجُمُعَةِ، وَلِأَبِي عَوَانَةَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُهُ، وَصَرَّحَ فِي آخِرِهِ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ حِينَئِذٍ مَنْ جَاءَ مِنْكُمُ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ وَقَدِ اسْتَدَلَّتْ بِهِ عَمْرَةُ عَلَى أَنَّ غُسْلَ الْجُمُعَةِ شُرِعَ لِلتَّنْظِيفِ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، فَعَلَى هَذَا فَمَعْنَى قَوْلِهِ لِيَوْمِكُمْ هَذَا أَيْ فِي يَوْمِكُمْ هَذَا. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ أَيْضًا رِفْقُ الْعَالِمِ بِالْمُتَعَلِّمِ، وَاسْتِحْبَابُ التَّنْظِيفِ لِمُجَالَسَةِ أَهْلِ الْخَيْرِ، وَاجْتِنَابُ أَذَى الْمُسْلِمِ بِكُلِّ طَرِيقٍ، وَحِرْصُ الصَّحَابَةِ عَلَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَلَوْ شَقَّ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِيهِ رَدٌّ عَلَى الْكُوفِيِّينَ حَيْثُ لَمْ يُوجِبُوا الْجُمُعَةَ عَلَى مَنْ كَانَ خَارِجَ الْمِصْرِ، كَذَا قَالَ. وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا عَلَى أَهْلِ الْعَوَالِي مَا تَنَاوَبُوا وَلَكَانُوا يَحْضُرُونَ جَمِيعًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
16 - بَاب وَقْتُ الْجُمُعَةِ إِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ
وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَعَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ رضي الله عنهم
903 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَمْرَةَ عَنْ الْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَتْ: قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: كَانَ النَّاسُ مَهَنَةَ أَنْفُسِهِمْ، وَكَانُوا إِذَا رَاحُوا إِلَى الْجُمُعَةِ رَاحُوا فِي هَيْئَتِهِمْ، فَقِيلَ لَهُمْ: لَوْ اغْتَسَلْتُمْ.
[الحديث 903 - طرفه في 2071]
904 -
حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ قَالَ حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ حِينَ تَمِيلُ الشَّمْسُ "
905 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كُنَّا نُبَكِّرُ بِالْجُمُعَةِ وَنَقِيلُ بَعْدَ الْجُمُعَةِ "
[الحديث 905 - طرفه في: 940]
قَوْلُهُ: (بَابُ وَقْتِ الْجُمُعَةِ) أَيْ أَوَّلِهِ (إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ) جَزَمَ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ وُقُوعِ الْخِلَافِ فِيهَا لِضَعْفِ دَلِيلِ الْمُخَالِفِ عِنْدَهُ.
قَوْلُهُ: (وَكَذَا يُذْكَرُ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَعَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ) قِيلَ: إِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى هَؤُلَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ لِأَنَّهُ نُقِلَ عَنْهُمْ خِلَافُ ذَلِكَ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ عَنْ عَلِيٍّ وَمَنْ بَعْدَهُ فِي ذَلِكَ، وَأَغْرَبَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فَنَقَلَ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ، إِلَّا مَا نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ إِنْ صَلَّاهَا قَبْلَ الزَّوَالِ أَجْزَأَ اهـ. وَقَدْ نَقَلَهُ ابْنُ قُدَامَةَ وَغَيْرُهُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ كَمَا سَيَأْتِي، فَأَمَّا الْأَثَرُ عَنْ عُمَرَ فَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ لَهُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِيدَانَ قَالَ شَهِدْتُ الْجُمُعَةَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ فَكَانَتْ صَلَاتُهُ وَخُطْبَتُهُ قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ، وَشَهِدْتُهَا مَعَ عُمَرَ رضي الله عنه فَكَانَتْ صَلَاتُهُ وَخُطْبَتُهُ إِلَى أَنْ أَقُولَ قَدِ انْتَصَفَ النَّهَارُ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ إِلَّا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سِيدَانَ وَهُوَ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ فَإِنَّهُ تَابِعِيٌّ كَبِيرٌ إِلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مَعْرُوفِ الْعَدَالَةِ، قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ شِبْهُ الْمَجْهُولِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ لَا يُتَابَعُ عَلَى حَدِيثِهِ، بَلْ عَارَضَهُ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ فَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ سُوَيْدِ بْنِ غَفْلَةَ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ إِسْنَادُهُ قَوِيٌّ، وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ قَالَ كُنْتُ أَرَى طُنْفُسَةً لِعَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ تُطْرَحُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى جِدَارِ الْمَسْجِدِ الْغَرْبِيِّ، فَإِذَا غَشِيَهَا ظِلُّ الْجِدَارِ خَرَجَ عُمَرُ إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَخْرُجُ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ، وَفَهِمَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ عَكْسَ ذَلِكَ، وَلَا يُتَّجَهُ إِلَّا إِنْ حُمِلَ عَلَى أَنَّ الطُّنْفُسَةَ كَانَتْ تُفْرَشُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ وَهُوَ بَعِيدٌ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهَا كَانَتْ تُفْرَشُ لَهُ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ، وَعَلَى هَذَا فَكَانَ عُمَرُ يَتَأَخَّرُ بَعْدَ الزَّوَالِ قَلِيلًا، وَفِي حَدِيثِ السَّقِيفَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَزَالَتِ الشَّمْسُ خَرَجَ عُمَرُ فَجَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ ; وَأَمَّا عَلِيٌّ فَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقَ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ صَلَّى خَلْفَ عَلِيٍّ الْجُمُعَةَ بَعْدَمَا زَالَتِ الشَّمْسُ إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي رَزِينٍ قَالَ كُنَّا نُصَلِّي مَعَ عَلِيٍّ الْجُمُعَةَ فَأَحْيَانًا نَجِدُ فَيْئًا وَأَحْيَانًا لَا نَجِدُ وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْمُبَادَرَةِ عِنْدَ الزَّوَالِ أَوِ التَّأْخِيرِ قَلِيلًا، وَأَمَّا النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ فَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ قَالَ كَانَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ يُصَلِّي بِنَا الْجُمُعَةَ بَعْدَمَا تَزُولُ الشَّمْسُ.
قُلْتُ: وَكَانَ النُّعْمَانُ أَمِيرًا عَلَى الْكُوفَةِ فِي أَوَّلِ خِلَافَةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَأَمَّا عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ فَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ الْعَيْزَارِ قَالَ مَا رَأَيْتُ إِمَامًا كَانَ أَحْسَنَ صَلَاةً لِلْجُمُعَةِ مِنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، فَكَانَ يُصَلِّيهَا إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ أَيْضًا، وَكَانَ عَمْرٌو يَنُوبُ عَنْ زِيَادٍ وَعَنْ وَلَدِهِ فِي الْكُوفَةِ أَيْضًا. وَأَمَّا مَا يُعَارِضُ ذَلِكَ عَنِ الصَّحَابَةِ فَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلِمَةَ وَهُوَ بِكَسْرِ اللَّامِ قَالَ صَلَّى بِنَا عَبْدُ اللَّهِ - يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ - الْجُمُعَةَ ضُحًى وَقَالَ: خَشِيتُ عَلَيْكُمُ الْحَرَّ وَعَبْدُ اللَّهِ صَدُوقٌ إِلَّا أَنَّهُ مِمَّنْ تَغَيَّرَ لَمَّا كَبِرَ قَالَهُ شُعْبَةُ وَغَيْرُهُ، وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ صَلَّى بِنَا مُعَاوِيَةُ الْجُمُعَةَ ضُحًى وَسَعِيدٌ ذَكَرَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الضُّعَفَاءِ وَاحْتَجَّ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ هَذَا يَوْمٌ جَعَلَهُ اللَّهُ عِيدًا لِلْمُسْلِمِينَ قَالَ: فَلَمَّا سَمَّاهُ عِيدًا جَازَتِ الصَّلَاةُ فِيهِ وَقْتَ الْعِيدِ كَالْفِطْرِ وَالْأَضْحَى، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَسْمِيَةِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ عِيدًا أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى جَمِيعِ أَحْكَامِ الْعِيدِ، بِدَلِيلِ أَنَّ يَوْمَ الْعِيدِ يَحْرُمُ صَوْمُهُ مُطْلَقًا سَوَاءٌ صَامَ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ بِخِلَافِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِاتِّفَاقِهِمْ.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ
ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ هُوَ الْأَنْصَارِيُّ.
قَوْلُهُ: (كَانَ النَّاسُ مَهَنَةً) بِنُونٍ وَفَتَحَاتٍ جَمْعُ مَاهِنٍ كَكَتَبَةٍ وَكَاتِبٍ أَيْ خَدَمَ أَنْفُسِهِمْ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ رُوِيَ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْهَاءِ وَمَعْنَاهُ بِإِسْقَاطِ مَحْذُوفٍ أَيْ ذَوِي مِهْنَةٍ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ كَانَ النَّاسُ أَهْلَ عَمَلٍ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ كُفَاةٌ أَيْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَنْ يَكْفِيهِمُ الْعَمَلَ مِنَ الْخَدَمِ.
قَوْلُهُ: (وَكَانُوا إِذَا رَاحُوا إِلَى الْجُمُعَةِ رَاحُوا فِي هَيْئَتِهِمْ) اسْتَدَلَّ الْبُخَارِيُّ بِقَوْلِهِ رَاحُوا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ الزَّوَالِ لِأَنَّهُ حَقِيقَةُ الرَّوَاحِ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَلَا يُعَارِضُ هَذَا مَا تَقَدَّمَ عَنْ الْأَزْهَرِيِّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّوَاحِ فِي قَوْلِهِ مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ رَاحَ الذَّهَابُ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَجَازًا أَوْ مُشْتَرَكًا، وَعَلَى كُلٍّ مِنْ التَّقْدِيرَيْنِ فَالْقَرِينَةُ مُخَصِّصَةٌ وَهِيَ فِي قَوْلِهِ مَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْأُولَى قَائِمَةٌ فِي إِرَادَةِ مُطْلَقِ الذَّهَابِ، وَفِي هَذَا قَائِمَةٌ فِي الذَّهَابِ بَعْدَ الزَّوَالِ لِمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الْمَذْكُورِ فِي الطَّرِيقِ الَّتِي فِي آخِرِ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا حَيْثُ قَالَتْ يُصِيبُهُمُ الْغُبَارُ وَالْعَرَقُ لِأَنَّ ذَلِكَ غَالِبًا إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَمَا يَشْتَدُّ الْحَرُّ، وَهَذَا فِي حَالِ مَجِيئِهِمْ مِنَ الْعَوَالِي، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَا يَصِلُونَ إِلَى الْمَسْجِدِ إِلَّا حِينَ الزَّوَالِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، وَعُرِفَ بِهَذَا تَوْجِيهُ إِيرَادِ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي هَذَا الْبَابِ.
(تنبيهٌ): أَوْرَدَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ طَرِيقَ عَمْرَةَ هَذِهِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ وَعَلَى هَذَا فَلَا إِشْكَالَ فِيهِ أَصْلًا.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَنَسٍ) صَرَّحَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ، عَنْ فُلَيْحٍ بِسَمَاعِ عُثْمَانَ لَهُ مِنْ أَنَسٍ.
قَوْلُهُ: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ حِينَ تَمِيلُ الشَّمْسُ) فِيهِ إِشْعَارٌ بِمُوَاظَبَتِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ.
وأَمَّا رِوَايَةُ حُمَيْدٍ الَّتِي بَعْدَ هَذَا عَنْ أَنَسٍ كُنَّا نُبَكِّرُ بِالْجُمُعَةِ وَنَقِيلُ بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَظَاهِرُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ الْجُمُعَةَ بَاكِرَ النَّهَارِ، لَكِنَّ طَرِيقَ الْجَمْعِ أَوْلَى مِنْ دَعْوَى التَّعَارُضِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ التَّبْكِيرَ يُطْلَقُ عَلَى فِعْلِ الشَّيْءِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهِ أَوْ تَقْدِيمِهِ عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَبْدَءُونَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْقَيْلُولَةِ، بِخِلَافِ مَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُمْ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي الْحَرِّ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقِيلُونَ ثُمَّ يُصَلُّونَ لِمَشْرُوعِيَّةِ الْإِيرَادِ، وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ أَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ طَرِيقَ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ عَقِبَ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْهُ، وَسَيَأْتِي فِي التَّرْجَمَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ التَّعْبِيرِ بِالتَّبْكِيرِ وَالْمُرَادُ بِهِ الصَّلَاةُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا قُلْنَاهُ. قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: فَسَّرَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ أَنَسٍ الثَّانِيَ بِحَدِيثِ أَنَسٍ الْأَوَّلِ إِشَارَةً مِنْهُ إِلَى أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا.
(تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: حَكَى ابْنُ التِّينِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الْمَلِكِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا أَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ الْآثَارَ عَنِ الصَّحَابَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ حَدِيثًا مَرْفُوعًا فِي ذَلِكَ، وَتَعَقَّبَهُ بِحَدِيثِ أَنَسٍ هَذَا وَهُوَ كَمَا قَالَ. الثَّانِي: لَمْ يَقَعِ التَّصْرِيحُ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ بِرَفْعِ حَدِيثِ أَنَسٍ الثَّانِي، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ فُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ، عَنْ حُمَيْدٍ فَزَادَ فِيهِ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ يَأْتِي فِي آخِرِ كِتَابِ الْجُمُعَةِ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ السَّاعَاتِ الْمَطْلُوبَةَ فِي الذَّهَابِ إِلَى الْجُمُعَةِ مِنْ عِنْدِ الزَّوَالِ لِأَنَّهُمْ يَتَبَادَرُونَ إِلَى الْجُمُعَةِ قَبْلَ الْقَائِلَةِ.
17 - بَاب إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
906 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو خَلْدَةَ، هُوَ خَالِدُ بْنُ دِينَارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا اشْتَدَّ الْبَرْدُ بَكَّرَ بِالصَّلَاةِ، وَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ أَبْرَدَ بِالصَّلَاةِ، يَعْنِي الْجُمُعَةَ.
قَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ: أَخْبَرَنَا أَبُو خَلْدَةَ فَقَالَ بِالصَّلَاةِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْجُمُعَةَ. وَقَالَ بِشْرُ بْنُ ثَابِتٍ: حَدَّثَنَا أَبُو خَلْدَةَ قَالَ صَلَّى بِنَا أَمِيرٌ الْجُمُعَةَ ثُمَّ قَالَ لِأَنَسٍ رضي الله عنه كَيْفَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الظُّهْرَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ) لَمَّا اخْتَلَفَ ظَاهِرُ النَّقْلِ عَنْ أَنَسٍ وَتَقَرَّرَ أَنَّ طَرِيقَ الْجَمْعِ أَنْ يُحْمَلَ الْأَمْرُ عَلَى اخْتِلَافِ الْحَالِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْجُمُعَةِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، جَاءَ عَنْ أَنَسٍ حَدِيثٌ آخَرُ يُوهِمُ خِلَافَ ذَلِكَ فَتَرْجَمَ الْمُصَنِّفُ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ لِأَجْلِهِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو خَلْدَةَ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.
قَوْلُهُ: (بَكَّرَ بِالصَّلَاةِ) أَيْ صَلَّاهَا فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا.
قَوْلُهُ: (وَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ أَبْرَدَ بِالصَّلَاةِ يَعْنِي الْجُمُعَةَ) لَمْ يَجْزِمِ الْمُصَنِّفُ بِحُكْمِ التَّرْجَمَةِ لِلِاحْتِمَالِ الْوَاقِعِ فِي قَوْلِهِ يَعْنِي الْجُمُعَةَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ التَّابِعِيِّ أَوْ مَنْ دُونَهُ، وَهُوَ ظَنٌّ مِمَّنْ قَالَهُ، وَالتَّصْرِيحُ عَنْ أَنَسٍ فِي رِوَايَةِ حُمَيْدٍ الْمَاضِيَةِ أَنَّهُ كَانَ يُبَكِّرُ بِهَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، وَيُؤَيِّدُهُ الرِّوَايَةُ الْمُعَلَّقَةُ الثَّانِيَةُ فَإِنَّ فِيهَا الْبَيَانَ بِأَنَّ قَوْلَهُ يَعْنِي الْجُمُعَةَ إِنَّمَا أَخَذَهُ قَائِلُهُ مِمَّا فَهِمَهُ مِنَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَالظُّهْرِ عِنْدَ أَنَسٍ حَيْثُ اسْتَدَلَّ لَمَّا سُئِلَ عَنِ الْجُمُعَةِ بِقَوْلِهِ كَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ، وَأَوْضَحُ مِنْ ذَلِكَ رِوَايَةُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ حَرَمِيٍّ وَلَفْظُهُ سَمِعْتُ أَنَسًا - وَنَادَاهُ يَزِيدُ الضَّبِّيُّ يَوْمَ جُمُعَةِ: يَا أَبَا حَمْزَةَ قَدْ شَهِدْتَ الصَّلَاةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَيْفَ كَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ؟ - فَذَكَرَهُ وَلَمْ يَقُلْ بَعْدَهُ يَعْنِي الْجُمُعَةَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ) وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَلَفْظُهُ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَهُوَ مَعَ الْحَكَمِ أَمِيرِ الْبَصْرَةِ عَلَى السَّرِيرِ يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَانَ الْحَرُّ أَبْرَدَ بِالصَّلَاةِ، وَإِذَا كَانَ الْبَرْدُ بَكَّرَ بِالصَّلَاةِ وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ يُونُسَ وَزَادَ يَعْنِي الظُّهْرَ. وَالْحَكَمُ الْمَذْكُورُ هُوَ ابْنُ أَبِي عَقِيلٍ الثَّقَفِيُّ كَانَ نَائِبًا عَنِ ابْنِ عَمِّهِ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ، وَكَانَ عَلَى طَرِيقَةِ ابْنِ عَمِّهِ فِي تَطْوِيلِ الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حَتَّى يَكَادَ الْوَقْتُ أَنْ يَخْرُجَ. وَقَدْ أَوْرَدَ أَبُو يَعْلَى قِصَّةَ يَزِيدَ الضَّبِّيِّ الْمَذْكُورِ وَإِنْكَارَهُ عَلَى الْحَكَمِ هَذَا الصَّنِيعَ وَاسْتِشْهَادَهُ بِأَنَسٍ وَاعْتِذَارَ أَنَسٍ، عَنِ الْحَكَمِ بِأَنَّهُ أَخَّرَ لِلْإِبْرَادِ، فَسَاقَهَا مُطَوَّلَةٌ فِي نَحْوِ وَرَقَةٍ. وَعُرِفَ بِهَذَا أَنَّ الْإِبْرَادَ بِالْجُمُعَةِ عِنْدَ أَنَسٍ إِنَّمَا هُوَ بِالْقِيَاسِ عَلَى الظُّهْرِ لَا بِالنَّصِّ، لَكِنَّ أَكْثَرَ الْأَحَادِيثِ تَدُلُّ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ بِشْرِ بْنِ ثَابِتٍ) وَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ بِلَفْظِ كَانَ إِذَا كَانَ الشِّتَاءُ بَكَّرَ بِالظُّهْرِ، وَإِذَا كَانَ الصَّيْفُ أَبْرَدَ بِهَا وَعُرِفَ مِنْ طَرِيقِ الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ تَسْمِيَةُ الْأَمِيرِ الْمُبْهَمِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ الْمُعَلَّقَةِ، وَمِنْ رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَغَيْرِهِ سَبَبُ تَحْدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ بِذَلِكَ حَتَّى سَمِعَهُ أَبُو خَلْدَةَ. وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: نَحَا الْبُخَارِيُّ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْإِبْرَادِ بِالْجُمُعَةِ وَلَمْ يَبُتَّ الْحُكْمَ بِذَلِكَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ يَعْنِي الْجُمُعَةَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ التَّابِعِيِّ مِمَّا فَهِمَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَقْلِهِ، فَرَجَحَ عِنْدَهُ إِلْحَاقُهَا بِالظُّهْرِ، لِأَنَّهَا إِمَّا ظُهْرٌ وَزِيَادَةٌ أَوْ بَدَلٌ عَنِ الظُّهْرِ، وَأَيَّدَ ذَلِكَ قَوْلُ أَمِيرِ الْبَصْرَةِ لِأَنَسٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ كَيْفَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الظُّهْرَ وَجَوَابُ أَنَسٍ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارِ ذَلِكَ، وَقَالَ أَيْضًا: إِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْإِبْرَادَ يُشْرَعُ فِي الْجُمُعَةِ أُخِذَ مِنْهُ أَنَّهَا لَا تُشْرَعُ قَبْلَ الزَّوَالِ، لِأَنَّهُ لَوْ شُرِعَ لَمَا كَانَ اشْتِدَادُ الْحَرِّ سَبَبًا لِتَأْخِيرِهَا، بَلْ كَانَ يُسْتَغْنَى عَنْهُ بِتَعْجِيلِهَا قَبْلَ الزَّوَالِ. وَاسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ بَطَّالٍ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الْجُمُعَةِ وَقْتُ الظُّهْرِ لِأَنَّ أَنَسًا سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي جَوَابِهِ، خِلَافًا لِمَنْ أَجَازَ الْجُمُعَةَ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَفِيهِ إِزَالَةُ التَّشْوِيشِ عَنِ الْمُصَلِّي بِكُلِّ طَرِيقٍ مُحَافَظَةً عَلَى الْخُشُوعِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ السَّبَبُ فِي مُرَاعَاةِ الْإِبْرَادِ فِي الْحَرِّ دُونَ الْبَرْدِ.
18 - بَاب الْمَشْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ
وَقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} وَمَنْ قَالَ: السَّعْيُ الْعَمَلُ وَالذَّهَابُ، لِقَوْلِ الله تَعَالَى:{وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: يَحْرُمُ الْبَيْعُ حِينَئِذٍ، وَقَالَ عَطَاءٌ: تَحْرُمُ الصِّنَاعَاتُ كُلُّهَا، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ: إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهُوَ مُسَافِرٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ
907 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَايَةُ بْنُ رِفَاعَةَ قَالَ: أَدْرَكَنِي أَبُو عَبْسٍ وَأَنَا أَذْهَبُ إِلَى الْجُمُعَةِ فَقَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ.
[الحديث 907 - طرفه في: 2811]
908 -
حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، قَالَ الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَعِيدٍ، وَأَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَحَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا تَأْتُوهَا تَسْعَوْنَ، وَأْتُوهَا تَمْشُونَ عَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا.
909 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو قُتَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا عَنْ أَبِيهِ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي وَعَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْمَشْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ وَقَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} وَمَنْ قَالَ السَّعْيُ الْعَمَلُ وَالذَّهَابُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} . قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: لَمَّا قَابَلَ اللَّهُ بَيْنَ الْأَمْرِ بِالسَّعْيِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْبَيْعِ دَلَّ على أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّعْيِ الْعَمَلُ الَّذِي هُوَ الطَّاعَةُ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُقَابَلُ بِسَعْيِ الدُّنْيَا كَالْبَيْعِ وَالصِّنَاعَةِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ سَعْيُ الْآخِرَةِ، وَالْمَنْهِيَّ عَنْهُ سَعْيُ الدُّنْيَا. وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: كَانَ عُمَرُ يَقْرَؤُهَا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ فَامْضُوا وَكَأَنَّهُ فَسَّرَ السَّعْيَ بِالذَّهَابِ، قَالَ مَالِكٌ: وَإِنَّمَا السَّعْيُ الْعَمَلُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ} وَقَالَ {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى} قَالَ مَالِكٌ: وَلَيْسَ السَّعْيُ الِاشْتِدَادَ اهـ. وَقِرَاءَةُ عُمَرَ الْمَذْكُورَةُ سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي التَّفْسِيرِ. وَقَدْ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَ لَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ إِشَارَةً مِنْهُ إِلَى أَنَّ السَّعْيَ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي الْآيَةِ غَيْرُ السَّعْيِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ، وَالْحُجَّةُ فِيهِ أَنَّ السَّعْيَ فِي الْآيَةِ فُسِّرَ بِالْمُضِيِّ، وَالسَّعْيَ فِي الْحَدِيثِ فُسِّرَ بِالْعَدْوِ. لِمُقَابَلَتِهِ بِالْمَشْيِ حَيْثُ قَالَ: لَا تَأْتُوهَا تَسْعَوْنَ وَأْتُوهَا تَمْشُونَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَحْرُمُ الْبَيْعُ حِينَئِذٍ) أَيْ إِذَا نُودِيَ بِالصَّلَاةِ، وَهَذَا الْأَثَرُ ذَكَرَهُ ابْنُ حَزْمٍ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ لَا يَصْلُحُ الْبَيْعُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حِينَ يُنَادَى لِلصَّلَاةِ، فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَاشْتَرِ وَبِعْ وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، وَإِلَى الْقَوْلِ بِالتَّحْرِيمِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَابْتِدَاؤُهُ عِنْدَهُمْ مِنْ حِينِ الْأَذَانِ بَيْنَ يَدَيِ
الْإِمَامِ لِأَنَّهُ الَّذِي كَانَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا. وَرَوَى عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ مِنْ طَرِيقِ مَكْحُولٍ أَنَّ النِّدَاءَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُؤَذِّنُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مُؤَذِّنٌ وَاحِدٌ حِينَ يَخْرُجُ الْإِمَامُ، وَذَلِكَ النِّدَاءُ الَّذِي يَحْرُمُ عِنْدَهُ الْبَيْعُ، وَهُوَ مُرْسَلٌ يُعْتَضَدُ بِشَوَاهِدَ تَأْتِي قَرِيبًا. وَأَمَّا الْأَذَانُ الَّذِي عِنْدَ الزَّوَالِ فَيَجُوزُ عِنْدَهُمُ الْبَيْعُ فِيهِ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَعَنِ الْحَنَفِيَّةِ يُكْرَهُ مُطْلَقًا وَلَا يَحْرُمُ، وَهَلْ يَصِحُّ الْبَيْعُ مَعَ الْقَوْلِ بِالتَّحْرِيمِ؟ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ هَلْ يَقْتَضِي الْفَسَادَ مُطْلَقًا أَوْ لَا؟.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَطَاءٌ تَحْرُمُ الصِّنَاعَاتُ كُلُّهَا) وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِيرِهِ بِلَفْظِ إِذَا نُودِيَ بِالْأَذَانِ حَرُمَ اللَّهْوُ وَالْبَيْعُ وَالصِّنَاعَاتُ كُلُّهَا وَالرُّقَادُ وَأَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ وَأَنْ يَكْتُبَ كِتَابًا وَبِهَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ إِلَخْ) لَمْ أَرَهُ مِنْ رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ: إِنَّهُ اخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِيهِ فَقِيلَ عَنْهُ هَكَذَا، وَقِيلَ عَنْهُ مِثْلُ قَوْلِ الْجَمَاعَةِ إِنَّهُ لَا جُمُعَةَ عَلَى مُسَافِرٍ، كَذَا رَوَاهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَهُوَ كَالْإِجْمَاعِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ الزُّهْرِيَّ اخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِيهِ اهـ. وَيُمْكِنُ حَمْلُ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ عَلَى حَالَيْنِ، فَحَيْثُ قَالَ لَا جُمُعَةَ عَلَى مُسَافِرٍ أَرَادَ عَلَى طَرِيقِ الْوُجُوبِ، وَحَيْثُ قَالَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ أَرَادَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ.
وَيُمْكِنُ أَنْ تُحْمَلَ رِوَايَةُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ هَذِهِ عَلَى صُورَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَهُوَ إِذَا اتَّفَقَ حُضُورُهُ فِي مَوْضِعٍ تُقَامُ فِيهِ الْجُمُعَةُ فَسَمِعَ النِّدَاءَ لَهَا، لَا أَنَّهَا تَلْزَمُ الْمُسَافِرُ مُطْلَقًا حَتَّى يَحْرُمَ عَلَيْهِ السَّفَرُ قَبْلَ الزَّوَالِ مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي يَدْخُلُهَا مُجْتَازًا مَثَلًا، وَكَأَنَّ ذَلِكَ رَجَحَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَيَتَأَيَّدُ عِنْدَهُ بِعُمُومِ قولِهِ تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} فَلَمْ يَخُصَّ مُقِيمًا مِنْ مُسَافِرٍ، وَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَلَى سُقُوطِ الْجُمُعَةِ عَنِ الْمُسَافِرِ بِكَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا بِعَرَفَةَ وَكَانَ يَوْمَ جُمُعَةِ فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا جُمُعَةَ عَلَى مُسَافِرٍ فَهُوَ عَمَلٌ صَحِيحٌ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَدْفَعُ الصُّورَةَ الَّتِي ذَكَرْتُهَا. وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: قَرَّرَ الْبُخَارِيُّ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِثْبَاتَ الْمَشْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ مَعَ مَعْرِفَتِهِ بِقَوْلِ مَنْ فَسَّرَهَا بِالذَّهَابِ الَّذِي يَتَنَاوَلُ الْمَشْيَ وَالرُّكُوبَ، وَكَأَنَّهُ حَمَلَ الْأَمْرَ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ عَلَى عُمُومِهِ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا فَتَدْخُلُ الْجُمُعَةُ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ فَيُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي عَدَمَ الْإِسْرَاعِ فِي حَالِ السَّعْيِ إِلَى الصَّلَاةِ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ.
قَوْلُهُ: (يَزِيدُ) بِالتَّحْتَانِيَّةِ وَالزَّايِ، وَ (عَبَايَةُ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ وَهُوَ ابْنُ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ.
قَوْلُهُ: (أَدْرَكَنِي أَبُو عَبْسٍ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ، وَهُوَ ابْنُ جَبْرٍ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ.
قَوْلُهُ: (وَأَنَا أَذْهَبُ) كَذَا وَقَعَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ أَنَّ الْقِصَّةَ وَقَعَتْ لِعَبَايَةَ مَعَ أَبِي عَبْسٍ، وَعِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ بَحْرٍ وَغَيْرِهِ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ أَنَّ الْقِصَّةَ وَقَعَتْ لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ مَعَ عَبَايَةَ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ حُرَيْثٍ، عَنِ الْوَلِيدِ وَلَفْظُهُ حَدَّثَنِي يَزِيدُ قَالَ: لَحِقَنِي عَبَايَةُ بْنُ رِفَاعَةَ وَأَنَا مَاشٍ إِلَى الْجُمُعَةِ زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي رِوَايَتِهِ وَهُوَ رَاكِبٌ، فَقَالَ: احْتَسِبْ خُطَاكَ هَذِهِ وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ فَقَالَ أَبْشِرْ فَإِنَّ خُطَاكَ هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ أَبَا عَبْسِ بْنَ جَبْرٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا احْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ الْقِصَّةُ وَقَعَتْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْمَتْنِ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ، وَأَوْرَدَهُ هُنَا لِعُمُومِ قَوْلِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَدَخَلَتْ فِيهِ الْجُمُعَةُ، وَلِكَوْنِ رَاوِي الْحَدِيثِ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: وَجْهُ دُخُولِ حَدِيثِ أَبِي عَبْسٍ فِي التَّرْجَمَةِ مِنْ قَوْلِهِ أَدْرَكَنِي أَبُو عَبْسٍ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ يَعْدُو لَمَا احْتَمَلَ وَقْتَ الْمُحَادَثَةِ لِتَعَذُّرِهَا مَعَ الْجَرْيِ، وَلِأَنَّ أَبَا عَبْسٍ
جَعَلَ حُكْمَ السَّعْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ حُكْمَ الْجِهَادِ. وَلَيْسَ الْعَدْوُ مِنْ مَطَالِبِ الْجِهَادِ فَكَذَلِكَ الْجُمُعَةُ، انْتَهَى.
وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَوَاخِرِ أَبْوَابِ الْأَذَانِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي أَوَّلِ هَذَا الْبَابِ تَوْجِيهٌ إِيرَادُهُ هُنَا.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا عَنْ أَبِيهِ) انْتَهَى. أَبُو عَبْدِ اللَّهِ هَذَا هُوَ الْمُصَنِّفُ. وَقَعَ قَوْلُهُ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ، وَكَأَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَهُ تَوَقُّفٌ فِي وَصْلِهِ لِكَوْنِهِ كَتَبَهُ مِنْ حِفْظِهِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَوْصُولٌ لَا رَيْبَ فِيهِ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنِ ابْنِ نَاجِيَةَ، عَنْ أَبِي حَفْصٍ - وَهُوَ عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ - فَقَالَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ وَلَمْ يَشُكَّ، وَأَغْرَبَ الْكِرْمَانِيُّ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْإِسْنَادَ مُنْقَطِعٌ وَإِنْ حَكَمَ الْبُخَارِيُّ بِكَوْنِهِ مَوْصُولًا لِأَنَّ شَيْخَهُ لَمْ يَرْوِهِ إِلَّا مُنْقَطِعًا، انْتَهَى.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ الْأَذَانِ أَنَّ الْبُخَارِيَّ عَلَّقَ هَذِهِ الطَّرِيقَ مِنْ جِهَةِ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلشَّكِّ الَّذِي هُنَا، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْمَتْنِ أَيْضًا، وَمَوْضِعُ الْحَاجَةِ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: وَالنُّكْتَةُ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ لِئَلَّا يَكُونَ مَقَامُهُمْ سَبَبًا لِإِسْرَاعِهِ فِي الدُّخُولِ إِلَى الصَّلَاةِ فَيُنَافِيَ مَقْصُودَهُ مِنْ هَيْئَةِ الْوَقَارِ، قَالَ: وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ اسْتَشْعَرَ إِيرَادَ الْفَرْقِ بَيْنَ السَّاعِيِ إِلَى الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا بِأَنَّ السَّعْيَ إِلَى الصَّلَاةِ غَيْرِ الْجُمُعَةِ مَنْهِيٌّ لِأَجْلِ مَا يَلْحَقُ السَّاعِيَ مِنَ التَّعَبِ وَضِيقِ النَّفْسِ فَيَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ مُنْبَهِرٌ فَيُنَافِي ذَلِكَ خُشُوعَهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ السَّاعِي إِلَى الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ فِي الْعَادَةِ يَحْضُرُ قَبْلَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ فَلَا تُقَامُ حَتَّى يَسْتَرِيحَ مِمَّا يَلْحَقُهُ مِنَ الِانْبِهَارِ وَغَيْرِهِ، وَكَأَنَّهُ اسْتَشْعَرَ هَذَا الْفَرْقَ فَأَخَذَ يَسْتَدِلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا آلَ إِلَى إِذْهَابِ الْوَقَارِ مُنِعَ مِنْهُ، فَاشْتَرَكَتِ الْجُمُعَةُ مَعَ غَيْرِهَا فِي ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
19 - بَاب لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
910 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ وَدِيعَةَ، عن سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَتَطَهَّرَ بِمَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ، ثُمَّ ادَّهَنَ أَوْ مَسَّ مِنْ طِيبٍ، ثُمَّ رَاحَ فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَصَلَّى مَا كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ إِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ أَنْصَتَ، غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى.
قَوْلُهُ: (بَابُ لَا يُفَرِّقْ) أَيِ الدَّاخِلُ (بَيْنَ اثْنَيْنِ) كَذَا تَرْجَمَ وَلَمْ يُثْبِتِ الْحُكْمَ، وَقَدْ نَقَلَ الْكَرَاهَةَ عَنِ الْجُمْهُورِ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَاخْتَارَ التَّحْرِيمَ، وَبِهِ جَزَمَ النَّوَوِيُّ فِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهَا كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ، وَنَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ عَنِ النَّصِّ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْكَرَاهَةُ كَمَا جَزَمَ بِهِ الرَّافِعِيُّ، وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي الزَّجْرِ عَنِ التَّخَطِّي مُخَرَّجَةٌ فِي الْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ وَفِي غَالِبِهَا ضَعْفٌ، وَأَقْوَى مَا وَرَدَ فِيهِ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ قَالَ كُنَّا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ صَاحِبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ يَتَخَطَّى وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فَقَالَ: اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْتَ وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رَفَعَهُ وَمَنْ تَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ كَانَتْ لَهُ ظُهْرًا وَقَيَّدَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ الْكَرَاهَةَ بِمَا إِذَا كَانَ الْخَطِيبُ عَلَى الْمِنْبَرِ، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: التَّفْرِقَةُ بَيْنَ اثْنَيْنِ يَتَنَاوَلُ الْقُعُودَ بَيْنَهُمَا وَإِخْرَاجَ أَحَدِهِمَا وَالْقُعُودَ مَكَانَهُ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى مُجَرَّدِ التَّخَطِّي، وَفِي التَّخَطِّي زِيَادَةُ رَفْعِ رِجْلَيْهِ عَلَى رُءُوسِهِمَا أَوْ أَكْتَافِهِمَا، وَرُبَّمَا تَعَلَّقَ بِثِيَابِهِمَا شَيْءٌ مِمَّا بِرِجْلَيْهِ، وَقَدِ اسْتَثْنَى مِنْ كَرَاهَةِ التَّخَطِّي مَا إِذَا كَانَ فِي الصُّفُوفِ الْأُوَلِ
فُرْجَةٌ فَأَرَادَ الدَّاخِلُ سَدَّهَا فَيُغْتَفَرُ لَهُ لِتَقْصِيرِهِمْ. أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ سَلْمَانَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ الدُّهْنِ لِلْجُمُعَةِ.
20 - بَاب لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ أَخَاهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَقْعُدُ فِي مَكَانِهِ
911 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: سَمِعْتُ نَافِعًا يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقِيمَ الرَّجُلُ أَخَاهُ مِنْ مَقْعَدِهِ وَيَجْلِسَ فِيهِ. قُلْتُ لِنَافِعٍ: الْجُمُعَةَ؟ قَالَ: الْجُمُعَةَ وَغَيْرَهَا.
[الحديث 911 - طرفاه في: 6370. 6369]
قَوْلُهُ: (بَابُ لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ أَخَاهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَقْعُدُ مَكَانَهُ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ الْمُقَيَّدَةُ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ وَرَدَ فِيهَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ لَكِنَّهُ لَيْسَ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ بِلَفْظِ لَا يُقِيمَنَّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ يُخَالِفْ إِلَى مَقْعَدِهِ فِيهِ وَلَكِنْ يَقُولُ تَفَسَّحُوا وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الَّذِي يَتَخَطَّى بَعْدَ الِاسْتِئْذَانِ خَارِجٌ عَنْ حُكْمِ الْكَرَاهَةِ، وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ أَخَاهُ لَا مَفْهُومَ لَهُ بَلْ ذُكِرَ لِمَزِيدِ التَّنْفِيرِ عَنْ ذَلِكَ لِقُبْحِهِ، لِأَنَّهُ إِنْ فَعَلَهُ مِنْ جِهَةِ الْكِبْرِ كَانَ قَبِيحًا، وَإِنْ فَعَلَهُ مِنْ جِهَةِ الْأَثَرَةِ كَانَ أَقْبَحَ، وكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ اغْتَنَى عَنْهُ بِعُمُومِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ، وَبِالْعُمُومِ الْمَذْكُورِ احْتَجَّ نَافِعٌ حِينَ سَأَلَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنِ الْجُمُعَةِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ دُخُولِ هَذِهِ الصُّورَةِ فِي التَّفْرِقَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَشَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ كَمَا وَقَعَ مَنْسُوبًا فِي رِوَايَةِ أَبَي ذَرٍّ.
21 - بَاب الْأَذَانِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
912 -
حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كَانَ النِّدَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوَّلُهُ إِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ رضي الله عنهما، فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ رضي الله عنه وَكَثُرَ النَّاسُ زَادَ النِّدَاءَ الثَّالِثَ عَلَى الزَّوْرَاءِ.
[الحديث 912 - أطرافه في: 916. 915. 913]
قَوْلُهُ: (بَابُ الْأَذَانِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ) أَيْ مَتَى يُشْرَعُ.
قَوْلُهُ: (عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ) فِي رِوَايَةِ عَقِيلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ أَخْبَرَهُ، وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ سَمِعْتُ السَّائِبَ، وَسَيَأْتِيَانِ بَعْدَ هَذَا.
قَوْلُهُ: (كَانَ النِّدَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي عَامِرٍ، عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ كَانَ ابْتِدَاءُ النِّدَاءِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَلَهُ فِي رِوَايَةِ وَكِيعٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ كَانَ الْأَذَانُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ أَذَانَيْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: قَوْلُهُ أَذَانَيْنِ يُرِيدُ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ، يَعْنِي تَغْلِيبًا أَوْ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْإِعْلَامِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَبْوَابِ الْأَذَانِ.
قَوْلُهُ: (إِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي عَامِرٍ الْمَذْكُورَةِ إِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ وَإِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ وَكَذَا لِلْبَيْهَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي فُدَيْكٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ الْمَاجِشُونِ الْآتِيَةِ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَلَفْظُهُ وَكَانَ التَّأْذِينُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حِينَ يَجْلِسُ الْإِمَامُ، يَعْنِي عَلَى الْمِنْبَرِ وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْمَاجِشُونِ بِدُونِ قَوْلِهِ
يَعْنِي وَلِلنَّسَائِيِّ رِوَايَةُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ كَانَ بِلَالٌ يُؤَذِّنُ إِذَا جَلَسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ. فَإِذَا نَزَلَ أَقَامَ وَقَدْ تَقَدَّمَ نَحْوُهُ فِي مُرْسَلِ مَكْحُولٍ قَرِيبًا، قَالَ الْمُهَلَّبُ: الْحِكْمَةُ فِي جَعْلِ الْأَذَانِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ لِيَعْرِفَ النَّاسُ بِجُلُوسِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ فَيُنْصِتُونَ لَهُ إِذَا خَطَبَ، كَذَا قَالَ وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ فِي سِيَاقِ ابْنِ إِسْحَاقَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ الزُّهْرِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إنَّ بِلَالًا كَانَ يُؤَذِّنُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ
(1)
، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ لِمُطْلَقِ الْإِعْلَامِ لَا لِخُصُوصِ الْإِنْصَاتِ، نَعَمْ لَمَّا زِيدَ الْأَذَانُ الْأَوَّلُ كَانَ لِلْإِعْلَامِ، وَكَانَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيِ الْخَطِيبِ لِلْإِنْصَاتِ.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ) أَيْ خَلِيفَةً.
قَوْلُهُ: (وَكَثُرَ النَّاسُ) أَيْ بِالْمَدِينَةِ، وَصَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ الْمَاجِشُونِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ عُثْمَانَ أَمَرَ بِذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ خِلَافَتِهِ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ أَبِي ضَمْرَةَ، عَنْ يُونُسَ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ مِنْ خِلَافَتِهِ.
قَوْلُهُ: (زَادَ النِّدَاءَ الثَّالِثَ) فِي رِوَايَةِ وَكِيعٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ فَأَمَرَ عُثْمَانُ بِالْأَذَانِ الْأَوَّلِ، وَنَحْوُهُ لِلشَّافِعِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مَزِيدًا يُسَمَّى ثَالِثًا، وَبِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ جُعِلَ مُقَدَّمًا عَلَى الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ يُسَمَّى أَوَّلًا، وَلَفْظُ رِوَايَةِ عَقِيلٍ الْآتِيَةِ بَعْدَ بَابَيْنِ أَنَّ التَّأْذِينَ بِالثَّانِي أَمَرَ بِهِ عُثْمَانُ وَتَسْمِيَتُهُ ثَانِيًا أَيْضًا مُتَوَجِّهٌ بِالنَّظَرِ إِلَى الْأَذَانِ الْحَقِيقِيِّ لَا الْإِقَامَةِ.
قَوْلُهُ: (عَلَى الزَّوْرَاءِ) بِفَتْحِ الزَّايِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَبَعْدَهَا رَاءٌ مَمْدُودَةٌ، وَقَوْلُهُ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ هُوَ الْمُصَنِّفُ، وَهَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَحْدَهُ، وَمَا فَسَّرَ بِهِ الزَّوْرَاءُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَجَزَمَ ابْنُ بَطَّالٍ بِأَنَّهُ حَجَرٌ كَبِيرٌ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَابْنِ مَاجَهْ بِلَفْظِ زَادَ النِّدَاءَ الثَّالِثَ عَلَى دَارٍ فِي السُّوقِ يُقَالُ لَهَا الزَّوْرَاءُ وَفِي رِوَايَتِهِ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فَأَمَرَ بِالنِّدَاءِ الْأَوَّلِ عَلَى دَارٍ لَهُ يُقَالُ لَهَا الزَّوْرَاءُ، فَكَانَ يُؤَذَّنُ لَهُ عَلَيْهَا، فَإِذَا جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ أَذَّنَ مُؤَذِّنُهُ الْأَوَّلُ، فَإِذَا نَزَلَ أَقَامَ الصَّلَاةَ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَأَذَّنَ بِالزَّوْرَاءِ قَبْلَ خُرُوجِهِ لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ الْجُمُعَةَ قَدْ حَضَرَتْ وَنَحْوُهُ فِي مُرْسَلِ مَكْحُولٍ الْمُتَقَدِّمِ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ وَأَصْحَابَهُ كَانُوا بِالزَّوْرَاءِ، وَالزَّوْرَاءُ بِالْمَدِينَةِ عِنْدَ السُّوقِ الْحَدِيثَ، زَادَ أَبُو عَامِرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ فَثَبَتَ ذَلِكَ حَتَّى السَّاعَةِ وَسَيَأْتِي نَحْوُهُ قَرِيبًا مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ بِلَفْظِ فَثَبَتَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ النَّاسَ أَخَذُوا بِفِعْلِ عُثْمَانَ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ إِذْ ذَاكَ لِكَوْنِهِ خَلِيفَةً مُطَاعَ الْأَمْرِ، لَكِنْ ذَكَرَ الْفَاكِهَانِيُّ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَحْدَثَ الْأَذَانَ الْأَوَّلَ بِمَكَّةَ الْحَجَّاجُ وَبِالْبَصْرَةِ زِيَادٌ، وَبَلَغَنِي أَنَّ أَهْلَ الْمَغْرِبِ الْأَدْنَى الْآنَ لَا تَأْذِينَ عِنْدَهُمْ سِوَى مَرَّةٍ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: الْأَذَانُ الْأَوَّلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِدْعَةٌ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكُلُّ مَا لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِهِ يُسَمَّى بِدْعَةً، لَكِنَّ مِنْهَا مَا يَكُونُ حَسَنًا وَمِنْهَا مَا يَكُونُ بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَتَبَيَّنَ بِمَا مَضَى أَنَّ عُثْمَانَ أَحْدَثَهُ لِإِعْلَامِ النَّاسِ بِدُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ قِيَاسًا عَلَى بَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ فَأَلْحَقَ الْجُمُعَةَ بِهَا وَأَبْقَى خُصُوصِيَّتَهَا بِالْأَذَانِ بَيْنَ يَدَيِ الْخَطِيبِ، وَفِيهِ اسْتِنْبَاطُ مَعْنًى مِنَ الْأَصْلِ لَا يُبْطِلُهُ، وَأَمَّا مَا أَحْدَثَ النَّاسُ قَبْلَ وَقْتِ الْجُمُعَةِ مِنَ الدُّعَاءِ إِلَيْهَا بِالذِّكْرِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ دُونَ بَعْضٍ، وَاتِّبَاعُ السَّلَفِ الصَّالِحِ أَوْلَى.
(تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: وَرَدَ مَا
(1)
وقد أخرج أبو داود من حديث ابن اسحاق عن الزهري عن السائب بن يزيد كرواية الطبراني المذكورة وسنده جيد، إلا أن إبن إسحاق مدلس وقد رواه هاهنا بالعفة ولم يدكر ذلك وأجاد البحث فيه صاحب " عوان المعبود شرح سنن أبي داود " فراجعه إن ششئت. والله أعلم.
يُخَالِفُ هَذَا الْخَبَرَ أَنَّ عُمَرَ الَّذِي زَادَ الْأَذَانَ، فَفِي تَفْسِيرِ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ مِنْ زِيَادَةِ الرَّاوِي عَنْ بُرْدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ مُعَاذٍ أَنَّ عُمَرَ أَمَرَ مُؤَذِّنَيْنِ أَنْ يُؤَذِّنَا لِلنَّاسِ الْجُمُعَةَ خَارِجًا مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ النَّاسُ، وَأَمَرَ أَنْ يُؤَذَّنَ بَيْنَ يَدَيْهِ كَمَا كَانَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: نَحْنُ ابْتَدَعْنَاهُ لِكَثْرَةِ الْمُسْلِمِينَ انْتَهَى.
وَهَذَا مُنْقَطِعٌ بَيْنَ مَكْحُولٍ، وَمُعَاذٍ، وَلَا يَثْبُتُ لِأَنَّ مُعَاذًا كَانَ خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الشَّامِ فِي أَوَّلِ مَا غَزَوُا الشَّامَ وَاسْتَمَرَّ إِلَى أَنْ مَاتَ بِالشَّامِ فِي طَاعُونِ عَمَوَاسَ، وَقَدْ تَوَارَدَتِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ عُثْمَانَ هُوَ الَّذِي زَادَهُ فَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، ثُمَّ وَجَدْتُ لِهَذَا الْأَثَرِ مَا يُقَوِّيهِ، فَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى أَوَّلُ مَنْ زَادَ الْأَذَانَ بِالْمَدِينَةِ عُثْمَانُ، فَقَالَ عَطَاءٌ: كَلَّا، إِنَّمَا كَانَ يَدْعُو النَّاسَ دُعَاءً وَلَا يُؤَذِّنُ غَيْرَ أَذَانٍ وَاحِدٍ انْتَهَى.
وَعَطَاءٌ لَمْ يُدْرِكْ عُثْمَانَ فَرِوَايَةُ مَنْ أَثْبَتَ ذَلِكَ عَنْهُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى إِنْكَارِهِ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ عَطَاءٌ هُوَ الَّذِي كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ وَاسْتَمَرَّ عَلَى عَهْدِ عُثْمَانَ ثُمَّ رَأَى أَنْ يَجْعَلَهُ أَذَانًا، وَأَنْ يَكُونَ عَلَى مَكَانٍ عَالٍ فَفَعَلَ ذَلِكَ فَنُسِبَ إِلَيْهِ لِكَوْنِهِ بِأَلْفَاظِ الْأَذَانِ، وَتَرَكَ مَا كَانَ فَعَلَهُ عُمَرُ لِكَوْنِهِ مُجَرَّدَ إِعْلَامٍ.
الثَّانِي: تَوَارَدَتِ الشُّرَّاحُ عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: الْأَذَانَ الثَّالِثَ أَنَّ الْأَوَّلَيْنِ الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ لَكِنْ نَقَلَ الدَّاوُدِيُّ أَنَّ الْأَذَانَ أَوَّلًا كَانَ فِي سُفْلِ الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ جَعَلَ مَنْ يُؤَذِّنُ عَلَى الزَّوْرَاءِ، فَلَمَّا كَانَ هِشَامٌ - يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ - جَعَلَ مَنْ يُؤَذِّنُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَصَارُوا ثَلَاثَةً، فَسُمِّيَ فِعْلُ عُثْمَانَ ثَالِثًا لِذَلِكَ، انْتَهَى.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ يُغْنِي ذِكْرُهُ عَنْ تَكَلُّفِ رَدِّهِ، فَلَيْسَ لَهُ فِيمَا قَالَهُ سَلَفٌ، ثُمَّ هُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَتَسْمِيَةُ مَا أَمَرَ بِهِ عُثْمَانُ ثَالِثًا يَسْتَدْعِي سَبْقَ اثْنَيْنِ قَبْلَهُ، وَهِشَامٌ إِنَّمَا كَانَ بَعْدَ عُثْمَانَ بِثَمَانِينَ سَنَةً. وَاسْتَدَلَّ الْبُخَارِيُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا عَلَى الْجُلُوسِ عَلَى الْمِنْبَرِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ خِلَافًا لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَاخْتَلَفَ مَنْ أَثْبَتَهُ هَلْ هُوَ لِلْأَذَانِ أَوْ لِرَاحَةِ الْخَطِيبِ؟ فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يُسَنُّ فِي الْعِيدِ إِذْ لَا أَذَانَ هُنَاكَ.
وَاسْتُدِلَّ بِهِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ التَّأْذِينَ قُبَيْلَ الْخُطْبَةِ، وَعَلَى تَرْكِ تَأْذِينِ اثْنَيْنِ مَعًا، وَعَلَى أَنَّ الْخُطْبَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَابِقَةٌ عَلَى الصَّلَاةِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْأَذَانَ لَا يَكُونُ إِلَّا قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَإِذَا كَانَ يَقَعُ حِينَ يَجْلِسُ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ دَلَّ عَلَى سَبْقِ الْخُطْبَةِ عَلَى الصَّلَاةِ.
22 - بَاب الْمُؤَذِّنِ الْوَاحِدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
913 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ سَلَمَةَ الْمَاجِشُونُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّ الَّذِي زَادَ التَّأْذِينَ الثَّالِثَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رضي الله عنه حِينَ كَثُرَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُؤَذِّنٌ غَيْرَ وَاحِدٍ، وَكَانَ التَّأْذِينُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حِينَ يَجْلِسُ الْإِمَامُ، يَعْنِي عَلَى الْمِنْبَرِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْمُؤَذِّنِ الْوَاحِدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ الْمَذْكُورَ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ وَزَادَ فِيهِ وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُؤَذِّنٌ غَيْرُ وَاحِدٍ وَمِثْلُهُ لِلنَّسَائِيِّ، وَأَبِي دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، وَلِأَبِي دَاوُدَ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ كِلَاهُمَا عَنْ الزُّهْرِيِّ، وَفِي مُرْسَلِ مَكْحُولٍ الْمُتَقَدِّمِ نَحْوُهُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي إِرَادَةِ نَفْيِ تَأْذِينِ اثْنَيْنِ مَعًا، وَالْمُرَادُ أَنَّ الَّذِي كَانَ يُؤَذِّنُ هُوَ الَّذِي كَانَ يُقِيمُ. قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ لَعَلَّ قَوْلَهُ مُؤَذِّنٌ يُرِيدُ بِهِ التَّأْذِينَ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الْمُؤَذِّنِ لِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ. انْتَهَى.
وَمَا أَدْرَي مَا الْحَامِلُ لَهُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ؟ فَإِنَّ الْمُؤَذِّنَ الرَّاتِبَ هُوَ بِلَالٌ، وَأَمَّا أَبُو مَحْذُورَةَ، وَسَعْدٌ الْقَرَظُ فَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِمَسْجِدِهِ الَّذِي رُتِّبَ فِيهِ، وَأَمَّا ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَلَمْ يَرِدْ أَنَّهُ كَانَ يُؤَذِّنُ إِلَّا فِي الصُّبْحِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْأَذَانِ، فَلَعَلَّ الْإِسْمَاعِيلِيَّ اسْتَشْعَرَ إِيرَادَ أَحَدِ هَؤُلَاءِ فَقَالَ مَا قَالَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ مُؤَذِّنٌ وَاحِدٌ أَيْ فِي الْجُمُعَةِ
فَلَا تَرِدُ الصُّبْحَ مَثَلًا، وَعُرِفَ بِهَذَا الرَّدِّ عَلَى مَا ذَكَرَ ابْنُ حَبِيبٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا رَقِيَ الْمِنْبَرَ وَجَلَسَ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ وَكَانُوا ثَلَاثَةً وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٌ، فَإِذَا فَرَغَ الثَّالِثُ قَامَ فَخَطَبَ، فَإِنَّهُ دَعْوَى تَحْتَاجُ لِدَلِيلٍ، وَلَمْ يَرِدْ ذَلِكَ صَرِيحًا مِنْ طَرِيقٍ مُتَّصِلَةٍ يُثْبِتُ مِثْلَهَا، ثُمَّ وَجَدْتُهُ فِي مُخْتَصَرِ الْبُوَيْطِيِّ
(1)
، عَنِ الشَّافِعِيِّ.
23 - بَاب يُجِيبُ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ
914 -
حَدَّثَنَا ابْنُ مُقَاتِلٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى الْمِنْبَرِ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، قَالَ مُعَاوِيَةُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: وَأَنَا، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: وَأَنَا، فَلَمَّا أَنْ قَضَى التَّأْذِينَ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى هَذَا الْمَجْلِسِ حِينَ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ يَقُولُ مَا سَمِعْتُمْ مِنِّي مِنْ مَقَالَتِي.
قَوْلُهُ: (بَابُ يُجِيبُ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ) فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ يُؤَذِّنُ بَدَلَ يُجِيبُ، فَكَأَنَّهُ سَمَّاهُ أَذَانًا لِكَوْنِهِ بِلَفْظِهِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ حِبَّانَ، وَعَبْدَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - وَهُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ - سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ.
قَوْلُهُ: (وَأَنَا) أَيْ أَشْهَدُ، أَوْ أَنَا أَقُولُ مِثْلَهُ.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا أَنْ قَضَى) أَيْ فَرَغَ وَأَنْ زَائِدَةٌ، وَسَقَطَتْ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ، ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ فَلَمَّا أَنِ انْقَضَى أَيِ انْتَهَى. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ تَعَلُّمُ الْعِلْمِ وَتَعْلِيمُهُ مِنَ الْإِمَامِ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَأَنَّ الْخَطِيبَ يُجِيبُ الْمُؤَذِّنَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَأَنَّ قَوْلَ الْمُجِيبِ وَأَنَا كَذَلِكَ وَنَحْوَهُ يَكْفِي فِي إِجَابَةِ الْمُؤَذِّنِ، وَفِيهِ إِبَاحَةُ الْكَلَامِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْخُطْبَةِ، وَأَنَّ التَّكْبِيرَ فِي أَوَّلِ الْأَذَانِ غَيْرُ مُرَجَّعٍ وَفِيهِمَا نَظَرٌ، وَفِيهِ الْجُلُوسٌ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، وَبَقِيَّةُ مَبَاحِثهِ تَقَدَّمَتْ فِي أَبْوَابِ الْأَذَانِ.
24 - بَاب الْجُلُوسِ عَلَى الْمِنْبَرِ عِنْدَ التَّأْذِينِ
915 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ أَخْبَرَهُ أَنَّ التَّأْذِينَ الثَّانِيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَمَرَ بِهِ عُثْمَانُ حِينَ كَثُرَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ التَّأْذِينُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حِينَ يَجْلِسُ الْإِمَامُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْجُلُوسِ عَلَى الْمِنْبَرِ عِنْدَ التَّأْذِينِ) تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُ حَدِيثِ السَّائِبِ قَرِيبًا، وَمُنَاسَبَتُهُ لِلَّذِي قَبْلَهُ ظَاهِرَةٌ جِدًّا، وَأَشَارَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ إِلَى أَنَّ مُنَاسَبَةَ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ الْإِشَارَةُ إِلَى خِلَافِ مَنْ قَالَ الْجُلُوسُ عَلَى الْمِنْبَرِ عِنْدَ التَّأْذِينِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَهُوَ عَنْ بَعْضِ الْكُوفِيِّينَ، وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ: هُوَ سُنَّةٌ. قَالَ الزَّيْنُ: وَالْحِكْمَةُ فِيهِ سُكُونُ اللَّفْظِ، وَالتَّهَيُّؤُ لِلْإِنْصَاتِ، وَالِاسْتِنْصَاتُ لِسَمَاعِ الْخُطْبَةِ، وَإِحْضَارُ الذِّهْنِ لِلذِّكْرِ.
25 - بَاب التَّأْذِينِ عِنْدَ الْخُطْبَةِ
916 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ السَّائِبَ بْنَ
(1)
في المخطوطة الرياض " المزني"
يَزِيدَ يَقُولُ: إِنَّ الْأَذَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ كَانَ أَوَّلُهُ حِينَ يَجْلِسُ الْإِمَامُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ رضي الله عنهما، فَلَمَّا كَانَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ رضي الله عنه وَكَثُرُوا، أَمَرَ عُثْمَانُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالْأَذَانِ الثَّالِثِ، فَأُذِّنَ بِهِ عَلَى الزَّوْرَاءِ، فَثَبَتَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ التَّأْذِينِ عِنْدَ الْخُطْبَةِ) أَيْ عِنْدَ إِرَادَتِهَا، أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ السَّائِبِ أَيْضًا وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ.
وعَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَيُونُسُ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ.
26 - بَاب الْخُطْبَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ
وَقَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه: خَطَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ
917 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيُّ الْقُرَشِيُّ الْإِسْكَنْدَرَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمِ بْنُ دِينَارٍ: إنَّ رِجَالًا أَتَوْا سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ وَقَدْ امْتَرَوْا فِي الْمِنْبَرِ مِمَّ عُودُهُ؟ فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْرِفُ مِمَّا هُوَ، وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ أَوَّلَ يَوْمٍ وُضِعَ، وَأَوَّلَ يَوْمٍ جَلَسَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى فُلَانَةَ، امْرَأَةٍ قَدْ سَمَّاهَا سَهْلٌ، مُرِي غُلَامَكِ النَّجَّارَ أَنْ يَعْمَلَ لِي أَعْوَادًا أَجْلِسُ عَلَيْهِنَّ إِذَا كَلَّمْتُ النَّاسَ، فَأَمَرَتْهُ فَعَمِلَهَا مِنْ طَرْفَاءِ الْغَابَةِ، ثُمَّ جَاءَ بِهَا، فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَ بِهَا فَوُضِعَتْ هَاهُنَا، ثُمَّ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَيْهَا، وَكَبَّرَ وَهُوَ عَلَيْهَا، ثُمَّ رَكَعَ وَهُوَ عَلَيْهَا، ثُمَّ نَزَلَ الْقَهْقَرَى فَسَجَدَ فِي أَصْلِ الْمِنْبَرِ، ثُمَّ عَادَ، فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا صَنَعْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا، وَلِتَعَلَّمُوا صَلَاتِي.
918 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ أَنَسٍ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَانَ جِذْعٌ يَقُومُ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا وُضِعَ لَهُ الْمِنْبَرُ سَمِعْنَا لِلْجِذْعِ مِثْلَ أَصْوَاتِ الْعِشَارِ حَتَّى نَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ "
قَالَ سُلَيْمَانُ عَنْ يَحْيَى أَخْبَرَنِي حَفْصُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ
919 -
حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ مَنْ جَاءَ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ "
قَوْلُهُ: (بَابُ الْخُطْبَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ) أَيْ مَشْرُوعِيَّتِهَا، وَلَمْ يُقَيِّدْهَا بِالْجُمُعَةِ لِيَتَنَاوَلَهَا وَيَتَنَاوَلَ غَيْرَهَا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَنَسٌ خَطَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الِاعْتِصَامِ وَفِي الْفِتَنِ مُطَوَّلًا وَفِيهِ قِصَّةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ، وَمِنْ حَدِيثِهِ أَيْضًا فِي الِاسْتِسْقَاءِ فِي قِصَّةِ الَّذِي قَالَ هَلَكَ الْمَالُ وَسَيَأْتِي ثَمَّ.
قَوْلُهُ: (أَنَّ رِجَالًا أَتَوْا سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ) لَمْ أَقِفْ عَلَى أَسْمَائِهِمْ.
قَوْلُهُ: (امْتَرَوْا) مِنْ الْمُمَارَاةِ وَهِيَ الْمُجَادَلَةُ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: مِنْ الِامْتِرَاءِ وَهُوَ
الشَّكُّ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنْ تَمَارَوْا فَإِنَّ مَعْنَاهُ تَجَادَلُوا، قَالَ الرَّاغِبُ: الِامْتِرَاءُ وَالْمُمَارَاةُ الْمُجَادَلَةُ، وَمِنْهُ {فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا} وَقَالَ أَيْضًا: الْمِرْيَةُ التَّرَدُّدُ فِي الشَّيْءِ، وَمِنْهُ {فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ}
قَوْلُهُ: (وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْرِفُ مِمَّا هُوَ) فِيهِ الْقَسَمُ عَلَى الشَّيْءِ لِإِرَادَةِ تَأْكِيدِهِ لِلسَّامِعِ، وَفِي قَوْلِهِ وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ أَوَّلَ يَوْمٍ وُضِعَ، وَأَوَّلَ يَوْمٍ جَلَسَ عَلَيْهِ زِيَادَةٌ عَلَى السُّؤَالِ، لَكِنَّ فَائِدَتَهُ إِعْلَامُهُمْ بِقُوَّةِ مَعْرِفَتِهِ بِمَا سَأَلُوهُ عَنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمِنْبَرِ أَنَّ سَهْلًا قَالَ مَا بَقِيَ أَحَدٌ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي.
قَوْلُهُ: (أَرْسَلَ إِلَخْ) هُوَ شَرْحُ الْجَوَابِ.
قَوْلُهُ: (إِلَى فُلَانَةَ امْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي غَسَّانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ امْرَأَةٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْهِبَةِ، وَهُوَ وَهْمٌ مِنْ أَبِي غَسَّانَ لِإِطْبَاقِ أَصْحَابِ أَبِي حَازِمٍ عَلَى قَوْلِهِمْ: مِنَ الْأَنْصَارِ، وَكَذَا قَالَ أَيْمَنُ، عَنْ جَابِرٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى اسْمِهَا فِي بَابِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ.
قَوْلُهُ: (مُرِي غُلَامَكِ النَّجَّارَ) سَمَّاهُ عَبَّاسُ بْنُ سَهْلٍ عَنْ أَبِيهِ فِيمَا أَخْرَجَهُ قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، وَأَبُو سَعْدٍ فِي شَرَفِ الْمُصْطَفَى جَمِيعًا مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنِي عُمَارَةُ بْنُ غَزِيَّةَ عَنْهُ وَلَفْظُهُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ إِلَى خَشَبَةٍ، فَلَمَّا كَثُرَ النَّاسُ قِيلَ لَهُ: لَوْ كُنْتَ جَعَلْتَ مِنْبَرًا. قَالَ وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ نَجَّارٌ وَاحِدٌ يُقَالُ لَهُ مَيْمُونٌ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَ هَذَا السِّيَاقِ وَلَكِنْ لَمْ يُسَمِّهِ، وَفِي الطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْغِفَارِيِّ سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ يَقُولُ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ خَالٍ لِي مِنَ الْأَنْصَارِ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اخْرُجْ إِلَى الْغَابَةِ وَأْتِنِي مِنْ خَشَبِهَا فَاعْمَلْ لِي مِنْبَرًا الْحَدِيثَ. وَجَاءَ فِي صَانِعِ الْمِنْبَرِ أَقْوَالٌ أُخْرَى: أَحَدُهَا اسْمُهُ إِبْرَاهِيمُ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ جَابِرٍ. وَفِي إِسْنَادِهِ الْعَلَاءُ بْنُ مَسْلَمَةَ الرَّوَّاسُ وَهُوَ مَتْرُوكٌ، ثَانِيهَا بَاقُولٌ بِمُوَحَّدَةٍ وَقَافٍ مَضْمُومَةٍ، رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ مُنْقَطِعٍ، وَوَصَلَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمَعْرِفَةِ لَكِنْ قَالَ بَاقُومٌ آخِرُهُ مِيمٌ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ أَيْضًا. ثَالِثُهَا صُبَاحٌ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ خَفِيفَةٌ وَآخِرُهُ مُهْمَلَةٌ أَيْضًا ذَكَرَهُ ابْنُ بَشْكُوَالَ بِإِسْنَادٍ شَدِيدِ الِانْقِطَاعِ. رَابِعُهَا قَبِيصَةُ أَوْ قَبِيصَةُ الْمَخْزُومِيُّ مَوْلَاهُمْ، ذَكَرَهُ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي الصَّحَابَةِ بِإِسْنَادٍ مُرْسَلٍ.
خَامِسُهَا كِلَابٌ مَوْلَى الْعَبَّاسِ كَمَا سَيَأْتِي. سَادِسُهَا تَمِيمٌ الدَّارِيُّ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مُخْتَصَرًا وَالْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَاصِمٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا كَثُرَ لَحْمُهُ: أَلَا نَتَّخِذُ لَكَ مِنْبَرًا يَحْمِلُ عِظَامَكَ؟ قَالَ: بَلَى، فَاتَّخَذَ لَهُ مِنْبَرًا. الْحَدِيثَ وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ، فَإِنَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ إِلَيْهِ ثَمَّ، وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْطُبُ وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى جِذْعٍ فَقَالَ: إِنَّ الْقِيَامَ قَدْ شَقَّ عَلَيَّ. فَقَالَ لَهُ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ: أَلَا أَعْمَلُ لَكَ مِنْبَرًا كَمَا رَأَيْتُ يُصْنَعُ بِالشَّامِ؟ فَشَاوَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ فَرَأَوْا أَنْ يَتَّخِذَهُ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: إِنَّ لِي غُلَامًا يُقَالُ لَهُ كِلَابٌ أَعْمَلَ النَّاسَ، فَقَالَ: مُرْهُ أَنْ يَعْمَلَ. الْحَدِيثُ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ إِلَّا الْوَاقِدِيَّ. سَابِعُهَا مِينَاءُ ذَكَرَهُ ابْنُ بَشْكُوَالَ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ - هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ - عَنْ أَبِيهِ قَالَ: عَمِلَ الْمِنْبَرَ غُلَامٌ لِامْرَأَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ - أَوْ مِنْ بَنِي سَاعِدَةَ أَوِ امْرَأَةٍ لِرَجُلٍ مِنْهُمْ - يُقَالُ لَهُ مِينَاءُ انْتَهَى.
وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيُرُ فِيهِ عَلَى الْأَقْرَبِ فَيَكُونُ مِينَاءُ اسْمَ زَوْجِ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ بِخِلَافِ مَا حَكَيْنَاهُ فِي بَابِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمِنْبَرِ وَالسُّطُوحِ عَنِ ابْنِ التِّينِ أَنَّ الْمِنْبَرَ عَمِلَهُ غُلَامُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَجَوَّزْنَا أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ زَوْجَ سَعْدٍ. وَلَيْسَ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الَّتِي سُمِّيَ فِيهَا النَّجَّارُ شَيْءٌ قَوِيُّ السَّنَدِ إِلَّا حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ، وَلَيْسَ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ الَّذِي اتَّخَذَ الْمِنْبَرَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ، بَلْ قَدْ تَبَيَّنَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ
سَعْدٍ أَنَّ تَمِيمًا لَمْ يَعْمَلْهُ. وَأَشْبَهُ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ هُوَ مَيْمُونٌ لِكَوْنِ الْإِسْنَادِ مِنْ طَرِيقِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَيْضًا وَأَمَّا الْأَقْوَالُ الْأُخْرَى فَلَا اعْتِدَادَ بِهَا لِوَهَائِهَا. وَيَبْعُدُ جِدًّا أَنْ يُجْمَعَ بَيْنهَا بِأَنَّ النَّجَّارَ كَانَتْ لَهُ أَسْمَاءٌ مُتَعَدِّدَةٌ. وَأَمَّا احْتِمَالُ كَوْنِ الْجَمِيعِ اشْتَرَكُوا فِي عَمَلِهِ فَيَمْنَعُ مِنْهُ قَوْلَهُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ السَّابِقَةِ لَمْ يَكُنْ بِالْمَدِينَةِ إِلَّا نَجَّارٌ وَاحِدٌ إِلَّا إِنْ كَانَ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَاحِدِ الْمَاهِرُ فِي صِنَاعَتِهِ وَالْبَقِيَّةُ أَعْوَانُهُ فَيُمْكِنُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَوَقَعَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ وَصَحَّحَاهُ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُومُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَيُسْنِدُ ظَهْرُهُ إِلَى جِذْعٍ مَنْصُوبٍ فِي الْمَسْجِدِ يَخْطُبُ، فَجَاءَ إِلَيْهِ رُومِيٌّ فَقَالَ: أَلَا أَصْنَعُ لَكَ مِنْبَرًا. الْحَدِيثَ، وَلَمْ يُسَمِّهِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادَ بِالرُّومِيِّ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ لِأَنَّهُ كَانَ كَثِيرَ السَّفَرِ إِلَى أَرْضِ الرُّومِ. وَقَدْ عُرِفَ مِمَّا تَقَدَّمَ سَبَبُ عَمَلِ الْمِنْبَرِ، وَجَزَمَ ابْنُ سَعْدٍ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي السَّنَةِ السَّابِعَةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِذِكْرِ الْعَبَّاسِ، وَتَمِيمٍ فِيهِ وَكَانَ قُدُومُ الْعَبَّاسِ بَعْدَ الْفَتْحِ فِي آخِرِ سَنَةِ ثَمَانٍ، وَقُدُومُ تَمِيمٍ سَنَةُ تِسْعٍ. وَجَزَمَ ابْنُ النَّجَّارِ بِأَنَّ عَمَلَهُ كَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ أَيْضًا لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ فَثَارَ الْحَيَّانِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى كَادُوا أَنْ يَقْتَتِلُوا وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ، فَنَزَلَ فَخَفَّضَهُمْ حَتَّى سَكَتُوا فَإِنْ حُمِلَ عَلَى التَّجَوُّزِ فِي ذِكْرِ الْمِنْبَرِ وَإِلَّا فَهُوَ أَصَحُّ مِمَّا مَضَى.
وَحَكَى بَعْضُ أَهْلِ السِّيَرِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْطُبُ عَلَى مِنْبَرٍ مِنْ طِينٍ قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَ الْمِنْبَرَ الَّذِي مِنْ خَشَبٍ، وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَنِدُ إِلَى الْجِذْعِ إِذَا خَطَبَ، وَلَمْ يَزَلِ الْمِنْبَرُ عَلَى حَالِهِ ثَلَاثَ دَرَجَاتٍ حَتَّى زَادَهُ مَرْوَانُ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ سِتَّ دَرَجَاتٍ مِنْ أَسْفَلِهِ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ مَا حَكَاهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ بِإِسْنَادِهِ إِلَى حُمَيْدِ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ بَعَثَ مُعَاوِيَةُ إِلَى مَرْوَانَ - وَهُوَ عَامِلُهُ عَلَى الْمَدِينَةِ - أَنْ يَحْمِلَ إِلَيْهِ الْمِنْبَرَ، فَأَمَرَ بِهِ فَقُلِعَ، فَأَظْلَمَتِ الْمَدِينَةُ، فَخَرَجَ مَرْوَانُ فَخَطَبَ وَقَالَ: إِنَّمَا أَمَرَنِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ أَرْفَعَهُ، فَدَعَا نَجَّارًا، وَكَانَ ثَلَاثَ دَرَجَاتٍ فَزَادَ فِيهِ الزِّيَادَةَ الَّتِي هِيَ عَلَيْهَا الْيَوْمَ، وَرَوَاهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ قَالَ: فَكَسَفَتِ الشَّمْسُ حَتَّى رَأَيْنَا النُّجُومَ وَقَالَ فَزَادَ فِيهِ سِتَّ دَرَجَاتٍ وَقَالَ: إِنَّمَا زِدْتُ فِيهِ حِينَ كَثُرَ النَّاسُ قَالَ ابْنُ النَّجَّارِ وَغَيْرُهُ: اسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا مَا أُصْلِحَ مِنْهُ إِلَى أَنِ احْتَرَقَ مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ فَاحْتَرَقَ، ثُمَّ جَدَّدَ الْمُظَفَّرُ صَاحِبُ الْيَمَنِ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ مِنْبَرًا، ثُمَّ أَرْسَلَ الظَّاهِرُ بِيبَرْسُ بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ
(1)
مِنْبَرًا فَأُزِيلَ مِنْبَرُ الْمُظَفَّرِ، فَلَمْ يَزَلْ إِلَى هَذَا الْعَصْرِ فَأَرْسَلَ الْمَلِكُ الْمُؤَيَّدُ سَنَةَ عِشْرِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ مِنْبَرًا جَدِيدًا، وَكَانَ أَرْسَلَ فِي سَنَةِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ مِنْبَرًا جَدِيدًا إِلَى مَكَّةَ أَيْضًا، شَكَرَ اللَّهُ لَهُ صَالِحَ عَمَلِهِ آمِينَ.
قَوْلُهُ: (فَعَمِلَهَا مِنْ طَرْفَاءِ الْغَابَةِ) فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ مِنْ أَثْلَةِ الْغَابَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ، وَلَا مُغَايَرَةَ بَيْنَهُمَا فَإِنَّ الْأَثْلَ هُوَ الطَّرْفَاءُ وَقِيلَ يُشْبِهُ الطَّرْفَاءَ وَهُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ، وَالْغَابَةُ بِالْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ مَوْضِعٌ مِنْ عَوَالِي الْمَدِينَةِ جِهَةَ الشَّامِ، وَهِيَ اسْمُ قَرْيَةٍ بِالْبَحْرَيْنِ أَيْضًا، وَأَصْلُهَا كُلُّ شَجَرٍ مُلْتَفٍّ.
قَوْلُهُ: (فَأَرْسَلَتْ) أَيِ الْمَرْأَةُ تُعْلِمُ بِأَنَّهُ فَرَغَ.
قَوْلُهُ: (فَأَمَرَ بِهَا فَوُضِعَتْ) أَنَّثَ لِإِرَادَةِ الْأَعْوَادِ وَالدَّرَجَاتِ، فَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ فَعَمِلَ لَهُ هَذَا الدَّرَجَاتِ الثَّلَاثَ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى الْأَعْوَادِ، وَكَانَتْ صَلَاتُهُ عَلَى الدَّرَجَةِ الْعُلْيَا مِنَ الْمِنْبَرِ.
قَوْلُهُ: (وَكَبَّرَ وَهُوَ عَلَيْهَا ثُمَّ رَكَعَ وَهُوَ عَلَيْهَا ثُمَّ نَزَلَ الْقَهْقَرَى) لَمْ يَذْكُرِ الْقِيَامَ بَعْدَ الرُّكُوعِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَكَذَا لَمْ يَذْكُرِ الْقِرَاءَةَ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ وَلَفْظُهُ كَبَّرَ فَقَرَأَ وَرَكَعَ
(1)
في هامش طبعة بولاق"في نسخة أخرى: بعد عشرين سنة"
ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى، وَالْقَهْقَرَى بِالْقَصْرِ الْمَشْيُ إِلَى خَلْفٍ. وَالْحَامِلُ عَلَيْهِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، وَفِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فَخَطَبَ النَّاسَ عَلَيْهِ ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَكَبَّرَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَأَفَادَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ تَقَدُّمَ الْخُطْبَةِ عَلَى الصَّلَاةِ.
قَوْلُهُ: (فِي أَصْلِ الْمِنْبَرِ) أَيْ عَلَى الْأَرْضِ إِلَى جَنْبِ الدَّرَجَةِ السُّفْلَى مِنْهُ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ عَادَ) زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ
قَوْلُهُ: (وَلِتَعَلَّمُوا) بِكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ لِتَتَعَلَّمُوا، وَعُرِفَ مِنْهُ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي صَلَاتِهِ فِي أَعْلَى الْمِنْبَرِ لِيَرَاهُ مَنْ قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ رُؤْيَتُهُ إِذَا صَلَّى عَلَى الْأَرْضِ وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ فَعَلَ شَيْئًا يُخَالِفُ الْعَادَةَ أَنْ يُبَيِّنَ حِكْمَتَهُ لِأَصْحَابِهِ. وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الْخُطْبَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ لِكُلِّ خَطِيبٍ خَلِيفَةً كَانَ أَوْ غَيْرَهُ. وَفِيهِ جَوَازُ قَصْدِ تَعْلِيمِ الْمَأْمُومِينَ أَفْعَالَ الصَّلَاةِ بِالْفِعْلِ، وَجَوَازُ الْعَمَلِ الْيَسِيرِ فِي الصَّلَاةِ، وَكَذَا الْكَثِيرُ إِنْ تَفَرَّقَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ وَكَذَا فِي جَوَازِ ارْتِفَاعِ الْإِمَامِ فِي بَابِ الصَّلَاةِ فِي السُّطُوحِ. وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ اتِّخَاذِ الْمِنْبَرِ لِكَوْنِهِ أَبْلَغَ فِي مُشَاهَدَةِ الْخَطِيبِ وَالسَّمَاعِ مِنْهُ، وَاسْتِحْبَابُ الِافْتِتَاحِ بِالصَّلَاةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ جَدِيدٍ
(1)
إِمَّا شُكْرًا وَإِمَّا تَبَرُّكًا. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِنْ كَانَ الْخَطِيبُ هُوَ الْخَلِيفَةَ فَسُنَّتُهُ أَنْ يَخْطُبَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَقُومَ عَلَى الْمِنْبَرِ أَوْ عَلَى الْأَرْضِ. وَتَعَقَّبَهُ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ هَذَا خَارِجٌ عَنْ مَقْصُودِ التَّرْجَمَةِ وَلِأَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ شَيْءٍ أَحْدَثَهُ بَعْضُ الْخُلَفَاءِ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ فَهُوَ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِمْ فَهُوَ بِالْبِدْعَةِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالسُّنَّةِ.
قُلْتُ: وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ حِكْمَةُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ، أَشَارَ بِهَا إِلَى أَنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ، وَلَعَلَّ مُرَادَ مَنِ اسْتَحَبَّهُ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَرْتَفِعَ الْإِمَامُ عَنِ الْمَأْمُومِينَ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ لِمَنْ وَلِيَ الْخِلَافَةَ أَنْ يُشْرَعَ لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ، وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ وُجُودُ الِاشْتِرَاكِ فِي وَعْظِ السَّامِعِينَ وَتَعْلِيمِهِمْ بَعْضَ أُمُورِ الدِّينِ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
قَالَ سُلَيْمَانُ عَنْ يَحْيَى أَخْبَرَنِي حَفْصُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَا.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) هُوَ الْأَنْصَارِيُّ، وَابْنُ أَنَسٍ هُوَ حَفْصُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي الرِّوَايَةِ الْمُعَلَّقَةِ، وَنُسِبَ فِي هَذِهِ إِلَى جَدِّهِ، قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيُّ فِي الْأَطْرَافِ: إِنَّمَا أَبْهَمَ الْبُخَارِيُّ، حَفْصًا لِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ يَقُولُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ حَفْصٍ فَيَقْلِبُهُ. قُلْتُ: كَذَا رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ مِسْكِينٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مَرْيَمَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، وَلَكِنْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَحْوَصِ مُحَمَّدِ بْنِ الْهَيْثَمِ، عَنِ ابْنِ أَبِي مَرْيَمَ فَقَالَ عَنْ حَفْصِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَلَى الصَّوَابِ، وَقَلَبَهُ أَيْضًا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ وَقَالَ: الصَّوَابُ فِيهِ حَفْصُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ. وَفِي تَارِيخِ الْبُخَارِيِّ حَفْصُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ حَفْصٍ، وَلَا يَصِحُّ عُبَيْدُ اللَّهِ.
قَوْلُهُ: (أَصْوَاتِ الْعِشَارِ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْعِشَارُ جَمْعُ عُشَرَاءَ بِالضَّمِّ ثُمَّ الْفَتْحِ وَهِيَ النَّاقَةُ الْحَامِلُ الَّتِي مَضَتْ لَهَا عَشَرَةُ أَشْهُرٍ وَلَا يَزَالُ ذَلِكَ اسْمَهَا إِلَى أَنْ تَلِدَ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْعِشَارُ الْحَوَامِلُ مِنَ الْإِبِلِ الَّتِي قَارَبَتِ الْوِلَادَةَ. وَيُقَالُ: اللَّوَاتِي أَتَى عَلَى حَمْلِهِنَّ عَشَرَةُ أَشْهُرٍ، يُقَالُ: نَاقَةٌ عُشَرَاءُ وَنُوقٌ عِشَارٌ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ الْجِذْعِ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ سُلَيْمَانُ، عَنْ يَحْيَى، أَخْبَرَنِي حَفْصُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ) أَمَّا سُلَيْمَانُ فَهُوَ ابْنُ بِلَالٍ، وَأَمَّا يَحْيَى فَهُوَ ابْنُ سَعِيدٍ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ لِأَنَّهُ رَوَاهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، لَكِنْ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ كَثِيرٍ قَالَ فِيهِ عَنْ يَحْيَى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ جَابِرٍ كَذَلِكَ
(1)
في هذا الإستنباط نظر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم صرح في هذا الحديث أنه صلى على المنبر ليأتم به الناس ويتعلموا منه ولو كان صلى عليه للذي استنبطه الشارح لبينه. والله أعلم
أَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ أَخِيهِ سُلَيْمَانَ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَلِيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ فِيهِ شَيْخَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ) هَذَا الْقَدْرُ هُوَ الْمَقْصُودُ إِيرَادُهُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْمَتْنِ فِي بَابِ فَضْلِ الْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ لِلْخَطِيبِ تَعْلِيمَ الْأَحْكَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ.
27 - بَاب الْخُطْبَةِ قَائِمًا
وَقَالَ أَنَسٌ: بَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ قَائِمًا
920 -
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ قَائِمًا، ثُمَّ يَقْعُدُ، ثُمَّ يَقُومُ، كَمَا تَفْعَلُونَ الْآنَ.
[الحديث 920 - طرفه في 928]
قَوْلُهُ: (بَابُ الْخُطْبَةِ قَائِمًا) قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ الَّذِي حَمَلَ عَلَيْهِ جُلُّ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ ذَلِكَ، وَنَقَلَ غَيْرُهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقِيَامَ فِي الْخُطْبَةِ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَةٌ أَنَّهُ وَاجِبٌ، فَإِنْ تَرَكَهُ أَسَاءَ وَصَحَّتِ الْخُطْبَةُ، وَعِنْدَ الْبَاقِينَ أَنَّ الْقِيَامَ فِي الْخُطْبَةِ يُشْتَرَطُ لِلْقَادِرِ كَالصَّلَاةِ، وَاسْتُدِلَّ لِلْأَوَّلِ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْآتِي فِي الْمَنَاقِبِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى صلى الله عليه وسلم جَلَسَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمِنْبَرِ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ وَبِحَدِيثِ سَهْلٍ الْمَاضِي قَبْلَ مُرِي غُلَامَكِ يَعْمَلْ لِي أَعْوَادًا أَجْلِسُ عَلَيْهَا وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ كَانَ فِي غَيْرِ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ، وَعَنِ الثَّانِي بِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى الْجُلُوسِ أَوَّلَ مَا يَصْعَدُ وَبَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ، وَاسْتُدِلَّ لِلْجُمْهُورِ بِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ الْمَذْكُورِ وَبِحَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ أَنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الْحَكَمِ يَخْطُبُ قَاعِدًا، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ وَتَلَا {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ خُزَيْمَةَ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ قَطُّ إِمَامًا يَؤُمُّ الْمُسْلِمِينَ يَخْطُبُ وَهُوَ جَالِسٌ، يَقُولُ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ طَاوُسٍ خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمًا وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَأَوَّلُ مَنْ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ مُعَاوِيَةُ وَبِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْقِيَامِ، وَبِمَشْرُوعِيَّةِ الْجُلُوسِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ، فَلَوْ كَانَ الْقُعُودُ مَشْرُوعًا فِي الْخُطْبَتَيْنِ مَا احْتِيجَ إِلَى الْفَصْلِ بِالْجُلُوسِ، وَلِأَنَّ الَّذِي نُقِلَ عَنْهُ الْقُعُودُ كَانَ مَعْذُورًا. فَعِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ مُعَاوِيَةَ إِنَّمَا خَطَبَ قَاعِدًا لَمَّا كَثُرَ شَحْمُ بَطْنِهِ وَلَحْمِهِ، وَأَمَّا مَنِ احْتَجَّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ شَرْطًا مَا صَلَّى مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ مَعَ الْقَاعِدِ فَجَوَابُهُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ مَنْ صَنَعَ ذَلِكَ خَشِيَ الْفِتْنَةَ، أَوْ أَنَّ الَّذِي قَعَدَ قَعَدَ بِاجْتِهَادٍ كَمَا قَالُوا فِي إِتْمَامِ عُثْمَانَ الصَّلَاةَ فِي السَّفَرِ، وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ ثُمَّ إِنَّهُ صَلَّى خَلْفَهُ فَأَتَمَّ مَعَهُ وَاعْتَذَرَ بِأَنَّ الْخِلَافَ شَرٌّ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَنَسٌ إِلَخْ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِ الِاسْتِسْقَاءِ أَيْضًا وَسَيَأْتِي فِي بَابِهِ. ثُمَّ أَوْرَدَ فِي الْبَابِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ، وَقَدْ تَرْجَمَ لَهُ بَعْدَ بَابَيْنِ الْقَعْدَةُ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ ثَمَّ. وَفِي الْبَابِ حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْطُبُ قَائِمًا ثُمَّ يَجْلِسُ ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ قَائِمًا، فَمَنْ نَبَّأَكَ أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ جَالِسًا فَقَدْ كَذَبَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَهُوَ أَصْرَحُ فِي الْمُوَاظَبَةِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ إِلَّا أَنَّ إِسْنَادَهُ لَيْسَ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ قَالَ أَوَّلُ مَنْ خَطَبَ قَاعِدًا مُعَاوِيَةُ حِينَ كَثُرَ شَحْمُ بَطْنِهِ وَهَذَا مُرْسَلٌ، يُعَضِّدُهُ مَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ أَوَّلُ مَنِ اسْتَرَاحَ فِي الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عُثْمَانُ، وَكَانَ إِذَا أَعْيَا جَلَسَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ حَتَّى يَقُومَ، وَأَوَّلُ مَنْ خَطَبَ جَالِسًا مُعَاوِيَةُ وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ كَانُوا يَخْطُبُونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، حَتَّى شَقَّ عَلَى عُثْمَانَ الْقِيَامُ فَكَانَ يَخْطُبُ قَائِمًا ثُمَّ يَجْلِسُ، فَلَمَّا كَانَ مُعَاوِيَةُ خَطَبَ الْأُولَى جَالِسًا وَالْأُخْرَى قَائِمًا وَلَا حُجَّةَ فِي ذَلِكَ
لِمَنْ أَجَازَ الْخُطْبَةَ قَاعِدًا لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ.
28 - بَاب يَسْتَقْبِلُ الْإِمَامُ الْقَوْمَ، وَاسْتِقْبَالِ النَّاسِ الْإِمَامَ إِذَا خَطَبَ
وَاسْتَقْبَلَ ابْنُ عُمَرَ، وَأَنَسٌ رضي الله عنهم الْإِمَامَ
921 -
حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ هِلَالِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ، حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَلَسَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ.
[الحديث 921 - أطرافه في: 6427. 2842. 1465]
قَوْلُهُ: (بَابُ اسْتِقْبَالِ النَّاسِ الْإِمَامَ إِذَا خَطَبَ) زَادَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ فِي أَوَّلِ التَّرْجَمَةِ يَسْتَقْبِلُ الْإِمَامُ الْقَوْمَ وَلَمْ يَبُتَّ الْحُكْمَ وَهُوَ مُسْتَحَبُّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَفِي وَجْهٍ يَجِبُ، جَزَمَ بِهِ أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ فَإِنْ فَعَلَ أَجْزَأَ، وَقِيلَ: لَا، ذَكَرَهُ الشَّاشِيُّ، وَنُقِلَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ أَنَّ الِالْتِفَاتَ يَمِينًا وَشِمَالًا مَكْرُوهٌ اتِّفَاقًا إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: لَا يَصِحُّ، وَمِنْ لَازِمِ الِاسْتِقْبَالِ اسْتِدْبَارُ الْإِمَامِ الْقِبْلَةَ، وَاغْتُفِرَ لِئَلَّا يَصِيرَ مُسْتَدْبِرَ الْقَوْمِ الَّذِينَ يَعِظُهُمْ وَمِنْ حِكْمَةِ اسْتِقْبَالِهِمْ لِلْإِمَامِ التَّهَيُّؤُ لِسَمَاعِ كَلَامِهِ وَسُلُوكُ الْأَدَبِ مَعَهُ فِي اسْتِمَاعِ كَلَامِهِ، فَإِذَا اسْتَقْبَلَهُ بِوَجْهِهِ وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ بِجَسَدِهِ وَبِقَلْبِهِ وَحُضُورِ ذِهْنِهِ كَانَ أَدْعَى لِتَفَهُّمِ مَوْعِظَتِهِ وَمُوَافَقَتِهِ فِيمَا شُرِعَ لَهُ الْقِيَامُ لِأَجْلِهِ.
قَوْلُهُ: (وَاسْتَقْبَلَ ابْنُ عُمَرَ، وَأَنَسٌ الْإِمَامَ) أَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: ذَكَرْتُ لِلَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ فَأَخْبَرَنِي عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَفْرُغُ مِنْ سُبْحَتِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ خُرُوجِ الْإِمَامِ، فَإِذَا خَرَجَ لَمْ يَقْعُدِ الْإِمَامُ حَتَّى يَسْتَقْبِلَهُ. وَأَمَّا أَنَسٌ فَرَوَيْنَاهُ فِي نُسْخَةِ نُعَيْمٍ
(1)
بْنِ حَمَّادٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَخَذَ الْإِمَامُ فِي الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَسْتَقْبِلُهُ بِوَجْهِهِ حَتَّى يَفْرُغَ مِنَ الْخُطْبَةِ، وَرَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ جَاءَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَاسْتَنَدَ إِلَى الْحَائِطِ وَاسْتَقْبَلَ الْإِمَامَ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. وَحَكَى غَيْرُهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنِ شَيْئًا مُحْتَمَلًا، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا يَصِحُّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ شَيْءٌ، يَعْنِي صَرِيحًا. وَقَدِ اسْتَنْبَطَ الْمُصَنِّفُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَلَسَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمِنْبَرِ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ مَقْصُودُ التَّرْجَمَةِ، وَهُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ سَيَأْتِي بِهَذَا الْإِسْنَادِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ فِي بَابِ الصَّدَقَةِ عَلَى الْيَتَامَى، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الرِّقَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّ جُلُوسَهُمْ حَوْلَهُ لِسَمَاعِ كَلَامِهِ يَقْتَضِي نَظَرَهُمْ إِلَيْهِ غَالِبًا، وَلَا يُعَكِّرُ عَلَى ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْقِيَامِ فِي الْخُطْبَةِ لِأَنَّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَتَحَدَّثُ وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى مَكَانٍ عَالٍ وَهُمْ جُلُوسٌ أَسْفَلَ مِنْهُ، وإِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ حَالِ الْخُطْبَةِ كَانَ حَالُ الْخُطْبَةِ أَوْلَى لِوُرُودِ الْأَمْرِ بِالِاسْتِمَاعِ لَهَا وَالْإِنْصَاتِ عِنْدَهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
29 - بَاب مَنْ قَالَ فِي الْخُطْبَةِ بَعْدَ الثَّنَاءِ: أَمَّا بَعْدُ
رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
922 -
وَقَالَ مَحْمُودٌ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ قَالَ: أَخْبَرَتْنِي فَاطِمَةُ بِنْتُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ
(1)
في طبعة بولاق: في نسخة أخرى " من نسخة شيخة نعيم"
بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ قُلْتُ: مَا شَأْنُ النَّاسِ؟ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا إِلَى السَّمَاءِ، فَقُلْتُ آيَةٌ؟ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أَيْ نَعَمْ، قَالَتْ: فَأَطَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جِدًّا حَتَّى تَجَلَّانِي الْغَشْيُ وَإِلَى جَنْبِي قِرْبَةٌ فِيهَا مَاءٌ، فَفَتَحْتُهَا فَجَعَلْتُ أَصُبُّ مِنْهَا عَلَى رَأْسِي، فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ تَجَلَّتْ الشَّمْسُ، فَخَطَبَ النَّاسَ وَحَمِدَ اللَّهَ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، قَالَتْ: وَلَغَطَ نِسْوَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَانْكَفَأْتُ إِلَيْهِنَّ لِأُسَكِّتَهُنَّ، فَقُلْتُ لِعَائِشَةَ: مَا قَالَ؟ قَالَتْ: قَالَ: مَا مِنْ شَيْءٍ لَمْ أَكُنْ أُرِيتُهُ إِلَّا قَدْ رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي هَذَا حَتَّى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَإِنَّهُ قَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ مِثْلَ، أَوْ قَرِيبَ، مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، يُؤْتَى أَحَدُكُمْ فَيُقَالُ لَهُ: مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ، أَوْ قَالَ الْمُوقِنُ شَكَّ هِشَامٌ، فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ، هُوَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، فَآمَنَّا وَأَجَبْنَا وَاتَّبَعْنَا وَصَدَّقْنَا، فَيُقَالُ لَهُ: نَمْ صَالِحًا، قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ إِنْ كُنْتَ لَتُؤْمِنُ بِهِ، وَأَمَّا الْمُنَافِقُ، أَوْ قَالَ الْمُرْتَابُ شَكَّ هِشَامٌ، فَيُقَالُ لَهُ: مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُ، قَالَ هِشَامٌ: فَلَقَدْ قَالَتْ لِي فَاطِمَةُ: فَأَوْعَيْتُهُ، غَيْرَ أَنَّهَا ذَكَرَتْ مَا يُغَلِّظُ عَلَيْهِ.
923 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِمَالٍ أَوْ سَبْيٍ فَقَسَمَهُ، فَأَعْطَى رِجَالًا وَتَرَكَ رِجَالًا، فَبَلَغَهُ أَنَّ الَّذِينَ تَرَكَ عَتَبُوا، فَحَمِدَ اللَّهَ، ثُمَّ أَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ، وَالَّذِي أَدَعُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ الَّذِي أُعْطِي، وَلَكِنْ أُعْطِي أَقْوَامًا لِمَا أَرَى فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْجَزَعِ وَالْهَلَعِ، وَأَكِلُ أَقْوَامًا إِلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْغِنَى وَالْخَيْرِ، فِيهِمْ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ، فَوَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِكَلِمَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حُمْرَ النَّعَمِ. تَابَعَهُ يُونُسُ.
[الحديث 923 - طرفاه في: 7535. 3145]
924 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ ذَاتَ لَيْلَةٍ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ، فَصَلَّى رِجَالٌ بِصَلَاتِهِ، فَأَصْبَحَ النَّاسُ، فَتَحَدَّثُوا، فَاجْتَمَعَ أَكْثَرُ مِنْهُمْ، فَصَلَّوْا مَعَهُ، فَأَصْبَحَ النَّاسُ، فَتَحَدَّثُوا، فَكَثُرَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ مِنْ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّوْا بِصَلَاتِهِ، فَلَمَّا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الرَّابِعَةُ عَجَزَ الْمَسْجِدُ عَنْ أَهْلِهِ حَتَّى خَرَجَ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ، فَلَمَّا قَضَى الْفَجْرَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَتَشَهَّدَ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ مَكَانُكُمْ، لَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ فَتَعْجِزُوا عَنْهَا. تَابَعَهُ يُونُسُ.
925 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُ
أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ عَشِيَّةً بَعْدَ الصَّلَاةِ فَتَشَهَّدَ وَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ. تَابَعَهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ وَأَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَمَّا بَعْدُ. تَابَعَهُ الْعَدَنِيُّ عَنْ سُفْيَانَ فِي أَمَّا بَعْدُ.
[الحديث 925 - أطرافه في: 7197. 7174. 6979. 6636. 2597. 1500]
926 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ، عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَمِعْتُهُ حِينَ تَشَهَّدَ يَقُولُ: أَمَّا بَعْدُ. تَابَعَهُ الزُّبَيْدِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ.
[الحديث 926 - أطرافه في: 3110، 3714، 3767، 5230، 5278]
قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ الزُّبَيْدِيُّ) وَصَلَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُسْنَدِ الشَّامِيِّينَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَالِمٍ الْحِمْصِيِّ عَنْهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِتَمَامِهِ.
927 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْغَسِيلِ قَالَ: حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: صَعِدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمِنْبَرَ، وَكَانَ آخِرَ مَجْلِسٍ جَلَسَهُ مُتَعَطِّفًا مِلْحَفَةً عَلَى مَنْكِبَيْهِ، قَدْ عَصَبَ رَأْسَهُ بِعِصَابَةٍ دَسِمَةٍ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِلَيَّ، فَثَابُوا إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ هَذَا الْحَيَّ مِنْ الْأَنْصَارِ يَقِلُّونَ وَيَكْثُرُ النَّاسُ، فَمَنْ وَلِيَ شَيْئًا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَطَاعَ أَنْ يَضُرَّ فِيهِ أَحَدًا أَوْ يَنْفَعَ فِيهِ أَحَدًا فَلْيَقْبَلْ مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَيَتَجَاوَزْ عَنْ مُسِيِّئهِمْ.
[الحديث 927 - طرفاه في: 3800. 3628]
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ قَالَ فِي الْخُطْبَةِ بَعْدَ الثَّنَاءِ: أَمَّا بَعْدُ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مَنْ مَوْصُولَةً بِمَعْنَى الَّذِي وَالْمُرَادُ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَمَا فِي أَخْبَارِ الْبَابِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ فَقَدْ أَصَابَ السُّنَّةَ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَيَنْبَغِي لِلْخُطَبَاءِ أَنْ يَسْتَعْمِلُوهَا تَأَسِّيًا وَاتِّبَاعًا اهـ مُلَخَّصًا. وَلَمْ يَجِدِ الْبُخَارِيُّ فِي صِفَةِ خُطْبَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْجُمُعَةِ حَدِيثًا عَلَى شَرْطِهِ، فَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الثَّنَاءِ، وَاللَّفْظُ الَّذِي وُضِعَ لِلْفَصْلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا بَعْدَهُ مِنْ مَوْعِظَةٍ وَنَحْوِهَا. قَالَ سِيبَوَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ مَعْنَاهَا مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ هُوَ الزَّجَّاجُ: إِذَا كَانَ الرَّجُلُ فِي حَدِيثٍ فَأَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ بِغَيْرِهِ قَالَ أَمَّا بَعْدُ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ لِأَنَّهُ مِنَ الظُّرُوفِ الْمَقْطُوعَةِ عَنِ الْإِضَافَةِ، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ أَمَّا الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ كَذَا، وَأَمَّا بَعْدُ فَكَذَا. وَلَا يَلْزَمُ فِي قَسْمِهِ أَنْ يُصَرِّحَ بِلَفْظٍ، بَلْ يَكْفِي مَا يَقُومُ مَقَامَهُ. وَاخْتُلِفَ فِي أَوَّلِ مَنْ قَالَهَا، فَقِيلَ دَاوُدُ عليه السلام رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ مَوْقُوفًا أَنَّهَا فَصْلُ الْخِطَابِ الَّذِي أُعْطِيهِ دَاوُدُ، وَأَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ فَزَادَ فِيهِ عَنْ زِيَادِ بْنِ سُمَيَّةَ. وَقِيلَ: أَوَّلُ مَنْ قَالَهَا يَعْقُوبُ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدٍ رَوَاهُ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ.
وَقِيلَ: أَوَّلُ مَنْ قَالَهَا يَعْرُبُ بْنُ قَحْطَانَ، وَقِيلَ كَعْبُ بْنُ لُؤَيٍّ أَخْرَجَهُ الْقَاضِي أَبُو أَحْمَدَ الْغَسَّانِيُّ
(1)
مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، وَقِيلَ سَحْبَانُ بْنُ وَائِلٍ، وَقِيلَ قُسُّ بْنُ سَاعِدَةَ، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ بِأَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَوَّلِيَّةِ الْمَحْضَةِ، وَالْبَقِيَّةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَرَبِ خَاصَّةً، ثُمَّ يُجْمَعُ بَيْنَهَا
(1)
في مخطوطة الرياض"الغسال"
بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقَبَائِلِ.
قَوْلُهُ: (رَوَاهُ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) سَيَأْتِي مَوْصُولًا آخِرَ الْبَابِ. ثُمَّ أَوْرَدَ فِي الْبَابِ أَيْضًا سِتَّةَ أَحَادِيثَ ظَاهِرَةَ الْمُنَاسَبَةِ لِمَا تَرْجَمَ لَهُ: أَوَّلُهَا حَدِيثُ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ، وَفِيهِ فَحَمِدَ اللَّهَ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ فِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْكُسُوفِ، وَذَكَرَهُ هُنَا عَنْ مَحْمُودٍ وَهُوَ ابْنُ غَيْلَانَ أَحَدُ شُيُوخِهِ بِصِيغَةِ قَالَ مَحْمُودٌ وَكَلَامُ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ قَالَ حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ.
ثَانِيهَا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ تَغْلِبَ - وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ - وَفِيهِ فَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ أَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْخُمُسِ، وَوَقَعَ هُنَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ تَابَعَهُ يُونُسُ وَهُوَ ابْنُ عُبَيْدٍ. وَقَدْ وَصَلَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي مُسْنَدِ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ لَهُ بِإِسْنَادِهِ عَنْهُ عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَمْرٍو. ثَالِثُهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ صَلَاةِ اللَّيْلِ وَفِيهِ فَتَشَهَّدَ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَبْوَابِ التَّطَوُّعِ.
قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ يُونُسُ) هُوَ ابْنُ يَزِيدَ ; وَقَدْ وَصَلَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِهِ بِتَمَامِهِ، وَكَلَامُ الْمِزِّيِّ فِي الْأَطْرَافِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ يُونُسَ إِنَّمَا تَابَعَ شُعَيْبًا فِي أَمَّا بَعْدُ فَقَطْ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. رابعُهَا: حديثُ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ عَشِيَّةً بَعْدَ الصَّلَاةِ فَتَشَهَّدَ وَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ. هَكَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا بِتَمَامِهِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ، وَفِيهِ قِصَّةُ ابْنِ اللُّتَّبِيَّةِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ تَامًّا فِي الزَّكَاةِ.
قَوْلُهُ: (تَابِعَهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ وَأَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ يَعْنِي ابْنَ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي حَمِيدٍ وَقَدْ وَصَلَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ وَأَبِي مُعَاوِيَةَ وَغَيْرِهِمَا مُفَرَّقًا، وَأَوْرَدَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ يُوسُفَ ابن مُوسَى، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، وَوَكِيعٌ وَأَبُو أُسَامَةَ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ قَالُوا: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ بِهِ، وَقَدْ وَصَلَ الْمُصَنَّفُ رِوَايَةَ أَبِي أُسَامَةَ فِي الزَّكَاةِ أَيْضًا بِاخْتِصَارٍ.
قَوْلُهُ: (وَتَابَعَهُ الْعَدَنِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْعَدَنِيُّ هُوَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْوَلِيدِ، وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَفِيهِ قَوْلُهُ: أَمَّا بَعْدُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْعَدَنِيُّ هُوَ مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى بْنِ أَبِي عُمَرَ، وَسُفْيَانُ هُوَ ابْنَ عُيَيْنةَ، وَقَدْ وَصَلَهُ مُسْلِمٌ عَنْهُ وَأَحَالَ بِهِ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ فِيهَا قَوْلَهُ: أَمَّا بَعْدُ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا، وَلَمْ أَرَهُ مَعَ ذَلِكَ فِي مُسْنَدِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ. خَامِسُهَا: حَدِيثُ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَمِعْتُهُ حِينَ تَشَهَّدَ يَقُولُ: أَمَّا بَعْدُ وَهَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِهِ فِي قِصَّةِ خُطْبَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِنْتِ أَبِي جَهْلٍ، وَسَيَأْتِي بِتَمَامِهِ فِي الْمَنَاقِبِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ ثَمَّ.
سادسها حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ صَعِدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمِنْبَرَ وَكَانَ - أَيْ صُعُودُهُ - آخِرَ مَجْلِسٍ جَلَسَهُ الْحَدِيثَ وَفِيهِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَفِيهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ وَسَيَأْتِي فِي فَضَائِلِ الْأَنْصَارِ بِتَمَامِهِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي الْبَابِ مِمَّا لَمْ يَذْكُرْهُ عَنْ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ، وَعَنْ أَبِي سُفْيَانَ فِي الْكِتَابِ إِلَى هِرَقْلَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا، وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ وَعَلَا صَوْتُهُ. الْحَدِيثَ وَفِيهِ فَيَقُولُ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْهُ كَانَ خُطْبَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ ثُمَّ يَقُولُ عَلَى أَثَرِ ذَلِكَ وَقَدْ عَلَا صَوْتُهُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ يَقُولُ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَهَذَا أَلْيَقُ بِمُرَادِ الْمُصَنِّفِ لِلتَّنْصِيصِ فِيهِ عَلَى الْجُمُعَةِ، لَكِنَّهُ لَيْسَ عَلَى شَرْطِهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ. وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ أَمَّا بَعْدُ لَا تَخْتَصُّ بِالْخُطَبِ، بَلْ تُقَالُ أَيْضًا فِي صُدُورِ الرَّسَائِلِ وَالْمُصَنَّفَاتِ، وَلَا اقْتِصَارَ عَلَيْهَا فِي إِرَادَةِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ، بَلْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ
لَفْظُ هَذَا وَإِنَّ
(1)
وَقَدْ كَثُرَ اسْتِعْمَالُ الْمُصَنِّفِينَ لَهَا بِلَفْظِ وَبَعْدُ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّرَ بِهَا كَلَامَهُ فَيَقُولُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ أَمَّا بَعْدُ حَمْدِ اللَّهِ فَإِنَّ الْأَمْرَ كَذَا وَلَا حَجْرَ فِي ذَلِكَ.
وَقَدْ تَتَبَّعَ طُرُقَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا أَمَّا بَعْدُ الْحَافِظُ عَبْدُ الْقَادِرِ الرَّهَاوِيُّ فِي خُطْبَةِ الْأَرْبَعِينَ الْمُتَبَايِنَةِ لَهُ فَأَخْرَجَهُ عَنِ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ صَحَابِيًّا. مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَطَبَ خُطْبَةً قَالَ: أَمَّا بَعْدُ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَظَاهِرُهُ الْمُوَاظَبَةُ عَلَى ذَلِكَ.
30 - بَاب الْقَعْدَةِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
928 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ يَقْعُدُ بَيْنَهُمَا.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْقَعْدَةِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: لَمْ يُصَرِّحْ بِحُكْمِ التَّرْجَمَةِ لِأَنَّ مُسْتَنَدَ ذَلِكَ الْفِعْلُ وَلَا عُمُومَ لَهُ اهـ. وَلَا اخْتِصَاصَ بِذَلِكَ لِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِحُكْمِ غَيْرِهَا مِنْ أَحْكَامِ الْجُمُعَةِ، وَظَاهِرُ صَنِيعِهِ أَنَّهُ يَقُولُ بِوُجُوبِهَا كَمَا يَقُولُ بِهِ فِي أَصْلِ الْخُطْبَةِ.
قَوْلُهُ: (يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ يَقْعُدُ بَيْنَهُمَا) مُقْتَضَاهُ أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُهُمَا قَائِمًا، وَصَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَبْلُ بِبَابَيْنِ وَلَفْظُهُ كَانَ يَخْطُبُ قَائِمًا ثُمَّ يَقْعُدُ ثُمَّ يَقُومُ وَلِلنَّسَائِيِّ، وَالدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَانَ يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ قَائِمًا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِجُلُوسٍ وَغَفَلَ صَاحِبُ الْعُمْدَةِ فَعَزَا هَذَا اللَّفْظَ لِلصَّحِيحَيْنِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِلَفْظِ كَانَ يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ: كَانَ يَجْلِسُ إِذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ حَتَّى يَفْرُغَ الْمُؤَذِّنُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ، ثُمَّ يَجْلِسُ فَلَا يَتَكَلَّمُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ وَاسْتُفِيدَ مِنْ هَذَا أَنَّ حَالَ الْجُلُوسِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ لَا كَلَامَ فِيهِ، لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ نَفْيُ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ أَوْ يَدْعُوَهُ سِرًّا. وَاسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ فِي إِيجَابِ الْجُلُوسِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ لِمُوَاظَبَتِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ مَعَ قَوْلِهِ صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى ثُبُوتِ أَنَّ إِقَامَةَ الْخُطْبَتَيْنِ دَاخِلٌ تَحْتَ كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ، وَإِلَّا فَهُوَ اسْتِدْلَالٌ بِمُجَرَّدِ الْفِعْلِ. وَزَعَمَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ تَفَرَّدَ بِذَلِكَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ مَحْكِيٌّ عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا فِي رِوَايَةٍ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ نَقَلَهُ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ، وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ عَارَضَ الشَّافِعِيَّ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَاظَبَ عَلَى الْجُلُوسِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ الْأُولَى، فَإِنْ كَانَتْ مُوَاظَبَتُهُ دَلِيلًا عَلَى شَرْطِيَّةِ الْجِلْسَةِ الْوُسْطَى فَلْتَكُنْ دَلِيلًا عَلَى شَرْطِيَّةِ الْجِلْسَةِ الْأُولَى، وَهَذَا مُتَعَقَّبٌ بِأَنَّ جُلَّ الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ لَيْسَتْ فِيهَا هَذِهِ الْجِلْسَةُ الْأُولَى وَهِيَ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ الْعُمَرِيِّ الْمُضَعَّفِ فَلَمْ تَثْبُتِ الْمُوَاظَبَةُ عَلَيْهَا، بِخِلَافِ الَّتِي بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي: لَمْ يُوجِبْهَا أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ لِأَنَّهَا جِلْسَةٌ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرٌ مَشْرُوعٌ فَلَمْ تَجِبْ، وَقَدَّرَهَا مَنْ قَالَ بِوُجُوبِهَا بِقَدْرِ جِلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ وَبِقَدْرِ مَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْإِخْلَاصِ. وَاخْتُلِفَ فِي حِكْمَتِهَا فَقِيلَ: لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ، وَقِيلَ: لِلرَّاحَةِ وَعَلَى الْأَوَّلِ - وَهُوَ الْأَظْهَرُ - يَكْفِي السُّكُوتُ بِقَدْرِهَا، وَيَظْهَرُ أَثَرُ الْخِلَافِ أَيْضًا فِيمَنْ خَطَبَ قَاعِدًا لِعَجْزِهِ عَنِ الْقِيَامِ. وَقَدْ أَلْزَمَ الطَّحَاوِيُّ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الْجُلُوسِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ أَنْ يُوجِبَ الْقِيَامَ فِي الْخُطْبَتَيْنِ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا اقْتَصَرَ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ وَاحِدٍ. وَتَعَقَّبَهُ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
(1)
يشير الشارح بهذا إلى قوله تعالى في سورة ص {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} ومقصوة أن قوله تعالى {هذا وإن} بمنزلة " أما بعد " والله أعلم
31 - بَاب الِاسْتِمَاعِ إِلَى الْخُطْبَةِ
929 -
حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْأَغَرِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَقَفَتْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ يَكْتُبُونَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، وَمَثَلُ الْمُهَجِّرِ كَمَثَلِ الَّذِي يُهْدِي بَدَنَةً، ثُمَّ كَالَّذِي يُهْدِي بَقَرَةً، ثُمَّ كَبْشًا، ثُمَّ دَجَاجَةً، ثُمَّ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ طَوَوْا صُحُفَهُمْ وَيَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ.
[الحديث 929 - طرفه في: 3211]
قَوْلُهُ: (بَابُ الِاسْتِمَاعِ) أَيِ الْإِصْغَاءِ لِلسَّمَاعِ، فَكُلُّ مُسْتَمِعٍ سَامِعٌ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، وَأَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِيهِ حَدِيثَ كِتَابَةِ الْمَلَائِكَةِ مَنْ يُبَكِّرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَفِيهِ فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ طَوَوْا صُحُفَهُمْ وَيَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ فَضْلِ الْجُمُعَةِ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْعَ الْكَلَامِ مِنِ ابْتِدَاءِ الْإِمَامِ فِي الْخُطْبَةِ لِأَنَّ الِاسْتِمَاعَ لَا يَتَّجِهُ إِلَّا إِذَا تَكَلَّمَ. وَقَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ: يَحْرُمُ الْكَلَامُ مِنِ ابْتِدَاءِ خُرُوجِ الْإِمَامِ، وَوَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ سَنَذْكُرُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
32 - باب إِذَا رَأَى الْإِمَامُ رَجُلًا جَاءَ وَهُوَ يَخْطُبُ أَمَرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ
930 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ: أَصَلَّيْتَ يَا فُلَانُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: قُمْ فَارْكَعْ.
[الحديث 930 - طرفاه في: 1166. 931]
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا رَأَى الْإِمَامُ رَجُلًا جَاءَ وَهُوَ يَخْطُبُ أَمَرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ) أَيْ إِذَا كَانَ لَمْ يُصَلِّهِمَا قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) صَرَّحَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ بِسَمَاعِ عَمْرٍو لَهُ مِنْ جَابِرٍ.
قَوْلُهُ: (جَاءَ رَجُلٌ) هُوَ سُلَيْكٌ بِمُهْمَلَةٍ مُصَغَّرًا ابْنُ هُدْيةَ وَقِيلَ ابْنُ عَمْرٍو الْغَطَفَانِيُّ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا فَاءٌ مِنْ غَطَفَانَ بْنِ سَعْدِ بْنِ قَيْسِ عَيْلَانَ، وَوَقَعَ مُسَمًّى فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ بِلَفْظِ جَاءَ سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيُّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَعَدَ سُلَيْكٌ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَقَالَ لَهُ: أَصَلَّيْتَ رَكْعَتَيْنِ؟ فَقَالَ: لَا. فَقَالَ: قُمْ فَارْكَعْهُمَا وَمِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ نَحْوُهُ وَفِيهِ فَقَالَ لَهُ: يَا سُلَيْكُ، قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا هَكَذَا رَوَاهُ حُفَّاظُ أَصْحَابِ الْأَعْمَشِ عَنْهُ، وَوَافَقَهُ الْوَلِيدُ أَبُو بِشْرٍ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالدَّارَقُطْنِيِّ، وَشَذَّ مَنْصُورُ بْنُ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فَقَالَ: جَاءَ النُّعْمَانُ بْنُ نَوْفَلٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: وَهِمَ فِيهِ مَنْصُورٌ يَعْنِي فِي تَسْمِيَةِ الْآتِي، وَقَدْ رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ يُحَدِّثُ بِحَدِيثِ سُلَيْكٍ الْغَطَفَانِيِّ، ثُمَّ سَمِعْتُ أَبَا سُفْيَانَ يُحَدِّثُ بِهِ عَنْ جَابِرٍ، فَتَحَرَّرَ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ لِسُلَيْكٍ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ
صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَخْطُبُ فَقَالَ لِأَبِي ذَرٍّ: صَلَّيْتَ رَكْعَتَيْنِ؟ قَالَ: لَا.
الْحَدِيثَ، وَفِي إِسْنَادِهِ ابْنُ لَهِيعَةَ، وَشَذَّ بِقَوْلِهِ وَهُوَ يَخْطُبُ فَإِنَّ الْحَدِيثَ مَشْهُورٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ، أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ. وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ قَيْسٍ الْمَسْجِدَ فَذَكَرَ نَحْوَ قِصَّةِ سُلَيْكٍ، فَلَا يُخَالِفُ كَوْنَهُ سُلَيْكًا فَإِنَّ غَطَفَانَ مِنْ قَيْسٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ شُيُوخِنَا غَايَرَ بَيْنَهُمَا وَجَوَّزَ أَنْ تَكُونَ الْوَاقِعَةُ تَعَدَّدَتْ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ لِي ذَلِكَ. وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى الْأَعْمَشِ اخْتِلَافًا آخَرَ رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ عَنْهُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ سُلَيْكٍ فَجَعَلَ الْحَدِيثَ مِنْ مُسْنَدِ سُلَيْكٍ، قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَهُ عَنِ الثَّوْرِيِّ هَكَذَا غَيْرَ الْفِرْيَابِيِّ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ خَالِدٍ اهـ. وَقَدْ قَالَهُ عَنْهُ أَيْضًا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْرَجَهُ هَكَذَا فِي مُصَنَّفِهِ وَأَحْمَدُ عَنْهُ وَأَبُو عَوَانَةَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ، وَنَقَلَ ابْنُ عَدِيٍّ، عَنِ النَّسَائِيِّ أَنَّهُ قَالَ: هَذَا خَطَأٌ اهـ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ مَا عَنَى أَنَّ جَابِرًا حَمَلَ الْقِصَّةَ عَنْ سُلَيْكٍ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّ جَابِرًا حَدَّثَهُمْ عَنْ قِصَّةِ سُلَيْكٍ، وَلِهَذَا نَظِيرٌ سَأَذْكُرُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ فِي قِصَّةِ أَبِي شُعَيْبٍ اللَّحَّامِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِنَ الْمُسْتَغْرَبَاتِ مَا حَكَاهُ ابْنُ بَشْكُوَالَ فِي الْمُبْهَمَاتِ أَنَّ الدَّاخِلَ الْمَذْكُورَ يُقَالُ لَهُ أَبُو هَدِيَّةَ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَلَعَلَّهَا كُنْيَةُ سُلَيْكٍ صَادَفَتِ اسْمَ أَبِيهِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ صَلَّيْتَ؟) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِحَذْفِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَثَبَتَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ.
قَوْلُهُ: (قُمْ فَارْكَعْ) زَادَ الْمُسْتَمْلِي، وَالْأَصِيلِيُّ رَكْعَتَيْنِ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْخُطْبَةَ لَا تَمْنَعُ الدَّاخِلَ مِنْ صَلَاةِ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهَا وَاقِعَةُ عَيْنٍ لَا عُمُومَ لَهَا فَيَحْتَمِلُ اخْتِصَاصُهَا بِسُلَيْكٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَغَيْرُهُمْ جَاءَ رَجُلٌ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ وَالرَّجُلُ فِي هَيْئَةٍ بَذَّةٍ، فَقَالَ لَهُ: أَصَلَّيْتَ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: صَلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَحَضَّ النَّاسَ عَلَى الصَّدَقَةِ. الْحَدِيثَ فَأَمَرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ لِيَرَاهُ بَعْضُ النَّاسِ وَهُوَ قَائِمٌ فَيَتَصَدَّقُ عَلَيْهِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ أَحْمَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فِي هَيْئَةٍ بَذَّةٍ فَأَمَرْتُهُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يَفْطِنَ لَهُ رَجُلٌ فَيَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ وَعُرِفَ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ طَعَنَ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ فَقَالَ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ لَهُمْ: إِذَا رَأَيْتُمْ ذَا بَذَّةٍ فَتَصَدَّقُوا عَلَيْهِ، أَوْ إِذَا كَانَ أَحَدٌ ذَا بَذَّةٍ فَلْيَقُمْ فَلْيَرْكَعْ حَتَّى يَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَنِي فِي مِثْلِ هَذَا بِالْإِجْمَالِ دُونَ التَّفْصِيلِ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ عِنْدَ الْمُعَاتَبَةِ، وَمِمَّا يُضْعِفُ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ التَّحِيَّةِ فِي تِلْكَ الْحَالِ أَنَّهُمْ أَطْلَقُوا أَنَّ التَّحِيَّةَ تَفُوتُ بِالْجُلُوسِ، وَوَرَدَ أَيْضًا مَا يُؤَكِّدُ الْخُصُوصِيَّةَ وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِسُلَيْكٍ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ لَا تَعُودَنَّ لِمِثْلِ هَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ، انْتَهَى مَا اعْتَلَّ بِهِ مَنْ طَعَنَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ عَلَى جَوَازِ التَّحِيَّةِ، وَكُلُّهُ مَرْدُودٌ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْخُصُوصِيَّةِ.
وَالتَّعْلِيلُ بِكَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم قَصَدَ التَّصَدُّقِ عَلَيْهِ لَا يَمْنَعُ الْقَوْلَ بِجَوَازِ التَّحِيَّةِ، فَإِنَّ الْمَانِعِينَ مِنْهَا لَا يُجِيزُونَ التَّطَوُّعَ لِعِلَّةِ التَّصَدُّقِ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: لَوْ سَاغَ ذَلِكَ لَسَاغَ مِثْلَهُ فِي التَّطَوُّعِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَسَائِرِ الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ وَلَا قَائِلَ بِهِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَمْرَهُ بِالصَّلَاةِ لَمْ يَنْحَصِرْ فِي قَصْدِ التَّصَدُّقِ مُعَاوَدَتُهُ صلى الله عليه وسلم بِأَمْرِهِ بِالصَّلَاةِ أَيْضًا فِي الْجُمُعَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ أَنْ حَصَلَ لَهُ فِي الْجُمُعَةِ الْأُولَى ثَوْبَيْنِ فَدَخَلَ بِهِمَا فِي الثَّانِيَةِ فَتَصَدَّقَ بِأَحَدِهِمَا فَنَهَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَيْضًا، وَلِأَحْمَدَ، وَابْنِ حِبَّانَ أَنَّهُ كَرَّرَ أَمْرَهُ بِالصَّلَاةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي ثَلَاثِ جُمَعٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَصْدَ التَّصَدُّقِ عَلَيْهِ جُزْءُ عِلَّةٍ لَا عِلَّةٌ كَامِلَةٌ.
وَأَمَّا إِطْلَاقُ مَنْ أَطْلَقَ أَنَّ التَّحِيَّةَ تَفُوتُ بِالْجُلُوسِ فَقَدْ حَكَى النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ عَنْ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْعَامِدِ الْعَالِمِ، أَمَّا الْجَاهِلُ أَوِ النَّاسِي فَلَا، وَحَالُ هَذَا الدَّاخِلِ مَحْمُولَةٌ فِي الْأُولَى عَلَى أَحَدِهِمَا وَفِي الْمَرَّتَيْنِ
الْأُخْرَيَيْنِ عَلَى النِّسْيَانِ، وَالْحَامِلُ لِلْمَانِعِينَ عَلَى التَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ ظَاهِرَهُ مُعَارِضٌ لِلْأَمْرِ بِالْإِنْصَاتِ وَالِاسْتِمَاعِ لِلْخُطْبَةِ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: عَارَضَ قِصَّةَ سُلَيْكٍ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهَا كَقولِهِ تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ أَنْصِتْ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَدْ لَغَوْتَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، قَالَ: فَإِذَا امْتَنَعَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَهُوَ أَمْرُ اللَّاغِي بِالْإِنْصَاتِ مَعَ قِصَرِ زَمَنِهِ فَمَنْعُ التَّشَاغُلِ بِالتَّحِيَّةِ مَعَ طُولِ زَمَنِهَا أَوْلَى. وَعَارَضُوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَخْطُبُ لِلَّذِي دَخَلَ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْتَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بِشْرٍ، قَالُوا: فَأَمَرَهُ بِالْجُلُوسِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالتَّحِيَّةِ.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ وَالْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَلَا صَلَاةَ وَلَا كَلَامَ حَتَّى يَفْرُغَ الْإِمَامُ وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ الْمُعَارَضَةَ الَّتِي تَئُولُ إِلَى إِسْقَاطِ أَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ إِنَّمَا يُعْمَلُ بِهَا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ، وَالْجَمْعُ هُنَا مُمْكِنٌ أَمَّا الْآيَةُ فَلَيْسَتِ الْخُطْبَةُ كُلُّهَا قُرْآنًا، وَأَمَّا مَا فِيهَا مِنَ الْقُرْآنِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ كَالْجَوَابِ عَنِ الْحَدِيثِ وَهُوَ تَخْصِيصُ عُمُومِهِ بِالدَّاخِلِ، وَأَيْضًا فَمُصَلِّي التَّحِيَّةِ يَجُوزُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُنْصِتٌ، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ سُكُوتُكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ مَا تَقُولُ فِيهِ؟ فَأَطْلَقَ عَلَى الْقَوْلِ: سِرًّا السُّكُوتَ، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ بِشْرٍ فَهُوَ أَيْضًا وَاقِعَةُ عَيْنٍ لَا عُمُومَ فِيهَا، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَرْكُ أَمْرِهِ بِالتَّحِيَّةِ قَبْلَ مَشْرُوعِيَّتِهَا، وَقَدْ عَارَضَ بَعْضُهُمْ فِي قِصَّةِ سُلَيْكٍ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ لَهُ: اجْلِسْ أَيْ بِشَرْطِهِ، وَقَدْ عُرِفَ قَوْلُهُ لِلدَّاخِلِ فَلَا تَجْلِسْ حَتَّى تُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فَمَعْنَى قَوْلِهِ: اجْلِسْ أَيْ لَا تَتَخَطَّ، أَوْ تَرَكَ أَمْرَهُ بِالتَّحِيَّةِ لِبَيَانِ الْجَوَازِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ وَاجِبَةً، أَوْ لِكَوْنِ دُخُولِهِ وَقَعَ فِي أَوَاخِرِ الْخُطْبَةِ بِحَيْثُ ضَاقَ الْوَقْتُ عَنِ التَّحِيَّةِ، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى اسْتِثْنَاءِ هَذِهِ الصُّورَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صَلَّى التَّحِيَّةَ فِي مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ ثُمَّ تَقَدَّمَ لِيَقْرَبَ مِنْ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ فَوَقَعَ مِنْهُ التَّخَطِّي فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِأَنَّهُ ضَعِيفٌ فِيهِ أَيُّوبُ بْنُ نَهِيكٍ وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، قَالَهُ أَبُو زُرْعَةَ، وَأَبُو حَاتِمٍ والْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ لَا تُعَارَضُ بِمِثْلِهِ. وَأَمَّا قِصَّةُ سُلَيْكٍ فَقَدْ ذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ أَنَّهَا أَصَحُّ شَيْءٍ رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَقْوَى، وَأَجَابَ الْمَانِعُونَ أَيْضًا بِأَجْوِبَةٍ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ، اجْتَمَعَ لَنَا مِنْهَا زِيَادَةٌ عَلَى عَشَرَةِ أَوْرَدْتُهَا مُلَخَّصَةً مَعَ الْجَوَابِ عَنْهَا لِتُسْتَفَادَ:
(الْأَوَّلُ) قَالُوا: إِنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا خَاطَبَ سُلَيْكًا سَكَتَ عَنْ خُطْبَتِهِ حَتَّى فَرَغَ سُلَيْكٌ مِنْ صَلَاتِهِ، فَعَلَى هَذَا فَقَدْ جَمَعَ سُلَيْكٌ بَيْنَ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ وَصَلَاةِ التَّحِيَّةِ، فَلَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ أَجَازَ التَّحِيَّةَ وَالْخَطِيبُ يَخْطُبُ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الدَّارَقُطْنِيَّ الَّذِي أَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَدْ ضَعَّفَهُ وَقَالَ: إِنَّ الصَّوَابَ أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ مُرْسَلًا أَوْ مُعْضَلًا، وَقَدْ تَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ بِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ لَمْ يَسُغْ عَلَى قَاعِدَتِهِمْ، لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ جَوَازَ قَطْعِ الْخُطْبَةِ لِأَجْلِ الدَّاخِلِ، وَالْعَمَلُ عِنْدَهُمْ لَا يَجُوزُ قَطْعُهُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ وَاجِبًا.
(الثَّانِي) قِيلَ: لَمَّا تَشَاغَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمُخَاطَبَةِ سُلَيْكٍ سَقَطَ فَرْضُ الِاسْتِمَاعِ عَنْهُ، إِذْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ حِينَئِذٍ خُطْبَةٌ لِأَجْلِ تِلْكَ الْمُخَاطَبَةِ، قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَادَّعَى أَنَّهُ أَقْوَى الْأَجْوِبَةِ.
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ مِنْ أَضْعَفِهَا لِأَنَّ الْمُخَاطَبَةَ لَمَّا انْقَضَتْ رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى خُطْبَتِهِ، وَتَشَاغَلَ سُلَيْكٌ بِامْتِثَالِ مَا أَمَرَهُ بِهِ مِنَ الصَّلَاةِ، فَصَحَّ أَنَّهُ صَلَّى فِي حَالِ الْخُطْبَةِ.
(الثَّالِثُ): قِيلَ: كَانَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ قَبْلَ شُرُوعِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْخُطْبَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَاعِدٌ عَلَى الْمِنْبَرِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْقُعُودَ عَلَى الْمِنْبَرِ لَا يَخْتَصُّ بِالِابْتِدَاءِ، بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ أَيْضًا، فَيَكُونُ كَلَّمَهُ بِذَلِكَ وَهُوَ قَاعِدٌ، فَلَمَّا قَامَ لِيُصَلِّيَ قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْخُطْبَةِ لِأَنَّ زَمَنَ الْقُعُودِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ لَا يَطُولُ. وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي تَجَوَّزَ فِي قَوْلِهِ قَاعِدٌ
لِأَنَّ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةَ كُلَّهَا مُطْبِقَةٌ عَلَى أَنَّهُ دَخَلَ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ.
(الرَّابِعُ) قِيلَ: كَانَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ سُلَيْكًا مُتَأَخِّرُ الْإِسْلَامِ جِدًّا وَتَحْرِيمُ الْكَلَامِ مُتَقَدِّمٌ جِدًّا كَمَا سَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ فِي أَوَاخِرِ الصَّلَاةِ، فَكَيْفَ يُدَّعَى نَسْخُ الْمُتَأَخِّرِ بِالْمُتَقَدِّمِ مَعَ أَنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ، وَقِيلَ: كَانَتْ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالْإِنْصَاتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهُ، وَعُورِضَ هَذَا الِاحْتِمَالُ بِمِثْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي اسْتَدَلُّوا بِهِ وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ إِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ فَلَا صَلَاةَ وَلَا كَلَامَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ الْأَمْرِ بِصَلَاةِ التَّحِيَّةِ، وَالْأَوْلَى فِي هَذَا أَنْ يُقَالَ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ ثُبُوتِ رَفْعِهِ: يُخَصُّ عُمُومُهُ بِحَدِيثِ الْأَمْرِ بِالتَّحِيَّةِ خَاصَّةً كَمَا تَقَدَّمَ.
(الْخَامِسُ) قِيلَ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْعَ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ يَسْتَوِي فِيهِ مَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ أَوْ خَارِجَهُ، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ التَّنَفُّلُ حَالَ الْخُطْبَةِ فَلْيَكُنِ الْآتِي كَذَلِكَ قَالَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ قِيَاسٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ فَهُوَ فَاسِدٌ، وَمَا نَقَلَهُ مِنَ الِاتِّفَاقِ وَافَقَهُ عَلَيْهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ شَذَّ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فَقَالَ: يَنْبَنِي عَلَى وُجُوبِ الْإِنْصَاتِ، فَإِنْ قُلْنَا بِهِ امْتَنَعَ التَّنَفُّلِ وَإِلَّا فَلَا.
(السَّادِسُ) قِيلَ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الدَّاخِلَ وَالْإِمَامُ فِي الصَّلَاةِ تَسْقُطُ عَنْهُ التَّحِيَّةُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْخُطْبَةَ صَلَاةٌ فَتَسْقُطُ عَنْهُ فِيهَا أَيْضًا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْخُطْبَةَ لَيْسَتْ صَلَاةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَالدَّاخِلُ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ مَأْمُورٌ بِشَغْلِ الْبُقْعَةِ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ جُلُوسِهِ، بِخِلَافِ الدَّاخِلِ فِي حَالِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ إِتْيَانَهُ بِالصَّلَاةِ الَّتِي أُقِيمَتْ يُحَصِّلُ الْمَقْصُودَ، هَذَا مَعَ تَفْرِيقِ الشَّارِعِ بَيْنَهُمَا فَقَالَ إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ وَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الَّتِي أُقِيمَتْ وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ بَلْ أَمَرَهُمْ فِيهَا بِالصَّلَاةِ.
(السَّابِعُ) قِيلَ: اتَّفَقُوا عَلَى سُقُوطِ التَّحِيَّةِ عَنِ الْإِمَامِ مَعَ كَوْنِهِ يَجْلِسُ عَلَى الْمِنْبَرِ مَعَ أَنَّ لَهُ ابْتِدَاءَ الْكَلَامِ فِي الْخُطْبَةِ دُونَ الْمَأْمُومِ، فَيَكُونُ تَرْكُ الْمَأْمُومِ التَّحِيَّةَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ أَيْضًا قِيَاسٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ فَهُوَ فَاسِدٌ، وَلِأَنَّ الْأَمْرَ وَقَعَ مُقَيَّدًا بِحَالِ الْخُطْبَةِ فَلَمْ يَتَنَاوَلِ الْخَطِيبُ.
وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: مَنْعُ الْكَلَامِ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ لَا لِمَنْ خَطَبَ، فَكَذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْإِنْصَاتِ وَاسْتِمَاعُ الْخُطْبَةِ.
(الثَّامِنُ) قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّكْعَتَيْنِ الْمَأْمُورِ بِهِمَا تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ، بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ صَلَاةً فَائِتَةً كَالصُّبْحِ مَثَلًا قَالَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَقَوَّاهُ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ وَقَالَ: لَعَلَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ كُشِفَ لَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا اسْتَفْهَمَهُ مُلَاطَفَةً لَهُ فِي الْخِطَابِ، قَالَ: وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ التَّحِيَّةَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى اسْتِفْهَامِهِ لِأَنَّهُ قَدْ رَآهُ لَمَّا دَخَلَ. وَقَدْ تَوَلَّى رَدَّهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ فَقَالَ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَتَكَرَّرْ أَمْرُهُ لَهُ بِذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى. وَمِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ قَوْلُهُمْ: إِنَّمَا أَمَرَهُ بِسُنَّةِ الْجُمُعَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَمُسْتَنَدُهُمْ قَوْلُهُ فِي قِصَّةِ سُلَيْكٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ أَصَلَّيْتَ قَبْلَ أَنْ تَجِيءَ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ قَبْلَ أَنْ تَجِيءَ مِنَ الْبَيْتِ، وَلِهَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِنْ كَانَ صَلَّى فِي الْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ فَلَا يُصَلِّ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ صَلَاةِ التَّحِيَّةِ لَا يُجِيزُ التَّنَفُّلَ حَالَ الْخُطْبَةِ مُطْلَقًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَبْلَ أَنْ تَجِيءَ أَيْ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي أَنْتَ بِهِ الْآنَ وَفَائِدَةُ الِاسْتِفْهَامِ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ صَلَّاهَا فِي مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ ثُمَّ تَقَدَّمَ لِيَقْرَبَ مِنْ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ الَّذِي تَخَطَّى، وَيُؤَكِّدُهُ أَنَّ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَصَلَّيْتَ الرَّكْعَتَيْنِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ وَهُوَ لِلْعَهْدِ وَلَا عَهْدَ هُنَاكَ أَقْرَبُ مِنْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ. وَأَمَّا سُنَّةُ الْجُمُعَةِ الَّتِي قَبْلَهَا فَلَمْ يَثْبُتْ فِيهَا شَيْءٌ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِهِ.
(التَّاسِعُ) قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْخُطْبَةَ الْمَذْكُورَةَ كَانَتْ لِلْجُمُعَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ لِغَيْرِهَا قَوْلُهُ لِلدَّاخِلِ أَصَلَّيْتَ لِأَنَّ وَقْتَ الصَّلَاةِ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ اهـ. وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ وَقَعَ عَنْ صَلَاةِ الْفَرْضِ فَيَحْتَاجُ إِلَى ثُبُوتِ ذَلِكَ، وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ وَفِي الَّذِي بَعْدَهُ أَنَّ ذَلِكَ
كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْخُطْبَةَ كَانَتْ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ.
(الْعَاشِرُ) قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْقُرْطُبِيُّ: أَقْوَى مَا اعْتَمَدَهُ الْمَالِكِيَّةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ مِنْ لَدُنْ الصَّحَابَةِ إِلَى عَهْدِ مَالِكٍ أَنَّ التَّنَفُّلَ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ مَمْنُوعٌ مُطْلَقًا، وَتُعُقِّبَ بِمَنْعِ اتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ ثَبَتَ فِعْلُ التَّحِيَّةِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَهُوَ مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَحَمَلَهُ عَنْهُ أَصْحَابُهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَيْضًا، فَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَصَحَّحَاهُ عَنْ عِيَاضِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ دَخَلَ وَمَرْوَانُ يَخْطُبُ فَصَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ، فَأَرَادَ حَرَسُ مَرْوَانَ أَنْ يَمْنَعُوهُ فَأَبَى حَتَّى صَلَّاهُمَا ثُمَّ قَالَ: مَا كُنْتُ لِأَدَعَهُمَا بَعْدَ أَنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ بِهِمَا انْتَهَى.
وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ صَرِيحًا مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ. وَأَمَّا مَا نَقَلَهُ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنَ الْمَنْعِ مُطْلَقًا فَاعْتِمَادُهُ فِي ذَلِكَ عَلَى رِوَايَاتٍ عَنْهُمْ فِيهَا احْتِمَالٌ، كَقَوْلِ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ أَدْرَكْتُ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ - وَكَانَ الْإِمَامُ - إِذَا خَرَجَ تَرَكْنَا الصَّلَاةَ وَوَجْهُ الِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ثَعْلَبَةُ عَنَى بِذَلِكَ مَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ خَاصَّةً، قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو الْفَضْلِ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ: كُلُّ مَنْ نُقِلَ عَنْهُ - يَعْنِي مِنَ الصَّحَابَةِ - مَنْعُ الصَّلَاةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمُ التَّصْرِيحُ بِمَنْعِ التَّحِيَّةِ، وَقَدْ وَرَدَ فِيهَا حَدِيثٌ يَخُصُّهَا فَلَا تُتْرَكُ بِالِاحْتِمَالِ، انْتَهَى. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى ذَلِكَ صَرِيحًا عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ.
وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ أَنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَابْنُ الزُّبَيْرِ يَخْطُبُ فَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ ثُمَّ سَلَّمَ عَلَيْهِ ثُمَّ جَلَسَ وَلَمْ يَرْكَعْ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرَ صَحَابِيَّانِ صَغِيرَانِ فَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهِ الطَّحَاوِيُّ فَقَالَ: لَمَّا لَمْ يُنْكِرِ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى ابْنِ صَفْوَانَ وَلَا مَنْ حَضَرَهُمَا مِنَ الصَّحَابَةِ تَرْكَ التَّحِيَّةِ دَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ تَرْكَهُمُ النَّكِيرَ لَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهَا بَلْ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهَا، وَلَمْ يَقُلْ بِهِ مُخَالِفُوهُمْ. وَسَيَأْتِي فِي أَوَاخِرِ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ الْبَحْثُ فِي أَنَّ صَلَاةَ التَّحِيَّةِ هَلْ تَعُمُّ كُلَّ مَسْجِدٍ، أَوْ يُسْتَثْنَى الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ لِأَنَّ تَحِيَّتَهُ الطَّوَافُ؟ فَلَعَلَّ ابْنَ صَفْوَانَ كَانَ يَرَى أَنَّ تَحِيَّتَهُ اسْتِلَامُ الرُّكْنِ فَقَطْ. وَهَذِهِ الْأَجْوِبَةُ الَّتِي قَدْ قَدَّمْنَاهَا تَنْدَفِعُ مِنْ أَصْلِهَا بِعُمُومِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ. مُتَّفَقُ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ. وَوَرَدَ أَخَصُّ مِنْهُ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ، فَفِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَخْطُبُ: إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ - أَوْ قَدْ خَرَجَ - فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ.
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ سُلَيْكٍ وَلَفْظُهُ بَعْدَ قَوْلِهِ فَارْكَعْهُمَا وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا ثُمَّ قَالَ: إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا نَصٌّ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ التَّأْوِيلُ وَلَا أَظُنُّ عَالِمًا يَبْلُغُهُ هَذَا اللَّفْظُ وَيَعْتَقِدُهُ صَحِيحًا فَيُخَالِفُهُ.
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ: هَذَا الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ نَصٌّ فِي الْبَابِ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ. وَحَكَى ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ أَنَّ بَعْضَهُمْ تَأَوَّلَ هَذَا الْعُمُومَ بِتَأْوِيلٍ مُسْتَكْرَهٍ، وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى بَعْضِ مَا تَقَدَّمَ مِنِ ادِّعَاءِ النَّسْخِ أَوِ التَّخْصِيصِ. وَقَدْ عَارَضَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ الشَّافِعِيَّةَ بِأَنَّهُمْ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي قِصَّةِ سُلَيْكٍ، لِأَنَّ التَّحِيَّةَ عِنْدَهُمْ تَسْقُطُ بِالْجُلُوسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ جَوَابُهُ. وَعَارَضَ بَعْضُهُمْ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رَفَعَهُ لَا تُصَلُّوا وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ فَيُخَصُّ عُمُومُهُ بِالْأَمْرِ بِصَلَاةِ التَّحِيَّةِ. وَبَعْضُهُمْ بِأَنَّ عُمَرَ لَمْ يَأْمُرْ عُثْمَانَ بِصَلَاةِ التَّحِيَّةِ مَعَ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ الِاقْتِصَارَ عَلَى الْوُضُوءِ، وَأُجِيبَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ صَلَّاهُمَا. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ جَوَازُ صَلَاةِ التَّحِيَّةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ، لِأَنَّهَا إِذَا لَمْ تَسْقُطْ
فِي الْخُطْبَةِ مَعَ الْأَمْرِ بِالْإِنْصَاتِ لَهَا فَغَيْرُهَا أَوْلَى. وَفِيهِ أَنَّ التَّحِيَّةَ لَا تَفُوتُ بِالْقُعُودِ، لَكِنْ قَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِالْجَاهِلِ أَوِ النَّاسِي كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَنَّ لِلْخَطِيبِ أَنْ يَأْمُرَ فِي خُطْبَتِهِ وَيَنْهَى وَيُبَيِّنَ الْأَحْكَامَ الْمُحْتَاجَ إِلَيْهَا، وَلَا يَقْطَعُ ذَلِكَ التَّوَالِي الْمُشْتَرَطَ فِيهَا، بَلْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: كُلَّ ذَلِكَ يُعَدُّ مِنَ الْخُطْبَةِ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمَسْجِدَ شَرْطٌ لِلْجُمُعَةِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُ لَا تُشْرَعُ التَّحِيَّةُ لِغَيْرِ الْمَسْجِدِ وَفِيهِ نَظَرٌ.
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ رَدِّ السَّلَامِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ لِأَنَّ أَمْرَهُمَا أَخَفُّ وَزَمَنَهُمَا أَقْصَرُ وَلَا سِيَّمَا رَدُّ السَّلَامِ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ.
(فَائِدَةٌ): قِيلَ يُخَصُّ عُمُومُ حَدِيثِ الْبَابِ بِالدَّاخِلِ فِي آخِرِ الْخُطْبَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَرَى لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْمُرَ الْآتِيَ بِالرَّكْعَتَيْنِ وَيَزِيدَ فِي كَلَامِهِ مَا يُمْكِنُهُ الْإِتْيَانُ بِهِمَا قَبْلَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ كَرِهْتُ ذَلِكَ. وَحَكَى النَّوَوِيُّ عَنِ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّ الْمُخْتَارَ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَنْ يَقِفَ حَتَّى تُقَامَ الصَّلَاةُ لِئَلَّا يَكُونَ جَالِسًا بِغَيْرِ تَحِيَّةٍ أَوْ مُتَنَفِّلًا حَالَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ. وَاسْتَثْنَى الْمَحَامِلِيُّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ لِأَنَّ تَحِيَّتَهُ الطَّوَافُ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِطُولِ زَمَنِ الطَّوَافِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّكْعَتَيْنِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الطَّوَافُ إِنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ الْقَادِمِ لِيَكُونَ أَوَّلُ شَيْءٍ يَفْعَلُهُ الطَّوَافَ، وَأَمَّا الْمُقِيمُ فَحُكْمُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَلَعَلَّ قَوْلَ مَنْ أَطْلَقَ أَنَّهُ يَبْدَأُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِالطَّوَافِ لِكَوْنِ الطَّوَافِ يَعْقُبهُ صَلَاةُ الرَّكْعَتَيْنِ فَيَحْصُلُ شَغْلُ الْبُقْعَةِ بِالصَّلَاةِ غَالِبًا وَهُوَ الْمَقْصُودُ، وَيَخْتَصُّ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ بِزِيَادَةِ الطَّوَافِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
33 - بَاب مَنْ جَاءَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ
931 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ جَابِرًا قَالَ: دَخَلَ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ، فَقَالَ: أَصَلَّيْتَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: قُمْ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ جَاءَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ) قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: لَمْ يَقَعْ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ التَّقْيِيدُ بِكَوْنِهِمَا خَفِيفَتَيْنِ. قُلْتُ: هُوَ كَمَا قَالَ، إِلَّا أَنَّ الْمُصَنِّفَ جَرَى عَلَى عَادَتِهِ فِي الْإِشَارَةِ إِلَى مَا فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو قُرَّةَ فِي السُّنَنِ عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ بِلَفْظِ قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا. وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ مَا مُلَخَّصُهُ: فِي التَّرْجَمَةِ الْأُولَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالرَّكْعَتَيْنِ يَتَقَيَّدُ بِرُؤْيَةِ الْإِمَامِ الدَّاخِلِ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ بَعْدَ أَنْ يَسْتَفْسِرَهُ هَلْ صَلَّى أَمْ لَا؟ وَذَلِكَ كُلُّهُ خَاصٌّ بِالْخَطِيبِ، وَأَمَّا حُكْمُ الدَّاخِلِ فَلَا يَتَقَيَّدُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ، فَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إِلَى ذَلِكَ كُلِّهِ بِالتَّرْجَمَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ الْأُولَى، مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ فِيهِمَا وَاحِدٌ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَمْرٍو) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ، وَوَقَعَ التَّصْرِيحُ بِسَمَاعِ سُفْيَانَ مِنْهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي مُسْنَدِ الْحُمَيْدِيِّ، وَهُوَ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ.
قَوْلُهُ: (صَلَّيْتَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ أَيْضًا بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ، وَثَبَتَتْ لِكَرِيمَةَ وَلِلْمُسْتَمْلِي.
قَوْلُهُ: (قَالَ فَصَلِّ) زَادَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قُمْ فَصَلِّ.
34 - باب رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الْخُطْبَةِ
932 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ، وَعَنْ يُونُسَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذْ قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَ الْكُرَاعُ، وَهَلَكَ الشَّاءُ،
فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَسْقِيَنَا، فَمَدَّ يَدَيْهِ وَدَعَا.
[الحديث 932 - أطرافه في: 6342. 6093. 3582. 1033. 1029. 1021. 1019. 1018. 1017. 1016. 1015. 1014. 1013. 932]
قَوْلُهُ: (بَابُ رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الْخُطْبَةِ) أَوْرَدَ فِيهِ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ الِاسْتِسْقَاءِ، وَقَدْ سَاقَهُ الْمُصَنِّفُ بِتَمَامِهِ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ مُطَابِقٌ لِلتَّرْجَمَةِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ حَدِيثَ عُمَارَةَ بْنِ رُوَيْبَةَ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي إِنْكَارِ ذَلِكَ لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ لَكِنْ قَيَّدَ مَالِكٌ الْجَوَازَ بِدُعَاءِ الِاسْتِسْقَاءِ كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ.
قَوْلُهُ: (وَعَنْ يُونُسَ، عَنْ ثَابِتٍ) يُونُسُ هُوَ ابْنُ عُبَيْدٍ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَحَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ أَيْضًا عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُونُسَ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ مُسَدَّدٍ أَيْضًا بِالْإِسْنَادَيْنِ مَعًا، وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُسَدَّدٍ وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ. وَالرِّجَالُ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ كُلُّهُمْ بَصْرِيُّونَ.
قَوْلُهُ: (فَمَدَّ يَدَيْهِ وَدَعَا) فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ فَرَفَعَ يَدَيْهِ كَلَفْظِ التَّرْجَمَةِ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّفْعِ هُنَا الْمَدُّ، لَا كَالرَّفْعِ الَّذِي فِي الصَّلَاةِ. وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ صِفَةُ رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الدُّعَاءِ، فَإِنَّ فِي رَفْعِهِمَا فِي دُعَاءِ الِاسْتِسْقَاءِ صِفَةً زَائِدَةً عَلَى رَفْعِهِمَا فِي غَيْرِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ حَدِيثُ أَنَسٍ لَمْ يَكُنْ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ دُعَائِهِ إِلَّا فِي الِاسْتِسْقَاءِ وَأَنَّهُ أَرَادَ الصِّفَةَ الْخَاصَّةَ بِالِاسْتِسْقَاءِ، وَيَأْتِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ أَيْضًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
35 - بَاب الِاسْتِسْقَاءِ فِي الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
933 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: أَصَابَتْ النَّاسَ سَنَةٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَبَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَ الْمَالُ، وَجَاعَ الْعِيَالُ، فَادْعُ اللَّهَ لَنَا، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا وَضَعَهَا حَتَّى ثَارَ السَّحَابُ أَمْثَالَ الْجِبَالِ، ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ عَنْ مِنْبَرِهِ حَتَّى رَأَيْتُ الْمَطَرَ يَتَحَادَرُ عَلَى لِحْيَتِهِ صلى الله عليه وسلم، فَمُطِرْنَا يَوْمَنَا ذَلِكَ، وَمِنْ الْغَدِ، وَبَعْدَ الْغَدِ، وَالَّذِي يَلِيهِ حَتَّى الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى، وَقَامَ ذَلِكَ الْأَعْرَابِيُّ، أَوْ قَالَ غَيْرُهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَهَدَّمَ الْبِنَاءُ، وَغَرِقَ الْمَالُ، فَادْعُ اللَّهَ لَنَا، فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، فَمَا يُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْ السَّحَابِ إِلَّا انْفَرَجَتْ، وَصَارَتْ الْمَدِينَةُ مِثْلَ الْجَوْبَةِ، وَسَالَ الْوَادِي قَنَاةُ شَهْرًا، وَلَمْ يَجِئْ أَحَدٌ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَّا حَدَّثَ بِالْجَوْدِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الِاسْتِسْقَاءِ فِي الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ) أَوْرَدَ فِيهِ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ مُطَوَّلًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ، وَهُوَ مُطَابِقٌ لِلتَّرْجَمَةِ أَيْضًا وَفِيهِ الِاكْتِفَاءُ فِي الِاسْتِسْقَاءِ بِخُطْبَةِ الْجُمُعَةِ وَصَلَاتِهَا، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الِاسْتِسْقَاءِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ الْكَلَامِ فِي الْخُطْبَةِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.
36 - بَاب الْإِنْصَاتِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ
وَإِذَا قَالَ لِصَاحِبِهِ أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَا.
وَقَالَ سَلْمَانُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يُنْصِتُ إِذَا تَكَلَّمَ الْإِمَامُ
934 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنْصِتْ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْإِنْصَاتِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ) أَشَارَ بِهَذَا إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ جَعَلَ وُجُوبَ الْإِنْصَاتِ مِنْ خُرُوجِ الْإِمَامِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ فِي الْحَدِيثِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ يُخْرِجُ مَا قَبْلَ خُطْبَتِهِ مِنْ حِينِ خُرُوجِهِ وَمَا بَعْدَهُ إِلَى أَنْ يَشْرَعَ فِي الْخُطْبَةِ: نَعَمِ الْأَوْلَى أَنْ يُنْصِتَ كَمَا تَقَدَّمَ التَّرْغِيبُ فِيهِ فِي بَابِ فَضْلِ الْغُسْلِ لِلْجُمُعَةِ وَأَمَّا حَالُ الْجُلُوسِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ فَحَكَى صَاحِبُ الْمُغْنِي عَنِ الْعُلَمَاءِ فِيهِ قَوْلَيْنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ خَاطِبٍ، أَوْ أَنَّ زَمَنَ سُكُوتِهِ قَلِيلٌ فَأَشْبَهَ السُّكُوتَ لِلتَّنَفُّسِ.
قَوْلُهُ: (وَإِذَا قَالَ لِصَاحِبِهِ أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَا) هُوَ كَلَفْظِ حَدِيثِ الْبَابِ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ، وَهِيَ رِوَايَةُ النَّسَائِيِّ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ وَلَفْظُهُ مَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَا وَالْمُرَادُ بِالصَّاحِبِ مَنْ يُخَاطِبُهُ بِذَلِكَ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الصَّاحِبَ لِكَوْنِهِ الْغَالِبَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ سَلْمَانُ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِهِ الْمُتَقَدِّمِ فِي بَابِ الدَّهْنِ لِلْجُمُعَةِ وَقَوْلُهُ يُنْصِتُ بِضَمِّ الْأُولَى عَلَى الْأَفْصَحِ وَيَجُوزُ الْفَتْحُ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: يُقَالُ أَنْصَتَ وَنَصَتَ وَانْتَصَتْ، قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: الْمُرَادُ بِالْإِنْصَاتِ السُّكُوتُ عَنْ مُكَالَمَةِ النَّاسِ دُونَ ذِكْرِ اللَّهِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ جَوَازُ الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ حَالَ الْخُطْبَةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ السُّكُوتُ مُطْلَقًا وَمَنْ فَرَّقَ احْتَاجَ إِلَى دَلِيلٍ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَجْوِيزِ التَّحِيَّةِ لِدَلِيلِهَا الْخَاصِّ جَوَازُ الذِّكْرِ مُطْلَقًا.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ) هَكَذَا رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ اللَّيْثِ، وَرَوَاهُ شُعَيْبُ بْنُ اللَّيْثِ عَنْ أَبِيهِ فَقَالَ عَنْ عَقِيلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ قَارِظٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالطَّرِيقَانِ مَعًا صَحِيحَانِ، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ، عَنِ اللَّيْثِ بِالْإِسْنَادَيْنِ مَعًا أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ بِهِمَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَغَيْرُهُ، وَرَوَاهُ مَالِكٌ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ بِالْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ.
قَوْلُهُ: (يَوْمَ الْجُمُعَةِ) مَفْهُومُهُ أَنَّ غَيْرَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَفِيهِ بَحْثٌ.
قَوْلُهُ: (فَقَدْ لَغَوْتَ) قَالَ الْأَخْفَشُ: اللَّغْوُ الْكَلَامُ الَّذِي لَا أَصْلَ لَهُ مِنَ الْبَاطِلِ وَشَبَهِهِ، وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: اللَّغْوُ السَّقْطُ مِنَ الْقَوْلِ، وَقِيلَ: الْمَيْلُ عَنِ الصَّوَابِ، وَقِيلَ: اللَّغْوُ الْإِثْمُ كَقولِهِ تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ اتَّفَقَتْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ اللَّغْوَ مَا لَا يَحْسُنُ مِنَ الْكَلَامِ. وَأَغْرَبَ أَبُو عُبَيْدٍ الْهَرَوِيُّ فِي الْغَرِيبِ فَقَالَ: مَعْنَى لَغَا تَكَلَّمَ، كَذَا أَطْلَقَ. وَالصَّوَابُ التَّقْيِيدُ. وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: مَعْنَى لَغَوْتُ خِبْتُ مِنَ الْأَجْرِ، وَقِيلَ بَطَلَتْ فَضِيلَةُ جُمُعَتِكَ، وَقِيلَ صَارَتْ جُمُعَتُكَ ظُهْرًا.
قُلْتُ: أَقْوَالُ أَهْلِ اللُّغَةِ مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى، وَيَشْهَدُ لِلْقَوْلِ الْأَخِيرِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا وَمَنْ لَغَا وَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ كَانَتْ لَهُ ظُهْرًا قَالَ ابْنُ وَهْبٍ أَحَدُ رُوَاتِهِ: مَعْنَاهُ أَجْزَأَتْ عَنْهُ الصَّلَاةُ وَحُرِمَ فَضِيلَةَ الْجُمُعَةِ. وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا مَنْ قَالَ صَهٍ فَقَدْ تَكَلَّمَ، وَمَنْ تَكَلَّمَ فَلَا جُمُعَةَ لَهُ وَلِأَبِي دَاوُدَ نَحْوُهُ، وَلِأَحْمَدَ، وَالْبَزَّارِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا مَنْ تَكَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَهُوَ كَالْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا، وَالَّذِي يَقُولُ لَهُ أَنْصِتْ لَيْسَتْ لَهُ جُمُعَةٌ وَلَهُ شَاهِدٌ قَوِيٌّ فِي جَامِعِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا، قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَعْنَاهُ لَا جُمُعَةَ لَهُ كَامِلَةً لِلْإِجْمَاعِ عَلَى إِسْقَاطِ فَرْضِ الْوَقْتِ عَنْهُ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ عَنْ بَعْضِ مَنْ جَوَّزَ الْكَلَامَ فِي الْخُطْبَةِ أَنَّهُ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ فَقَدْ
لَغَوْتَ أَيْ أَمَرْتَ بِالْإِنْصَاتِ مَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَهُوَ جُمُودٌ شَدِيدٌ، لِأَنَّ الْإِنْصَاتَ لَمْ يَخْتَلِفْ فِي مَطْلُوبِيَّتِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ مَنْ أَمَرَ بِمَا طَلَبَهُ الشَّرْعُ لَاغِيًا، بَلِ النَّهْيُ عَنِ الْكَلَامِ مَأْخُوذٌ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ بِدَلَالَةِ الْمُوَافَقَةِ، لِأَنَّهُ إِذَا جَعَلَ قَوْلَهُ أَنْصِتْ مَعَ كَوْنِهِ أَمْرًا بِمَعْرُوفٍ لَغْوًا فَغَيْرُهُ مِنَ الْكَلَامِ أَوْلَى أَنْ يُسَمَّى لَغْوًا.
وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَ قَوْلِهِ فَقَدْ لَغَوْتَ: عَلَيْكَ بِنَفْسِكَ وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى مَنْعِ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ حَالَ الْخُطْبَةِ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ فِي حَقِّ مَنْ سَمِعَهَا، وَكَذَا الْحُكْمُ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَسْمَعُهَا عِنْدَ الْأَكْثَرِ. قَالُوا: وَإِذَا أَرَادَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ فَلْيَجْعَلْهُ بِالْإِشَارَةِ.
وَأَغْرَبَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فَنَقَلَ الْإِجْمَاعَ عَلَى وُجُوبِ الْإِنْصَاتِ عَلَى مَنْ سَمِعَهَا إِلَّا عَنْ قَلِيلٍ مِنَ التَّابِعِينَ وَلَفْظُهُ: لَا خِلَافَ عَلِمْتُهُ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فِي وُجُوبِ الْإِنْصَاتِ لِلْخُطْبَةِ عَلَى مَنْ سَمِعَهَا فِي الْجُمُعَةِ. وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ سَمِعَهُ مِنَ الْجُهَّالِ يَتَكَلَّمُ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ: أَنْصِتْ، وَنَحْوَهَا، أَخْذًا بِهَذَا الْحَدِيثِ. وَرُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَنَاسٍ قَلِيلٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا فِي حِينِ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ فِي الْخُطْبَةِ خَاصَّةً، قَالَ: وَفِعْلُهُمْ فِي ذَلِكَ مَرْدُودٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِمْ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُمُ الْحَدِيثَ. قُلْتُ: لِلشَّافِعِيِّ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ وَبَنَاهُمَا بَعْضُ الْأَصْحَابِ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْخُطْبَتَيْنِ بَدَلٌ عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ أَمْ لَا؟ فَعَلَى الْأَوَّلِ يَحْرُمُ لَا عَلَى الثَّانِي، وَالثَّانِي هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ، فَمِنْ ثَمَّ أَطْلَقَ مَنْ أَطْلَقَ مِنْهُمْ إِبَاحَةَ الْكَلَامِ حَتَّى شَنَّعَ عَلَيْهِمْ مَنْ شَنَّعَ مِنَ الْمُخَالِفِينَ. وَعَنْ أَحْمَدَ أَيْضًا رِوَايَتَانِ، وَعَنْهُمَا أَيْضًا التَّفْرِقَةُ بَيْنَ مَنْ يَسْمَعُ الْخُطْبَةَ وَمَنْ لَا يَسْمَعُهَا، وَلِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِمُ الْجُمُعَةُ فَيَجِبُ عَلَيْهِمُ الْإِنْصَاتُ دُونَ مَنْ زَادَ فَجَعَلَهُ شَبِيهًا بِفُرُوضِ الْكِفَايَةِ. وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ إِذَا خَطَبَ بِمَا لَا يَنْبَغِي مِنَ الْقَوْلِ، وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ مَا نُقِلَ عَنِ السَّلَفِ مِنَ الْكَلَامِ حَالَ الْخُطْبَةِ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مَنْ نَفَى وُجُوبَهُ أَرَادَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْجُمُعَةِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ فِي حَقِّ السَّامِعِ أَنَّ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ الْمُشَارِ إِلَيْهِ آنِفًا وَمَنْ دَنَا فَلَمْ يُنْصِتْ كَانَ عَلَيْهِ كِفْلَانِ مِنَ الْوِزْرِ لِأَنَّ الْوِزْرَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مَنْ فَعَلَ مُبَاحًا. وَلَوْ كَانَ مَكْرُوهًا كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ، وَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ أَجَازَ مُطْلَقًا مِنْ قِصَّةِ السَّائِلِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ وَنَحْوِهِ فَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِالْأَخَصِّ عَلَى الْأَعَمِّ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُخَصَّ عُمُومُ الْأَمْرِ بِالْإِنْصَاتِ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَأَمْرٍ عَارِضٍ فِي مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ، كَمَا خَصَّ بَعْضُهُمْ مِنْهُ رَدَّ السَّلَامِ لِوُجُوبِهِ. وَنَقَلَ صَاحِبُ الْمُغْنِي الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي يَجُوزُ فِي الصَّلَاةِ يَجُوزُ فِي الْخُطْبَةِ كَتَحْذِيرِ الضَّرِيرِ مِنَ الْبِئْرِ، وَعِبَارَةُ الشَّافِعِيِّ: وَإِذَا خَافَ عَلَى أَحَدٍ لَمْ أَرَ بَأْسًا إِذَا لَمْ يُفْهَمْ عَنْهُ بِالْإِيمَاءِ أَنْ يَتَكَلَّمَ. وَقَدِ اسْتَثْنَى مِنَ الْإِنْصَاتِ فِي الْخُطْبَةِ مَا إِذَا انْتَهَى الْخَطِيبُ إِلَى كُلِّ مَا لَمْ يُشْرَعْ مِثْلِ الدُّعَاءِ لِلسُّلْطَانِ مَثَلًا، بَلْ جَزَمَ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ بِأَنَّ الدُّعَاءَ لِلسُّلْطَانِ مَكْرُوهٌ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: مَحَلُّهُ مَا إِذَا جَازَفَ وَإِلَّا فَالدُّعَاءُ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ مَطْلُوبٌ اهـ. وَمَحَلُّ التَّرْكِ إِذَا لَمْ يَخَفِ الضَّرَرَ، وَإِلَّا فَيُبَاحُ لِلْخَطِيبِ إِذَا خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ
37 - بَاب السَّاعَةِ الَّتِي فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ
935 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: فِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا.
[الحديث 935 - طرفاه في: 6400. 5294]
قَوْلُهُ: (بَابُ السَّاعَةِ الَّتِي فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ) أَيِ الَّتِي يُجَابُ فِيهَا الدُّعَاءُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) كَذَا رَوَاهُ أَصْحَابُ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ وَلهمَّ فِيهِ إِسْنَادٌ آخَرُ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ وَفِيهِ قِصَّةٌ لَهُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ.
قَوْلُهُ: (فِيهِ سَاعَةٌ) كَذَا فِيهِ مُبْهَمَةٌ وَعُيِّنَتْ فِي أَحَادِيثَ أُخَرَ كَمَا سَيَأْتِي.
قَوْلُهُ: (لَا يُوَافِقُهَا) أَيْ يُصَادِفُهَا وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَقْصِدَ لَهَا أَوْ يَتَّفِقَ لَهُ وُقُوعُ الدُّعَاءِ فِيهَا.
قَوْلُهُ: (وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ) هِيَ صِفَاتٌ لِمُسْلِمٍ أُعْرِبَتْ حَالًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي حَالًا مِنْهُ لِاتِّصَافِهِ بِقَائِمٍ وَيَسْأَلُ حَالٌ مُتَرَادِفَةٌ أَوْ مُتَدَاخِلَةٌ، وَأَفَادَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ قَوْلَهُ: وَهُوَ قَائِمٌ سَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مُصْعَبٍ، وَابْنِ أَبِي أُوَيْسٍ، وَمُطَرِّفٍ، وَالتِّنِّيسِيِّ، وَقُتَيْبَةَ وَأَثْبَتَهَا الْبَاقُونَ، قَالَ: وَهِيَ زِيَادَةٌ مَحْفُوظَةٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ، وَوَرْقَاءَ وَغَيْرِهِمَا عَنْهُ، وَحَكَى أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ السَّيِّدِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَضَّاحٍ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِحَذْفِهَا مِنَ الْحَدِيثِ، وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ يُشْكِلُ عَلَى أَصَحِّ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي تَعْيِينِ هَذِهِ السَّاعَةِ، وَهُمَا حَدِيثَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا مِنْ جُلُوسِ الْخَطِيبِ عَلَى الْمِنْبَرِ إِلَى انْصِرَافِهِ مِنَ الصَّلَاةِ، وَالثَّانِي أَنَّهَا مِنْ بَعْدِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ. وَقَدِ احْتَجَّ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ لَمَّا ذَكَرَ لَهُ الْقَوْلَ الثَّانِيَ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ سَاعَةَ صَلَاةٍ وَقَدْ وَرَدَ النَّصُّ بِالصَّلَاةِ فَأَجَابَهُ بِالنَّصِّ الْآخَرِ أَنَّ مُنْتَظِرَ الصَّلَاةِ فِي حُكْمِ الْمُصَلِّي فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ وَهُوَ قَائِمٌ عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ ثَابِتًا لَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِهَا لَكِنَّهُ سَلَّمَ لَهُ الْجَوَابَ وَارْتَضَاهُ وَأَفْتَى بِهِ بَعْدَهُ.
وَأَمَّا إِشْكَالُهُ عَلَى الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ فَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ حَالَ الْخُطْبَةِ كُلَّهُ وَلَيْسَتْ صَلَاةً عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَقَدْ أُجِيبَ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ بِحَمْلِ الصَّلَاةِ عَلَى الدُّعَاءِ أَوْ الِانْتِظَارِ، وَيُحْمَلُ الْقِيَامُ عَلَى الْمُلَازَمَةِ وَالْمُوَاظَبَةِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ حَالَ الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ غَيْرُ حَالِ السُّجُودِ وَالرُّكُوعِ وَالتَّشَهُّدِ مَعَ أَنَّ السُّجُودَ مَظِنَّةُ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْقِيَامِ حَقِيقَتَهُ لَأَخْرَجَهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَجَازُ الْقِيَامِ وَهُوَ الْمُوَاظَبَةُ وَنَحْوُهَا وَمِنْهُ قولُهُ تعالى:{إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} فَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّعْبِيرُ عَنِ الْمُصَلِّي بِالْقَائِمِ مِنْ بَابِ التَّعْبِيرِ عَنِ الْكُلِّ بِالْجُزْءِ، وَالنُّكْتَةُ فِيهِ أَنَّهُ أَشْهَرُ أَحْوَالِ الصَّلَاةِ.
قَوْلُهُ: (شَيْئًا) أَيْ مِمَّا يَلِيقُ أَنْ يَدْعُوَ بِهِ الْمُسْلِمُ وَيَسْأَلَ رَبَّهُ تَعَالَى، وَفِي رِوَايَةِ سَلَمَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الطَّلَاقِ يَسَأَلُ اللَّهَ خَيْرًا وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُهُ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي لُبَابَةَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ مَا لَمْ يَسْأَلْ حَرَامًا وَفِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ مَا لَمْ يَسْأَلْ إِثْمًا أَوْ قَطِيعَةَ رَحِمٍ وَهُوَ نَحْوُ الْأَوَّلِ، وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ مِنْ جُمْلَةِ الْإِثْمِ فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ.
قَوْلُهُ: (وَأَشَارَ بِيَدِهِ) كَذَا هُنَا بِإِبْهَامِ الْفَاعِلِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي مُصْعَبٍ، عَنْ مَالِكٍ وَأَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي رِوَايَةِ سَلَمَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا وَوَضَعَ أُنْمُلَتَهُ عَلَى بَطْنِ الْوُسْطَى أَوِ الْخِنْصَرِ قُلْنَا يُزَهِّدُهَا وَبَيَّنَ أَبُو مُسْلِمٍ الْكَجِّيُّ أَنَّ الَّذِي وَضَعَ هُوَ بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ رَاوِيهِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ، وَكَأَنَّهُ فَسَّرَ الْإِشَارَةَ بِذَلِكَ، وَأَنَّهَا سَاعَةٌ لَطِيفَةٌ تَتَنَقَّلُ مَا بَيْنَ وَسَطِ النَّهَارِ إِلَى قُرْبِ آخِرِهِ، وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: يُزَهِّدُهَا أَيْ يُقَلِّلُهَا، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهِيَ سَاعَةٌ خَفِيفَةٌ وَلِلطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ وَهِيَ قَدْرُ هَذَا، يَعْنِي قَبْضَةً قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: الْإِشَارَةُ لِتَقْلِيلِهَا هُوَ لِلتَّرْغِيبِ فِيهَا وَالْحَضِّ عَلَيْهَا لِيَسَارَةِ وَقْتِهَا، وَغَزَارَةِ فَضْلِهَا. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ هَلْ هِيَ بَاقِيَةٌ أَوْ رُفِعَتْ؟ وَعَلَى الْبَقَاءِ هَلْ هِيَ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ أَوْ فِي جُمُعَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ؟ وَعَلَى الْأَوَّلِ هَلْ هِيَ وَقْتٌ مِنَ الْيَوْمِ مُعَيَّنٌ أَوْ مُبْهَمٌ؟ وَعَلَى التَّعْيِينِ هَلْ تَسْتَوْعِبُ الْوَقْتَ أَوْ تُبْهَمُ فِيهِ؟ وَعَلَى الْإِبْهَامِ مَا ابْتِدَاؤُهُ وَمَا انْتِهَاؤُهُ؟ وَعَلَى كُلِّ ذَلِكَ هَلْ تَسْتَمِرُّ أَوْ تَنْتَقِلُ؟ وَعَلَى الِانْتِقَالِ هَلْ تَسْتَغْرِقُ الْيَوْمَ أَوْ بَعْضَهُ؟ وَهَا أَنَا أَذْكُرُ تَلْخِيصَ مَا اتَّصَلَ إِلَيَّ مِنَ الْأَقْوَالِ مَعَ أَدِلَّتِهَا، ثُمَّ أَعُودُ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَهَا وَالتَّرْجِيحِ.
فَالْأَوَّلُ: أنَّهَا رُفِعَتْ، حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ قَوْمٍ وَزَيَّفَهُ، وَقَالَ عِيَاضٌ: رَدَّهُ السَّلَفُ
عَلَى قَائِلِهِ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي دَاوُدُ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْسٍ مَوْلَى مُعَاوِيَةَ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ السَّاعَةَ الَّتِي فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ يُسْتَجَابُ فِيهَا الدُّعَاءُ رُفِعَتْ، فَقَالَ: كَذَبَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ. قُلْتُ: فَهِيَ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ؟ قَالَ نَعَمْ إِسْنَادُهُ قَوِيٌّ. وَقَالَ صَاحِبُ الْهُدَى: إِنْ أَرَادَ قَائِلُهُ أَنَّهَا كَانَتْ مَعْلُومَةً فَرُفِعَ عِلْمُهَا عَنِ الْأُمَّةِ فَصَارَتْ مُبْهَمَةً احْتُمِلَ، وَإِنْ أَرَادَ حَقِيقَتَهَا فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى قَائِلِهِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أنَّهَا مَوْجُودَةٌ لَكِنْ فِي جُمُعَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ، قَالَهُ كَعْبُ الْأَحْبَارِ، لِأَبِي هُرَيْرَةَ، فَرَدَّ عَلَيْهِ فَرَجَعَ إِلَيْهِ، رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ.
الثَّالِثُ: أنَّهَا مَخْفِيَّةٌ فِي جَمِيعِ الْيَوْمِ كَمَا أُخْفِيَتْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ. رَوَى ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ سَأَلْتُ أَبَا سَعِيدٍ عَنْ سَاعَةِ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْهَا فَقَالَ: قَدْ أُعْلِمْتُهَا ثُمَّ أُنْسِيتُهَا كَمَا أُنْسِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ.
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ أَنَّهُ سَأَلَ الزُّهْرِيَّ فَقَالَ: لَمْ أَسْمَعْ فِيهَا بِشَيْءٍ، إِلَّا أَنَّ كَعْبًا كَانَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ إِنْسَانًا قَسَمَ جُمُعَةً فِي جُمَعٍ لَأَتَى عَلَى تِلْكَ السَّاعَةِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَبْدَأُ فَيَدْعُو فِي جُمُعَةٍ مِنَ الْجُمَعِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ، ثُمَّ فِي جُمُعَةٍ أُخْرَى يَبْتَدِئُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَى وَقْتٍ آخَرَ حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى آخِرِ النَّهَارِ. قَالَهُ: وَكَعْبٌ هَذَا هُوَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ، قَالَ: وَرُوِّينَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ طَلَبَ حَاجَةٍ فِي يَوْمٍ لَيَسِيرٌ، قَالَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَنْبَغِي الْمُدَاوَمَةُ عَلَى الدُّعَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ كُلَّهُ لِيَمُرَّ بِالْوَقْتِ الَّذِي يُسْتَجَابُ فِيهِ الدُّعَاءُ انْتَهَى.
وَالَّذِي قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ يَصْلُحُ لِمَنْ يَقْوَى عَلَى ذَلِكَ، وَإِلَّا فَالَّذِي قَالَهُ كَعْبٌ سَهْلٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، وَقَضِيَّةُ ذَلِكَ أَنَّهُمَا كَانَا يَرَيَانِ أَنَّهَا غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ، وَهُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ جَمْعٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ كَالرَّافِعِيِّ وَصَاحِبِ الْمُغْنِي وَغَيْرِهِمَا حَيْثُ قَالُوا: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُكْثِرَ مِنَ الدُّعَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ رَجَاءَ أَنْ يُصَادِفَ سَاعَةَ الْإِجَابَةِ، وَمِنْ حُجَّةِ هَذَا الْقَوْلِ تَشْبِيهُهَا بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ وَالِاسْمُ الْأَعْظَمُ فِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ حَثُّ الْعِبَادِ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي الطَّلَبِ وَاسْتِيعَابُ الْوَقْتِ بِالْعِبَادَةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ تَحَقَّقَ الْأَمْرُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَكَانَ مُقْتَضِيًا لِلِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ وَإِهْمَالِ مَا عَدَاهُ.
الرَّابِعُ: أنَّهَا تَنْتَقِلُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَلَا تَلْزَمُ سَاعَةً مُعَيَّنَةً لَا ظَاهِرَةً وَلَا مَخْفِيَّةً، قَالَ الْغَزَالِيُّ: هَذَا أَشْبَهُ الْأَقْوَالِ، وَذَكَرَهُ الْأَثْرَمُ احْتِمَالًا، وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ عَسَاكِرَ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ إِنَّهُ الْأَظْهَرُ، وَعَلَى هَذَا لَا يَتَأَتَّى مَا قَالَهُ كَعْبٌ فِي الْجَزْمِ بِتَحْصِيلِهَا.
الْخَامِسُ: إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ لِصَلَاةِ الْغَدَاةِ، ذَكَرَهُ شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو الْفَضْلِ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ وَشَيْخُنَا سِرَاجُ الدِّينِ بْنُ الْمُلَقِّنِ فِي شَرْحِهِ عَلَى الْبُخَارِيِّ وَنَسَبَاهُ لِتَخْرِيجِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَائِشَةَ، وَقَدْ رَوَاهُ الرُّويَانِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْهَا فَأَطْلَقَ الصَّلَاةَ وَلَمْ يُقَيِّدْهَا. رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ فَقَيَّدَهَا بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
السَّادِسُ: مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ، وَأَبُو نَصْرِ بْنُ الصَّبَّاغِ، وَعِيَاضٌ، وَالْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَعِبَارَةُ بَعْضِهِمْ: مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ.
السَّابِعُ مِثْلُهُ وَزَادَ: وَمِنَ الْعَصْرِ إِلَى الْغُرُوبِ. رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ خَلَفِ بْنِ خَلِيفَةَ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَتَابَعَهُ فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ، وَلَيْثٌ ضَعِيفٌ وَقَدِ اخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِيهِ كَمَا تَرَى.
الثَّامِنُ مِثْلُهُ وَزَادَ: وَمَا بَيْنَ أَنْ يَنْزِلَ الْإِمَامُ مِنَ الْمِنْبَرِ إِلَى أَنْ يُكَبِّرَ رَوَاهُ حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ فِي التَّرْغِيبِ لَهُ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ الْتَمِسُوا السَّاعَةَ الَّتِي يُجَابُ فِيهَا الدُّعَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ فَذَكَرَهَا.
التَّاسِعُ: أنَّهَا أَوَّلُ سَاعَةٍ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ حَكَاهُ الْجَبَلِيُّ فِي شَرْحِ التَّنْبِيهِ وَتَبِعَهُ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ فِي شَرْحِهِ.
الْعَاشِرُ: عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، حَكَاهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ وَعَبَّرَ عَنْهُ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ فِي شَرْحِهِ بِقَوْلِهِ: هِيَ مَا بَيْنَ أَنْ تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ شِبْرًا إِلَى ذِرَاعٍ، وَعَزَاهُ لِأَبِي ذَرٍّ.
الْحَادِيَ عَشَرَ: أنَّهَا فِي آخِرِ السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ مِنَ النَّهَارِ حَكَاهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي وَهُوَ فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا يَوْمُ الْجُمُعَةِ فِيهِ طُبِعَتْ طِينَةُ آدَمَ، وَفِي آخِرِ ثَلَاثِ سَاعَاتٍ مِنْهُ سَاعَةٌ مَنْ دَعَا اللَّهَ فِيهَا اسْتُجِيبَ لَهُ وَفِي إِسْنَادِهِ فَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَعَلِيٌّ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: قَوْلُهُ: فِي آخِرِ ثَلَاثِ سَاعَاتٍ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ السَّاعَةَ الْأَخِيرَةَ مِنَ الثَّلَاثِ الْأُوَلِ، ثَانِيهُمَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ فِي آخِرِ كُلِّ سَاعَةٍ مِنَ الثَّلَاثِ سَاعَةَ إِجَابَةً، فَيَكُونُ فِيهِ تَجَوُّزٌ لِإِطْلَاقِ السَّاعَةِ عَلَى بَعْضِ السَّاعَةِ.
الثَّانِي عَشَرَ: مِنَ الزَّوَالِ إِلَى أَنْ يَصِيرَ الظِّلُّ نِصْفَ ذِرَاعٍ حَكَاهُ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ فِي الْأَحْكَامِ وَقَبِلَهُ الزَّكِيُّ الْمُنْذِرِيُّ.
الثَّالِثَ عَشَرَ: مِثْلُهُ لَكِنْ قَالَ أَنْ يَصِيرَ الظِّلُّ ذِرَاعًا حَكَاهُ عِيَاضٌ، وَالْقُرْطُبِيُّ، وَالنَّوَوِيُّ.
الرَّابِعَ عَشَرَ: بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ بِشِبْرٍ إِلَى ذِرَاعٍ رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ إِلَى الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حُجَيْرَةَ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ امْرَأَتَهُ سَأَلَتْهُ عَنْهَا فَقَالَ ذَلِكَ، وَلَعَلَّهُ مَأْخَذُ الْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُ.
الْخَامِسَ عَشَرَ: إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، وَوَرَدَ نَحْوُهُ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ عَنْ عَلِيٍّ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ يَتَحَرَّاهَا عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ بِسَبَبِ قِصَّةٍ وَقَعَتْ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ فِي ذَلِكَ، وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ نَوْفَلٍ نَحْوَ الْقِصَّةِ، وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانُوا يَرَوْنَ السَّاعَةَ الْمُسْتَجَابَ فِيهَا الدُّعَاءُ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ، وَكَأَنَّ مَأْخَذَهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّهَا وَقْتُ اجْتِمَاعِ الْمَلَائِكَةِ وَابْتِدَاءُ دُخُولِ وَقْتِ الْجُمُعَةِ وَابْتِدَاءُ الْأَذَانِ وَنَحْوُ ذَلِكَ.
السَّادِسَ عَشَرَ: إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ مِثْلُ يَوْمِ عَرَفَةَ تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا الْعَبْدُ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ. قِيلَ: أَيَّةُ سَاعَةٍ؟ قَالَتْ: إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَهَذَا يُغَايِرُ الَّذِي قَبْلَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْأَذَانَ قَدْ يَتَأَخَّرُ عَنِ الزَّوَالِ، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى الْأَذَانِ الَّذِي بَيْنَ يَدَيِ الْخَطِيبِ.
السَّابِعَ عَشَرَ: مِنَ الزَّوَالِ إِلَى أَنْ يَدْخُلَ الرَّجُلُ فِي الصَّلَاةِ ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَبِي السَّوَّارِ الْعَدَوِيِّ، وَحَكَاهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ بِلَفْظِ: إِلَى أَنْ يَدْخُلَ الْإِمَامُ.
الثَّامِنَ عَشَرَ: مِنَ الزَّوَالِ إِلَى خُرُوجِ الْإِمَامِ حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ.
التَّاسِعَ عَشَرَ: مِنْ الزَّوَالِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ حَكَاهُ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ كَشَاسِبَ الدِّزْمَارِيُّ وَهُوَ بِزَايٍ سَاكِنَةٍ وَقَبْلَ يَاءِ النَّسَبِ رَاءٌ مُهْمَلَةٌ فِي نُكَتِهِ عَلَى التَّنْبِيهِ عَنِ الْحَسَنِ وَنَقَلَهُ عَنْهُ شَيْخُنَا سِرَاجُ الدِّينِ بْنُ الْمُلَقِّنِ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ، وَكَانَ الدِّزْمَارِيُّ الْمَذْكُورُ فِي عَصْرِ ابْنِ الصَّلَاحِ.
الْعِشْرُونَ: مَا بَيْنَ خُرُوجِ الْإِمَامِ إِلَى أَنْ تُقَامَ الصَّلَاةُ رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ الْحَسَنِ. وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَوْفِ بْنِ حَصِيرَةَ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ مِثْلَهُ.
الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: عِنْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ رَوَاهُ حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ فِي كِتَابِ التَّرْغِيبِ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ رَجُلًا مَرَّتْ بِهِ وَهُوَ يَنْعَسُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ.
الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: مَا بَيْنَ خُرُوجِ لْإِمَامِ إِلَى أَنْ تَنْقَضِيَ الصَّلَاةُ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَالِمٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَوْلُهُ وَمِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَوْلُهُ وَفِيهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ اسْتَصْوَبَ ذَلِكَ.
الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: مَا بَيْنَ أَنْ يَحْرُمَ الْبَيْعُ إِلَى أَنْ يَحِلَّ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَوْلُهُ أَيْضًا، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: وَوَجْهُهُ أَنَّهُ أَخَصُّ أَحْكَامِ الْجُمُعَةِ لِأَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِ فَلَوِ اتَّفَقَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذِهِ السَّاعَةِ بِحَيْثُ ضَاقَ الْوَقْتُ فَتَشَاغَلَ اثْنَانِ بِعَقْدِ الْبَيْعِ فَخَرَجَ وَفَاتَتْ تِلْكَ الصَّلَاةُ لَأَثِمَا وَلَمْ يَبْطُلِ الْبَيْعُ.
الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: مَا بَيْنَ الْأَذَانِ إِلَى انْقِضَاءِ الصَّلَاةِ رَوَاهُ حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَكَاهُ الْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ عَنْهُ.
الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الْإِمَامُ
عَلَى الْمِنْبَرِ إِلَى أَنْ تُقْضَى الصَّلَاةُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ مَخْرَمَةَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ سَأَلَهُ عَمَّا سَمِعَ مِنْ أَبِيهِ فِي سَاعَةِ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ يُمْكِنُ أَنْ يُتَّخَذَ مِنَ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُ.
السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: عِنْدَ التَّأْذِينِ وَعِنْدَ تَذْكِيرِ الْإِمَامِ وَعِنْدَ الْإِقَامَةِ رَوَاهُ حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمِ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ الصَّحَابِيِّ.
السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: مِثْلُهُ لَكِنْ قَالَ: إِذَا أُذِّنَ وَإِذَا رُقِيَ الْمِنْبَرُ وَإِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الصَّحَابِيِّ قَوْلُهُ: قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: مَا وَرَدَ عِنْدَ الْأَذَانِ مِنْ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ فَيَتَأَكَّدُ يَوْمَ الْجُمُعَةَ وَكَذَلِكَ الْإِقَامَةُ، وَأَمَّا زَمَانُ جُلُوسِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ فَلِأَنَّهُ وَقْتُ اسْتِمَاعِ الذِّكْرِ، وَالِابْتِدَاءِ فِي الْمَقْصُودِ مِنَ الْجُمُعَةِ.
الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: مِنْ حِينِ يَفْتَتِحُ الْإِمَامُ الْخُطْبَةَ حَتَّى يَفْرَغَ رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.
التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: إِذَا بَلَغَ الْخَطِيبُ الْمِنْبَرَ وَأَخَذَ فِي الْخُطْبَةِ حَكَاهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ.
الثَّلَاثُونَ: عِنْدَ الْجُلُوسِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ حَكَاهُ الطِّيبِيُّ عَنْ بَعْضِ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ.
الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: أنَّهَا عِنْدَ نُزُولِ الْإِمَامِ مِنَ الْمِنْبَرِ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَحُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَوْلُهُ وَحَكَاهُ الْغَزَالِيُّ قَوْلًا بِلَفْظِ: إِذَا قَامَ النَّاسُ إِلَى الصَّلَاةِ.
الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: حِينَ تُقَامُ الصَّلَاةُ حَتَّى يَقُومَ الْإِمَامُ فِي مَقَامِهِ حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ مَيْمُونَةَ بِنْتِ سَعْدٍ نَحْوَهُ مَرْفُوعًا بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.
الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ: مِنْ إِقَامَةِ الصَّفِّ إِلَى تَمَامِ الصَّلَاةِ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا وَفِيهِ: قَالُوا: أَيَّةُ سَاعَةٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: حِينَ تُقَامُ الصَّلَاةُ إِلَى الِانْصِرَافِ مِنْهَا، وَقَدْ ضَعَّفَ كَثِيرٌ رِوَايَةَ كَثِيرٍ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ مَا بَيْنَ أَنْ يَنْزِلَ الْإِمَامُ مِنَ الْمِنْبَرِ إِلَى أَنْ تَنْقَضِيَ الصَّلَاةُ وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ مُغِيرَةَ، عَنْ وَاصِلٍ الْأَحْدَبِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَوْلَهُ، وَإِسْنَادُهُ قَوِيٌّ إِلَيْهِ، وَفِيهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ اسْتَحْسَنَ ذَلِكَ مِنْهُ وَبَرَّكَ عَلَيْهِ وَمَسَحَ عَلَى رَأْسِهِ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ نَحْوَهُ.
الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: هِيَ السَّاعَةُ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِيهَا الْجُمُعَةَ رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، وَهَذَا يُغَايِرُ الَّذِي قَبْلَهُ مِنْ جِهَةِ إِطْلَاقِ ذَاكَ وَتَقْيِيدِ هَذَا، وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ أَفْضَلُ صَلَوَاتِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَأَنَّ الْوَقْتَ الَّذِي كَانَ يُصَلِّي فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَفْضَلُ الْأَوْقَاتِ، وَأَنَّ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَذَانِ وَالْخُطْبَةِ وَغَيْرِهِمَا وَسَائِلُ وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ هِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالذَّاتِ، وَيُؤَيِّدُهُ وُرُودُ الْأَمْرِ فِي الْقُرْآنِ بِتَكْثِيرِ الذِّكْرِ حَالَ الصَّلَاةِ كَمَا وَرَدَ الْأَمْرُ بِتَكْثِيرِ الذِّكْرِ حَالَ الْقِتَالِ وَذَلِكَ فِي قولِهِ تَعَالَى:{إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وَفِي قَوْلِهِ: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} - إِلَى أَنْ خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ - {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وَلَيْسَ الْمُرَادُ إِيقَاعَ الذِّكْرِ بَعْدَ الِانْتِشَارِ وَإِنْ عُطِفَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ تَكْثِيرُ الْمُشَارِ إِلَيْهِ أَوَّلَ الْآيَةِ
(1)
. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ: مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا، وَمِنْ طَرِيقِ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ فَالْتَمِسُوهَا بَعْدَ الْعَصْرِ وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ قَوْلَهُ: فَالْتَمِسُوهَا إِلَخْ مُدْرَجٌ فِي الْخَبَرِ مِنْ قَوْلِ أَبِي سَلَمَةَ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَنْدَهْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَزَادَ أَغْفَلُ مَا يَكُونُ النَّاسُ وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ مِنْ طَرِيقِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ أَخِيهِ عُبَيْدِ اللَّهِ
(1)
هذا فيه نظر، وسياق الآية مخالفة. والله أعلم
كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ وَرْدَانَ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ بَعْدَ الْعَصْرِ إِلَى غَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.
السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ: فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ ذَرٍّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلًا وَفِيهِ قِصَّةٌ.
السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: بَعْدَ الْعَصْرِ إِلَى آخِرِ وَقْتِ الِاخْتِيَارِ حَكَاهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ.
الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ: بَعْدَ الْعَصْرِ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مُطْلَقًا، وَرَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا بِلَفْظٍ وَهِيَ بَعْدَ الْعَصْرِ وَرَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ، وَرَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ
(1)
مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ رَجُلٍ أَرْسَلَهُ عَمْرُو بْنُ أُوَيْسٍ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ فَذَكَرَ مِثْلَهُ قَالَ: وَسَمِعْتُهُ عَنِ الْحَكَمِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ، وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْمَرْوَذِيُّ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، وَشُعْبَةَ جَمِيعًا عَنْ يُونُسَ بْنِ خَبَّابٍ قَالَ الثَّوْرِيُّ: عَنْ عَطَاءٍ، وَقَالَ شُعْبَةُ: عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلَهُ وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَتَحَرَّاهَا بَعْدَ الْعَصْرِ، وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ: لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ، فَقِيلَ لَهُ: لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَقَالَ: بَلَى، لَكِنْ مَنْ كَانَ فِي مُصَلَّاهُ لَمْ يَقُمْ مِنْهُ فَهُوَ فِي صَلَاةٍ.
التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ: مِنْ وَسَطِ النَّهَارِ إِلَى قُرْبِ آخِرِ النَّهَارِ كَمَا تَقَدَّمَ أَوَّلَ الْبَابِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ.
الْأَرْبَعُونَ: مِنْ حِينِ تَصْفَرُّ الشَّمْسُ إِلَى أَنْ تَغِيبَ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ كِيسَانَ، عَنْ طَاوُسٍ قَوْلَهُ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الَّذِي بَعْدَهُ.
الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ: آخِرُ سَاعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا وَفِي أَوَّلِهِ أَنَّ النَّهَارَ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَاعَةً وَرَوَاهُ مَالِكٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، قَوْلُهُ وَفِيهِ مُنَاظَرَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ وَاحْتِجَاجُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ بِأَنَّ مُنْتَظِرَ الصَّلَاةِ فِي صَلَاةٍ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ
(2)
مِنْ طَرِيقِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ قَوْلَهُ وَلَا الْقِصَّةَ، وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ قَوْلَهُ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلَمَةَ يَقُولُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ فَذَكَرَ مِثْلَهُ، وَرَوَى الْبَزَّارُ، وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ مِثْلَهُ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: قَالَ أَبُو سَلَمَةَ فَلَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ فَذَكَرتُ لَهُ ذَلِكَ فَلَمْ يُعَرِّضْ بِذِكْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَلْ قَالَ: النَّهَارُ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَاعَةً، وَإِنَّهَا لَفِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنَ النَّهَارِ.
وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: قُلْتُ - وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ - إِنَّا لَنَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَنَّ فِي الْجُمُعَةِ سَاعَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَوْ بَعْضَ سَاعَةٍ، قُلْتُ: نَعَمْ أَوْ بَعْضَ سَاعَةٍ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: قُلْتُ أَيُّ سَاعَةٍ؟ فَذَكَرَهُ. وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ قُلْتُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ فَيَكُونُ مَرْفُوعًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَبَا سَلَمَةَ فَيَكُونُ مَوْقُوفًا وَهُوَ الْأَرْجَحُ لِتَصْرِيحِهِ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ بِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ لَمْ يَذْكُرِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي الْجَوَابِ.
الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ: مِنْ حِينِ يَغِيبُ نِصْفُ قُرْصِ الشَّمْسِ، أَوْ مِنْ حِينِ تُدْلِي الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ إِلَى أَنْ يَتَكَامَلَ غُرُوبُهَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ والدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ وَفَضَائِلِ الْأَوْقَاتِ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ
(1)
في مخطوطة الرياض"ابن جرير"
(2)
في مخطوطة الرياض " ابن حزم"
بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ حَدَّثَتْنِي مُرْجَانَةُ مَوْلَاةُ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: حَدَّثَتْنِي فَاطِمَةُ عليها السلام عَنْ أَبِيهَا فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَيُّ سَاعَةٍ هِيَ؟ قَالَ: إِذَا تَدَلَّى نِصْفُ الشَّمْسِ لِلْغُرُوبِ. فَكَانَتْ فَاطِمَةُ إِذَا كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَرْسَلَتْ غُلَامًا لَهَا يُقَالُ لَهُ زَيْدٌ يَنْظُرُ لَهَا الشَّمْسَ فَإِذَا أَخْبَرَهَا أَنَّهَا تَدَلَّتْ لِلْغُرُوبِ أَقْبَلَتْ عَلَى الدُّعَاءِ إِلَى أَنْ تَغِيبَ، فِي إِسْنَادِهِ اخْتِلَافٌ عَلَى زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَفِي بَعْضِ رُوَاتِهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ حَالُهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ فِي مَسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ فَاطِمَةَ لَمْ يَذْكُرْ مُرْجَانَةَ وَقَالَ فِيهِ: إِذَا تَدَلَّتِ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ وَقَالَ فِيهِ: تَقُولُ لِغُلَامٍ يُقَالُ لَهُ أَرْبَدُ: اصْعَدْ عَلَى الظِّرَابِ، فَإِذَا تَدَلَّتِ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ فَأَخْبِرْنِي، وَالْبَاقِي نَحْوُهُ، وَفِي آخِرِهِ: ثُمَّ تُصَلِّي يَعْنِي الْمَغْرِبَ.
فَهَذَا جَمِيعُ مَا اتَّصَلَ إِلَيَّ مِنَ الْأَقْوَالِ فِي سَاعَةِ الْجُمُعَةِ مَعَ ذِكْرِ أَدِلَّتِهَا وَبَيَانِ حَالِهَا فِي الصِّحَّةِ وَالضَّعْفِ وَالرَّفْعِ وَالْوَقْفِ وَالْإِشَارَةِ إِلَى مَأْخَذِ بَعْضِهَا، وَلَيْسَتْ كُلُّهَا مُتَغَايِرَةً مِنْ كُلِّ جِهَةٍ بَلْ كَثِيرٌ مِنْهَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَّحِدَ مَعَ غَيْرِهِ. ثُمَّ ظَفَرْتُ بَعْدَ كِتَابَةِ هَذَا بِقَوْلٍ زَائِدٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ غَيْرُ مَنْقُولٍ، اسْتَنْبَطَهُ صَاحِبُنَا الْعَلَّامَةُ الْحَافِظُ شَمْسُ الدِّينِ الْجَزَرِيُّ وَأَذِنَ لِي فِي رِوَايَتِهِ عَنْهُ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى الْحِصْنُ الْحَصِينِ فِي الْأَدْعِيَةِ لَمَّا ذَكَرَ الِاخْتِلَافَ فِي سَاعَةِ الْجُمُعَةِ وَاقْتَصَرَ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَقْوَالٍ مِمَّا تَقَدَّمَ ثُمَّ قَالَ مَا نَصُّهُ: وَالَّذِي أَعْتَقِدُهُ أَنَّهَا وَقْتُ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ الْفَاتِحَةَ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ إِلَى أَنْ يَقُولَ: آمِينَ، جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي صَحَّتْ.
كَذَا قَالَ، وَيَخْدِشُ فِيهِ أَنَّهُ يُفَوِّتُ عَلَى الدَّاعِي حِينَئِذٍ الْإِنْصَاتَ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ، فَلْيُتَأَمَّلْ. قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: يَحْسُنُ جَمْعُ الْأَقْوَالِ، وَكَانَ قَدْ ذَكَرَ مِمَّا تَقَدَّمَ عَشْرَةَ أَقْوَالٍ تَبَعًا لِابْنِ بَطَّالٍ. قَالَ: فَتَكُونُ سَاعَةُ الْإِجَابَةِ وَاحِدَةً مِنْهَا لَا بِعَيْنِهَا، فَيُصَادِفُهَا مَنِ اجْتَهَدَ فِي الدُّعَاءِ فِي جَمِيعِهَا وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ أَكْثَرِهَا أَنَّهُ يَسْتَوْعِبُ جَمِيعَ الْوَقْتِ الَّذِي عُيِّنَ، بَلِ الْمَعْنَى أَنَّهَا تَكُونُ فِي أَثْنَائِهِ لِقَوْلِهِ فِيمَا مَضَى: يُقَلِّلُهَا وَقَوْلِهِ: وَهِيَ سَاعَةٌ خَفِيفَةٌ. وَفَائِدَةُ ذِكْرِ الْوَقْتِ أَنَّهَا تَنْتَقِلُ فِيهِ فَيَكُونُ ابْتِدَاءُ مَظِنَّتِهَا ابْتِدَاءَ الْخُطْبَةِ مَثَلًا وَانْتِهَاؤُهُ انْتِهَاءَ الصَّلَاةِ. وَكَأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْقَائِلِينَ عَيَّنَ مَا اتَّفَقَ لَهُ وُقُوعُهَا فِيهِ مِنْ سَاعَةٍ فِي أَثْنَاءِ وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ الْمَذْكُورَةِ، فَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَقِلُّ الِانْتِشَارُ جِدًّا، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَرْجَحَ الْأَقْوَالِ الْمَذْكُورَةِ حَدِيثُ أَبِي مُوسَى وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ كَمَا تَقَدَّمَ. قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: أَصَحُّ الْأَحَادِيثِ فِيهَا حَدِيثُ أَبِي مُوسَى، وَأَشْهَرُ الْأَقْوَالِ فِيهَا قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ اهـ. وَمَا عَدَاهُمَا إِمَّا مُوَافِقٌ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا أَوْ ضَعِيفُ الْإِسْنَادِ أَوْ مَوْقُوفٌ اسْتَنَدَ قَائِلُهُ إِلَى اجْتِهَادٍ دُونَ تَوْقِيفٍ، وَلَا يُعَارِضُهُمَا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فِي كَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم أُنْسِيَهَا بَعْدَ أَنْ عَلِمَهَا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَا سَمِعَا ذَلِكَ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ أُنْسِيَ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي أَيِّهِمَا أَرْجَحُ، فَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْفَضْلِ أَحْمَدَ بْنِ سَلَمَةَ النَّيْسَابُورِيِّ أَنَّ مُسْلِمًا قَالَ: حَدِيثُ أَبِي مُوسَى أَجْوَدُ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَصَحُّهُ، وبِذَلِكَ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ، وَابْنُ الْعَرَبِيِّ وَجَمَاعَةٌ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هُوَ نَصٌّ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى غَيْرِهِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ الصَّحِيحُ، بَلِ الصَّوَابُ. وَجَزَمَ فِي الرَّوْضَةِ بِأَنَّهُ الصَّوَابُ، وَرَجَّحَهُ أَيْضًا بِكَوْنِهِ مَرْفُوعًا صَرِيحًا وَفِي أَحَدِ الصَّحِيحَيْنِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى تَرْجِيحِ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ فَحَكَى التِّرْمِذِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: أَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنَّهُ أَثْبَتُ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ نَاسًا مِنَ الصَّحَابَةِ اجْتَمَعُوا فَتَذَاكَرُوا سَاعَةَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ افْتَرَقُوا فَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهَا آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ. وَرَجَّحَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ أَيْضًا كَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ وَمِنَ الْمَالِكِيَّةِ الطُّرْطُوشِيُّ، وَحَكَى الْعَلَائِيُّ أَنَّ شَيْخَهُ ابْنَ الزَّمْلَكَانِيِّ شَيْخَ الشَّافِعِيَّةِ فِي وَقْتِهِ كَانَ يَخْتَارُهُ وَيَحْكِيهِ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ.
وَأَجَابُوا عَنْ كَوْنِهِ لَيْسَ فِي أَحَدِ الصَّحِيحَيْنِ
بِأَنَّ التَّرْجِيحَ بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا إِنَّمَا هُوَ حَيْثُ لَا يَكُونُ مِمَّا انْتَقَدَهُ الْحُفَّاظُ، كَحَدِيثِ أَبِي مُوسَى هَذَا فَإِنَّهُ أُعِلَّ بِالِانْقِطَاعِ وَالِاضْطِرَابِ: أَمَّا الِانْقِطَاعُ فَلِأَنَّ مَخْرَمَةَ بْنَ بُكَيْرٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ، قَالَهُ أَحْمَدُ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ مَخْرَمَةَ نَفْسِهِ، وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ مُوسَى بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ مَخْرَمَةَ وَزَادَ: إِنَّمَا هِيَ كُتُبٌ كَانَتْ عِنْدَنَا. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَقُولُ عَنْ مَخْرَمَةَ إِنَّهُ قَالَ فِي شَيْءٍ مِنْ حَدِيثِهِ سَمِعْتُ أَبِي، وَلَا يُقَالُ مُسْلِمٌ يَكْتَفِي فِي الْمُعَنْعَنِ بِإِمْكَانِ اللِّقَاءِ مَعَ الْمُعَاصَرَةِ وَهُوَ كَذَلِكَ هُنَا لِأَنَّا نَقُولُ: وُجُودُ التَّصْرِيحِ عَنْ مَخْرَمَةَ بِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ كَافٍ فِي دَعْوَى الِانْقِطَاعِ. وَأَمَّا الِاضْطِرَابُ فَقَدْ رَوَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ وَوَاصِلٌ الْأَحْدَبُ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ وَغَيْرُهُمْ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ مِنْ قَوْلِهِ، وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَأَبُو بُرْدَةَ كُوفِيٌّ فَهُمْ أَعْلَمُ بِحَدِيثِهِ مِنْ بُكَيْرٍ الْمَدَنِيِّ، وَهُمْ عَدَدٌ وَهُوَ وَاحِدٌ.
وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ عِنْدَ أَبِي بُرْدَةَ مَرْفُوعًا لَمْ يُفْتِ فِيهِ بِرَأْيهِ بِخِلَافِ الْمَرْفُوعِ، وَلِهَذَا جَزَمَ الدَّارَقُطْنِيُّ بِأَنَّ الْمَوْقُوفَ هُوَ الصَّوَابُ، وَسَلَكَ صَاحِبُ الْهُدَى مَسْلَكًا آخَرَ فَاخْتَارَ أَنَّ سَاعَةَ الْإِجَابَةِ مُنْحَصِرَةً فِي أَحَدِ الْوَقْتَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَأَنَّ أَحَدَهُمَا لَا يُعَارِضُ الْآخَرَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ صلى الله عليه وسلم دَلَّ عَلَى أَحَدِهِمَا فِي وَقْتٍ وَعَلَى الْآخَرِ فِي وَقْتٍ آخَرَ، وَهَذَا كَقَوْلِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ: الَّذِي يَنْبَغِي الِاجْتِهَادُ فِي الدُّعَاءِ فِي الْوَقْتَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ. وَسَبَقَ إِلَى نَحْوِ ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَهُوَ أَوْلَى فِي طَرِيقِ الْجَمْعِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: إِذَا عُلِمَ أَنَّ فَائِدَةَ الْإِبْهَامِ لِهَذِهِ السَّاعَةِ وَلِلَيْلَةِ الْقَدْرِ بَعْثُ الدَّاعِي عَلَى الْإِكْثَارِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ، وَلَوْ بَيَّنَ لَاتَّكَلَ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ وَتَرَكُوا مَا عَدَاهَا، فَالْعَجَبُ بَعْدَ ذَلِكَ مِمَّنْ يَجْتَهِدُ فِي طَلَبِ تَحْدِيدِهَا. وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ فَضْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِاخْتِصَاصِهِ بِسَاعَةِ الْإِجَابَةِ، وَفِي مُسْلِمٍ أَنَّهُ خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ.
وَفِيهِ فَضْلُ الدُّعَاءِ وَاسْتِحْبَابُ الْإِكْثَارِ مِنْهُ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى بَقَاءِ الْإِجْمَالِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتُعُقِّبَ بِأَنْ لَا خِلَافَ فِي بَقَاءِ الْإِجْمَالِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لَا فِي الْأُمُورِ الْوُجُودِيَّةِ كَوَقْتِ السَّاعَةِ، فَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِي إِجْمَالِهِ، وَالْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ الْمُتَعَلِّقُ بِسَاعَةِ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَةِ الْقَدْرِ - وَهُوَ تَحْصِيلُ الْأَفْضَلِيَّةِ - يُمْكِنُ الْوُصُولُ إِلَيْهِ وَالْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ بِاسْتِيعَابِ الْيَوْمِ أَوِ اللَّيْلَةِ، فَلَمْ يَبْقَ فِي الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ إِجْمَالٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ قِيلَ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ حُصُولُ الْإِجَابَةِ لِكُلِّ دَاعٍ بِالشَّرْطِ الْمُتَقَدِّمِ مَعَ أَنَّ الزَّمَانَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبِلَادِ وَالْمُصَلِّي فَيَتَقَدَّمُ بَعْضٌ عَلَى بَعْضٍ، وَسَاعَةُ الْإِجَابَةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْوَقْتِ، فَكَيْفَ تَتَّفِقُ مَعَ الِاخْتِلَافِ؟ أُجِيبَ بِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ سَاعَةُ الْإِجَابَةِ مُتَعَلِّقَةً بِفِعْلِ كُلِّ مُصَلٍّ، كَمَا قِيلَ نَظِيرُهُ فِي سَاعَةِ الْكَرَاهَةِ، وَلَعَلَّ هَذَا فَائِدَةُ جَعْلِ الْوَقْتِ الْمُمْتَدِّ مَظِنَّةً لَهَا وَإِنْ كَانَتْ هِيَ خَفِيفَةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَبَّرَ عَنِ الْوَقْتِ بِالْفِعْلِ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ وَقْتُ جَوَازِ الْخُطْبَةِ أَوْ الصَّلَاةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
38 - بَاب إِذَا نَفَرَ النَّاسُ عَنْ الْإِمَامِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَصَلَاةُ الْإِمَامِ وَمَنْ بَقِيَ جَائِزَةٌ
936 -
حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا زَائِدَةُ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ أَقْبَلَتْ عِيرٌ تَحْمِلُ طَعَامًا، فَالْتَفَتُوا إِلَيْهَا حَتَّى مَا بَقِيَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ:{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} .
[الحديث 936 - أطرافه في: 4899. 2064. 2058]
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا نَفَرَ النَّاسُ عَنِ الْإِمَامِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ إِلَخْ) ظَاهِرُ التَّرْجَمَةِ أَنَّ اسْتِمْرَارَ الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ تَنْعَقِدُ بِهِمُ الْجُمُعَةِ إِلَى تَمَامِهَا لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّتِهَا، بَلِ الشَّرْطُ أَنْ تَبْقَى مِنْهُمْ بَقِيَّةٌ مَا. وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْبُخَارِيُّ لِعَدَدِ مَنْ تَقُومُ بِهِمُ
الْجُمُعَةُ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ مِنْهُ شَيْءٌ عَلَى شَرْطِهِ، وَجُمْلَةُ مَا لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ قَوْلًا: أَحَدُهَا تَصِحُّ مِنَ الْوَاحِدِ، نَقَلَهُ ابْنُ حَزْمٍ. الثَّانِي اثْنَانِ كَالْجَمَاعَةِ، وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ. الثَّالِثُ اثْنَانِ مَعَ الْإِمَامِ، عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ. الرَّابِعُ ثَلَاثَةٌ مَعَهُ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. الْخَامِسُ سَبْعَةٌ، عِنْدَ عِكْرِمَةَ. السَّادِسُ تِسْعَةٌ عِنْدَ رَبِيعَةَ. السَّابِعُ اثْنَا عَشَرَ عَنْهُ فِي رِوَايَةٍ. الثَّامِنُ مِثْلُهُ غَيْرُ الْإِمَامِ عِنْدَ إِسْحَاقَ. التَّاسِعُ عِشْرُونَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ حَبِيبٍ، عَنْ مَالِكٍ. الْعَاشِرُ ثَلَاثُونَ كَذَلِكَ. الْحَادِي عَشَرَ أَرْبَعُونَ بِالْإِمَامِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ. الثَّانِي عَشَرَ غَيْرُ الْإِمَامِ عَنْهُ وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَطَائِفَةٌ.
الثَّالِثَ عَشَرَ خَمْسُونَ عَنْ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ وَحُكِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. الرَّابِعَ عَشَرَ ثَمَانُونَ حَكَاهُ الْمَازِرِيُّ. الْخَامِسَ عَشَرَ جَمْعٌ كَثِيرٌ بِغَيْرِ قَيْدٍ. وَلَعَلَّ هَذَا الْأَخِيرَ أَرْجَحُهَا مِنْ حَيْثُ الدَّلِيلِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَزْدَادَ الْعَدَدُ بِاعْتِبَارِ زِيَادَةِ شَرْطٍ كَالذُّكُورَةِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْبُلُوغِ وَالْإِقَامَةِ وَالِاسْتِيطَانِ فَيَكْمُلُ بِذَلِكَ عِشْرُونَ قَوْلًا.
قَوْلُهُ: (جَائِزَةٌ) فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِي تَامَّةٌ.
قَوْلُهُ: (عَنْ حُصَيْنٍ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْوَاسِطِيُّ وَمَدَارُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَلَيْهِ، وَقَدْ رَوَاهُ تَارَةً عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ وَحْدَهُ كَمَا هُنَا وَهِيَ رِوَايَةُ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ، وَتَارَةً عَنْ أَبِي سُفْيَانَ طَلْحَةَ بْنِ نَافِعٍ وَحْدَهُ وَهِيَ رِوَايَةُ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَإِسْرَائِيلَ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ، وَتَارَةً جُمِعَ بَيْنَهُمَا عَنْ جَابِرٍ وَهِيَ رِوَايَةُ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي التَّفْسِيرِ وَعِنْدَ مُسْلِمٍ، وَكَذَا رِوَايَةُ هُشَيْمٍ عِنْدَهُ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي) فِي رِوَايَةِ خَالِدٍ الْمَذْكُورَةِ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّلَاةِ وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ انْفِضَاضَهُمْ وَقَعَ بَعْدَ دُخُولِهِمْ فِي الصَّلَاةِ، لَكِنْ وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ، عَنْ حُصَيْنٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ وَلَهُ فِي رِوَايَةِ هُشَيْمٍ بَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ - زَادَ أَبُو عَوَانَةُ فِي صَحِيحِهِ وَالتِّرْمِذِيُّ، والدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ - يَخْطُبُ وَمِثْلُهُ لِأَبِي عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ عَبَّادِ بْنِ الْعَوَّامِ، وَلِعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ كَثِيرٍ كِلَاهُمَا عَنْ حُصَيْنٍ، وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَإِسْرَائِيلَ، وَمِثْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الْبَزَّارِ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ وَفِي مُرْسَلِ قَتَادَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ
(1)
وَغَيْرِهِ. فَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: نُصَلِّي أَيْ نَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ. وَقَوْلُهُ: فِي الصَّلَاةِ أَيْ فِي الْخُطْبَةِ مَثَلًا وَهُوَ مِنْ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِمَا قَارَبَهُ، فَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، وَيُؤَيِّدُهُ اسْتِدْلَالُ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى الْقِيَامِ فِي الْخُطْبَةِ بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ كَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَكَذَا اسْتَدَلَّ بِهِ كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَحَمَلَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ قَوْلَهُ: يَخْطُبُ قَائِمًا عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ آخَرُ غَيْرُ خَبَرِ كَوْنِهِمْ كَانُوا مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: التَّقْدِيرُ صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ يَخْطُبُ قَائِمًا الْحَدِيثَ، وَلَا يَخْفَى تَكَلُّفُهُ.
قَوْلُهُ: (إِذْ أَقْبَلَتْ عِيرٌ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ هِيَ الْإِبِلُ الَّتِي تَحْمِلُ التِّجَارَةَ طَعَامًا كَانَتْ أَوْ غَيْرَهُ، وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ لَا وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهَا. وَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْحَقِّ فِي جَمْعِهِ أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يُخَرِّجْ قَوْلَهُ إِذْ أَقْبَلَتْ عِيرٌ تَحْمِلُ طَعَامًا وَهُوَ ذُهُولٌ مِنْهُ، نَعَمْ سَقَطَ ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ وَثَبَتَ هُنَا وَفِي أَوَائِلِ الْبُيُوعِ وَزَادَ فِيهِ أَنَّهَا أَقْبَلَتْ مِنَ الشَّامِ، وَمِثْلُهُ لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ جَرِيرٍ، عَنْ حُصَيْنٍ، وَوَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَمُرَّةَ فَرْقُهُمَا أَنَّ الَّذِي قَدِمَ بِهَا مِنَ الشَّامِ دِحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيُّ، وَنَحْوُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الْبَزَّارِ، وَلِابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ جَاءَتْ عِيرٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَجُمِعَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنَّ التِّجَارَةَ كَانَتْ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَكَانَ دِحْيَةُ السَّفِيرَ فِيهَا أَوْ كَانَ مُقَارِضًا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنِ اللَّيْثِ أَنَّهَا كَانَتْ لِوَبَرَةَ الْكَلْبِيِّ، وَيُجْمَعُ بِأَنَّهُ كَانَ رَفِيقَ دِحْيَةَ.
قَوْلُهُ: (فَالْتَفَتُوا إِلَيْهَا) فِي رِوَايَةِ ابْنِ فُضَيْلٍ فِي الْبُيُوعِ
(1)
في المخطوطة" الطبري
فَانْفَضَّ النَّاسُ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلَفْظِ الْقُرْآنِ وَدَالٌّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالِالْتِفَاتِ الِانْصِرَافُ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ حَمَلَ الِالْتِفَاتَ عَلَى ظَاهِرِهِ فَقَالَ: لَا يُفْهَمُ مِنْ هَذَا الِانْصِرَافُ عَنِ الصَّلَاةِ وَقَطْعِهَا، وَإِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْتِفَاتُهُمْ بِوُجُوهِهِمْ أَوْ بِقُلُوبِهِمْ، وَأَمَّا هَيْئَةُ الصَّلَاةِ الْمُجْزِئَةُ فَبَاقِيَةٌ. ثُمَّ هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الِانْفِضَاضَ وَقَعَ فِي الصَّلَاةِ، وَقَدْ تَرَجَّحَ فِيمَا مَضَى أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ فِي الْخُطْبَةِ، فَلَوْ كَانَ كَمَا قِيلَ لَمَا وَقَعَ هَذَا الْإِنْكَارُ الشَّدِيدُ، فَإِنَّ الِالْتِفَاتَ فِيهَا لَا يُنَافِي الِاسْتِمَاعَ، وَقَدْ غَفَلَ قَائِلُهُ عَنْ بَقِيَّةِ أَلْفَاظِ الْخَبَرِ. وَفِي قَوْلِهِ: فَالْتَفَتُوا الْحَدِيثَ، الْتِفَاتٌ، لِأَنَّ السِّيَاقَ يَقْتَضِي أَنْ يَقُولَ فَالْتَفَتْنَا، وَكَأَنَّ الْحِكْمَةَ فِي عُدُولِ جَابِرٍ عَنْ ذَلِكَ أَنَّهُ هُوَ لَمْ يَكُنْ مِمَّنِ الْتَفَتَ كَمَا سَيَأْتِي.
قَوْلُهُ: (إِلَّا اثْنَيْ عَشَرَ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ لَيْسَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغًا فَيَجِبُ رَفْعُهُ، بَلْ هُوَ مِنْ ضَمِيرِ بَقِيَ الَّذِي يَعُودُ إِلَى الْمُصَلِّي فَيَجُوزُ فِيهِ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ، قَالَ: وَقَدْ ثَبَتَ الرَّفْعُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ اهـ. وَوَقَعَ فِي تَفْسِيرِ الطَّبَرِيِّ، وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى أَبِي قَتَادَةَ قَالَ قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمْ أَنْتُمْ؟ فَعَدُّوا أَنْفُسَهُمْ، فَإِذَا هُمْ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا وَامْرَأَةً وَفِي تَفْسِيرِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ الشَّامِيِّ وَامْرَأَتَانِ وَلِابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَبْعُ نِسْوَةٍ لَكِنَّ إِسْنَادَهُ ضَعِيفٌ. وَاتَّفَقَتْ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا إِلَّا مَا رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، عَنْ حُصَيْنٍ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ فَقَالَ إِلَّا أَرْبَعِينَ رَجُلًا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ وَهُوَ ضَعِيفُ الْحِفْظِ، وَخَالَفَهُ أَصْحَابُ حُصَيْنٍ كُلُّهُمْ.
وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُمْ فَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ خَالِدٍ الطَّحَّانِ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّ جَابِرًا قَالَ: أَنَا فِيهِمْ وَلَهُ فِي رِوَايَةِ هُشَيْمٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَفِي التِّرْمِذِيِّ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي رِوَايَةِ حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ دُونَ سَالِمٍ، وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا وَرِجَالُ إِسْنَادِهِ ثِقَاتٌ، وَفِي تَفْسِيرِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ الشَّامِيِّ أَنَّ سَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْهُمْ وَرَوَى الْعُقَيْلِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مِنْهُمُ الْخُلَفَاءَ الْأَرْبَعَةَ وَابْنَ مَسْعُودٍ وَأُنَاسًا مِنْ الْأَنْصَارِ وَحَكَى السُّهَيْلِيُّ أَنَّ أَسَدَ بْنَ عَمْرٍو رَوَى بِسَنَدٍ مُنْقَطِعٍ أَنَّ الْاثْنَيْ عَشَرَ هُمُ الْعَشَرَةُ الْمُبَشَّرَةُ وَبِلَالٌ، وَابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ وَفِي رِوَايَةٍ عَمَّارٌ بَدَلَ ابْنِ مَسْعُودٍ اهـ. وَرِوَايَةُ الْعُقَيْلِيِّ أَقْوَى وَأَشْبَهُ بِالصَّوَابِ، ثُمَّ وَجَدْتُ رِوَايَةَ أَسَدِ بْنِ عَمْرٍو عِنْدَ الْعُقَيْلِيِّ بِسَنَدٍ مُتَّصِلٍ لَا كَمَا قَالَ السُّهَيْلِيُّ إنَّهُ مُنْقَطِعٌ أَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَةِ أَسَدٍ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ سَالِمٍ.
قَوْلُهُ: (فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ) ظَاهِرٌ فِي أَنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ قُدُومِ الْعِيرِ الْمَذْكُورَةِ، وَالْمُرَادُ بِاللَّهْوِ عَلَى هَذَا مَا يَنْشَأُ مِنْ رُؤْيَةِ الْقَادِمِينَ وَمَا مَعَهُمْ. وَوَقَعَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ مُرْسَلًا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَكَانَتْ لَهُمْ سُوقٌ كَانَتْ بَنُو سَلِيمٍ يَجْلِبُونَ إِلَيْهَا الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ وَالسَّمْنَ، فَقَدِمُوا فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ النَّاسُ وَتَرَكُوهُ، وَكَانَ لَهُمْ لَهْوٌ يَضْرِبُونَهُ فَنَزَلَتْ وَوَصَلَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ وَالطَّبَرِيُّ بِذِكْرِ جَابِرٍ فِيهِ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا نَكَحُوا تَضْرِبُ الْجَوَارِي بِالْمَزَامِيرِ فَيَشْتَدُّ النَّاسُ إِلَيْهِمْ وَيَدَعُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمًا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَفِي مُرْسَلِ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ كَانَ رِجَالٌ يَقُومُونَ إِلَى نَوَاضِحِهِمْ، وَإِلَى السَّفَرِ يَقْدَمُونَ يَبْتَغُونَ التِّجَارَةَ وَاللَّهْوَ، فَنَزَلَتْ وَلَا بُعْدَ فِي أَنْ تَنْزِلَ فِي الْأَمْرَيْنِ مَعًا وَأَكْثَرَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ مُسْتَوْفًى مَعَ تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالنُّكْتَةُ فِي قَوْلِهِ:{انْفَضُّوا إِلَيْهَا} دُونَ قَوْلِهِ إِلَيْهِمَا أَوْ إِلَيْهِ أَنَّ اللَّهْوَ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا لِذَاتِهِ وَإِنَّمَا كَانَ تَبَعًا لِلتِّجَارَةِ، أَوْ حُذِفَ لِدَلَالَةِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أُعِيدَ الضَّمِيرُ إِلَى الْمَعْنَى، أَيِ انْفَضُّوا إِلَى الرُّؤْيَةِ أَيْ لِيَرَوْا مَا سَمِعُوهُ.
(فَائِدَةٌ): ذَكَرَ الْحُمَيْدِيُّ فِي الْجَمْعِ أَنَّ أَبَا مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيَّ ذَكَرَ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَال: لَوْ تَتَابَعْتُمْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْكُمُ أَحَدٌ لَسَالَ بِكُمُ الْوَادِي نَارًا قَالَ: وَهَذَا لَمْ أَجِدْهُ فِي الْكِتَابَيْنِ وَلَا فِي مُسْتَخْرَجَيِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَالْبَرْقَانِيِّ، قَالَ: وَهِيَ فَائِدَةٌ مِنْ أَبِي مَسْعُودٍ،
وَلَعَلَّنَا نَجِدُهَا بِالْإِسْنَادِ فِيمَا بَعْدُ انْتَهَى.
وَلَمْ أَرَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي الْأَطْرَافِ لِأَبِي مَسْعُودٍ وَلَا هِيَ فِي شَيْءٍ مِنْ طَرُقِ حَدِيثِ جَابِرٍ الْمَذْكُورَةِ، وَإِنَّمَا وَقَعَتْ فِي مُرْسَلَيِ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمَا، وَكَذَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ وَسَنَدُهُ سَاقِطٌ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْخُطْبَةَ تَكُونُ عَنْ قِيَامٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَنَّهَا مُشْتَرَطَةٌ فِي الْجُمُعَةِ حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ وَاسْتَبْعَدَهُ، وَأَنَّ الْبَيْعَ وَقْتَ الْجُمُعَةِ يَنْعَقِدُ تَرْجَمَ عَلَيْهِ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ كَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِفَسْخِ مَا تَبَايَعُوا فِيهِ مِنَ الْعِيرِ الْمَذْكُورَةِ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ. وَفِيهِ كَرَاهِيَةُ تَرْكِ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهَا، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ بِاثْنَيْ عَشَرَ نَفْسًا وَهُوَ قَوْلُ رَبِيعَةَ، وَيَجِيءُ أَيْضًا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّ الْعَدَدَ الْمُعْتَبَرَ فِي الِابْتِدَاءِ يُعْتَبَرُ فِي الدَّوَامِ فَلَمَّا لَمْ تَبْطُلِ الْجُمُعَةُ بِانْفِضَاضِ الزَّائِدِ عَلَى الِاثْنَيْ عَشَرَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَافٍ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَمَادَى حَتَّى عَادُوا أَوْ عَادَ مَنْ تُجْزِئُ بِهِمْ، إِذْ لَمْ يَرِدْ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ أَتَمَّ الصَّلَاةَ. وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ أَتَمَّهَا ظُهْرًا. وَأَيْضًا فَقَدْ فَرَّقَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ بَيْنَ الِابْتِدَاءِ وَالدَّوَامِ فِي هَذَا فَقِيلَ: إِذَا انْعَقَدَتْ لَمْ يَضُرَّ مَا طَرَأَ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَوْ بَقِيَ الْإِمَامُ وَحْدَهُ.
وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ بَقَاءُ وَاحِدٍ مَعَهُ، وَقِيلَ: اثْنَيْنِ، وَقِيلَ: يُفَرَّقُ بَيْنَ مَا إِذَا انْفَضُّوا بَعْدَ تَمَامِ الرَّكْعَةِ الْأُولَى فَلَا يَضُرُّ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَإِلَى ظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ صَارَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فَقَالَ: إِذَا تَفَرَّقُوا بَعْدَ الِانْعِقَادِ فَيُشْتَرَطُ بَقَاءُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهَا وَاقِعَةُ عَيْنٍ لَا عُمُومَ فِيهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ظَاهِرَ تَرْجَمَةِ الْبُخَارِيِّ تَقْتَضِي أَنْ لَا يَتَقَيَّدَ الْجَمْعُ الَّذِي يَبْقَى مَعَ الْإِمَامِ بِعَدَدٍ مُعَيَّنٍ، وَتَقَدَّمَ تَرْجِيحُ كَوْنِ الِانْفِضَاضِ وَقَعَ فِي الْخُطْبَةِ لَا فِي الصَّلَاةِ، وَهُوَ اللَّائِقُ بِالصَّحَابَةِ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِهِمْ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ فِي الصَّلَاةِ حُمِلَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ قَبْلَ النَّهْيِ كَآيَةِ لَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ، وَقَبْلَ النَّهْيِ عَنِ الْفِعْلِ الْكَثِيرِ فِي الصَّلَاةِ. وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي التَّرْجَمَةِ فَصَلَاةُ الْإِمَامِ وَمَنْ بَقِيَ جَائِزَةٌ يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ يَرَى أَنَّ الْجَمِيعَ لَوِ انْفَضُّوا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْإِمَامُ وَحْدَهُ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ لَهُ الْجُمُعَةُ، وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا.
وَقِيلَ: تَصِحُّ إِنْ بَقِيَ وَاحِدٌ، وَقِيلَ: إِنْ بَقِيَ اثْنَانِ، وَقِيلَ: ثَلَاثَةٌ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ صَلَّى بِهِمُ الرَّكْعَةَ الْأُولَى صَحَّتْ لِمَنْ بَقِيَ، وَقِيلَ: يُتِمُّهَا ظُهْرًا مُطْلَقًا. وَهَذَا الْخِلَافُ كُلُّهُ أَقْوَالٌ مُخَرَّجَةٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِلَّا الْأَخِيرَ فَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ، وَإِنْ ثَبَتَ قَوْلُ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ أَنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ حِينَئِذٍ قَبْلَ الْخُطْبَةِ زَالَ الْإِشْكَالُ، لَكِنَّهُ مَعَ شُذُوذِهِ مُعْضِلٌ. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ الْأَصِيلِيُّ حَدِيثَ الْبَابِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَصَفَ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُمْ {لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} ثُمَّ أَجَابَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَدِيثُ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ. انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي يَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي آيَةِ النُّورِ التَّصْرِيحُ بِنُزُولِهَا فِي الصَّحَابَةِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ تَقَدَّمَ لَهُمْ نَهْيٌ عَنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْجُمُعَةِ. وَفَهِمُوا مِنْهَا ذَمَّ ذَلِكَ اجْتَنَبُوهُ فَوُصِفُوا بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا فِي آيَةِ النُّورِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
39 - بَاب الصَّلَاةِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ وَقَبْلَهَا
937 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ رَكْعَتَيْنِ، وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ، وَبَعْدَ الْعِشَاءِ رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ لَا يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ حَتَّى يَنْصَرِفَ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ.
[الحديث 937 - أطرافه في 1180. 1172. 1165]
قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ وَقَبْلَهَا) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي التَّطَوُّعِ بِالرَّوَاتِبِ وَفِيهِ وَكَانَ لَا يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ حَتَّى يَنْصَرِفَ فَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ وَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا فِي الصَّلَاةِ قَبْلَهَا. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: كَأَنَّهُ يَقُولُ: الْأَصْلُ اسْتِوَاءُ الظُّهْرِ وَالْجُمُعَةِ حَتَّى يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِهِ، لِأَنَّ الْجُمُعَةَ بَدَلُ الظُّهْرِ. قَالَ: وَكَانَتْ عِنَايَتُهُ بِحُكْمِ الصَّلَاةِ بَعْدَهَا أَكْثَرَ، وَلِذَلِكَ قَدَّمَهُ فِي التَّرْجَمَةِ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ فِي تَقْدِيمِ الْقَبْلِ عَلَى الْبَعْدِ انْتَهَى.
وَوَجْهُ الْعِنَايَةِ الْمَذْكُورَةِ وُرُودُ الْخَبَرِ فِي الْبَعْدِ صَرِيحًا دُونَ الْقَبْلِ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِنَّمَا أَعَادَ ابْنُ عُمَرَ ذِكْرَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الظُّهْرِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي سُنَّةَ الْجُمُعَةِ فِي بَيْتِهِ بِخِلَافِ الظُّهْرِ، قَالَ: وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ الْجُمُعَةَ لَمَّا كَانَتْ بَدَلَ الظُّهْرِ وَاقْتُصِرَ فِيهَا عَلَى رَكْعَتَيْنِ تُرِكَ التَّنَفُّلُ بَعْدَهَا فِي الْمَسْجِدِ خَشْيَةَ أَنْ يُظَنَّ أَنَّهَا الَّتِي حُذِفَتْ. انْتَهَى.
وَعَلَى هَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَنَفَّلَ قَبْلَهَا رَكْعَتَيْنِ مُتَّصِلَتَيْنِ بِهَا فِي الْمَسْجِدِ لِهَذَا الْمَعْنَى. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: لَمْ يَقَعْ ذِكْرُ الصَّلَاةِ قَبْلَ الْجُمُعَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، فَلَعَلَّ الْبُخَارِيَّ أَرَادَ إِثْبَاتَهَا قِيَاسًا عَلَى الظُّهْرِ. انْتَهَى.
وَقَوَّاهُ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّهُ قَصَدَ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَالظُّهْرِ فِي حُكْمِ التَّنَفُّلِ كَمَا قَصَدَ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ فِي الْحُكْمِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ النَّافِلَةَ لَهُمَا سَوَاءٌ. انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ إِلَى مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ الْبَابِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُطِيلُ الصَّلَاةَ قَبْلَ الْجُمُعَةِ وَيُصَلِّي بَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ وَيُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ احْتَجَّ بِهِ النَّوَوِيُّ فِي الْخُلَاصَةِ عَلَى إِثْبَاتِ سُنَّةِ الْجُمُعَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ قَوْلَهُ: وَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ عَائِدٌ عَلَى قَوْلِهِ وَيُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ اللَّيْثِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ كَانَ إِذا صَلَّى الْجُمُعَةَ انْصَرَفَ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ ذَلِكَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: كَانَ يُطِيلُ الصَّلَاةَ قَبْلَ الْجُمُعَةِ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْرُجُ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ فَيَشْتَغِلُ بِالْخُطْبَةِ ثُمَّ بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ فَذَلِكَ مُطْلَقُ نَافِلَةٍ لَا صَلَاةٌ رَاتِبَةٌ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِسُنَّةِ الْجُمُعَةِ الَّتِي قَبْلَهَا بَلْ هُوَ تَنَفُّلٌ مُطْلَقٌ، وَقَدْ وَرَدَ التَّرْغِيبُ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ سَلْمَانَ وَغَيْرِهِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: ثُمَّ صَلَّى مَا كُتِبَ لَهُ.
وَوَرَدَ فِي سُنَّةِ الْجُمُعَةِ الَّتِي قَبْلَهَا أَحَادِيثُ أُخْرَى ضَعِيفَةٌ مِنْهَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَوَاهُ الْبَزَّارُ بِلَفْظِ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ وَبَعْدَهَا أَرْبَعًا وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، وَعَنْ عَلِيٍّ مِثْلُهُ رَوَاهُ الْأَثْرَمُ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِلَفْظِ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الْجُمُعَةِ أَرْبَعًا وَبَعْدَهَا أَرْبَعًا وَفِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّهْمِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ الْأَثْرَمُ إِنَّهُ حَدِيثٌ وَاهٍ. وَمِنْهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ وَزَادَ لَا يُفْصَلُ فِي شَيْءٍ مِنْهُنَّ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ وَاهٍ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْخُلَاصَةِ: إِنَّهُ حَدِيثٌ بَاطِلٌ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ أَيْضًا مِثْلُهُ وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ وَانْقِطَاعٌ. وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا وَهُوَ الصَّوَابُ. وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَفِيَّةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَوْقُوفًا نَحْوَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ سُلَيْكٍ قَبْلَ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ أَمَرَهُ بِهِمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سُنَّةُ الْجُمُعَةِ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَقْلُ الْمَذَاهِبِ فِي كَرَاهَةِ التَّطَوُّعِ نِصْفَ النَّهَارِ وَمَنِ اسْتَثْنَى يَوْمَ الْجُمُعَةِ دُونَ بَقِيَّةِ الْأَيَّامِ فِي بَابِ مَنْ لَمْ يَكْرَهِ الصَّلَاةَ إِلَّا بَعْدَ الْعَصْرِ وَالْفَجْرِ فِي أَوَاخِرِ الْمَوَاقِيتِ.
وَأَقْوَى مَا يُتَمَسَّكُ بِهِ فِي مَشْرُوعِيَّةِ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْجُمُعَةِ عُمُومُ مَا صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ مَرْفُوعًا مَا مِنْ صَلَاةٍ مَفْرُوضَةٍ إِلَّا وَبَيْنَ يَدَيْهَا رَكْعَتَانِ وَمِثْلُهُ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ الْمَاضِي فِي وَقْتِ الْمَغْرِبِ بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي أَبْوَابِ التَّطَوُّعِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
40 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}
938 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ قَالَ: كَانَتْ فِينَا امْرَأَةٌ تَجْعَلُ عَلَى أَرْبِعَاءَ فِي مَزْرَعَةٍ لَهَا سِلْقًا، فَكَانَتْ إِذَا كَانَ يَوْمُ جُمُعَةٍ تَنْزِعُ أُصُولَ السِّلْقِ فَتَجْعَلُهُ فِي قِدْرٍ، ثُمَّ تَجْعَلُ عَلَيْهِ قَبْضَةً مِنْ شَعِيرٍ تَطْحَنُهَا، فَتَكُونُ أُصُولُ السِّلْقِ عَرْقَهُ، وَكُنَّا نَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَنُسَلِّمُ عَلَيْهَا، فَتُقَرِّبُ ذَلِكَ الطَّعَامَ إِلَيْنَا فَنَلْعَقُهُ، وَكُنَّا نَتَمَنَّى يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِطَعَامِهَا ذَلِكَ.
[الحديث 938 - أطرافه في: 6279. 6248. 5403. 2349. 941. 939]
939 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَهْلٍ بِهَذَا، وَقَالَ: مَا كُنَّا نَقِيلُ وَلَا نَتَغَدَّى إِلَّا بَعْدَ الْجُمُعَةِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} الْآيَةَ. أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي قِصَّةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي كَانَتْ تُطْعِمُهُمْ بَعْدَ الْجُمُعَةِ، فَقِيلَ أَرَادَ بِذَلِكَ بَيَانَ أَنَّ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ:{فَانْتَشِرُوا * وَابْتَغُوا} لِلْإِبَاحَةِ لَا لِلْوُجُوبِ لِأَنَّ انْصِرَافَهُمْ إِنَّمَا كَانَ لِلْغَدَاءِ ثُمَّ لِلْقَائِلَةِ عِوَضًا مِمَّا فَاتَهُمْ مِنْ ذَلِكَ فِي وَقْتِهِ الْمُعْتَادِ لِاشْتِغَالِهِمْ بِالتَّأَهُّبِ لِلْجُمُعَةِ ثُمَّ بِحُضُورِهَا وَوَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الصَّارِفَ لِلْأَمْرِ عَنِ الْوُجُوبِ هُنَا كَوْنُهُ وَرَدَ بَعْدَ الْحَظْرِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْوُجُوبِ، بَلِ الْإِجْمَاعُ هُوَ الدَّالُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ الْمَذْكُورَ لِلْإِبَاحَةِ، وَقَدْ جَنَحَ الدَّاوُدِيُّ إِلَى أَنَّهُ عَلَى الْوُجُوبِ فِي حَقِّ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْكَسْبِ، وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الظَّاهِرِيَّةِ. وَقِيلَ هُوَ فِي حَقِّ مَنْ لَا شَيْءَ عِنْدَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ فَأُمِرَ بِالطَّلَبِ بِأَيِّ صُورَةٍ اتَّفَقَتْ لِيَفْرَحَ عِيَالُهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ لِأَنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ، وَالَّذِي يَتَرَجَّحُ أَنَّ فِي قَوْلِهِ:{فَانْتَشِرُوا * وَابْتَغُوا} إِشَارَةً إِلَى اسْتِدْرَاكِ مَا فَاتَكُمْ مِنَ الَّذِي انْفَضَضْتُمْ إِلَيْهِ فَتَنْحَلُّ إِلَى أَنَّهَا قَضِيَّةٌ شَرْطِيَّةٌ، أَيْ مَنْ وَقَعَ لَهُ فِي حَالِ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ وَصَلَاتِهَا زَمَانَ يَحْصُلُ فِيهِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مَنْ أَمْرِ دُنْيَاهُ وَمَعَاشِهِ فَلَا يَقْطَعِ الْعِبَادَةَ لِأَجْلِهِ بَلْ يَفْرَغُ مِنْهَا وَيَذْهَبُ حِينَئِذٍ لِتَحْصِيلَ حَاجَتِهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ الْمَدَنِيُّ، وَأَبُو حَازِمٍ هُوَ سَلَمَةُ بْنُ دِينَارٍ، وَوَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ سَلْمَانُ مَوْلَى عَزَّةَ صَاحِبِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قَوْلُهُ: (كَانَتْ فِينَا امْرَأَةٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهَا.
قَوْلُهُ: (تَجْعَلُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ تُحْقَلُ بِمُهْمَلَةٍ بَعْدَهَا قَافٌ أَيْ تُزْرَعُ، وَالْأَرْبِعَاءُ جَمْعُ رَبِيعٍ كَأَنْصِبَاءٍ وَنَصِيبٍ، وَالرَّبِيعُ الْجَدْوَلُ وَقِيلَ الصَّغِيرُ وَقِيلَ السَّاقِيَةُ الصَّغِيرَةُ وَقِيلَ حَافَاتُ الْأَحْوَاضِ، وَالْمَزْرَعَةُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَحَكَى ابْنُ مَالِكٍ جَوَازَ تَثْلِيثِهَا، وَالسِّلْقُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ مَعْرُوفٌ وَحَكَمَ الْكِرْمَانِيُّ أَنَّهُ وَقَعَ هُنَا سِلْقٌ بِالرَّفْعِ وَتَكَلَّفَ فِي تَوْجِيهِهِ.
قَوْلُهُ: (تَطْحَنُهَا) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي تَطْبُخُهَا بِتَقْدِيمِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ.
قَوْلُهُ: (فَتَكُونُ أُصُولُ السِّلْقِ عَرَقَهُ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا قَافٌ ثُمَّ هَاءُ ضَمِيرٍ أَيْ عَرَقُ الطَّعَامِ وَالْعَرَقُ اللَّحْمُ الَّذِي عَلَى الْعَظْمِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ السِّلْقَ يَقُومُ مَقَامَهُ عِنْدَهُمْ. وَسَيَأْتِي فِي الْأَطْعِمَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ وَاللَّهِ مَا فِيهِ شَحْمٌ وَلَا وَدَكٌ وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ غَرِقَةً بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَبَعْدَ الْقَافِ هَاءُ التَّأْنِيثِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ السِّلْقَ يَغْرَقُ فِي الْمَرْقَةِ لِشِدَّةِ نُضْجِهِ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ السَّلَامِ عَلَى النِّسْوَةِ الْأَجَانِبِ، وَاسْتِحْبَابُ التَّقَرُّبِ بِالْخَيْرِ وَلَوْ بِالشَّيْءِ الْحَقِيرِ، وَبَيَانُ مَا كَانَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ مِنَ الْقَنَاعَةِ وَشِدَّةِ الْعَيْشِ وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى الطَّاعَةِ رضي الله عنهم.
قَوْلُهُ: (بِهَذَا) أَيْ بِالْحَدِيثِ الَّذِي
قَبْلَهُ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ أَبَا غَسَّانَ، وَعَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ أَبِي حَازِمٍ اشْتَرَكَا فِي رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ، وَزَادَ عَبْدُ الْعَزِيزِ الزِّيَادَةَ الْمَذْكُورَةَ وَهِيَ قَوْلُهُ: مَا كُنَّا نَقِيلُ وَنَتَغَدَّى إِلَّا بَعْدَ الْجُمُعَةِ. وَقَدْ رَوَاهَا أَبُو غَسَّانَ مُفْرَدَةً كَمَا فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْغَدَاءِ، وَبَيْنَ رِوَايَةِ أَبِي غَسَّانَ، وَعَبْدِ الْعَزِيزِ تَفَاوُتٌ يَأْتِي بَيَانُهُ فِي بَابِ تَسْلِيمِ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ مِنْ كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِأَحْمَدَ عَلَى جَوَازِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بَابُ مَنْ كَانَ يَقُولُ: الْجُمُعَةُ أَوَّلُ النَّهَارِ وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ سَهْلٍ هَذَا وَحَدِيثَ أَنَسٍ الَّذِي بَعْدَهُ وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلُهُ وَعَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَسَعْدٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ الْجُمُعَةَ قَبْلَ الزَّوَالِ، بَلْ فِيهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَشَاغَلُونَ عَنِ الْغَدَاءِ وَالْقَائِلَةِ بِالتَّهَيُّؤِ لِلْجُمُعَةِ ثُمَّ بِالصَّلَاةِ، ثُمَّ يَنْصَرِفُونَ فَيَتَدَارَكُونَ ذَلِكَ. بَلِ ادَّعَى الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الْجُمُعَةَ تَكُونُ بَعْدَ الزَّوَالِ لِأَنَّ الْعَادَةَ فِي الْقَائِلَةِ أَنْ تَكُونَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَأَخْبَرَ الصَّحَابِيُّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْتَغِلُونَ بِالتَّهَيُّؤِ لِلْجُمُعَةِ عَنِ الْقَائِلَةِ وَيُؤَخِّرُونَ الْقَائِلَةَ حَتَّى تَكُونَ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ.
41 - بَاب الْقَائِلَةِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ
940 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُقْبَةَ الشَّيْبَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ، عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: كُنَّا نُبَكِّرُ إِلَى الْجُمُعَةِ، ثُمَّ نَقِيلُ.
941 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْجُمُعَةَ، ثُمَّ تَكُونُ الْقَائِلَةُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْقَائِلَةِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ وَقْتِ الْجُمُعَةِ وَحَدِيثَ سَهْلٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَ كِتَابُ الْجُمُعَةِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى تِسْعَةٍ وَسَبْعِينَ حَدِيثًا الْمَوْصُولُ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ حَدِيثًا، وَالْمُعَلَّقُ وَالْمُتَابَعَةُ خَمْسَةَ عَشَرَ حَدِيثًا، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهَا وَفِيمَا مَضَى سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ حَدِيثًا، وَالْخَالِصُ ثَلَاثَةٌ وَأَرْبَعُونَ حَدِيثًا كُلُّهَا مَوْصُولَةٌ، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا إِلَّا حَدِيثَ سُلَيْمَانَ فِي الِاغْتِسَالِ وَالدَّهْنِ وَالطِّيبِ، وَحَدِيثُ عُمَرَ وَامْرَأَةِ عُمَرَ فِي النَّهْيِ عَنْ مَنْعِ النِّسَاءِ الْمَسَاجِدَ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ حِينَ تَمِيلُ الشَّمْسُ، وَحَدِيثُهُ فِي الْقَائِلَةِ بَعْدَهَا وَحَدِيثُهُ كَانَ إِذَا اشْتَدَّ الْبَرْدُ بَكَّرَ بِالصَّلَاةِ وَحَدِيثُ أَبِي عَبْسٍ مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ وَحَدِيثُ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ فِي النِّدَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ فِي الْجِذْعِ، وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ تَغْلِبَ إِنِّي أَكِلُ أَقْوَامًا وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْإِنْصَاتِ، وَحَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الْأَخِيرُ فِي قِصَّةِ الْمَرْأَةِ وَالْقَائِلَةِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَثَرًا.
بسم الله الرحمن الرحيم
12 - كِتَاب صَلَاةِ الْخَوْفِ
1 - باب صلاة الخوف
942 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: سَأَلْتُهُ هَلْ صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، يَعْنِي صَلَاةَ الْخَوْفِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمٌ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قِبَلَ نَجْدٍ، فَوَازَيْنَا الْعَدُوَّ، فَصَافَفْنَا لَهُمْ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي لَنَا، فَقَامَتْ طَائِفَةٌ مَعَهُ تُصَلِّي، وَأَقْبَلَتْ طَائِفَةٌ عَلَى الْعَدُوِّ، وَرَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَنْ مَعَهُ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا مَكَانَ الطَّائِفَةِ الَّتِي لَمْ تُصَلِّ، فَجَاءُوا فَرَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِهِمْ رَكْعَةً وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَرَكَعَ لِنَفْسِهِ رَكْعَةً وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ.
[الحديث 942 - أطرافه في: 4535. 4133. 4132. 943]
قَوْلُهُ: (أَبْوَابُ صَلَاةِ الْخَوْفِ) ثَبَتَ لَفْظُ أَبْوَابٍ لِلْمُسْتَمْلِي، وَأَبِي الْوَقْتِ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ بَابٌ بِالْإِفْرَادِ، وَسَقَطَ لِلْبَاقِينَ.
قَوْلُهُ: (وَقَوْلُ اللَّهِ عز وجل {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} ثَبَتَ سِيَاقُ الْآيَتَيْنِ بِلَفْظِهِمَا إِلَى قَوْلِهِ: (مَهِينًا فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ، وَاقْتَصَرَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ عَلَى مَا هُنَا وَقَالَ: إِلَى قَوْلِهِ: {عَذَابًا مُهِينًا} وَأَمَّا أَبُو ذَرٍّ فَسَاقَ الْأُولَى بِتَمَامِهَا وَمِنَ الثَّانِيَةِ إِلَى قَوْلِهِ: (مَعَكَ) ثُمَّ قَالَ إِلَى قَوْلِهِ {عَذَابًا مُهِينًا} قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: ذَكَرَ صَلَاةَ الْخَوْفِ إثْرَ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ لِأَنَّهُمَا مِنْ جُمْلَةِ الْخَمْسِ، لَكِنْ خَرَجَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ قِيَاسِ حُكْمِ بَاقِي الصَّلَوَاتِ، وَلَمَّا كَانَ خُرُوجُ الْجُمُعَةِ أَخَفَّ قَدَّمَهُ تِلْوَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَعَقَّبَهُ بِصَلَاةِ الْخَوْفِ لِكَثْرَةِ الْمُخَالَفَةِ وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ شِدَّةِ الْخَوْفِ، وَسَاقَ الْآيَتَيْنِ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ مُشِيرًا إِلَى أَنَّ خُرُوجَ صَلَاةِ الْخَوْفِ عَنْ هَيْئَةِ بَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ قَوْلًا وَبِالسُّنَّةِ فِعْلًا. انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَلَمَّا كَانَتِ الْآيَتَانِ قَدِ اشْتَمَلَتَا عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْقَصْرِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ وَعَلَى كَيْفِيَّتِهَا سَاقَهُمَا مَعًا وَآثَرَ تَخْرِيجَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ لِقُوَّةِ شَبَهِ الْكَيْفِيَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِيهِ بِالْآيَةِ. وَمَعْنَى قولِهِ تَعَالَى:{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ} أَيْ سَافَرْتُمْ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّ الْقَصْرَ مُخْتَصٌّ بِالسَّفَرِ وَهُوَ كَذَلِكَ.
وَأَمَّا
قَوْلُهُ: {إِنْ خِفْتُمْ} فَمَفْهُومُهُ اخْتِصَاصُ الْقَصْرِ بِالْخَوْفِ أَيْضًا، وَقَدْ سَأَلَ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ الصَّحَابِيُّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنْ ذَلِكَ فَذَكَرَ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، فَثَبَتَ الْقَصْرُ فِي الْأَمْنِ بِبَيَانِ السُّنَّةِ وَاخْتُلِفَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ فِي الْحَضَرِ فَمَنَعَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ أَخْذًا بِالْمَفْهُومِ أَيْضًا وَأَجَازَهُ الْبَاقُونَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} فَقَدْ أَخَذَ بِمَفْهُومِهِ أَبُو يُوسُفَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ اللُّؤْلُؤِيُّ مِنْ أَصْحَابِهِ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ عُلَيَّةَ، وَحُكِيَ عَنِ الْمُزَنِيِّ صَاحِبِ الشَّافِعِيِّ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى فِعْلِ ذَلِكَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي فَعُمُومُ مَنْطُوقِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى ذَلِكَ الْمَفْهُومِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُ: شَرْطُ كَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِمْ إِنَّمَا وَرَدَ لِبَيَانِ الْحُكْمِ لَا لِوُجُودِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: بَيَّنْ لَهُمْ بِفِعْلِكَ لِكَوْنِهِ أَوْضَحَ مِنَ الْقَوْلِ. ثُمَّ إِنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كُلَّ عُذْرٍ طَرَأَ عَلَى الْعِبَادَةِ فَهُوَ عَلَى التَّسَاوِي كَالْقَصْرِ، وَالْكَيْفِيَّةُ وَرَدَتْ لِبَيَانِ الْحَذَرِ مِنَ الْعَدُوِّ، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ بِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ. وَقَالَ الزَّيْنُ الْمُنِيرُ: الشَّرْطُ إِذَا خَرَجَ مَخْرَجِ التَّعْلِيمِ لَا يَكُونُ لَهُ مَفْهُومٌ كَالْخَوْفِ فِي قولِهِ تعالى: {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ} وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: كَانَ أَبُو يُوسُفَ قَدْ قَالَ مَرَّةً: لَا تُصَلَّى صَلَاةُ الْخَوْفِ بَعْدَ رَسُولِ صلى الله عليه وسلم وَزَعَمَ أَنَّ النَّاسَ إِنَّمَا صَلَّوْهَا مَعَهُ لِفَضْلِ الصَّلَاةِ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدَنَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقَدْ كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ يَعِيبُهُ وَيَقُولُ: إِنَّ الصَّلَاةَ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ كَانَتْ أَفْضَلَ مِنَ الصَّلَاةِ مَعَ النَّاسِ جَمِيعًا إِلَّا أَنَّهُ يَقْطَعُهَا مَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ خَلْفَ غَيْرِهِ انْتَهَى.
وَسَيَأْتِي سَبَبُ النُّزُولِ وَبَيَانُ أَوَّلِ صَلَاةٍ صُلِّيَتْ فِي الْخَوْفِ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (عَنِ الزُّهْرِيِّ سَأَلْتُهُ) الْقَائِلُ هُوَ شُعَيْبٌ وَالْمَسْئُولُ هُوَ الزُّهْرِيُّ وَهُوَ الْقَائِلُ أَخْبَرَنِي سَالِمٌ أَيِ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَوَقَعَ بِخَطِّ بَعْضِ مَنْ نَسَخَ الْحَدِيثَ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: سَأَلْتُهُ فَأَثْبَتَ قَالَ ظَنًّا أَنَّهَا حُذِفَتْ خَطَأً عَلَى الْعَادَةِ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ، وَيَكُونُ حُذِفَ فَاعِلُ قَالَ، لَا أَنَّ الزُّهْرِيَّ هُوَ الَّذِي قَالَ: وَالْمُتَّجَهُ حَذْفُهَا وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ حَالِيَّةً أَيْ أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ حَالَ سُؤَالِي إِيَّاهُ. وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ بَقِيَّةَ عَنْ شُعَيْبٍ، حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ، وَأَخْرَجَهُ السَّرَّاجُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَبِي الْيَمَانِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ فَزَادَ فِيهِ وَلَفْظُهُ سَأَلْتُهُ هَلْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْخَوْفِ أَمْ لَا؟ وَكَيْفَ صَلَّاهَا إِنْ كَانَ صَلَّاهَا؟ وَفِي أَيِّ مَغَازِيهِ كَانَ ذَلِكَ؟ فَأَفَادَ بَيَانَ الْمَسْئُولِ عَنْهُ وَهُوَ صَلَاةُ الْخَوْفِ.
قَوْلُهُ: (غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قِبَلَ نَجْدٍ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ جِهَةَ نَجْدٍ، وَنَجْدٌ كُلُّ مَا ارْتَفَعَ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذِهِ الْغَزْوَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ مِنَ الْمَغَازِي.
قَوْلُهُ: (فَوَازَيْنَا) بِالزَّايِ أَيْ قَابَلْنَا، قَالَ صَاحِبُ الصِّحَاحِ: يُقَالُ آزَيْتُ، يَعْنِي بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ لَا بِالْوَاوِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ أَصْلَهُ الْهَمْزَةُ فَقُلِبَتْ وَاوًا.
قَوْلُهُ: (فَصَافَفْنَاهُمْ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ فَصَافَفْنَا لَهُمْ وَقَوْلِهِ فَصَلَّى لَنَا أَيْ لِأَجْلِنَا أَوْ بِنَا.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ انْصَرَفُوا مَكَانَ الطَّائِفَةِ الَّتِي لَمْ تُصَلِّ) أَيْ فَقَامُوا فِي مَكَانِهِمْ، وَصَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ بَقِيَّةَ الْمَذْكُورَةِ، وَلِمَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ثُمَّ اسْتَأْخَرُوا مَكَانَ الَّذِينَ لَمْ يُصَّلُوا وَلَا يُسَلِّمُونَ وَسَيَأْتِي عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي التَّفْسِيرِ.
قَوْلُهُ: (رَكْعَةً وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ) زَادَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ مِثْلَ نِصْفِ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَفِي قَوْلِهِ مِثْلَ نِصْفِ صَلَاةِ الصُّبْحِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الصَّلَاةَ الْمَذْكُورَةَ كَانَتْ غَيْرَ الصُّبْحِ، فَعَلَى هَذَا فَهِيَ رُبَاعِيَّةٌ، وَسَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتِ الْعَصْرَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرَّكْعَةَ الْمَقْضِيَّةَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنَ الْقِرَاءَةِ لِكُلٍّ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ خِلَافًا لِمَنْ أَجَازَ لِلثَّانِيَةِ تَرْكَ الْقِرَاءَةِ.
قَوْلُهُ: (فَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَرَكَعَ لِنَفْسِهِ) لَمْ تَخْتَلِفِ الطُّرُقُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي هَذَا، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُمْ
أَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ أَتَمُّوا عَلَى التَّعَاقُبِ وَهُوَ الرَّاجِحُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَإِلَّا فَيَسْتَلْزِمُ تَضْيِيعَ الْحِرَاسَةِ الْمَطْلُوبَةِ، وَإِفْرَادَ الْإِمَامِ وَحْدَهُ. وَيُرَجِّحُهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَفْظُهُ ثُمَّ سَلَّمَ فَقَامَ هَؤُلَاءِ أَيِ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَقَضَوْا لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمُوا، ثُمَّ ذَهَبُوا وَرَجَعَ أُولَئِكَ إِلَى مَقَامِهِمْ فَصَلَّوْا لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمُوا اهـ. وَظَاهِرُهُ أَنَّ الطَّائِفَةَ الثَّانِيَةَ وَالَّتِ بَيْنَ رَكْعَتَيْهَا ثُمَّ أَتَمَّتِ الطَّائِفَةُ الْأُولَى بَعْدَهَا، وَوَقَعَ فِي الرَّافِعِيِّ تَبَعًا لِغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ أَنَّ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ هَذَا أَنَّ الطَّائِفَةَ الثَّانِيَةَ تَأَخَّرَتْ وَجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الْأُولَى فَأَتَمُّوا رَكْعَةً، ثُمَّ تَأَخَّرُوا وَعَادَتِ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَأَتَمُّوا، وَلَمْ نَقِفْ عَلَى ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ، وَبِهَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ أَخَذَ الْحَنَفِيَّةُ، وَاخْتَارَ الْكَيْفِيَّةَ الَّتِي فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَشْهَبُ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَهِيَ الْمُوَافِقَةُ لِحَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ طَائِفَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ اسْتِوَاءُ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْعَدَدِ، لَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الَّتِي تَحْرُسُ يَحْصُلُ الثِّقَةُ بِهَا فِي ذَلِكَ، وَالطَّائِفَةُ تُطْلَقُ عَلَى الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ حَتَّى عَلَى الْوَاحِدِ، فَلَوْ كَانُوا ثَلَاثَةً وَوَقَعَ لَهُمْ الْخَوْفُ جَازَ لِأَحَدِهِمْ أَنْ يُصَلِّيَ بِوَاحِدٍ.
وَيَحْرُسَ وَاحِدٌ ثُمَّ يُصَلِّيَ الْآخَرُ، وَهُوَ أَقَلُّ مَا يُتَصَوَّرُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ جَمَاعَةٌ عَلَى الْقَوْلِ بِأَقَلِّ الْجَمَاعَةِ مُطْلَقًا، لَكِنْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَكْرَهُ أَنْ تَكُونَ كُلُّ طَائِفَةٍ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ لِأَنَّهُ أَعَادَ عَلَيْهِمْ ضَمِيرَ الْجَمْعِ بِقَوْلِهِ: (أَسْلِحَتَهُمْ) ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى عِظَمِ أَمْرِ الْجَمَاعَةِ، بَلْ عَلَى تَرْجِيحِ الْقَوْلِ بِوُجُوبِهَا لِارْتِكَابِ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ لَا تُغْتَفَرُ فِي غَيْرِهَا، وَلَوْ صَلَّى كُلُّ امْرِئٍ مُنْفَرِدًا لَمْ يَقَعْ الِاحْتِيَاجُ إِلَى مُعْظَمِ ذَلِكَ، وَقَدْ وَرَدَ فِي كَيْفِيَّةِ صَلَاةِ الْخَوْفِ صِفَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَرَجَّحَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةَ الْوَارِدَةَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَلَى غَيْرِهَا لِقُوَّةِ الْإِسْنَادِ لِمُوَافَقَةِ الْأُصُولِ فِي أَنَّ الْمَأْمُومَ لَا يُتِمُّ صِلَاتَهُ قَبْلَ سَلَامِ إِمَامِهِ، وَعَنْ أَحْمَدَ قَالَ: ثَبَتَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ سِتَّةُ أَحَادِيثَ أَوْ سَبْعَةٌ أَيُّهَا فَعَلَ الْمَرْءُ جَازَ، وَمَالَ إِلَى تَرْجِيحِ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ الْآتِي فِي الْمَغَازِي، وَكَذَا رَجَّحَهُ الشَّافِعِيُّ، وَلَمْ يَخْتَرْ إِسْحَاقُ شَيْئًا عَلَى شَيْءٍ، وَبِهِ قَالَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَسَرَدَ ثَمَانِيَةَ أَوْجُهٍ، وَكَذَا ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَزَادَ تَاسِعًا. وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: صَحَّ فِيهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَجْهًا، وَبَيَّنَهَا فِي جُزْءٍ مُفْرَدٍ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْقَبَسِ: جَاءَ فِيهَا رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ أَصَحُّهَا سِتَّ عَشَرَة رِوَايَةً مُخْتَلِفَةً، وَلَمْ يُبَيِّنْهَا.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ نَحْوَهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُبَيِّنْهَا أَيْضًا، وَقَدْ بَيَّنَهَا شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو الْفَضْلِ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ وَزَادَ وَجْهًا آخَرَ فَصَارَتْ سَبْعَةَ عَشَرَ وَجْهًا، لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ تَتَدَاخَلَ.
قَالَ صَاحِبُ الْهُدَى: أُصُولُهَا سِتُّ صِفَاتٍ، وَبَلَغَهَا بَعْضُهُمْ أَكْثَرُ، وَهَؤُلَاءِ كُلَّمَا رَأَوُا اخْتِلَافَ الرُّوَاةِ فِي قِصَّةٍ جَعَلُوا ذَلِكَ وَجْهًا مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّمَا هُوَ مِنِ اخْتِلَافِ الرُّوَاةِ اهـ. وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ شَيْخُنَا بِقَوْلِهِ: يُمْكِنُ تَدَاخُلُهَا. وَحَكَى ابْنُ الْقَصَّارِ الْمَالِكِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّاهَا عَشْرَ مَرَّاتٍ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: صَلَّاهَا أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ مَرَّةً، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: صَلَّاهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أَيَّامٍ مُخْتَلِفَةٍ بِأَشْكَالٍ مُتَبَايِنَةٍ يَتَحَرَّى فِيهَا مَا هُوَ الْأَحْوَطُ لِلصَّلَاةِ وَالْأَبْلَغُ لِلْحِرَاسَةِ، فَهِيَ عَلَى اخْتِلَافِ صُوَرِهَا مُتَّفِقَةُ الْمَعْنَى اهـ. وَفِي كُتُبِ الْفِقْهِ تَفَاصِيلُ لَهَا كَثِيرَةٌ وَفُرُوعٌ لَا يَتَحَمَّلُ هَذَا الشَّرْحُ بَسْطَهَا وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
2 - بَاب صَلَاةِ الْخَوْفِ رِجَالًا وَرُكْبَانًا. رَاجِلٌ: قَائِمٌ
943 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقُرَشِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ نَحْوًا مِنْ قَوْلِ مُجَاهِدٍ إِذَا اخْتَلَطُوا قِيَامًا. وَزَادَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَلْيُصَلُّوا قِيَامًا وَرُكْبَانًا.
قَوْلُهُ: (بَابُ صَلَاةِ الْخَوْفِ رِجَالًا وَرُكْبَانًا) قِيلَ: مَقْصُودُهُ أَنَّ
الصَّلَاةَ لَا تَسْقُطُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ النُّزُولِ عَنِ الدَّابَّةِ وَلَا تُؤَخَّرُ عَنْ وَقْتِهَا، بَلْ تُصَلَّى عَلَى أَيِّ وَجْهٍ حَصَلَتِ الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ الْآيَةِ.
قَوْلُهُ: (رَاجِلٌ: قَائِمٌ) يُرِيدُ أَنَّ قَوْلَهُ رِجَالًا جَمْعُ رَاجِلٍ وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْقَائِمُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَاشِي أَيْضًا وَهُوَ الْمُرَادُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ بِقولِهِ تَعَالَى:{يَأْتُوكَ رِجَالا} أَيْ مُشَاةً، وَفِي تَفْسِيرِ الطَّبَرِيِّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا} إِذَا وَقَعَ الْخَوْفُ فَلْيُصَلِّ الرَّجُلُ عَلَى كُلِّ جِهَةٍ قَائِمًا أَوْ رَاكِبًا.
قَوْلُهُ: (عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوًا مِنْ قَوْلِ مُجَاهِدٍ إِذَا اخْتَلَطُوا قِيَامًا، وَزَادَ ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَلْيُصَلُّوا قِيَامًا وَرُكْبَانًا) هَكَذَا أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ مُخْتَصَرًا وَأَحَالَ عَلَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ هُنَا وَلَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِهِ، فَأَشْكَلَ الْأَمْرُ فِيهِ فَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: مَعْنَاهُ أَنْ نَافِعًا رَوَى عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوًا مِمَّا رَوَى مُجَاهِدٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، الْمَرْوِيُّ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا هُوَ مَا إِذَا اخْتَلَطُوا قِيَامًا، وَزِيَادَةُ نَافِعٍ عَلَى مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِلَخْ قَالَ: وَمَفْهُومُ كَلَامِ ابْنِ بَطَّالٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ مِثْلَ قَوْلِ مُجَاهِدٍ، وَأَنَّ قَوْلَهُمَا مَثَلًا فِي الصُّورَتَيْنِ، أَيْ فِي الِاخْتِلَاطِ وَفِي الْأَكْثَرِيَّةِ، وَأَنَّ الَّذِي زَادَ هُوَ ابْنُ عُمَرَ لَا نَافِعٌ اهـ. وَمَا نَسَبَهُ لِابْنِ بَطَّالٍ بَيِّنٌ فِي كَلَامِهِ إِلَّا الْمِثْلِيَّةَ فِي الْأَكْثَرِيَّةِ فَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِابْنِ عُمَرَ وَكَلَامُ ابْنِ بَطَّالٍ هُوَ الصَّوَابُ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَذْكُرْ دَلِيلَهُ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمَا حَدِيثَانِ: مَرْفُوعٌ وَمَوْقُوفٌ، فَالْمَرْفُوعُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ وَقَدْ يُرْوَى كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ أَيْضًا، وَالْمَوْقُوفُ مِنْ قَوْلِ مُجَاهِدٍ لَمْ يَرْوِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَلَا غَيْرِهِ، وَلَمْ أَعْرِفْ مِنْ أَيْنَ وَقَعَ لِلْكِرْمَانِيِّ أَنَّ مُجَاهِدًا رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَإِنَّهُ لَا وُجُودَ لِذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ، وَقَدْ رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَحْيَى شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ بِإِسْنَادِهِ الْمَذْكُورِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ إِذَا اخْتَلَطُوا يَعْنِي فِي الْقِتَالِ فَإِنَّمَا هُوَ الذِّكْرُ وَإِشَارَةُ الرَّأْسِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَيُصَلُّونَ قِيَامًا وَرُكْبَانًا هَكَذَا اقْتَصَرَ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ خَلَفٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَذْكُورِ مِثْلَ مَا سَاقَهُ الْبُخَارِيُّ سَوَاءً، وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ اخْتَلَطُوا: فَإِنَّمَا هُوَ الذِّكْرُ وَإِشَارَةُ الرَّأْسِ اهـ.
وَتَبَيَّنَ مِنْ هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْبُخَارِيِّ قِيَامًا الْأُولَى تَصْحِيفٌ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِنَّمَا وَقَدْ سَاقَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى بَيْنَ لَفْظِ مُجَاهِدٍ وَبَيَّنَ فِيهَا الْوَاسِطَةَ بَيْنَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَبَيْنَهُ، فَأَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَةِ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: إِذَا اخْتَلَطُوا فَإِنَّمَا هُوَ الْإِشَارَةُ بِالرَّأْسِ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِمِثْلِ قَوْلِ مُجَاهِدٍ إِذَا اخْتَلَطُوا فَإِنَّمَا هُوَ الذِّكْرُ وَإِشَارَةُ الرَّأْسِ وَزَادَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِنْ كَثُرُوا فَلْيُصَلُّوا رُكْبَانًا أَوْ قِيَامًا عَلَى أَقْدَامِهِمْ فَتَبَيَّنَ مِنْ هَذَا سَبَبُ التَّعْبِيرِ بِقَوْلِهِ نَحْوَ قَوْلِ مُجَاهِدٍ لِأَنَّ بَيْنَ لَفْظِهِ وَبَيْنَ لَفْظِ ابْنِ عُمَرَ مُغَايَرَةً، وَتَبَيَّنَ أَيْضًا أَنَّ مُجَاهِدًا إِنَّمَا قَالَهُ بِرَأْيِهِ لَا مِنْ رِوَايَتِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ فَذَكَرَ صَلَاةَ الْخَوْفِ نَحْوَ سِيَاقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ وَقَالَ فِي آخِرِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَإِذَا كَانَ خَوْفٌ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ فَلْيُصَلِّ رَاكِبًا أَوْ قَائِمًا يُومِئُ إِيمَاءً وَرَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ مَوْقُوفًا لَكِنْ قَالَ فِي آخِرِهِ وَأَخْبَرَنَا نَافِعٌ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُخْبِرُ بِهَذَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَاقْتَضَى ذَلِكَ رَفْعَهُ كُلَّهُ. وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ نَافِعٍ كَذَلِكَ لَكِنْ قَالَ فِي آخِرِهِ قَالَ نَافِعٌ: لَا أَرَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ ذَكَرَ ذَلِكَ إِلَّا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَزَادَ فِي آخِرِهِ مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ أَوْ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَرَوَاهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا كُلَّهُ بِغَيْرِ شَكٍّ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَلَفْظُهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي صَلَاةِ
الْخَوْفِ: أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ يُصَلِّي بِطَائِفَةٍ فَذَكَرَ نَحْوَ سِيَاقِ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ وَقَالَ فِي آخِرِهِ فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ فَرِجَالًا وَرُكْبَانًا وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ هَلْ هُوَ مَرْفُوعٌ أَوْ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عُمَرَ، وَالرَّاجِحُ رَفْعُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَيْ إِنْ كَانَ الْعَدُوَّ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْخَوْفَ إِذَا اشْتَدَّ وَالْعَدُوَّ إِذَا كَثُرَ فَخِيفَ مِنَ الِانْقِسَامِ لِذَلِكَ جَازَتِ الصَّلَاةُ حِينَئِذٍ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَجَازَ تَرْكُ مُرَاعَاةِ مَا لَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَرْكَانِ، فَيَنْتَقِلُ عَنِ الْقِيَامِ إِلَى الرُّكُوعِ، وَعَنِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إِلَى الْإِيمَاءِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَبِهَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ وَلَكِنْ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يَصْنَعُونَ ذَلِكَ حَتَّى يُخْشَى فَوَاتُ الْوَقْتِ، وَسَيَأْتِي مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ فِي ذَلِكَ بَعْدَ بَابٍ.
(تَنْبِيهٌ): ابْنُ جُرَيْجٍ سَمِعَ الْكَثِيرَ مِنْ نَافِعٍ، وَقَدْ أَدْخَلَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَافِعٍ، مُوسَى بْنَ عُقْبَةَ، فَفِي هَذَا التَّقْوِيَةُ لِمَنْ قَالَ إِنَّهُ أَثْبَتُ النَّاسِ فِي نَافِعٍ، وَلِابْنِ جُرَيْجٍ فِيهِ إِسْنَادٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ.
3 - بَاب يَحْرُسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ
944 -
حَدَّثَنَا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ الزُّبَيْدِيِّ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، فَكَبَّرَ وَكَبَّرُوا مَعَهُ، وَرَكَعَ وَرَكَعَ نَاسٌ مِنْهُمْ مَعَهُ، ثُمَّ سَجَدَ وَسَجَدُوا مَعَهُ، ثُمَّ قَامَ لِلثَّانِيَةِ، فَقَامَ الَّذِينَ سَجَدُوا وَحَرَسُوا إِخْوَانَهُمْ، وَأَتَتْ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى فَرَكَعُوا وَسَجَدُوا مَعَهُ، وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ فِي صَلَاةٍ وَلَكِنْ يَحْرُسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
قَوْلُهُ: (بَابُ يَحْرُسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الْخَوْفِ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: مَحَلُّ هَذِهِ الصُّورَةِ إِذَا كَانَ الْعَدُوُّ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ فَلَا يَفْتَرِقُونَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ بِخِلَافِ الصُّورَةِ الْمَاضِيَةِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَيْسَ هَذَا بِخِلَافِ الْقُرْآنِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قولُهُ تَعَالَى: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى} إِذَا كَانَ الْعَدُوُّ فِي غَيْرِ الْقِبْلَةِ، وَذَلِكَ بِبَيَانِهِ صلى الله عليه وسلم. ثُمَّ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ الصَّلَاةِ إِذَا كَانَ الْعَدُوُّ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (عَنِ الزُّبَيْدِيِّ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ حَدَّثَنَا الزُّبَيْدِيُّ وَلَمْ أَرَهُ مِنْ حَدِيثِهِ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ حَرْبٍ عَنْهُ، وَافَقَهُ عَلَيْهِ النُّعْمَانُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ وَقَالَ: لَا نَعْلَمُ رَوَاهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ إِلَّا النُّعْمَانُ، وَلَا عَنْهُ إِلَّا وُهَيْبٌ يَعْنِي ابْنَ خَالِدٍ اهـ. وَرِوَايَةُ الزُّبَيْدِيِّ تَرُدُّ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (وَرَكَعَ نَاسٌ مِنْهُمْ) زَادَ الْكُشْمِيهَنِيُّ مَعَهُ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَامَ لِلثَّانِيَةِ فَقَامَ الَّذِينَ سَجَدُوا مَعَهُ) فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ ثُمَّ قَامَ إِلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَتَأَخَّرَ الَّذِينَ سَجَدُوا مَعَهُ.
قَوْلُهُ: (فَرَكَعُوا وَسَجَدُوا) فِي رِوَايَتِهِمَا أَيْضًا فَرَكَعُوا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (فِي صَلَاةٍ) زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ يُكَبِّرُونَ وَلَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ هَذِهِ هَلْ أَكْمَلُوا الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ أَمْ لَا، وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي الْجَهْمِ مِنْ شَيْخِهِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ فَزَادَ فِي آخِرِهِ وَلَمْ يَقْضُوا وَهَذَا كَالصَّرِيحِ فِي اقْتِصَارِهِمْ عَلَى رَكْعَةٍ رَكْعَةٍ. وَفِي الْبَابِ عَنْ حُذَيْفَةَ وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَابْنِ حِبَّانَ، وَعَنْ جَابِرٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً وَبِالِاقْتِصَارِ فِي الْخَوْفِ عَلَى رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ يَقُولُ إِسْحَاقُ، وَالثَّوْرِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُمَا، وَقَالَ بِهِ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ
مِنَ التَّابِعِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَيَّدَ ذَلِكَ بِشِدَّةِ الْخَوْفِ، وَسَيَأْتِي عَنْ بَعْضِهِمْ فِي شِدَّةِ الْخَوْفِ أَسْهَلُ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: قَصْرُ الْخَوْفِ قَصْرُ هَيْئَةٍ لَا قَصْرُ عَدَدٍ، وَتَأَوَّلُوا رِوَايَةَ مُجَاهِدٍ هَذِهِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ رَكْعَةٌ مَعَ الْإِمَامِ، وَلَيْسَ فِيهِ نَفْيُ الثَّانِيَةِ، وَقَالُوا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ لَمْ يَقْضُوا أَيْ لَمْ يُعِيدُوا الصَّلَاةَ بَعْدَ الْأَمْنِ
(1)
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَائِدَةٌ): لَمْ يَقَعْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْوِيَّةِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ تَعَرُّضٌ لِكَيْفِيَّةِ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُهَا قَصْرٌ، وَاخْتَلَفُوا هَلِ الْأَوْلَى أَنْ يُصَلِّيَ بِالْأُولَى ثِنْتَيْنِ وَالثَّانِيَةِ وَاحِدَةً أَوِ الْعَكْسُ.
4 - بَاب الصَّلَاةِ عِنْدَ مُنَاهَضَةِ الْحُصُونِ وَلِقَاءِ الْعَدُوِّ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِنْ كَانَ تَهَيَّأَ الْفَتْحُ وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلَاةِ صَلَّوْا إِيمَاءً كُلُّ امْرِئٍ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْإِيمَاءِ أَخَّرُوا الصَّلَاةَ حَتَّى يَنْكَشِفَ الْقِتَالُ، أَوْ يَأْمَنُوا فَيُصَلُّوا رَكْعَتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا صَلَّوْا رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ لَا يُجْزِئُهُمْ التَّكْبِيرُ، وَيُؤَخِّرُوهَا حَتَّى يَأْمَنُوا. وَبِهِ قَالَ مَكْحُولٌ. وَقَالَ أَنَسُ: حَضَرْتُ عِنْدَ مُنَاهَضَةِ حِصْنِ تُسْتَرَ عِنْدَ إِضَاءَةِ الْفَجْرِ، وَاشْتَدَّ اشْتِعَالُ الْقِتَالِ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلَاةِ، فَلَمْ نُصَلِّ إِلَّا بَعْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ فَصَلَّيْنَاهَا وَنَحْنُ مَعَ أَبِي مُوسَى. فَفُتِحَ لَنَا. وَقَالَ أَنَسُ: وَمَا يَسُرُّنِي بِتِلْكَ الصَّلَاةِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا.
945 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُبَارَكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: جَاءَ عُمَرُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ وَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا صَلَّيْتُ الْعَصْرَ حَتَّى كَادَتْ الشَّمْسُ أَنْ تَغِيبَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وَأَنَا وَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا بَعْدُ، قَالَ: فَنَزَلَ إِلَى بُطْحَانَ فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى الْعَصْرَ بَعْدَ مَا غَابَتْ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ بَعْدَهَا.
قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّلَاةِ عِنْدَ مُنَاهَضَةِ الْحُصُونِ) أَيْ عِنْدَ إِمْكَانِ فَتْحِهَا، وَغَلَبَةِ الظَّنِّ عَلَى الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَلِقَاءُ الْعَدُوِّ) وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْأَعَمِّ عَلَى الْأَخَصِّ، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: كَأَنَّ الْمُصَنِّفَ خَصَّ هَذِهِ الصُّورَةَ لِاجْتِمَاعِ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، فَإِنَّ الْخَوْفَ يَقْتَضِي مَشْرُوعِيَّةَ صَلَاةِ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ بِحُصُولِ الظَّفَرِ يَقْتَضِي اغْتِفَارَ التَّأْخِيرِ لِأَجْلِ اسْتِكْمَالِ مَصْلَحَةِ الْفَتْحِ، فَلِهَذَا خَالَفَ الْحُكْمُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْحُكْمَ فِي غَيْرِهَا عِنْدَ مَنْ قَالَ بِهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ إِلَخْ) كَذَا ذَكَرَهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْهُ فِي كِتَابِ السِّيَرِ.
قَوْلُهُ: (إِنْ كَانَ تَهَيَّأَ الْفَتْحُ) أَيْ تَمَكَّنَ، وَفِي رِوَايَةِ الْقَابِسِيِّ إِنْ كَانَ بِهَا الْفَتْحُ بِمُوَحَّدَةٍ وَهَاءِ الضَّمِيرِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ.
قَوْلُهُ: (فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْإِيمَاءِ) قِيلَ: فِيهِ إِشْكَالٌ لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنِ الْإِيمَاءِ لَا يَتَعَذَّرُ مَعَ حُصُولِ الْعَقْلِ، إِلَّا أَنْ تَقَعَ دَهْشَةٌ فَيَعْزُبُ اسْتِحْضَارُهُ ذَلِكَ، وَتُعُقِّبَ. قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: مَنْ بَاشَرَ الْحَرْبَ وَاشْتِغَالَ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ إِذَا اشْتَغَلَتْ عَرَفَ كَيْفَ يَتَعَذَّرُ الْإِيمَاءُ، وَأَشَارَ ابْنُ بَطَّالٍ إِلَى أَنَّ عَدَمَ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ يُتَصَوَّرُ بِالْعَجْزِ عَنِ الْوُضُوءِ أَوِ التَّيَمُّمِ لِلِاشْتِغَالِ بِالْقِتَالِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْأَوْزَاعِيَّ كَانَ يَرَى اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ شَرْطًا فِي الْإِيمَاءِ فَيُتَصَوَّرُ الْعَجْزُ عَنِ الْإِيمَاءِ إِلَيْهَا حِينَئِذٍ.
قَوْلُهُ: (فَلَا يُجْزِيهِمُ التَّكْبِيرُ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى
(1)
هذا الجواب من الجمهور فيه نظر. والصواب قول من قال: يجوز الإقتصار على ركعة واحدة في الخوف لصحة الأحاديث بذلك. والله أعلم.
خِلَافِ مَنْ قَالَ يُجْزِئُ كَالثَّوْرِيِّ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَبِي الْبُخْتُرِيِّ فِي آخَرِينَ قَالُوا: إِذَا الْتَقَى الزَّحْفَانِ وَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَقُولُوا: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، فَتِلْكَ صَلَاتُهُمْ بِلَا إِعَادَةٍ وَعَنْ مُجَاهِدٍ، وَالْحَكَمِ: إِذَا كَانَ عِنْدَ الطِّرَادِ وَالْمُسَابَقَةِ
(1)
يُجْزِئُ أَنْ تَكُونَ صَلَاةُ الرَّجُلِ تَكْبِيرًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا تَكْبِيرَةٌ وَاحِدَةٌ أَجْزَأَتْهُ أَيْنَ كَانَ وَجْهُهُ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: يُجْزِئُ عِنْدَ الْمُسَابَقَةِ رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ يُومِئُ بِهَا إِيمَاءً، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَسَجْدَةٌ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَتَكْبِيرَةٌ.
قَوْلُهُ: (وَبِهِ قَالَ مَكْحُولٌ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَقِيَّةً مِنْ كَلَامِ الْأَوْزَاعِيِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَعْلِيقِ الْبُخَارِيِّ. انْتَهَى. وَقَدْ وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حَمِيدٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ
(2)
الْأَوْزَاعِيِّ بِلَفْظِ إِذَا لَمْ يَقْدِرِ الْقَوْمُ عَلَى أَنْ يُصَلُّوا عَلَى الْأَرْضِ صَلَّوْا عَلَى ظَهْرِ الدَّوَابِّ رَكْعَتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا فَرَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا أَخَّرُوا الصَّلَاةَ حَتَّى يَأْمَنُوا فَيُصَلُّوا بِالْأَرْضِ.
(تَنْبِيهٌ): ذَكَرَ ابْنُ رَشِيدٌ أَنَّ سِيَاقَ الْبُخَارِيِّ لِكَلَامِ الْأَوْزَاعِيِّ مُشَوَّشٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ جَعَلَ الْإِيمَاءَ مَشْرُوطًا بِتَعَذُّرِ الْقُدْرَةِ، وَالتَّأْخِيرَ مَشْرُوطًا بِتَعَذُّرِ الْإِيمَاءِ، وَجَعَلَ غَايَةَ التَّأْخِيرِ انْكِشَافَ الْقِتَالِ، ثُمَّ قَالَ: أَوْ يَأْمَنُوا فَيُصَلُّوا رَكْعَتَيْنِ فَجَعَلَ الْأَمْنَ قَسِيمَ الِانْكِشَافِ يَحْصُلُ الْأَمْنُ فَكَيْفَ يَكُونُ قَسِيمَهُ؟ وَأَجَابَ الْكِرْمَانِيُّ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الِانْكِشَافَ قَدْ يَحْصُلُ وَلَا يَحْصُلُ الْأَمْنُ لِخَوْفِ الْمُعَاوَدَةِ، كَمَا أَنَّ الْأَمْنَ يَحْصُلُ بِزِيَادَةِ الْقُوَّةِ وَاتِّصَالِ الْمَدَدِ بِغَيْرِ انْكِشَافٍ، فَعَلَى هَذَا فَالْأَمْنُ قَسِيمُ الِانْكِشَافِ أَيُّهُمَا حَصَلَ اقْتَضَى صَلَاةَ رَكْعَتَيْنِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا فَمَعْنَاهُ عَلَى صَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ بِالْفِعْلِ أَوْ بِالْإِيمَاءِ فَوَاحِدَةً وَهَذَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِهِ الْأَوَّلِ قَالَ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهَا أَخَّرُوا أَيْ حَتَّى يَحْصُلَ الْأَمْنُ التَّامُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَنَسٌ) وَصَلَهُ ابْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ عَنْهُ، وَذَكَرَهُ خَلِيفَةُ فِي تَارِيخِهِ وَعُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي أَخْبَارِ الْبَصْرَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ عَنْ قَتَادَةَ، وَلَفْظُ عُمَرَ سَأَلَ قَتَادَةَ عَنِ الصَّلَاةِ إِذَا حَضَرَ الْقِتَالَ فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّهُمْ فَتَحُوا تُسْتَرَ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عَلَى مُقَدِّمَةِ النَّاسِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ - يَعْنِي أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ - أَمِيرُهُمْ.
قَوْلُهُ: (تُسْتَرُ) بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقَانِيَّةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ أَيْضًا بَلَدٌ مَعْرُوفٌ مِنْ بِلَادِ الْأَهْوَازِ، وَذَكَرَ خَلِيفَةُ أَنَّ فَتْحَهَا كَانَ فِي سَنَةِ عِشْرِينَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ، وَسَيَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَى كَيْفِيَّتِهِ فِي أَوَاخِرِ الْجِهَادِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (اشْتِعَالُ الْقِتَالِ) بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ.
قَوْلُهُ: (فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلَاةِ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلْعَجْزِ عَنِ النُّزُولِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلْعَجْزِ عَنِ الْإِيمَاءِ أَيْضًا، فَيُوَافِقُ مَا تَقَدَّمَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، وَجَزَمَ الْأَصِيلِيُّ بِأَنَّ سَبَبَهُ أَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا إِلَى الْوُضُوءِ سَبِيلًا مِنْ شِدَّةِ الْقِتَالِ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا بَعْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ) فِي رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ شَبَّةَ حَتَّى انْتَصَفَ النَّهَارُ.
قَوْلُهُ: (مَا يَسُرُّنِي بِتِلْكَ الصَّلَاةِ) أَيْ بَدَلَ تِلْكَ الصَّلَاةِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مِنْ تِلْكَ الصَّلَاةِ.
قَوْلُهُ: (الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) فِي رِوَايَةِ خَلِيفَةَ: الدُّنْيَا كُلُّهَا، وَالَّذِي يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ مِنْ هَذَا أَنَّ مُرَادَهُ الِاغْتِبَاطُ بِمَا وَقَعَ، فَالْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ عَلَى هَذَا هِيَ الْمَقْضِيَّةُ الَّتِي وَقَعَتْ، وَوَجْهُ اغْتِبَاطِهِ كَوْنُهُمْ لَمْ يَشْتَغِلُوا عَنِ الْعِبَادَةِ إِلَّا بِعِبَادَةٍ أَهَمَّ مِنْهَا عِنْدَهُمْ
(3)
، ثُمَّ تَدَارَكُوا مَا فَاتَهُمْ مِنْهَا فَقَضَوْهُ، وَهُوَ كَقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ لَوْ طَلَعْتَ لَمْ تَجِدْنَا غَافِلِينَ وَقِيلَ: مُرَادُ أَنَسٍ الْأَسَفُ عَلَى التَّفْوِيتِ الَّذِي وَقَعَ لَهُمْ، وَالْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ عَلَى هَذِهِ الْفَائِتَةِ وَمَعْنَاهُ: لَوْ كَانَتْ فِي
(1)
كذا في الأصول " ولعلها " المسايفة "
(2)
في المخطوطة " من طريق"
(3)
قوله " أهم منها " يعني في ذلك الوقت، لأن الفتح قد يفوت بالصلاة، والصلاة لاتفوت لإمكان قضائها بعد الفتح، وإلا فمعلوم من الأدلة الشرعية أن الشرعية أن الصلاة أهم وأعظم من الجهاد. فتنبه. والله أعلم
وَقْتِهَا كَانَتْ أَحَبَّ إِلَيَّ فَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَمِمَّنْ جَزَمَ بِهَذَا الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ فَقَالَ: إِيثَارُ أَنَسٍ الصَّلَاةَ عَلَى الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا يُشْعِرُ بِمُخَالَفَتِهِ لِأَبِي مُوسَى فِي اجْتِهَادِهِ الْمَذْكُورِ، وَأَنَّ أَنَسًا كَانَ يَرَى أَنْ يُصَلِّيَ لِلْوَقْتِ وَإِنْ فَاتَ الْفَتْحُ، وَقَوْلُهُ هَذَا مُوَافِقٌ لِحَدِيثِ رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا انْتَهَى، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ الْمُوَافَقَةَ فِي اللَّفْظِ، وَإِلَّا فَقِصَّةُ أَنَسٍ فِي الْمَفْرُوضَةِ وَالْحَدِيثُ فِي النَّافِلَةِ، وَيَخْدِشُ فِيمَا ذَكَرَهُ عَنْ أَنَسٍ مِنْ مُخَالَفَةِ اجْتِهَادِ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَصَلَّى أَنَسٌ وَحْدَهُ وَلَوْ بِالْإِيمَاءِ لَكِنَّهُ وَافَقَ أَبَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ فَكَيْفَ يُعَدُّ مُخَالِفًا؟ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ) كَذَا فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ فِي نُسْخَةِ يَحْيَى بْنُ مُوسَى وَفِي أُخْرَى يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ وَهَذَا الْمُعْتَمَدُ، وَهِيَ نُسْخَةٌ صَحِيحَةٌ بِعَلَامَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ يَحْيَى بْنُ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ وَهُوَ غَلَطٌ وَلَعَلَّهُ كَانَ فِيهِ يَحْيَى بْنُ مُوسَى وَفِي الْحَاشِيَةِ ابْنُ جَعْفَرٍ عَلَى أَنَّهَا نُسْخَةٌ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا بَعْضُ مَنْ نَسَخَ الْكِتَابَ، وَاسْمُ جَدِّ يَحْيَى بْنِ مُوسَى عَبَدُ رَبِّهِ بْنُ سَالِمٍ وَهُوَ الْمُلَقَّبُ خَتٌّ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ فَوْقَانِيَّةٌ ثَقِيلَةٌ، وَاسْمُ جَدِّ يَحْيَى بْنِ جَعْفَرٍ أَعْيَنُ وَكِلَاهُمَا مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ وَكِلَاهُمَا مِنْ أَصْحَابِ وَكِيعٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ جَابِرٍ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِهِ فِي أَوَاخِرَ الْمَوَاقِيتِ، وَنُقِلَ الِاخْتِلَافُ فِي سَبَبِ تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ هَلْ كَانَ نِسْيَانًا أَوْ عَمْدًا، وَعَلَى الثَّانِي هَلْ كَانَ لِلشُّغْلِ بِالْقِتَالِ أَوْ لِتَعَذُّرِ الطَّهَارَةِ أَوْ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الْخَوْفِ؟ وَإِلَى الْأَوَّلِ وَهُوَ الشُّغْلُ جَنَحَ الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَنَزَّلَ عَلَيْهِ الْآثَارَ الَّتِي تَرْجَمَ لَهَا بِالشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَا يَرُدُّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَرْجِيحِ كَوْنِ آيَةِ الْخَوْفِ نَزَلَتْ قَبْلَ الْخَنْدَقِ لِأَنَّ وَجْهَهُ أَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى ذَلِكَ، وَآيَةُ الْخَوْفِ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ لَا تُخَالِفُهُ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الصَّلَاةِ مُطْلَقًا، وَإِلَى الثَّانِي جَنَحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَبْطُلُ عِنْدَهُمْ بِالشُّغْلِ الْكَثِيرِ فِي الْحَرْبِ إِذَا احْتِيجَ إِلَيْهِ، وَإِلَى الثَّالِثِ جَنَحَ الشَّافِعِيَّةُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَوْضِعِ الْمَذْكُورِ، وَعَكَسَ بَعْضُهُمْ فَادَّعَى أَنَّ تَأْخِيرَهُ صلى الله عليه وسلم لِلصَّلَاةِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ دَالٌّ عَلَى نَسْخِ صَلَاةِ الْخَوْفِ، قَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ: وَهُوَ قَوْلُ مَنْ لَا يَعْرِفُ السُّنَنَ، لِأَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ أُنْزِلَتْ بَعْدَ الْخَنْدَقِ فَكَيْفَ يَنْسَخُ الْأَوَّلُ الْآخِرَ؟ فَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
5 - بَاب صَلَاةِ الطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبِ رَاكِبًا وَإِيمَاءً
وَقَالَ الْوَلِيدُ ذَكَرْتُ: لِلْأَوْزَاعِيِّ صَلَاةَ شُرَحْبِيلَ بْنِ السِّمْطِ وَأَصْحَابِهِ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ فَقَالَ: كَذَلِكَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا إِذَا تُخُوِّفَ الْفَوْتُ. وَاحْتَجَّ الْوَلِيدُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ.
946 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ قَالَ: حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنْ الْأَحْزَابِ: لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمْ الْعَصْرُ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي، لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ. فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ.
[الحديث 946 - طرفه في: 4119]
قَوْلُهُ: (بَابُ صَلَاةِ الطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبِ رَاكِبًا وَإِيمَاءً) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ، إِلَيْهِ وَقَائِمًا قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: إِنَّ الْمَطْلُوبَ يُصَلِّي عَلَى دَابَّتِهِ يُومِئُ إِيمَاءً، وَإِنْ كَانَ طَالِبًا
نَزَلَ فَصَلَّى عَلَى الْأَرْضِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِلَّا أَنْ يَنْقَطِعَ مِنْ أَصْحَابِهِ فَيَخَافُ عَوْدَ الْمَطْلُوبِ عَلَيْهِ فَيُجْزِئُهُ ذَلِكَ، وَعُرِفَ بِهَذَا أَنَّ الطَّالِبَ فِيهِ التَّفْصِيلُ بِخِلَافِ الْمَطْلُوبِ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ شِدَّةَ الْخَوْفِ فِي الْمَطْلُوبِ ظَاهِرَةٌ لِتَحَقُّقِ السَّبَبِ الْمُقْتَضِي لَهَا، وَأَمَّا الطَّالِبُ فَلَا يَخَافُ اسْتِيلَاءَ الْعَدُوِّ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يَخَافُ أَنْ يَفُوتَهُ الْعَدُوُّ. وَمَا نَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ مُتَعَقَّبٌ بِكَلَامِ الْأَوْزَاعِيِّ، فَإِنَّهُ قَيَّدَهُ بِخَوْفِ الْفَوْتِ وَلَمْ يَسْتَثْنِ طَالِبًا مِنْ مَطْلُوبٍ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَذَكَرَ أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ فِي كِتَابِ السِّيَرِ لَهُ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ: إِذَا خَافَ الطَّالِبُونَ إِنْ نَزَلُوا بِالْأَرْضِ فَوْتَ الْعَدُوِّ صَلَّوْا حَيْثُ وَجَّهُوا عَلَى كُلِّ حَالٍ، لِأَنَّ الْحَدِيثَ جَاءَ إِنَّ النَّصْرَ لَا يُرْفَعُ مَا دَامَ الطَّلَبُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْوَلِيدُ) كَذَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ السِّيَرِ وَرَوَاهُ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ قَالَ شُرَحْبِيلُ بْنُ السِّمْطِ لِأَصْحَابِهِ: لَا تُصَلُّوا الصُّبْحَ إِلَّا عَلَى ظَهْرٍ، فَنَزَلَ الْأَشْتَرُ - يَعْنِي النَّخَعِيَّ - فَصَلَّى عَلَى الْأَرْضِ، فَقَالَ شُرَحْبِيلُ: مُخَالِفٌ خَالَفَ اللَّهَ بِهِ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ. مِنْ طَرِيقِ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ قَالَ كَانَ ثَابِتُ بْنُ السِّمْطِ فِي خَوْفٍ فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّوْا رُكْبَانًا، فَنَزَلَ الْأَشْتَرُ - يَعْنِي النَّخَعِيَّ - فَقَالَ: مُخَالِفٌ خُولِفَ بِهِ فَلَعَلَّ ثَابِتًا كَانَ مَعَ أَخِيهِ شُرَحْبِيلَ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ، وَشُرَحْبِيلُ الْمَذْكُورُ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ مَكْسُورَةٌ ثُمَّ يَاءٌ تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ كِنْدِيٌّ هُوَ الَّذِي افْتَتَحَ حِمْصَ ثُمَّ وَلِيَ إِمْرَتَهَا، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي صُحْبَتِهِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ غَيْرُ هَذَا الْمَوْضِعِ.
قَوْلُهُ: (إِذَا تَخَوَّفَ الْفَوْتَ) زَادَ الْمُسْتَمْلِي فِي الْوَقْتِ.
قَوْلُهُ: (وَاحْتَجَّ الْوَلِيدُ) مَعْنَاهُ أَنَّ الْوَلِيدَ قَوَّى مَذْهَبَ الْأَوْزَاعِيِّ فِي مَسْأَلَةِ الطَّالِبِ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَوْ وَجَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ أَنَّ الَّذِينَ صَلَّوْا فِي الطَّرِيقِ صَلَّوْا رُكْبَانًا لَكَانَ بَيِّنًا فِي الِاسْتِدْلَالِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فَذِكْرُ مَا حَاصِلُهُ أَنَّ وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ يَكُونُ بِالْقِيَاسِ فَكَمَا سَاغَ لِأُولَئِكَ أَنْ يُؤَخِّرُوا الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا الْمُفْتَرَضِ كَذَلِكَ يَسُوغُ لِلطَّالِبِ تَرْكُ إِتْمَامِ الْأَرْكَانِ وَالِانْتِقَالُ إِلَى الْإِيمَاءِ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَالْأَبْيَنُ عِنْدِي أَنَّ وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الِاسْتِعْجَالَ الْمَأْمُورَ بِهِ يَقْتَضِي تَرْكَ الصَّلَاةِ أَصْلًا كَمَا جَرَى لِبَعْضِهِمْ، أَوِ الصَّلَاةُ عَلَى الدَّوَابِّ كَمَا وَقَعَ لِلْآخَرِينَ، لِأَنَّ النُّزُولَ يُنَافِي مَقْصُودَ الْجَدِّ فِي الْوُصُولِ، فَالْأَوَّلُونَ بَنَوْا عَلَى أَنَّ النُّزُولَ مَعْصِيَةٌ لِمُعَارَضَتِهِ لِلْأَمْرِ الْخَاصِّ بِالْإِسْرَاعِ، وَكَأَنَّ تَأْخِيرَهُمْ لَهَا لِوُجُودِ الْمُعَارِضِ، وَالْآخَرُونَ جَمَعُوا بَيْنَ دَلِيلَيْ وُجُوبِ الْإِسْرَاعِ وَوُجُوبِ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا فَصَلَّوْا رُكْبَانًا، فَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُمْ نَزَلُوا لَكَانَ ذَلِكَ مُضَادًّا لِلْأَمْرِ بِالْإِسْرَاعِ، وَهُوَ لَا يُظَنُّ بِهِمْ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ. انْتَهَى.
وَهَذَا الَّذِي حَاوَلَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ قَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ بَطَّالٍ بِقَوْلِهِ: لَوْ وُجِدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ إِلَخْ، فَلَمْ يَسْتَحْسِنِ الْجَزْمَ فِي النَّقْلِ بِالِاحْتِمَالِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَا يُظَنُّ بِهِمُ الْمُخَالَفَةُ، فَمُعْتَرَضٌ بِمِثْلِهِ بِأَنْ يُقَالَ لَا يُظَنُّ بِهِمُ الْمُخَالَفَةُ بِتَغْيِيرِ هَيْئَةِ الصَّلَاةِ بِغَيْرِ تَوْقِيفٍ وَالْأَوْلَى فِي هَذَا مَا قَالَهُ ابْنُ الْمُرَابِطِ وَوَافَقَهُ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ أَنَّ وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ مِنْهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَوِيَّةِ، لِأَنَّ الَّذِينَ أَخَّرُوا الصَّلَاةَ حَتَّى وَصَلُوا إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ لَمْ يُعَنَّفُوا مَعَ كَوْنِهِمْ فَوَّتُوا الْوَقْتَ فَصَلَاةُ مَنْ لَا يُفَوِّتُ الْوَقْتَ بِالْإِيمَاءِ - أَوْ كَيْفَ مَا يُمْكِنُ - أَوْلَى مِنْ تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ) هُوَ بِالْجِيمِ تَصْغِيرُ جَارِيَةٍ، وَهُوَ عَمُّ عَبْدِ اللَّهِ الرَّاوِي عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الظُّهْرَ وَسَيَأْتِي بَيَانُ الصَّوَابِ مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي مَعَ بَقِيَّةِ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(فَائِدَةٌ): أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي صَلَاةِ الطَّالِبِ حَدِيثَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ إِذْ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى سُفْيَانَ الْهُذَلِيِّ قَالَ فَرَأَيْتُهُ وَحَضَرَتِ الْعَصْرُ فَخَشِيتُ فَوْتُهَا فَانْطَلَقْتُ أَمْشِي وَأَنَا أُصَلِّي أُومِئُ إِيمَاءً وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.
6 - بَاب التَّبكْيرِ وَالْغَلَسِ بِالصُّبْحِ، وَالصَّلَاةِ عِنْدَ الْإِغَارَةِ وَالْحَرْبِ
947 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، وَثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الصُّبْحَ بِغَلَسٍ، ثُمَّ رَكِبَ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ {فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ} فَخَرَجُوا يَسْعَوْنَ فِي السِّكَكِ وَيَقُولُونَ: مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ، قَالَ: وَالْخَمِيسُ الْجَيْشُ، فَظَهَرَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَتَلَ الْمُقَاتِلَةَ وَسَبَى الذَّرَارِيَّ، فَصَارَتْ صَفِيَّةُ لِدِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ، وَصَارَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا وَجَعَلَ صَدَاقَهَا عِتْقَهَا. فَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ، لِثَابِتٍ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، أَنْتَ سَأَلْتَ أَنَسَا مَا أَمْهَرَهَا؟ قَالَ: أَمْهَرَهَا نَفْسَهَا. فَتَبَسَّمَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ التَّكْبِيرِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وللْكُشْمِيهَنِيِّ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ التَّبْكِيرُ بِتَقْدِيمِ الْمُوَحَّدَةِ وَهُوَ أَوْجَهُ.
قَوْلُهُ: (وَالصَّلَاةُ عِنْدَ الْإِغَارَةِ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالصَّلَاةِ وَبِالتَّكْبِيرِ أَيْضًا. أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الصُّبْحَ بِغَلَسٍ ثُمَّ رَكِبَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلَ الصَّلَاةِ فِي بَابِ مَا يُذْكَرُ فِي الْفَخِذِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ أَنَسٍ وَأَوَّلُهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَزَا خَيْبَرَ فَصَلَّى عِنْدَهَا صَلَاةَ الْغَدَاةِ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَهُوَ أَتَمُّ سِيَاقًا مِمَّا هُنَا، وَقَوْلُهُ وَيَقُولُونَ: مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ فِيهِ حَمْلٌ لِرِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَلَى رِوَايَةِ ثَابِتٍ، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ أَنَّ عَبْدَ الْعَزِيزِ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَنَسٍ قَوْلَهُ وَالْخَمِيسُ وَأَنَّهَا فِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ.
قَوْلُهُ: (فَصَارَتْ صَفِيَّةُ لِدِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ، وَصَارَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) ظَاهِرُهُ أَنَّهَا صَارَتْ لَهُمَا مَعًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ صَارَتْ لِدِحْيَةَ أَوَّلًا ثُمَّ صَارَتْ بَعْدَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي الْمَغَازِي وَفِي النِّكَاحِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَوَجْهُ دُخُولَ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ فِي أَبْوَابِ صَلَاةِ الْخَوْفِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّأْخِيرُ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ كَمَا شَرَطَهُ مَنْ شَرَطَهُ فِي صَلَاةِ شِدَّةِ الْخَوْفِ عِنْدَ الْتِحَامِ الْمُقَاتِلَةِ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى تَعَيُّنِ الْمُبَادَرَةِ إِلَى الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الْحَرْبِ وَالِاشْتِغَالِ بِأَمْرِ الْعَدُوِّ. وَأَمَّا التَّكْبِيرُ فَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ مَأْثُورٌ عِنْدَ كُلِّ أَمْرٍ مَهُولٍ، وَعِنْدَ كُلِّ حَادِثِ سُرُورٍ، شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى وَتَبْرِئَةً لَهُ مِنْ كُلِّ مَا نَسَبَ إِلَيْهِ أَعْدَاؤُهُ وَلَا سِيَّمَا الْيَهُودُ. قَبَّحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَتْ أَبْوَابُ صَلَاةِ الْخَوْفِ عَلَى سِتَّةِ أَحَادِيثَ مَرْفُوعَةٍ مَوْصُولَةٍ، تَكَرَّرَ مِنْهَا فِيمَا مَضَى حَدِيثَانِ وَالْأَرْبَعَةُ خَالِصَةٌ وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا إِلَّا حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَفِيهَا مِنَ الْآثَارِ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ سِتَّةُ آثَارٍ، مِنْهَا وَاحِدٌ مَوْصُولٌ وَهُوَ أَثَرُ مُجَاهِدٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
بسم الله الرحمن الرحيم
13 - كِتَاب الْعِيدَيْنِ
1 - بَاب فِي الْعِيدَيْنِ وَالتَّجَمُّلِ فِيهِ
948 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: أَخَذَ عُمَرُ جُبَّةً مِنْ إِسْتَبْرَقٍ تُبَاعُ فِي السُّوقِ، فَأَخَذَهَا فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْتَعْ هَذِهِ، تَجَمَّلْ بِهَا لِلْعِيدِ وَالْوُفُودِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ. فَلَبِثَ عُمَرُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَلْبَثَ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِجُبَّةِ دِيبَاجٍ، فَأَقْبَلَ بِهَا عُمَرُ، فَأَتَى بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ قُلْتَ: إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ وَأَرْسَلْتَ إِلَيَّ بِهَذِهِ الْجُبَّةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: تَبِيعُهَا أَوْ تُصِيبُ بِهَا حَاجَتَكَ.
قَوْلُهُ: (بَابٌ فِي الْعِيدَيْنِ وَالتَّجَمُّلِ فِيهِ) كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ شَبُّوَيْهِ، وَنَحْوُهُ لِابْنِ عَسَاكِرَ، وَسَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ لِأَبِي ذَرٍّ، وَلَهُ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي أَبْوَابٌ بَدَلَ كِتَابٍ. وَاقْتَصَرَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَالْبَاقِينَ عَلَى قَوْلِهِ بَابُ إِلَخْ وَالضَّمِيرُ فِي فِيهِ رَاجِعٌ إِلَى جِنْسِ الْعِيدِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فِيهِمَا.
قَوْلُهُ: (أَخَذَ عُمَرُ جُبَّةً مِنِ إسْتَبْرَقٍ تُبَاعُ فِي السُّوقِ، فَأَخَذَهَا فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) كَذَا لِلْأَكْثَرِ أَخَذَ بِهَمْزَةٍ وَخَاءٍ وَذَالٍ مُعْجَمَتَيْنِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَجَدَ بِوَاوٍ وَجِيمٍ فِي الْأَوَّلِ وَهُوَ أَوْجَهُ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي مُسْنَدِ الشَّامِيِّينَ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ طُرُقٍ إِلَى أَبِي الْيَمَانِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ. وَوَجَّهَ الْكِرْمَانِيُّ الْأَوَّلَ بِأَنَّهُ أَرَادَ مَلْزُومَ الْأَخْذِ وَهُوَ الشِّرَاءُ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ ذَلِكَ، فَلَعَلَّهُ أَرَادَ السَّوْمَ.
قَوْلُهُ: (ابْتَعْ هَذِهِ تَجَمَّلْ بِهَا) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ مَجْزُومًا وَكَذَا جَوَابُهُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ ابْتَاعَ هَذِهِ تَجَمَّلَ وَضُبِطَ فِي نُسَخٍ مُعْتَمَدَةٍ بِهَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ مَمْدُودَةٍ وَمَقْصُورَةٍ وَضَمِّ لَامِ تَجَمَّلَ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ تَتَجَمَّلُ فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ كَأَنَّ عُمَرَ اسْتَأْذَنَ أَنْ يَبْتَاعَهَا لِيَتَجَمَّلَ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الرُّوَاةِ أَشْبَعَ فَتْحَةَ التَّاءِ فَظُنَّتْ أَلِفًا. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ قَوْلُهُ هَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى نَوْعِ الْجُبَّةِ، كَذَا قَالَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ إِشَارَةٌ إِلَى عَيْنِهَا وَيَلْتَحِقُ بِهَا جِنْسُهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ تَوْجِيهُ التَّرْجَمَةِ وَأَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ تَقْرِيرِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَصْلِ التَّجَمُّلِ، وَإِنَّمَا زَجْرُهُ عَنِ الْجُبَّةِ لِكَوْنِهَا كَانَتْ حَرِيرًا.
قَوْلُهُ: (لِلْعِيدِ وَالْوُفُودِ) تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ بِلَفْظِ لِلْجُمُعَةِ بَدَلَ لِلْعِيدِ وَهِيَ رِوَايَةُ نَافِعٍ، وَهَذِهِ رِوَايَةُ سَالِمٍ، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ. وَكَأَنَّ ابْنَ عُمَرَ ذَكَرَهُمَا مَعًا فَاقْتَصَرَ كُلُّ رَاوٍ عَلَى أَحَدِهِمَا.
قَوْلُهُ: (تَبِيعُهَا وَتُصِيبُ بِهَا حَاجَتَكَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَوْ تُصِيبُ وَمَعْنَى الْأَوَّلِ وَتُصِيبُ بِثَمَنِهَا، وَالثَّانِي يُحْتَمَلُ أَنَّ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ فَهُوَ كَالْأَوَّلِ أَوِ التَّقْسِيمِ، وَالْمُرَادُ الْمُقَايَضَةُ أَوْ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(فَائِدَةٌ): رَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَلْبَسُ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ فِي الْعِيدَيْنِ.
2 - بَاب الْحِرَابِ وَالدَّرَقِ يَوْمَ الْعِيدِ
949 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَمْرٌو أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَسَدِيَّ حَدَّثَهُ عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثَ، فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ، وَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَانْتَهَرَنِي وَقَالَ: مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام فَقَالَ: دَعْهُمَا، فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَا.
[الحديث 949 - أطرافه في: 3931. 3530. 2907. 987. 952]
950 -
وَكَانَ يَوْمَ عِيدٍ يَلْعَبُ فيه السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ، فَإِمَّا سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَإِمَّا قَالَ: تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَأَقَامَنِي وَرَاءَهُ خَدِّي عَلَى خَدِّهِ وَهُوَ يَقُولُ: دُونَكُمْ يَا بَنِي أَرْفِدَةَ، حَتَّى إِذَا مَلِلْتُ قَالَ: حَسْبُكِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَاذْهَبِي.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْحِرَابِ وَالدَّرَقِ يَوْمَ الْعِيدِ) الْحِرَابُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ جَمْعُ حَرْبَةٍ وَالدَّرَقُ جَمْعُ دَرَقَةٍ وَهِيَ التُّرْسُ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: حَمْلُ السِّلَاحِ فِي الْعِيدِ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي سُنَّةِ الْعِيدِ وَلَا فِي صِفَةِ الْخُرُوجِ إِلَيْهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صلى الله عليه وسلم كَانَ مُحَارِبًا خَائِفًا فَرَأَى الِاسْتِظْهَارِ بِالسِّلَاحِ، لَكِنْ لَيْسَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ بِأَصْحَابِ الْحِرَابِ مَعَهُ يَوْمَ الْعِيدِ، وَلَا أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالتَّأَهُّبِ بِالسِّلَاحِ، يَعْنِي فَلَا يُطَابِقُ الْحَدِيثُ التَّرْجَمَةَ. وَأَجَابَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ بِأَنَّ مُرَادَ الْبُخَارِيِّ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّ الْعِيدَ يُغْتَفَرُ فِيهِ مِنَ الِانْبِسَاطِ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي غَيْرِهِ اهـ. وَلَيْسَ فِي التَّرْجَمَةِ أَيْضًا تَقْيِيدُهُ بِحَالِ الْخُرُوجِ إِلَى الْعِيدِ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّ لَعِبَ الْحَبَشَةِ إِنَّمَا كَانَ بَعْدَ رُجُوعِهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمُصَلَّى، لِأَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ أَوَّلَ النَّهَارِ فَيُصَلِّي ثُمَّ يَرْجِعُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ غَيْرُ مَنْسُوبٍ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَابْنِ عَسَاكِرَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى وَبِهِ جَزَمَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ، وَوَقْعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ شَبُّوَيْهِ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ وَهُوَ مُقْتَضَى إِطْلَاقِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ السَّكَنِ حَيْثُ قَالَ: كُلُّ مَا فِي الْبُخَارِيِّ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ غَيْرُ مَنْسُوبٍ فَهُوَ ابْنُ صَالِحٍ.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا عَمْرٌو) هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ الْمِصْرِيُّ، وَشَطْرُ هَذَا الْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ مِصْرِيُّونَ وَالثَّانِي مَدَنِيُّونَ.
قَوْلُهُ: (دَخَلَ عَلَي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَادَ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ فِي أَيَّامِ مِنًى وَسَيَأْتِي بَعْدَ ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ بَابًا.
قَوْلُهُ: (جَارِيَتَانِ) زَادَ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ مِنْ جَوَارِي الْأَنْصَارِ وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ إِحْدَاهُمَا كَانَتْ لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، وَفِي الْأَرْبَعِينَ لِلسُّلَمِيِّ أَنَّهُمَا كَانَتَا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَفِي الْعِيدَيْنِ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ طَرِيقِ فُلَيْحٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ وَحَمَامَةَ وَصَاحِبَتِهَا تُغَنِّيَانِ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَةِ الْأُخْرَى، لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الثَّانِيَةِ زَيْنَبَ وَقَدْ ذَكَرَهُ
(1)
فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، وَلَمْ يَذْكُرْ حَمَامَةَ الَّذِينَ صَنَّفُوا فِي الصَّحَابَةِ وَهِيَ عَلَى شَرْطِهِمْ.
قَوْلُهُ: (تُغَنِّيَانِ) زَادَ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ تُدَفِّفَانِ بِفَاءَيْنِ أَيْ تَضْرِبَانِ بِالدُّفِّ، وَلِمُسْلِمٍ فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ أَيْضًا تُغَنِّيَانِ بِدُفٍّ وَلِلنَّسَائِيِّ بِدُفَّيْنِ وَالدُّفُّ بِضَمِّ الدَّالِ عَلَى الْأَشْهَرِ وَقَدْ تُفْتَحُ، وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا الْكِرْبَالُ بِكَسْرِ الْكَافِ وَهُوَ
(1)
في المخطوطة "ذكرته"
الَّذِي لَا جَلَاجِلَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَتْ فِيهِ فَهُوَ الْمِزْهَرُ، وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ بِمَا تَقَاوَلَتْ بِهِ الْأَنْصَارُ يَوْمَ بُعَاثٍ أَيْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مِنْ فَخْرٍ أَوْ هِجَاءٍ، وَلِلْمُصَنِّفِ فِي الْهِجْرَةِ بِمَا تَعَازَفَتْ بِمُهْمَلَةٍ وَزَايٍ وَفَاءٍ مِنَ الْعَزْفِ وَهُوَ الصَّوْتُ الَّذِي لَهُ دَوِيٌّ، وَفِي رِوَايَةِ تَقَاذَفَتْ بِقَافٍ بَدَلَ الْعَيْنِ وَذَالٍ مُعْجَمَةٍ بَدَلَ الزَّايِ وَهُوَ مِنَ الْقَذْفِ وَهُوَ هِجَاءُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضِ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامٍ يَذْكُرُ أَنَّ يَوْمَ بُعَاثٍ يَوْمَ قُتِلَ فِيهِ صَنَادِيدُ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ اهـ.
وَبُعَاثٌ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَبَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ وَآخِرُهُ مُثَلَّثَةٌ قَالَ عِيَاضٌ وَمَنْ تَبِعَهُ: أَعْجَمَهَا أَبُو عُبَيْدَةَ وَحْدَهُ، وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي الْكَامِلِ: أَعْجَمَهَا صَاحِبُ الْعَيْنِ يَعْنِي الْخَلِيلَ وَحْدَهُ، وَكَذَا حَكَى أَبُو عُبَيْدٍ الْبَكْرِيُّ فِي مُعْجَمِ الْبُلْدَانِ عَنِ الْخَلِيلِ، وَجَزَمَ أَبُو مُوسَى فِي ذَيْلِ الْغَرِيبِ بِأَنَّهُ تَصْحِيفٌ وَتَبِعَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ، قَالَ الْبَكْرِيُّ: هُوَ مَوْضِعٌ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى لَيْلَتَيْنِ، وَقَالَ أَبُو مُوسَى وَصَاحِبُ الْهِدَايَةِ: هُوَ اسْمُ حِصْنٍ لِلْأَوْسِ، وَفِي كِتَابِ أَبِي الْفَرَجِ الْأَصْفَهَانِيِّ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي قَيْسِ بْنِ الْأَسْلَتِ: هُوَ مَوْضِعٌ فِي دَارِ بَنِي قُرَيْظَةَ فِيهِ أَمْوَالٌ لَهُمْ، وَكَانَ مَوْضِعُ الْوَقْعَةِ فِي مَزْرَعَةٍ لَهُمْ هُنَاكَ. وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ: الْأَشْهَرُ فِيهِ تَرْكُ الصَّرْفِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يَوْمُ بُعَاثٍ يَوْمٌ مَشْهُورٌ مِنْ أَيَّامِ الْعَرَبِ كَانَتْ فِيهِ مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ لِلْأَوْسِ عَلَى الْخَزْرَجِ، وَبَقِيَتِ الْحَرْبُ قَائِمَةً مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً إِلَى الْإِسْلَامِ عَلَى مَا ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ.
قُلْتُ: تَبِعَهُ عَلَى هَذَا جَمَاعَةٌ مِنْ شُرَّاحِ الصَّحِيحَيْنِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ الْحَرْبَ الَّتِي وَقَعَتْ يَوْمَ بُعَاثٍ دَامَتْ هَذِهِ الْمُدَّةَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَسَيَأْتِي فِي أَوَائِلِ الْهِجْرَةِ قَوْلُ عَائِشَةَ كَانَ يَوْمُ بُعَاثٍ يَوْمًا قَدَّمَهُ اللَّهُ لِرَسُولِهِ فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ وَقَدِ افْتَرَقَ مَلَؤُهُمْ وَقُتِلَتْ سُرَاتُهُمْ وَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَالْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِ الْأَخْبَارِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ سَعْدٍ بِأَسَانِيدِهِ أَنَّ النَّفَرَ السِّتَّةَ أَوِ الثَّمَانِيَةَ الَّذِينَ لَقُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِمِنًى أَوَّلُ مَنْ لَقِيَهُ مِنْ الْأَنْصَارِ - وَكَانُوا قَدْ قَدِمُوا إِلَى مَكَّةَ لِيُحَالِفُوا قُرَيْشًا - كَانَ فِي جُمْلَةِ مَا قَالُوهُ لَهُ لَمَّا دَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَالنَّصْرِ لَهُ: وَاعْلَمْ أَنَّمَا كَانَتْ وَقْعَةُ بُعَاثٍ عَامَ الْأَوَّلِ، فَمَوْعِدُكُ الْمَوْسِمُ الْقَابِلُ، فَقَدِمُوا فِي السَّنَةِ الَّتِي تَلِيهَا فَبَايَعُوهُ، وَهِيَ الْبَيْعَةُ الْأُولَى، ثُمَّ قَدِمُوا الثَّانِيَةَ فَبَايَعُوهُ وَهُمْ سَبْعُونَ نَفْسًا، وَهَاجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أَوَائِلِ الَّتِي تَلِيهَا. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ وَقْعَةَ بُعَاثٍ كَانَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ فِي تَرْجَمَةِ زِيدِ بْنِ ثَابِتٍ مِنَ الِاسْتِيعَابِ: إِنَّهُ كَانَ يَوْمَ بُعَاثٍ ابْنَ سِتِّ سِنِينَ، وَحِينَ قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَانَ ابْنَ إِحْدَى عَشْرَةَ، فَيَكُونُ يَوْمُ بُعَاثٍ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِخَمْسِ سِنِينَ.
نَعَمْ دَامَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ الْحَيَّيْنِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ الْمُدَّةَ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي أَيَّامٍ كَثِيرَةٍ شَهِيرَةٍ، وَكَانَ أَوَّلُهَا فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَهِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ لَمَّا نَزَلُوا الْمَدِينَةَ وَجَدُوا الْيَهُودَ مُسْتَوْطِنِينَ بِهَا فَحَالَفُوهُمْ وَكَانُوا تَحْتَ قَهْرِهِمْ، ثُمَّ غَلَبُوا عَلَى الْيَهُودِ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ بِمُسَاعَدَةِ أَبِي جَبَلَةَ مَلِكِ غَسَّانَ، فَلَمْ يَزَالُوا عَلَى اتِّفَاقٍ بَيْنَهُمْ حَتَّى كَانَتْ أَوَّلَ حَرْبٍ وَقَعَتْ بَيْنَهُمْ حَرْبُ سُمَيْرٍ - بِالْمُهْمَلَةِ مُصَغَّرًا - بِسَبَبِ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ كَعْبٌ مِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ نَزَلَ عَلَى مَالِكِ بْنِ عَجْلَانَ الْخَزْرَجِيِّ فَحَالَفَهُ، فَقَتَلَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَوْسِ يُقَالُ لَهُ سُمَيْرٌ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ الْحَرْبِ بَيْنَ الْحَيَّيْنِ، ثُمَّ كَانَتْ بَيْنَهُمْ وَقَائِعُ مِنْ أَشْهَرِهَا يَوْمُ السَّرَارَةَ بِمُهْمَلَاتٍ، وَيَوْمُ فَارِعٍ بِفَاءٍ وَمُه مَلَةٍ، وَيَوْمُ الْفِجَارِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، وَحَرْبُ حُصَيْنِ بْنِ الْأَسْلَتِ، وَحَرْبُ حَاطِبِ بْنِ قَيْسٍ، إِلَى أَنْ كَانَ آخِرَ ذَلِكَ يَوْمُ بُعَاثٍ وَكَانَ رَئِيسُ الْأَوْسِ فِيهِ حُضَيْر وَالِدَ أَسِيدٍ وَكَانَ يُقَالُ لَهُ حُضَيْرُ الْكَتَائِبِ، وَجُرِحَ يَوْمَئِذٍ ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ مُدَّةٍ مِنْ جِرَاحَتِهِ، وَكَانَ رَئِيسُ الْخَزْرَجِ عَمْرَو بْنَ النُّعْمَانِ، وَجَاءَهُ سَهْمٌ فِي الْقِتَالِ فَصَرَعَهُ فَهُزِمُوا بَعْدَ أَنْ كَانُوا قَدِ اسْتَظْهَرُوا، وَلِحَسَّانَ وَغَيْرِهِ مِنَ الْخَزْرَجِ وَكَذَا لِقَيْسِ بْنِ الْحُطَيْمِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَوْسِ فِي ذَلِكَ أَشْعَارٌ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي دَوَاوِينِهِمْ.
قَوْلُهُ: (فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ) فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ
الْمَذْكُورَةِ أَنَّهُ تَغَشَّى بِثَوْبِهِ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ تَسَجَّى أَيْ الْتَفَّ بِثَوْبِهِ.
قَوْلُهُ: (وَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ) فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ دَخَلَ عَلَيَّ أَبُو بَكْرٍ وَكَأَنَّهُ جَاءَ زَائِرًا لَهَا بَعْدَ أَنْ دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْتَهُ.
قَوْلُهُ: (فَانْتَهَرَنِي) فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ فَانْتَهَرَهُمَا أَيِ الْجَارِيَتَيْنِ، وَيُجْمَعُ بِأَنَّهُ شَرَكَ بَيْنَهُنَّ فِي الِانْتِهَارِ وَالزَّجْرِ، أَمَّا عَائِشَةُ فَلِتَقْرِيرِهَا، وَأَمَّا الْجَارِيَتَانِ فَلِفِعْلِهِمَا.
قَوْلُهُ: (مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ) بِكَسْرِ الْمِيمِ يَعْنِي الْغِنَاءَ أَوْ الدُّفَّ، لِأَنَّ الْمِزْمَارَةَ أَوِ الْمِزْمَارَ مُشْتَقٌّ مِنَ الزَّمِيرِ وَهُوَ الصَّوْتُ الَّذِي لَهُ الصَّفِيرُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الصَّوْتِ الْحَسَنِ وَعَلَى الْغِنَاءِ، وَسُمِّيَتْ بِهِ الْآلَةُ الْمَعْرُوفَةُ الَّتِي يُزَمَّرُ بِهَا، وَإِضَافَتُهَا إِلَى الشَّيْطَانِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا تُلْهِي، فَقَدْ تَشْغَلُ الْقَلْبَ عَنِ الذِّكْرِ. وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ فَقَالَ: يَا عِبَادَ اللَّهِ أَبِمَزْمُورِ الشَّيْطَانِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْمَزْمُورُ الصَّوْتُ، وَنِسْبَتُهُ إِلَى الشَّيْطَانِ ذَمٌّ عَلَى مَا ظَهَرَ لِأَبِي بَكْرٍ، وَضَبَطَهُ عِيَاضٌ بِضَمِّ الْمِيمِ وَحُكِيَ فَتْحُهَا.
قَوْلُهُ: (فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ) فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ: فَكَشَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ وَجْهِهِ. وَفِي رِوَايَةِ فُلَيْحٍ: فَكَشَفَ رَأْسَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ كَانَ مُلْتَفًّا.
قَوْلُهُ: (دَعْهُمَا). زَادَ فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ: يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهَذَا عِيدُنَا، فَفِيهِ تَعْلِيلُ الْأَمْرِ بِتَرْكِهِمَا، وَإِيضَاحُ خِلَافِ مَا ظَنَّهُ الصِّدِّيقُ مِنْ أَنَّهُمَا فَعَلَتَا ذَلِكَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ صلى الله عليه وسلم لِكَوْنِهِ دَخَلَ فَوَجَدَهُ مُغَطًّى بِثَوْبِهِ، فَظَنَّهُ نَائِمًا فَتَوَجَّهَ لَهُ الْإِنْكَارُ عَلَى ابْنَتِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ مُسْتَصْحِبًا لِمَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُ مِنْ مَنْعِ الْغِنَاءِ وَاللَّهْوِ، فَبَادَرَ إِلَى إِنْكَارِ ذَلِكَ قِيَامًا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ مُسْتَنِدًا إِلَى مَا ظَهَرَ لَهُ، فَأَوْضَحَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْحَالَ، وَعَرَّفَهُ الْحُكْمَ مَقْرُونًا بِبَيَانِ الْحِكْمَةِ بِأَنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ، أَيْ يَوْمُ سُرُورٍ شَرْعِيٍّ، فَلَا يُنْكَرُ فِيهِ مِثْلُ هَذَا، كَمَا لَا يُنْكَرُ فِي الْأَعْرَاسِ، وَبِهَذَا يَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ عَمَّنْ قَالَ: كَيْفَ سَاغَ لِلصِّدِّيقِ إِنْكَارُ شَيْءٍ أَقَرَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟ وَتَكَلَّفَ جَوَابًا لَا يَخْفَى تَعَسُّفُهُ.
وَفِي قَوْلِهِ: لِكُلِّ قَوْمٍ أَيْ مِنَ الطَّوَائِفِ، وَقَوْلُهُ: عِيدٌ أَيْ كَالنَّيْرُوزِ وَالْمِهْرَجَانِ، وَفِي النَّسَائِيِّ، وَابْنِ حِبَّانَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا، فَقَالَ: قَدْ أَبْدَلَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى، وَاسْتُنْبِطَ مِنْهُ كَرَاهَةُ الْفَرَحِ فِي أَعْيَادِ الْمُشْرِكِينَ وَالتَّشَبُّهِ بِهِمْ، وَبَالَغَ الشَّيْخُ أَبُو حَفْصٍ الْكَبِيرُ النَّسَفِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، فَقَالَ: مَنْ أَهْدَى فِيهِ بَيْضَةً إِلَى مُشْرِكٍ تَعْظِيمًا لِلْيَوْمِ فَقَدْ كَفَرَ بِاللَّهِ تَعَالَى. اسْتُنْبِطَ مِنْ تَسْمِيَةِ أَيَّامِ مِنًى بِأَنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ مَشْرُوعِيَّةُ قَضَاءِ صَلَاةِ الْعِيدِ فِيهَا لِمَنْ فَاتَتْهُ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدُ. وَاسْتَدَلَّ جَمَاعَةٌ مِنَ الصُّوفِيَّةِ بِحَدِيثِ الْبَابِ عَلَى إِبَاحَةِ الْغِنَاءِ وَسَمَاعِهِ بِآلَةٍ وَبِغَيْرِ آلَةٍ، وَيَكْفِي فِي رَدِّ ذَلِكَ تَصْرِيحُ عَائِشَةَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الْبَابِ بَعْدَهُ بِقَوْلِهَا: وَلَيْسَتَا بِمُغَنِّيَتَيْنِ فَنَفَتْ عَنْهُمَا مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى مَا أَثْبَتَهُ لَهُمَا بِاللَّفْظِ، لِأَنَّ الْغِنَاءَ يُطْلَقُ عَلَى رَفْعِ الصَّوْتِ وَعَلَى التَّرَنُّمِ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ النَّصْبَ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ عَلَى الْحِدَاءِ.
وَلَا يُسَمَّى فَاعِلُهُ مُغَنِّيًا وَإِنَّمَا يُسَمَّى بِذَلِكَ مَنْ يَنْشُدُ بِتَمْطِيطٍ وَتَكْسِيرٍ وَتَهْيِيجٍ وَتَشْوِيقٍ بِمَا فِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْفَوَاحِشِ أَوْ تَصْرِيحٌ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَوْلُهَا: لَيْسَتَا بِمُغَنِّيَتَيْنِ، أَيْ لَيْسَتَا مِمَّنْ يَعْرِفُ الْغِنَاءَ كَمَا يَعْرِفُهُ الْمُغَنِّيَاتُ الْمَعْرُوفَاتُ بِذَلِكَ، وَهَذَا مِنْهَا تَحَرُّزٌ عَنِ الْغِنَاءِ الْمُعْتَادِ عِنْدَ الْمُشْتَهِرِينَ بِهِ، وَهُوَ الَّذِي يُحَرِّكُ السَّاكِنَ وَيَبْعَثُ الْكَامِنَ، وَهَذَا النَّوْعُ إِذَا كَانَ فِي شِعْرٍ فِيهِ وَصْفُ مَحَاسِنِ النِّسَاءِ وَالْخَمْرِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأُمُورِ الْمُحَرَّمَةِ لَا يُخْتَلَفُ فِي تَحْرِيمِهِ، قَالَ: وَأَمَّا مَا ابْتَدَعَهُ الصُّوفِيَّةُ فِي ذَلِكَ فَمِنْ قَبِيلِ مَا لَا يُخْتَلَفُ فِي تَحْرِيمِهِ، لَكِنَّ النُّفُوسَ الشَّهْوَانِيَّةَ غَلَبَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ يُنْسَبُ إِلَى الْخَيْرِ، حَتَّى لَقَدْ ظَهَرَتْ مِنْ كَثِيرٍ مِنْهُمْ فِعْلَاتُ الْمَجَانِينِ وَالصِّبْيَانِ، حَتَّى رَقَصُوا بِحَرَكَاتٍ مُتَطَابِقَةٍ وَتَقْطِيعَاتٍ مُتَلَاحِقَةٍ، وَانْتَهَى التَّوَاقُحُ بِقَوْمٍ مِنْهُمْ إِلَى أَنْ جَعَلُوهَا مِنْ بَابِ الْقُرَبِ وَصَالِحِ الْأَعْمَالِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يُثْمِرُ سِنِيِّ الْأَحْوَالِ، وَهَذَا - عَلَى التَّحْقِيقِ - مِنْ آثَارِ الزَّنْدَقَةِ، وَقَوْلُ أَهْلِ الْمُخَرِّفَةِ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، اهـ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْكَسَ مُرَادُهُمْ وَيُقْرَأَ:
سَيِّئٌ عَوَّضَ النُّونَ الْخَفِيفَةَ الْمَكْسُورَةَ بِغَيْرِ هَمْزٍ بِمُثَنَّاةٍ تَحْتَانِيَّةٍ ثَقِيلَةٍ مَهْمُوزا. وَأَمَّا الْآلَاتُ فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِيهَا عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ الْمَعَازِفِ فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ، وَقَدْ حَكَى قَوْمٌ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَحْرِيمِهَا، وَحَكَى بَعْضُهُمْ عَكْسَهُ، وَسَنَذْكُرُ بَيَانَ شُبْهَةِ الْفَرِيقَيْنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إِبَاحَةِ الضَّرْبِ بِالدُّفِّ فِي الْعُرْسِ وَنَحْوِهِ إِبَاحَةُ غَيْرِهِ مِنَ الْآلَاتِ كَالْعُودِ وَنَحْوِهِ كَمَا سَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي وَلِيمَةِ الْعُرْسِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا الْتِفَافُهُ صلى الله عليه وسلم بِثَوْبِهِ فَفِيهِ إِعْرَاضٌ عَنْ ذَلِكَ لِكَوْنِ مَقَامِهِ يَقْتَضِي أَنْ يَرْتَفِعَ عَنِ الْإِصْغَاءِ إِلَى ذَلِكَ، لَكِنَّ عَدَمَ إِنْكَارِهِ دَالٌّ عَلَى تَسْوِيغِ مِثْلِ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَقَرَّهُ إِذْ لَا يُقِرُّ عَلَى بَاطِلٍ، وَالْأَصْلُ التَّنَزُّهُ عَنِ اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ، فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ وَقْتًا وَكَيْفِيَّةً تَقْلِيلًا لِمُخَالَفَةِ الْأَصْلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ مَشْرُوعِيَّةُ التَّوْسِعَةِ عَلَى الْعِيَالِ فِي أَيَّامِ الْأَعْيَادِ بِأَنْوَاعِ مَا يَحْصُلُ لَهُمْ بَسْطُ النَّفْسِ وَتَرْوِيحُ الْبَدَنِ مِنْ كَلَفِ الْعِبَادَةِ، وَأَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنْ ذَلِكَ أَوْلَى. وَفِيهِ أَنَّ إِظْهَارَ السُّرُورِ فِي الْأَعْيَادِ مِنْ شِعَارِ الدِّينِ. وَفِيهِ جَوَازُ دُخُولِ الرَّجُلِ عَلَى ابْنَتِهِ وَهِيَ عِنْدُ زَوْجِهَا إِذَا كَانَ لَهُ بِذَلِكَ عَادَةٌ، وَتَأْدِيبُ الْأَبِ بِحَضْرَةِ الزَّوْجِ وَإِنْ تَرَكَهُ الزَّوْجُ، إِذِ التَّأْدِيبُ وَظِيفَةُ الْآبَاءِ، وَالْعَطْفُ مَشْرُوعٌ مِنَ الْأَزْوَاجِ لِلنِّسَاءِ. وَفِيهِ الرِّفْقُ بِالْمَرْأَةِ وَاسْتِجْلَابُ مَوَدَّتِهَا، وَأَنَّ مَوَاضِعَ أَهْلِ الْخَيْرِ تُنَزَّهُ عَنْ اللَّهْوِ وَاللَّغْوِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِثْمٌ إِلَّا بِإِذْنِهِمْ. وَفِيهِ أَنَّ التِّلْمِيذَ إِذَا رَأَى عِنْدَ شَيْخِهِ مَا يُسْتَكْرَهُ مِثْلُهُ بَادَرَ إِلَى إِنْكَارِهِ، وَلَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ افْتِئَاتٌ عَلَى شَيْخِهِ، بَلْ هُوَ أَدَبٌ مِنْهُ وَرِعَايَةٌ لِحُرْمَتِهِ وَإِجْلَالٌ لِمَنْصِبِهِ، وَفِيهِ فَتْوَى التِّلْمِيذِ بِحَضْرَةِ شَيْخِهِ بِمَا يَعْرِفُ مِنْ طَرِيقَتِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَبُو بَكْرٍ ظَنَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَامَ فَخَشِيَ أَنْ يَسْتَيْقِظَ فَيَغْضَبَ عَلَى ابْنَتِهِ، فَبَادَرَ إِلَى سَدِّ هَذِهِ الذَّرِيعَةِ. وَفِي قَوْلِ عَائِشَةَ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ: فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا مَعَ تَرْخِيصِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهَا فِي ذَلِكَ رَاعَتْ خَاطِرَ أَبِيهَا، وَخَشِيَتْ غَضَبَهُ عَلَيْهَا فَأَخْرَجَتْهُمَا، وَاقْتِنَاعَهَا فِي ذَلِكَ بِالْإِشَارَةِ فِيمَا يَظْهَرُ لِلْحَيَاءِ مِنَ الْكَلَامِ بِحَضْرَةِ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ سَمَاعِ صَوْتِ الْجَارِيَةِ بِالْغِنَاءِ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ مَمْلُوكَةً؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُنْكِرْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ سَمَاعَهُ بَلْ أَنْكَرَ إِنْكَارَهُ، وَاسْتَمَرَّتَا إِلَى أَنْ أَشَارَتْ إِلَيْهِمَا عَائِشَةُ بِالْخُرُوجِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحَلَّ الْجَوَازِ مَا إِذَا أُمِنَتِ الْفِتْنَةُ بِذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ يَوْمَ عِيدٍ) هَذَا حَدِيثٌ آخَرُ وَقَدْ جَمَعَهُمَا بَعْضُ الرُّوَاةِ وَأَفْرَدَهُمَا بَعْضُهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ الثَّانِي مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ فِي أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْجَوْزَقِيِّ فِي حَدِيثِ الْبَابِ هُنَا وَقَالَتْ - أَيْ عَائِشَةُ - كَانَ يَوْمَ عِيدٍ، فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّهُ مَوْصُولٌ كَالْأَوَّلِ.
قَوْلُهُ: (يَلْعَبُ فِيهِ السُّودَانُ) فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ الْمَذْكُورَةِ: وَالْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ. وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ مُعَلَّقَةٍ وَوَصَلَهَا مُسْلِمٌ: بِحِرَابِهِمْ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ: جَاءَ حَبَشٌ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ، قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: هَذَا السِّيَاقُ يُشْعِرُ بِأَنَّ عَادَتَهُمْ ذَلِكَ فِي كُلِّ عِيدٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ لَمَّا قَدِمَ وَفْدُ الْحَبَشَةِ قَامُوا يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ التَّرْخِيصَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ بِحَالِ الْقُدُومِ، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ قُدُومُهُمْ صَادَفَ يَوْمَ عِيدٍ، وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِمُ اللَّعِبُ فِي الْأَعْيَادِ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ كَعَادَتِهِمْ ثُمَّ صَارُوا يَلْعَبُونَ يَوْمَ كُلِّ عِيدٍ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ لَعِبَتِ الْحَبَشَةُ فَرَحًا بِذَلِكَ لَعِبُوا بِحِرَابِهِمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ يَوْمَ قُدُومِهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ عِنْدَهُمْ أَعْظَمَ مِنْ يَوْمِ الْعِيدِ، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: سَمَّاهُ لَعِبًا وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ التَّدْرِيبَ عَلَى الْحَرْبِ، وَهُوَ مِنَ الْجِدِّ لِمَا فِيهِ مِنْ شَبَهِ اللَّعِبِ، لِكَوْنِهِ يَقْصِدُ إِلَى الطَّعْنِ وَلَا يَفْعَلُهُ وَيُوهِمُ بِذَلِكَ قَرْنَهُ وَلَوْ كَانَ أَبَاهُ أَوِ ابْنَهُ.
قَوْلُهُ: (فَإِمَّا سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِمَّا قَالَ: تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ) هَذَا تَرَدُّدٌ مِنْهَا فِيمَا كَانَ وَقَعَ لَهُ، هَلْ كَانَ أَذِنَ لَهَا فِي ذَلِكَ ابْتِدَاءً مِنْهُ أَوْ عَنْ سُؤَالٍ مِنْهَا، وَهَذَا
بِنَاءً عَلَى أَنْ سَأَلْتَ بِسُكُونِ اللَّامِ عَلَى أَنَّهُ كَلَامُهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِفَتْحِ اللَّامِ، فَيَكُونَ كَلَامَ الرَّاوِي فَلَا يُنَافِيَ مَعَ ذَلِكَ قَوْلَهُ وَإِمَّا قَالَ: تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ عَنْهَا فِي ذَلِكَ: فَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ عَنْهَا سَمِعْتُ لَغَطًا وَصَوْتَ صِبْيَانٍ، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا حَبَشِيَّةُ تَزْفِنُ - أَيْ تَرْقُصُ - وَالصِّبْيَانُ حَوْلَهَا فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، تَعَالَيْ فَانْظُرِي فَفِي هَذَا أَنَّهُ ابْتَدَأَهَا، وَفِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْهَا عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّهَا قَالَتْ للعابين: وَدِدْتُ أَنِّي أَرَاهُمْ، فَفِي هَذَا أَنَّهَا سَأَلَتْ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهَا الْتَمَسَتْ مِنْهُ ذَلِكَ فَأَذِنَ لَهَا، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْهَا: دَخَلَ الْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَا حُمَيْرَاءُ، أَتُحِبِّينَ أَنْ تَنْظُرِي إِلَيْهِمْ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَلَمْ أَرَ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ ذِكْرَ الْحُمَيْرَاءِ إِلَّا فِي هَذَا.
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ هَذِهِ مِنَ الزِّيَادَةِ عَنْهَا قَالَتْ: وَمِنْ قَوْلِهِمْ يَوْمَئِذٍ: أَبَا الْقَاسِمِ طَيِّبًا كَذَا فِيهِ بِالنَّصْبِ، وَهُوَ حِكَايَةُ قَوْلِ الْحَبَشَةِ، وَلِأَحْمَدَ، وَالسَّرَّاجِ، وَابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ الْحَبَشَةَ كَانَتْ تَزْفِنُ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيَتَكَلَّمُونَ بِكَلَامٍ لَهُمْ، فَقَالَ: مَا يَقُولُونَ؟ قَالَ: يَقُولُونَ: مُحَمَّدٌ عَبْدٌ صَالِحٌ.
قَوْلُهُ: (فَأَقَامَنِي وَرَاءَهُ خَدِّي عَلَى خَدِّهِ) أَيْ مُتَلَاصِقَيْنِ وَهِيَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ بِدُونِ وَاوٍ كَمَا قِيلَ فِي قولِهِ تعالى: {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} وَفِي رِوَايَةِ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَوَضَعْتُ رَأْسِي عَلَى مَنْكِبِهِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ الْمَذْكُورَةِ: فَوَضَعْتُ ذَقْنِي عَلَى عَاتِقِهِ وَأَسْنَدْتُ وَجْهِي إِلَى خَدِّهِ، وَفِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْهَا: أَنْظُرُ بَيْنَ أُذُنَيْهِ
(1)
وَعَاتِقِهِ. وَمَعَانِيهَا مُتَقَارِبَةٌ، وَرِوَايَةُ أَبِي سَلَمَةَ أَبْيَنُهَا. وَفِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ الْآتِيَةِ بَعْدُ عَنْ عُرْوَةَ فَيَسْتُرُنِي وَأَنَا أَنْظُرُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ بِلَفْظِ: يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ، وَيُتَعَقَّبُ بِهِ عَلَى الزَّيْنِ بْنِ الْمُنِيرِ فِي اسْتِنْبَاطِهِ مِنْ لَفْظِ حَدِيثِ الْبَابِ جَوَازُ اكْتِفَاءِ الْمَرْأَةِ بِالتَّسَتُّرِ بِالْقِيَامِ خَلْفَ مَنْ تُسْتَرُ بِهِ مِنْ زَوْجٍ أَوْ ذِي مَحْرَمٍ إِذَا قَامَ ذَلِكَ مَقَامَ الرِّدَاءِ، لِأَنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ، وَقَدْ وَقَعَ فِيهَا التَّنْصِيصُ عَلَى وُجُودِ التَّسَتُّرِ بِالرِّدَاءِ.
قَوْلُهُ: (وَهُوَ يَقُولُ: دُونَكُمْ) بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ بِمَعْنَى الْإِغْرَاءِ وَالْمُغْرَى بِهِ مَحْذُوفٌ وَهُوَ لَعِبُهُمْ بِالْحِرَابِ، وَفِيهِ إِذْنٌ وَتَنْهِيضٌ لَهُمْ وَتَنْشِيطٌ.
قَوْلُهُ: (يَا بَنِي أَرْفِدَةَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْفَاءِ وَقَدْ تُفْتَحُ، قِيلَ: هُوَ لَقَبٌ لِلْحَبَشَةِ، وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ جِنْسٍ لَهُمْ، وَقِيلَ: اسْمُ جَدِّهِمُ الْأَكْبَرِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى يَا بَنِي الْإِمَاءِ، زَادَ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ: فَزَجَرَهُمْ عُمَرُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَمَّنَّا بَنِي أَرْفِدَةَ وَبَيَّنَ الزُّهْرِيُّ أَيْضًا عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجْهَ الزَّجْرِ حَيْثُ قَالَ: فَأَهْوَى إِلَى الْحَصْبَاءِ فَحَصِبَهُمْ بِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دَعْهُمْ يَا عُمَرُ، وَسَيَأْتِي فِي الْجِهَادِ، وَزَادَ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ: فَإِنَّهُمْ بَنُو أَرْفِدَةَ، كَأَنَّهُ يَعْنِي أَنَّ هَذَا شَأْنُهُمْ وَطَرِيقَتُهُمْ، وَهُوَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُبَاحَةِ فَلَا إِنْكَارَ عَلَيْهِمْ. قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ يُغْتَفَرُ لَهُمْ مَا لَا يُغْتَفَرُ لِغَيْرِهِمْ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَسَاجِدِ تَنْزِيهُهَا عَنِ اللَّعِبِ، فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ، انْتَهَى.
وَرَوَى السَّرَّاجُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَئِذٍ: لِتَعْلَمَ يَهُودُ أَنَّ فِي دِينِنَا فُسْحَةً، إِنِّي بُعِثْتُ بِحَنِيفِيَّةٍ سَمْحَةٍ. وَهَذَا يُشْعِرُ بِعَدَمِ التَّخْصِيصِ، وَكَأَنَّ عُمَرَ بَنَى عَلَى الْأَصْلِ فِي تَنْزِيهِ الْمَسَاجِدِ، فَبَيَّنَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَجْهَ الْجَوَازِ فِيمَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ، أَوْ لَعَلَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَرَاهُمْ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى إِذَا مَلِلْتُ) بِكَسْرِ اللَّامِ الْأُولَى، وَفِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ: حَتَّى أَكُونَ أَنَا الَّذِي أَسْأَمُ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِهِ: ثُمَّ يَقُومُ مِنْ أَجْلِي حَتَّى أَكُونَ أَنَا الَّذِي أَنْصَرِفُ، وَفِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ: أَمَا شَبِعْتَ؟ أَمَا شَبِعْتَ؟ قَالَتْ: فَجَعَلْتُ أَقُولُ: لَا، لِأَنْظُرَ مَنْزِلَتِي عِنْدَهُ،
(1)
في مخطوطة الرياض " أذنه"
وَلَهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْهَا: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا تَعْجَلْ، فَقَامَ لِي ثُمَّ قَالَ: حَسْبُكَ؟ قُلْتُ: لَا تَعْجَلْ.
قَالَتْ: وَمَا بِي حُبُّ النَّظَرِ إِلَيْهِمْ، وَلَكِنْ أَحْبَبْتُ أَنْ يَبْلُغَ النِّسَاءَ مُقَامُهُ لِي وَمَكَانِي مِنْهُ، وَزَادَ فِي النِّكَاحِ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ: فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ الْحَرِيصَةِ عَلَى اللَّهْوِ، وَقَوْلُهَا: اقْدُرُوا بِضَمِّ الدَّالِ مِنَ التَّقْدِيرِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا، وَأَشَارَتْ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّهَا كَانَتْ حِينَئِذٍ شَابَّةً، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ مَنِ ادَّعَى نَسْخَ هَذَا الْحُكْمِ وَأَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ كَمَا تَقَدَّمَتْ حِكَايَتُهُ فِي أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ، وَرُدَّ بِأَنَّ قَوْلَهَا: يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ دَالٌّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ الْحِجَابِ، وَكَذَا قَوْلُهَا: أَحْبَبْتُ أَنْ يَبْلُغَ النِّسَاءَ مُقَامُهُ لِي مُشْعِرٌ بِأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ بَعْدَ أَنْ صَارَتْ لَهَا ضَرَائِرُ، أَرَادَتِ الْفَخْرَ عَلَيْهِنَّ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ بَعْدَ بُلُوغِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ لَمَّا قَدِمَ وَفْدُ الْحَبَشَةِ، وَكَانَ قُدُومُهُمْ سَنَةَ سَبْعٍ، فَيَكُونُ عُمْرُهَا حِينَئِذٍ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ شَيْءٌ نَحْوُ هَذَا، وَالْجَوَابُ عَنْهُ وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ اللَّعِبِ بِالسِّلَاحِ عَلَى طَرِيقِ التَّوَاثُبِ لِلتَّدْرِيبِ عَلَى الْحَرْبِ وَالتَّنْشِيطِ عَلَيْهِ، وَاسْتُنْبِطَ مِنْهُ جَوَازُ الْمُثَاقَفَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ تَمْرِينِ الْأَيْدِي عَلَى آلَاتِ الْحَرْبِ، قَالَ عِيَاضٌ: وَفِيهِ جَوَازُ نَظَرِ النِّسَاءِ إِلَى فِعْلِ الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُكْرَهُ لَهُنَّ النَّظَرُ إِلَى الْمَحَاسِنِ وَالِاسْتِلْذَاذِ بِذَلِكَ، وَمِنْ تَرَاجِمِ الْبُخَارِيِّ عَلَيْهِ: بَابُ نَظَرِ الْمَرْأَةِ إِلَى الْحَبَشِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ غَيْرِ رِيبَةٍ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: أَمَّا النَّظَرُ بِشَهْوَةٍ وَعِنْدَ خَشْيَةِ الْفِتْنَةِ فَحَرَامٌ اتِّفَاقًا، وَأَمَّا بِغَيْرِ شَهْوَةٍ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ.
وَأَجَابَ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ بُلُوغِ عَائِشَةَ، وَهَذَا قَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا فِيهِ، قَالَ: أَوْ كَانَتْ تَنْظُرُ إِلَى لَعِبِهِمْ بِحِرَابِهِمْ لَا إِلَى وُجُوهِهِمْ وَأَبْدَانِهِمْ، وَإِنْ وَقَعَ بِلَا قَصْدٍ أَمْكَنَ أَنْ تَصْرِفَهُ فِي الْحَالِ، انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ بَقِيَّةُ فَوَائِدِهِ فِي أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ. وَسَيَأْتِي بَعْدَ سِتَّةِ أَبْوَابٍ وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ تَرْجَمَةِ الْبُخَارِيِّ هَذَا الْبَابَ وَالْبَابَ الْآتِيَ هُنَاكَ حَيْثُ قَالَ بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنْ حَمْلِ السِّلَاحِ فِي الْعِيدِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
3 - بَاب سُنَّةِ الْعِيدَيْنِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ
951 -
حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي زُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ، عَنْ الْبَرَاءِ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ، فَقَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ مِنْ يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ، ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، فَمَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا
[الحديث 951 - أطرافه في: 6673. 5563. 5560. 5557. 5556. 5545. 983. 976. 968. 965. 955]
952 -
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ مِنْ جَوَارِي الْأَنْصَارِ تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاوَلَتْ الْأَنْصَارُ يَوْمَ بُعَاثَ، قَالَتْ: وَلَيْسَتَا بِمُغَنِّيَتَيْنِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمَزَامِيرُ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ وَذَلِكَ فِي يَوْمِ عِيدٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا وَهَذَا عِيدُنَا.
قَوْلُهُ: (بَابُ سُنَّةِ الْعِيدِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَقَدِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي الْمُسْتَخْرَجِ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَزَادَ أَبُو ذَرٍّ، عَنِ الْحَمَوِيِّ فِي أَوَّلِ التَّرْجَمَةِ: الدُّعَاءُ فِي الْعِيدِ قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ أَرَاهُ تَصْحِيفًا، وَكَأَنَّهُ كَانَ فِيهِ اللَّعِبُ فِي الْعِيدِ، يَعْنِي: فَيُنَاسِبُ حَدِيثَ عَائِشَةَ وَهُوَ الثَّانِي مِنْ حَدِيثَيِ الْبَابِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُوَجَّهَ بِأَنَّ الدُّعَاءَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ يُؤْخَذُ حُكْمُهُ مِنْ
جَوَازِ اللَّعِبِ بَعْدَهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ وَاثِلَةَ أَنَّهُ لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عِيدٍ، فَقَالَ: تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكَ، فَقَالَ: نَعَمْ تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكَ. وَفِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشَّامِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَقَدْ تَفَرَّدَ بِهِ مَرْفُوعًا، وَخُولِفَ فِيهِ، فَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: ذَلِكَ فِعْلُ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ أَيْضًا، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ فِيهِ شَيْءٌ. وَرَوَيْنَا فِي الْمَحَامِلِيَّاتِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا الْتَقَوْا يَوْمَ الْعِيدِ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكَ.
وَأَمَّا مُنَاسَبَةُ حَدِيثِ عَائِشَةَ لِلتَّرْجَمَةِ الَّتِي اقْتَصَرَ عَلَيْهَا الْأَكْثَرُ فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا مِنْ قَوْلِهِ: وَهَذَا عِيدُنَا لِإِشْعَارِهِ بِالنَّدْبِ إِلَى ذَلِكَ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ اللَّعِبَ لَا يُوصَفُ بِالنَّدْبِيَّةِ، لَكِنْ يُقَرِّبُهُ أَنَّ الْمُبَاحَ قَدْ يَرْتَفِعُ بِالنِّيَّةِ إِلَى دَرَجَةِ مَا يُثَابُ عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ تَقْدِيمَ الْعِبَادَةِ عَلَى اللَّعِبِ سُنَّةُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، أَوْ تُحْمَلُ السُّنَّةُ فِي التَّرْجَمَةِ عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَأَمَّا حَدِيثُ الْبَرَاءِ فَهُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ سَيَأْتِي بِتَمَامِهِ بَعْدَ بَابٍ، وَحَجَّاجٌ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ هُوَ ابْنُ مِنْهَالٍ. وَاسْتَشْكَلَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ مُنَاسَبَتَهُ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ قَالَ فِيهَا الْعِيدَيْنِ بِالتَّثْنِيَةِ مَعَ أَنَّهَا لَا تَتَعَلَّقُ إِلَّا بِعِيدِ النَّحْرِ، وَأَجَابَ بِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ إِشْعَارًا بِأَنَّ الصَّلَاةَ ذَلِكَ الْيَوْمَ هِيَ الْأَمْرُ الْمُهِمُّ، وَأَنَّ مَا سِوَاهَا مِنَ الْخُطْبَةِ وَالنَّحْرِ وَالذِّكْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ يَوْمَ النَّحْرِ فَبِطَرِيقِ التَّبَعِ، وَهَذَا الْقَدْرُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْعِيدَيْنِ، فَحَسَنٌ أَنْ لَا تُفْرَدَ التَّرْجَمَةُ بِعِيدِ النَّحْرِ. انْتَهَى.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ مُسْتَوْفًى فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ.
4 - بَاب الْأَكْلِ يَوْمَ الْفِطْرِ قَبْلَ الْخُرُوجِ
953 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَغْدُو يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَأْكُلَ تَمَرَاتٍ. وَقَالَ مُرَجَّأُ بْنُ رَجَاءٍ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَنَسٌ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: وَيَأْكُلُهُنَّ وِتْرًا.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْأَكْلِ يَوْمَ الْفِطْرِ قَبْلَ الْخُرُوجِ) أَيْ إِلَى صَلَاةِ الْعِيدِ.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ) هُوَ بِالتَّصْغِيرِ، وَفِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَنَسٍ بِحَذْفِ أَبِي بَكْرٍ، هَكَذَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ هُشَيْمٍ، وَتَابَعَهُ أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَجُبَارَةُ بْنُ الْمُغَلِّسِ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، وَرَوَاهُ عَنْ هُشَيْمٍ، قُتَيْبَةُ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَأَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَعَمْرُو بْنُ عَوْنٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَقَالُوا كُلُّهُمْ: عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: صَحِيحٌ غَرِيبٌ، وَأَعَلَّهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِأَنَّ هُشَيْمًا مُدَلِّسٌ، وَقَدِ اخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَابْنُ إِسْحَاقَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْبُخَارِيِّ.
قُلْتُ: وَهِيَ عِلَّةٌ غَيْرُ قَادِحَةٍ؛ لِأَنَّ هُشَيْمًا قَدْ صَرَّحَ فِيهِ بِالْإِخْبَارِ فَأُمِنَ تَدْلِيسُهُ، وَلِهَذَا نَزَّلَ فِيهِ الْبُخَارِيُّ دَرَجَةً؛ لِأَنَّ سَعِيدَ بْنَ سُلَيْمَانَ مِنْ شُيُوخِهِ، وَقَدْ أُخْرِجَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ لِكَوْنِهِ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ وَلَمْ يَلْقَ مِنْ أَصْحَابِ هُشَيْمٍ مَعَ كَثْرَةِ مَنْ لَقِيَهُ مِنْهُمْ مَنْ يُحَدِّثُ بِهِ مُصَرِّحًا عَنْهُ فِيهِ بِالْإِخْبَارِ، وَقَدْ جَزَمَ أَبُو مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيُّ بِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَ هُشَيْمٍ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَأَنَّ أَصْحَابَ هُشَيْمٍ الْقُدَمَاءَ كَانُوا يَرْوُونَهُ عَنْهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَلَا تَضُرُّ طَرِيقُ ابْنِ إِسْحَاقَ الْمَذْكُورَةُ، قَالَ الْبَي هَقِيُّ: وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ سُلَيْمَانَ قَدْ رَوَاهُ عَنْ هُشَيْمٍ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ رِوَايَةِ مُعَاذِ بْنِ الْمُثَنَّى عَنْهُ عَنْ هُشَيْمٍ بِالْإِسْنَادَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، فَرَجَحَ
صَنِيعُ الْبُخَارِيِّ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مُتَابَعَةُ مُرَجَّى بْنِ رَجَاءٍ، لِهُشَيْمٍ عَلَى رِوَايَتِهِ لَهُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَقَدْ عَلَّقَهَا الْبُخَارِيُّ هُنَا، وَأَفَادَتْ ثَلَاثَ فَوَائِدَ: الْأُولَى هَذِهِ، وَالثَّانِيَةُ تَصْرِيحُ عُبَيْدِ اللَّهِ فِيهِ بِالْإِخْبَارِ عَنْ أَنَسٍ، وَالثَّالِثَةُ تَقْيِيدُ الْأَكْلِ بِكَوْنِهِ وِتْرًا.
وَقَدْ وَصَلَهَا ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ مُرَجَّى بِلَفْظِ يَخْرُجُ بَدَلَ يَغْدُو، وَالْبَاقِي مِثْلُ لَفْظِ هُشَيْمٍ وَفِيهِ الزِّيَادَةُ، وَكَذَا وَصَلَهُ أَبُو ذَرٍّ فِي زِيَادَاتِهِ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي حَامِدِ بْنِ نُعَيْمٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُصْعَبٍ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ السِّنْجِيِّ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، وَأَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ حَرَمِيِّ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ مُرَجَّى بِلَفْظِ: وَيَأْكُلُهُنَّ أَفْرَادًا وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَلَهُ رَاوٍ ثَالِثٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَيْضًا وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ رِوَايَةِ عُتْبَةَ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْهُ بِلَفْظِ: مَا خَرَجَ يَوْمَ فِطْرٍ حَتَّى يَأْكُلَ تَمَرَاتٍ ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ وِتْرًا، وَهِيَ أَصْرَحُ فِي الْمُدَاوَمَةِ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: الْحِكْمَةُ فِي الْأَكْلِ قَبْلَ الصَّلَاةِ أَنْ لَا يَظُنَّ ظَانٌّ لُزُومَ الصَّوْمِ حَتَّى يُصَلِّيَ الْعِيدَ، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ سَدَّ هَذِهِ الذَّرِيعَةِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: لَمَّا وَقَعَ وُجُوبُ الْفِطْرِ عَقِبَ وُجُوبِ الصَّوْمِ اسْتُحِبَّ تَعْجِيلُ الْفِطْرِ مُبَادَرَةً إِلَى امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُشْعِرُ بِذَلِكَ اقْتِصَارُهُ عَلَى الْقَلِيلِ مِنْ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ لِغَيْرِ الِامْتِثَالِ لَأَكَلَ قَدْرَ الشِّبَعِ، وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ. وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: لَمَّا كَانَ الْمُعْتَكِفُ لَا يَتِمُّ اعْتِكَافُهُ حَتَّى يَغْدُوَ إِلَى الْمُصَلَّى قَبْلَ انْصِرَافِهِ إِلَى بَيْتِهِ خُشِيَ أَنْ يُعْتَمَدَ فِي هَذَا الْجُزْءِ مِنَ النَّهَارِ بِاعْتِبَارِ اسْتِصْحَابِ الصَّائِمِ مَا يُعْتَمَدُ مِنِ اسْتِصْحَابِ الِاعْتِكَافِ، فَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا بِمَشْرُوعِيَّةِ الْأَكْلِ قَبْلَ الْغُدُوِّ. وَقِيلَ: لِأَنَّ الشَّيْطَانَ الَّذِي يُحْبَسُ فِي رَمَضَانَ لَا يُطْلَقُ إِلَّا بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ، فَاسْتُحِبَّ تَعْجِيلُ الْفِطْرِ بِدَارًا إِلَى السَّلَامَةِ مِنْ وَسْوَسَتِهِ. وَسَيَأْتِي تَوْجِيهٌ آخَرُ لِابْنِ الْمُنِيرِ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا نَعْلَمُ فِي اسْتِحْبَابِ تَعْجِيلِ الْأَكْلِ يَوْمَ الْفِطْرِ اخْتِلَافًا. انْتَهَى.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ التَّخْيِيرَ فِيهِ، وَعَنِ النَّخَعِيِّ أَيْضًا مِثْلَهُ. وَالْحِكْمَةُ فِي اسْتِحْبَابِ التَّمْرِ لِمَا فِي الْحُلْوِ مِنْ تَقْوِيَةِ الْبَصَرِ الَّذِي يُضْعِفُهُ الصَّوْمُ، وَلِأَنَّ الْحُلْوَ مِمَّا يُوَافِقُ الْإِيمَانَ وَيُعَبَّرُ بِهِ الْمَنَامُ وَيَرِقُّ بِهِ الْقَلْبُ وَهُوَ أَيْسَرُ مِنْ غَيْرِهِ، وَمِنْ ثَمَّ اسْتَحَبَّ بَعْضُ التَّابِعِينَ أَنَّهُ يُفْطِرُ عَلَى الْحُلْوِ مُطْلَقًا كَالْعَسَلِ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، وَابْنِ سِيرِينَ وَغَيْرِهِمَا، وَرُوِيَ فِيهِ مَعْنًى آخَرُ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّهُ يَحْبِسُ الْبَوْلَ، هَذَا كُلُّهُ فِي حَقِّ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَإِلَّا فَيَنْبَغِي أَنْ يُفْطِرَ وَلَوْ عَلَى الْمَاءِ لِيَحْصُلَ لَهُ شَبَهٌ مَا مِنَ الِاتِّبَاعِ، أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ. وَأَمَّا جَعْلُهُنَّ وِتْرًا فَقَالَ الْمُهَلَّبُ: فَلِلْإِشَارَةِ إِلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ كَانَ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ تَبَرُّكًا بِذَلِكَ.
(تَنْبِيهٌ): مُرَجَّى بِوَزْنِ مُعَلَّى، وَأَبُوهُ بِلَفْظِ رَجَاءٍ ضِدُّ الْخَوْفِ بَصْرِيٌّ مُخْتَلَفٌ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ غَيْرُ هَذَا الْمَوْضِعِ الْوَاحِدِ.
5 - بَاب الْأَكْلِ يَوْمَ النَّحْرِ
954 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيُعِدْ. فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: هَذَا يَوْمٌ يُشْتَهَى فِيهِ اللَّحْمُ وَذَكَرَ مِنْ جِيرَانِهِ، فَكَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَدَّقَهُ. قَالَ: وَعِنْدِي جَذَعَةٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ، فَرَخَّصَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلَا أَدْرِي أَبَلَغَتْ الرُّخْصَةُ مَنْ سِوَاهُ أَمْ لَا.
[الحديث 954 - أطرافه في: 5561. 5549. 5546. 984]
955 -
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما قَالَ:
خَطَبَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْأَضْحَى بَعْدَ الصَّلَاةِ فَقَالَ: مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَنَسَكَ نُسُكَنَا فَقَدْ أَصَابَ النُّسُكَ، وَمَنْ نَسَكَ قَبْلَ الصَّلَاةِ؛ فَإِنَّهُ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَلَا نُسُكَ لَهُ، فَقَالَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ خَالُ الْبَرَاءِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنِّي نَسَكْتُ شَاتِي قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَعَرَفْتُ أَنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، وَأَحْبَبْتُ أَنْ تَكُونَ شَاتِي أَوَّلَ مَا يُذْبَحُ فِي بَيْتِي، فَذَبَحْتُ شَاتِي وَتَغَدَّيْتُ قَبْلَ أَنْ آتِيَ الصَّلَاةَ. قَالَ: شَاتُكَ شَاةُ لَحْمٍ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّ عِنْدَنَا عَنَاقًا لَنَا جَذَعَةً هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ شَاتَيْنِ، أَفَتَجْزِي عَنِّي؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْأَكْلِ يَوْمَ النَّحْرِ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ مَا مُحَصِّلُهُ: لَمْ يُقَيِّدِ الْمُصَنِّفُ الْأَكْلَ يَوْمَ النَّحْرِ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ كَمَا قَيَّدَهُ فِي الْفِطْرِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَوْلُ الرَّجُلِ: هَذَا يَوْمٌ يُشْتَهَى فِيهِ اللَّحْمُ، وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ: أَنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَلَمْ يُقَيَّدْ ذَلِكَ بِوَقْتٍ. انْتَهَى.
وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ أَرَادَ الْإِشَارَةَ إِلَى تَضْعِيفِ مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ مِنْ مُغَايَرَةِ يَوْمِ الْفِطْرِ لِيَوْمِ النَّحْرِ مِنِ اسْتِحْبَابِ الْبَدَاءَةِ بِالصَّلَاةِ يَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ الْأَكْلِ، لِأَنَّ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ أَنَّ أَبَا بُرْدَةَ أَكَلَ قَبْلَ الصَّلَاةِ يَوْمَ النَّحْرِ، فَبَيَّنَ لَهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الَّتِي ذَبَحَهَا لَا تُجْزِئُ عَنِ الْأُضْحِيَّةِ وَأَقَرَّهُ عَلَى الْأَكْلِ مِنْهَا، وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي التِّرْمِذِيِّ، وَالْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَطْعَمَ، وَلَا يَطْعَمُ يَوْمَ الْأَضْحَى حَتَّى يُصَلِّيَ، وَنَحْوُهُ عِنْدَ الْبَزَّارِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ، وَالَّدارُقْطِنِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مِنَ السُّنَّةِ أَنْ لَا يَخْرُجَ يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يُخْرِجَ الصَّدَقَةَ وَيُطْعَمَ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ وَفِي كُلٍّ مِنَ الْأَسَانِيدِ الثَّلَاثَةِ مَقَالٌ، وَقَدْ أَخَذَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: وَقَعَ أَكْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي كُلٍّ مِنَ الْعِيدَيْنِ فِي الْوَقْتِ الْمَشْرُوعِ لِإِخْرَاجِ صَدَقَتِهِمَا الْخَاصَّةِ بِهِمَا، فَإِخْرَاجُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ قَبْلَ الْغُدُوِّ إِلَى الْمُصَلَّى، وَإِخْرَاجُ صَدَقَةِ الْأُضْحِيَّةِ بَعْدَ ذَبْحِهَا فَاجْتَمَعَا مِنْ جِهَةٍ وَافْتَرَقَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ تَفْصِيلًا آخَرَ فَقَالَ: مَنْ كَانَ لَهُ ذِبْحٌ اسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَبْدَأَ بِالْأَكْلِ يَوْمَ النَّحْرِ مِنْهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذِبْحٌ تَخَيَّرَ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثَيْ أَنَسٍ، وَالْبَرَاءِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي هَذَا الْبَابِ فِي كِتَابِ الْأَضَاحِيِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ: وَمَنْ نَسَكَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَلَا نُسُكَ لَهُ كَذَا فِي الْأُصُولِ بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ، وَحَذَفَهَا النَّسَائِيُّ وَهُوَ أَوْجَهُ، وَيُمْكِنُ تَوْجِيهُ إِثْبَاتِهَا بِتَقْدِيرِ لَا يُجْزِئُ وَلَا نُسُكَ لَهُ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ: فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ هَذَا، وَإِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ جَمِيعًا عَنْ جَرِيرٍ بِلَفْظِهِ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي خَيْثَمَةَ، وَيُوسُفَ بْنِ مُوسَى، وَعُثْمَانَ هَذَا ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ جَرِيرٍ بِلَفْظِ: وَمَنْ نَسَكَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَشَاتُهُ شَاةُ لَحْمٍ. وَذَكَرَ أَنَّ مَعْنَاهُمْ وَاحِدٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى، عَنْ أَبِي خَيْثَمَةَ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَأَظُنُّ التَّصَرُّفَ فِيهِ مِنْ عُثْمَانَ رَوَاهُ بِالْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي حَدِيثَيْ أَنَسٍ، وَالْبَرَاءِ مِنَ الْفَوَائِدِ تَأْكِيدُ أَمْرِ الْأُضْحِيَّةِ، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا طَيِّبُ اللَّحْمِ وَإِيثَارُ الْجَارِ عَلَى غَيْرِهِ، وَأَنَّ الْمُفْتِيَ إِذَا ظَهَرَتْ لَهُ مِنَ الْمُسْتَفْتِي أَمَارَةُ الصِّدْقِ كَانَ لَهُ أَنْ يُسَهِّلَ عَلَيْهِ، حَتَّى لَوِ اسْتَفْتَاهُ اثْنَانِ فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ جَازَ أَنْ يُفْتِيَ كُلًّا مِنْهُمَا بِمَا يُنَاسِبُ حَالَهُ، وَجَوَازُ إِخْبَارِ الْمَرْءِ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا يَسْتَحِقُّ الثَّنَاءَ بِهِ عَلَيْهِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ.
6 - بَاب الْخُرُوجِ إِلَى الْمُصَلَّى بِغَيْرِ مِنْبَرٍ
956 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي زَيْدُ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أَبِي سَرْحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى إِلَى الْمُصَلَّى، فَأَوَّلُ شَيْءٍ يَبْدَأُ بِهِ الصَّلَاةُ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَيَقُومُ مُقَابِلَ النَّاسِ وَالنَّاسُ جُلُوسٌ عَلَى صُفُوفِهِمْ فَيَعِظُهُمْ وَيُوصِيهِمْ، وَيَأْمُرُهُمْ، فَإِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَقْطَعَ بَعْثًا قَطَعَهُ، أَوْ يَأْمُرَ بِشَيْءٍ أَمَرَ بِهِ ثُمَّ يَنْصَرِفُ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَلَمْ يَزَلْ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى خَرَجْتُ مَعَ مَرْوَانَ وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ فِي أَضْحًى أَوْ فِطْرٍ، فَلَمَّا أَتَيْنَا الْمُصَلَّى إِذَا مِنْبَرٌ بَنَاهُ كَثِيرُ بْنُ الصَّلْتِ، فَإِذَا مَرْوَانُ يُرِيدُ أَنْ يَرْتَقِيَهُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَجَبَذْتُ بِثَوْبِهِ فَجَبَذَنِي، فَارْتَفَعَ فَخَطَبَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَقُلْتُ لَهُ: غَيَّرْتُمْ وَاللَّهِ. فَقَالَ: أَبَا سَعِيدٍ قَدْ ذَهَبَ مَا تَعْلَمُ، فَقُلْتُ: مَا أَعْلَمُ وَاللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا لَا أَعْلَمُ، فَقَالَ: إِنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَجْلِسُونَ لَنَا بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَجَعَلْتُهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْخُرُوجِ إِلَى الْمُصَلَّى بِغَيْرِ مِنْبَرٍ) يُشِيرُ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الَّذِي سَاقَهُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَجَاءٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَخْرَجَ مَرْوَانُ الْمِنْبَرَ يَوْمَ عِيدٍ وَبَدَأَ بِالْخُطْبَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا مَرْوَانُ خَالَفْتَ السُّنَّةَ، الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ)، أَيِ: ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ الْمَدَنِيُّ، وَعِيَاضُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَيِ ابْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ الْقُرَشِيُّ الْمَدَنِيُّ، وَرِجَالُهُ كُلُّهُمْ مَدَنِيُّونَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عِيَاضٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ دَاوُدَ.
قَوْلُهُ: (إِلَى الْمُصَلَّى) هُوَ مَوْضِعٌ بِالْمَدِينَةِ مَعْرُوفٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَابِ الْمَسْجِدِ أَلْفُ ذِرَاعٍ، قَالَهُ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ عَنْ أَبِي غَسَّانَ الْكِنَانِيِّ صَاحِبِ مَالِكٍ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَيَقُومُ مُقَابِلَ النَّاسِ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عِيَاضٍ فَيَنْصَرِفُ إِلَى النَّاسِ قَائِمًا فِي مُصَلَّاهُ وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ فِي رِوَايَةٍ مُخْتَصَرَةٍ: خَطَبَ يَوْمَ عِيدٍ عَلَى رِجْلَيْهِ. وَهَذَا مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِالْمُصَلَّى فِي زَمَانِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْبَرٌ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ: فَلَمْ يَزَلِ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى خَرَجْتُ مَعَ مَرْوَانَ وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ أَوَّلَ مَنِ اتَّخَذَهُ مَرْوَانُ، وَقَدْ وَقَعَ فِي الْمُدَوَّنَةِ لِمَالِكٍ وَرَوَاهُ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، عَنْ أَبِي غَسَّانَ عَنْهُ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ خَطَبَ النَّاسَ فِي الْمُصَلَّى عَلَى الْمِنْبَرِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، كَلَّمَهُمْ عَلَى مِنْبَرٍ مِنْ طِينٍ بَنَاهُ كَثِيرُ بْنُ الصَّلْتِ، وَهَذَا مُعْضِلٌ، وَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَصَحُّ، فَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عِيَاضٍ نَحْوَ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عُثْمَانُ فَعَلَ ذَلِكَ مَرَّةً ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى أَعَادَهُ مَرْوَانُ وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ أَبُو سَعِيدٍ، وَإِنَّمَا اخْتَصَّ كَثِيرُ بْنُ الصَّلْتِ بِبِنَاءِ الْمِنْبَرِ بِالْمُصَلَّى؛ لِأَنَّ دَارَهُ كَانَتْ مُجَاوِرَةً لِلْمُصَلَّى، كَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَتَى فِي يَوْمِ الْعِيدِ إِلَى الْعَلَمِ الَّذِي عِنْدَ دَارِ كَثِيرِ بْنِ الصَّلْتِ، قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: كَانَتْ دَارُ كَثِيرِ بْنِ الصَّلْتِ قِبْلَةَ الْمُصَلَّى فِي الْعِيدَيْنِ وَهِيَ تُطِلُّ عَلَى بَطْنِ بَطَحَانِ الْوَادِي الَّذِي فِي وَسَطِ الْمَدِينَةِ، انْتَهَى.
وَإِنَّمَا بَنَى كَثِيرُ بْنُ الصَّلْتِ دَارَهُ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمُدَّةٍ، لَكِنَّهَا لَمَّا صَارَتْ شَهِيرَةً فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ وُصِفَ الْمُصَلَّى بِمُجَاوَرَتِهَا. وَكَثِيرٌ الْمَذْكُورُ هُوَ ابْنُ الصَّلْتِ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْكِنْدِيُّ، تَابِعِيٌّ كَبِيرٌ وُلِدَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ هُوَ وَأَخَوَيْهِ بَعْدَهُ، فَسَكَنَهَا وَحَالَفَ بَنِي جُمَحٍ، وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى نَافِعٍ قَالَ: كَانَ اسْمُ كَثِيرِ بْنِ الصَّلْتِ قَلِيلًا فَسَمَّاهُ عُمَرُ كَثِيرًا. وَرَوَاهُ أَبُو عَوَانَةَ فَوَصَلَهُ بِذِكْرِ ابْنِ عُمَرَ وَرَفَعَهُ بِذِكْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَقَدْ صَحَّ سَمَاعُ كَثِيرٍ مِنْ عُمَرَ فَمَنْ بَعْدَهُ، وَكَانَ لَهُ شَرَفٌ وَذِكْرٌ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي جَمْدٍ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمِيمِ أَوْ فَتْحِهَا
أَحَدِ مُلُوكِ كِنْدَةَ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي الرِّدَّةِ، وَقَدْ ذُكِرَ أَبُوهُ فِي الصَّحَابَةِ لِابْنِ مَنْدَهْ وَفِي صِحَّةِ ذَلِكَ نَظَرٌ.
قَوْلُهُ: (فَإِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يُقْطِعَ بَعْثًا) أَيْ يُخْرِجَ طَائِفَةً مِنَ الْجَيْشِ إِلَى جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ.
قَوْلُهُ: (خَرَجْتُ مَعَ مَرْوَانَ) زَادَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ قَيْسٍ وَهُوَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي مَسْعُودٍ يَعْنِي عُقْبَةَ بْنَ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيَّ.
قَوْلُهُ: (فَجَبَذْتُهُ بِثَوْبِهِ) أَيْ لِيَبْدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ عَلَى الْعَادَةِ، وَقَوْلُهُ: فَقُلْتُ لَهُ: غَيَّرْتُمْ وَاللَّهِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ هُوَ الَّذِي أَنْكَرَ، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ أَوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِالْخُطْبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ قَبْلَ الصَّلَاةِ مَرْوَانُ. فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: الصَّلَاةُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، فَقَالَ: قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ. فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ غَيْرُ أَبِي سَعِيدٍ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ رَجَاءٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي أَوَّلِ الْبَابِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ أَبَا مَسْعُودٍ الَّذِي وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَنَّهُ كَانَ مَعَهُمَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْقِصَّةُ تَعَدَّدَتْ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْمُغَايَرَةُ الْوَاقِعَةُ بَيْنَ رِوَايَتَيْ عِيَاضٍ، وَرَجَاءٍ، فَفِي رِوَايَةِ عِيَاضٍ أَنَّ الْمِنْبَرَ بُنِيَ بِالْمُصَلَّى، وَفِي رِوَايَةِ رَجَاءٍ أَنَّ مَرْوَانَ أَخْرَجَ الْمِنْبَرَ مَعَهُ، فَلَعَلَّ مَرْوَانَ لَمَّا أَنْكَرُوا عَلَيْهِ إِخْرَاجَ الْمِنْبَرِ تَرَكَ إِخْرَاجَهُ بَعْدُ وَأَمَرَ بِبِنَائِهِ مِنْ لَبِنٍ وَطِينٍ بِالْمُصَلَّى، وَلَا بُعْدَ فِي أَنْ يُنْكَرَ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ الْخُطْبَةِ عَلَى الصَّلَاةِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَيَدُلُّ عَلَى التَّغَايُرِ أَيْضًا أَنَّ إِنْكَارَ أَبِي سَعِيدٍ وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَإِنْكَارَ الْآخَرِ وَقَعَ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَجْلِسُونَ لَنَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَجَعَلْتُهَا) أَيِ: الْخُطْبَةَ (قَبْلَ الصَّلَاةِ) وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ مَرْوَانَ فَعَلَ ذَلِكَ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُ، وَسَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ أَنَّ عُثْمَانَ فَعَلَ ذَلِكَ أَيْضًا لَكِنْ لِعِلَّةٍ أُخْرَى، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ بُنْيَانُ الْمِنْبَرِ، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: وَإِنَّمَا اخْتَارُوا أَنْ يَكُونَ بِاللَّبِنِ لَا مِنَ الْخَشَبِ لِكَوْنِهِ يُتْرَكُ فِي الصَّحْرَاءِ فِي غَيْرِ حِرْزٍ فَيُؤْمَنُ عَلَيْهِ النَّقْلُ، بِخِلَافِ خَشَبِ مِنْبَرِ الْجَامِعِ. وَفِيهِ: أَنَّ الْخُطْبَةَ عَلَى الْأَرْضِ عَنْ قِيَامٍ فِي الْمُصَلَّى أَوْلَى مِنَ الْقِيَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ أَنَّ الْمُصَلَّى يَكُونُ بِمَكَانٍ فِيهِ فَضَاءٌ، فَيَتَمَكَّنُ مِنْ رُؤْيَتِهِ كُلُّ مَنْ حَضَرَ، بِخِلَافِ الْمَسْجِدِ فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي مَكَانٍ مَحْصُورٍ فَقَدْ لَا يَرَاهُ بَعْضُهُمْ، وَفِيهِ الْخُرُوجُ إِلَى الْمُصَلَّى فِي الْعِيدِ، وَأَنَّ صَلَاتَهَا فِي الْمَسْجِدِ لَا تَكُونُ إِلَّا عَنْ ضَرُورَةٍ، وَفِيهِ إِنْكَارُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْأُمَرَاءِ إِذَا صَنَعُوا مَا يُخَالِفُ السُّنَّةَ، وَفِيهِ حَلِفُ الْعَالِمِ عَلَى صِدْقِ مَا يُخْبِرُ بِهِ، وَالْمُبَاحَثَةُ فِي الْأَحْكَامِ، وَجَوَازُ عَمَلِ الْعَالِمِ بِخِلَافِ الْأَوْلَى إِذَا لَمْ يُوَافِقْهُ الْحَاكِمُ عَلَى الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ أَبَا سَعِيدٍ حَضَرَ الْخُطْبَةَ وَلَمْ يَنْصَرِفْ، فَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمُبَدَاءةَ بِالصَّلَاةِ فِيهَا لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّتِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: حَمَلَ أَبُو سَعِيدٍ فِعْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ عَلَى التَّعْيِينِ، وَحَمَلَهُ مَرْوَانُ عَلَى الْأَوْلَوِيَّةِ، وَاعْتَذَرَ عَنْ تَرْكِ الْأَوْلَى بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ تَغَيُّرِ حَالِ النَّاسِ، فَرَأَى أَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى أَصْلِ السُّنَّةِ - وَهُوَ إِسْمَاعُ الْخُطْبَةِ - أَوْلَى مِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى هَيْئَةٍ فِيهَا لَيْسَتْ مِنْ شَرْطِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْخُرُوجِ إِلَى الصَّحْرَاءِ لِصَلَاةِ الْعِيدِ، وَأَنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي الْمَسْجِدِ، لِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ مَعَ فَضْلِ مَسْجِدِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْرُجُ فِي الْعِيدَيْنِ إِلَى الْمُصَلَّى بِالْمَدِينَةِ، وَكَذَا مَنْ بَعْدَهُ إِلَّا مِنْ عُذْرِ مَطَرٍ وَنَحْوِهِ، وَكَذَلِكَ عَامَّةُ أَهْلِ الْبُلْدَانِ إِلَّا أَهْلَ مَكَّةَ. ثُمَّ أَشَارَ إِلَى أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ سَعَةُ الْمَسْجِدِ وَضِيقُ أَطْرَافِ مَكَّةَ قَالَ: فَلَوْ عُمِّرَ بَلَدٌ، فَكَانَ مَسْجِدُ أَهْلِهِ يَسَعُهُمْ فِي الْأَعْيَادِ لَمْ أَرَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ لَا يَسَعُهُمْ كُرِهَتِ الصَّلَاةُ فِيهِ وَلَا إِعَادَةَ. وَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّ الْعِلَّةَ تَدُورُ عَلَى الضِّيقِ وَالسَّعَةِ، لَا لِذَاتِ الْخُرُوجِ إِلَى الصَّحْرَاءِ، لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ حُصُولُ عُمُومِ الِاجْتِمَاعِ، فَإِذَا حَصَلَ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ أَفْضَلِيَّتِهِ كَانَ أَوْلَى.
7 - بَاب الْمَشْيِ وَالرُّكُوبِ إِلَى الْعِيدِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ
957 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي فِي الْأَضْحَى وَالْفِطْرِ، ثُمَّ يَخْطُبُ بَعْدَ الصَّلَاةِ.
[الحديث 957 - طرفه في: 963]
958 -
حدثنا إبراهيم بن موسى قال أخبرنا هشام أن بن جريج أخبرهم قال أخبرني عطاء عن جابر بن عبد الله قال سمعته يقول ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم الفطر فبدأ بالصلاة قبل الخطبة
[الحديث 958 - طرفاه في: 978. 961]
959 -
قَالَ وَأَخْبَرَنِي عَطَاءٌ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَرْسَلَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي أَوَّلِ مَا بُويِعَ لَهُ إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُؤَذَّنُ بِالصَّلَاةِ يَوْمَ الْفِطْرِ إِنَّمَا الْخُطْبَةُ بَعْدَ الصَّلَاةِ
959 -
قَالَ: وَأَخْبَرَنِي عَطَاءٌ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَرْسَلَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي أَوَّلِ مَا بُويِعَ لَهُ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُؤَذَّنُ بِالصَّلَاةِ يَوْمَ الْفِطْرِ إِنَّمَا الْخُطْبَةُ بَعْدَ الصَّلَاةِ.
960 -
وَأَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَا: لَمْ يَكُنْ يُؤَذَّنُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَلَا يَوْمَ الْأَضْحَى.
961 -
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَامَ فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ، ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ بَعْدُ، فَلَمَّا فَرَغَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَزَلَ، فَأَتَى النِّسَاءَ فَذَكَّرَهُنَّ وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى يَدِ بِلَالٍ، وَبِلَالٌ بَاسِطٌ ثَوْبَهُ يُلْقِي فِيهِ النِّسَاءُ صَدَقَةً. قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَتَرَى حَقًّا عَلَى الْإِمَامِ الْآنَ أَنْ يَأْتِيَ النِّسَاءَ، فَيُذَكِّرَهُنَّ حِينَ يَفْرُغُ؟ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ عَلَيْهِمْ، وَمَا لَهُمْ أَنْ لَا يَفْعَلُوا؟
قَوْلُهُ: (بَابُ الْمَشْيِ وَالرُّكُوبِ إِلَى الْعِيدِ وَالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ وَبِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ) فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ: صِفَةُ التَّوَجُّهِ وَتَأْخِيرُ الْخُطْبَةِ عَنِ الصَّلَاةِ وَتَرْكُ النِّدَاءِ فِيهَا. فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ ابْنُ التِّينِ، فَقَالَ: لَيْسَ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَشْيٍ وَلَا رُكُوبٍ. وَأَجَابَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ عَدَمَ ذَلِكَ مُشْعِرٌ بِتَسْوِيغِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَأَلَّا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَلَعَلَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى تَضْعِيفِ مَا وَرَدَ فِي النَّدْبِ إِلَى الْمَشْيِ، فَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْعِيدِ مَاشِيًا. وَفِي ابْنِ مَاجَهْ، عَنْ سَعْدٍ الْقَرَظِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْتِي الْعِيدَ مَاشِيًا، وَفِيهِ: عَنْ أَبِي رَافِعٍ نَحْوُهُ، وَأَسَانِيدُ الثَّلَاثَةِ ضِعَافٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: بَلَغَنَا عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: مَا رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي عِيدٍ وَلَا جِنَازَةٍ قَطُّ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْبُخَارِيُّ اسْتَنْبَطَ مِنْ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ، وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى يَدِ بِلَالٍ، مَشْرُوعِيَّةَ الرُّكُوبِ لِمَنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ، وَكَأَنَّهُ يَقُولُ: الْأَوْلَى الْمَشْيُ حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى الرُّكُوبِ، كَمَا خَطَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَائِمًا عَلَى رِجْلَيْهِ، فَلَمَّا تَعِبَ مِنَ الْوُقُوفِ تَوَكَّأَ عَلَى بِلَالٍ.
وَالْجَامِعُ بَيْنَ الرُّكُوبِ وَالتَّوَكُّؤِ: الِارْتِفَاقُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ الْمُرَابِطِ، وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّانِي فَظَاهِرٌ مِنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ. وَاخْتُلِفَ فِي أَوَّلِ مَنْ غَيَّرَ ذَلِكَ، فَرِوَايَةُ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ مَرْوَانُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ، وَقِيلَ: بَلْ سَبَقَهُ إِلَى ذَلِكَ عُثْمَانُ، وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ
قَالَ: أَوَّلُ مَنْ خَطَبَ قَبْلَ الصَّلَاةِ عُثْمَانُ، صَلَّى بِالنَّاسِ ثُمَّ خَطَبَهُمْ - يَعْنِي عَلَى الْعَادَةِ - فَرَأَى نَاسًا لَمْ يُدْرِكُوا الصَّلَاةَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ أَيْ صَارَ يَخْطُبُ قَبْلَ الصَّلَاةِ. وَهَذِهِ الْعِلَّةُ غَيْرُ الَّتِي اعْتَلَّ بِهَا مَرْوَانُ. لِأَنَّ عُثْمَانَ رَأَى مَصْلَحَةَ الْجَمَاعَةِ فِي إِدْرَاكِهِمُ الصَّلَاةَ، وَأَمَّا مَرْوَانُ فَرَاعَى مَصْلَحَتَهُمْ فِي إِسْمَاعِهِمُ الْخُطْبَةَ، لَكِنْ قِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا فِي زَمَنِ مَرْوَانَ يَتَعَمَّدُونَ تَرْكَ سَمَاعِ خُطْبَتِهِ لِمَا فِيهَا مِنْ سَبِّ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ السَّبَّ، وَالْإِفْرَاطِ فِي مَدْحِ بَعْضِ النَّاسِ، فَعَلَى هَذَا إِنَّمَا رَاعَى مَصْلَحَةَ نَفْسِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عُثْمَانُ فَعَلَ ذَلِكَ أَحْيَانًا، بِخِلَافِ مَرْوَانَ فَوَاظَبَ عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ نُسِبَ إِلَيْهِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ مِثْلُ فِعْلِ عُثْمَانَ، قَالَ عِيَاضٌ وَمَنْ تَبِعَهُ: لَا يَصِحُّ عَنْهُ، وَفِيمَا قَالُوهُ نَظَرٌ، لِأَنَّ عَبْدَ الرَّزَّاقِ، وَابْنَ أَبِي شَيْبَةَ رَوَيَاهُ جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، لَكِنْ يُعَارِضُهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورُ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَكَذَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، فَإِنْ جُمِعَ بِوُقُوعِ ذَلِكَ مِنْهُ نَادِرًا وَإِلَّا فَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَصَحُّ، وَقَدْ أَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَزَادَ: حَتَّى قَدِمَ مُعَاوِيَةُ فَقَدَّمَ الْخُطْبَةَ، فَهَذَا يُشِيرُ إِلَى أَنَّ مَرْوَانَ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ تَبَعًا لِمُعَاوِيَةَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَمِيرَ الْمَدِينَةِ مِنْ جِهَتِهِ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ الْخُطْبَةَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فِي الْعِيدِ مُعَاوِيَةُ، وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ زِيَادٌ بِالْبَصْرَةِ. قَالَ عِيَاضٌ: وَلَا مُخَالَفَةَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَثَرَيْنِ وَأَثَرِ مَرْوَانَ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْ مَرْوَانَ وَزِيَادٍ كَانَ عَامِلًا لِمُعَاوِيَةَ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ ابْتَدَأَ ذَلِكَ وَتَبِعَهُ عُمَّالُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّالِثُ فَلَيْسَ فِي أَحَادِيثِ الْبَابِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ إِلَّا حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَرْكِ الْأَذَانِ، وَكَذَا أَحَدُ طَرِيقَيْ جَابِرٍ. وَقَدْ وَجَّهَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ كَوْنِ الصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ بِخِلَافِ الْجُمُعَةِ فَتُخَالِفُهَا أَيْضًا فِي الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرَهَا، أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي يَوْمِ عِيدٍ فَصَلَّى بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ. الْحَدِيثَ. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٍ فَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ، وَعِنْدَهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَا أَذَانَ لِلصَّلَاةِ يَوْمَ الْعِيدِ، وَلَا إِقَامَةَ وَلَا شَيْءَ. وَفِي رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ: لَا تُؤَذِّنْ لَهَا وَلَا تُقِمْ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ، وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الْعِيدَ بِلَا أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ. إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عِنْدَ الْبَزَّارِ، وَعَنِ الْبَرَاءِ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ، وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ: سَمِعْتُ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَائِنَا يَقُولُ: لَمْ يَكُنْ فِي الْفِطْرِ وَلَا فِي الْأَضْحَى نِدَاءٌ وَلَا إِقَامَةٌ مُنْذُ زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْيَوْمِ. وَتِلْكَ السُّنَّةُ الَّتِي لَا اخْتِلَافَ فِيهَا عِنْدَنَا.
وَعُرِفَ بِهَذَا تَوْجِيهُ أَحَادِيثِ الْبَابِ وَمُطَابَقَتُهَا لِلتَّرْجَمَةِ، وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِ جَابِرٍ: وَلَا إِقَامَةَ وَلَا شَيْءَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقَالُ: أَمَامَ صَلَاتِهَا شَيْءٌ مِنَ الْكَلَامِ، لَكِنْ رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ الثِّقَةِ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ فِي الْعِيدَيْنِ أَنْ يَقُولَ: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ وَهَذَا مُرْسَلٌ يُعَضِّدُهُ الْقِيَاسُ
(1)
عَلَى صَلَاةِ الْكُسُوفِ لِثُبُوتِ ذَلِكَ فِيهَا كَمَا سَيَأْتِي، قَالَ الشَّافِعِيُّ: أُحِبُّ أَنْ يَقُولَ: الصَّلَاةُ، أَوِ الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ، فَإِنْ قَالَ: هَلُمُّوا إِلَى الصَّلَاةِ لَمْ أَكْرَهْهُ، فَإِنْ قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرَهَا مِنْ أَلْفَاظِ الْأَذَانِ أَوْ غَيْرَهَا
(1)
مراسيل الزهرى ضعيفة عند أهلالعلم، والقياس لايصح اعتباره مع وجود النص الثابت الدال على أنه لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة العيد أذان ولا إقامة ولا شيء، ومن هنا يعلم أن النداء للعيد بدعة بأي لفظ كان، والله أعلم
كَرِهْتُ لَهُ ذَلِكَ.
وَاخْتُلِفَ فِي أَوَّلِ مَنْ أَحْدَثَ الْأَذَانَ فِيهَا أَيْضًا فَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ مُعَاوِيَةُ، وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنِ الثِّقَةِ عَنِ الزُّهْرِيِّ مِثْلَهُ. وَزَادَ: فَأَخَذَ بِهِ الْحَجَّاجُ حِينَ أُمِّرَ عَلَى الْمَدِينَةِ. وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ زِيَادٌ بِالْبَصْرَةِ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ مَرْوَانُ. وَكُلُّ هَذَا لَا يُنَافِي أَنَّ مُعَاوِيَةَ أَحْدَثَهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْبَدَاءَةِ بِالْخُطْبَةِ. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ هِشَامٌ. وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ. وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُؤَذَّنُ لَهَا، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ أَنَّهُ لَمَّا سَاءَ مَا بَيْنَهُمَا أَذَّنَ - يَعْنِي ابْنَ الزُّبَيْرِ - وَأَقَامَ. وَقَوْلُهُ يُؤَذَّنُ بِفَتْحِ الذَّالِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَالضَّمِيرُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَهِشَامٌ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ الثَّانِي هُوَ ابْنُ يُوسُفَ الصَّنْعَانِيُّ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: وَأَخْبَرَنِي عَطَاءٌ) الْقَائِلُ هُوَ ابْنُ جُرَيْجٍ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَعْطُوفٌ أَيْضًا، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: لَمْ يَكُنْ يُؤَذَّنُ، أَيْ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُصَيَّرٌ مِنَ الْبُخَارِيِّ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ حُكْمُ الرَّفْعِ.
قَوْلُهُ: (أَوَّلُ مَا بُويِعَ لَهُ) أَيْ لِابْنِ الزُّبَيْرِ بِالْخِلَافَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ عَقِبَ مَوْتِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ. وَقَوْلُهُ وَإِنَّمَا الْخُطْبَةُ بَعْدَ الصَّلَاةِ كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي. وَأَمَّا بَدَلَ وَإِنَّمَا، وَهُوَ تَصْحِيفٌ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ فَوَائِدِ حَدِيثِ جَابِرٍ بَعْدَ عَشَرَةِ أَبْوَابٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
8 - بَاب الْخُطْبَةِ بَعْدَ الْعِيدِ
962 -
حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ رضي الله عنهم، فَكُلُّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ قَبْلَ الْخُطْبَةِ
963 -
حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ رضي الله عنهما يُصَلُّونَ الْعِيدَيْنِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ.
964 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى يَوْمَ الْفِطْرِ رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا، ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ وَمَعَهُ بِلَالٌ فَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، فَجَعَلْنَ يُلْقِينَ، تُلْقِي الْمَرْأَةُ خُرْصَهَا وَسِخَابَهَا.
965 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا زُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ، عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ نَحَرَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لِأَهْلِهِ، لَيْسَ مِنْ النُّسْكِ فِي شَيْءٍ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ - يُقَالُ لَهُ: أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ -: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَبَحْتُ وَعِنْدِي جَذَعَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُسِنَّةٍ، فَقَالَ: اجْعَلْهُ مَكَانَهُ وَلَنْ تُوفِيَ أَوْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْخُطْبَةِ بَعْدَ الْعِيدِ) أَيْ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ، وَهَذَا مِمَّا يُرَجِّحُ رِوَايَةَ الَّذِينَ أَسْقَطُوا قَوْلَهُ: وَالصَّلَاةُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ مِنَ التَّرْجَمَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ وَهُمُ الْأَكْثَرُ، وَقَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: أَعَادَ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَخُصَّ هَذَا الْحُكْمَ بِتَرْجَمَةٍ اعْتِنَاءً بِهِ لِكَوْنِهِ وَقَعَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا بِطَرِيقِ التَّبَعِ اهـ.
وحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ صَرِيحٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ، وَسَيَأْتِي فِي أَوَاخِرِ الْعِيدَيْنِ أَتَمَّ مِمَّا هُنَا، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا صَرِيحٌ فِيهِ.
وأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَمِنْ جِهَةِ أَنَّ أَمْرَهُ لِلنِّسَاءِ بِالصَّدَقَةِ كَانَ مِنْ تَتِمَّةِ الْخُطْبَةِ كَمَا يُرْشِدُ إِلَى ذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ الَّذِي فِي الْبَابِ قَبْلَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرَهُ لِتَعَلُّقِهِ بِصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ فِي الْجُمْلَةِ، فَهُوَ كَالتَّتِمَّةِ لِلْفَائِدَةِ. وَقَوْلُهُ فِيهِ: خُرْصُهَا بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَحُكِيَ كَسْرُهَا وَسُكُونُ الرَّاءِ بَعْدَهَا صَادٌ مُهْمَلَةٌ هُوَ الْحَلْقَةُ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ، وَقِيلَ: هُوَ الْقُرْطُ إِذَا كَانَ بِحَبَّةٍ وَاحِدَةٍ. وَقَوْلُهُ: وَسِخَابُهَا بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ مُعْجَمَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ هُوَ قِلَادَةٌ مِنْ عَنْبَرٍ أَوْ قَرَنْفُلٍ أَوْ غَيْرِهِ وَلَا يَكُونُ فِيهِ خَرَزٌ، وَقِيلَ: هُوَ خَيْطٌ فِيهِ خَرَزٌ، وَسُمِّيَ سِخَابًا لِصَوْتِ خَرَزِهِ عِنْدَ الْحَرَكَةِ مَأْخُوذٌ مِنَ السَّخَبِ وَهُوَ اخْتِلَاطُ الْأَصْوَاتِ، يُقَالُ بِالصَّادِ وَالسِّينِ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ فَوَائِدِهِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ جَابِرٍ بَعْدَ عَشَرَةِ أَبْوَابٍ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى التَّنَفُّلِ يَوْمَ الْعِيدِ بَعْدَ ذَلِكَ بِسِتَّةِ أَبْوَابٍ.
وأَمَّا حَدِيثُ الْبَرَاءِ فَظَاهِرُهُ يُخَالِفُ التَّرْجَمَةَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَوَّلُ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ مُشْعِرٌ بِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ وَقَعَ قَبْلَ إِيقَاعِ الصَّلَاةِ فَيَسْتَلْزِمُ تَقْدِيمَ الْخُطْبَةِ عَلَى الصَّلَاةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مِنَ الْخُطْبَةِ، وَلِأَنَّهُ عَقَّبَ الصَّلَاةَ بِالنَّحْرِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الْعِيدَ ثُمَّ خَطَبَ، فَقَالَ هَذَا الْكَلَامَ، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ أَيْ فِي يَوْمِ الْعِيدِ تَقْدِيمُ الصَّلَاةِ فِي أَيِّ عِيدٍ كَانَ. وَالتَّعْقِيبُ بِثُمَّ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ تَخَلُّلِ أَمْرٍ آخَرَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: غَلِطَ النَّسَائِيُّ فَتَرْجَمَ بِحَدِيثِ الْبَرَاءِ، فَقَالَ: بَابُ الْخُطْبَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ قَالَ: وَخَفَي عَلَيْهِ أَنَّ الْعَرَبَ قَدْ تَضَعُ الْفِعْلَ الْمُسْتَقْبِلَ مَكَانَ الْمَاضِي، وَكَأَنَّهُ قَالَ عليه الصلاة والسلام: أَوَّلُ مَا يَكُونُ بِهِ الِابْتِدَاءُ فِي هَذَا الْيَوْمِ الصَّلَاةُ الَّتِي قَدَّمْنَا فِعْلَهَا. قَالَ: وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا} أَيِ: الْإِيمَانَ الْمُتَقَدِّمَ مِنْهُمُ، اهـ. وَالْمُعْتَمَدُ فِي صِحَّةِ مَا تَأَوَّلْنَاهُ رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ زُبَيْدٍ الْآتِيَةُ بَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَبْوَابٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِعَيْنِهِ بِلَفْظِ: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أَضْحَى إِلَى الْبَقِيعِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ وَقَالَ: إِنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نَبْدَأَ بِالصَّلَاةِ ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ. الْحَدِيثَ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْكَلَامَ وَقَعَ مِنْهُ بَعْدَ الصَّلَاةِ.
وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْمُسْتَفَادُ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ أَنَّ الْخُطْبَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الصَّلَاةِ، ثُمَّ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا دَلَالَتُهُ عَلَى التَّرْجَمَةِ؟ قُلْتُ: لَوْ قَدَّمَ الْخُطْبَةَ عَلَى الصَّلَاةِ لَمْ تَكُنِ الصَّلَاةُ أَوَّلَ مَا بُدِئَ بِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ هَذَا الْكَلَامِ وَقَعَ قَبْلَ الصَّلَاةِ أَنْ تَكُونَ الْخُطْبَةُ وَقَعَتْ قَبْلَهَا، اهـ. وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يَجْعَلُ الْكَلَامَ الْمَذْكُورَ سَابِقًا عَلَى الصَّلَاةِ، وَيَمْنَعُ كَوْنَهُ مِنَ الْخُطْبَةِ. لَكِنْ قَدْ بَيَّنَتْ رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ زُبَيْدٍ الْمَذْكُورَةُ أَنَّ الصَّلَاةَ لَمْ يَتَقَدَّمْهَا شَيْءٌ، لِأَنَّهُ عَقَّبَ الْخُرُوجَ إِلَيْهَا بِالْفَاءِ. وَصَرَّحَ مَنْصُورٌ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّ الْكَلَامَ الْمَذْكُورَ وَقَعَ فِي الْخُطْبَةِ، وَلَفْظُهُ: عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: خَطَبَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْأَضْحَى بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَقَالَ: فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَ بَابَيْنِ، وَيَأْتِي أَيْضًا فِي أَوَاخِرِ الْعِيدِ، فَيَتَعَيَّنُ التَّأْوِيلُ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
9 - بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ حَمْلِ السِّلَاحِ فِي الْعِيدِ وَالْحَرَمِ
وَقَالَ الْحَسَنُ: نُهُوا أَنْ يَحْمِلُوا السِّلَاحَ يَوْمَ عِيدٍ إِلَّا أَنْ يَخَافُوا عَدُوًّا
966 -
حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى أَبُو السُّكَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُوقَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ حِينَ أَصَابَهُ سِنَانُ الرُّمْحِ فِي أَخْمَصِ قَدَمِهِ، فَلَزِقَتْ قَدَمُهُ بِالرِّكَابِ، فَنَزَلْتُ فَنَزَعْتُهَا - وَذَلِكَ بِمِنًى - فَبَلَغَ الْحَجَّاجَ فَجَعَلَ يَعُودُهُ، فَقَالَ الْحَجَّاجُ: لَوْ نَعْلَمُ مَنْ أَصَابَكَ؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَنْتَ أَصَبْتَنِي. قَالَ: وَكَيْفَ؟ قَالَ: حَمَلْتَ السِّلَاحَ فِي يَوْمٍ لَمْ يَكُنْ يُحْمَلُ فِيهِ، وَأَدْخَلْتَ السِّلَاحَ الْحَرَمَ، وَلَمْ يَكُنْ السِّلَاحُ يُدْخَلُ الْحَرَمَ.
[الحديث 966 - طرفه في: 967]
967 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: دَخَلَ الْحَجَّاجُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ وَأَنَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: كَيْفَ هُوَ؟ فَقَالَ: صَالِحٌ. فَقَالَ: مَنْ أَصَابَكَ؟ قَالَ: أَصَابَنِي مَنْ أَمَرَ بِحَمْلِ السِّلَاحِ فِي يَوْمٍ لَا يَحِلُّ فِيهِ حَمْلُهُ. يَعْنِي: الْحَجَّاجَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنْ حَمْلِ السِّلَاحِ فِي الْعِيدِ وَالْحَرَمِ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ تُخَالِفُ فِي الظَّاهِرِ التَّرْجَمَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ، وَهِيَ: بَابُ الْحِرَابِ وَالدَّرَقِ يَوْمَ الْعِيدِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ دَائِرَةٌ بَيْنَ الْإِبَاحَةِ وَالنَّدْبِ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُهَا، وَهَذِهِ دَائِرَةٌ بَيْنَ الْكَرَاهَةِ وَالتَّحْرِيمِ لِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ: فِي يَوْمٍ لَا يَحِلُّ فِيهِ حَمْلُ السِّلَاحِ. وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِحَمْلِ الْحَالَةِ الْأُولَى عَلَى وُقُوعِهَا مِمَّنْ حَمَلَهَا بِالدُّرْبَةِ وَعُهِدَتْ مِنْهُ السَّلَامَةُ مِنْ إِيذَاءِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ بِهَا، وَحَمْلِ الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى وُقُوعِهَا مِمَّنْ حَمَلَهَا بَطَرًا وَأَشَرًا أَوْ لَمْ يَتَحَفَّظْ حَالَ حَمْلِهَا وَتَجْرِيدِهَا مِنْ إِصَابَتِهَا أَحَدًا مِنَ النَّاسِ، وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ الْمُزَاحَمَةِ وَفِي الْمَسَالِكِ الضَّيِّقَةِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَسَنُ) أَيِ الْبَصْرِيُّ (نُهُوا أَنْ يَحْمِلُوا السِّلَاحَ يَوْمَ عِيدٍ إِلَّا أَنْ يَخَافُوا عَدُوًّا) لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ مَوْصُولًا، إِلَّا أَنَّ ابْنَ الْمُنْذِرِ قَدْ ذَكَرَ نَحْوَهُ عَنِ الْحَسَنِ، وَفِيهِ تَقْيِيدٌ لِإِطْلَاقِ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ، وَقَدْ وَرَدَ مِثْلُهُ مَرْفُوعًا مُقَيَّدًا وَغَيْرَ مُقَيَّدٍ، فَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ مُرْسَلٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُخْرَجَ بِالسِّلَاحِ يَوْمَ الْعِيدِ وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُلْبَسَ السِّلَاحُ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ فِي الْعِيدَيْنِ، إِلَّا أَنْ يَكُونُوا بِحَضْرَةِ الْعَدُوِّ وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْعِيدِ، وَأَمَّا فِي الْحَرَمِ فَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مَعْقِلِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُحْمَلَ السِّلَاحُ بِمَكَّةَ.
قَوْلُهُ: (أَبُو السُّكَيْنِ) بِالْمُهْمَلَةِ وَالْكَافِ مُصَغَّرًا، وَالْمُحَارِبِيُّ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ لَا ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحِيمِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سُوقَةَ بِضَمِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَبِالْقَافِ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ مِنْ أَجِلَّاءِ النَّاسِ.
قَوْلُهُ: (أَخْمَصِ قَدَمِهِ) الْأَخْمَصُ بِإِسْكَانِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ: بَاطِنُ الْقَدَمِ وَمَا رَقَّ مِنْ أَسْفَلِهَا، وَقِيلَ: هُوَ خَصْرُ بَاطِنِهَا الَّذِي لَا يُصِيبُ الْأَرْضَ عِنْدَ الْمَشْيِ.
قَوْلُهُ: (بِالرِّكَابِ) أَيْ وَهِيَ فِي رَاحِلَتِهِ.
قَوْلُهُ: (فَنَزَعْتُهَا) ذَكَرَ الضَّمِيرَ مُؤَنَّثًا مَعَ أَنَّهُ أَعَادَهُ عَلَى السِّنَانِ وَهُوَ مُذَكَّرٌ لِأَنَّهُ أَرَادَ الْحَدِيدَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ الْقَدمَ.
قَوْلُهُ: (فَبَلَغَ الْحَجَّاجَ) أَيِ ابْنَ يُوسُفَ الثَّقَفِيَّ، وَكَانَ إِذْ ذَاكَ أَمِيرًا عَلَى الْحِجَازِ، وَذَلِكَ بَعْدَ قَتْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ.
قَوْلُهُ: (فَجَعَلَ يَعُودُهُ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي: فَجَاءَ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: فَأَتَاهُ.
قَوْلُهُ: (لَوْ نَعْلَمُ مَنْ أَصَابَكَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْحَمَوِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي: مَا أَصَابَكَ، وَحَذَفَ الْجَوَابَ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ، أَوْ هِيَ لِلتَّمَنِّي فَلَا مَحْذُوفَ، وَيُرَجِّحُ الْأَوَّلَ أَنَّ ابْنَ سَعْدٍ أَخْرَجَهُ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ سَعِيدٍ، فَقَالَ فِيهِ: لَوْ نَعْلَمُ مَنْ أَصَابَكَ عَاقَبْنَاهُ، وَهُوَ يُرَجِّحُ رِوَايَةَ
الْأَكْثَرِ أَيْضًا، وَلَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ قَالَ: لَوْ أَعْلَمُ الَّذِي أَصَابَكَ لَضَرَبْتُ عُنُقَهُ.
قَوْلُهُ: (أَنْتَ أَصَبْتَنِي) فِيهِ نِسْبَةُ الْفِعْلِ إِلَى الْآمِرِ بِشَيْءٍ يَتَسَبَّبُ مِنْهُ ذَلِكَ الْفِعْلُ وَإِنْ لَمْ يَعْنِ الْآمِرَ ذَلِكَ، لَكِنْ حَكَى الزُّبَيْرُ فِي الْأَنْسَابِ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ لَمَّا كَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ أَنْ لَا يُخَالِفَ ابْنَ عُمَرَ شَقَّ عَلَيْهِ فَأَمَرَ رَجُلًا مَعَهُ حَرْبَةٌ يُقَالُ: إِنَّهَا كَانَتْ مَسْمُومَةً فَلَصِقَ ذَلِكَ الرَّجُلُ بِهِ فَأَمَرَّ الْحَرْبَةَ عَلَى قَدَمِهِ فَمَرِضَ مِنْهَا أَيَّامًا ثُمَّ مَاتَ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ. فَعَلَى هَذَا فَفِيهِ نِسْبَةُ الْفِعْلِ إِلَى الْآمِرِ بِهِ فَقَطْ وَهُوَ كَثِيرٌ. وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ تَعَقُّبٌ عَلَى الْمُهَلَّبِ حَيْثُ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى سَدِّ الذَّرَائِعِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْحَجَّاجَ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (حَمَلْتَ السِّلَاحَ) أَيْ فَتَبِعَكَ أَصْحَابُكَ فِي حَمْلِهِ، أَوِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: حَمَلْتَ أَيْ أَمَرْتَ بِحَمْلِهِ.
قَوْلُهُ: (فِي يَوْمٍ لَمْ يَكُنْ يُحْمَلُ فِيهِ) هَذَا مَوْضِعُ التَّرْجَمَةِ، وَهُوَ مُصَيَّرٌ مِنَ الْبُخَارِيِّ إِلَى أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ كَانَ يُفْعَلُ كَذَا عَلَى الْبِنَاءِ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ يُحْكَمُ بِرَفْعِهِ.
قَوْلُهُ: (أَصَابَنِي مَنْ أَمَرَ) هَذَا فِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْحَجَّاجِ، وَرِوَايَةُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ الَّتِي قَبْلَهَا مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّهُ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِتَعَدُّدِ الْوَاقِعَةِ أَوِ السُّؤَالِ، فَلَعَلَّهُ عَرَّضَ بِهِ أَوَّلًا، فَلَمَّا أَعَادَ عَلَيْهِ السُّؤَالَ صَرَّحَ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ سَعْدٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ رِجَالُهُ لَا بَأْسَ بِهِمْ أَنَّ الْحَجَّاجَ دَخَلَ عَلَى ابْنِ عُمَرَ يَعُودُهُ لَمَّا أُصِيبَتْ رِجْلُهُ فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، هَلْ تَدْرِي مَنْ أَصَابَ رِجْلَكَ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ عَلِمْتُ مَنْ أَصَابَكَ لَقَتَلْتُهُ. قَالَ: فَأَطْرَقَ ابْنُ عُمَرَ فَجَعَلَ لَا يُكَلِّمُهُ وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ، فَوَثَبَ كَالْمُغْضَبِ. وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَمْرٍ ثَالِثٍ كَأَنَّهُ عَرَّضَ بِهِ، ثُمَّ عَاوَدَهُ فَصَرَّحَ، ثُمَّ عَاوَدَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (يَعْنِي الْحَجَّاجَ) بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ وَفَاعِلُهُ الْقَائِلُ وَهُوَ ابْنُ عُمَرَ، زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ قَالَ: لَوْ عَرَفْنَاهُ لَعَاقَبْنَاهُ قَالَ: وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسَ نَفَرُوا عَشِيَّةً وَرَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَجَّاجِ عَارِضٌ حَرْبَتَهُ فَضَرَبَ ظَهْرَ قَدَمِ ابْنِ عُمَرَ، فَأَصْبَحَ وَهِنًا مِنْهَا حَتَّى مَاتَ.
(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي الْأَطْرَافِ لِلْمِزِّيِّ فِي تَرْجَمَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ سَعِيدٍ، وَعَنْ أَبِي السُّكَيْنِ، عَنِ الْمُحَارِبِيِّ، كِلَاهُمَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ عَنْهُ بِهِ. وَوَهِمَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ إِسْحَاقَ بْنَ سَعِيدٍ إِنما رَوَاهُ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ لَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ. وَقَدْ ذَكَرَهُ هُوَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي تَرْجَمَةِ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَلَى الصَّوَابِ.
10 - بَاب التَّبْكِيرِ إِلَى الْعِيدِ
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُسْرٍ: إِنْ كُنَّا فَرَغْنَا فِي هَذِهِ السَّاعَةِ وَذَلِكَ حِينَ التَّسْبِيحِ
968 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: خَطَبَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ، ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ عَجَّلَهُ لِأَهْلِهِ لَيْسَ مِنْ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ، فَقَامَ خَالِي أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أُصَلِّيَ وَعِنْدِي جَذَعَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُسِنَّةٍ. قَالَ: اجْعَلْهَا مَكَانَهَا - أَوْ قَالَ: اذْبَحْهَا - وَلَنْ تَجْزِيَ جَذَعَةٌ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ التَّبْكِيرِ لِلْعِيدِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِتَقْدِيمِ الْمُوَحَّدَةِ مِنَ الْبُكُورِ، وَعَلَى ذَلِكَ جَرَى شَارِحُوهُ وَمَنِ اسْتَخْرَجَ عَلَيْهِ. وَوَقَعَ لِلْمُسْتَمْلِي التَّكْبِيرُ بِتَقْدِيمِ الْكَافِ وَهُوَ تَحْرِيفٌ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُسْرٍ) يَعْنِي: الْمَازِنِيَّ الصَّحَابِيَّ ابْنَ الصَّحَابِيِّ، وَأَبُوهُ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ.
قَوْلُهُ: (إِنْ كُنَّا فَرَغْنَا فِي هَذِهِ السَّاعَةِ) إِنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ
وَهَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ أَحْمَدُ وَصَرَّحَ بِرَفْعِهِ وَسِيَاقِهِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ خُمَيْرٍ وَهُوَ بِالْمُعْجَمَةِ مُصَغَّرٌ قَالَ: خَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُسْرٍ صَاحِبُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ النَّاسِ يَوْمَ عِيدِ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى، فَأَنْكَرَ إِبْطَاءَ الْإِمَامِ وَقَالَ: إِنْ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ فَرَغْنَا سَاعَتَنَا هَذِهِ. وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَحْمَدَ، وَالْحَاكِمِ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ أَيْضًا وَصَحَّحَهُ.
قَوْلُهُ: (وَذَلِكَ حِينَ التَّسْبِيحِ) أَيْ وَقْتَ صَلَاةِ السُّبْحَةِ وَهِيَ النَّافِلَةُ، وَذَلِكَ إِذَا مَضَى وَقْتُ الْكَرَاهَةِ. وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ لِلطَبَرَانِيِّ وَذَلِكَ حِينَ تَسْبِيحِ الضُّحَى، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعِيدَ لَا تُصَلَّى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلَا عِنْدَ طُلُوعِهَا، وَإِنَّمَا تَجُوزُ عِنْدَ جَوَازِ النَّافِلَةِ. وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ إِطْلَاقُ مَنْ أَطْلَقَ أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِهَا عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَمْتَدُّ وَقْتُهَا إِلَى الزَّوَالِ أَوْ لَا، وَاسْتَدَلَّ ابْنُ بَطَّالٍ عَلَى الْمَنْعِ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ هَذَا، وَلَيْسَ دَلَالَتُهُ عَلَى ذَلِكَ بِظَاهِرَةٍ. ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ الْبَرَاءِ: إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ. وَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي الِاشْتِغَالُ فِي يَوْمِ الْعِيدِ بِشَيْءٍ غَيْرِ التَّأَهُّبِ لِلصَّلَاةِ وَالْخُرُوجِ إِلَيْهَا، وَمِنْ لَازِمِهِ أَنْ لَا يُفْعَلَ قَبْلَهَا شَيْءٌ غَيْرُهَا فَاقْتَضَى ذَلِكَ التَّبْكِيرَ إِلَيْهَا.
11 - بَاب فَضْلِ الْعَمَلِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ أَيَّامُ الْعَشْرِ.
وَالْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ يُكَبِّرَانِ وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا، وَكَبَّرَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ خَلْفَ النَّافِلَةِ
969 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ العشر أَفْضَلَ مِنْ العمل فِي هَذِهِ. قَالُوا: وَلَا الْجِهَادُ؟ قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ.
قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ الْعَمَلِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ) مُقْتَضَى كَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْفِقْهِ أَنَّ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ مَا بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ، هَلْ هِيَ ثَلَاثَةٌ أَوْ يَوْمَانِ؟ لَكِنْ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ سَبَبِ تَسْمِيَتِهَا بِذَلِكَ يَقْتَضِي دُخُولَ يَوْمِ الْعِيدِ فِيهَا. وَقَدْ حَكَى أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّ فِيهِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُشَرِّقُونَ فِيهَا لُحُومَ الْأَضَاحِيِّ، أَيْ يُقَدِّدُونَهَا وَيُبْرِزُونَهَا لِلشَّمْسِ. ثَانِيهُمَا لِأَنَّهَا كُلَّهَا أَيَّامُ تَشْرِيقٍ لِصَلَاةِ يَوْمِ النَّحْرِ فَصَارَتْ تَبَعًا لِيَوْمِ النَّحْرِ. قَالَ: وَهَذَا أَعْجَبُ الْقَوْلَيْنِ إِلَيَّ، وَأَظُنُّهُ أَرَادَ مَا حَكَاهُ غَيْرُهُ أَنَّ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؟ لِأَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ إِنَّمَا تُصَلَّى بَعْدَ أَنْ تُشْرِقَ الشَّمْسُ. وَعَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ قَالَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا لَا تُنْحَرُ حَتَّى تُشْرِقَ الشَّمْسُ، وَعَنْ يَعْقُوبَ بْنِ السِّكِّيتِ قَالَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ الْجَاهِلِيَّةِ: أَشْرَقَ ثَبِيرُ كَيْمَا نُغِيرُ، أَيْ نَدْفَعُ لِنَنْحَرَ. انْتَهَى.
وَأَظُنُّهُمْ أَخْرَجُوا يَوْمَ الْعِيدِ مِنْهَا لِشُهْرَتِهِ بِلَقَبٍ يَخُصُّهُ وَهُوَ يَوْمُ الْعِيدِ، وَإِلَّا فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ تَبَعٌ لَهُ فِي التَّسْمِيَةِ كَمَا تَبَيَّنَ مِنْ كَلَامِهِمْ. وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ عَلِيٍّ لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إِلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ أَخْرَجَهُ أَبُو عُبَيْدٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَيْهِ مَوْقُوفًا، وَمَعْنَاهُ لَا صَلَاةَ جُمُعَةٍ وَلَا صَلَاةَ عِيدٍ. قَالَ: وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَذْهَبُ بِالتَّشْرِيقِ فِي هَذَا إِلَى التَّكْبِيرِ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ يَقُولُ: لَا تَكْبِيرَ إِلَّا عَلَى أَهْلِ الْأَمْصَارِ. قَالَ: وَهَذَا لَمْ نَجِدْ أَحَدًا يَعْرِفُهُ، وَلَا وَافَقَهُ عَلَيْهِ صَاحِبَاهُ وَلَا غَيْرُهُمَا. انْتَهَى.
وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ: مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ التَّشْرِيقِ - أَيْ: قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ - فَلْيُعِدْ. رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ مِنْ مُرْسَلِ الشَّعْبِيِّ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ يَوْمَ الْعِيدِ مِنْ أَيَّامِ
التَّشْرِيقِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ. وَفِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَابْنِ شَبُّوَيْهِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَاذْكُرُوا اللَّهَ إِلَخْ وَلِلْحَمَوِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي: وَيَذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ التِّلَاوَةَ {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} أَوْ: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدِ التِّلَاوَةَ، وَإِنَّمَا حَكَى كَلَامَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ أَرَادَ تَفْسِيرَ الْمَعْدُودَاتِ وَالْمَعْلُومَاتِ وَقَدْ وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْهُ وَفِيهِ: الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَالْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ أَيَّامُ الْعَشْرِ وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ الَّتِي قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمِ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمِ عَرَفَةَ، وَالْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَظَاهِرُهُ إِدْخَالُ يَوْمِ الْعِيدِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمَعْلُومَاتِ يَوْمُ النَّحْرِ وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ وَرَجَّحَ الطَّحَاوِيُّ هَذَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} فَإِنَّهُ مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَيَّامُ النَّحْرِ. انْتَهَى.
وَهَذَا لَا يَمْنَعُ تَسْمِيَةَ أَيَّامِ الْعَشْرِ مَعْلُومَاتٍ، وَلَا أَيَّامِ التَّشْرِيقِ مَعْدُودَاتٍ، بَلْ تَسْمِيَةُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ مَعْدُودَاتٍ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} الْآيَةَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا إِنَّمَا سُمِّيَتْ مَعْدُودَاتٍ؛ لِأَنَّهَا إِذَا زِيدَ عَلَيْهَا شَيْءٌ عُدَّ ذَلِكَ حَصْرًا أَيْ فِي حُكْمِ حَصْرِ الْعَدَدِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ إِلَخْ) لَمْ أَرَهُ مَوْصُولًا عَنْهُمَا، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا مُعَلَّقًا عَنْهُمَا، وَكَذَا الْبَغَوِيُّ، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: كَانَ مَشَايِخُنَا يَقُولُونَ بِذَلِكَ، أَيْ: بِالتَّكْبِيرِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ. وَقَدِ اعْتُرِضَ عَلَى الْبُخَارِيِّ فِي ذِكْرِ هَذَا الْأَثَرِ فِي تَرْجَمَةِ الْعَمَلِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَأَجَابَ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّ عَادَتَهُ أَنْ يُضِيفَ إِلَى التَّرْجَمَةِ مَا لَهُ بِهَا أَدْنَى مُلَابَسَةٍ اسْتِطْرَادًا. انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ أَرَادَ تَسَاوِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بِأَيَّامِ الْعَشْرِ لِجَامِعِ مَا بَيْنَهُمَا مِمَّا يَقَعُ فِيهِمَا مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ أَثَرَ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عُمَرَ صَرِيحٌ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ، وَالْأَثَرَ الَّذِي بَعْدَهُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَيَانٍ لِذَلِكَ بَعْدَ قَلِيلٍ.
قَوْلُهُ: (وَكَبَّرَ مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ النَّافِلَةَ) هُوَ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ، وَقَدْ وَصَلَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْمُؤْتَلَفِ مِنْ طَرِيقِ مَعْنِ بْنِ عِيسَى الْقَزَّازِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو وَهْنَةَ رُزَيْقٌ الْمَدَنِيُّ، قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ يُكَبِّرُ بِمِنًى فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ خَلْفَ النَّوَافِلِ، وَأَبُو وَهْنَةَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الْهَاءِ بَعْدَهَا نُونٌ، وَرُزَيْقٌ بِتَقْدِيمِ الرَّاءِ مُصَغَّرًا، وَفِي سِيَاقِ هَذَا الْأَثَرِ تَعَقُّبٌ عَلَى الْكِرْمَانِيِّ حَيْثُ جَعَلَهُ يَتَعَلَّقُ بِتَكْبِيرِ أَيَّامِ الْعَشْرِ كَالَّذِي قَبْلَهُ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: لَمْ يُتَابِعْ مُحَمَّدًا عَلَى هَذَا أَحَدٌ، كَذَا قَالَ، وَالْخِلَافُ ثَابِتٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ هَلْ يَخْتَصُّ التَّكْبِيرُ الَّذِي بَعْدَ الصَّلَاةِ فِي الْعِيدِ بِالْفَرَائِضِ أَوْ يَعُمُّ، وَاخْتَلَفَ التَّرْجِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الِاخْتِصَاصُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ سُلَيْمَانَ) هُوَ الْأَعْمَشُ، وَمُسْلِمٌ هُوَ الْبَطِينُ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، لُقِّبَ بِذَلِكَ لِعِظَمِ بَطْنِهِ، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ شُعْبَةَ فَصَرَّحَ بِسَمَاعِ الْأَعْمَشِ لَهُ مِنْهُ وَلَفْظُهُ: عَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ: سَمِعْتُ مُسْلِمًا وَهَكَذَا رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْحُفَّاظِ عَنِ الْأَعْمَشِ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ وَكِيعٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ فَقَالَ: عَنْ مُسْلِمٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَأَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَمَّا طَرِيقُ مُجَاهِدٍ فَقَدْ رَوَاهُ أَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فَقَالَ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ بَدَلَ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَمَّا طَرِيقُ أَبِي صَالِحٍ فَقَدْ رَوَاهُ أَبُو عَوَانَةَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ أَعْيَنَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، فَقَالَ: عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْمَحْفُوظُ فِي هَذَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِيهِ اخْتِلَافٌ آخَرُ عَنِ الْأَعْمَشِ، رَوَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ فَقَالَ: عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَقَدْ وَافَقَ الْأَعْمَشُ عَلَى
رِوَايَتِهِ لَهُ عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ أَيْضًا، وَرَوَاهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَيْضًا الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ عِنْدَ الدَّارِمِيِّ، وَأَبُو عَوَانَةَ، وَأَبُو جَرِيرٍ السِّخْتِيَانِيُّ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ، وَعَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ، وَسَنَذْكُرُ مَا فِي رِوَايَاتِهِمْ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالزَّوَائِدِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ) كَذَا لِأَكْثَرِ الرُّوَاةِ بِالْإِبْهَامِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ أَفْضَلَ مِنَ الْعَمَلِ فِي هَذِهِ. وَهَذَا يَقْتَضِي نَفْيَ أَفْضَلِيَّةِ الْعَمَلِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ عَلَى الْعَمَلِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ إِنْ فُسِّرَتْ بِأَنَّهَا أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَعَلَى ذَلِكَ جَرَى بَعْضُ شُرَّاحِ الْبُخَارِيِّ، وَحَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ تَرْجَمَةُ الْبُخَارِيِّ الْمَذْكُورَةُ، فَزَعَمَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ فَسَّرَ الْأَيَّامَ الْمُبْهَمَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّهَا أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَفَسَّرَ الْعَمَلَ بِالتَّكْبِيرِ لِكَوْنِهِ أَوْرَدَ الْآثَارَ الْمَذْكُورَةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالتَّكْبِيرِ فَقَطْ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: الْحَدِيثُ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَفْضَلُ مِنَ الْعَمَلِ فِي غَيْرِهِ، قَالَ: وَلَا يُعَكِّرُ عَلَى ذَلِكَ كَوْنُهَا أَيَّامَ عِيدٍ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَلَا مَا صَحَّ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: أَنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْعَمَلَ فِيهَا، بَلْ قَدْ شَرَعَ فِيهَا أَعْلَى الْعِبَادَاتِ وَهُوَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ يُمْنَعْ فِيهَا مِنْهَا إِلَّا الصِّيَامُ.
قَالَ: وَسِرُّ كَوْنِ الْعِبَادَةِ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا أَنَّ الْعِبَادَةَ فِي أَوْقَاتِ الْغَفْلَةِ فَاضِلَةٌ عَلَى غَيْرِهَا، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ غَفْلَةٍ فِي الْغَالِبِ، فَصَارَ لِلْعَابِدِ فِيهَا مَزِيدُ فَضْلٍ عَلَى الْعَابِدِ فِي غَيْرِهَا كَمَنْ قَامَ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ وَأَكْثَرُ النَّاسِ نِيَامٌ، وَفِي أَفْضَلِيَّةِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ نُكْتَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّهَا وَقَعَتْ فِيهَا مِحْنَةُ الْخَلِيلِ بِوَلَدِهِ ثُمَّ مُنَّ عَلَيْهِ بِالْفِدَاءِ، فَثَبَتَ لَهَا الْفَضْلُ بِذَلِكَ اهـ. وَهُوَ تَوْجِيهٌ حَسَنٌ إِلَّا أَنَّ الْمَنْقُولَ يُعَارِضُهُ، وَالسِّيَاقُ الَّذِي وَقَعَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ شَاذٌّ مُخَالِفٌ لِمَا رَوَاهُ أَبُو ذَرٍّ وَهُوَ مِنَ الْحُفَّاظِ عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ شَيْخِ كَرِيمَةَ بِلَفْظِ: مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذَا الْعَشْرِ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ شُعْبَةَ فَقَالَ: فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهُ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ. وَكَذَا رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ شُعْبَةَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ وَكِيعٍ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهَا: مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ منْ رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ بِدُونِ يَعْنِي، وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ قَوْلَهُ: يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ تَفْسِيرٌ مِنْ بَعْضِ رُوَاتِهِ، لَكِنْ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ الطَّيَالِسِيِّ وَغَيْرِهِ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ مِنْ نَفْسِ الْخَبَرِ.
وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ بِلَفْظِ: مَا مِنْ عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ اللَّهِ وَلَا أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ خَيْرٍ يَعْمَلُهُ فِي عَشْرِ الْأَضْحَى. وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ فِي صَحِيحَيْ أَبِي عَوَانَةَ، وَابْنِ حِبَّانَ: مَا مِنْ أَيَّامٍ أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَيَّامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ. فَظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَيَّامِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ أَيَّامُ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، لَكِنَّهُ مُشْكِلٌ عَلَى تَرْجَمَةِ الْبُخَارِيِّ بِأَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَيُجَابُ بِأَجْوِبَةٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الشَّيْءَ يَشْرُفُ بِمُجَاوَرَتِهِ لِلشَّيْءِ الشَّرِيفِ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ تَقَعُ تِلْوَ أَيَّامِ الْعَشْرِ، وَقَدْ ثَبَتَتِ الْفَضِيلَةُ لِأَيَّامِ الْعَشْرِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَثَبَتَتْ بِذَلِكَ الْفَضِيلَةُ لِأَيَّامِ التَّشْرِيقِ. ثَانِيهَا: أَنَّ عَشْرَ ذِي الْحِجَّةِ إِنَّمَا شُرِّفَ لِوُقُوعِ أَعْمَالِ الْحَجِّ فِيهِ، وَبَقِيَّةُ أَعْمَالِ الْحَجِّ تَقَعُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ كَالرَّمْيِ وَالطَّوَافِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تَتِمَّاتِهِ، فَصَارَتْ مُشْتَرِكَةً مَعَهَا فِي أَصْلِ الْفَضْلِ، وَلِذَلِكَ اشْتَرَكَتْ مَعَهَا فِي مَشْرُوعِيَّةِ التَّكْبِيرِ فِي كُلٍّ مِنْهَا، وَبِهَذَا تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ إِيرَادِ الْآثَارِ الْمَذْكُورَةِ فِي صَدْرِ التَّرْجَمَةِ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا. ثَالِثُهَا: أَنَّ بَعْضَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ هُوَ بَعْضُ أَيَّامِ الْعَشْرِ وَهُوَ يَوْمُ الْعِيدِ، وَكَمَا أَنَّهُ خَاتِمَةُ أَيَّامِ الْعَشْرِ فَهُوَ مُفْتَتَحُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَمَهْمَا ثَبَتَ لِأَيَّامِ الْعَشْرِ مِنَ الْفَضْلِ شَارَكَتْهَا فِيهِ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، لِأَنَّ يَوْمَ الْعِيدِ بَعْضُ كُلٍّ مِنْهَا، بَلْ هُوَ رَأْسُ كُلٍّ مِنْهَا وَشَرِيفُهُ وَعَظِيمُهُ، وَهُوَ يَوْمُ الْحَجِّ
الْأَكْبَرِ كَمَا سَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْحَجِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (قَالُوا: وَلَا الْجِهَادُ) فِي رِوَايَةِ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ الْمَذْكُورَةِ: فَقَالَ رَجُلٌ وَلَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْيِينَ هَذَا السَّائِلِ، وَفِي رِوَايَةِ غُنْدَرٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَرَّتَيْنِ. وَفِي رِوَايَةِ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ أَيْضًا: حَتَّى أَعَادَهَا ثَلَاثًا وَدَلَّ سُؤَالُهُمْ هَذَا عَلَى تَقَرُّرِ أَفْضَلِيَّةِ الْجِهَادِ عِنْدَهُمْ، وَكَأَنَّهُمُ اسْتَفَادُوهُ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي جَوَابِ مَنْ سَأَلَهُ عَنْ عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ، فَقَالَ: لَا أَجِدُهُ، الْحَدِيثَ. وَسَيَأْتِي فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْجِهَادِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَنَذْكُرُ هُنَاكَ وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا عَمَلُ رَجُلٍ، وَلِلْمُسْتَمْلِي: إِلَّا مَنْ خَرَجَ.
قَوْلُهُ: (يُخَاطِرُ) أَيْ يَقْصِدُ قَهْرَ عَدُوِّهِ وَلَوْ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى قَتْلِ نَفْسِهِ.
قَوْلُهُ: (فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ) أَيْ فَيَكُونُ أَفْضَلَ مِنَ الْعَامِلِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذَا اللَّفْظُ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ، أَنْ لَا يَرْجِعَ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ وَإِنْ رَجَعَ هُوَ، وَأَنْ لَا يَرْجِعَ هُوَ وَلَا مَالُهُ بِأَنْ يَرْزُقَهُ اللَّهُ الشَّهَادَةَ. وَتَعَقَّبَهُ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ قَوْلَهُ: فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ، يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِنَفْسِهِ وَلَا بُدَّ، اهـ. وَهُوَ تَعَقُّبٌ مَرْدُودٌ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَتَعُمُّ مَا ذَكَرَ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الطَّيَالِسِيِّ، وَغُنْدَرٍ وَغَيْرِهِمَا عَنْ شُعْبَةَ، وَكَذَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا: فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ نَفْيَ الرُّجُوعِ بِالشَّيْءِ لَا يَسْتَلْزِمُ إِثْبَاتَ الرُّجُوعِ بِغَيْرِ شَيْءٍ، بَلْ هُوَ عَلَى الِاحْتِمَالِ كَمَا قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ، وَيَدُلُّ عَلَى الثَّانِي وُرُودُهُ بِلَفْظٍ يَقْتَضِيهِ، فَعِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ: إِلَّا مَنْ عُقِرَ جَوَادُهُ وَأُهْرِيقَ دَمُهُ، وَعِنْدَهُ فِي رِوَايَةِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ: إِلَّا مَنْ لَا يَرْجِعُ بِنَفْسِهِ وَلَا مَالِهِ. وَفِي طَرِيقِ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ: فَقَالَ: لَا إِلَّا أَنْ لَا يَرْجِعَ. وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ: إِلَّا مَنْ عُفِّرَ وَجْهُهُ فِي التُّرَابِ. فَظَهَرَ بِهَذِهِ الطُّرُقِ تَرْجِيحُ مَا رَدَّهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي الْحَدِيثِ تَعْظِيمُ قَدْرِ الْجِهَادِ وَتَفَاوُتُ دَرَجَاتِهِ وَأَنَّ الْغَايَةَ الْقُصْوَى فِيهِ بَذْلُ النَّفْسِ لِلَّهِ، وَفِيهِ تَفْضِيلُ بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ عَلَى بَعْضٍ كَالْأَمْكِنَةِ، وَفَضْلُ أَيَّامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ أَيَّامِ السَّنَةِ، وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ ذَلِكَ فِيمَنْ نَذَرَ الصِّيَامَ أَوْ عَلَّقَ عَمَلًا مِنَ الْأَعْمَالِ بِأَفْضَلِ الْأَيَّامِ، فَلَوْ أَفْرَدَ يَوْمًا مِنْهَا تَعَيَّنَ يَوْمُ عَرَفَةَ، لِأَنَّهُ عَلَى الصَّحِيحِ أَفْضَلُ أَيَّامِ الْعَشْرِ الْمَذْكُورَةِ، فَإِنْ أَرَادَ أَفْضَلَ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ تَعَيَّنَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، جَمْعًا بَيْنَ حَدِيثِ الْبَابِ وَبَيْنَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ كُلِّهِ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: لَمْ يُرِدْ عليه الصلاة والسلام أَنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ خَيْرٌ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِيهَا يَوْمُ الْجُمُعَةِ، يَعْنِي فَيَلْزَمُ تَفْضِيلُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الْعَشْرِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ أَيَّامِ السَّنَةِ سَوَاءٌ كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَمْ لَا، وَيَوْمُ الْجُمُعَةِ فِيهِ أَفْضَلُ مِنَ الْجُمُعَةِ فِي غَيْرِهِ لِاجْتِمَاعِ الْفَضْلَيْنِ فِيهِ.
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى فَضْلِ صِيَامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ لِانْدِرَاجِ الصَّوْمِ فِي الْعَمَلِ، وَاسْتَشْكَلَ بِتَحْرِيمِ الصَّوْمِ يَوْمَ الْعِيدِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ، وَلَا يَرُدُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَائِمًا الْعَشْرَ قَطُّ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ كَانَ يَتْرُكُ الْعَمَلَ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَهُ خَشْيَةَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَى أُمَّتِهِ، كَمَا رَوَاهُ الصَّحِيحَانِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَيْضًا. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ السَّبَبَ فِي امْتِيَازِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ لِمَكَانِ اجْتِمَاعِ أُمَّهَاتِ الْعِبَادَةِ فِيهِ، وَهِيَ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ وَالْحَجُّ، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ. وَعَلَى هَذَا هَلْ يَخْتَصُّ الْفَضْلُ بِالْحَاجِّ أَوْ يَعُمُّ الْمُقِيمَ؟ فِيهِ احْتِمَالٌ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُ: الْمُرَادُ بِالْعَمَلِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ التَّكْبِيرُ فَقَطْ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ، وَثَبَتَ تَحْرِيمُ صَوْمِهَا، وَوَرَدَ فِيهِ إِبَاحَةُ اللَّهْوِ بِالْحِرَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى تَفْرِيغِهَا لِذَلِكَ، مَعَ الْحَضِّ عَلَى الذِّكْرِ الْمَشْرُوعِ مِنْهُ فِيهَا التَّكْبِيرُ
فَقَطْ، وَمِنْ ثَمَّ اقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ عَلَى إِيرَادِ الْآثَارِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالتَّكْبِيرِ. وَتَعَقَّبَهُ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ الْعَمَلَ إِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ الْعِبَادَةَ، وَهِيَ لَا تُنَافِي اسْتِيفَاءَ حَظِّ النَّفْسِ مِنَ الْأَكْلِ وَسَائِرِ مَا ذُكِرَ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَسْتَغْرِقُ الْيَوْمَ وَاللَّيْلَةَ.
وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْحَثُّ عَلَى الْعَمَلِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَا يَنْحَصِرُ فِي التَّكْبِيرِ، بَلِ الْمُتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ مِنْهُ أَنَّهُ الْمَنَاسِكُ مِنَ الرَّمْيِ وَغَيْرِهِ الَّذِي يَجْتَمِعُ مَعَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، قَالَ: مَعَ أَنَّهُ لَوْ حُمِلَ عَلَى التَّكْبِيرِ وَحْدَهُ لَمْ يَبْقَ لِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ بَعْدَهُ: بَابُ التَّكْبِيرِ أَيَّامَ مِنًى مَعْنًى، وَيَكُونُ تَكْرَارًا مَحْضًا، اهـ. وَالَّذِي يَجْتَمِعُ مَعَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْعِبَادَةِ هُوَ الذِّكْرُ الْمَأْمُورُ بِهِ، وَقَدْ فُسِّرَ بِالتَّكْبِيرِ كَمَا قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ، وَأَمَّا الْمَنَاسِكُ فَمُخْتَصَّةٌ بِالْحَاجِّ، وَجَزْمُهُ بِأَنَّهُ تَكْرَارٌ مُتَعَقَّبٌ، لِأَنَّ التَّرْجَمَةَ الْأُولَى لِفَضْلِ التَّكْبِيرِ وَالثَّانِيَةَ لِمَشْرُوعِيَّتِهِ وَصِفَتِهِ، أَوْ أَرَادَ تَفْسِيرَ الْعَمَلِ الْمُجْمَلِ فِي الْأُولَى بِالتَّكْبِيرِ الْمُصَرَّحِ بِهِ فِي الثَّانِيَةِ فَلَا تَكْرَارَ.
وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي آخِرِهِ فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّكْبِيرِ وَلِلْبَيْهَقِيِّ فِي الشُّعَبِ مِنْ طَرِيقِ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ بَطَّالٍ، وَفِي رِوَايَةِ عَدِيٍّ مِنَ الزِّيَادَةِ وَأَنَّ صِيَامَ يَوْمٍ مِنْهَا يَعْدِلُ صِيَامَ سَنَةٍ، وَالْعَمَلَ بِسَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَعْدِلُ صِيَامُ كُلِّ يَوْمٍ مِنْهَا بِصِيَامِ سَنَةٍ، وَقِيَامُ كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْهَا بِقِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ لَكِنْ إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَكَذَا الْإِسْنَادُ إِلَى عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
12 - بَاب التَّكْبِيرِ أَيَّامَ مِنًى وَإِذَا غَدَا إِلَى عَرَفَةَ
وَكَانَ عُمَرُ رضي الله عنه يُكَبِّرُ فِي قُبَّتِهِ بِمِنًى، فَيَسْمَعُهُ أَهْلُ الْمَسْجِدِ فَيُكَبِّرُونَ وَيُكَبِّرُ أَهْلُ الْأَسْوَاقِ حَتَّى تَرْتَجَّ مِنًى تَكْبِيرًا، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُكَبِّرُ بِمِنًى تِلْكَ الْأَيَّامَ وَخَلْفَ الصَّلَوَاتِ وَعَلَى فِرَاشِهِ وَفِي فُسْطَاطِهِ وَمَجْلِسِهِ وَمَمْشَاهُ تِلْكَ الْأَيَّامَ جَمِيعًا. وَكَانَتْ مَيْمُونَةُ تُكَبِّرُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَكُنَّ النِّسَاءُ يُكَبِّرْنَ خَلْفَ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَيَالِيَ التَّشْرِيقِ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْمَسْجِدِ
970 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الثَّقَفِيُّ، قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسًا - وَنَحْنُ غَادِيَانِ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَاتٍ - عَنْ التَّلْبِيَةِ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: كَانَ يُلَبِّي الْمُلَبِّي لَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ، وَيُكَبِّرُ الْمُكَبِّرُ فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ.
[الحديث 970 - طرفه في: "1659]
971 -
حَدَّثَنَا محمد حدثنا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ عَاصِمٍ عَنْ حَفْصَةَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ "كُنَّا نُؤْمَرُ أَنْ نَخْرُجَ يَوْمَ الْعِيدِ حَتَّى نُخْرِجَ الْبِكْرَ مِنْ خِدْرِهَا حَتَّى نُخْرِجَ الْحُيَّضَ فَيَكُنَّ خَلْفَ النَّاسِ فَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِهِمْ وَيَدْعُونَ بِدُعَائِهِمْ يَرْجُونَ بَرَكَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَطُهْرَتَهُ "
قَوْلُهُ: (بَابُ التَّكْبِيرِ أَيَّامَ مِنًى) أَيْ يَوْمَ الْعِيدِ وَالثَّلَاثَةِ بَعْدَهُ، وَقَوْلُهُ:(وَإِذَا غَدَا إِلَى عَرَفَةَ) أَيْ صُبْحَ يَوْمِ التَّاسِعِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: حِكْمَةُ التَّكْبِيرِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ أَنَّ الْجَاهِلِيَّةَ كَانُوا يَذْبَحُونَ لِطَوَاغِيتِهِمْ فِيهَا، فَشُرِعَ التَّكْبِيرُ فِيهَا إِشَارَةً إِلَى
تَخْصِيصِ الذَّبْحِ لَهُ وَعَلَى اسْمِهِ عز وجل.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ عُمَرُ يُكَبِّرُ فِي قُبَّتِهِ بِمِنًى إِلَخْ) وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ يُكَبِّرُ فِي قُبَّتِهِ بِمِنًى، وَيُكَبِّرُ أَهْلُ الْمَسْجِدِ، وَيُكَبِّرُ أَهْلُ السُّوقِ، حَتَّى تَرْتَجَّ مِنًى تَكْبِيرًا، وَوَصَلَهُ أَبُو عُبَيْدٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِلَفْظِ التَّعْلِيقِ، وَمِنْ طَرِيقِهِ الْبَيْهَقِيُّ. وَقَوْلُهُ: تَرْتَجُّ بِتَثْقِيلِ الْجِيمِ، أَيْ: تَضْطَرِبُ وَتَتَحَرَّكُ، وَهِيَ مُبَالَغَةٌ فِي اجْتِمَاعِ رَفْعِ الْأَصْوَاتِ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ
…
إِلَخْ) وَصَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْفَاكِهِيُّ فِي أَخْبَارِ مَكَّةَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ، فَذِكْرُهُ سَوَاءٌ. وَالْفُسْطَاطُ بِضَمِّ الْفَاءِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا وَيَجُوزُ ذَلِكَ بِالْمُثَنَّاةِ بَدَلَ الطَّاءِ، وَبِإِدْغَامِهَا فِي السِّينِ فَتِلْكَ سِتُّ لُغَاتٍ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ جَمِيعًا أَرَادَ بِذَلِكَ التَّأْكِيدَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ بِدُونِ وَاوٍ عَلَى أَنَّهَا ظَرْفٌ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَتْ مَيْمُونَةُ) أَيْ بِنْتُ ال حَارِثِ زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ أَقِفْ عَلَى أَثَرِهَا هَذَا مَوْصُولًا.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ النِّسَاءُ) فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ: وَكُنَّ النِّسَاءُ، وَهِيَ عَلَى اللُّغَةِ الْقَلِيلَةِ، وَأَبَانٌ الْمَذْكُورُ هُوَ ابْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى الْمَدِينَةِ فِي زَمَنِ ابْنِ عَمِّ أَبِيهِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَقَدْ وَصَلَ هَذَا الْأَثَرَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْعِيدَيْنِ، وَحَدِيثُ أُمِّ عَطِيَّةَ فِي الْبَابِ سَلَفُهُنَّ فِي ذَلِكَ، وَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآثَارُ عَلَى وُجُودِ التَّكْبِيرِ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ. وَفِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي مَوَاضِعَ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَصَرَ التَّكْبِيرَ عَلَى أَعْقَابِ الصَّلَوَاتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّ ذَلِكَ بِالْمَكْتُوبَاتِ دُونَ النَّوَافِلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّهُ بِالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، وَبِالْجَمَاعَةِ دُونَ الْمُنْفَرِدِ، وَبِالْمُؤَدَّاةِ دُونَ الْمَقْضِيَّةِ، وَبِالْمُقِيمِ دُونَ الْمُسَافِرِ، وَبِسَاكِنِ الْمِصْرِ دُونَ الْقَرْيَةِ. وَظَاهِرُ اخْتِيَارِ الْبُخَارِيِّ شُمُولُ ذَلِكَ لِلْجَمِيعِ، وَالْآثَارُ الَّتِي ذَكَرَهَا تُسَاعِدُهُ. وَلِلْعُلَمَاءِ اخْتِلَافٌ أَيْضًا فِي ابْتِدَائِهِ وَانْتِهَائِهِ، فَقِيلَ: مِنْ صُبْحِ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَقِيلَ: مِنْ ظُهْرِهِ، وَقِيلَ: مِنْ عَصْرِهِ، وَقِيلَ: مِنْ صُبْحِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَقِيلَ: مِنْ ظُهْرِهِ. وَقِيلَ: فِي الِانْتِهَاءِ إِلَى ظُهْرِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَقِيلَ: إِلَى عَصْرِهِ، وَقِيلَ: إِلَى ظُهْرِ ثَانِيهِ، وَقِيلَ: إِلَى صُبْحِ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَقِيلَ: إِلَى ظُهْرِهِ، وَقِيلَ. إِلَى عَصْرِهِ. حَكَى هَذِهِ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا النَّوَوِيُّ إِلَّا الثَّانِيَ مِنَ الِانْتِهَاءِ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدِيثٌ، وَأَصَحُّ مَا وَرَدَ فِيهِ عَنِ الصَّحَابَةِ قَوْلُ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ مِنْ صُبْحِ يَوْمِ عَرَفَةَ آخِرِ أَيَّامِ مِنًى أَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا صِيغَةُ التَّكْبِيرِ فَأَصَحُّ مَا وَرَدَ فِيهِ مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: كَبِّرُوا اللَّهَ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَنُقِلَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، أَخْرَجَهُ جَعْفَرٌ الْفِرْيَابِيُّ فِي كِتَابِ الْعِيدَيْنِ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَزَادَ: وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَقِيلَ: يُكَبِّرُ ثَلَاثًا وَيَزِيدُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ
…
إِلَخْ، وَقِيلَ: يُكَبِّرُ ثِنْتَيْنِ بَعْدَهُمَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ جَاءَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوُهُ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَقَدْ أُحْدِثَ فِي هَذَا الزَّمَانِ زِيَادَةٌ فِي ذَلِكَ لَا أَصْلَ لَهَا.
قَوْلُهُ: (سَأَلْتُ أَنَسًا). فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ.
قَوْلُهُ: (وَيُكَبِّرُ الْمُكَبِّرُ فَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ) هَذَا مَوْضِعُ التَّرْجَمَةِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ فِيهَا: وَإِذَا غَدَا إِلَى عَرَفَةَ وَظَاهِرُهُ أَنَّ أَنَسًا احْتَجَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ التَّكْبِيرِ فِي مَوْضِعِ التَّلْبِيَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْ كَبَّرَ أَضَافَ التَّكْبِيرَ إِلَى التَّلْبِيَةِ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ) كَذَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، وَكَذَا لِكَرِيمَةَ وَأَبِي الْوَقْتِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ غَيْرُ مَنْسُوبٍ، وَسَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ سبُّوَيْهِ، وَابْنِ السَّكَنِ، وَأَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ، وَأَبِي أَحْمَدَ الْجُرْجَانِيِّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ الْبُخَارِيُّ، فَعَلَى هَذَا لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْبُخَارِيِّ وَبَيْنَ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ فِيهِ، وَقَدْ حَدَّثَ الْبُخَارِيُّ
عَنْهُ بِالْكَثِيرِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَرُبَّمَا أَدْخَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ الْوَاسِطَةَ أَحْيَانًا، وَالرَّاجِحُ سُقُوطُ الْوَاسِطَةِ بَيْنَهُمَا فِي هَذَا الْإِسْنَادِ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ. وَوَقَعَ فِي حَاشِيَةِ بَعْضِ النُّسَخِ لِأَبِي ذَرٍّ: مُحَمَّدٌ هَذَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الذُّهْلِيُّ فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَاصِمٌ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ، وَحَفْصَةُ هِيَ بِنْتُ سِيرِينَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْمَتْنِ بَعْدَ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ. وَسَبَقَ بَعْضُهُ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ. وَمَوْضِعُ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ قَوْلُهُ: وَيُكَبِّرْنَ بتَكْبِيرَهُمْ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي يَوْمِ الْعِيدِ، وَهُوَ مِنْ أَيَّامِ مِنًى، وَيَلْتَحِقُ بِهِ بَقِيَّةُ الْأَيَّامِ لِجَامِعِ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ كَوْنِهِنَّ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ، وَقَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِالذِّكْرِ فِيهِنَّ.
قَوْلُهُ: (كُنَّا نُؤْمَرُ) كَذَا فِي هَذِهِ، وَسَيَأْتِي قَرِيبًا بِلَفْظِ: أَمَرَنَا نَبِيُّنَا.
قَوْلُهُ: (حَتَّى نُخْرِجَ) بِضَمِّ النُّونِ، وَحَتَّى لِلْغَايَةِ، وَالَّتِي بَعْدَهَا لِلْمُبَالَغَةِ.
قَوْلُهُ: (مِنْ خِدْرِهَا) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ سِتْرِهَا، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مِنْ خِدْرَتِهَا بِالتَّأْنِيثِ.
وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: وَطُهْرَتَهُ بِضَمِّ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْهَاءِ لُغَةٌ فِي الطَّهَارَةِ، وَالْمُرَادُ بِهَا التَّطَهُّرُ مِنَ الذُّنُوبِ.
قَوْلُهُ: (فَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِهِمْ) ذِكْرُ التَّكْبِيرِ فِي حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ غَرَائِبِ الصَّحِيحِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا.
13 - بَاب الصَّلَاةِ إِلَى الْحَرْبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ
972 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَت تُرْكَزُ الْحَرْبَةُ قُدَّامَهُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالنَّحْرِ، ثُمَّ يُصَلِّي.
قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّلَاةِ إِلَى الْحَرْبَةِ). زَادَ الْكُشْمِيهَنِيُّ يَوْمَ الْعِيدِ: وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ بِهَذَا الْحَدِيثِ دُونَ زِيَادَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فِي أَبْوَابِ السُّتْرَةِ. وعَبْدُ الْوَهَّابِ الْمَذْكُورُ هُنَا هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ
14 - بَاب حَمْلِ الْعَنَزَةِ أَوْ الْحَرْبَةِ بَيْنَ يَدَيْ الْإِمَامِ يَوْمَ الْعِيدِ
973 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَغْدُو إِلَى الْمُصَلَّى وَالْعَنَزَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ تُحْمَلُ وَتُنْصَبُ بِالْمُصَلَّى بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيُصَلِّي إِلَيْهَا.
قَوْلُهُ: (بَابُ حَمْلِ الْعَنَزَةِ أَوِ الْحَرْبَةِ بَيْنَ يَدَيِ الْإِمَامِ). أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَكَأَنَّهُ أَفْرَدَ لَهُ تَرْجَمَةً لِيُشْعِرَ بِمُغَايَرَةِ الْحُكْمِ، لِأَنَّ الْأُولَى تُبَيِّنُ أَنَّ سُتْرَةَ الْمُصَلِّي لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ تُوَارِيَ جَسَدَهُ، وَالثَّانِيَةُ تُثْبِتُ مَشْرُوعِيَّةَ الْمَشْيِ بَيْنَ يَدَيِ الْإِمَامِ بِآلَةٍ مِنَ السِّلَاحِ، وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ حَمْلِ السِّلَاحِ يَوْمَ الْعِيدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ عِنْدَ خَشْيَةِ التَّأَذِّي كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا. وَالْوَلِيدُ الْمَذْكُورُ هُنَا هُوَ ابْنُ مُسْلِمٍ، وَقَدْ صَرَّحَ بِتَحْدِيثِ الْأَوْزَاعِيِّ لَهُ وَبِتَحْدِيثِ نَافِعٍ، لِلْأَوْزَاعِيِّ، فَأُمِنَ تَدْلِيسُ الْوَلِيدِ وَتَسْوِيَتُهُ، وَلَيْسَ لِلْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَوْصُولًا فِي الصَّحِيحِ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْحُمَيْدِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْمَتْنِ فِي بَابِ سُتْرَةِ الْإِمَامِ مُسْتَوْفًى بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى.
15 - بَاب خُرُوجِ النِّسَاءِ وَالْحُيَّضِ إِلَى الْمُصَلَّى
974 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ: أُمِرْنَا
أَنْ نُخْرِجَ الْعَوَاتِقَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ. وَعَنْ أَيُّوبَ، عَنْ حَفْصَةَ بِنَحْوِهِ. وَزَادَ فِي حَدِيثِ حَفْصَةَ، قَالَ - أَوْ قَالَتْ -: الْعَوَاتِقَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ، وَيَعْتَزِلْنَ الْحُيَّضُ الْمُصَلَّى.
قَوْلُهُ: (بَابُ خُرُوجِ النِّسَاءِ وَالْحُيَّضِ إِلَى الْمُصَلَّى) أَيْ يَوْمَ الْعِيدِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا حَمَّادٌ) كَذَا لِكَرِيمَةَ، وَنَسَبَهُ الْبَاقُونَ ابْنُ زَيْدٍ.
قَوْلُهُ: (أَمَرَنَا نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْحَمَوِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي، وَلِلْبَاقِينَ أُمِرْنَا بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَحَذْفِ لَفْظِ نَبِيُّنَا، وَوَقَعَ لِمُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ، الزَّهْرَانِيِّ، عَنْ حَمَّادٍ: قَالَتْ أَمَرَنَا تَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَفِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ حَمَّادٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: قَالَتْ: أُمِرْنَا بِأَبَا بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ ثُمَّ مُوَحَّدَةٌ مُمَالَةٌ، وَعَلَى هَذَا فَكَأَنَّهُ كَانَ فِي رِوَايَةِ الْحَجَبِيِّ كَذَلِكَ، لَكِنْ بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ يَاءً تَحْتَانِيَّةً فَتَصِيرُ صُورَتُهَا: بِيبًا، فَكَأَنَّهَا تَصَحَّفَتْ فَصَارَتْ نَبِيُّنَا، وَأَضَافَ إِلَيْهَا بَعْضُ الْكُتَّابِ الصَّلَاةَ بَعْدَ التَّصْحِيفَ. وَأَمَّا رِوَايَةُ مُسْلِمٍ، فَكَأَنَّهَا كَانَتْ أُمِرْنَا عَلَى الْبِنَاءِ، كَمَا وَقَعَ عِنْدَ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَغَيْرِهِ، فَأَفْصَحَ بَعْضُ الرُّوَاةِ بِتَسْمِيَةِ الْآمِرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنَّمَا قُلْتُ ذَلِكَ لِأَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ حَرْبٍ أَثْبَتُ النَّاسِ فِي حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى قَوْلِ أُمِّ عَطِيَّةَ: بِأَبِي فِي كِتَابِ الْحَيْضِ.
قَوْلُهُ: (وَعَنْ أَيُّوبَ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَيُّوبَ حَدَّثَ بِهِ حَمَّادًا عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، وَعَنْ حَفْصَةَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ أَيْضًا، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ الْمَذْكُورَةِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبُو يَعْلَى، عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ، كِلَاهُمَا عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، وَعَنْ أَيُّوبَ، عَنْ حَفْصَةَ، عَنِ امْرَأَةٍ تُحَدِّثُ عَنِ امْرَأَةٍ أُخْرَى، وَزَادَ أَبُو الرَّبِيعِ فِي رِوَايَةِ حَفْصَةَ ذِكْرَ الْجِلْبَابِ، وَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ سِيَاقَ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ مُغَايِرٌ لِسِيَاقِ حَفْصَةَ إِسْنَادًا أَوْ مَتْنًا، وَلَمْ يُصِبْ مَنْ حَمَلَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْجِلْبَابِ وَعَلَى بَقِيَّةِ فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
16 - بَاب خُرُوجِ الصِّبْيَانِ إِلَى الْمُصَلَّى
975 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى، فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ، ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ خُرُوجِ الصِّبْيَانِ إِلَى الْمُصَلَّى) أَيْ فِي الْأَعْيَادِ، وَإِنْ لَمْ يُصَلُّوا. قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: آثَرَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّرْجَمَةِ قَوْلَهُ: إِلَى الْمُصَلَّى عَلَى قَوْلِهِ صَلَاةِ الْعِيدِ لِيَعُمَّ مَنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ الصَّلَاةُ وَمَنْ لَا يَتَأَتَّى.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) بِمُوَحَّدَةٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ، وَصَرَّحَ يَحْيَى الْقَطَّانُ، عَنِ الثَّوْرِيِّ بِأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ الْمَذْكُورَ حَدَّثَهُ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ.
قَوْلُهُ: (خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى) لَيْسَ فِي هَذَا السِّيَاقِ بَيَانُ كَوْنِهِ كَانَ صَبِيًّا حِينَئِذٍ لِيُطَابِقَ التَّرْجَمَةَ، لَكِنْ جَرَى الْمُصَنِّفُ عَلَى عَادَتِهِ فِي الْإِشَارَةِ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ الَّذِي يُورِدُهُ، فَسَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ بِلَفْظِ: وَلَوْلَا مَكَانِي مِنَ الصِّغَرِ مَا شَهِدْتُهُ، وَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: يَوْمَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ بَابَيْنِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْجَزْمُ بِأَنَّهُ يَوْمُ الْفِطْرِ.
17 - بَاب اسْتِقْبَالِ الْإِمَامِ النَّاسَ فِي خُطْبَةِ الْعِيدِ
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُقَابِلَ النَّاسِ
976 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أَضْحًى إِلَى الْبَقِيعِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ وَقَالَ: إِنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نَبْدَأَ بِالصَّلَاةِ، ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ وَافَقَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ عَجَّلَهُ لِأَهْلِهِ لَيْسَ مِنْ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي ذَبَحْتُ وَعِنْدِي جَذَعَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُسِنَّةٍ؟ قَالَ: اذْبَحْهَا، وَلَا تَفِي عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ اسْتِقْبَالِ الْإِمَامِ النَّاسَ فِي خُطْبَةِ الْعِيدِ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ مَا حَاصِلُهُ: إِنَّ إِعَادَةَ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ بَعْدَ أَنْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهَا فِي الْجُمُعَةِ لِرَفْعِ احْتِمَالِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الْعِيدَ يُخَالِفُ الْجُمُعَةَ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ اسْتِقْبَالَ الْإِمَامِ فِي الْجُمُعَةِ يَكُونُ ضَرُورِيًّا لِكَوْنِهِ يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ، بِخِلَافِ الْعِيدِ فَإِنَّهُ يَخْطُبُ فِيهِ عَلَى رِجْلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ خُطْبَةِ الْعِيدِ، فَأَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الِاسْتِقْبَالَ سُنَّةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُقَابِلَ النَّاسِ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ الْخُرُوجِ إِلَى الْمُصَلَّى وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَ عَشَرَةِ أَبْوَابٍ بِلَفْظِ: ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَيَقُومُ مُقَابِلَ النَّاسِ. وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: قَامَ فَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ. الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ: (فَإِنَّهُ شَيْءٌ عَجَّلَهُ لِأَهْلِهِ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي فَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ وَقَوْلُهُ فِيهِ: وَلَا تَفِي عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ. كَذَا لِلْمُسْتَمْلِي، وَالْحَمَوِيِّ بِفَاءٍ، ولِلكُشْمِيهَنِيِّ وَالْبَاقِينَ، وَلَا تُغْنِي بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالنُّونِ وَضَمِّ أَوَّلِهِ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْأَضَاحِيِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمَوْضِعُ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ قَوْلُهُ: ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ.
18 - بَاب الْعَلَمِ الَّذِي بِالْمُصَلَّى
977 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عن، سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَابِسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قِيلَ لَهُ: أَشَهِدْتَ الْعِيدَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَوْلَا مَكَانِي مِنْ الصِّغَرِ مَا شَهِدْتُهُ حَتَّى أَتَى الْعَلَمَ الَّذِي عِنْدَ دَارِ كَثِيرِ بْنِ الصَّلْتِ فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ، ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ وَمَعَهُ بِلَالٌ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، فَرَأَيْتُهُنَّ يَهْوِينَ بِأَيْدِيهِنَّ يَقْذِفْنَهُ فِي ثَوْبِ بِلَالٍ، ثُمَّ انْطَلَقَ هُوَ وَبِلَالٌ إِلَى بَيْتِهِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْعَلَمِ الَّذِي بِالْمُصَلَّى) تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْخُرُوجِ إِلَى الْمُصَلَّى بِغَيْرِ مِنْبَرٍ التَّعْرِيفُ بِمَكَانِ الْمُصَلَّى، وَأَنَّ تَعْرِيفَهُ بِكَوْنِهِ عِنْدَ دَارِ كَثِيرِ بْنِ الصَّلْتِ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيبِ لِلسَّامِعِ، وَإِلَّا فَدَارُ كَثِيرِ بْنِ الصَّلْتِ مُحْدَثَةٌ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَظَهَرَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ جَعَلُوا لِمُصَلَّاهُ شَيْئًا يُعْرَفُ بِهِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْعِلْمِ، وَهُوَ بِفَتْحَتَيْنِ: الشَّيْءُ الشَّاخِصُ.
قَوْلُهُ: (وَلَوْلَا مَكَانِي مِنَ الصِّغَرِ مَا شَهِدْتُهُ) أَيْ حَضَرْتُهُ، وَهَذَا مُفَسِّرٌ لِلْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ فِي بَابِ وُضُوءِ الصِّبْيَانِ: وَلَوْلَا مَكَانِي مِنْهُ مَا شَهِدْتُهُ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: مِنْهُ يَعُودُ عَلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ وَهُوَ الصِّغَرُ، وَمَشَى بَعْضُهُمْ
عَلَى ظَاهِرِ ذَلِكَ السِّيَاقِ فَقَالَ: إِنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمَعْنَى: وَلَوْلَا مَنْزِلَتِي مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا شَهِدْتُ مَعَهُ الْعِيدَ، وَهُوَ مُتَّجَهٌ لَكِنْ هَذَا السِّيَاقُ يُخَالِفُهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الصِّغَرَ فِي مِثْلِ هَذَا يَكُونُ مَانِعًا لَا مُقْتَضِيًا، فَلَعَلَّ فِيهِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: مِنَ الصِّغَرِ مُتَعَلِّقًا بِمَا بَعْدَهُ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى لَوْلَا مَنْزِلَتِي مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا حَضَرْتُ لِأَجْلِ صِغَرِي، وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَرَادَ: بِشُهُودِ مَا وَقَعَ مِنْ وَعْظِهِ لِلنِّسَاءِ، لِأَنَّ الصِّغَرَ يَقْتَضِي أَنْ يُغْتَفَرَ لَهُ الْحُضُورُ مَعَهُنَّ بِخِلَافِ الْكِبَرِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: خُرُوجُ الصِّبْيَانِ لِلْمُصَلَّى إِنَّمَا هُوَ إِذَا كَانَ الصَّبِيُّ مِمَّنْ يَضْبِطُ نَفْسَهُ عَنِ اللَّعِبِ وَيَعْقِلُ الصَّلَاةَ وَيَتَحَفَّظُ مِمَّا يُفْسِدُهَا، أَلَا تَرَى إِلَى ضَبْطِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْقِصَّةَ اهـ. وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ مَشْرُوعِيَّةَ إِخْرَاجِ الصِّبْيَانِ إِلَى الْمُصَلَّى إِنَّمَا هُوَ لِلتَّبَرُّكِ وَإِظْهَارِ شِعَارِ الْإِسْلَامِ بِكَثْرَةِ مَنْ يَحْضُرُ مِنْهُمْ، وَلِذَلِكَ شُرِعَ لِلْحُيَّضِ كَمَا سَيَأْتِي، فَهُوَ شَامِلٌ لِمَنْ تَقَعُ مِنْهُمُ الصَّلَاةُ أَوْ لَا.
وَعَلَى هَذَا إِنَّمَا يُحْتَاجُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الصِّبْيَانِ مَنْ يَضْبِطُهُمْ عَمَّا ذُكِرَ مِنَ اللَّعِبِ وَنَحْوِهِ سَوَاءٌ صَلَّوْا أَمْ لَا. وَأَمَّا ضَبْطُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْقِصَّةَ فَلَعَلَّهُ كَانَ لِفَرْطِ ذَكَائِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى أَتَى الْعَلَمَ) كَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ ذِكْرُ الْغَايَةِ بِغَيْرِ ابْتِدَاءٍ، وَالْمَعْنَى خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ شَهِدْتُ الْخُرُوجَ مَعَهُ حَتَّى أَتَى، وَكَأَنَّهُ حُذِفَ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ) يُشْعِرُ بِأَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ عَلَى حِدَةٍ مِنَ الرِّجَالِ غَيْرَ مُخْتَلِطَاتٍ بِهِمْ.
قَوْلُهُ: (وَمَعَهُ بِلَالٌ) فِيهِ أَنَّ الْأَدَبَ فِي مُخَاطَبَةِ النِّسَاءِ فِي الْمَوْعِظَةِ أَوِ الْحِكَمِ أَنْ لَا يَحْضُرَ مِنَ الرِّجَالِ إِلَّا مَنْ تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ مِنْ شَاهِدٍ وَنَحْوِهِ، لِأَنَّ بِلَالًا كَانَ خَادِمَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمُتَوَلِّيَ قَبْضِ الصَّدَقَةِ، وَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ اغْتُفِرَ لَهُ بِسَبَبِ صِغَرِهِ.
قَوْلُهُ: (يُهْوِينَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ يُلْقِينَ، وَقَوْلُهُ:(يَقْذِفْنَهُ) أَيْ يُلْقِينَ الَّذِي يُهْوِينَ بِهِ، وَقَدْ فَسَّرَهُ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَسِيَاقُهُ أَتَمُّ.
(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَلِيٍّ الْكَشَانِيِّ عَقِبَ هَذَا الْحَدِيثِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ: الْعَلَمُ. انْتَهَى. وَقَدْ وَصَلَ الْمُؤَلِّفُ طَرِيقَ ابْنِ كَثِيرٍ هَذَا فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ. فَذَكَرَهُ. وَلَمَّا أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ طَرِيقَ ابْنِ كَثِيرٍ هَذَا فِي الْعِيدَيْنِ قَالَ: أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فَقَالَ: وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَلَمْ يَسْتَحْضِرِ الطَّرِيقَ الَّتِي فِي الِاعْتِصَامِ.
19 - بَاب مَوْعِظَةِ الْإِمَامِ النِّسَاءَ يَوْمَ الْعِيدِ
978 -
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَصْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفِطْرِ فَصَلَّى، فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ ثُمَّ خَطَبَ، فَلَمَّا فَرَغَ نَزَلَ فَأَتَى النِّسَاءَ فَذَكَّرَهُنَّ وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى يَدِ بِلَالٍ، وَبِلَالٌ بَاسِطٌ ثَوْبَهُ يُلْقِي فِيهِ النِّسَاءُ الصَّدَقَةَ. قُلْتُ لِعَطَاءٍ: زَكَاةَ يَوْمِ الْفِطْرِ؟ قَالَ: لَا وَلَكِنْ صَدَقَةً يَتَصَدَّقْنَ حِينَئِذٍ: تُلْقِي فَتَخَهَا وَيُلْقِينَ. قُلْتُ: أَتُرَى حَقًّا عَلَى الْإِمَامِ ذَلِكَ وَيُذَكِّرُهُنَّ؟ قَالَ: إِنَّهُ لَحَقٌّ عَلَيْهِمْ، وَمَا لَهُمْ لَا يَفْعَلُونَهُ؟
979 -
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَأَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: شَهِدْتُ الْفِطْرَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ رضي الله عنهم يُصَلُّونَهَا قَبْلَ الْخُطْبَةِ، ثُمَّ يُخْطَبُ بَعْدُ. خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ حِينَ يُجَلِّسُ بِيَدِهِ. ثُمَّ أَقْبَلَ يَشُقُّهُمْ حَتَّى جَاءَ النِّسَاءَ مَعَهُ بِلَالٌ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا
جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ حِينَ فَرَغَ مِنْهَا: آنْتُنَّ عَلَى ذَلِكِ؟ قَالَتْ: امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ - لَمْ يُجِبْهُ غَيْرُهَا - نَعَمْ. لَا يَدْرِي حَسَنٌ مَنْ هِيَ. قَالَ: فَتَصَدَّقْنَ، فَبَسَطَ بِلَالٌ ثَوْبَهُ ثُمَّ قَالَ: هَلُمَّ لَكُنَّ فِدَاءٌ أَبِي وَأُمِّي، فَيُلْقِينَ الْفَتَخَ وَالْخَوَاتِيمَ فِي ثَوْبِ بِلَالٍ، قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: الْفَتَخُ: الْخَوَاتِيمُ الْعِظَامُ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَوْعِظَةِ الْإِمَامِ النِّسَاءَ يَوْمَ الْعِيدِ) أَيْ إِذَا لَمْ يَسْمَعْنَ الْخُطْبَةَ مَعَ الرِّجَالِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَصْرٍ) نُسِبَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ إِلَى جَدِّهِ، فَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ خَطَبَ، فَلَمَّا فَرَغَ نَزَلَ) فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْطُبُ عَلَى مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ لِمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ: نَزَلَ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْخُرُوجِ إِلَى الْمُصَلَّى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْطُبُ فِي الْمُصَلَّى عَلَى الْأَرْضِ، فَلَعَلَّ الرَّاوِيَ ضَمَّنَ النُّزُولَ مَعْنَى الِانْتِقَالِ. وَزَعَمَ عِيَاضٌ أَنَّ وَعْظَهُ لِلنِّسَاءِ كَانَ فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَأَنَّهُ خَاصٌّ بِهِ صلى الله عليه وسلم، وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ بِهَذِهِ الْمُصَرِّحَةِ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ الْخُطْبَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَلَمَّا فَرَغَ نَزَلَ فَأَتَى النِّسَاءَ وَالْخَصَائِصُ لَا تَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ.
قَوْلُهُ: (قُلْتُ لِعَطَاءٍ) الْقَائِلُ هُوَ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَهُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي بَابِ الْمَشْيِ بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ. وَدَلَّ هَذَا السُّؤَالُ عَلَى أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: الصَّدَقَةَ أَنَّهَا صَدَقَةُ الْفِطْرِ بِقَرِينَةِ كَوْنِهَا يَوْمَ الْفِطْرِ وَأُخِذَ مِنْ قَوْلِهِ: وَبِلَالٌ بَاسِطٌ ثَوْبَهُ؛ لِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّ الَّذِي يُلْقِي فِيهِ شيْءٍ يَحْتَاجُ إِلَى ضَمٍّ، فَهُوَ لَائِقٌ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ الْمُقَدَّرَةِ بِالْكَيْلِ، لَكِنْ بَيَّنَ لَهُ عَطَاءٌ أَنَّهَا كَانَتْ صَدَقَةَ تَطَوُّعٍ، وَأَنَّهَا كَانَتْ مِمَّا لَا يُجْزِئُ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ مِنْ خَاتَمٍ وَنَحْوِهِ.
قَوْلُهُ: (تُلْقِي) أَيِ الْمَرْأَةُ، وَالْمُرَادُ جِنْسُ النِّسَاءِ، وَلِذَلِكَ عُطِفَ عَلَيْهِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، فَقَالَ: وَيُلْقِينَ أَوِ الْمَعْنَى تُلْقِي الْوَاحِدَةُ، وَكَذَلِكَ الْبَاقِيَاتُ يُلْقِينَ.
قَوْلُهُ: (فَتَخَهَا) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقٍ وَبِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْمُسْتَمْلِي، وَالْحَمَوِيِّ فَتَخَتْهَا بِالتَّأْنِيثِ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهُ قَرِيبًا، وَحُذِفَ مَفْعُولُ يُلْقِينَ اكْتِفَاءً، وَكُرِّرَ الْفِعْلُ الْمَذْكُورُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ إِشَارَةً إِلَى التَّنْوِيعِ، وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: فَيُلْقِينَ الْفَتَخَ وَالْخَوَاتِمَ.
قَوْلُهُ: (قُلْتُ) الْقَائِلُ أَيْضًا ابْنُ جُرَيْجٍ، وَالْمَسْئُولُ عَطَاءٌ. وَقَوْلُهُ: أَنَّهُ لِحَقٍّ عَلَيْهِمْ ظَاهِرُهُ أَنَّ عَطَاءً كَانَ يَرَى وُجُوبَ ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ عِيَاضٌ: لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ غَيْرُهُ. وَأَمَّا النَّوَوِيُّ فَحَمَلَهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ. وَقَالَ: لَا مَانِعَ مِنَ الْقَوْلِ بِهِ، إِذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى ذَلِكَ مَفْسَدَةٌ.
قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَأَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ وَقَدْ أَفْرَدَ مُسْلِمٌ الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَسَاقَ الثَّانِيَ قَبْلَ الْأَوَّلِ، فَقَدَّمَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى حَدِيثِ جَابِرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ مُخْتَصَرًا فِي بَابِ الْخُطْبَةِ.
قَوْلُهُ: (خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَذَا فِيهِ بِغَيْرِ أَدَاةِ عَطْفٍ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ تَفْسِيرِ الْمُمْتَحِنَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِلَفْظِ: فَنَزَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَذَا لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ هَذِهِ، وَقَوْلُهُ: ثُمَّ يُخْطَبُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ.
قَوْلُهُ: (حِينَ يُجَلِّسُ) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ الْمَكْسُورَةِ، وَحَذْفِ مَفْعُولِهِ، وَهُوَ ثَابِتٌ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ: يُجَلِّسُ الرِّجَالَ بِيَدِهِ، وَكَأَنَّهُمْ لَمَّا انْتَقَلَ عَنْ مَكَانِ خُطْبَتِهِ أَرَادُوا الِانْصِرَافَ فَأَمَرَهُمْ بِالْجُلُوسِ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ حَاجَتِهِ ثُمَّ يَنْصَرِفُوا جَمِيعًا، أَوْ لَعَلَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَتْبَعُوهُ فَمَنَعَهُمْ فَيَقْوَى الْبَحْثُ الْمَاضِي فِي آخِرِ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَتِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ لَمْ يُجِبْهُ غَيْرُهَا: نَعَمْ). زَادَ مُسْلِمٌ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَفِيهِ: دَلَالَةٌ عَلَى الِاكْتِفَاءِ فِي الْجَوَابِ بِنَعَمْ، وَتَنْزِيلِهَا مَنْزِلَةَ الْإِقْرَارِ، وَأَنَّ جَوَابَ الْوَاحِدِ عَنِ الْجَمَاعَةِ كَافٍ إِذَا لَمْ يُنْكِرُوا وَلَمْ يَمْنَعْ مَانِعٌ مِنْ إِنْكَارِهِمْ.
قَوْلُهُ: (لَا يَدْرِي حَسَنٌ مَنْ هِيَ) حَسَنٌ هُوَ الرَّاوِي لَهُ عَنْ طَاوُسٍ،
وَوَقَعَ فِي مُسْلِمٍ وَحْدَهُ: لَا يَدْرِي حِينَئِذٍ، وَجَزَمَ جَمْعٌ مِنَ الْحُفَّاظِ بِأَنَّهُ تَصْحِيفٌ، وَوَجَّهَهُ النَّوَوِيُّ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ لَكِنَّ اتِّحَادَ الْمَخْرَجِ دَالٌّ عَلَى تَرْجِيحِ رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ وَلَا سِيَّمَا وُجُودُ هَذَا الْمَوْضِعِ فِي مُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ الَّذِي أَخْرَجْنَاهُ
(1)
مِنْ طَرِيقِهِ فِي الْبُخَارِيِّ مُوَافِقًا لِرِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّ فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ تَعْيِينَ الَّذِي لَمْ يَدْرِ مَنِ الْمَرْأَةُ، بِخِلَافِ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَةِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ، إِلَّا أَنَّهُ يَخْتَلِجُ فِي خَاطِرِي أَنَّهَا أَسْمَاءُ بِنْتُ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ الَّتِي تُعْرَفُ بِخَطِيبَةِ النِّسَاءِ، فَإِنَّهَا رَوَتْ أَصْلَ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إِلَى النِّسَاءِ وَأَنَا مَعَهُنَّ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ إِنَّكُنَّ أَكْثَرَ حَطَبِ جَهَنَّمَ. فَنَادَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكُنْتُ عَلَيْهِ جَرِيئَةً: لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لِأَنَّكُنَّ تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ. الْحَدِيثَ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الَّتِي أَجَابَتْهُ أَوَّلًا بِنَعَمْ، فَإِنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ، فَلَعَلَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ ذَكَرَ مَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْآخَرُ كَمَا فِي نَظَائِرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ - وَهِيَ أَسْمَاءُ الْمَذْكُورَةُ - أَنَّهَا كَانَتْ فِي النِّسْوَةِ اللَّاتِي أَخَذَ عَلَيْهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا أَخَذَ الْحَدِيثَ، وَلِابْنِ سَعْدٍ مِنْ حَدِيثِهَا: أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا نَسْرِقَ. . . الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: فَتَصَدَّقْنَ) هُوَ فِعْلُ أَمْرٍ لَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ وَالْفَاءُ سَبَبِيَّةٌ أَوْ دَاخِلَةٌ عَلَى جَوَابِ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: إِنْ كُنْتُنَّ عَلَى ذَلِكَ فَتَصَدَّقْنَ، وَمُنَاسَبَتُهُ لِلْآيَةِ مِنْ قَوْلِهِ:{وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعْرُوفِ الَّذِي أُمِرْنَ بِهِ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَالَ: هَلُمَّ) الْقَائِلُ هُوَ بِلَالٌ، وَهُوَ عَلَى اللُّغَةِ الْفُصْحَى فِي التَّعْبِيرِ بِهَا لِلْمُفْرَدِ وَالْجَمْعِ.
قَوْلُهُ: (لَكُنَّ) بِضَمِّ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ، وَقَوْلُهُ: فِدَا بِكَسْرِ الْفَاءِ وَالْقَصْرِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: الْفَتَخُ الْخَوَاتِيمُ الْعِظَامُ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ) لَمْ يَذْكُرْ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي أَيِّ شَيْءٍ كَانَتْ تُلْبَسُ، وَقَدْ ذَكَرَ ثَعْلَبٌ أَنَّهُنَّ كن يَلْبَسْنَهَا فِي أَصَابِعِ الْأَرْجُلِ، اهـ. وَلِهَذَا عَطَفَ عَلَيْهَا الْخَوَاتِيمَ؛ لِأَنَّهَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ تَنْصَرِفُ إِلَى مَا يُلْبَسُ فِي الْأَيْدِي، وَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ هُنَا ذِكْرُ الْخَلَاخِيلِ، وَحُكِيَ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ أَنَّ الْفَتَخَ الْخَوَاتِيمُ الَّتِي لَا فُصُوصَ لَهَا، فَعَلَى هَذَا هُوَ مِنْ عَطْفِ الْأَعَمِّ عَلَى الْأَخَصِّ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ أَيْضًا اسْتِحْبَابُ وَعْظِ النِّسَاءِ وَتَعْلِيمِهِنَّ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ وَتَذْكِيرِهِنَّ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِنَّ، وَيُسْتَحَبُّ حَثُّهُنَّ عَلَى الصَّدَقَةِ وَتَخْصِيصُهُنَّ بِذَلِكَ فِي مَجْلِسٍ مُنْفَرِدٍ، وَمَحَلُّ ذَلِكَ كُلِّهِ إِذَا أُمِنَ الْفِتْنَةُ وَالْمَفْسَدَةُ. وَفِيهِ خُرُوجُ النِّسَاءِ إِلَى الْمُصَلَّى كَمَا سَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ. وَفِيهِ جَوَازُ التَّفْدِيَةِ بِالْأَبِ وَالْأُمِّ، وَمُلَاطَفَةُ الْعَامِلِ عَلَى الصَّدَقَةِ بِمَنْ يَدْفَعُهَا إِلَيْهِ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ صَدَقَةِ الْمَرْأَةِ مِنْ مَالِهَا مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى إِذْنِ زَوْجِهَا أَوْ عَلَى مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ مِنْ مَالِهَا كَالثُّلُثِ خِلَافًا لِبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنَ الْقِصَّةِ تَرْكُ الِاسْتِفْصَالِ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَلَا يُقَالُ فِي هَذَا: إِنَّ أَزْوَاجَهُنَّ كَانُوا حُضُورًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُنْقَلْ وَلَوْ نُقِلَ فَلَيْسَ فِيهِ تَسْلِيمُ أَزْوَاجِهِنَّ لَهُنَّ ذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ ثَبَتَ لَهُ الْحَقُّ فَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ حَتَّى يُصَرَّحَ بِإِسْقَاطِهِ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ الْقَوْمَ صَرَّحُوا بِذَلِكَ اهـ.
وَأَمَّا كَوْنُهُ مِنَ الثُّلُثِ فَمَا دُونَهُ فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُنَّ لَا يَجُوزُ لَهُنَّ التَّصَرُّفُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لَمْ يَكُنْ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الزِّيَادَةِ، وَفِيهِ أَنَّ الصَّدَقَةَ مِنْ دَوَافِعِ الْعَذَابِ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ ثُمَّ عَلَّلَ بِأَنَّهُنَّ أَكْثَرُ أَهْلِ النَّارِ لِمَا يَقَعُ مِنْهُنَّ مِنْ كُفْرَانِ النِّعَمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ.
وَوَقَعَ نَحْوُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ، وَعِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ. وَفِيهِ بَذْلُ النَّصِيحَةِ وَالْإِغْلَاظُ بِهَا لِمَنِ احْتِيجَ فِي حَقِّهِ إِلَى ذَلِكَ، وَالْعِنَايَةُ بِذِكْرِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ لِتِلَاوَةِ آيَةِ
(1)
في المخطوطة" أخرجاه"
الْمُمْتَحِنَةِ لِكَوْنِهَا خَاصَّةً بِالنِّسَاءِ. وَفِيهِ جَوَازُ طَلَبِ الصَّدَقَةِ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ لِلْمُحْتَاجِينَ، وَلَوْ كَانَ الطَّالِبُ غَيْرَ مُحْتَاجٍ، وَأَخَذَ مِنْهُ الصُّوفِيَّةُ جَوَازَ مَا اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ مِنَ الطَّلَبِ، وَلَا يَخْفَى مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ مِنْ أَنَّ الْمَطْلُوبَ لَهُ أَيَكُونُ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى التَّكَسُّبِ مُطْلَقًا أَوْ لِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ. وَفِي مُبَادَرَةِ تِلْكَ النِّسْوَةِ إِلَى الصَّدَقَةِ بِمَا يَعِزُّ عَلَيْهِنَّ مِنْ حُلِيِّهِنَّ مَعَ ضِيقِ الْحَالِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ دَلَالَةٌ عَلَى رَفِيعِ مَقَامِهِنَّ فِي الدِّينِ وَحِرْصِهِنَّ عَلَى امْتِثَالِ أَمْرِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَرَضِيَ عَنْهُنَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ بَقِيَّةُ فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ.
20 - بَاب إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا جِلْبَابٌ فِي الْعِيدِ
980 -
حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، قَالَتْ: كُنَّا نَمْنَعُ جَوَارِيَنَا أَنْ يَخْرُجْنَ يَوْمَ الْعِيدِ، فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ فَنَزَلَتْ قَصْرَ بَنِي خَلَفٍ، فَأَتَيْتُهَا فَحَدَّثَتْ أَنَّ زَوْجَ أُخْتِهَا غَزَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثِنْتَيْ عَشْرَةَ غَزْوَةً، فَكَانَتْ أُخْتُهَا مَعَهُ فِي سِتِّ غَزَوَاتٍ، فَقَالَتْ: فَكُنَّا نَقُومُ عَلَى الْمَرْضَى وَنُدَاوِي الْكَلْمَى، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى إِحْدَانَا بَأْسٌ - إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا جِلْبَابٌ - أَنْ لَا تَخْرُجَ؟ فَقَالَ: لِتُلْبِسْهَا صَاحِبَتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا فَلْيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَتْ حَفْصَةُ: فَلَمَّا قَدِمَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ أَتَيْتُهَا فَسَأَلْتُهَا: أَسَمِعْتِ فِي كَذَا وَكَذَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ بِأَبِي - وَقَلَّمَا ذَكَرَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا قَالَتْ: بِأَبِي - قَالَ: لِيَخْرُجْ الْعَوَاتِقُ ذَوَاتُ الْخُدُورِ - أَوْ قَالَ: الْعَوَاتِقُ وَذَوَاتُ الْخُدُورِ، شَكَّ أَيُّوبُ - وَالْحُيَّضُ وَيَعْتَزِلُ الْحُيَّضُ الْمُصَلَّى، وَلْيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَتْ: فَقُلْتُ لَهَا: آلْحُيَّضُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، أَلَيْسَ الْحَائِضُ تَشْهَدُ عَرَفَاتٍ، وَتَشْهَدُ كَذَا وَتَشْهَدُ كَذَا؟
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا جِلْبَابٌ) بِكَسْرِ الْجِيمِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَمُوَحَّدَتَيْنِ، تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ فِي بَابِ شُهُودِ الْحَائِضِ الْعِيدَيْنِ. قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: لَمْ يَذْكُرْ جَوَابَ الشَّرْطِ فِي التَّرْجَمَةِ حَوَالَةً عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ، اهـ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ حَذَفَهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الِاحْتِمَالِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلْجِنْسِ، أَيْ تُعِيرُهَا مِنْ جِنْسِ ثِيَابِهَا، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ ابْنِ خُزَيْمَةَ: مِنْ جَلَابِيبِهَا، وَلِلتِّرْمِذِيِّ: فَلْتُعِرْهَا أُخْتُهَا مِنْ جَلَابِيبِهَا، وَالْمُرَادُ بِالْأُخْتِ الصَّاحِبَةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تُشْرِكُهَا مَعَهَا فِي ثَوْبِهَا، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ: تُلْبِسُهَا صَاحِبَتُهَا طَائِفَةً مِنْ ثَوْبِهَا، يَعْنِي إِذَا كَانَ وَاسِعًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ثَوْبِهَا جِنْسَ الثِّيَابِ فَيَرْجِعُ لِلْأَوَّلِ. وَيُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ اشْتِمَالِ الْمَرْأَتَيْنِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ عِنْدَ التَّسَتُّرِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ ذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، أَيْ يَخْرُجْنَ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَلَوِ اثْنَتَيْنِ فِي جِلْبَابٍ.
قَوْلُهُ: (قَالَتْ: نَعَمْ بِأَبَا) بِمُوَحَّدَتَيْنِ بَيْنَهُمَا هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ وَالثَّانِيَةُ خَفِيفَةٌ، وَفِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَأَبِي الْوَقْتِ: بِأَبِي بِكَسْرِ الثَّانِيَةِ عَلَى الْأَصْلِ، أَيْ أَفْدِيهِ بِأَبِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ بِلَفْظِ: بَيْبِي بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ يَاءً تَحْتَانِيَّةً، وَوَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ حَفْصَةَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَبِي وَأُمِّي.
قَوْلُهُ: (لِتَخْرُجَ الْعَوَاتِقُ ذَوَاتُ الْخُدُورِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ عَلَى أَنَّهُ صِفَتُهُ، ولِلكُشْمِيهَنِيِّ:(أَوْ قَالَ: الْعَوَاتِقُ وَذَوَاتُ الْخُدُورِ، شَكَّ أَيُّوبُ) يَعْنِي: هَلْ هُوَ بِوَاوِ الْعَطْفِ أَوْ لَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَحْوُهُ فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ.
قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ لَهَا) الْقَائِلَةُ الْمَرْأَةُ،
وَالْمَقُولُ لَهَا أُمُّ عَطِيَّةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْقَائِلَةُ حَفْصَةَ، وَالْمَقُولُ لَهَا الْمَرْأَةَ وَهِيَ أُخْتُ أُمِّ عَطِيَّةَ، وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
21 - بَاب اعْتِزَالِ الْحُيَّضِ الْمُصَلَّى
981 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: قَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ: أُمِرْنَا أَنْ نَخْرُجَ، فَنُخْرِجَ الْحُيَّضَ وَالْعَوَاتِقَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ - قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: أَوْ الْعَوَاتِقَ ذَوَاتِ الْخُدُورِ - فَأَمَّا الْحُيَّضُ فَيَشْهَدْنَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَدَعْوَتَهُمْ وَيَعْتَزِلْنَ مُصَلَّاهُمْ.
قَوْلُهُ: (بَابُ اعْتِزَالِ الْحُيَّضِ الْمُصَلَّى) مَضْمُونُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ بَعْضُ مَا تَضَمَّنَهُ الْحَدِيثُ الَّذِي فِي الْبَابِ الْمَاضِي، وَكَأَنَّهُ أَعَادَ هَذَا الْحُكْمَ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَضْمُومًا إِلَى الْبَابِ الْمَذْكُورِ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ.
قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ عَوْنٍ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ، وَمُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ سِيرِينَ، وَقَدْ شَكَّ ابْنُ عَوْنٍ فِي الْعَوَاتِقِ كَمَا شَكَّ أَيُّوبُ فِي الَّذِي قَبْلَهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ: تَخْرُجُ الْأَبْكَارُ وَالْعَوَاتِقُ وَذَوَاتُ الْخُدُورِ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ جَوَازُ مُدَاوَاةِ الْمَرْأَةِ لِلرِّجَالِ الْأَجَانِبِ إِذَا كَانَتْ بِإِحْضَارِ الدَّوَاءِ مَثَلًا وَالْمُعَالَجَةُ بِغَيْرِ مُبَاشَرَةٍ، إِلَّا إِنِ احْتِيجَ إِلَيْهَا عِنْدَ أَمْنِ الْفِتْنَةِ. وَفِيهِ أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْعَوَاتِقِ وَالْمُخَدَّرَاتِ عَدَمُ الْبُرُوزِ إِلَّا فِيمَا أُذِنَ لَهُنَّ فِيهِ. وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ إِعْدَادِ الْجِلْبَابِ لِلْمَرْأَةِ، وَمَشْرُوعِيَّةُ عَارِيَّةِ الثِّيَابِ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ صَلَاةِ الْعِيدِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ أُمِرَ بِذَلِكَ مَنْ لَيْسَ بِمُكَلَّفٍ، فَظَهَرَ أَنَّ الْقَصْدَ مِنْهُ إِظْهَارُ شِعَارِ الْإِسْلَامِ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الِاجْتِمَاعِ وَلِتَعُمَّ الْجَمِيعَ الْبَرَكَةُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ خُرُوجِ النِّسَاءِ إِلَى شُهُودِ الْعِيدَيْنِ، سَوَاءٌ كُنَّ شَوَابَّ أَمْ لَا، وَذَوَاتِ هَيْئَاتٍ أَمْ لَا، وَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ السَّلَفُ، وَنَقَلَ عِيَاضٌ وُجُوبَهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ، وَالَّذِي وَقَعَ لَنَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعَلِيٍّ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُ عَنْهُمَا، فَالْأَحَقُّ عَلَى كُلِّ ذَاتِ نِطَاقٍ الْخُرُوجُ إِلَى الْعِيدَيْنِ، وَقَدْ وَرَدَ هَذَا مَرْفُوعًا بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ بِهِ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ امْرَأَةٍ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ عَنْ أُخْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ بِهِ وَالْمَرْأَةُ لَمْ تُسَمَّ، وَالْأُخْتُ اسْمُهَا عَمْرَةُ صَحَابِيَّةٌ. وَقَوْلُهُ: حَقٌّ يَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ وَيَحْتَمِلُ تَأَكُّدَ الِاسْتِحْبَابِ، رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُخْرِجُ إِلَى الْعِيدَيْنِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْ أَهْلِهِ، وَهَذَا لَيْسَ صَرِيحًا فِي الْوُجُوبِ أَيْضًا، بَلْ قَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ الْمَنْعُ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى حَالَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى النَّدْبِ وَجَزَمَ بِذَلِكَ الْجُرْجَانِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَابْنُ حَامِدٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَلَكِنَّ نَصَّ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ يَقْتَضِي اسْتِثْنَاءَ ذَوَاتِ الْهَيْئَاتِ، قَالَ: وَأُحِبُّ شُهُودَ الْعَجَائِزِ وَغَيْرِ ذَوَاتِ الْهَيْئَةِ الصَّلَاةَ، وَإِنَّا لِشُهُودِهِنَّ الْأَعْيَادَ أَشَدُّ اسْتِحْبَابًا.
وَقَدْ سَقَطَتْ وَاوُ الْعَطْفِ مِنْ رِوَايَةِ الْمُزَنِيِّ فِي الْمُخْتَصَرِ، فَصَارَتْ غَيْرُ ذَوَاتِ الْهَيْئَةِ صِفَةً لِلْعَجَائِزِ، فَمَشَى عَلَى ذَلِكَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَمَنْ تَبِعَهُ وَفِيهِ مَا فِيهِ، بَلْ قَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ عَنِ الرَّبِيعِ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: قَدْ رُوِيَ حَدِيثٌ فِيهِ أَنَّ النِّسَاءَ يُتْرَكْنَ إِلَى الْعِيدَيْنِ، فَإِنْ كَانَ ثَابِتًا قُلْتُ بِهِ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: قَدْ ثَبَتَ وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ - يَعْنِي حَدِيثَ أُمِّ عَطِيَّةَ هَذَا - فَيَلْزَمُ الشَّافِعِيَّةَ الْقَوْلُ بِهِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ، عَنِ الْبَنْدَنِيجِيِّ وَقَالَ: إِنَّهُ ظَاهِرُ كَلَامِ التَّنْبِيهِ، وَقَدِ ادَّعَى بَعْضُهُمُ النَّسْخَ فِيهِ، قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَأَمْرُهُ عليه السلام بِخُرُوجِ الْحُيَّضِ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ إِلَى الْعِيدِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمُونَ قَلِيلٌ، فَأُرِيدَ التَّكْثِيرُ بِحُضُورِهِنَّ إِرْهَابًا لِلْعَدُوِّ، وَأَمَّا الْيَوْمُ فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ.
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: تَارِيخُ الْوَقْتِ لَا يُعْرَفُ. قُلْتُ: بَلْ هُوَ مَعْرُوفٌ بِدَلَالَةِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ شَهِدَهُ وَهُوَ صَغِيرٌ، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ فَلَمْ يَتِمَّ مُرَادُ الطَّحَاوِيِّ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي حَدِيثِ
أُمِّ عَطِيَّةَ بِعِلَّةِ الْحُكْمِ وَهُوَ شُهُودُهُنَّ الْخَيْرَ وَدَعْوَةُ الْمُسْلِمِينَ وَرَجَاءُ بَرَكَةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَطُهْرَتِهِ، وَقَدْ أَفْتَتْ بِهِ أُمُّ عَطِيَّةَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمُدَّةٍ كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مُخَالَفَتُهَا فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا قَوْلُ عَائِشَةَ: لَوْ رَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ الْمَسَاجِدَ فَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ لِنُدُورِهِ إِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ فِيهِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهَا أَفْتَتْ بِخِلَافِهِ، مَعَ أَنَّ الدَّلَالَةَ مِنْهُ بِأَنَّ عَائِشَةَ أَفْتَتْ بِالْمَنْعِ لَيْسَتْ صَرِيحَةً، وَفِي قَوْلِهِ: إِرْهَابًا لِلْعَدُوِّ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الِاسْتِنْصَارَ بِالنِّسَاءِ وَالتَّكَثُّرَ بِهِنَّ فِي الْحَرْبِ دَالٌّ عَلَى الضَّعْفِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُخَصَّ ذَلِكَ بِمَنْ يُؤْمَنُ عَلَيْهَا وَبِهَا الْفِتْنَةُ وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَى حُضُورِهَا مَحْذُورٌ وَلَا تُزَاحِمُ الرِّجَالَ فِي الطُّرُقِ وَلَا فِي الْمَجَامِعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ بَقِيَّةُ فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الْبَابِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ مِنْ كِتَابِ الْحَيْضِ.
22 - بَاب النَّحْرِ وَالذَّبْحِ يَوْمَ النَّحْرِ بِالْمُصَلَّى
982 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، قَالَ: حَدَّثَنِي كَثِيرُ بْنُ فَرْقَدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَنْحَرُ أَوْ يَذْبَحُ بِالْمُصَلَّى.
[الحديث 982 - أطرافه في: 5552. 5551. 1711. 1710]
قَوْلُهُ: (بَابُ النَّحْرِ وَالذَّبْحِ بِالْمُصَلَّى يَوْمَ النَّحْرِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: عَطْفُ الذَّبْحِ عَلَى النَّحْرِ فِي التَّرْجَمَةِ وَإِنْ كَانَ حَدِيثُ الْبَابِ وَرَدَ بِأَوِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّرَدُّدِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَجْمَعَ يَوْمَ النَّحْرِ بَيْنَ نُسُكَيْنِ أَحَدُهُمَا مِمَّا يُنْحَرُ وَالْآخَرُ مِمَّا يُذْبَحُ، وَلِيُفْهَمَ اشْتِرَاكُهُمَا فِي الْحُكْمِ، انْتَهَى.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ بِوَاوِ الْجَمْعِ كَمَا سَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْأَضَاحِيِّ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ هُنَاكَ عَلَى فَوَائِدِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
23 - بَاب كَلَامِ الْإِمَامِ وَالنَّاسِ فِي خُطْبَةِ الْعِيدِ وَإِذَا سُئِلَ الْإِمَامُ عَنْ شَيْءٍ وَهُوَ يَخْطُبُ
983 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَقَالَ: مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا، وَنَسَكَ نُسْكَنَا، فَقَدْ أَصَابَ النُّسُكَ، وَمَنْ نَسَكَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَتِلْكَ شَاةُ لَحْمٍ، فَقَامَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَقَدْ نَسَكْتُ قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ إِلَى الصَّلَاةِ، وَعَرَفْتُ أَنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، فَتَعَجَّلْتُ وَأَكَلْتُ وَأَطْعَمْتُ أَهْلِي وَجِيرَانِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: تِلْكَ شَاةُ لَحْمٍ. قَالَ: فَإِنَّ عِنْدِي عَنَاقَ جَذَعَةٍ هِيَ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ، فَهَلْ تَجْزِي عَنِّي؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ كَلَامِ الْإِمَامِ وَالنَّاسِ فِي خُطْبَةِ الْعِيدِ، وَإِذَا سُئِلَ الْإِمَامُ عَنْ شَيْءٍ وَهُوَ يَخْطُبُ) فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ حُكْمَانِ، وَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ فِيهَا تَكْرَارًا وَلَيْسَ كذَلِكَ، بَلِ الْأَوَّلُ الْأَعَمُّ مِنَ الثَّانِي، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُصَنِّفُ الْجَوَابَ اسْتِغْنَاءً بِمَا فِي الْحَدِيثِ، وَوَجْهُهُ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ أَنَّ الْمُرَاجَعَةَ الصَّادِرَةَ بَيْنَ أَبِي بُرْدَةَ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دَالَّةٌ عَلَى الْحُكْمِ الْأَوَّلِ، وَسُؤَالُ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ حُكْمِ الْعِنَاقِ دَالٌّ عَلَى الْحُكْمِ الثَّانِي.
984 -
حَدَّثَنَا حَامِدُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ خَطَبَ فَأَمَرَ مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ أَنْ يُعِيدَ ذَبْحَهُ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جِيرَانٌ لِي - إِمَّا قَالَ: بِهِمْ خَصَاصَةٌ، وَإِمَّا قَالَ: بِهِمْ فَقْرٌ - وَإِنِّي ذَبَحْتُ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَعِنْدِي عَنَاقٌ لِي
أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ، فَرَخَّصَ لَهُ فِيهَا.
985 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْأَسْوَدِ، عَنْ جُنْدَبٍ، قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ ثُمَّ خَطَبَ ثُمَّ ذَبَحَ، وقَالَ مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيَذْبَحْ أُخْرَى مَكَانَهَا، وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ.
[الحديث 985 - أطرافه في: 7400. 6674. 5562. 5500]
قَوْلُهُ: (عَنِ الْأَسْوَدِ) هُوَ ابْنُ قَيْسٍ لَا ابْنُ يَزِيدَ، لِأَنَّ شُعْبَةَ لَمْ يَلْحَقِ ابْنَ يَزِيدَ، وَجُنْدَبٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ: مَنْ ذَبَحَ) هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْخُطْبَةِ وَلَيْسَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ ذَبَحَ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَخَلُّلُ الذَّبْحِ بَيْنَ الْخُطْبَةِ وَهَذَا الْقَوْلُ، وَلَيْسَ الْوَاقِعُ ذَلِكَ عَلَى مَا بَيَّنَهُ حَدِيثُ الْبَرَاءِ الَّذِي قَبْلَهُ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا فِي كِتَابِ الْأَضَاحِيِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
24 - بَاب مَنْ خَالَفَ الطَّرِيقَ إِذَا رَجَعَ يَوْمَ الْعِيدِ
986 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو تُمَيْلَةَ يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، عَنْ فُلَيْحِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ جَابِرِ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَانَ يَوْمُ عِيدٍ خَالَفَ الطَّرِيقَ. تَابَعَهُ يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ فُلَيْحٍ. وَحَدِيثُ جَابِرٍ أَصَحُّ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ خَالَفَ الطَّرِيقَ) أَيِ الَّتِي تَوَجَّهَ مِنْهَا إِلَى الْمُصَلَّى.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ غَيْرُ مَنْسُوبٍ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ السَّكَنِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، وَكَذَا لِلْحَفْصِيِّ وَجَزَمَ بِهِ الْكَلَابَاذِيُّ وَغَيْرُهُ، وَفِي نُسْخَةٍ مِنْ أَطْرَافِ خَلَفٍ أَنَّهُ وَجَدَ فِي حَاشِيَةٍ أَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ. انْتَهَى.
وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ شَبُّوَيْهِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ أَبِي تُمَيْلَةَ أَيْضًا - مِمَّنِ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ - مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ لَكِنَّهُ خَالَفَ فِي اسْمِ صَحِابَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي، وَلَيْسَ هُوَ مِمَّنْ خَرَّجَ عَنْهُمْ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، وَأَبُو تُمَيْلَةَ بِالْمُثَنَّاةِ مُصَغَّرًا مَرْوَزِيٌّ، قِيلَ: إِنَّ الْبُخَارِيَّ ذَكَرَهُ فِي الضُّعَفَاءِ، لَكِنْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي التَّصْنِيفِ الْمَذْكُورِ، قَالَهُ الذَّهَبِيُّ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ كَمَا سَيَأْتِي. نَعَمْ تَفَرَّدَ بِهِ شَيْخُهُ فُلَيْحٌ وَهُوَ مُضَعَّفٌ عِنْدَ ابْنِ مَعِينٍ، وَالنَّسَائِيِّ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَوَثَّقَهُ آخَرُونَ فَحَدِيثُهُ مِنْ قَبِيلِ الْحَسَنِ، لَكِنْ لَهُ شَوَاهِدُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَسَعْدٍ الْقَرَظِ، وَأَبِي رَافِعٍ، وَعُثْمَانَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّيْمِيِّ وَغَيْرِهِمْ يُعَضِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَعَلَى هَذَا هُوَ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ قِسْمَيِ الصَّحِيحِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ) هُوَ ابْنُ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى الْأَنْصَارِيُّ.
قَوْلُهُ: (إِذَا كَانَ يَوْمُ عِيدٍ خَالَفَ الطَّرِيقَ) كَانَ تَامَّةٌ، أَيْ إِذَا وَقَعَ، وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ كَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَى الْعِيدِ رَجَعَ مِنْ غَيْرِ الطَّرِيقِ الَّذِي ذَهَبَ فِيهِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: أَخَذَ بِهَذَا بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فَاسْتَحَبَّهُ لِلْإِمَامِ، وَبِهِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ. انْتَهَى.
وَالَّذِي فِي الْأُمِّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: لَمْ يَتَعَرَّضْ فِي الْوَجِيزِ إِلَّا لِلْإِمَامِ اهـ.
وَبِالتَّعْمِيمِ قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنْ عُلِمَ الْمَعْنَى وَبَقِيَتِ الْعِلَّةُ بَقِيَ الْحُكْمُ وَإِلَّا انْتَفَى بِانْتِفَائِهَا، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمِ الْمَعْنَى بَقِيَ الِاقْتِدَاءُ. وَقَالَ الْأَكْثَرُ: يَبْقَى الْحُكْمُ وَلَوِ انْتَفَتِ الْعِلَّةُ لِلِاقْتِدَاءِ كَمَا فِي الرَّمْلِيِّ وَغَيْرِهِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ اجْتَمَعَ لِي مِنْهَا أَكْثَرُ مِنْ عِشْرِينَ، وَقَدْ لَخَّصْتُهَا وَبَيَّنْتُ الْوَاهِيَ مِنْهَا، قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ الْمَالِكِيُّ: ذُكِرَ فِي ذَلِكَ فَوَائِدُ بَعْضُهَا قَرِيبٌ وَأَكْثَرُهَا دَعَاوَى فَارِغَةٌ. انْتَهَى.
فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِيَشْهَدَ لَهُ الطَّرِيقَانِ، وَقِيلَ: سُكَّانُهُمَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَقِيلَ: لِيُسَوَّى بَيْنِهِمَا فِي مَزِيَّةِ الْفَضْلِ بِمُرُورِهِ أَوْ فِي التَّبَرُّكِ بِهِ أَوْ لِيَشُمَّ رَائِحَةَ الْمِسْكِ مِنَ الطَّرِيقِ الَّتِي يَمُرُّ بِهَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَعْرُوفًا بِذَلِكَ، وَقِيلَ: لِأَنَّ طَرِيقَهُ لِلْمُصَلَّى كَانَتْ عَلَى الْيَمِينِ فَلَوْ رَجَعَ مِنْهَا لَرَجَعَ عَلَى جِهَةِ الشِّمَالِ، فَرَجَعَ مِنْ غَيْرِهَا وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، وَقِيلَ: لِإِظْهَارِ شِعَارِ الْإِسْلَامِ فِيهِمَا، وَقِيلَ: لِإِظْهَارِ ذِكْرِ اللَّهِ، وَقِيلَ: لِيَغِيظَ الْمُنَافِقِينَ أَوِ الْيَهُودَ، وَقِيلَ: لِيُرْهِبَهُمْ بِكَثْرَةِ مَنْ مَعَهُ وَرَجَّحَهُ ابْنُ بَطَّالٍ، وَقِيلَ: حَذَرًا مِنْ كَيْدِ الطَّائِفَتَيْنِ أَوْ إِحْدَاهُمَا، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُكَرِّرْهُ قَالَهُ ابْنُ التِّينِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ مُوَاظَبَتِهِ عَلَى مُخَالَفَةِ الطَّرِيقِ الْمُوَاظَبَةُ عَلَى طَرِيقٍ مِنْهَا مُعَيَّنٍ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ مِنْ طَرِيقِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبِ مُرْسَلًا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَغْدُو يَوْمَ الْعِيدِ إِلَى الْمُصَلَّى مِنَ الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ، وَيَرْجِعُ مِنَ الطَّرِيقِ الْأُخْرَى.
وَهَذَا لَوْ ثَبَتَ لَقَوَّى بَحْثَ ابْنِ التِّينِ، وَقِيلَ: فَعَلَ ذَلِكَ لِيَعُمَّهُمْ فِي السُّرُورِ بِهِ أَوِ التَّبَرُّكِ بِمُرُورِهِ وَبِرُؤْيَتِهِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ فِي الِاسْتِفْتَاءِ أَوِ التَّعَلُّمِ وَالِاقْتِدَاءِ وَالِاسْتِرْشَادِ أَوِ الصَّدَقَةِ أَوِ السَّلَامِ عَلَيْهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقِيلَ: لِيَزُورَ أَقَارِبَهُ الْأَحْيَاءَ وَالْأَمْوَاتَ، وَقِيلَ: لِيَصِلْ رَحِمَهُ، وَقِيلَ: لِيَتَفَاءَلَ بِتَغَيُّرِ الْحَالِ إِلَى الْمَغْفِرَةِ وَالرِّضَا، وَقِيلَ: كَانَ فِي ذَهَابِهِ يَتَصَدَّقُ فَإِذَا رَجَعَ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ شَيْءٌ فَيَرْجِعُ فِي طَرِيقٍ أُخْرَى لِئَلَّا يَرُدَّ مَنْ يَسْأَلهُ وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا مَعَ احْتِيَاجِهِ إِلَى الدَّلِيلِ، وَقِيلَ: فَعَلَ ذَلِكَ لِتَخْفِيفِ الزِّحَامِ وَهَذَا رَجَّحَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَأَيَّدَهُ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ بِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، فَقَالَ فِيهِ: لِيَسَعَ النَّاسَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ ضَعِيفٌ وَبِأَنَّ قَوْلَهُ: لِيَسَعَ النَّاسَ يَحْتَمِلُ أَنْ يُفَسَّرَ بِبَرَكَتِهِ وَفَضْلِهِ، وَهَذَا الَّذِي رَجَّحَهُ ابْنُ التِّينِ.
وَقِيلَ: كَانَ طَرِيقُهُ الَّتِي يَتَوَجَّهُ مِنْهَا أَبْعَدَ مِنَ الَّتِي فِيهَا، فَأَرَادَ تَكْثِيرَ الْأَجْرِ بِتَكْثِيرِ الخطا فِي الذَّهَابِ، وَأَمَّا فِي الرُّجُوعِ فَلْيُسْرِعْ إِلَى مَنْزِلِهِ وَهَذَا اخْتِيَارُ الرَّافِعِيِّ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ وَبِأَنَّ أَجْرَ الْخُطَا يُكْتَبُ فِي الرُّجُوعِ أَيْضًا كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ، فَلَوْ عُكِسَ مَا قَالَ لَكَانَ لَهُ اتِّجَاهٌ وَيَكُونُ سُلُوكُ الطَّرِيقِ الْقَرِيبِ لِلْمُبَادَرَةِ إِلَى فِعْلِ الطَّاعَةِ وَإِدْرَاكِ فَضِيلَةِ أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَقِفُ فِي الطُّرُقَاتِ فَأَرَادَ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ فَرِيقَانِ مِنْهُمْ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: هُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِ يَعْقُوبَ لِبَنِيهِ: {لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ} فَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ حَذَرَ إِصَابَةِ الْعَيْنِ، وَأَشَارَ صَاحِبُ الْهُدَى إِلَى أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِجَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُحْتَمَلَةِ الْقَرِيبَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ فُلَيْحٍ وَحَدِيثُ جَابِرٍ أَصَحُّ). كَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ رُوَاةِ الْبُخَارِيِّ من طَرِيقِ الْفَرَبْرِيِّ، وَهُوَ مُشْكِلٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَصَحُّ يُبَايِنُ قَوْلَهُ: تَابَعَهُ إِذْ لَوْ تَابَعَهُ لَسَاوَاهُ فَكَيْفَ تَتَّجِهُ الْأَصَحِّيَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى عَدَمِ الْمُسَاوَاةِ. وَذَكَرَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ أَنَّهُ سَقَطَ قَوْلُهُ: وَحَدِيثُ جَابِرٍ أَصَحُّ مِنْ رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَعْقِلٍ النَّسَفِيِّ، عَنِ الْبُخَارِيِّ، فَلَا إِشْكَالَ فِيهَا قَالَ: وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ السَّكَنِ: تَابَعَهُ يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ فُلَيْحٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفِي هَذَا تَوْجِيهُ قَوْلِهِ أَصَحُّ، وَيَبْقَى الْإِشْكَالُ فِي قَوْلِهِ تَابَعَهُ فَإِنَّهُ لَمْ يُتَابِعْهُ بَلْ خَالَفَهُ، وَقَدْ أَزَالَ هَذَا الْإِشْكَالَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ فَقَالَ: أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي تُمَيْلَةَ وَقَالَ: تَابَعَهُ يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ فُلَيْحٍ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الصَّلْتِ: عَنْ فُلَيْحٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ أَصَحُّ. وَبِهَذَا جَزَمَ أَبُو مَسْعُودٍ فِي الْأَطْرَافِ، وَكَذَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْبَرْقَانِيُّ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ:
إِنَّهُ وَقَعَ كَذَلِكَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَكَأَنَّهَا رِوَايَةُ حَمَّادِ بْنِ شَاكِرٍ، عَنِ الْبُخَارِيِّ. ثُمَّ رَاجَعْتْ رِوَايَةُ النَّسَفِيِّ فَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَهُ: وَحَدِيثُ جَابِرٍ أَصَحُّ فَسَلِمَ مِنَ الْإِشْكَالِ وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ التِّرْمِذِيِّ: رَوَاهُ أَبُو تُمَيْلَةَ، وَيُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ فُلَيْحٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ جَابِرٍ.
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ سَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ الْفَرَبْرِيِّ قَوْلُهُ: وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الصَّلْتِ، عَنْ فُلَيْحٍ فَقَطْ وَبَقِيَ مَا عَدَا ذَلِكَ، هَذَا عَلَى رِوَايَةِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ السَّكَنِ، وَقَدْ وَقَعَ كَذَلِكَ فِي نُسْخَتِي مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ عَنْ مَشَايِخِهِ، وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ الْبَاقِينَ فَيَكُونُ سَقَطَ إِسْنَادُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّلْتِ كُلُّهُ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الصَّدَفِيُّ فِي حَاشِيَةِ نُسْخَتِهِ الَّتِي بِخَطِّهِ مِنَ الْبُخَارِيِّ: لَا يَظْهَرُ مَعْنَاهُ مِنْ ظَاهِرِ الكِتَابٍ، وَإِنَّمَا هِيَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَبَا تُمَيْلَةَ وَيُونُسَ الْمُتَابِعَ لَهُ خُولِفَا فِي سَنَدِ الْحَدِيثِ وَرِوَايَتُهُمَا أَصَحُّ، وَمُخَالِفُهُمَا - وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الصَّلْتِ - رَوَاهُ عَنْ فُلَيْحٍ شَيْخِهِمَا فَخَالَفَهُمَا فِي صَاحِبَيْهِ فَقَالَ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قُلْتُ: فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَحَدِيثُ جَابِرٍ أَصَحُّ أَيْ مِنْ حَدِيثِ مَنْ قَالَ فِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدِ اعْتَرَضَ أَبُو مَسْعُودٍ فِي الْأَطْرَافِ عَلَى قَوْلِهِ: تَابَعَهُ يُونُسُ اعْتِرَاضًا آخَرَ فَقَالَ: إِنَّمَا رَوَاهُ يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ فُلَيْحٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا جَابِرٍ، وَأُجِيبَ بِمَنْعِ الْحَصْرِ فَإِنَّهُ ثَابِتٌ عَنْ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ، كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ: أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجَيْهِمَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ يُونُسَ، وَكَذَا هُوَ فِي مُسْنَدِهِ وَمُصَنَّفِهِ، نَعَمْ رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ - كَمَا قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ - وَكَأَنَّهُ اخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَكَذَا اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى أَبِي تُمَيْلَةَ فَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ، فَقَالَ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَمَّا رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّلْتِ الْمُشَارُ إِلَيْهَا فَوَصَلَهَا الدَّارِمِيُّ وَسِمَوَيْهِ كِلَاهُمَا عَنْهُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ السَّكَنِ، وَالْعُقَيْلِيُّ كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِهِ بِلَفْظِ: كَانَ إِذَا خَرَجَ يَوْمَ الْعِيدِ فِي طَرِيقٍ رَجَعَ فِي غَيْرِهِ، وَذَكَرَ أَبُو مَسْعُودٍ أَنَّ الْهَيْثَمَ بْنَ جَمِيلٍ رَوَاهُ عَنْ فُلَيْحٍ - كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلْتِ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَالَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِيهِ مِنْ فُلَيْحٍ فَلَعَلَّ شَيْخَهُ سَمِعَهُ مِنْ جَابِرٍ وَمِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَيُقَوِّي ذَلِكَ اخْتِلَافُ اللَّفْظَيْنِ، وَقَدْ رَجَّحَ الْبُخَارِيُّ أَنَّهُ عَنْ جَابِرٍ وَخَالَفَهُ أَبُو مَسْعُودٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فَرَجَّحَا أَنَّهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَمْ يَظْهَرْ لِي فِي ذَلِكَ تَرْجِيحٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
25 - بَاب إِذَا فَاتَهُ الْعِيدُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ
وَكَذَلِكَ النِّسَاءُ وَمَنْ كَانَ فِي الْبُيُوتِ وَالْقُرَى
لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: هَذَا عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَأَمَرَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ مَوْلَاهُمْ ابْنَ أَبِي عُتْبَةَ بِالزَّاوِيَةِ، فَجَمَعَ أَهْلَهُ وَبَنِيهِ وَصَلَّى كَصَلَاةِ أَهْلِ الْمِصْرِ وَتَكْبِيرِهِمْ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أَهْلُ السَّوَادِ يَجْتَمِعُونَ فِي الْعِيدِ يُصَلُّونَ رَكْعَتَيْنِ كَمَا يَصْنَعُ الْإِمَامُ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: إِذَا فَاتَهُ الْعِيدُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ
987 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ فِي أَيَّامِ مِنَى تُدَفِّفَانِ وَتَضْرِبَانِ - وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُتَغَشٍّ بِثَوْبِهِ - فَانْتَهَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ، فَكَشَفَ النَّبِيُّ عَنْ وَجْهِهِ، فَقَالَ: دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ، وَتِلْكَ الْأَيَّامُ أَيَّامُ مِنًى.
988 -
وَقَالَتْ عَائِشَةُ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتُرُنِي وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْحَبَشَةِ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ، فَزَجَرَهُمْ عُمَرُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: دَعْهُمْ أَمْنًا بَنِي أَرْفِدَةَ، يَعْنِي مِنْ الْأَمْنِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا فَاتَهُ الْعِيدُ) أَيْ مَعَ الْإِمَامِ (يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ). فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ حُكْمَانِ: مَشْرُوعِيَّةُ اسْتِدْرَاكِ صَلَاةِ
الْعِيدِ إِذَا فَاتَتْ مَعَ الْجَمَاعَةِ سَوَاءٌ كَانَ بِالِاضْطِرَارِ أَوْ بِالِاخْتِيَارِ، وَكَوْنِهَا تُقْضَى رَكْعَتَيْنِ كَأَصْلِهَا، وَخَالَفَ فِي الْأَوَّلِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْمُزَنِيُّ فَقَالَ: لَا تُقْضَى، وَفِي الثَّانِي الثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ قَالَا: إِنْ صَلَّاهَا وَحْدَهُ صَلَّى أَرْبَعًا، وَلَهُمَا فِي ذَلِكَ سَلَفٌ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ فَاتَهُ الْعِيدُ مَعَ الْإِمَامِ فَلْيُصَلِّ أَرْبَعًا. أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَقَالَ إِسْحَاقُ: إِنْ صَلَّاهَا فِي الْجَمَاعَةِ فَرَكْعَتَيْنِ وَإِلَّا فَأَرْبَعًا. قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: كَأَنَّهُمْ قَاسُوهَا عَلَى الْجُمُعَةِ، لَكِنَّ الْفَرْقَ ظَاهِرٌ لِأَنَّ مَنْ فَاتَتْهُ الْجُمُعَةُ يَعُودُ لِفَرْضِهِ مِنَ الظُّهْرِ، بِخِلَافِ الْعِيدِ. انْتَهَى.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْقَضَاءِ وَالتَّرْكِ، وَبَيْنَ الثِّنْتَيْنِ وَالْأَرْبَعِ. وَأَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الْجَارِيَتَيْنِ الْمُغَنِّيَتَيْنِ، وَأَشْكَلَتْ مُطَابَقَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ عَلَى جَمَاعَةٍ. وَأَجَابَ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ ذَلِكَ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّهَا أَيَّامُ الْعِيدِ، فَأَضَافَ نِسْبَةَ الْعِيدِ إِلَى الْيَوْمِ، فَيَسْتَوِي فِي إِقَامَتِهَا الْفَذُّ وَالْجَمَاعَةُ وَالنِّسَاءُ وَالرِّجَالُ، قَالَ ابْنُ رُشْيدٍ: وَتَتِمَّتُهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ أَيْ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَلِهَذَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَدْرِ الْبَابِ، وَأَهْلُ الْإِسْلَامِ شَامِلٌ لِجَمِيعِهِمْ أَفْرَادًا وَجَمْعًا، وَهَذَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ الْحُكْمُ الثَّانِي لَا مَشْرُوعِيَّةُ الْقَضَاءِ، قَالَ: وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ أَخَذَ مَشْرُوعِيَّةَ الْقَضَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ، أَيْ: أَيَّامُ مِنًى، فَلَمَّا سَمَّاهَا أَيَّامَ عِيدٍ كَانَتْ مَحَلًّا لِأَدَاءِ هَذِهِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِيَوْمِ الْعِيدِ فَيُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا تَقَعُ أَدَاءً، وَأَنَّ لِوَقْتِ الْأَدَاءِ آخِرًا وَهُوَ آخِرُ أَيَّامِ مِنًى. قَالَ: وَوَجَدْتُ بِخَطِّ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ الْوَرْدِ: لَمَّا سَوَّغَ صلى الله عليه وسلم لِلنِّسَاءِ رَاحَةَ الْعِيدِ الْمُبَاحَةَ كَانَ آكَدَ أَنْ يَنْدُبَهُنَّ إِلَى صَلَاتِهِ فِي بُيُوتِهِنَّ قَوْلُهُ فِي التَّرْجَمَةِ: وَكَذَلِكَ النِّسَاءُ مَعَ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: دَعْهُمَا فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ.
قَوْلُهُ: (وَمَنْ كَانَ فِي الْبُيُوتِ وَالْقُرَى) يُشِيرُ إِلَى مُخَالَفَةِ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ: لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إِلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ فَضْلِ الْعَمَلِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ عَنِ الزُّهْرِيِّ لَيْسَ عَلَى الْمُسَافِرِ صَلَاةُ عِيدٍ وَوَجْهُ مُخَالَفَتِهِ كَوْنُ عُمُومِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ يُخَالِفُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَذَا عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ) هَذَا الْحَدِيثُ لَمْ أَرَهُ هَكَذَا، وَإِنَّمَا أَوَّلَهُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الْمُغَنِّيَتَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي ثَالِثِ التَّرْجَمَةِ مِنْ كِتَابِ الْعِيدَيْنِ بِلَفْظِ: إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا وَهَذَا عِيدُنَا، وَأَمَّا بَاقِيهِ فَلَعَلَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ مَرْفُوعًا: أَيَّامُ مِنًى عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ فِي السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَقَوْلُهُ: أَهْلَ الْإِسْلَامِ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مُنَادَى مُضَافٌ حُذِفَ مِنْهُ حَرْفُ النِّدَاءِ، أَوْ بِإِضْمَارِ أَعْنِي أَوْ أَخُصُّ، وَجَوَّزَ فِيهِ أَبُو الْبَقَاءِ فِي إِعْرَابِ الْمُسْنَدِ الْجَرَّ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: عِيدُنَا.
قَوْلُهُ: (وَأَمَرَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ مَوْلَاهُ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي: مَوْلَاهُمْ.
قَوْلُهُ: (ابْنَ أَبِي غَنِيَّةَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ بِالْمُعْجَمَةِ وَالنُّونُ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ مُثَقَّلَةٌ، وَلِلْأَكْثَرِ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ وَهُوَ الرَّاجِحُ.
قَوْلُهُ: (بِالزَّاوِيَةِ) بِالزَّايِ مَوْضِعٌ عَلَى فَرْسَخَيْنِ مِنَ الْبَصْرَةِ كَانَ بِهِ لِأَنَسٍ قَصْرٌ وَأَرْضٌ وَكَانَ يُقِيمُ هُنَاكَ كَثِيرًا وَكَانَتْ بِالزَّاوِيَةِ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ الْحَجَّاجِ، وَابْنِ الْأَشْعَثِ. وَهَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ يُونُسَ هُوَ ابْنُ عُبَيْدٍ حَدَّثَنِي بَعْضُ آلِ أَنَسٍ أَنَّ أَنَسًا كَانَ رُبَّمَا جَمَعَ أَهْلَهُ وَحَشَمَهُ يَوْمَ الْعِيدِ، فَيُصَلِّي بِهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي عُتْبَةَ مَوْلَاهُ رَكْعَتَيْنِ، وَالْمُرَادُ بِالْبَعْضِ الْمَذْكُورِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ، رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ قَالَ: كَانَ أَنَسٌ إِذَا فَاتَهُ الْعِيدُ مَعَ الْإِمَامِ جَمَعَ أَهْلَهُ فَصَلَّى بِهِمْ مِثْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ فِي الْعِيدِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عِكْرِمَةُ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ عَنْهُ قَالَ فِي الْقَوْمِ يَكُونُونَ فِي السَّوَادِ وَفِي السَّفَرِ فِي يَوْمِ عِيدِ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى قَالَ: يَجْتَمِعُونَ وَيَؤُمُّهُمْ أَحَدُهُمْ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَطَاءٌ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: وَكَانَ عَطَاءٌ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، فَقَدْ رَوَاهُ الْفِرْيَابِيُّ فِي مُصَنَّفِهِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: مَنْ فَاتَهُ الْعِيدُ فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ،
وَزَادَ: وَيُكَبِّرُ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ تُشِيرُ إِلَى أَنَّهَا تُقْضَى كَهَيْئَتِهَا لَا أَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ مُطْلَقُ نَفْلٍ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْعِيدَيْنِ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: وَقَالَتْ عَائِشَةُ: مَعْطُوفٌ عَلَى الْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَقَوْلُهُ: فَزَجَرَهُمْ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: دَعْهُمْ، كَذَا فِي الْأُصُولِ بِحَذْفِ فَاعِلِ زَجَرَهُمْ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ: فَزَجَرَهُمْ عُمَرُ كَذَا هُنَا، وَسَيَأْتِي بِهَذَا الْإِسْنَادِ فِي أَوَائِلِ الْمَنَاقِبِ بِحَذْفِهِ أَيْضًا لِلْجَمِيعِ، وَضَبَّبَ النَّسَفِيُّ بَيْنَ زَجَرَهُمْ وَبَيْنَ فَقَالَ إِشَارَةً إِلَى الْحَذْفِ، وَقَدْ ثَبَتَ بِلَفْظِ عُمَرَ فِي طُرُقٍ أُخْرَى كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْعِيدَيْنِ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: أَمْنًا بِسُكُونِ الْمِيمِ (يَعْنِي مِنَ الْأَمْنِ) يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى اتْرُكْهُمْ مِنْ جِهَةِ أَنَّا آمِنَّاهُمْ أَمْنًا، أَوْ أَرَادَ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْأَمْنِ لَا مِنَ الْأَمَانِ الَّذِي لِلْكُفَّارِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
26 - بَاب الصَّلَاةِ قَبْلَ الْعِيدِ وَبَعْدَهَا
وَقَالَ أَبُو الْمُعَلَّى: سَمِعْتُ سَعِيدًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ كَرِهَ الصَّلَاةَ قَبْلَ الْعِيدِ
989 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يَوْمَ الْفِطْرِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا وَمَعَهُ بِلَالٌ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّلَاةِ قَبْلَ الْعِيدِ وَبَعْدَهَا) أَوْرَدَ فِيهِ أَثَرَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَرِهَ الصَّلَاةَ قَبْلَ الْعِيدِ وَحَدِيثُهُ الْمَرْفُوعُ فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا وَلَمْ يَجْزِمْ بِحُكْمِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَثَرَ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَنْعُ التَّنَفُّلِ أَوْ نَفْيُ الرَّاتِبَةِ، وَعَلَى الْمَنْعِ فَهَلْ هُوَ لِكَوْنِهِ وَقْتَ كَرَاهَةٍ أَوْ لِأَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ. وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْقَبْلِ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُوَاظَبَةِ فَيُحْتَمَلُ اخْتِصَاصُهُ بِالْإِمَامِ دُونَ الْمَأْمُومِ أَوْ بِالْمُصَلَّى دُونَ الْبَيْتِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، فَذَكَرَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: الْكُوفِيُّونَ يُصَلُّونَ بَعْدَهَا لَا قَبْلهَا، وَالْبَصْرِيُّونَ يُصَلُّونَ قَبْلَهَا لَا بَعْدَهَا، وَالْمَدَنِيُّونَ لَا قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا. وَبِالْأَوَّلِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَنَفِيَّةُ، وَبِالثَّانِي قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَجَمَاعَةٌ، وَبِالثَّالِثِ قَالَ الزُّهْرِيُّ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَأَحْمَدُ. وَأَمَّا مَالِكٌ فَمَنَعَهُ فِي الْمُصَلَّى، وَعَنْهُ فِي الْمَسْجِدِ رِوَايَتَانِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ - وَنَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ فِي الْمَعْرِفَةِ بَعْدَ أَنْ رَوَى حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ حَدِيثَ الْبَابِ - مَا نَصُّهُ: وَهَكَذَا يَحبُ لِلْإِمَامِ أَنْ لَا يَتَنَفَّلَ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا، وَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَمُخَالِفٌ لَهُ فِي ذَلِكَ. ثُمَّ بَسَطَ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ.
وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: يُكْرَهُ لِلْإِمَامِ التَّنَفُّلُ قَبْلَ الْعِيدِ وَبَعْدَهَا، وَقَيَّدَهُ فِي الْبُوَيْطِيِّ بِالْمُصَلَّى، وَجَرَى عَلَى ذَلِكَ الصَّيْمَرِيُّ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِالنَّافِلَةِ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا مُطْلَقًا إِلَّا لِلْإِمَامِ فِي مَوْضِعِ الصَّلَاةِ، وَأَمَّا النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، فَقَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ لَا كَرَاهَةَ فِي الصَّلَاةِ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا، فَإِنَّ حَمْلَ كَلَامِهِ عَلَى الْمَأْمُومِ وَإِلَّا فَهُوَ مُخَالِفٌ لِنَصِّ الشَّافِعِيِّ الْمَذْكُورِ، وَيُؤَيِّدُ مَا فِي الْبُوَيْطِيِّ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يُصَلِّي قَبْلَ الْعِيدِ شَيْئًا، فَإِذَا رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَقَدْ صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَبِهَذَا قَالَ إِسْحَاقُ، وَنَقَلَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَتَنَفَّلُ فِي الْمُصَلَّى، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: التَّنَفُّلُ فِي الْمُصَلَّى لَوْ فُعِلَ لَنُقِلَ، وَمَنْ أَجَازَهُ رَأَى أَنَّهُ وَقْتٌ مُطْلَقٌ لِلصَّلَاةِ، وَمَنْ تَرَكَهُ رَأَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَفْعَلْهُ، وَمَنِ اقْتَدَى فَقَدِ اهْتَدَى انْتَهَى. وَالْحَاصِلُ أَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ لَمْ يَثْبُتْ لَهَا سُنَّةٌ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا خِلَافًا لِمَنْ قَاسَهَا عَلَى الْجُمُعَةِ، وَأَمَّا مُطْلَقُ النَّفْلِ فَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ مَنْعٌ بِدَلِيلٍ خَاصٍّ إِلَّا إِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي وَقْتِ الْكَرَاهَةِ الَّذِي فِي جَمِيعِ الْأَيَّامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو الْمُعَلَّى) بِضَمِّ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ الْمَفْتُوحَةِ اسْمُهُ يَحْيَى بْنُ مَيْمُونٍ الْعَطَّارُ الْكُوفِيُّ،
وَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى أَثَرِهِ هَذَا مَوْصُولًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَرْفُوعُ بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ فِي بَابِ الْخُطْبَةِ بَعْدَ الْعِيدِ.
(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَ كِتَابُ الْعِيدَيْنِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ وَال بَقِيَّةُ خَالِصَةٌ، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ أَنَسٍ فِي أَكْلِ التَّمْرِ قَبْلَ صَلَاةِ عِيدِ الْفِطْرِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي قِصَّتِهِ مَعَ الْحَجَّاجِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْعَمَلِ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي الذَّبْحِ بِالْمُصَلَّى. وَحَدِيثُ جَابِرٍ فِي مُخَالَفَةِ الطَّرِيقِ، وَأَمَّا حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي الْبَابِ الْمَاضِي فَإِنْ كَانَ مُرَادًا زَادَتِ الْعِدَّةُ وَاحِدًا مُعَلَّقًا، وَلَيْسَ هُوَ فِي مُسْلِمٍ، وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ أَثَرًا مُعَلَّقَةً إِلَّا أَثَرَ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ فِي الصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ فَإِنَّهَا مَوْصُولَةٌ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَاللَّهُ الْهَادِي إِلَى الصَّوَابِ.
بسم الله الرحمن الرحيم
14 - كِتَاب الْوِتْرِ
1 - بَاب مَا جَاءَ فِي الْوِتْرِ
990 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمْ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى
991 -
وَعَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُسَلِّمُ بَيْنَ الرَّكْعَةِ وَالرَّكْعَتَيْنِ فِي الْوِتْرِ حَتَّى يَأْمُرَ بِبَعْضِ حَاجَتِهِ"
992 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ كُرَيْبٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَ مَيْمُونَةَ وَهِيَ خَالَتُهُ فَاضْطَجَعْتُ فِي عَرْضِ وِسَادَةٍ وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَهْلُهُ فِي طُولِهَا فَنَامَ حَتَّى انْتَصَفَ اللَّيْلُ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ فَاسْتَيْقَظَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ ثُمَّ قَرَأَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ آلِ عِمْرَانَ ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقَةٍ فَتَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي فَصَنَعْتُ مِثْلَهُ فَقُمْتُ إِلَى جَنْبهِ فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رَأْسِي وَأَخَذَ بِأُذُنِي يَفْتِلُهَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَوْتَرَ ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى جَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ "
993 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ،
حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَنْصَرِفَ فَارْكَعْ رَكْعَةً تُوتِرُ لَكَ مَا صَلَّيْتَ. قَالَ الْقَاسِمُ: وَرَأَيْنَا أُنَاسًا مُنْذُ أَدْرَكْنَا يُوتِرُونَ بِثَلَاثٍ، وَإِنَّ كُلًّا لَوَاسِعٌ أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِشَيْءٍ مِنْهُ بَأْسٌ.
994 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عن عُرْوَةُ، أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً كَانَتْ تِلْكَ صَلَاتَهُ - تَعْنِي بِاللَّيْلِ - فَيَسْجُدُ السَّجْدَةَ مِنْ ذَلِكَ قَدْرَ مَا يَقْرَأُ أَحَدُكُمْ خَمْسِينَ آيَةً قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ، وَيَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ ثُمَّ يَضْطَجِعُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمُؤَذِّنُ لِلصَّلَاةِ.
(أَبْوَابُ الْوِتْرِ) كَذَا عِنْدَ الْمُسْتَمْلِي، وَعَنِ الْبَاقِين: بَابُ مَا جَاءَ فِي الْوِتْرِ وَسَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ عِنْدَ ابْنِ شَبُّوَيْهِ، وَالْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ. وَالْوِتْرُ بِالْكَسْرِ الْفَرْدُ، وَبِالْفَتْحِ الثَّأْرُ، وَفِي لُغَةٍ مُتَرَادِفَانِ. وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْبُخَارِيُّ لِحُكْمِهِ لَكِنْ إِفْرَادُهُ بِتَرْجَمَةٍ عَنْ أَبْوَابِ التَّهَجُّدِ وَالتَّطَوُّعِ يَقْتَضِي أَنَّهُ غَيْرُ مُلْحَقٍ بِهَا عِنْدَهُ، وَلَوْلَا أَنَّهُ أَوْرَدَ الْحَدِيثَ الَّذِي فِيهِ إِيقَاعُهُ عَلَى الدَّابَّةِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ لَكَانَ فِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَقُولُ بِوُجُوبِهِ. أَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ مَرْفُوعَةً: حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَحَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحَدِيثَ عَائِشَةَ. فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَأَخْرَجَهُ مِنَ الْمُوَطَّأِ وَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَى مَالِكٍ فِي إِسْنَادِهِ إِلَّا أَنَّ فِي رِوَايَةِ مَكِّيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مَالِكٍ أَنَّ نَافِعًا، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ دِينَارٍ أَخْبَرَاهُ كَذَا فِي الْمُوَطَّآتِ لِلدَّارَقُطْنِيِّ، وَأَوْرَدَهُ الْبَاقُونَ بِالْعَنْعَنَةِ.
(فَائِدَةٌ): قَالَ ابْنُ التِّينِ: اخْتُلِفَ فِي الْوِتْرِ فِي سَبْعَةِ أَشْيَاءَ: فِي وُجُوبِهِ، وَعَدَدِهِ، وَاشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِيهِ، وَاخْتِصَاصه بِقِرَاءَةٍ، وَاشْتِرَاطِ شَفْعٍ قَبْلَهُ، وَفِي آخِرِ وَقْتِهِ، وَصَلَاتِهِ فِي السَّفَرِ عَلَى الدَّابَّةِ. قُلْتُ: وَفِي قَضَائِهِ، وَالْقُنُوتِ فِيهِ، وَفِي مَحَلِّ الْقُنُوتِ مِنْهُ، وَفِيمَا يُقَالُ فِيهِ، وَفِي فَصْلِهِ وَوَصْلِهِ، وَهَلْ تُسَنُّ رَكْعَتَانِ بَعْدَهُ، وَفِي صَلَاتِهِ مِنْ قُعُودٍ. لَكِنْ هَذَا الْأَخِيرُ يَنْبَنِي عَلَى كَوْنِهِ مَنْدُوبًا أَوْ لَا. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي أَوَّلِ وَقْتِهِ أَيْضًا، وَفِي كَوْنِهِ أَفْضَلَ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ، أَوِ الرَّوَاتِبِ أَفْضَلَ مِنْهُ، أَوْ خُصُوصِ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ. وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ لِبَعْضِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى مَا لَمْ يُتَرْجِمْ لَهُ أَثْنَاءَ الْكَلَامِ عَلَى أَحَادِيثِ الْبَابِ وَمَا بَعْدَهَا.
قَوْلُهُ: (أَنَّ رَجُلًا) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، وَوَقَعَ فِي الْمُعْجَمِ الصَّغِيرِ لِلطَبَرَانِيِّ أَنَّ السَّائِلَ هُوَ ابْنُ عُمَرَ، لَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّائِلِ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: ثُمَّ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ وَأَنَا بِذَلِكَ الْمَكَانِ مِنْهُ. قَالَ: فَمَا أَدْرِي أَهُوَ ذَلِكَ الرَّجُلُ أَوْ غَيْرُهُ. وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ السَّائِلَ الْمَذْكُورَ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ فِي كِتَابِ أَحْكَامِ الْوِتْرِ وَهُوَ كِتَابٌ نَفِيسٌ فِي مُجَلَّدِهِ مِنْ رِوَايَةِ عَطِيَّةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُجْمَعَ بِتَعَدُّدِ مَنْ سَأَلَ، وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ الْحِلَقِ فِي الْمَسْجِدِ أَنَّ السُّؤَالَ الْمَذْكُورَ وَقَعَ فِي الْمَسْجِدِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ) فِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ فِي بَابِ الْحِلَقِ فِي الْمَسْجِدِ: أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَخْطُبُ فَقَالَ: كَيْفَ صَلَاةُ اللَّيْلِ وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ فِي أَبْوَابِ التَّطَوُّعِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ مِنَ الْجَوَابِ أَنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ عَنْ عَدَدِهَا أَوْ عَنِ الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ، وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ
تَأْمُرُنَا أَنْ نُصَلِّيَ مِنَ اللَّيْلِ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ بَزِيزَةَ جَوَابُهُ بِقَوْلِهِ: مَثْنَى يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فُهِمَ مِنَ السَّائِلِ طَلَبُ كَيْفِيَّةِ الْعَدَدِ لَا مُطْلَقُ الْكَيْفِيَّةِ فَفِيهِ نَظَرٌ، وَأَوْلَى مَا فُسِّرَ بِهِ الْحَدِيثُ مِنَ الْحَدِيثِ، وَاسْتُدِلَّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ فِي صَلَاةِ النَّهَارِ أَنْ تَكُونَ أَرْبَعًا وَهُوَ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ وَإِسْحَاقَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ مَفْهُومُ لَقَبٍ وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الرَّاجِحِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الْأَخْذِ بِهِ فَلَيْسَ بِمُنْحَصِرٍ فِي أَرْبَعٍ، وَبِأَنَّهُ خَرَجَ جَوَابًا لِلسُّؤَالِ عَنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ فَقُيِّدَ الْجَوَابُ بِذَلِكَ مُطَابَقَةً لِلسُّؤَالِ، وَبِأَنَّهُ قَدْ تَبَيَّنَ منْ رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ حُكْمَ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ حُكْمُ الْمَنْطُوقِ بِهِ، فَفِي السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقٍ عَلِيٍّ الْأَزْدِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى، وَقَدْ تُعُقِّبَ هَذَا الْأَخِيرُ بِأَنَّ أَكْثَرَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ أَعَلُّوا هَذِهِ الزِّيَادَةَ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَالنَّهَارِ.
بِأَنَّ الْحُفَّاظَ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ عُمَرَ لَمْ يَذْكُرُوهَا عَنْهُ، وَحَكَمَ النَّسَائِيُّ عَلَى رَاوِيهَا بِأَنَّهُ أَخْطَأَ فِيهَا، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: مَنْ عَلِيٍّ الْأَزْدِيِّ حَتَّى أَقْبَلَ مِنْهُ؟ وَادَّعَى يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَتَطَوَّعُ بِالنَّهَارِ أَرْبَعًا لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُنَّ، وَلَوْ كَانَ حَدِيثُ الْأَزْدِيِّ صَحِيحًا لَمَا خَالَفَهُ ابْنُ عُمَرَ، يَعْنِي مَعَ شِدَّةِ اتِّبَاعِهِ رَوَاهُ عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ فِي سُؤَالَاتِهِ، لَكِنْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى مَوْقُوفٌ أَخْرَجَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ طَرِيقِهِ، فَلَعَلَّ الْأَزْدِيَّ اخْتَلَطَ عَلَيْهِ الْمَوْقُوفُ بِالْمَرْفُوعِ فَلَا تَكُونُ هَذِهِ الزِّيَادَةُ صَحِيحَةً عَلَى طَرِيقَةِ مَنْ يَشْتَرِطُ فِي الصَّحِيحِ أَنْ لَا يَكُونَ شَاذًّا، وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ منْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بِالنَّهَارِ أَرْبَعًا أَرْبَعًا وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا نَقَلَهُ ابْنُ مَعِينٍ
(1)
.
قَوْلُهُ: (مَثْنَى مَثْنَى) أَيِ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، وَهُوَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ لِتَكْرَارِ الْعَدْلِ فِيهِ قَالَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ. وَقَالَ آخَرُونَ: لِلْعَدْلِ وَالْوَصْفِ، وَأَمَّا إِعَادَةُ مَثْنَى فَلِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّأْكِيدِ، وَقَدْ فَسَّرَهُ ابْنُ عُمَرَ رَاوِي الْحَدِيثِ فَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عُقْبَةَ بْنِ حُرَيْثٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: مَا مَعْنَى مَثْنَى مَثْنَى؟ قَالَ: تُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ.
وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ مَعْنَى مَثْنَى أَنْ يَتَشَهَّدَ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ لِأَنَّ رَاوِيَ الْحَدِيثِ أَعْلَمُ بِالْمُرَادِ بِهِ، وَمَا فَسَّرَهُ بِهِ هُوَ الْمُتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ فِي الرُّبَاعِيَّةِ مَثَلًا: إِنَّهَا مَثْنَى، وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا عَلَى تَعَيُّنِ الْفَصْلِ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهُوَ ظَاهِرُ السِّيَاقِ لِحَصْرِ الْمُبْتَدَأِ فِي الْخَبَرِ، وَحَمَلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لِبَيَانِ الْأَفْضَلِ لِمَا صَحَّ مِنْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم بِخِلَافِهِ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ أَيْضًا كَوْنُهُ لِذَلِكَ، بَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلْإِرْشَادِ إِلَى الْأَخَفِّ، إِذِ السَّلَامُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ أَخَفُّ عَلَى الْمُصَلِّي مِنَ الْأَرْبَعِ فَمَا فَوْقَهَا لِمَا فِيهِ مِنَ الرَّاحَةِ غَالِبًا وَقَضَاءُ مَا يُعْرَضُ مِنْ أَمْرٍ مُهِمٍّ، وَلَوْ كَانَ الْوَصْلُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ فَقَطْ لَمْ يُوَاظِبْ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم وَمَنِ ادَّعَى اخْتِصَاصَهُ بِهِ فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم الْفَصْلُ كَمَا صَحَّ عَنْهُ الْوَصْلُ، فَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ مِنْ طَرِيقَيِ الْأَوْزَاعِيِّ، وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي مَا بَيْنَ أَنْ يَفْرُغَ مِنَ الْعِشَاءِ إِلَى الْفَجْرِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ.
وَإِسْنَادُهُمَا عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ أَيْضًا عَلَى عَدَمِ النُّقْصَانِ عَنْ رَكْعَتَيْنِ فِي النَّافِلَةِ مَا عَدَا الْوِتْرَ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ أَقْوَى مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِامْتِنَاعِ قَصْرِ الصُّبْحِ فِي السَّفَرِ إِلَى رَكْعَةٍ، يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى الطَّحَاوِيِّ فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ عَلَى مَنْعِ التَّنَفُّلِ بِرَكْعَةٍ بِذَلِكَ، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ لِلْجَوَازِ بِعُمُومِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: الصَّلَاةُ خَيْرُ مَوْضُوعٍ، فَمَنْ شَاءَ اسْتَكْثَرَ وَمَنْ شَاءَ اسْتَقَلَّ، صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ، وَقَالَ الْأَثْرَمُ، عَنْ أَحْمَدَ: الَّذِي اخْتَارَهُ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِنْ صَلَّى بِالنَّهَارِ أَرْبَعًا فَلَا بَأْسَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ نَحْوَهُ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ قَالَ: وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ
(1)
كذا في الاصلين وصوابه " لما نقله يحي بن سعيد " كما تقدم قريبا. والله أعلم
أَوْتَرَ بِخَمْسٍ لَمْ يَجْلِسْ إِلَّا فِي آخِرِهَا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى الْوَصْلِ، إِلَّا أَنَّا نَخْتَارُ أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ لِكَوْنِهِ أَجَابَ بِهِ السَّائِلَ وَلِكَوْنِ أَحَادِيثِ الْفَصْلِ أَثْبَتَ وَأَكْثَرَ طُرُقًا، وَقَدْ تَضَمَّنَ كَلَامُهُ الرَّدَّ عَلَى الدَّاوُدِيِّ الشَّارِحِ وَمَنْ تَبِعَهُ فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ صَلَّى النَّافِلَةَ أَكْثَرَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ.
قَوْلُهُ: (فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمْ الصُّبْحَ) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى خُرُوجِ وَقْتِ الْوِتْرِ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ، وَأَصْرَحُ مِنْهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ أَبُو عَوَانَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ نَافِعٍ أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: مَنْ صَلَّى مِنَ اللَّيْلِ فَلْيَجْعَلْ آخِرَ صَلَاتِهِ وِتْرًا فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْمُرُ بِذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ الْفَجْرُ فَقَدْ ذَهَبَ كُلُّ صَلَاةِ اللَّيْلِ وَالْوِتْرِ وَفِي صَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا مَنْ أَدْرَكَهُ الصُّبْحُ وَلَمْ يُوتِرْ فَلَا وِتْرَ لَهُ وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى التَّعَمُّدِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ أَدَاءً، لِمَا رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَيْضًا مَرْفُوعًا: مَنْ نَسِيَ الْوِتْرَ أَوْ نَامَ عَنْهُ فَلْيُصَلِّهِ إِذَا ذَكَرَهُ، وَقِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: إِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ - أَيْ وَهُوَ فِي شَفْعٍ - فَلْيَنْصَرِفْ عَلَى وِتْرٍ وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ. وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّ الَّذِي يَخْرُجُ بِالْفَجْرِ وَقْتُهُ الِاخْتِيَارِيُّ وَيَبْقَى وَقْتُ الضَّرُورَةِ إِلَى قِيَامِ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَحَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ، عَنْ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِنَّمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ.
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَتَعَمَّدَ تَرْكَ الْوِتْرِ حَتَّى يُصْبِحَ، وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ قَضَائِهِ فَنَفَاهُ الْأَكْثَرُ، وَفِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا نَامَ مِنَ اللَّيْلِ مِنْ وَجَعٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلَمْ يَقُمْ مِنَ اللَّيْلِ صَلَّى مِنَ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: لَمْ نَجِدْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ قَضَى الْوِتْرَ وَلَا أَمَرَ بِقَضَائِهِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم فِي لَيْلَةِ نَوْمِهِمْ عَنِ الصُّبْحِ فِي الْوَادِي قَضَى الْوِتْرَ فَلَمْ يُصِبْ. وَعَنْ عَطَاءٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ: يَقْضِي وَلَوْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ حَكَاهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: يَقْضِي مِنَ الْقَابِلَةِ، وَعَنِ الشَّافِعِيَّةِ: يَقْضِي مُطْلَقًا، وَيُسْتَدَلُّ لَهُمْ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمُتَقَدِّمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَائِدَةٌ): يُؤْخَذُ مِنْ سِيَاقِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنَ النَّهَارِ شَرْعًا، وَقَدْ رَوَى ابْنُ دُرَيْدٍ فِي أَمَالِيهِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ أَنَّ الْخَلِيلَ بْنَ أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْ حَدِّ النَّهَارِ، فَقَالَ: مِنَ الْفَجْرِ الْمُسْتَطِيرِ إِلَى بَدَاءَةِ الشَّفَقِ. وَحُكِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ وَقْتٌ مُنْفَرِدٌ لَا مِنَ اللَّيْلِ وَلَا مِنَ النَّهَارِ
(1)
.
قَوْلُهُ: (صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً) فِي رِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، وَمَكِّيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ مَالِكٍ فَلْيُصَلِّ رَكْعَةً أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْمُوَطَّآتِ هَكَذَا بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، وَسَيَأْتِي بِصِيغَةِ الْأَمْرِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ الثَّانِيَةِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا نَحْوُهُ، وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّهُ لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْوِتْرِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي مَشْرُوعِيَّةِ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْوِتْرِ عَنْ جُلُوسٍ، وَالثَّانِي فِيمَنْ أَوْتَرَ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَتَنَفَّلَ فِي اللَّيْلِ هَلْ يَكْتَفِي بِوِتْرِهِ الْأَوَّلِ وَلْيَتَنَفَّلْ مَا شَاءَ أَوْ يَشْفَعْ وِتْرَهُ بِرَكْعَةٍ ثُمَّ يَتَنَفَّلْ ثُمَّ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ هَلْ يَحْتَاجُ إِلَى وِتْرٍ آخَرَ أَوْ لَا؟ فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْوِتْرِ وَهُوَ جَالِسٌ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَجَعَلُوا الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ: اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ مِنَ اللَّيْلِ وِتْرًا، مُخْتَصًّا بِمَنْ أَوْتَرَ آخِرَ اللَّيْلِ. وَأَجَابَ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ بِأَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ هُمَا رَكْعَتَا الْفَجْرِ، وَحَمَلَهُ النَّوَوِيُّ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم فَعَلَهُ لِبَيَانِ جَوَازِ التَّنَفُّلِ بَعْدَ الْوِتْرِ وَجَوَازِ التَّنَفُّلِ جَالِسًا.
وَأَمَّا الثَّانِي فَذَهَبَ
(1)
هذا القول عن الشعبي باطل، لأن الأدلة الشرعيه دالة على أنه من النهار في حكم الشرع، أعني بذلك ما بعد طلوع الفجر الصادق إلى طلوع الشمس. والله أعلم
الْأَكْثَرُ إِلَى أَنَّهُ يُصَلِّي شَفْعًا مَا أَرَادَ وَلَا يُنْقَضُ وِتْرُهُ عَمَلًا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لَا وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ. وَإِنَّمَا يَصِحُّ نَقْضِ الْوِتْرِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِمَشْرُوعِيَّةِ التَّنَفُّلِ بِرَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ غَيْرِ الْوِتْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إِذَا كُنْتَ لَا تَخَافُ الصُّبْحَ وَلَا النَّوْمَ فَاشْفَعْ ثُمَّ صَلِّ مَا بَدَا لَكَ ثُمَّ أَوْتِرْ، وَإِلَّا فَصَلِّ وِتْرَكَ عَلَى الَّذِي كُنْتَ أَوْتَرْتَ. وَمِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَأُصَلِّي مَثْنَى، فَإِذَا انْصَرَفْتُ رَكَعْتُ رَكْعَةً وَاحِدَةً. فَقِيلَ: أَرَأَيْتَ إِنْ أَوْتَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ ثُمَّ قُمْتُ مِنَ اللَّيْلِ فَشَفَعْتُ حَتَّى أُصْبِحَ؟ قَالَ: لَيْسَ بِذَلِكَ بَأْسٌ. وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: صَلِّ رَكْعَةً وَاحِدَةً عَلَى أَنَّ فَصْلَ الْوِتْرِ أَفْضَلُ مِنْ وَصْلِهِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ صَرِيحًا فِي الْفَصْلِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: صَلِّ رَكْعَةً وَاحِدَةً أَيْ مُضَافَةً إِلَى رَكْعَتَيْنِ مِمَّا مَضَى.
وَاحْتَجَّ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ تَعْيِينِ الْوَصْلِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى ثَلَاثٍ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ بِثَلَاثٍ مَوْصُولَةٍ حَسَنٌ جَائِزٌ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا عَدَاهُ، قَالَ: فَأَخَذْنَا بِمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ وَتَرَكْنَا مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ. وَتَعَقَّبَهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ بِمَا رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا: لَا تُوتِرُوا بِثَلَاثٍ تُشْبِهُوا بِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَقَدْ صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَالْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا نَحْوُهُ، وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَقَدْ صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَمِنْ طَرِيقِ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ كَرَاهِيَةُ الْوِتْرِ بِثَلَاثٍ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا. وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ كَرِهَ الثَّلَاثَ فِي الْوِتْرِ وَقَالَ: لَا يُشْبِهُ التَّطَوُّعُ الْفَرِيضَةَ. فَهَذِهِ الْآثَارُ تَقْدَحُ فِي الْإِجْمَاعِ الَّذِي نَقَلَهُ. وَأَمَّا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ: لَمْ نَجِدْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَبَرًا ثَابِتًا صَرِيحًا أَنَّهُ أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ مَوْصُولَةٍ، نَعَمْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ، لَكِنْ لَمْ يُبَيِّنِ الرَّاوِي هَلْ هِيَ مَوْصُولَةٌ أَوْ مَفْصُولَةٌ. انْتَهَى.
فَيَرُدُّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهُ كَانَ صلى الله عليه وسلم يُوتِرُ بِثَلَاثٍ لَا يَقْعُدُ إِلَّا فِي آخِرهِنَّ. وَرَوَى النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ نَحْوَهُ، وَلَفْظُهُ: يُوتِرُ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وَلَا يُسَلِّمُ إِلَّا فِي آخِرِهِنَّ وَبَيَّنَ فِي عِدَّةِ طُرُقٍ أَنَّ السُّوَرَ الثَّلَاثَ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ، وَيُجَابُ عَنْهُ بِاحْتِمَالِ أَنَّهُمَا لَمْ يَثْبُتَا عِنْدَهُ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ أَنْ يُحْمَلَ النَّهْيُ عَلَى صَلَاةِ الثَّلَاثِ بِتَشَهُّدَيْنِ، وَقَدْ فَعَلَهُ السَّلَفُ أَيْضًا، فَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَنْهَضُ فِي الثَّالِثَةِ مِنَ الْوِتْرِ بِالتَّكْبِيرِ، وَمِنْ طَرِيقِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَنَّ عُمَرَ أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ لَمْ يُسَلِّمْ إِلَّا فِي آخِرِهِنَّ، وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ لَا يَقْعُدْ بَيْنَهُنَّ، وَمِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَطَاءٍ، وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ مِثْلُهُ، وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَنَسٍ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّهُمْ أَوْتَرُوا بِثَلَاثٍ كَالْمَغْرِبِ، وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَبْلُغْهُمُ النَّهْيُ الْمَذْكُورُ. وَسَيَأْتِي فِي هَذَا الْبَابِ قَوْلُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ فِي تَجْوِيزِ الثَّلَاثِ، وَلَكِنَّ النِّزَاعَ فِي تَعَيُّنِ ذَلِكَ فَإِنَّ الْأَخْبَارَ الصَّحِيحَةَ تَأْبَاهُ.
قَوْلُهُ: (تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى) اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الرَّكْعَةَ الْأَخِيرَةَ هِيَ الْوِتْرُ وَأَنَّ كُلَّ مَا تَقَدَّمَهَا شَفْعٌ، وَادَّعَى بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ هَذَا إِنَّمَا يُشْرَعُ لِمَنْ طَرَقَهُ الْفَجْرُ قَبْلَ أَنْ يُوتِرَ فَيَكْتَفِي بِوَاحِدَةٍ لِقَوْلِهِ: فَإِذَا خَشِيَ الصُّبْحَ فَيَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلِ تَعَيُّنِ الثَّلَاثِ، وَسَنَذْكُرُ مَا فِيهِ مِنْ رِوَايَةِ الْقَاسِمِ الْآتِيَةِ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَعَيُّنِ الشَّفْعِ قَبْلَ الْوِتْرِ وَهُوَ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: مَا قَدْ صَلَّى أَيْ مِنَ النَّفْلِ. وَحَمَلَهُ مَنْ لَا يَشْتَرِطُ سَبْقَ الشَّفْعِ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ النَّفْلِ وَالْفَرْضِ وَقَالُوا: إِنَّ سَبْقَ الشَّفْعِ شَرْطٌ فِي الْكَمَالِ لَا فِي الصِّحَّةِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ مَرْفُوعًا: الْوِتْرُ حَقٌّ، فَمَنْ شَاءَ أَوْتَرَ بِخَمْسٍ، وَمَنْ شَاءَ بِثَلَاثٍ، وَمَنْ شَاءَ بِوَاحِدَةٍ أَخْرَجَهُ
أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ أَوْتَرُوا بِوَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ نَفْلٍ قَبْلَهَا، فَفِي كِتَابِ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ وَغَيْرِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّ عُثْمَانَ قَرَأَ الْقُرْآنَ لَيْلَةً فِي رَكْعَةٍ لَمْ يُصَلِّ غَيْرَهَا، وَسَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ أَنَّ سَعْدًا أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ، وَسَيَأْتِي فِي الْمَنَاقِبِ عَنْ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ، وَأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ اسْتَصْوَبَهُ، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ رَدٌّ عَلَى ابْنِ التِّينِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْفُقَهَاءَ لَمْ يَأْخُذُوا بِعَمَلِ مُعَاوِيَةَ فِي ذَلِكَ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ فُقَهَاءَهُمْ.
قَوْلُهُ: (وَعَنْ نَافِعٍ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ فِي الْمُوَطَّأِ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ مَقْرُونًا فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ بَلْ بَيْنَ الْمَرْفُوعِ وَالْمَوْقُوفِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ، وَلِهَذَا فَصَلَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُسَلِّمُ بَيْنَ الرَّكْعَةِ وَالرَّكْعَتَيْنِ فِي الْوِتْرِ حَتَّى يَأْمُرَ بِبَعْضِ حَاجَتِهِ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي الْوِتْرَ مَوْصُولًا فَإِنْ عَرَضَتْ لَهُ حَاجَةٌ فَصَلَ ثُمَّ بَنَى عَلَى مَا مَضَى، وَفِي هَذَا دَفْعٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: لَا يَصِحُّ الْوِتْرُ إِلَّا مَفْصُولًا. وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ قَالَ: صَلَّى ابْنُ عُمَرَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: يَا غُلَامُ أَرْحِلْ لَنَا، ثُمَّ قَامَ فَأَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ. وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَفْصِلُ بَيْنَ شَفْعِهِ وَوِتْرِهِ بِتَسْلِيمَةٍ، وَأَخْبَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُهُ، وَإِسْنَادُهُ قَوِيٌّ. وَلَمْ يَعْتَذِرِ الطَّحَاوِيُّ عَنْهُ إِلَّا بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: بِتَسْلِيمَةٍ، أَيِ: التَّسْلِيمَةِ الَّتِي فِي التَّشَهُّدِ وَلَا يَخْفَى بَعْدَ هَذَا التَّأْوِيلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ فِي الْعِلْمِ وَالطَّهَارَةِ وَالْمَسَاجِدِ وَالْإِمَامَةِ وَأَحَلْتُ بِشَرْحِهِ عَلَى مَا هُنَا.
وَقَدْ رَوَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ كُرَيْبٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَطَلْحَةُ بْنُ نَافِعٍ، وَيَحْيَى بْنُ الْجَزَّارِ، وَأَبُو جَمْرَةَ وَغَيْرُهُمْ مُطَوَّلًا وَمُخْتَصَرًا، وَسَأَذْكُرُ مَا فِي طُرُقِهِ مِنَ الْفَوَائِدِ نَاسِبًا كُلَّ رِوَايَةٍ إِلَى مُخْرِجِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَ مَيْمُونَةَ) زَادَ شَرِيكُ بْنُ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ كُرَيْبٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَرَقَبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَيْفَ يُصَلِّي. زَادَ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: بِاللَّيْلِ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَعَثَنِي الْعَبَّاسُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. زَادَ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ كُرَيْبٍ: فِي إِبِلٍ أَعْطَاهُ إِيَّاهَا مِنَ الصَّدَقَةِ. وَلِأَبِي عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ الْعَبَّاسَ بَعَثَهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَاجَةٍ، قَالَ: فَوَجَدْتُهُ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ فَلَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أُكَلِّمَهُ، فَلَمَّا صَلَّى الْمَغْرِبَ قَامَ فَرَكَعَ حَتَّى أُذِنَ بِصَلَاةِ الْعِشَاءِ. وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ طَلْحَةَ بْنِ نَافِعٍ عَنْهُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَدَ الْعَبَّاسَ ذَوْدًا مِنَ الْإِبِلِ، فَبَعَثَنِي إِلَيْهِ بَعْدَ الْعِشَاءِ وَكَانَ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ. وَهَذَا يُخَالِفُ مَا قَبْلَهُ، وَيُجْمَعُ بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُكَلِّمْهُ فِي الْمَسْجِدِ أَعَادَهُ إِلَيْهِ بَعْدَ الْعِشَاءِ إِلَى بَيْتِ مَيْمُونَةَ، وَلِمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ فِي كِتَابِ قِيَامِ اللَّيْلِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ نُوَيْفِعٍ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ الزِّيَادَةِ: فَقَالَ لِي: يَا بُنَيَّ بِتِ اللَّيْلَةِ عِنْدَنَا. وَفِي رِوَايَةِ حَبِيبٍ الْمَذْكُورَةِ: فَقُلْتُ: لَا أَنَامُ حَتَّى أَنْظُرَ مَا يَصْنَعُ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ.
وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ مَخْرَمَةَ: فَقُلْتُ لِمَيْمُونَةَ: إِذَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَيْقِظِينِي وَكَانَ عَزَمَ فِي نَفْسِهِ عَلَى السَّهَرِ لِيَطَّلِعَ عَلَى الْكَيْفِيَّةِ الَّتِي أَرَادَهَا، ثُمَّ خَشِيَ أَنْ يَغْلِبَه النَّوْمُ فَوَصَّى مَيْمُونَةَ أَنْ تُوقِظَهُ.
قَوْلُهُ: (فِي عُرْضِ وِسَادَةٍ) فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ الْمَذْكُورَةِ: وِسَادَةٌ مِنْ أُدْمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ. وَفِي رِوَايَةِ طَلْحَةَ بْنِ نَافِعٍ الْمَذْكُورَةِ: ثُمَّ دَخَلَ مَعَ امْرَأَتِهِ فِي فِرَاشِهَا. وَزَادَ أَنَّهَا كَانَتْ لَيْلَتَئِذٍ حَائِضًا. وَفِي رِوَايَةِ شَرِيكِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ كُرَيْبٍ فِي التَّفْسِيرِ، فَتَحَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَهْلِهِ سَاعَةً. وَقَدْ سَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الِاضْطِجَاعِ وَالْعَرَضِ وَمَسْحِ النَّوْمِ وَالْعَشْرِ الْآيَاتِ فِي بَابِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بَعْدَ الْحَدَثِ. وَكَذَا عَلَى الشَّنِّ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى انْتَصَفَ اللَّيْلُ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ) جَزَمَ
شَرِيكُ بْنُ أَبِي نَمِرٍ فِي رِوَايَتِهِ الْمَذْكُورَةِ بِثُلُثِ اللَّيْلِ الْأَخِيرِ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الِاسْتِيقَاظَ وَقَعَ مَرَّتَيْنِ: فَفِي الْأُولَى نَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ تَلَا الْآيَاتِ ثُمَّ عَادَ لِمَضْجَعِهِ فَنَامَ، وَفِي الثَّانِيَةِ أَعَادَ ذَلِكَ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَصَلَّى، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي رِوَايَتِهِ الْمَذْكُورَةِ. وَفِي رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ كُرَيْبٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ اللَّيْلِ، فَأَتَى حَاجَتَهُ ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ ثُمَّ نَامَ، ثُمَّ قَامَ فَأَتَى الْقِرْبَةَ، الْحَدِيثَ. وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ سَلَمَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: ثُمَّ قَامَ قَوْمَةً أُخْرَى. وَعِنْدَهُ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ سَلَمَةَ: فَبَالَ بَدَلَ فَأَتَى حَاجَتَهُ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ) زَادَ مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ: ثُمَّ اسْتَفْرَغَ مِنَ الشَّنِّ فِي إِنَاءٍ ثُمَّ تَوَضَّأَ.
قَوْلُهُ: (فَأَحْسَنَ الْوُضُوءِ) فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَطَلْحَةَ بْنِ نَافِعٍ جَمِيعًا: فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ. وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ كُرَيْبٍ: فَتَوَضَّأَ وُضُوءًا خَفِيفًا، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فِي بَابِ تَخْفِيفِ الْوُضُوءِ. وَيُجْمَعُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ بِرِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ فَإِنَّ لَفْظَهُ: فَتَوَضَّأَ وُضُوءًا بَيْنَ وُضُوءَيْنِ لَمْ يُكْثِرْ وَقَدْ أَبْلَغَ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عِيَاضٍ، عَنْ مَخْرَمَةَ: فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ وَلَمْ يَمَسَّ مِنَ الْمَاءِ إِلَّا قَلِيلًا. وَزَادَ فِيهَا: فَتَسَوَّكَ. وَكَذَا لِشَرِيكٍ، عَنْ كُرَيْبٍ: فَاسْتَنَّ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ قُبَيْلَ كِتَابِ الْغُسْلِ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي) فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ: ثُمَّ أَخَذَ بُرْدًا لَهُ حَضْرَمِيًّا فَتَوَشَّحَهُ ثُمَّ دَخَلَ الْبَيْتَ فَقَامَ يُصَلِّي.
قَوْلُهُ: (فَصَنَعْتُ مِثْلَهُ) يَقْتَضِي أَنَّهُ صَنَعَ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْقَوْلِ وَالنَّظَرِ وَالْوُضُوءِ وَالسِّوَاكِ وَالتَّوَشُّحِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْأَغْلَبِ، وَزَادَ سَلَمَةُ عَنْ كُرَيْبٍ فِي الدَّعَوَاتِ فِي أَوَّلِهِ: فَقُمْتُ فَتَمَطَّيْتُ كَرَاهِيَةً أَنْ يَرَى أَنِّي كُنْتُ أَرْقُبُهُ، وَكَأَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يَتْرُكَ بَعْضِ عَمَلِهِ لِمَا جَرَى مِنْ عَادَتِهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَتْرُكُ بَعْضَ الْعَمَلِ خَشْيَةَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَى أُمَّتِهِ.
قَوْلُهُ: (وَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَبْوَابِ الْإِمَامَةِ مُسْتَوْفًى.
قَوْلُهُ: (وَأَخَذَ بِأُذُنِي) زَادَ مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي رِوَايَتِهِ: فَعَرَفْتُ أَنَّهُ إِنَّمَا صَنَعَ ذَلِكَ لِيُؤْنِسَنِي بِيَدِهِ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ. وَفِي رِوَايَةِ الضَّحَّاكِ بن عُثْمَانَ: فَجَعَلْتُ إِذَا أَغْفَيْتُ أَخَذَ بِشَحْمَةِ أُذُنِي. وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَخْذَ الْأُذُنِ إِنَّمَا كَانَ فِي حَالَةِ إِدَارَتِهِ لَهُ مِنَ الْيَسَارِ إِلَى الْيَمِينِ مُتَمَسِّكًا بِرِوَايَةِ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ الْآتِيَةِ فِي التَّفْسِيرِ حَيْثُ قَالَ: فَأَخَذَ بِأُذُنِي فَأَدَارَنِي عَنْ يَمِينِهِ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ إِدَارَتِهِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ أَنْ لَا يَعُودَ إِلَى مَسْكِ أُذُنِهِ لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ تَأْنِيسِهِ وَإِيقَاظِهِ؛ لِأَنَّ حَالَهُ كَانَتْ تَقْتَضِي ذَلِكَ لِصِغَرِ سِنِّهِ.
قَوْلُهُ: (فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ) كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ فَصَلَ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَوَقَعَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ طَلْحَةَ بْنِ نَافِعٍ حَيْثُ قَالَ فِيهَا: يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ التَّصْرِيحُ بِالْفَصْلِ أَيْضًا، وَأَنَّهُ اسْتَاكَ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. ثُمَّ إِنَّ رِوَايَةَ الْبَابِ فِيهَا التَّصْرِيحُ بِذِكْرِ الرَّكْعَتَيْنِ سِتَّ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ أَوْتَرَ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ صَلَّى ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ سَلَمَةَ الْآتِيَةِ فِي الدَّعَوَاتِ حَيْثُ قَالَ: فَتَتَامَّتْ، وَلِمُسْلِمٍ: فَتَكَامَلَتْ صَلَاتُهُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ الْمَاضِيَةِ فِي الْإِمَامَةِ عَنْ كُرَيْبٍ: فَصَلَّى ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ الْمَذْكُورَةِ مِثْلُهُ. وَزَادَ: وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَهِيَ مُوَافِقَةٌ لِرِوَايَةِ الْبَابِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ: ثُمَّ أَوْتَرَ: فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَاتَّفَقَ هَؤُلَاءِ عَلَى الثَّلَاثَ عَشْرَةَ، وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ رَكْعَتِيِ الْفَجْرِ مِنْ غَيْرِهَا، لَكِنْ رِوَايَةُ شَرِيكِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ الْآتِيَةُ فِي التَّفْسِيرِ عَنْ كُرَيْبٍ تُخَالِفُ ذَلِكَ وَلَفْظُهُ: فَصَلَّى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ.
فَهَذَا مَا فِي رِوَايَةِ كُرَيْبٍ مِنَ الِاخْتِلَافِ، وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ الْأَكْثَرَ خَالَفُوا شَرِيكًا فِيهَا، وَرِوَايَتُهُمْ مُقَدَّمَةٌ عَلَى رِوَايَتِهِ لِمَا مَعَهُمْ مِنَ الزِّيَادَةِ وَلِكَوْنِهِمْ أَحْفَظَ مِنْهُ، وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُهُمْ هَذِهِ الزِّيَادَةَ عَلَى سُنَّةِ الْعِشَاءِ، وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ وَلَا سِيَّمَا فِي رِوَايَةِ مَخْرَمَةَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ، إِلَّا إِنْ حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ أَخَّرَ سُنَّةَ الْعِشَاءِ حَتَّى اسْتَيْقَظَ، لَكِنْ يُعَكِّرُ
عَلَيْهِ رِوَايَةُ الْمِنْهَالِ الْآتِيَةُ قَرِيبًا، وَقَدِ اخْتُلِفَ عَلَى سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَيْضًا: فَفِي التَّفْسِيرِ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ عَنْهُ: فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ نَامَ ثُمَّ صَلَّى خَمْسَ رَكَعَاتٍ، وَقَدْ حَمَلَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ هَذِهِ الْأَرْبَعَ عَلَى أَنَّهَا سُنَّةُ الْعِشَاءِ لِكَوْنِهَا وَقَعَتْ قَبْلَ النَّوْمِ، لَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ هُوَ مِنْ طَرِيقِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فَإِنَّ فِيهِ: فَصَلَّى الْعِشَاءَ ثُمَّ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ بَعْدَهَا حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِي الْمَسْجِدِ غَيْرُهُ ثُمَّ انْصَرَفَ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ صَلَّى الْأَرْبَعَ فِي الْمَسْجِدِ لَا فِي الْبَيْتِ، وَرِوَايَةُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَيْضًا تَقْتَضِي الِاقْتِصَارَ عَلَى خَمْسِ رَكَعَاتٍ بَعْدَ النَّوْمِ وَفِيهِ نَظَرٌ، وَقَدْ رَوَاهَا أَبُو دَاوُدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْحَكَمِ وَفِيهِ: فَصَلَّى سَبْعًا أَوْ خَمْسًا أَوْتَرَ بِهِنَّ لَمْ يُسَلِّمْ إِلَّا فِي آخِرِهِنَّ.
وَقَدْ ظَهَرَ لِي مِنْ رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مَا يَرْفَعُ هَذَا الْإِشْكَالَ وَيُوَضِّحُ أَنَّ رِوَايَةَ الْحَكَمِ وَقَعَ فِيهَا تَقْصِيرٌ، فَعِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ عَبَّادِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، حَتَّى صَلَّى ثَمَان رَكَعَاتٍ ثُمَّ أَوْتَرَ بِخَمْسٍ لَمْ يَجْلِسْ بَيْنَهُنَّ، فَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ رِوَايَةِ سَعِيدٍ وَرِوَايَةِ كُرَيْبٍ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ: فَصَلَّى ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً مِنْهَا رَكْعَتَا الْفَجْرِ، فَهُوَ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي رِوَايَةِ كُرَيْبٍ، وَأَمَّا مَا فِي رِوَايَتِهِمَا مِنَ الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ، فَرِوَايَةُ سَعِيدٍ صَرِيحَةٌ فِي الْوَصْلِ، وَرِوَايَةُ كُرَيْبٍ مُحْتَمَلَةٌ فَتُحْمَلُ عَلَى رِوَايَةِ سَعِيدٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ طَلْحَةَ بْنِ نَافِعٍ: يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، فَيُحْتَمَلُ تَخْصِيصُهُ بِالثَّمَانِ فَيُوَافِقُ رِوَايَةَ سَعِيدٍ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ الْآتِيَةُ، وَلَمْ أَرَ فِي شيء طُرُقِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ الرُّوَاةِ عَنْهُ لَمْ يَذْكُرُوا عَدَدًا، وَمَنْ ذَكَرَ الْعَدَدَ مِنْهُمْ لَمْ يَزِدْ عَلَى ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَلَمْ يُنْقِصْ عَنْ إِحْدَى عَشْرَةَ، إِلَّا أَنَّ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ مَا يُخَالِفُهُمْ فَإِنَّ فِيهِ: فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أَطَالَ فِيهِمَا ثُمَّ انْصَرَفَ فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِسِتِّ رَكَعَاتٍ كُلَّ ذَلِكَ يَسْتَاكُ وَيَتَوَضَّأُ وَيَقْرَأُ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ - يَعْنِي آخِرَ آلِ عِمْرَانَ - ثُمَّ أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ، فَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ فَخَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ انْتَهَى.
فَزَادَ عَلَى الرُّوَاةِ تَكْرَارُ الْوُضُوءِ وَمَا مَعَهُ وَنَقَصَ عَنْهُمْ رَكْعَتَيْنِ أَوْ أَرْبَعًا، وَلَمْ يَذْكُرْ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ أَيْضًا، وَأَظُنُّ ذَلِكَ مِنَ الرَّاوِي عَنْهُ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ فَإِنَّ فِيهِ مَقَالًا، وَقَدِ اخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِي إِسْنَادِهِ وَمَتْنِهِ اخْتِلَافًا تَقَدَّمَ ذِكْرُ بَعْضِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَذْكُرِ الْأَرْبَعَ الْأُوَلَ كَمَا لَمْ يَذْكُرِ الْحِكَمَ الثَّمَانَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا سُنَّةُ الْفَجْرِ فَقَدْ ثَبَتَ ذِكْرُهَا فِي طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ قِصَّةَ مَبِيتِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ عَدَمُ تَعَدُّدِهَا، فَلِهَذَا يَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ مُخْتَلِفِ الرِّوَايَاتِ فِيهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَخْذَ بِمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ وَالْأَحْفَظُ أَوْلَى مِمَّا خَالَفَهُمْ فِيهِ مَنْ هُوَ دُونَهُمْ وَلَا سِيَّمَا إِنْ زَادَ أَوْ نَقَصَ، وَالْمُحَقَّقُ مِنْ عَدَدِ صَلَاتِهِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ إِحْدَى عَشْرَةَ، وَأَمَّا رِوَايَةُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا سُنَّةُ الْعِشَاءِ، وَوَافَقَ ذَلِكَ رِوَايَةُ أَبِي جَمْرَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْآتِيَةُ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ بِلَفْظِ: كَانَتْ صَلَاةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ عَشْرَةَ، يَعْنِي بِاللَّيْلِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هَلْ سُنَّةُ الْفَجْرِ مِنْهَا أَوْ لَا، وَبَيَّنَهَا يَحْيَى بْنُ الْجَزَّارِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ بِلَفْظِ: كَانَ يُصَلِّي ثَمَان رَكَعَاتٍ وَيُوتِرُ بِثَلَاثٍ، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَلَا يُعَكِّرُ عَلَى هَذَا الْجَمْعِ إِلَّا ظَاهِرُ سِيَاقِ الْبَابِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُحمَلَ قَوْلُهُ: صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، أَيْ: قَبْلَ أَنْ يَنَامَ، وَيَكُونُ مِنْهَا سُنَّةُ الْعِشَاءِ.
وَقَوْلُهُ: ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ إِلَخْ أَيْ بَعْدَ أَنْ قَامَ. وَسَيَأْتِي نَحْوُ هَذَا الْجَمْعِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي أَبْوَابِ صَلَاةِ اللَّيْلِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَجَمَعَ الْكِرْمَانِيُّ بَيْنَ مَا اخْتَلَفَ مِنْ رِوَايَاتِ قِصَّةِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذِهِ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ رُوَاتِهِ ذَكَرَ الْقَدْرَ الَّذِي اقْتَدَى ابْنُ عَبَّاسٍ بِهِ فِيهِ، وَفَصَلَهُ عَمَّا لَمْ يَقْتَدِ بِهِ فِيهِ، وَبَعْضُهُمْ ذَكَرَ الْجَمِيعَ مُجْمَلًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى جَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ) تَقَدَّمَتْ تَسْمِيَةُ الْمُؤَذِّنِ قَرِيبًا، وَسَيَأْتِي بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي الِاضْطِجَاعِ هَلْ كَانَ قَبْلَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ أَوْ بَعْدَهَا فِي أَوَائِلِ أَبْوَابِ التَّطَوُّعِ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ خَرَجَ) أَيْ إِلَى الْمَسْجِدِ
(فَصَلَّى الصُّبْحَ) أَيْ بِالْجَمَاعَةِ، وَزَادَ سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ، عَنْ كُرَيْبٍ هُنَا كَمَا سَيَأْتِي فِي الدَّعَوَاتِ، وَكَانَ مِنْ دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا. الْحَدِيثَ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ أَبْوَابِ صَلَاةِ اللَّيْلِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ جَوَازُ إِعْطَاءِ بَنِي هَاشِمٍ مِنَ الصَّدَقَةِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّطَوُّعِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِعْطَاؤُهُ الْعَبَّاسَ لِيَتَوَلَّى صَرْفَهُ فِي مَصَالِحِ غَيْرِهِ مِمَّنْ يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ ذَلِكَ. وَفِيهِ جَوَازُ تَقَاضِي الْوَعْدِ وَإِنْ كَانَ مَنْ وَعَدَ بِهِ مَقْطُوعًا بِوَفَائِهِ. وَفِيهِ الْمُلَاطَفَةُ بِالصَّغِيرِ وَالْقَرِيبِ وَالضَّيْفِ، وَحُسْنُ الْمُعَاشَرَةِ لِلْأَهْلِ، وَالرَّدُّ عَلَى مَنْ يُؤْثِرُ دَوَامَ الِانْقِبَاضِ. وَفِيهِ مَبِيتُ الصَّغِيرِ عِنْدَ مَحْرَمِهِ وَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا عِنْدَهَا، وَجَوَازُ الِاضْطِجَاعِ مَعَ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ، وَتَرْكُ الِاحْتِشَامِ فِي ذَلِكَ بِحَضْرَةِ الصَّغِيرِ وَإِنْ كَانَ مُمَيِّزًا بَلْ مُرَاهِقًا.
وَفِيهِ صِحَّةُ صَلَاةِ الصَّبِيِّ وَجَوَازُ فَتْلِ أُذُنِهِ لِتَأْنِيسِهِ وَإِيقَاظِهِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمُتَعَلِّمَ إِذْ تُعُوهِدَ بِفَتْلِ أُذُنِهِ كَانَ أَذْكَى لِفَهْمِهِ، وَفِيهِ حَمْلُ أَفْعَالِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ وَمَشْرُوعِيَّةُ التَّنَفُّلِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَفَضْلُ صَلَاةِ اللَّيْلِ وَلَا سِيَّمَا فِي النِّصْفِ الثَّانِي، وَالْبَدَاءَةُ بِالسِّوَاكِ وَاسْتِحْبَابُهُ عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ وَعِنْدَ كُلّ صَلَاةٍ، وَتِلَاوَةُ آخِرِ آلِ عِمْرَانَ عِنْدَ الْقِيَامِ إِلَى صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَاسْتِحْبَابُ غَسْلِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ النَّوْمَ وَهُوَ مُحْدِثٌ، وَلَعَلَّهُ الْمُرَادُ بِالْوُضُوءِ لِلْجُنُبِ
(1)
. وَفِيهِ جَوَازُ الِاغْتِرَافِ مِنَ الْمَاءِ الْقَلِيلِ؛ لِأَنَّ الْإِنَاءَ الْمَذْكُورَ كَانَ قَصْعَةً أَوْ صَحْفَةً، وَاسْتِحْبَابُ التَّقْلِيلِ مِنَ الْمَاءِ فِي التَّطْهِيرِ مَعَ حُصُولِ الْإِسْبَاغِ، وَجَوَازُ التَّصْغِيرِ وَالذِّكْرِ بِالصِّفَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ السَّمَرِ فِي الْعِلْمِ حَيْثُ قَالَ: نَامَ الْغُلَيِّمُ، وَبَيَانُ فَضْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقُوَّةِ فَهْمِهِ وَحِرْصِهِ عَلَى تَعَلُّمِ أَمْرِ الدِّينِ وَحُسْنِ تَأَتِّيهِ فِي ذَلِكَ. وَفِيهِ اتِّخَاذُ مُؤَذِّنٍ رَاتِبٍ لِلْمَسْجِدِ، وَإِعْلَامُ الْمُؤَذِّنِ الْإِمَامَ بِحُضُورِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَاسْتِدْعَاؤُهُ لَهَا، وَالِاسْتِعَانَةُ بِالْيَدِ فِي الصَّلَاةِ وَتَكْرَارُ ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الصَّلَاةِ. وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الْجَمَاعَةِ فِي النَّافِلَةِ، وَالِائْتِمَامُ بِمَنْ لَمْ يَنْوِ الْإِمَامَةَ، وَبَيَانُ مَوْقِفِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ كُلُّ ذَلِكَ فِي أَبْوَابِ الْإِمَامَةِ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي كَرَاهِيَةِ الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ لَيْسَتْ عَلَى الْعُمُومِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ نَوْمَهُ كَانَ لَا يَنْقُضُ وُضُوءَهُ فَلَا يَتِمُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ أَنَّهُ قَرَأَ الْآيَاتِ بَيْنَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ وَالْوُضُوءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَأَمَّا طَرِيقُ ابْنِ عُمَرَ الثَّانِيَةُ فَالْقَاسِمُ الْمَذْكُورُ فِي إِسْنَادِهِ هُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: فَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَنْصَرِفَ فَارْكَعْ رَكْعَةً فِيهِ دَفْعٌ لِقَوْلِ مَنِ ادَّعَى أَنَّ الْوِتْرَ بِوَاحِدَةٍ مُخْتَصٌّ بِمَنْ خَشِيَ طُلُوعَ الْفَجْرِ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِإِرَادَةِ الِانْصِرَافِ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِخَشْيَةِ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: قَالَ الْقَاسِمُ هُوَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، كَذَلِكَ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجِهِ، وَوَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُعَلَّقٌ. وَقَوْلُهُ فِيهِ: مُنْذُ أَدْرَكْنَا أَيْ بَلَغْنَا الْحُلُمَ أَوْ عَقَلْنَا، وَقَوْلُهُ: يُوتِرُونَ بِثَلَاثٍ وَأَنَّ كُلًّا لَوَاسِعٌ يَقْتَضِي أَنَّ الْقَاسِمَ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: فَارْكَعْ رَكْعَةً أَيْ مُنْفَرِدَةً مُنْفَصِلَةً، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ الْوَصْلِ وَالْفَصْلِ فِي الْوِتْرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَقَدْ أَعَادَهُ الْمُصَنِّفُ إِسْنَادًا وَمَتْنًا فِي كِتَابِ صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِإِيرَادِهِ هُنَا أَنْ لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، إِذْ ظَاهِرُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَصْلُ الْوِتْرِ وَهَذَا مُحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَ الْقَاسِمُ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْأَمْرَيْنِ وَاسِعٌ فَشَمِلَ
(1)
هذا الترجي ليس بجيد، لصحة الأحاديث وصراحتها في أن الوضوء الذي أمر به الجنب قبل أن ينام وهو وضوء الصلاة فتنبه، والله أعلم
الْفَصْلَ وَالْوَصْلَ وَالِاقْتِصَارَ عَلَى وَاحِدَةٍ وَأَكْثَرَ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: قَوْلُهُ: وَأَنَّ كُلًّا أَيْ وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الرَّكْعَةِ وَالثَّلَاثِ وَالْخَمْسِ وَالسَّبْعِ وَغَيْرِهَا جَائِزٌ، وَأَمَّا تَعْيِينُ الثَّلَاثِ مَوْصُولَةٍ وَمَفْصُولَةٍ فَلَمْ يَشْمَلْهُ كَلَامُهُ؛ لِأَنَّ الْمُخَالِفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ يَحْمِلُ كُلَّ مَا وَرَدَ مِنَ الثَّلَاثِ عَلَى الْوَصْلِ، مَعَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحَادِيثِ ظَاهِرٌ فِي الْفَصْلِ كَحَدِيثِ عَائِشَةَ: يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ الرَّكْعَتَانِ اللَّتَانِ قَبْلَ الْأَخِيرَةِ فَهُوَ كَالنَّصِّ فِي مَوْضِعِ النِّزَاعِ، وَحَمَلَ الطَّحَاوِيُّ هَذَا وَمِثْلَهُ عَلَى أَنَّ الرَّكْعَةَ مَضْمُومَةٌ إِلَى الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَهَا، وَلَمْ يَتَمَسَّكْ فِي دَعْوَى ذَلِكَ إِلَّا بِالنَّهْيِ عَنِ الْبُتَيْرَاءِ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْبُتَيْرَاءِ أَنْ يُوتِرَ بِوَاحِدَةٍ فَرْدَةٍ لَيْسَ قَبْلَهَا شَيْءٌ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْوَصْلَ أَوِ الْفَصْلَ، وَصَرَّحَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَنَّ الْفَصْلَ يَقْطَعُهُمَا عَنْ أَنْ يَكُونَا مِنْ جُمْلَةِ الْوِتْرِ، وَمَنْ خَالَفَهُمْ يَقُولُ: إِنَّهُمَا مِنْهُ بِالنِّيَّةِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
2 - بَاب سَاعَاتِ الْوِتْرِ
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَوْصَانِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْوِتْرِ قَبْلَ النَّوْمِ
995 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ سِيرِينَ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: أَرَأَيْتَ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ أُطِيلُ فِيهِمَا الْقِرَاءَةَ؟ فَقَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، وَيُوتِرُ بِرَكْعَةٍ، وَيُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ، وَكَأَنَّ الْأَذَانَ بِأُذُنَيْهِ. قَالَ حَمَّادٌ: أَيْ سُرْعَةً.
996 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي مُسْلِمٌ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ " كُلَّ اللَّيْلِ أَوْتَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَانْتَهَى وِتْرُهُ إِلَى السَّحَرِ "
قَوْلُهُ: (بَابُ سَاعَاتِ الْوِتْرِ) أَيْ أَوْقَاتُهُ. وَمُحَصَّلُ مَا ذَكَرَهُ أَنَّ اللَّيْلَ كُلَّهُ وَقْتٌ لِلْوِتْرِ، لَكِنْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ ابْتِدَاءَهُ مَغِيبُ الشَّفَقِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، كَذَا نَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. لَكِنْ أَطْلَقَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يَدْخُلُ بِدُخُولِ الْعِشَاءِ، قَالُوا: وَيَظْهَرُ أَثَرُ الْخِلَافِ فِيمَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ، وَبَانَ أَنَّهُ كَانَ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ، ثُمَّ صَلَّى الْوِتْرَ مُتَطَهِّرًا أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ صَلَّى الْعِشَاءَ فَصَلَّى الْوِتْرَ فَإِنَّهُ يُجْزِئُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ دُونَ الْأَوَّلِ، وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ وَصِيَّةِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِالْوِتْرِ قَبْلَ النَّوْمِ وَبَيْنَ قَوْلِ عَائِشَةَ: وَانْتَهَى وِتْرُهُ إِلَى السَّحَرِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لِإِرَادَةِ الِاحْتِيَاطِ، وَالْآخِرَ لِمَنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ قُوَّةً، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَلَفْظُهُ: مَنْ طَمِعَ مِنْكُمُ أَنْ يَقُومَ آخِرَ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ مِنْ آخِرِهِ، فَإِنَّ صَلَاةَ آخِرِ اللَّيْلِ مَشْهُودَةٌ. وَذَلِكَ أَفْضَلُ. وَمَنْ خَافَ مِنْكُمُ أَنْ لَا يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ مِنْ أَوَّلِهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ، وَأَخْرَجَهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ التَّعْلِيقِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قَوْلُهُ: (أَرَأَيْتَ) أَيْ أَخْبِرْنِي.
قَوْلُهُ: (نُطِيلُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِنُونِ الْجَمْعِ، ولِلكُشْمِيهَنِيِّ أُطِيلُ بِالْإِفْرَادِ، وَجَوَّزَ الْكِرْمَانِيُّ فِي: أُطِيلُ أَنْ يَكُونَ بِلَفْظٍ مَجْهُولِ الْمَاضِي وَمَعْرُوفِ الْمُضَارِعِ، وَفِي الْأَوَّلِ بُعْدٌ.
قَوْلُهُ: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى) اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى فَضْلِ الْفَصْلِ لِكَوْنِهِ أَمَرَ بِذَلِكَ وَفَعَلَهُ، وَأَمَّا الْوَصْلُ فَوَرَدَ مِنْ فِعْلِهِ فَقَطْ.
قَوْلُهُ: (وَيُوتِرُ بِرَكْعَةٍ) لَمْ يُعَيِّنْ وَقْتَهَا، وَبَيَّنَتْ عَائِشَةُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ اللَّيْلِ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ مَا سَيُذْكَرُ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.
قَوْلُهُ: (وَكَأَنَّ) بِتَشْدِيدِ النُّونِ.
قَوْلُهُ: (بِأُذُنَيْهِ) أَيْ لِقُرْبِ صَلَاتِهِ مِنَ الْأَذَانِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْإِقَامَةُ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ يُسْرِعُ بِرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ إِسْرَاعَ مَنْ يَسْمَعُ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ خَشْيَةَ فَوَاتِ أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ تَخْفِيفُ الْقِرَاءَةِ فِيهِمَا، فَيَحْصُلُ بِهِ الْجَوَابُ عَنْ سُؤَالِ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ قَدْرِ الْقِرَاءَةِ فِيهِمَا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: أَنَّ أَنَسًا قَالَ لِابْنِ عُمَرَ: إِنِّي لَسْتُ عَنْ هَذَا أَسْأَلُكَ، قَالَ: إِنَّكَ لَضَخْمٌ أَلَا تَدَعُنِي أَسْتَقْرِئُ لَكَ الْحَدِيثَ. وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا جَوَابُ السَّائِلِ بِأَكْثَرَ مِمَّا سَأَلَ عَنْهُ إِذَا كَانَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَمِنْ قَوْلِهِ: إِنَّكَ لَضَخْمٌ أَنَّ السَّمِينَ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ قَلِيلَ الْفَهْمِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ حَمَّادٌ) أَيِ ابْنُ زَيْدٍ الرَّاوِي، وَهُوَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ.
قَوْلُهُ: (بِسُرْعَةٍ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَأَبِي الْوَقْتِ، وَابْنِ شَبُّوَيْهِ، وَلِغَيْرِهِمْ: سُرْعَةٌ بِغَيْرِ مُوَحَّدَةٍ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ مِنَ الرَّاوِي لِقَوْلِهِ: كَانَ الْأَذَانُ بِأُذُنَيْهِ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا تَقَدَّمَ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبِي) هُوَ حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، وَمُسْلِمٌ هُوَ أَبُو الضُّحَى لَا ابْنُ كَيْسَانَ.
قَوْلُهُ: (كُلَّ اللَّيْلِ) بِنَصْبِ كُلِّ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ. وَبِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَالْجُمْلَةُ خَبَرُهُ، وَالتَّقْدِيرُ: أَوْتَرَ فِيهِ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ: مِنْ كُلِّ اللَّيْلِ قَدْ أَوْتَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ وَأَوْسَطِهِ وَآخِرِهِ فَانْتَهَى وِتْرُهُ إِلَى السَّحَرِ، وَالْمُرَادُ بِأَوَّلِهِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ.
قَوْلُهُ: (إِلَى السَّحَرِ) زَادَ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ: حِينَ مَاتَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ وَقْتِ الْوِتْرِ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، فَحَيْثُ أَوْتَرَ فِي أَوَّلِهِ لَعَلَّهُ كَانَ وَجَعًا، وَحَيْثُ أَوْتَرَ وَسَطَهُ لَعَلَّهُ كَانَ مُسَافِرًا، وَأَمَّا وِتْرُهُ فِي آخِرِهِ فَكَأَنَّهُ كَانَ غَالِبَ أَحْوَالِهِ، لِمَا عُرِفَ مِنْ مُوَاظَبَتِهِ عَلَى الصَّلَاةِ فِي أَكْثَرِ اللَّيْلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالسَّحَرُ قُبَيْلَ الصُّبْحِ، وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّهُ السُّدُسُ الْأَخِيرُ، وَقِيلَ: أَوَّلُهُ الْفَجْرُ الْأَوَّلُ، وَفِي رِوَايَةِ طَلْحَةَ بْنِ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ: فَلَمَّا انْفَجَرَ الْفَجْرُ قَامَ فَأَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ. قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: الْمُرَادُ بِهِ الْفَجْرُ الْأَوَّلُ، وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ مَرْفُوعًا: زَادَنِي رَبِّي صَلَاةً وَهِيَ الْوِتْرُ، وَقْتُهَا مِنَ الْعِشَاءِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ خَارِجَةَ بْنِ حُذَافَةَ فِي السُّنَنِ، وَهُوَ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الْوِتْرِ، وَلَيْسَ صَرِيحًا فِي الْوُجُوبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا حَدِيثُ بُرَيْدَةَ رَفَعَهُ: الْوِتْرُ حَقٌّ، فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا، وَأَعَادَ ذَلِكَ ثَلَاثًا. فَفِي سَنَدِهِ أَبُو الْمُنِيبِ وَفِيهِ ضَعْفٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِ قَبُولِهِ فَيَحْتَاجُ مَنِ احْتَجَّ بِهِ إِلَى أَنْ يُثْبِتَ أَنَّ لَفْظَ: حَقٍّ بِمَعْنَى وَاجِبٍ فِي عُرْفِ الشَّارِعِ، وَأَنَّ لَفْظَ وَاجِبٍ بِمَعْنَى مَا ثَبَتَ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ.
3 - بَاب إِيقَاظِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَهْلَهُ بِالْوِتْرِ
997 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي وَأَنَا رَاقِدَةٌ مُعْتَرِضَةً عَلَى فِرَاشِهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ أَيْقَظَنِي فَأَوْتَرْتُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِيقَاظِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَهْلَهُ بِالْوِتْرِ). فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ. لِلْوِتْرِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) هُوَ الْقَطَّانُ، وَهِشَامٌ هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ.
قَوْلُهُ: (وَأَنَا رَاقِدَةٌ مُعْتَرِضَةٌ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي سُتْرَةِ الْمُصَلِّي.
قَوْلُهُ: (أَيْقَظَنِي فَأَوْتَرْتُ) أَيْ فَقُمْتُ فَتَوَضَّأْتُ فَأَوْتَرْتُ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى اسْتِحْبَابِ جَعْلِ الْوِتْرِ آخِرَ اللَّيْلِ سَوَاءٌ الْمُتَهَجِّدُ وَغَيْرُهُ، وَمَحَلُّهُ إِذَا وَثِقَ أَنْ يَسْتَيْقِظَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِإِيقَاظِ غَيْرِهِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ الْوِتْرِ لِكَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم سَلَكَ بِهِ مَسْلَكَ الْوَاجِبِ حَيْثُ لَمْ يَدَعْهَا نَائِمَةً لِلْوِتْرِ وَأَبْقَاهَا لِلتَّهَجُّدِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْوُجُوبُ، نَعَمْ يَدُلُّ عَلَى تَأَكُّدِ أَمْرِ الْوِتْرِ، وَأَنَّهُ فَوْقَ غَيْرِهِ مِنَ النَّوَافِلِ اللَّيْلِيَّةِ، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ إِيقَاظِ النَّائِمِ لِإِدْرَاكِ الصَّلَاةِ، وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالْمَفْرُوضَةِ وَلَا بِخَشْيَةِ
خُرُوجِ الْوَقْتِ بَلْ يُشْرَعُ ذَلِكَ لِإِدْرَاكِ الْجَمَاعَةِ وَإِدْرَاكِ أَوَّلِ الْوَقْتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَنْدُوبَاتِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ وَاجِبٌ فِي الْوَاجِبِ مَنْدُوبٌ فِي الْمَنْدُوبِ، لِأَنَّ النَّائِمَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا لَكِنْ مَانِعُهُ سَرِيعُ الزَّوَالِ، فَهُوَ كَالْغَافِلِ، وَتَنْبِيهُ الْغَافِلِ وَاجِبٌ.
4 - بَاب لِيَجْعَلْ آخِرَ صَلَاتِهِ وِتْرًا
998 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا.
قَوْلُهُ: (بَابُ لِيَجْعَلَ آخِرَ صَلَاتِهِ وِتْرًا) أَيْ بِاللَّيْلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ الْبَابِ فِي أَثْنَاءِ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِهِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ لَيْسَتْ وَاجِبَةً فَكَذَا آخِرُهُ، وَبِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْوُجُوبِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُهُ.
5 - بَاب الْوِتْرِ عَلَى الدَّابَّةِ
999 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَسِيرُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بِطَرِيقِ مَكَّةَ، فَقَالَ سَعِيدٌ: فَلَمَّا خَشِيتُ الصُّبْحَ نَزَلْتُ فَأَوْتَرْتُ ثُمَّ لَحِقْتُهُ، فَقَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: أَيْنَ كُنْتَ؟ فَقُلْتُ: خَشِيتُ الصُّبْحَ فَنَزَلْتُ فَأَوْتَرْتُ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَلَيْسَ لَكَ فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِسْوَةٌ حَسَنَةٌ؟ فَقُلْتُ: بَلَى وَاللَّهِ. قَالَ: فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُوتِرُ عَلَى الْبَعِيرِ.
[الحديث 999 - أطرافه في 1000، 1095، 1096، 1098، 1105]
قَوْلُهُ: (بَابُ الْوِتْرِ عَلَى الدَّابَّةِ) لَمَّا كَانَ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي إِيقَاظِهَا لِلْوِتْرِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي الْأَمْرِ بِالْوِتْرِ آخِرَ اللَّيْلِ قَدْ تَمَسَّكَ بِهِمَا بَعْضُ مَنِ ادَّعَى وُجُوبَ الْوِتْرِ عَقَّبَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، فَذَكَرَهُ فِي تَرْجَمَتَيْنِ. إِحْدَاهُمَا تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ نَفْلًا، وَالثَّانِيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ آكَدُ مِنْ غَيْرِهِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عُمَرَ) لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ، وَهُوَ ثِقَةٌ لَيْسَ لَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ.
قَوْلُهُ: (أَمَا لَكَ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ) فِيهِ إِرْشَادُ الْعَالِمِ لِرَفِيقِهِ مَا قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ مِنَ السُّنَنِ.
قَوْلُهُ: (بَلَى وَاللَّهِ) فِيهِ الْحَلِفُ عَلَى الْأَمْرِ الَّذِي يُرَادُ تَأْكِيدُهُ.
قَوْلُهُ: (كَانَ يُوتِرُ عَلَى الْبَعِيرِ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: تُرْجِمَ بِالدَّابَّةِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْبَعِيرِ فِي الْحُكْمِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْفَرْضَ لَا يُجْزِئُ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا. انْتَهَى.
وَلَعَلَّ الْبُخَارِيُّ أَشَارَ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ، فَسَيَأْتِي فِي أَبْوَابِ تَقْصِيرِ الصَّلَاةِ مِنْ طَرِيقِ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ عَلَى دَابَّتِهِ وَهُوَ مُسَافِرٌ وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ: قَالَ حَدَّثَنَا نَافِعٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُوتِرُ عَلَى دَابَّتِهِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَأَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُخْبِرُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ.
(فَائِدَةٌ): قَالَ الطَّحَاوِيُّ ذُكِرَ عَنِ الْكُوفِيِّينَ أَنَّ الْوِتْرَ لَا يُصَلَّى عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَهُوَ خِلَافُ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِرِوَايَةِ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ رَأَى ابْنَ عُمَرَ نَزَلَ فَأَوْتَرَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُعَارِضٍ لِكَوْنِهِ أَوْتَرَ عَلَى الرَّاحِلَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا نِزَاعَ أَنَّ صَلَاتَهُ عَلَى الْأَرْضِ أَفْضَلُ، وَرَوَى
عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يُوتِرُ عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَرُبَّمَا نَزَلَ فَأَوْتَرَ بِالْأَرْضِ.
6 - بَاب الْوِتْرِ فِي السَّفَرِ
1000 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي السَّفَرِ عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ، يُومِئُ إِيمَاءً صَلَاةَ اللَّيْلِ إِلَّا الْفَرَائِضَ، وَيُوتِرُ عَلَى رَاحِلَتِهِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْوِتْرِ فِي السَّفَرِ) أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يُسَنُّ فِي السَّفَرِ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنِ الضَّحَّاكِ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: لَوْ كُنْتُ مُسَبِّحًا فِي السَّفَرِ لَأَتْمَمْتُ. كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْهُ فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ رَاتِبَةَ الْمَكْتُوبَةِ لَا النَّافِلَةَ الْمَقْصُودَةَ كَالْوِتْرِ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ مِنْ سِيَاقِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، فَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِلَفْظِ: سَافَرْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، فَكَانُوا يُصَلُّونَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، لَا يُصَلُّونَ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا، فَلَوْ كُنْتُ مُصَلِّيًا قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا لَأَتْمَمْتُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ نَوَافِلِ النَّهَارِ وَنَوَافِلِ اللَّيْلِ، فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَتَنَفَّلُ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَعَلَى دَابَّتِهِ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ مُسَافِرٌ، وَقَدْ قَالَ مَعَ ذَلِكَ مَا قَالَ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا الْفَرَائِضَ) أَيْ لَكِنِ الْفَرَائِضُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَكَانَ لَا يُصَلِّيهَا عَلَى الرَّاحِلَةِ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ لَيْسَ بِفَرْضٍ، وَعَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وُجُوبُ الْوِتْرِ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ أَوْقَعَهُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّهُ كَانَ مِنْ خَصَائِصِهِ أَيْضًا أَنْ يُوقِعَهُ عَلَى الرَّاحِلَةِ مَعَ كَوْنِهِ وَاجِبًا عَلَيْهِ، فَهِيَ دَعْوَى لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ دَلِيلُ وُجُوبِهِ عَلَيْهِ حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى تَكَلُّفِ هَذَا الْجَمْعِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْفَرِيضَةَ لَا تُصَلَّى عَلَى الرَّاحِلَةِ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَوِيٍّ، لِأَنَّ التَّرْكَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ دُخُولَ وَقْتِ الْفَرِيضَةِ مِمَّا يَكْثُرُ عَلَى الْمُسَافِرِ، فَتَرْكُ الصَّلَاةِ لَهَا عَلَى الرَّاحِلَةِ دَائِمًا يُشْعِرُ بِالْفَرْقِ بَيْنهَا وَبَيْنَ النَّافِلَةِ فِي الْجَوَازِ وَعَدَمِهِ.
وَأَجَابَ مَنِ ادَّعَى وُجُوبَ الْوِتْرِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ الْفَرْضَ عِنْدَهُمْ غَيْرُ الْوَاجِبِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْفَرْضِ نَفْيُ الْوَاجِبِ، وَهَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ، وَقَدْ بَالَغَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فَادَّعَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ انْفَرَدَ بِوُجُوبِ الْوِتْرِ وَلَمْ يُوَافِقْهُ صَاحِبَاهُ، مَعَ أَنَّ ابْنَ شَيْبَةَ أَخْرَجَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَالضَّحَّاكِ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهِ عِنْدَهُمْ، وَعِنْدَهُ عَنْ مُجَاهِدٍ الْوِتْرُ وَاجِبٌ وَلَمْ يَثْبُتْ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، عَنْ أَصْبَغَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَوَافَقَهُ سَحْنُونُ، وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ: مَنْ تَرَكَهُ أُدِّبَ، وَكَانَ جَرْحَةً فِي شَهَادَتِهِ.
7 - بَاب الْقُنُوتِ قَبْلَ الرُّكُوعِ وَبَعْدَهُ
1001 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ قَالَ: سُئِلَ أَنَسُ: أَقَنَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الصُّبْحِ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقِيلَ لَهُ: أَوَقَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ؟ قَالَ: بَعْدَ الرُّكُوعِ يَسِيرًا.
[الحديث 1001 - أطرافه في: 7341. 6394. 4096. 4095. 4094. 4092. 4091. 4090. 4098. 4088. 3170. 3064. 2814. 2801. 1300. 1003. 1002]
1002 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ قَالَ سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنْ الْقُنُوتِ فَقَالَ قَدْ كَانَ الْقُنُوتُ قُلْتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ قَالَ قَبْلَهُ قَالَ فَإِنَّ فُلَانًا أَخْبَرَنِي عَنْكَ أَنَّكَ قُلْتَ
بَعْدَ الرُّكُوعِ، فَقَالَ: كَذَبَ، إِنَّمَا قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الرُّكُوعِ شَهْرًا، أُرَاهُ كَانَ بَعَثَ قَوْمًا يُقَالُ لَهُمْ: الْقُرَّاءُ زُهَاءَ سَبْعِينَ رَجُلًا إِلَى قَوْمٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ دُونَ أُولَئِكَ وَكَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَهْدٌ، فَقَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَهْرًا يَدْعُو عَلَيْهِمْ.
1003 -
أخبرنا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَائِدَةُ، عَنْ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، عَنْ أَنَسِ، قَالَ: قَنَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَهْرًا يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ.
1004 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ " كَانَ الْقُنُوتُ فِي الْمَغْرِبِ وَالْفَجْرِ "
قَوْلُهُ: (بَابُ الْقُنُوتِ قَبْلَ الرُّكُوعِ وَبَعْدَهُ) الْقُنُوتُ يُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الدُّعَاءُ فِي الصَّلَاةِ فِي مَحَلٍّ مَخْصُوصٍ مِنَ الْقِيَامِ. قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: أَثْبَتَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ مَشْرُوعِيَّةَ الْقُنُوتِ إِشَارَةً إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ رَوَى عَنْهُ أَنَّهُ بِدْعَةٌ كَابْنِ عُمَرَ، وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَقْنُتُ فِي شَيْءٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ، وَوَجْهُ الرَّدِّ عَلَيْهِ ثُبُوتُهُ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ مُرْتَفِعٌ عَنْ دَرَجَةِ الْمُبَاحِ، قَالَ: وَلَمْ يُقَيِّدْهُ فِي التَّرْجَمَةِ بِصُبْحٍ وَلَا غَيْرِهِ مَعَ كَوْنِهِ مُقَيَّدًا فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ بِالصُّبْحِ، وَأَوْرَدَهَا
(1)
فِي أَبْوَابِ الْوِتْرِ أَخْذًا مِنْ إِطْلَاقِ أَنَسٍ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ، كَذَا قَالَ، وَيَظْهَرُ لِي أَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى قَوْلِهِ فِي الطَّرِيقِ الرَّابِعَةِ: كَانَ الْقُنُوتُ فِي الْفَجْرِ وَالْمَغْرِبِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ الْمَغْرِبَ وِتْرُ النَّهَارِ، فَإِذَا ثَبَتَ الْقُنُوتُ فِيهَا ثَبَتَ فِي وِتْرِ اللَّيْلِ بِجَامِعِ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْوِتْرِيَّةِ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِهِ صَرِيحًا فِي الْوِتْرِ، فَرَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَلِمَاتٍ أَقُولهُنَّ فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ: اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ الْحَدِيثَ. وَقَدْ صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ لَكِنْ لَيْسَ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ.
قَوْلُهُ: (سُئِلَ أَنَسٌ) فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَيُّوبَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: قُلْتُ لِأَنَسٍ فَعُرِفَ بِذَلِكَ أَنَّهُ أَبْهَمَ نَفْسَهُ.
قَوْلُهُ: (فَقِيلَ: أَوْ قَنَتَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِغَيْرِ وَاوٍ، وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ هَلْ قَنَتَ.
قَوْلُهُ: (قَبْلَ الرُّكُوعِ) زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: أَوْ بَعْدَ الرُّكُوعِ.
قَوْلُهُ: (بَعْدَ الرُّكُوعِ يَسِيرًا) قَدْ بَيَّنَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَتِهِ مِقْدَارَ هَذَا الْيَسِيرِ حَيْثُ قَالَ فِيهَا: إِنَّمَا قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ شَهْرًا، وَفِي صَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَقْنُتُ إِلَّا إِذَا دَعَا لِقَوْمٍ أَوْ دَعَا عَلَى قَوْمٍ، وَكَأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا بَعْدَ الرُّكُوعِ. بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَصْرِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا قَنَتَ شَهْرًا، أَيْ: مُتَوَالِيًا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ) هُوَ ابْنُ زِيَادٍ، وَعَاصِمٌ هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلِ.
قَوْلُهُ: (قَدْ كَانَ الْقُنُوتُ)، فِيهِ إِثْبَاتُ مَشْرُوعِيَّتِهِ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا تَقَدَّمَ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: فَإِنَّ فُلَانًا أَخْبَرَنِي عَنْكَ أَنَّكَ قُلْتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ، فَقَالَ: كَذَبَ) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَةِ هَذَا الرَّجُلِ صَرِيحًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ بِدَلِيلِ رِوَايَتِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَإِنَّ مَفْهُومَ قَوْلِهِ: بَعْدَ الرُّكُوعِ يَسِيرًا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَقَبْلَ الرُّكُوعِ كَثِيرًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَا قُنُوتَ قَبْلَهَ أَصْلًا، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: كَذَبَ، أَيْ: أَخْطَأَ، وَهُوَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، يُطْلِقُونَ الْكَذِبَ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: كَذَبَ أَيْ إِنْ كَانَ حَكَى أَنَّ الْقُنُوتَ دَائِمًا بَعْدَ الرُّكُوعِ، وَهَذَا يُرَجِّحُ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ، وَيُبَيِّنُهُ
(1)
أنث الضمير هنا لأنه أراد الترجمة، فتنبه
مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْقُنُوتِ فَقَالَ: قَبْلَ الرُّكُوعِ وَبَعْدَهُ إِسْنَادُهُ قَوِيٌّ، وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَنَتُوا فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ قَبْلَ الرُّكُوعِ، وَبَعْضَهُمْ بَعْدَ الرُّكُوعِ.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ أَوَّلَ مَنْ جَعَلَ الْقُنُوتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ - أَيْ دَائِمًا - عُثْمَانُ، لِكَيْ يُدْرِكَ النَّاسُ الرَّكْعَةَ، وَقَدْ وَافَقَ عَاصِمًا عَلَى رِوَايَتِهِ هَذِهِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي بِلَفْظِ: سَأَلَ رَجُلٌ أَنَسًا عَنِ الْقُنُوتِ بَعْدَ الرُّكُوعِ أَوْ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْقِرَاءَةِ؟ قَالَ: لَا بَلْ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْقِرَاءَةِ، وَمَجْمُوعُ مَا جَاءَ عَنْ أَنَسٍ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْقُنُوتَ لِلْحَاجَةِ بَعْدَ الرُّكُوعِ لَا خِلَافَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا لِغَيْرِ الْحَاجَةِ فَالصَّحِيحُ عَنْهُ أَنَّهُ قَبْلَ الرُّكُوعِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ عَمَلُ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنَ الِاخْتِلَافِ الْمُبَاحِ.
قَوْلُهُ: (كَانَ بَعَثَ قَوْمًا يُقَالُ لَهُمُ: الْقُرَّاءُ) سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْمَغَازِي، وَكَذَا عَلَى رِوَايَةِ أَبِي مِجْلَزٍ، وَالتَّيْمِيُّ الرَّاوِي عَنْهُ هُوَ سُلَيْمَانُ، وَهُوَ يَرْوِي عَنْ أَنَسٍ نَفْسِهِ، وَيُرْوَى عَنْهُ أَيْضًا بِوَاسِطَةٍ كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ.
1004 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ الْقُنُوتُ فِي الْمَغْرِبِ وَالْفَجْرِ.
قوله: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ، وَخَالِدٌ هُوَ الْحَذَّاءُ.
قَوْلُهُ: (كَانَ الْقُنُوتُ فِي الْمَغْرِبِ وَالْفَجْرِ) قَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُ إِيرَادِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ فِي أَوَّلِ هَذَا الْبَابِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بَعْضِهَا فِي أَثْنَاءِ صِفَةِ الصَّلَاةِ. وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ نَحْوَ حَدِيثِ أَنَسٍ هَذَا، وَتَمَسَّكَ بِهِ الطَّحَاوِيُّ فِي تَرْكِ الْقُنُوتِ فِي الصُّبْحِ قَالَ: لِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى نَسْخِهِ فِي الْمَغْرِبِ، فَيَكُونُ فِي الصُّبْحِ كَذَلِكَ. انْتَهَى.
وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ. وَقَدْ عَارَضَهُ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَنَتَ فِي الصُّبْحِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا هَلْ تَرَكَ، فَيُتَمَسَّكَ بِمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ حَتَّى يَثْبُتَ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ؟ وَظَهَرَ لِي أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي جَعْلِ الْقُنُوتِ النَّازِلَةَ فِي الِاعْتِدَالِ دُونَ السُّجُودِ مَعَ أَنَّ السُّجُودَ مَظِنَّةُ الْإِجَابَةِ كَمَا ثَبَتَ: أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، وَثُبُوتُ الْأَمْرِ بِالدُّعَاءِ فِيهِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْ قُنُوتِ النَّازِلَةِ أَنْ يُشَارِكَ الْمَأْمُومُ الْإِمَامَ فِي الدُّعَاءِ وَلَوْ بِالتَّأْمِينِ، وَمِنْ ثَمَّ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يُجْهَرُ بِهِ، بِخِلَافِ الْقُنُوتِ فِي الصُّبْحِ فَاخْتُلِفَ فِي مَحَلِّهِ وَفِي الْجَهْرِ بِهِ.
(تَكْمِلَةٌ): ذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّ الْقُنُوتَ وَرَدَ لِعَشَرَةِ مَعَانٍ، فَنَظَمَهَا شَيْخُنَا الْحَافِظُ زَيْنُ الدِّينِ الْعِرَاقِيُّ فِيمَا أَنْشَدَنَا لِنَفْسِهِ إِجَازَةً غَيْرَ مَرَّةٍ:
وَلَفْظُ الْقُنُوتِ اعْدُدْ مَعَانِيَهُ تَجِدْ
…
مَزِيدًا عَلَى عَشْرِ مَعَانِي مَرْضِيَّهْ
دُعَاءُ خُشُوعٍ وَالْعِبَادَةُ طَاعَةٌ
…
إِقَامَتُهَا إِقْرَارُهُ بِالْعُبُودِيَّهْ
سُكُوتُ صَلَاةٍ وَالْقِيَامُ وَطُولُهُ
…
كَذَاكَ دَوَامُ الطَاعَةِ الرَّابِحِ الْقُنِيَّهْ
(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَتْ أَبْوَابُ الْوِتْرِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ حَدِيثًا، مِنْهَا وَاحِدٌ مُعَلَّقٌ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى ثَمَانِيَةُ أَحَادِيثَ، وَالْخَالِصُ سَبْعَةٌ وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا، وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ ثَلَاثَةٌ مَوْصُولَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
بسم الله الرحمن الرحيم
15 - كِتَاب الِاسْتِسْقَاءِ
1 - بَاب الِاسْتِسْقَاءِ وَخُرُوجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الِاسْتِسْقَاءِ
1005 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَمِّهِ، قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَسْقِي وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ.
[الحديث 1005 - أطرافه في: 6343. 1028. 1027. 1026. 1025. 1024. 1023. 1012. 1011] "
(أبواب الاستسقاء)
(بَابُ الِاسْتِسْقَاءِ وَخُرُوجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، كَذَا لِلْمُسْتَمْلِي دُونَ الْبَسْمَلَةِ، وَسَقَطَ مَا قَبْلَ بَابٍ مِنْ رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ، وَلِلْأَصِيلِيِ كِتَابُ الِاسْتِسْقَاءِ فَقَطْ، وَثَبَتَتِ الْبَسْمَلَةُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ شَبُّوَيْهِ. وَالِاسْتِسْقَاءُ لُغَةُ طَلَبِ سَقْيِ الْمَاءِ مِنَ الْغَيْرِ لِلنَّفْسِ أَوِ الْغَيْرِ، وَشَرْعًا طَلَبُهُ مِنَ اللَّهِ عِنْدَ حُصُولِ الْجَدْبِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ) أَيِ ابْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ قَاضِي الْمَدِينَةِ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ تَحْوِيلِ الرِّدَاءِ التَّصْرِيحُ بِسَمَاعِ عَبْدِ اللَّهِ لَهُ مِنْ عَبَّادٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَمِّهِ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ، كَمَا سَيَأْتِي صَرِيحًا فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ وَسِيَاقُهُ أَتَمُّ.
قَوْلُهُ: (خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَيْ إِلَى الْمُصَلَّى كَمَا سَيَأْتِي التَّصْرِيحُ بِهِ أَيْضًا فِيهِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ عَلَى كَيْفِيَّةِ تَحْوِيلِ الرِّدَاءِ، وَزَادَ فِيهِ: وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ. وَقَدِ اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ، وَأَنَّهَا رَكْعَتَانِ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: يَبْرُزُونَ لِلدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ، وَإِنْ خَطَبَ لَهُمْ فَحَسَنٌ. وَلَمْ يَعْرِفِ الصَّلَاةَ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ. وَنَقَلَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ عَنْهُ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْخُرُوجِ إِلَى الِاسْتِسْقَاءِ، وَالْبُرُوزِ إِلَى ظَاهِرِ الْمِصْرِ، لَكِنْ حَكَى الْقُرْطُبِيُّ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ الْخُرُوجُ، وَكَأَنَّهُ اشْتُبِهَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ فِي الصَّلَاةِ.
2 - بَاب دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (واجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ)
1006 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، اللَّهُمَّ أَنْجِ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، اللَّهُمَّ أَنْجِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: غِفَارُ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا، وَأَسْلَمُ سَالَمَهَا اللَّهُ.
قَالَ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ هَذَا كُلُّهُ فِي الصُّبْحِ.
1007 -
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: كُنَّا
عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا رَأَى مِنْ النَّاسِ إِدْبَارًا قَالَ اللَّهُمَّ سَبْعٌ كَسَبْعِ يُوسُفَ فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ حَصَّتْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَكَلُوا الْجُلُودَ وَالْمَيْتَةَ وَالْجِيَفَ وَيَنْظُرَ أَحَدُهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فَيَرَى الدُّخَانَ مِنْ الْجُوعِ فَأَتَاهُ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ تَأْمُرُ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَبِصِلَةِ الرَّحِمِ وَإِنَّ قَوْمَكَ قَدْ هَلَكُوا فَادْعُ اللَّهَ لَهُمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} إِلَى قَوْلِهِ {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} فَالْبَطْشَةُ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَدْ مَضَتْ الدُّخَانُ وَالْبَطْشَةُ وَاللِّزَامُ وَآيَةُ الرُّومِ
[الحديث 1007 - أطرافه في: 4825. 4824. 4823. 4822. 4821. 48204809. 4774. 4767. 4693. 1020]
قَوْلُهُ: (بَابُ دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: اجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الدُّعَاءِ فِي الْقُنُوتِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالدُّعَاءِ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَفِيهِ مَعْنَى التَّرْجَمَةِ. وَوَجْهُ إِدْخَالِهِ فِي أَبْوَابِ الِاسْتِسْقَاءِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ كَمَا شُرِعَ الدُّعَاءُ بِالِاسْتِسْقَاءِ لِلْمُؤْمِنِينَ كَذَلِكَ شُرِعَ الدُّعَاءُ بِالْقَحْطِ عَلَى الْكَافِرِينَ لِمَا فِيهِ مِنْ نَفْعِ الْفَرِيقَيْنِ بِإِضْعَافِ عَدُوِّ الْمُؤْمِنِينَ وَرِقَّةِ قُلُوبِهِمْ لِيَذِلُّوا لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ ثَمَرَةِ ذَلِكَ الْتِجَاؤُهُمْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَدْعُوَ لَهُمْ بِرَفْعِ الْقَحْطِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ مَشْرُوعِيَّةَ الدُّعَاءِ عَلَى الْكَافِرِينَ فِي الصَّلَاةِ تَقْتَضِي مَشْرُوعِيَّةَ الدُّعَاءِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِيهَا، فَثَبَتَ بِذَلِكَ صَلَاةُ الِاسْتِسْقَاءِ خِلَافًا لِمَنْ أَنْكَرَهَا. وَالْمُرَادُ بِسِنِي يُوسُفَ مَا وَقَعَ فِي زَمَانِهِ عليه السلام مِنَ الْقَحْطِ فِي السِّنِينَ السَّبْعِ كَمَا وَقَعَ فِي التَّنْزِيلِ، وَقَدْ بُيِّنَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي حَيْثُ قَالَ: سَبْعًا كَسَبْعِ يُوسُفَ وَأُضِيفَتْ إِلَيْهِ لِكَوْنِهِ الَّذِي أَنْذَرَ بِهَا، أَوْ لِكَوْنِهِ الَّذِي قَامَ بِأُمُورِ النَّاسِ فِيهَا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) هُوَ الْحِزَامِيُّ بِالْمُهْمَلَةِ وَالزَّايِ لَا الْمَخْزُومِيُّ، وَهُمَا مَدَنِيَّانِ مِنْ طَبَقَةٍ وَاحِدَةٍ لَكِنِ الْحِزَامِيُّ مَعْرُوفٌ بِالرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ دُونَ الْمَخْزُومِيِّ، وَقَدْ بَيَّنَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَالنَّسَائِيُّ، لَكِنَّهُ لَمْ يَنْفَرِدْ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَسَيَأْتِي فِي الْجِهَادِ مِنْ رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ، وَفِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ.
قَوْلُهُ: (اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا سِنِينَ) فِي الرِّوَايَةِ الْمَاضِيَةِ فِي بَابِ يَهْوِي بِالتَّكْبِيرِ مِنْ صِفَةِ الصَّلَاةِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: اجْعَلْهَا يَعُودُ عَلَى الْمُدَّةِ الَّتِي تَقَعُ فِيهَا الشِّدَّةُ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْوَطْأَةِ، وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ فِيهَا كَسِنِي يُوسُفَ: وَأَهْلُ الْمَشْرِقِ يَوْمَئِذٍ مِنْ مُضَرَ مُخَالِفُونَ لَهُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: غِفَارٌ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا إِلَخْ) هَذَا حَدِيثٌ آخَرُ، وَهُوَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ وَكَأَنَّهُ سَمِعَهُ هَكَذَا، فَأَوْرَدَهُ كَمَا سَمِعَهُ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ قُتَيْبَةَ كَمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الدُّعَاءَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِالْقَحْطِ يَنْبَغِي أَنْ يُخَصَّ بِمَنْ كَانَ مُحَارِبًا دُونَ مَنْ كَانَ مُسَالِمًا.
قَوْلُهُ: (غِفَارٌ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا) فِيهِ الدُّعَاءُ بِمَا يُشْتَقُّ مِنَ الِاسْمِ كَأَنْ يَقُولُ لِأَحْم دَ: أَحْمَدَ اللَّهُ عَاقِبَتَكَ، وَلِعَلِيٍّ: أَعْلَاكَ اللَّهُ. وَهُوَ مِنْ جِنَاسِ الِاشْتِقَاقِ، وَلَا يَخْتَصُّ بِالدُّعَاءِ بَلْ يَأْتِي مِثْلُهُ فِي الْخَبَرِ، وَمِنْهُ قولُهُ تعالى:{وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ} وَسَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي حَدِيثُ عَصِيَّةُ عَصَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَإِنَّمَا اخْتَصَّتِ الْقَبِيلَتَانِ بِهَذَا الدُّعَاءِ؛ لِأَنَّ غِفَارًا أَسْلَمُوا قَدِيمًا، وَأَسْلَمُ سَالَمَو النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي أَوَائِلِ الْمَنَاقِبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ: هَذَا كُلُّهُ فِي الصُّبْحِ)، يَعْنِي أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي الزِّنَادِ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيهِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، فَبَيَّنَ أَنَّ الدُّعَاءَ الْمَذْكُورَ كَانَ فِي الصُّبْحِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ بَيَانِ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ صِفَةِ الصَّلَاةِ.
قَوْلُهُ: (كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ) يَعْنِي ابْنَ
مَسْعُودٍ، وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ الدُّخَانِ سَبَبُ تَحْدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ بِهَذَا الْحَدِيثِ.
قَوْلُهُ: (لَمَّا رَأَى مِنَ النَّاسِ إِدْبَارًا) أَيْ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ الدُّخَانِ أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا أَبْطَئُوا عَنِ الْإِسْلَامِ.
قَوْلُهُ: (فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا نُونٌ خَفِيفَةٌ أَيْ أَصَابَهُمُ الْقَحْطُ، وَقَوْلُهُ: حَصَتْ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَتَيْنِ أَيِ اسْتَأْصَلَتِ النَّبَاتَ حَتَّى خَلَتِ الْأَرْضُ مِنْهُ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى أَكَلْنَا) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْحَمَوِيِّ: حَتَّى أَكَلُوا، وَهُوَ الْوَجْهُ، وَكَذَا قَوْلُهُ: يَنْظُرُ أَحَدُكُمْ عِنْدَ الْأَكْثَرِ: يَنْظُرُ أَحَدُهُمْ، وَهُوَ الصَّوَابُ. وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ بَعْدَ تِسْعَةِ أَبْوَابٍ.
3 - بَاب سُؤَالِ النَّاسِ الْإِمَامَ الِاسْتِسْقَاءَ إِذَا قَحَطُوا
1008 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو قُتَيْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَتَمَثَّلُ بِشِعْرِ أَبِي طَالِبٍ:
وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ
…
ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ
1009 -
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ حَمْزَةَ: حَدَّثَنَا سَالِمٌ، عَنْ أَبِيهِ، رُبَّمَا ذَكَرْتُ قَوْلَ الشَّاعِرِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى وَجْهِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَسْقِي، فَمَا يَنْزِلُ حَتَّى يَجِيشَ كُلُّ مِيزَابٍ:
وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ
…
ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ
1010 -
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُثَنَّى عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه كَانَ إِذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا قَالَ فَيُسْقَوْنَ "
[الحديث 1010 - طرفه في: 371]
وهو قَوْلُ أَبِي طَالِبٍ.
قَوْلُهُ: (بَابُ سُؤَالِ النَّاسِ الْإِمَامَ الِاسْتِسْقَاءَ إِذَا قَحَطُوا) قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: لَوْ أُدْخِلَ تَحْتَ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي قَبْلَهُ لَكَانَ أَوْضَحَ مِمَّا ذُكِرَ. انْتَهَى.
وَيَظْهَرُ لِي أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَنْ سَأَلَ قَدْ يَكُونُ مُسْلِمًا وَقَدْ يَكُونُ مُشْرِكًا وَقَدْ يَكُونُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَكَانَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَذْكُورِ أَنَّ الَّذِي سَأَلَ قَدْ يَكُونُ مُشْرِكًا، نَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ فِي الَّذِي بَعْدَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا إِذَا كَانَ الطَّلَبُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ لَفْظَ التَّرْجَمَةِ عَامًّا لِقَوْلِهِ: سُؤَالِ النَّاسِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُصَنِّفَ أَوْرَدَ فِي هَذَا الْبَابِ تَمَثُّلَ ابْنِ عُمَرَ بِشِعْرِ أَبِي طَالِبٍ وَقَوْلِ أَنَسٍ: إِنَّ عُمَرَ كَانَ إِذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ وَقَدِ اعْتَرَضَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فَقَالَ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ خَارِجٌ عَنِ التَّرْجَمَةِ، إِذْ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ أَحَدًا سَأَلَهُ أَنْ يَسْتَسْقِيَ لَهُ وَلَا فِي قِصَّةِ الْعَبَّاسِ الَّتِي أَوْرَدَهَا أَيْضًا. وَأَجَابَ ابْنُ الْمُنِيرِ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِأَنَّ الْمُنَاسَبَةَ تُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ فِيهِ: يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ؛ لِأَنَّ فَاعِلَهُ مَحْذُوفٌ وَهُمُ النَّاسُ، وَعَنْ حَدِيثِ أَنَسٍ بِأَنَّ فِي قَوْلِ عُمَرَ: كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ مَدْخَلًا فِي الِاسْتِسْقَاءِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ فَاعِلِ يُسْتَسْقَى هُوَ النَّاسُ أَنْ يَكُونُوا سَأَلُوا الْإِمَامَ
أَنْ يَسْتَسْقِيَ لَهُمْ كَمَا فِي التَّرْجَمَةِ، وَكَذَا لَيْسَ فِي قَوْلِ عُمَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَسَّلُونَ بِهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ أَنْ يَسْتَسْقِيَ لَهُمْ، إِذْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا فِي الْحَالَيْنِ طَلَبُوا السُّقْيَا مِنَ اللَّهِ مُسْتَشْفِعِينَ بِهِ صلى الله عليه وسلم.
وَقَالَ ابْنُ رشيد: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِالتَّرْجَمَةِ الِاسْتِدْلَالَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا يَسْأَلُونَ اللَّهَ بِهِ فَيَسْقِيهِمْ فَأَحْرَى أَنْ يُقَدِّمُوهُ لِلسُّؤَالِ. انْتَهَى.
وَهُوَ حَسَنٌ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ سِيَاقَ الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ عَنْهُ، وَأَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الطَّرِيقَ الْأُولَى مُخْتَصَرَةٌ مِنْهَا، وَذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ الثَّانِيَةِ: رُبَّمَا ذَكَرْتُ قَوْلَ الشَّاعِرِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى وَجْهِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَسْقِي، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي بَاشَرَ الطَّلَبَ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَشَارَ إِلَى قِصَّةٍ وَقَعَتْ فِي الْإِسْلَامِ حَضَرَهَا هُوَ لَا مُجَرَّدُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ شِعْرُ أَبِي طَالِبٍ. وَقَدْ عُلِمَ مِنْ بَقِيَّةِ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا اسْتَسْقَى إِجَابَةً لِسُؤَالِ مَنْ سَأَلَهُ فِي ذَلِكَ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَاضِي، وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْآتِي وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَأَوْضَحُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ الْمُلَائِيِّ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَيْنَاكَ وَمَا لَنَا بَعِيرٌ يَئِطُّ، وَلَا صَبِيٌّ يَغِطُّ. ثُمَّ أَنْشَدَهُ شِعْرًا يَقُولُ فِيهِ:
وَلَيْسَ لَنَا إِلَّا إِلَيْكَ فِرَارُنَا
…
وَأَيْنَ فِرَارُ النَّاسِ إِلَّا إِلَى الرُّسُلِ،
فَقَامَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اسْقِنَا. الْحَدِيثَ وَفِيهِ: ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه وسلم: لَوْ كَانَ أَبُو طَالِبٍ حَيًّا لَقَرَّتْ عَيْنَاهُ. مَنْ يَنْشُدُنَا قَوْلَهُ؟ فَقَامَ عَلِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَأَنَّكَ أَرَدْتَ قَوْلَهُ:
وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ
الْأَبْيَاتَ، فَظَهَرَتْ بِذَلِكَ مُنَاسَبَةُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ لِلتَّرْجَمَةِ، وَإِسْنَادُ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَعْفٌ لَكِنَّهُ يَصْلُحُ لِلْمُتَابَعَةِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي زَوَائِدِهِ فِي السِّيرَةِ تَعْلِيقًا عَمَّنْ يَثِقُ بِهِ. وَقَوْلُهُ: يَئِطُّ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَكَذَا يَغِطُّ بِالْمُعْجَمَةِ، وَالْأَطِيطُ صَوْتُ الْبَعِيرِ الْمُثْقَلِ، وَالْغَطِيطُ صَوْتُ النَّائِمِ كَذَلِكَ، وَكَنَّى بِذَلِكَ عَنْ شِدَّةِ الْجُوعِ؛ لِأَنَّهُمَا إِنَّمَا يَقَعَانِ غَالِبًا عِنْدَ الشِّبَعِ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ، عَنْ عُمَرَ فَأَشَارَ بِهِ أَيْضًا إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ، وَهُوَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى عَنِ الْأَنْصَارِيِّ بِإِسْنَادِ الْبُخَارِيِّ إِلَى أَنَسٍ قَالَ: كَانُوا إِذَا قَحَطُوا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْقَوْا بِهِ، فَيَسْتَسْقِي لَهُمْ فَيُسْقَوْنَ، فَلَمَّا كَانَ فِي إِمَارَةِ عُمَرَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فَقَالَ: هَذَا الَّذِي رَوَيْتُهُ يَحْتَمِلُ الْمَعْنَى الَّذِي تَرْجَمَهُ، بِخِلَافِ مَا أَوْرَدَهُ هُوَ: قُلْتُ: وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُبْتَدَعٍ، لِمَا عُرِفَ بِالِاسْتِقْرَاءِ مِنْ عَادَتِهِ مِنَ الِاكْتِفَاءِ بِالْإِشَارَةِ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ الَّذِي يُورِدُهُ. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ اسْتَسْقَى بِالْمُصَلَّى، فَقَالَ لِلْعَبَّاسِ: قُمْ فَاسْتَسْقِ، فَقَامَ الْعَبَّاسُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ فِي الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ الْعَبَّاسَ كَانَ مَسْئُولًا وَأَنَّهُ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْإِمَامِ إِذَا أَمَرَهُ الْإِمَامُ بِذَلِكَ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ مَالِكٍ الدَّارِيِّ - وَكَانَ خَازِنُ عُمَرَ - قَالَ: أَصَابَ النَّاسَ قَحْطٌ فِي زَمَنِ عُمَرَ، فَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
(1)
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتَسْقِ لِأُمَّتِكَ فَإِنَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا، فَأَتَى الرَّجُلَ فِي الْمَنَامِ فَقِيلَ
(1)
هذا الأثر - على فرض صحته كما قال الشارح - ليس بحجة على جواز الاستسقاء بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، لأن السائل مجهول، ولأن عمل الصحابه رضي الله عنهم على خلافه، وهم أعلم الناس بالشرع، ولم يأت أحد منهم إلى قبره يسأله السقيا ولا غيرها، بل عدل عمر عنه لما وقع الجدب إلى الإستسقاء بالعباس، ولم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة، فعلم أن ذلك هو الحق، وأن ما فعله هذا الرجل منكر ووسيلة الى الشرك، بل قد جعله بعض أهل العلم من أنواع الشرك، وأما تسمية السائل في رواية سيف المذكورة " بلال بن حارثة " ففي صحة ذلك نظر، ولم يذكر الشارح سند سيف في ذلك، وعلى تقدير صحته عنه لا حجة فيه، لأن عمل كبار الصحبة يخالفه، وهم اعلم بالرسول صلى الله عليه وسلم والله أعلم
لَهُ: ائْتِ عُمَرَ الْحَدِيثَ. وَقَدْ رَوَى سَيْفٌ فِي الْفُتُوحِ أَنَّ الَّذِي رَأَى الْمَنَامَ الْمَذْكُورَ هُوَ بِلَالُ بْنُ الْحَارِثِ الْمُزَنِيُّ أَحَدُ الصَّحَابَةِ، وَظَهَرَ بِهَذَا كُلِّهِ مُنَاسَبَةُ التَّرْجَمَةِ لِأَصْلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَيْضًا، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
قَوْلُهُ: (يَتَمَثَّلُ) أَيْ يَنْشُدُ شِعْرَ غَيْرِهِ.
قَوْلُهُ: (وَأَبْيَضَ) بِفَتْحِ الضَّادِ وَهُوَ مَجْرُورٌ بِرُبَّ مُقَدَّرَةٍ أَوْ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ أَعْنِي أَوْ أَخُصُّ، وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: سَيِّدًا فِي الْبَيْتِ الَّذِي قَبْلَهُ.
قَوْلُهُ: (ثِمَالُ) بِكَسْرِ الْمُثَلَّثَةِ وَتَخْفِيفُ الْمِيمِ هُوَ الْعِمَادُ وَالْمَلْجَأُ وَالْمُطْعِمُ وَالْمُغِيثُ وَالْمُعِينُ وَالْكَافِي، قَدْ أُطْلِقَ عَلَى كُلٍّ مِنْ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ أَيْ يَمْنَعُهُمْ مِمَّا يَضُرُّهُمْ، وَالْأَرَامِلُ جَمْعُ أَرْمَلَةٍ وَهِيَ الْفَقِيرَةُ الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الرَّجُلِ أَيْضًا مَجَازًا، وَمِنْ ثَمَّ لَوْ أَوْصَى لِلْأَرَامِلِ خُصَّ النِّسَاءُ دُونَ الرِّجَالِ. وَهَذَا الْبَيْتُ مِنْ أَبْيَاتٍ فِي قَصِيدَةٍ لِأَبِي طَالِبٍ ذَكَرَهَا ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ بِطُولِهَا، وَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ ثَمَانِينَ بَيْتًا، قَالَهَا لَمَّا تَمَالَأَتْ قُرَيْشٌ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنَفَّرُوا عَنْهُ مَنْ يُرِيدُ الْإِسْلَامَ، أَوَّلُهَا:
وَلَمَّا رَأَيْتُ الْقَوْمَ لَا وُدَّ فِيهِمُ
…
وَقَدْ قَطَعُوا كُلَّ الْعُرَى وَالْوَسَائِلِ
وَقَدْ جَاهَرُونَا بِالْعَدَاوَةِ وَالْأَذَى
…
وَقَدْ طَاو عُوا أَمْرَ الْعَدُوِّ الْمُزَايِلِ
يقول فِيهَا:
أَعَبْدَ مَنَافٍ أَنْتُمُ خَيْرُ قَوْمِكُمُ
…
فَلَا تُشْرِكُوا فِي أَمْرِكُمْ كُلَّ وَاغِلِ
فَقَدْ خِفْتُ إِنْ لَمْ يُصْلِحِ اللَّهُ أَمْرَكُمْ
…
تَكُونُوا كَمَا كَانَتْ أَحَادِيثُ وَائِلِ
يَقُولُ فِيهَا:
أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مِنْ كُلِّ طَاعِنٍ
…
عَلَيْنَا بِسُوءٍ أَوْ مُلِحٍّ بِبَاطِلِ
وَثَوْرٌ وَمَنْ أَرْسَى ثُبَيْرًا مَكَانَهُ
…
وَرَاقٍ لِبِرٍّ فِي حِرَاءٍ وَنَازِلِ
وَبِالْبَيْتِ حَقُّ الْبَيْتِ مِنْ بَطْنِ مَكَّةَ
…
وَبِاللَّهِ أنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِغَافِلِ
يَقُولُ فِيهَا:
كَذَبْتُمْ وَبَيْتُ اللَّهِ نَبْزِي مُحَمَّدًا
…
وَلَمَّا نُطَاعِنْ حَوْلَهُ وَنُنَاضِلِ
وَنُسْلِمُهُ حَتَّى نُصَرَّعَ حَوْلَهُ
…
وَنُذْهَلُ عَنْ أَبْنَائِنَا وَالْحَلَائِلِ
يَقُولُ فِيهَا:
وَمَا تَرْكُ قَوْمٍ لَا أَبَا لَكَ سَيِّدًا
…
يَحُوطُ الذِّمَارَ بَيْنَ بَكْرِ بْنِ وَائِلِ
وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ
…
ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ
يَلُوذُ بِهِ الْهُلَّاكُ مِنْ آلِ هَاشِمٍ
…
فَهُمْ عِنْدَهُ فِي نِعْمَةٍ وَفَوَاضِلِ
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ أَبُو طَالِبٍ: يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ وَلَمْ يَرَهُ قَطُّ اسْتَسْقَى، إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ! وَأَجَابَ بِمَا حَاصِلُهُ: أَنَّ أَبَا طَالِبٍ أَشَارَ إِلَى مَا وَقَعَ فِي زَمَنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حَيْثُ اسْتَسْقَى لِقُرَيْشٍ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعَهُ غُلَامٌ. انْتَهَى.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَبُو طَالِبٍ مَدَحَهُ بِذَلِكَ لَمَّا رَأَى مِنْ مَخَايِلِ ذَلِكَ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يُشَاهِدْ وُقُوعَهُ، وَسَيَأْتِي فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ سُؤَالَ أَبِي سُفْيَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الِاسْتِسْقَاءِ وَقَعَ بِمَكَّةَ. وَذَكَرَ ابْنُ التِّينِ أَنَّ فِي شِعْرِ أَبِي طَالِبٍ هَذَا دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ نُبُوَّةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ لَمَّا أَخْبَرَهُ بِهِ بَحِيرًا أَوْ غَيْرُهُ مِنْ شَأْنِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ إِنْشَاءَ أَبِي طَالِبٍ لِهَذَا الشِّعْرِ كَانَ بَعْدَ الْمَبْعَثِ، وَمَعْرِفَةُ أَبِي طَالِبٍ بِنُبُوَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَتْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَخْبَارِ، وَتَمَسَّكَ بِهَا الشِّيعَةُ فِي أَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا. وَرَأَيْتُ لِعَلِيِّ بْنِ حَمْزَةَ الْبَصْرِيِّ جُزْءًا جَمَعَ فِيهِ شِعْرَ أَبِي طَالِبٍ وَزَعَمَ فِي أَوَّلِهِ أَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا وَأَنَّهُ مَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَنَّ الْحَشَوِيَّةَ تَزْعُمُ أَنَّهُ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ وَأَنَّهُمْ لِذَلِكَ يَسْتَجِيزُونَ لَعْنَهُ، ثُمَّ بَالَغَ فِي سَبِّهِمْ وَالرَّدِّ عَلَيْهِمْ، وَاسْتَدَلَّ لِدَعْوَاهُ بِمَا لَا دَلَالَةَ فِيهِ.
وَقَدْ بَيَّنْتُ فَسَادَ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي طَالِبٍ مِنْ كِتَابِ الْإِصَابَةِ، وَسَيَأْتِي بَعْضُهُ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي طَالِبٍ مِنْ كِتَابِ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُمَرُ بْنُ حَمْزَةَ) أَيِ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَسَالِمٌ شَيْخُهُ هُوَ عَمُّهُ، وَعُمْرُ مُخْتَلَفٌ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ وَكَذَلِكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ الْمَذْكُورُ فِي الطَّرِيقِ الْمَوْصُولَةِ، فَاعْتَضَدَتْ إِحْدَى الطَّرِيقَيْنِ بِالْأُخْرَى، وَهُوَ مِنْ أَمْثِلَةِ أَحَدِ قِسْمَيِ الصَّحِيحِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ، وَطَرِيقُ عُمَرَ الْمُعَلَّقَةُ وَصَلَهَا أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عَقِيلٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَقِيلٍ الثَّقَفِيِّ عَنْهُ، وَعَقِيلٌ فِيهِمَا بِفَتْحِ الْعَيْنِ.
قَوْلُهُ: (يَسْتَسْقِي) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، زَادَ ابْنُ مَاجَهْ فِي رِوَايَتِهِ: عَلَى الْمِنْبَرِ وَفِي رِوَايَتِهِ أَيْضًا فِي الْمَدِينَةِ.
قَوْلُهُ: (يَجِيشُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْجِيمِ وَآخِرُهُ مُعْجَمَةٌ، يُقَالُ: جَاشَ الْوَادِي إِذَا زَخَرَ بِالْمَاءِ، وَجَاشَتِ الْقِدْرُ إِذَا غَلَتْ، وَجَاشَ الشَّيْءُ إِذَا تَحَرَّكَ. وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ كَثْرَةِ الْمَطَرِ.
قَوْلُهُ: (كُلُّ مِيزَابٍ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَبِالزَّايِ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ مَا يَسِيلُ مِنْهُ الْمَاءُ مِنْ مَوْضِعٍ عَالٍ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ حَتَّى يَجِيشَ لَكَ بِتَقْدِيمِ اللَّامِ عَلَى الْكَافِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ.
1010 -
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُثَنَّى، عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه كَانَ إِذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا، قَالَ: فَيُسْقَوْنَ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ) هُوَ الزَّعْفَرَانِيُّ وَالْأَنْصَارِيُّ شَيْخُهُ يَرْوِي عَنْهُ الْبُخَارِيُّ كَثِيرًا وَرُبَّمَا أَدْخَلَ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةً كَهَذَا الْمَوْضِعِ، وَوَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ الْأَنْصَارِيِّ نَفْسِهِ.
قَوْلُهُ: (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ إِذَا قُحِطُوا) بِضَمِّ الْقَافِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ، أَيْ أَصَابَهُمُ الْقَحْطُ، وَقَدْ بَيَّنَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي الْأَنْسَابِ صِفَةَ مَا دَعَا بِهِ الْعَبَّاسُ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ وَالْوَقْتَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ ذَلِكَ، فَأَخْرَجَ بِإِسْنَادٍ لَهُ أَنَّ الْعَبَّاسَ لَمَّا اسْتَسْقَى بِهِ عُمَرُ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ بَلَاءٌ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَلَمْ يُكْشَفْ إِلَّا بِتَوْبَةٍ، وَقَدْ تَوَجَّهَ الْقَوْمُ بِي إِلَيْكَ لِمَكَانِي مِنْ نَبِيِّكَ، وَهَذِهِ أَيْدِينَا إِلَيْكَ بِالذُّنُوبِ وَنَوَاصِينَا إِلَيْكَ بِالتَّوْبَةِ فَاسْقِنَا الْغَيْثَ.
فَأَرْخَتِ السَّمَاءُ مِثْلَ الْجِبَالِ حَتَّى أَخْصَبَتِ الْأَرْضَ، وَعَاشَ النَّاسُ وَأَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: اسْتَسْقَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَامَ الرَّمَادَةِ بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: فَخَطَبَ النَّاسَ عُمَرُ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَرَى لِلْعَبَّاسِ مَا يَرَى الْوَلَدُ لِلْوَالِدِ، فَاقْتَدُوا أَيُّهَا النَّاسُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي عَمِّهِ الْعَبَّاسِ وَاتَّخِذُوهُ وَسِيلَةً إِلَى اللَّهِ، وَفِيهِ: فَمَا بَرِحُوا حَتَّى سَقَاهُمُ اللَّهُ وَأَخْرَجَهُ الْبَلَاذُرِيُّ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، فَقَالَ: عَنْ أَبِيهِ بَدَلَ ابْنِ عُمَرَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِزَيْدٍ فِيهِ شَيْخَانِ، وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُ أَنَّ عَامَ الرَّمَادَةِ كَانَ سَنَةَ ثَمَانَ عَشْرَةَ، وَكَانَ ابْتِدَاؤُهُ مَصْدَرَ الْحَاجِّ مِنْهَا وَدَامَ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، وَالرَّمَادَةُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ، سُمِّيَ الْعَامُ بِهَا لِمَا حَصَلَ مِنْ شِدَّةِ الْجَدْبِ فَاغْبَرَّتِ الْأَرْضُ جِدًّا مِنْ عَدَمِ الْمَطَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ رَفْعُ حَدِيثِ أَنَسٍ الْمَذْكُورِ فِي قِصَّةِ عُمَرَ، وَالْعَبَّاسِ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ. وَيُسْتَفَادُ مِنْ قِصَّةِ الْعَبَّاسِ اسْتِحْبَابُ الِاسْتِشْفَاعِ بِأَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ وَأَهْلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ، وَفِيهِ فَضْلُ الْعَبَّاسِ وَفَضْلُ عُمَرَ لِتَوَاضُعِهِ لِلْعَبَّاسِ وَمَعْرِفَتُهُ بِحَقِّهِ.
4 - بَاب تَحْوِيلِ الرِّدَاءِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ
1011 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْقَى فَقَلَبَ رِدَاءَهُ.
1012 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ سَمِعَ عَبَّادَ بْنَ تَمِيمٍ
يُحَدِّثُ أَبَاهُ عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى فَاسْتَسْقَى فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَقَلَبَ رِدَاءَهُ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: كَانَ ابْنُ عُيَيْنَةَ يَقُولُ: هُوَ صَاحِبُ الْأَذَانِ، وَلَكِنَّهُ وَهْمٌ لِأَنَّ هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ الْمَازِنِيُّ مَازِنُ الْأَنْصَارِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ تَحْوِيلِ الرِّدَاءِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ) تَرْجَمَ لِمَشْرُوعِيَّتِهِ خِلَافًا لِمَنْ نَفَاهُ، ثُمَّ تَرْجَمَ بَعْدَ ذَلِكَ لِكَيْفِيَّتِهِ كَمَا سَيَأْتِي.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ) هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ كَمَا جَزَمَ بِهِ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِهِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ) أَيِ ابْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَهُوَ أَخُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الْمَذْكُورِ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَقَدْ حَدَّثَ بِهِ عَنْ عَبَّادٍ أَبُوهُمَا: أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو، كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ خَمْسَةَ عَشَرَ بَابًا.
قَوْلُهُ: (اسْتَسْقَى فَقَلَبَ رِدَاءَهُ) ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ طُولَ رِدَائِهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ سِتَّةَ أَذْرُعٍ فِي ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ، وَطُولَ إِزَارِهِ أَرْبَعَةُ أَذْرُعٍ وَشِبْرَيْنِ فِي ذِرَاعَيْنِ وَشِبْرٍ، كَانَ يَلْبَسُهُمَا فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ. وَوَقَعَ فِي شَرْحِ الْأَحْكَامِ لِابْنِ بَزِيزَةَ ذَرْعَ الرِّدَاءِ كَالَّذِي ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ فِي ذرْعِ الْإِزَارِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: تُرْجِمَ بِلَفْظِ التَّحْوِيلِ، وَالَّذِي وَقَعَ فِي الطَّرِيقَيْنِ اللَّذَيْنِ سَاقَهُمَا لَفْظُ الْقَلْبِ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ. انْتَهَى.
وَلَمْ تَتَّفِقِ الرُّوَاةُ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ عَلَى لَفْظِ الْقَلْبِ، فَإِنَّ رِوَايَةَ أَبِي ذَرٍّ حَوَّلَ وَكَذَا هُوَ فِي أَوَّلِ حَدِيثٍ فِي الِاسْتِسْقَاءِ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَقَدْ وَقَعَ بَيَانُ الْمُرَادِ مِنْ ذَلِكَ فِي بَابِ الِاسْتِسْقَاءِ بِالْمُصَلَّى فِي زِيَادَةِ سُفْيَانَ، عَنْ الْمَسْعُودِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَلَفْظُهُ: قَلَبَ رِدَاءَهُ جَعَلَ الْيَمِينَ عَلَى الشِّمَالِ وَزَادَ فِيهِ ابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: وَالشِّمَالَ عَلَى الْيَمِينِ وَالْمَسْعُودِيُّ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ زِيَادَتَهُ اسْتِطْرَادًا، وَسَيَأْتِي بَيَانُ كَوْنِ زِيَادَتِهِ مَوْصُولَةً أَوْ مُعَلَّقَةً فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلَهُ شَاهِدٌ أَخَرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبَّادٍ بِلَفْظِ: فَجَعَلَ عِطَافَهُ الْأَيْمَنَ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْسَرِ، وَعِطَافَهُ الْأَيْسَرَ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْمَنِ وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ عَبَّادٍ اسْتَسْقَى وَعَلَيْهِ خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ، فَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ بِأَسْفَلِهَا فَيَجْعَلُهُ أَعْلَاهَا، فَلَمَّا ثَقُلَتْ عَلَيْهِ قَلَبَهَا عَلَى عَاتِقِهِ وَقَدِ اسْتَحَبَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ فِعْلَ مَا هَمَّ بِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ تَنْكِيسِ الرِّدَاءِ مَعَ التَّحْوِيلِ الْمَوْصُوفِ، وَزَعَمَ الْقُرْطُبِيُّ كَغَيْرِهِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ اخْتَارَ فِي الْجَدِيدِ تَنْكِيسَ الرِّدَاءِ لَا تَحْوِيلَهُ، وَالَّذِي فِي الْأُمِّ مَا ذَكَرْتُهُ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّحْوِيلِ فَقَطْ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الَّذِي اسْتَحَبَّهُ الشَّافِعِيُّ أَحْوَطُ
(1)
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ لَا يُسْتَحَبُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَاسْتَحَبَّ الْجُمْهُورُ أَيْضًا أَنْ يُحَوِّلَ النَّاسُ بِتَحْوِيلِ الْإِمَامِ، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ عَبَّادٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِلَفْظِ: وَحَوَّلَ النَّاسُ مَعَهُ وَقَالَ اللَّيْثُ، وَأَبُو يُوسُفَ: يُحَوِّلُ الْإِمَامُ وَحْدَهُ. وَاسْتَثْنَى ابْنُ الْمَاجِشُونِ النِّسَاءَ فَقَالَ: لَا يُسْتَحَبُّ فِي حَقِّهِنَّ. ثُمَّ إِنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: فَقَلَبَ رِدَاءَهُ أَنَّ التَّحْوِيلَ وَقَعَ بَعْدَ فَرَاغِ الِاسْتِسْقَاءِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْمَعْنَى: فَقَلَبَ رِدَاءَهُ فِي أَثْنَاءِ الِاسْتِسْقَاءِ. وَقَدْ بَيَّنَهُ مَالِكٌ فِي رِوَايَتِهِ الْمَذْكُورَةِ وَلَفْظُهُ: حَوَّلَ رِدَاءَهُ حِينَ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ.
وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ: وَإِنَّهُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ وَأَصْلُهُ لِلْمُصَنِّفِ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ، وَلَهُ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبَّادٍ: فَقَامَ فَدَعَا اللَّهَ قَائِمًا، ثُمَّ تَوَجَّهَ قِبَلَ الْقِبْلَةِ وَحَوَّلَ
(1)
ليس الأمر كما قاله الشارح، بل الأولى والأحوط هو التحويل يجعل ما على الأيسر وعكسه، لأن الحديث بذلك اصح أصرح، ولأن فعله أيسر وأسهل. والله أعلم
رِدَاءَهُ، فَعُرِفَ بِذَلِكَ أَنَّ التَّحْوِيلَ وَقَعَ فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ عِنْدَ إِرَادَةِ الدُّعَاءِ.
وَاخْتُلِفَ فِي حِكْمَةِ هَذَا التَّحْوِيلِ: فَجَزَمَ الْمُهَلَّبُ بِأَنَّهُ لِلتَّفَاؤُلِ بِتَحْوِيلِ الْحَالِ عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ بِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْفَأْلِ أَنْ لَا يُقْصَدَ إِلَيْهِ. قَالَ: وَإِنَّمَا التَّحْوِيلُ أَمَارَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، قِيلَ لَهُ: حَوِّلْ رِدَاءَكَ لِيَتَحَوَّلَ حَالُكَ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الَّذِي جَزَمَ بِهِ يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ، وَالَّذِي رَدَّهُ وَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ، وَرَجَّحَ الدَّارَقُطْنِيُّ إِرْسَالَهُ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهُوَ أَوْلَى مِنَ الْقَوْلِ بِالظَّنِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا حَوَّلَ رِدَاءَهُ لِيَكُونَ أَثْبَتَ عَلَى عَاتِقِهِ عِنْدَ رَفْعِ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ فَلَا يَكُونُ سُنَّةً فِي كُلِّ حَالٍ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّحْوِيلَ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ لَا يَقْتَضِي الثُّبُوتَ عَلَى الْعَاتِقِ، فَالْحَمْلُ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ أَوْلَى، فَإِنَّ الِاتِّبَاعَ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ لِمُجَرَّدِ احْتِمَالِ الْخُصُوصِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ.
قَوْلُهُ: (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ) أَيْ قَالَ: قَالَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عُيَيْنَةَ حَذَفَ الصِّيغَةَ مَرَّةً، وَجَرَتْ عَادَتُهُمْ بِحَذْفِ إِحْدَاهُمَا مِنَ الْخَطِّ، وَفِي حَذْفِهَا مِنَ اللَّفْظِ بَحْثٌ. وَوَقَعَ عِنْدَ الْحَمَوِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي بِلَفْظِ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَصَرَّحَ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي رِوَايَتِهِ بِتَحْدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بِهِ لِابْنِ عُيَيْنَةَ.
قَوْلُهُ: (أَنَّهُ سَمِعَ عَبَّادَ بْنَ تَمِيمٍ يُحَدِّثُ أَبَاهُ) الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ أَبَاهُ يَعُودُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ لَا عَلَى عَبَّادٍ، وَضَبَطَهُ الْكِرْمَانِيُّ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَرَاءٍ بَدَلَ الْمُوَحَّدَةِ، أَيْ أَظُنُّهُ. وَلَمْ أَرَ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي اتَّصَلَتْ لَنَا. وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ الرَّاوِيَ لَمْ يَجْزِمْ بِأَنَّ رِوَايَةَ عَبَّادٍ لَهُ عَنْ عَمِّهِ. وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنِ ابْنِ مَاجَهْ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، وَقَوْلُهُ: عَنْ أَبِيهِ زِيَادَةٌ وَهِيَ وَهْمٌ، وَالصَّوَابُ مَا وَقَعَ فِي النُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ مِنِ ابْنِ مَاجَهْ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَاحِ، وَكَذَا لِابْنِ خُزَيْمَةَ، عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ الْعَلَاءِ كِلَاهُمَا عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ، وَيَحْيَى هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَيِ ابْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، قَالَ سُفْيَانُ: فَقُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ - أَيِ ابْنِ أَبِي بَكْرٍ -: حَدِيثٌ حَدَّثَنَاهُ يَحْيَى، وَالْمَسْعُودِيُّ عَنْ أَبِيكَ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ: سَمِعْتُهُ أَنَا مِنْ عَبَّادٍ يُحَدِّثُ أَبِي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ ابْنِ أَبِي بَكْرٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: (خَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى فَاسْتَسْقَى) فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ الْمَذْكُورَةِ: فَخَرَجَ بِالنَّاسِ يَسْتَسْقِي، وَلَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ عَلَى سَبَبِ ذَلِكَ وَلَا صِفَتِهِ صلى الله عليه وسلم حَالَ الذَّهَابِ إِلَى الْمُصَلَّى وَعَلَى وَقْتِ ذَهَابِهِ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَابْنِ حِبَّانَ، قَالَتْ: شَكَا النَّاسُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَحْطَ الْمَطَرِ، فَأَمَرَ بِمِنْبَرٍ فَوُضِعَ لَهُ بِالْمُصَلَّى، وَوَعَدَ النَّاسَ يَوْمًا يَخْرُجُونَ فِيهِ، فَخَرَجَ حِينَ بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ، الْحَدِيثَ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِ السُّنَنِ خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُتَبَذِّلًا مُتَوَاضِعًا مُتَضَرِّعًا حَتَّى أَتَى الْمُصَلَّى فَرَقَى الْمِنْبَرَ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ عِنْدَ الْبَزَّارِ، وَالطَّبَرَانِيِّ: قَحَطَ الْمَطَرُ، فَسَأَلْنَا نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَسْتَسْقِيَ لَنَا، فَغَدَا نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْحَدِيثَ. وَقَدْ حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ الِاخْتِلَافَ فِي وَقْتِهَا، وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ لَا وَقْتَ لَهَا مُعَيَّنٌ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ أَحْكَامِهَا كَالْعِيدِ، لَكِنَّهَا تُخَالِفُهُ بِأَنَّهَا لَا تَخْتَصُّ بِيَوْمٍ مُعَيَّنٍ، وَهَلْ تُصْنَعُ بِاللَّيْلِ؟ اسْتَنْبَطَ بَعْضُهُمْ مِنْ كَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم جَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ فِيهَا بِالنَّهَارِ أَنَّهَا نَهَارِيَّةٌ كَالْعِيدِ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَتْ تُصَلَّى بِاللَّيْلِ لَأَسَرَّ فِيهَا بِالنَّهَارِ وَجَهَرَ بِاللَّيْلِ كَمُطْلَقِ النَّوَافِلِ.
وَنَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهَا لَا تُصَلَّى فِي وَقْتِ الْكَرَاهَةِ، وَأَفَادَ ابْنُ حِبَّانَ أَنَّ خُرُوجَهُ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمُصَلَّى لِلِاسْتِسْقَاءِ كَانَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ.
قَوْلُهُ: (فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ قَرِيبًا.
قَوْلُهُ: (وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ) فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْمَذْكُورَةِ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ: وَصَلَّى بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ وَفِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ الْآتِيَةِ فِي بَابِ كَيْفَ حَوَّلَ ظَهْرَهُ: ثُمَّ صَلَّى لَنَا رَكْعَتَيْنِ وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْخُطْبَةَ
فِي الِاسْتِسْقَاءِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَهُوَ مُقْتَضَى حَدِيثِ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورَيْنِ، لَكِنْ وَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ بَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ حَيْثُ قَالَ: فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ
(1)
، وَالْمُرَجَّحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ الثَّانِي، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ كَذَلِكَ، وَرِوَايَةُ يُخَيَّرُ، وَلَمْ يَقَعْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ صِفَةُ الصَّلَاةِ الْمَذْكُورَةِ وَلَا مَا يَقْرَأُ فِيهَا، وَقَدْ أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يُكَبِّرُ فِيهِمَا سَبْعًا وَخَمْسًا كَالْعِيدِ، وَأَنَّهُ يَقْرَأُ فِيهِمَا بِسَبِّحْ وَهَلْ أَتَاكَ، وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ، لَكِنْ أَصْلُهُ فِي السُّنَنِ بِلَفْظِ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَمَا يُصَلِّي فِي الْعِيدِ فَأَخَذَ بِظَاهِرِهِ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ: يُكَبِّرُ فِيهِمَا. وَنَقَلَ الْفَاكِهِيُّ شَيْخُ شُيُوخِنَا عَنِ الشَّافِعِيِّ اسْتِحْبَابَ التَّكْبِيرِ حَالَ الْخُرُوجِ إِلَيْهَا كَمَا فِي الْعِيدِ، وَهُوَ غَلَطٌ مِنْهُ عَلَيْهِ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ مَا اخْتَلَفَ مِنَ الرِّوَايَاتِ فِي ذَلِكَ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم بَدَأَ بِالدُّعَاءِ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَطَبَ، فَاقْتَصَرَ بَعْضُ الرُّوَاةِ عَلَى شَيْءٍ وَبَعْضُهُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ عَنِ الدُّعَاءِ بِالْخُطْبَةِ فَلِذَلِكَ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ.
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ بَطَّالٍ: إِنَّ رِوَايَةَ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ دَالَّةٌ عَلَى تَقْدِيمِ الصَّلَاةِ عَلَى الْخُطْبَةِ وَهُوَ أَضْبَطُ مِنْ وَلَدَيْهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَمُحَمَّدٍ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنِ مِنْ سِيَاقِ الْبُخَارِيِّ وَلَا مُسْلِمٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يَعْتَضِدُ الْقَوْلُ بِتَقْدِيمِ الصَّلَاةِ عَلَى الْخُطْبَةِ لِمُشَابَهَتِهَا بِالْعِيدِ، وَكَذَا مَا تَقَرَّرَ مِنْ تَقْدِيمِ الصَّلَاةِ أَمَامَ الْحَاجَةِ. وَقَدْ تَرْجَمَ الْمُصَنِّفُ لِهَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا الدُّعَاءُ فِي الِاسْتِسْقَاءِ قَائِمًا وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِيهِ وَحَمَلَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَلَى حَالِ الصَّلَاةِ ثُمَّ قَالَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَاصًّا بِدُعَاءِ الِاسْتِسْقَاءِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ، وَقَدْ تَرْجَمَ لَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الدَّعَوَاتِ بِالدُّعَاءِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ بِالِاسْتِسْقَاءِ، وَكَأَنَّهُ أَلْحَقَهُ بِهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الِاخْتِصَاصِ: وَتَرْجَمَ أَيْضًا لِكَوْنِهَا رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ إِجْمَاعٌ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِهَا، وَلِكَوْنِهَا فِي الْمُصَلَّى، وَقَدِ اسْتَثْنَى الْخَفَّافُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ مَسْجِدَ مَكَّةَ كَالْعِيدِ، وَبِالْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ، وَبِتَحْوِيلِ الظَّهْرِ إِلَى النَّاسِ عِنْدَ الدُّعَاءِ وَهُوَ مِنْ لَازِمِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ الْمُصَنِّفُ، وَقَوْلُهُ:(كَانَ ابْنُ عُيَيْنَةَ إِلَخْ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيقًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ شَيْخِهِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَذْكُورِ، وَيُرَجِّحُ الثَّانِي أَنَّ الْإِسْمَاعِيلِيَّ أَخْرَجَهُ عَنْ جَعْفَرٍ الْفِرْيَابِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فَقَالَ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الَّذِي أَرَى النِّدَاءَ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ، وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّ ابْنَ عُيَيْنَةَ غَلِطَ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (لِأَنَّ هَذَا) يَعْنِي رَاوِيَ حَدِيثِ الِاسْتِسْقَاءِ (عَبْدُ اللَّهِ) أَيْ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ (ابْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ) فَالتَّقْدِيرُ لِأَنَّ هَذَا أَيْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ.
قَوْلُهُ: (مَازِنُ الْأَنْصَارِ) احْتِرَازٌ عَنْ مَازِنِ تَمِيمٍ، وَهُوَ مَازِنُ بْنُ مَالِكِ بْنِ عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ، أَوْ مَازِنُ قَيْسٍ وَهُوَ مَازِنُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ خَصْفَةَ بِمُعْجَمَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَتَيْنِ ابْنُ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ، وَمَازِنُ ابْنُ صَعْصَعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ، وَمَازِنُ ضَبَّةَ وَهُوَ مَازِنُ بْنُ كَعْبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ ضَبَّةَ، وَمَازِنُ شَيْبَانَ وَهُوَ مَازِنُ بْنُ ذُهْلِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ شَيْبَانَ وَغَيْرُهُمْ. قَالَ الرَّشَاطِيُّ: مَازِنٌ فِي الْقَبَائِلِ كَثِيرٌ، وَالْمَازِنُ فِي اللُّغَةِ بَيْضُ النَّمْلِ وَقَدْ حَذَفَ الْبُخَارِيُّ مُقَابِلَهُ وَالتَّقْدِيرُ: وَذَاكَ أَيْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ رَائِي الْأَذَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ، وَقَدِ اتَّفَقَا فِي الِاسْمِ وَاسْمِ الْأَبِ وَالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَنْصَارِيِّ ثُمَّ إِلَى الْخَزْرَجِ وَالصُّحْبَةِ وَالرِّوَايَةِ، وَافْتَرَقَا فِي الْجَدِّ وَالْبَطْنِ الَّذِي مِنَ الْخَزْرَجِ لِأَنَّ حَفِيدَ عَاصِمٍ مِنْ مَازِنٍ وَحَفِيدَ عَبْدِ رَبِّهِ مِنْ بِلْحَارِثِ ابْنِ الْخَزْرَجِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(1)
أخرج أحمد رحمه الله حديث أبي هريرة المذكور باسناد حسن، وصرح فيه بأنه خطب بعد الصلاة، ويجمع بين هذين الحديثين بجواز الأمرين. والله أعلم
5 - باب انتقام الرب جل وعز من خلقه بالقحط إذا انتهكت محارم الله
قولُهُ: (بَابُ انْتِقَامِ الرَّبِ عز وجل مِنْ خَلْقِهُ بِالْقَحْطِ إِذَا انْتُهِكَتْ مَحَارِمُهُ، هَكَذَا وَقَعَتْ هَذَهِ التَّرْجَمَةُ فِي رِوَايَةِ الْحَموِي وَحْدَهُ خَالِيَةً مِنْ حَدِيثٍ وَمِنْ أَثَرٍ. قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: كَأَنَّهَا كَانَتْ فِي رقْعَةٍ مُفْرَدَةٍ فَأَهْمَلَهَا الْبَاقُونَ، وَكَأَنَّهُ وَضَعَهَا لِيُدْخِلَ تَحْتَهَا حَدِّيًّا، وَأَلْيَقُ شَيْءٍ بِهَا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، يَعْنِي الْمَذْكُورَ فِي ثَانِي بَابٍ مِنَ الِاسْتِسْقَاءِ، وَأَخَّرَ ذَلِكَ لِيَقَعَ لَهُ التَّغْيِيرُ فِي بَعْضِ سَنَدِهِ كَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُ غَالِبًا فَعَاقَهُ عَنْ ذَلِكَ عَائِقٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
6 - بَاب الِاسْتِسْقَاءِ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ
1013 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو ضَمْرَةَ أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَذْكُرُ أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ بَابٍ كَانَ وِجَاهَ الْمِنْبَرِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يَخْطُبُ فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَتْ الْمَوَاشِي، وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ يُغِيثُنَا، قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اسْقِنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا، قَالَ أَنَسُ: وَلَا وَاللَّهِ مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ وَلَا قَزَعَةً وَلَا شَيْئًا وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ وَلَا دَارٍ، قَالَ: فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ فَلَمَّا تَوَسَّطَتْ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سِتًّا، ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ فِي الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يَخْطُبُ فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَتْ الْأَمْوَالُ وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ فَادْعُ اللَّهَ يُمْسِكْهَا، قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الْآكَامِ وَالْجِبَالِ وَالْآجَامِ وَالظِّرَابِ وَالْأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ، قَالَ: فَانْقَطَعَتْ وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ، قَالَ شَرِيكٌ: فَسَأَل تُ أَنَسًا أَهُوَ الرَّجُلُ الْأَوَّلُ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي.
قَوْلُهُ: (بَابُ الِاسْتِسْقَاءِ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ) أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى أَنَّ الْخُرُوجَ إِلَى الْمُصَلَّى لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الِاسْتِسْقَاءِ لِأَنَّ الْمَلْحُوظَ فِي الْخُرُوجِ الْمُبَالَغَةُ فِي اجْتِمَاعِ النَّاسِ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ فِي الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ بِنَاءً عَلَى الْمَعْهُودِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ مِنْ عَدَمِ تَعَدُّدِ الْجَامِعِ، بِخِلَافِ مَا حَدَثَ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ فِي بِلَادِ مِصْرَ وَالشَّامِ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَقَدْ تَرْجَمَ لَهُ الْمُصَنِّفُ بَعْدَ ذَلِكَ مَنِ اكْتَفَى بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِي خُطْبَةِ الِاسْتِسْقَاءِ وَتَرْجَمَ لَهُ أَيْضًا الِاسْتِسْقَاءُ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ فَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ إِنِ اتَّفَقَ وُقُوعُ ذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ انْدَرَجَتْ خُطْبَةُ الِاسْتِسْقَاءِ وَصَلَاتُهَا فِي الْجُمُعَةِ، وَمَدَارُ الطُّرُقِ الثَّلَاثَةِ عَلَى شَرِيكٍ: فَالْأُولَى عَنْ أَبِي ضَمْرَةَ، وَالثَّانِيَةُ عَنْ مَالِكٍ، وَالثَّالِثَةُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ شَرِيكٍ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى عَنْ أَنَسٍ سَنُشِيرُ إِلَيْهَا عِنْدَ النَّقْلِ لِزَوَائِدِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (أَنَّ رَجُلًا) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَتِهِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مُرَّةَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُفَسِّرَ هَذَا الْمُبْهَمَ بِأَنَّهُ كَعْبٌ الْمَذْكُورُ وَسَأَذْكُرُ بَعْضَ سِيَاقِهِ بَعْدَ قَلِيلٍ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ طَرِيقٍ مُرْسَلَةٍ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُفَسَّرَ بِأَنَّهُ خَارِجَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ الْفَزَارِيُّ، وَلَكِنْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ شُرَحْبِيلَ بْنِ السَّمْطِ أَنَّهُ قَالَ لِكَعْبِ بْنِ مُرَّةَ: يَا كَعْبُ حَدِّثْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاحْذَرْ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتَسْقِ اللَّهَ عَزَّ
وَجَلَّ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اسْقِنَا الْحَدِيثَ.
فَفِي هَذَا أَنَّهُ غَيْرُ كَعْبٍ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فَأَتَاهُ أَبُو سُفْيَانَ وَمِنْ ثَمَّ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَهُوَ وَهْمٌ لِأَنَّهُ جَاءَ فِي وَاقِعَةٍ أُخْرَى كَمَا سَنُوَضِّحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَابِ إِذَا اسْتَشْفَعَ الْمُشْرِكُونَ بِالْمُسْلِمِينَ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْجُمُعَةِ مِنْ رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ أَصَابَ النَّاسَ سَنَةٌ - أَيْ جَدْبٌ - عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَبَيْنًا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَامَ أَعْرَابِيٌّ وَسَيَأْتِي مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَنَسٍ أَتَى رَجُلٌ أَعْرَابِيٌّ مِنْ أَهْلِ الْبَدْوِ وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ الْآتِيَةِ فِي بَابِ الدُّعَاءِ إِذَا كُثْرَ الْمَطَرُ عَنْ أَنَسٍ فَقَامَ النَّاسُ فَصَاحُوا فَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونُوا سَأَلُوهُ بَعْدَ أَنْ سَأَلَ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ نَسَبَ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ لِمُوَافَقَةِ سُؤَالِ السَّائِلِ مَا كَانُوا يُرِيدُونَهُ مِنْ طَلَبِ دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُمْ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ أَيْضًا عِنْدَ أَحْمَدَ إِذْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَسْجِدِ وَهِيَ تُرَجِّحُ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ.
قَوْلُهُ: (مِنْ بَابِ كَانَ وِجَاهَ الْمِنْبَرِ) بِكَسْرِ وَاوِ وِجَاهٍ وَيَجُوزُ ضَمُّهَا أَيْ مُوَاجِهَةً، وَوَقَعَ فِي شَرْحِ ابْنِ التِّينِ أَنَّ مَعْنَاهُ مُسْتَدْبِرُ الْقِبْلَةِ، وَهُوَ وَهْمٌ، وَكَأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ الْبَابَ الْمَذْكُورَ كَانَ مُقَابِلَ ظَهْرِ الْمِنْبَرِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ مِنْ بَابِ كَانَ نَحْوَ دَارِ الْقَضَاءِ وَفَسَّرَ بَعْضُهُمْ دَارَ الْقَضَاءِ بِأَنَّهَا دَارُ الْإِمَارَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا هِيَ دَارُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَسُمِّيَتْ دَارُ الْقَضَاءِ لِأَنَّهَا بِيعَتْ فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ فَكَانَ يُقَالُ لَهَا دَارُ قَضَاءِ دَيْنِ عُمَرَ، ثُمَّ طَالَ ذَلِكَ فَقِيلَ لَهَا دَارُ الْقَضَاءِ ذَكَرَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ بِسَنَدِهِ إِلَى ابْنِ عُمَرَ، وَذَكَرَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ عَنْ أَبِي غَسَّانَ الْمَدَنِيِّ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي فُدَيْكٍ عَنْ عَمِّهِ كَانَتْ دَارُ الْقَضَاءِ لِعُمَرَ، فَأَمَرَ عَبْدَ اللَّهِ، وَحَفْصَةَ أَنْ يَبِيعَاهَا عِنْدَ وَفَاتِهِ فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَيْهِ، فَبَاعُوهَا مِنْ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَتْ تُسَمَّى دَارَ الْقَضَاءِ. قَالَ ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ سَمِعْتُ عَمِّي يَقُولُ: إِنْ كَانَتْ لَتُسَمَّى دَارَ قَضَاءِ الدَّيْنِ.
قَالَ وَأَخْبَرَنِي عَمِّي أَنَّ الْخَوْخَةَ الشَّارِعَةَ فِي دَارِ الْقَضَاءِ غَرْبِيَّ الْمَسْجِدِ هِيَ خَوْخَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ الَّتِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَبْقَى فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إِلَّا خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ، وَقَدْ صَارَتْ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى مَرْوَانَ وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ، فَلَعَلَّهَا شُبْهَةُ مَنْ قَالَ إِنَّهَا دَارُ الْإِمَارَةِ فَلَا يَكُونُ غَلَطًا كَمَا قَالَ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ وَغَيْرُهُ، وَجَاءَ فِي تَسْمِيَتِهَا دَارَ الْقَضَاءِ قَوْلٌ آخَرُ رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ، عَنْ أَبِي غَسَّانَ الْمَدَنِيِّ أَيْضًا، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عِمْرَانَ، عَنْ رَاشِدِ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ أُمِّ الْحَكَمِ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَمَّتِهَا سَهْلَةَ بِنْتِ عَاصِمٍ قَالَتْ: كَانَتْ دَارُ الْقَضَاءِ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ دَارَ الْقَضَاءِ لِأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ اعْتَزَلَ فِيهَا لَيَالِيَ الشُّورَى حَتَّى قُضِيَ الْأَمْرُ فِيهَا فَبَاعَهَا بَنُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ. قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ: فَكَانَتْ فِيهَا الدَّوَاوِينُ وَبَيْتُ الْمَالِ، ثُمَّ صَيَّرَهَا السَّفَّاحُ رَحْبَةً لِلْمَسْجِدِ. وَزَادَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ إِنِّي لَقَائِمٌ عِنْدَ الْمِنْبَرِ فَأَفَادَ بِذَلِكَ قُوَّةَ ضَبْطِهِ لِلْقِصَّةِ لِقُرْبِهِ، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَرِدْ هَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا السِّيَاقِ كُلِّهِ إِلَّا مِنْ رِوَايَتِهِ.
قَوْلُهُ: (قَائِمٌ يَخْطُبُ) زَادَ فِي رِوَايَةِ قَتَادَةَ فِي الْأَدَبِ بِالْمَدِينَةِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّائِلَ كَانَ مُسْلِمًا فَانْتَفَى أَنْ يَكُونَ أَبَا سُفْيَانَ فَإِنَّهُ حِينَ سُؤَالِهِ لِذَلِكَ كَانَ لَمْ يُسْلِمْ كَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَرِيبًا.
قَوْلُهُ: (هَلَكَتِ الْأَمْوَالُ) فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَأَبِي ذَرٍّ جَمِيعًا عَنْ الْكُشْمِيهَنِيِّ الْمَوَاشِي وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْأَمْوَالِ هُنَا لَا الصَّامِتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ بِلَفْظِ هَلَكَ الْكُرَاعُ وَهُوَ بِضَمِّ الْكَافِ يُطْلَقُ عَلَى الْخَيْلِ وَغَيْرِهَا، وَفِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْآتِيَةِ هَلَكَتِ الْمَاشِيَةُ، هَلَكَ الْعِيَالُ، هَلَكَ النَّاسُ وَهُوَ مِنْ ذِكْرِ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ، وَالْمُرَادُ بِهَلَاكِهِمْ عَدَمُ وُجُودِ مَا يَعِيشُونَ بِهِ مِنَ الْأَقْوَاتِ الْمَفْقُودَةِ بِحَبْسِ الْمَطَرِ.
قَوْلُهُ: (وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ) فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَتَقَطَّعَتْ بِمُثَنَّاةٍ وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّ الْإِبِلَ ضَعُفَتْ
- لِقِلَّةِ الْقُوتِ - عَنِ السَّفَرِ، أَوْ لِكَوْنِهَا لَا تَجِدُ فِي طَرِيقِهَا مِنَ الْكَلَأِ مَا يُقِيمُ أَوَدَهَا، وَقِيلَ الْمُرَادُ نَفَادُ مَا عِنْدَ النَّاسِ مِنَ الطَّعَامِ أَوْ قِلَّتِهِ فَلَا يَجِدُونَ مَا يَحْمِلُونَهُ يَجْلِبُونَهُ إِلَى الْأَسْوَاقِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ قَتَادَةَ الْآتِيَةِ عَنْ أَنَسٍ قَحَطَ الْمَطَرُ أَيْ قَلَّ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالطَّاءِ
(1)
وَحُكِيَ بِضَمٍّ ثُمَّ كَسْرٍ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ الْآتِيَةِ عَنْ أَنَسٍ وَاحْمَرَّتِ الشَّجَرُ وَاحْمِرَارُهَا كِنَايَةٌ عَنْ يُبْسِ وَرَقِهَا لِعَدَمِ شُرْبِهَا الْمَاءَ، أَوْ لِانْتِثَارِهِ فَتَصِيرُ الشَّجَرُ أَعْوَادًا بِغَيْرِ وَرَقٍ. وَوَقَعَ لِأَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ قَتَادَةَ وَأَمْحَلَتِ الْأَرْضُ وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ قَالَ كُلَّهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الرُّوَاةِ رَوَى شَيْئًا مِمَّا قَالَهُ بِالْمَعْنَى لِأَنَّهَا مُتَقَارِبَةٌ فَلَا تَكُونَ غَلَطًا كَمَا قَالَ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ وَغَيْرُهُ.
قَوْلُهُ: (فَادْعُ اللَّهُ يُغِيثُنَا) أَيْ فَهُوَ يُغِيثُنَا، وَهَذِهِ رِوَايَةُ الْأَكْثَرِ، وَلِأَبِي ذَرٍّ أَنْ يُغِيثَنَا وَفِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ الْآتِيَةِ لِلْكُشْمِيهَنِيِّ يُغِثْنَا بِالْجَزْمِ، وَيَجُوزُ الضَّمُّ فِي يُغِيثُنَا عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْإِغَاثَةِ وَبِالْفَتْحِ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْغَيْثِ، وَيُرَجِّحُ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ فَقَالَ اللَّهُمَّ أَغِثْنَا وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ قَتَادَةَ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَسْقِيَنَا وَلَهُ فِي الْأَدَبِ فَاسْتَسْقِ رَبَّكَ قَالَ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ: رَوَاهُ لَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ اللَّهُمَّ أَغِثْنَا وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْغَوْثِ أَوْ مِنَ الْغَيْثِ، وَالْمَعْرُوفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ غِثْنَا لِأَنَّهُ مِنَ الْغَوْثِ، وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّاعِ: غَاثَ اللَّهُ عِبَادَهُ غَيْثًا وَغِيَاثًا سَقَاهُمُ الْمَطَرَ، وَأَغَاثَهُمْ أَجَابَ دُعَاءَهُمْ، وَيُقَالُ: غَاثَ وَأَغَاثَ بِمَعْنًى، وَالرُّبَاعِيُّ أَعْلَى. وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: الْأَصْلُ غَاثَهُ اللَّهُ يَغُوثُهُ غَوْثًا فَأُغِيثَ، وَاسْتُعْمِلَ أَغَاثَهُ، وَمَنْ فَتَحَ أَوَّلَهُ فَمِنَ الْغَيْثِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى أَغِثْنَا أَعْطِنَا غَوْثًا وَغَيْثًا.
قَوْلُهُ: (فَرَفَعَ يَدَيْهِ) زَادَ النَّسَائِيُّ فِي رِوَايَةِ سَعِيدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَرَفَعَ النَّاسُ أَيْدِيَهُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُونَ وَزَادَ فِي رِوَايَةِ شَرِيكٍ حِذَاءَ وَجْهِهِ وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ رِوَايَةِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ حَتَّى رَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ وَتَقَدَّمَ فِي الْجُمُعَةِ بِلَفْظِ فَمَدَّ يَدَيْهِ وَدَعَا زَادَ فِي رِوَايَةِ قَتَادَةَ فِي الْأَدَبِ فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: اللَّهُمَّ اسْقِنَا) أَعَادَهُ ثَلَاثًا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ الْآتِيَةِ عَنْ أَنَسٍ اللَّهُمَّ اسْقِنَا مَرَّتَيْنِ، وَالْأَخْذُ بِالزِّيَادَةِ أَوْلَى، وَيُرَجِّحُهَا مَا تَقَدَّمَ فِي الْعِلْمِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا دَعَا دَعَا ثَلَاثًا.
قَوْلُهُ: (وَلَا وَاللَّهِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالْوَاوِ، وَلِأَبِي ذَرٍّ بِالْفَاءِ، وَفِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ الْمَذْكُورَةِ وَايْمُ اللَّهِ.
قَوْلُهُ: (مِنْ سَحَابٍ) أَيْ مُجْتَمِعٍ (وَلَا قَزَعَةٍ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَالزَّايُ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ أَيْ سَحَابٍ مُتَفَرِّقٍ، قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: الْقَزَعُ قِطَعٌ مِنَ السَّحَابِ رِقَاقٌ، زَادَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَأَكْثَرُ مَا يَجِيءُ فِي الْخَرِيفِ.
قَوْلُهُ: (وَلَا شَيْئًا) بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى مَوْضِعِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ أَيْ مَا نَرَى شَيْئًا، وَالْمُرَادُ نَفْيُ عَلَامَاتِ الْمَطَرِ مِنْ رِيحٍ وَغَيْرِهِ.
قَوْلُهُ: (وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ جَبَلٌ مَعْرُوفٌ بِالْمَدِينَةِ، وَقَدْ حُكِيَ أَنَّهُ بِفَتْحِ اللَّامِ.
قَوْلُهُ: (مِنْ بَيْتٍ وَلَا دَارٍ) أَيْ يَحْجُبُنَا عَنْ رُؤْيَتِهِ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ السَّحَابَ كَانَ مَفْقُودًا لَا مُسْتَتِرًا بِبَيْتٍ وَلَا غَيْرِهِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ قَالَ: قَالَ أَنَسٌ: وَإِنَّ السَّمَاءَ لَفِي مِثْلِ الزُّجَاجَةِ أَيْ لِشِدَّةِ صَفَائِهَا، وَذَلِكَ مُشْعِرٌ بِعَدَمِ السَّحَابِ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (فَطَلَعَتْ) أَيْ ظَهَرَتْ (مِنْ وَرَائِهِ) أَيْ سَلْعٍ، وَكَأَنَّهَا نَشَأَتْ مِنْ جِهَةِ الْبَحْرِ لِأَنَّ وَضْعَ سَلْعٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (مِثْلُ التُّرْسِ) أَيْ مُسْتَدِيرَةٌ، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهَا مِثْلُهُ فِي الْقَدْرِ لِأَنَّ فِي رِوَايَةِ حَفْصِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ فَنَشَأَتْ سَحَابَةٌ مِثْلُ رِجْلِ الطَّائِرِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهَا فَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّهَا كَانَتْ صَغِيرَةً، وَفِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ الْمَذْكُورَةِ فَهَاجَتْ رِيحٌ أَنْشَأَتْ سَحَابًا ثُمَّ اجْتَمَعَ وَفِي رِوَايَةِ قَتَادَةَ فِي الْأَدَبِ فَنَشَأَ السَّحَابُ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ وَفِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ الْآتِيَةِ حَتَّى ثَارَ السَّحَابُ أَمْثَالَ الْجِبَالِ أَيْ لِكَثْرَتِهِ، وَفِيهِ ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ عَنْ مِنْبَرِهِ
(1)
كذا في الأصلين، ولعله بفتح القاف والحاء، كما يعلم من القاموس وغيره
حَتَّى رَأَيْنَا الْمَطَرَ يَتَحَادَرُ عَلَى لِحْيَتِهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّقْفَ وُكِفَ لِكَوْنِهِ كَانَ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا تَوَسَّطَتِ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ) هَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّهَا اسْتَمَرَّتْ مُسْتَدِيرَةً حَتَّى انْتَهَتْ إِلَى الْأُفُقِ فَانْبَسَطَتْ حِينَئِذٍ، وَكَأَنَّ فَائِدَتَهُ تَعْمِيمُ الْأَرْضِ بِالْمَطَرِ.
قَوْلُهُ: (مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سَبْتًا) كِنَايَةٌ عَنِ اسْتِمْرَارِ الْغَيْمِ الْمَاطِرِ، وَهَذَا فِي الْغَالِبِ، وَإِلَّا فَقَدْ يَسْتَمِرُّ الْمَطَرُ وَالشَّمْسُ بَادِيَةٌ، وَقَدْ تُحْجَبُ الشَّمْسُ بِغَيْرِ مَطَرٍ. وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ رِوَايَةُ إِسْحَاقَ الْآتِيَةِ بِلَفْظِ فَمُطِرْنَا يَوْمَنَا ذَلِكَ وَمِنَ الْغَدِ وَمِنْ بَعْدِ الْغَدِ وَالَّذِي يَلِيهِ حَتَّى الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى. وَأَمَّا قَوْلُهُ: سَبْتًا فَوَقَعَ لِلْأَكْثَرِ بِلَفْظِ السَّبْتِ - يَعْنِي أَحَدَ الْأَيَّامِ - وَالْمُرَادُ بِهِ الْأُسْبُوعُ، وَهُوَ مِنْ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ بَعْضِهِ كَمَا يُقَالُ جُمْعَةٌ قَالَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ. قَالَ: وَيُقَالُ أَرَادَ قِطْعَةً مِنَ الزَّمَانِ. وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرَ: قَوْلُهُ: سَبْتًا أَيْ مِنَ السَّبْتِ إِلَى السَّبْتِ، أَيْ جُمْعَةٌ. وَقَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ مِثْلَهُ وَزَادَ أَنَّ فِيهِ تَجَوُّزًا لِأَنَّ السَّبْتَ لَمْ يَكُنْ مَبْدَأً وَلَا الثَّانِي مُنْتَهًى، وَإِنَّمَا عَبَّرَ أَنَسٌ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ مِنَ الْأَنْصَارِ وَكَانُوا قَدْ جَاوَرُوا الْيَهُودَ فَأَخَذُوا بِكَثِيرٍ مِنِ اصْطِلَاحِهِمْ، وَإِنَّمَا سَمَّوُا الْأُسْبُوعَ سَبْتًا لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْأَيَّامِ عِنْدَ الْيَهُودِ، كَمَا أَنَّ الْجُمُعَةَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ كَذَلِكَ.
وَحَكَى النَّوَوِيُّ تَبَعًا لِغَيْرِهِ كَثَابِتٍ فِي الدَّلَائِلِ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ سَبْتًا قِطْعَةٌ مِنَ الزَّمَانِ، وَلَفْظُ ثَابِتٍ: النَّاسُ يَقُولُونَ مَعْنَاهُ مِنْ سَبْتٍ إِلَى سَبْتٍ وَإِنَّمَا السَّبْتُ قِطْعَةٌ مِنَ الزَّمَانِ. وَأَنَّ الدَّاوُدِيَّ رَوَاهُ بِلَفْظِ سِتًّا وَهُوَ تَصْحِيفٌ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الدَّاوُدِيَّ لَمْ يَنْفَرِدْ بِذَلِكَ فَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي هُنَا سِتًّا، وَكَذَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ شَرِيكٍ، وَوَافَقَهُ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، وَكَأَنَّ مَنِ ادَّعَى أَنَّهُ تَصْحِيفٌ اسْتَبْعَدَ اجْتِمَاعَ قَوْلِهِ سِتًّا مَعَ قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ الْآتِيَةِ سَبْعًا، وَلَيْسَ بِمُسْتَبْعَدٍ لِأَنَّ مَنْ قَالَ سِتًّا أَرَادَ سِتَّةَ أَيَّامٍ تَامَّةً، وَمَنْ قَالَ سَبْعًا أَضَافَ أَيْضًا يَوْمًا مُلَفَّقًا مِنَ الْجُمُعَتَيْنِ.
وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنْ شَرِيكٍ فَمُطِرْنَا مِنْ جُمُعَةٍ إِلَى جُمُعَةٍ وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَفِيِّ فَدَامَتْ جُمْعَةً وَفِي رِوَايَةِ عَبْدُوسٍ، وَالْقَابِسِيِّ فِيمَا حَكَاهُ عِيَاضٌ سَبَّتْنَا كَمَا يُقَالُ جَمَّعَتْنَا، وَوَهِمَ مَنْ عَزَا هَذِهِ الرِّوَايَةَ لِأَبِي ذَرٍّ، وَفِي رِوَايَةِ قَتَادَةَ الْآتِيَةِ فَمُطِرْنَا فَمَا كِدْنَا نَصِلُ إِلَى مَنَازِلِنَا أَيْ مِنْ كَثْرَةِ الْمَطَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلْمُصَنِّفِ فِي الْجُمُعَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِلَفْظِ فَخَرَجْنَا نَخُوضُ الْمَاءَ حَتَّى أَتَيْنَا مَنَازِلَنَا وَلِمُسْلِمٍ فِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ فَأُمْطِرْنَا حَتَّى رَأَيْتُ الرَّجُلَ تُهِمُّهُ نَفْسُهُ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ فِي رِوَايَةِ حُمَيْدٍ حَتَّى أَهَمَّ الشَّابُّ الْقَرِيبُ الدَّارِ الرُّجُوعَ إِلَى أَهْلِهِ وَلِلْمُصَنِّفِ فِي الْأَدَبِ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ حَتَّى سَالَتْ مَثَاعِبُ الْمَدِينَةِ وَمَثَاعِبُ جَمْعُ مَثْعَبٍ بِالْمُثَلَّثَةِ وَآخِرُهُ مُوَحَّدَةٌ مَسِيلُ الْمَاءِ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ فِي الْجُمْلَةِ الْمُقْبِلَةِ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ غَيْرُ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ النَّكِرَةَ إِذَا تَكَرَّرَتْ دَلَّتْ عَلَى التَّعَدُّدِ، وَقَدْ قَالَ شَرِيكٌ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ هُنَا سَأَلْتُ أَنَسًا: أَهُوَ الرَّجُلُ الْأَوَّلُ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يَجْزِمْ بِالتَّغَايُرِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَاعِدَةَ الْمَذْكُورَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْغَالِبِ لِأَنَّ أَنَسًا مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ وَقَدْ تَعَدَّدَتْ. وَسَيَأْتِي فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَنَسٍ فَقَامَ ذَلِكَ الرَّجُلُ أَوْ غَيْرُهُ وَكَذَا لِقَتَادَةَ فِي الْأَدَبِ، وَتَقَدَّمَ فِي الْجُمُعَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ كَذَلِكَ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ يَشُكُّ فِيهِ، وَسَيَأْتِي مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ فَأَتَى الرَّجُلُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ. وَمِثْلُهُ لِأَبِي عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ حَفْصٍ، عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ فَمَا زِلْنَا نُمْطَرُ حَتَّى جَاءَ ذَلِكَ الْأَعْرَابِيُّ فِي الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ، وَهَذَا يَقْتَضِي الْجَزْمَ بِكَوْنِهِ وَاحِدًا، فَلَعَلَّ أَنَسًا تَذَكَّرَهُ بَعْدَ أَنْ نَسِيَهُ، أَوْ نَسِيَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ تَذَكَّرَهُ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ رِوَايَةُ الْبَيْهَقِيِّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ أَنَّ عُبَيْدًا السُّلَمِيَّ
(1)
قَالَ لَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَتَاهُ وَفْدُ بَنِي فَزَارَةَ وَفِيهِ خَارِجَةُ بْنُ
(1)
في مخطوطة الرياض" يزيد بن عبيد"
حِصْنٍ أَخُو عُيَيْنَةَ قَدِمُوا عَلَى إِبِلٍ عِجَافٍ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ لَنَا رَبَّكَ أَنْ يُغِيثَنَا فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اسْقِ بَلَدَكَ وَبَهِيمَكَ، وَانْشُرْ بَرَكَتَكَ.
اللَّه مَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا مَرِيئًا مُرِيعًا طَبَقًا وَاسِعًا عَاجِلًا غَيْرَ آجِلٍ نَافِعًا غَيْرَ ضَارٍّ، اللَّهُمَّ سُقْيَا رَحْمَةٍ لَا سُقْيَا عَذَابٍ، اللَّهُمَّ اسْقِنَا الْغَيْثَ وَانْصُرْنَا عَلَى الْأَعْدَاءِ وَفِيهِ قَالَ فَلَا وَاللَّهِ مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ قَزَعَةٍ وَلَا سَحَابٍ، وَمَا بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَسَلْعٍ مِنْ بِنَاءٍ فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ أَنَسٍ بِتَمَامِهِ وَفِيهِ قَالَ الرَّجُلُ - يَعْنِي الَّذِي سَأَلَهُ أَنْ يَسْتَسْقِيَ لَهُمْ - هَلَكَتِ الْأَمْوَالُ الْحَدِيثَ، كَذَا فِي الْأَصْلِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ السَّائِلَ هُوَ خَارِجَةُ الْمَذْكُورُ لِكَوْنِهِ كَانَ كَبِيرَ الْوَفْدِ وَلِذَلِكَ سُمِّيَ مِنْ بَيْنِهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَفَادَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ صِفَةَ الدُّعَاءِ الْمَذْكُورِ، وَالْوَقْتَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (هَلَكَتِ الْأَمْوَالُ وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ) أَيْ بِسَبَبٍ غَيْرِ السَّبَبِ الْأَوَّلِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ كَثْرَةَ الْمَاءِ انْقَطَعَ الْمَرْعَى بِسَبَبِهَا فَهَلَكَتِ الْمَوَاشِي مِنْ عَدَمِ الرَّعْيِ، أَوْ لِعَدَمِ مَا يُكِنُّهَا مِنَ الْمَطَرِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ سَعِيدٍ، عَنْ شَرِيكٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ كَثْرَةِ الْمَاءِ وَأَمَّا انْقِطَاعُ السُّبُلِ فَلِتَعَذُّرِ سُلُوكِ الطُّرُقِ مِنْ كَثْرَةِ الْمَاءِ. وَفِي رِوَايَةِ حُمَيْدٍ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَاحْتَبَسَ الرَّكْبَانِ وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنْ شَرِيكٍ تَهَدَّمَتِ الْبُيُوتُ وَفِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ الْآتِيَةِ هُدِمَ الْبِنَاءُ وَغَرِقَ الْمَالُ.
قَوْلُهُ: (فَادْعُ اللَّهَ يُمْسِكُهَا) يَجُوزُ فِي يُمْسِكُهَا الضَّمُّ وَالسُّكُونُ، ولِلكُشْمِيهَنِيِّ هُنَا أَنْ يُمْسِكَهَا وَالضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى الْأَمْطَارِ أَوْ عَلَى السَّحَابِ أَوْ عَلَى السَّمَاءِ، وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ عَلَى الْمَطَرِ سَمَاءً، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدٍ، عَنْ شَرِيكٍ أَنْ يُمْسِكَ عَنَّا الْمَاءَ وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ ثَابِتٍ أَنْ يَرْفَعَهَا عَنَّا وَفِي رِوَايَةِ قَتَادَةَ فِي الْأَدَبِ فَادْعُ رَبَّكَ أَنْ يَحْبِسَهَا عَنَّا. فَضَحِكَ وَفِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ فَتَبَسَّمَ زَادَ فِي رِوَايَةِ حُمَيْدٍ لِسُرْعَةِ مَلَالِ ابْنِ آدَمَ.
قَوْلُهُ: (فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ قَرِيبًا.
قَوْلُهُ: (اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا) بِفَتْحِ اللَّامِ وَفِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ اجْعَلْ أَوْ أَمْطِرْ، وَالْمُرَادُ بِهِ صَرْفُ الْمَطَرِ عَنْ الْأَبْنِيَةِ وَالدُّورِ.
قَوْلُهُ: (وَلَا عَلَيْنَا) فِيهِ بَيَانٌ لِلْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: حَوَالَيْنَا لِأَنَّهَا تَشْمَلُ الطُّرُقَ الَّتِي حَوْلَهُمْ فَأَرَادَ إِخْرَاجَهَا بِقَوْلِهِ وَلَا عَلَيْنَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي إِدْخَالِ الْوَاوِ هُنَا مَعْنًى لَطِيفٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ أَسْقَطَهَا لَكَانَ مُسْتَسْقِيًا لِلْآكَامِ وَمَا مَعَهَا فَقَطْ، وَدُخُولُ الْوَاوِ يَقْتَضِي أَنَّ طَلَبَ الْمَطَرِ عَلَى الْمَذْكُورَاتِ لَيْسَ مَقْصُودًا لِعَيْنِهِ وَلَكِنْ لِيَكُونَ وِقَايَةً مِنْ أَذَى الْمَطَرِ، فَلَيْسَتِ الْوَاوُ مُخَلَّصَةً لِلْعَطْفِ وَلَكِنَّهَا لِلتَّعْلِيلِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ تَجُوعُ الْحُرَّةُ وَلَا تَأْكُلُ بِثَدْيَيْهَا، فَإِنَّ الْجُوعَ لَيْسَ مَقْصُودًا لِعَيْنِهِ وَلَكِنْ لِكَوْنِهِ مَانِعًا عَنِ الرَّضَاعِ بِأُجْرَةٍ إِذْ كَانُوا يَكْرَهُونَ ذَلِكَ أَنَفًا اهـ.
قَوْلُهُ: (اللَّهُمَّ عَلَى الْآكَامِ) فِيهِ بَيَانُ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: حَوَالَيْنَا وَالْإِكَامُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَقَدْ تُفْتَحُ وَتُمَدُّ: جَمْعُ أَكَمَةٍ بِفَتَحَاتٍ، قَالَ ابْنُ الْبَرْقِيِّ: هُوَ التُّرَابُ الْمُجْتَمِعُ، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: هِيَ أَكْبَرُ مِنَ الْكُدْيَةِ. وَقَالَ الْقَزَّازُ: هِيَ الَّتِي مِنْ حَجَرٍ وَاحِدٍ وَهُوَ قَوْلُ الْخَلِيلِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: هِيَ الْهَضْبَةُ الضَّخْمَةُ، وَقِيلَ الْجَبَلُ الصَّغِيرُ، وَقِيلَ مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ، وَقَالَ الثَّعَالِبِيُّ: الْأَكَمَةُ أَعْلَى مِنَ الرَّابِيَةِ وَقِيلَ دُونَهَا.
قَوْلُهُ: (وَالظِّرَابِ) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَآخِرُهُ مُوَحَّدَةٌ جَمْعُ ظَرِبٍ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَقَدْ تُسَكَّنُ. وَقَالَ الْقَزَّازُ: هُوَ الْجَبَلُ الْمُنْبَسِطُ لَيْسَ بِالْعَالِي، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الرَّابِيَةُ الصَّغِيرَةُ.
قَوْلُهُ: (وَالْأَوْدِيَةِ) فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ بُطُونِ الْأَوْدِيَةِ وَالْمُرَادُ بِهَا مَا يَتَحَصَّلُ فِيهِ الْمَاءُ لِيُنْتَفَعَ بِهِ، قَالُوا: وَلَمْ تُسْمَعْ أَفْعِلَةٌ جَمْعُ فَاعِلٍ إِلَّا الْأَوْدِيَةُ جَمْعُ وَادٍ وَفِيهِ نَظَرٌ، وَزَادَ مَالِكٌ فِي رِوَايَتِهِ وَرُءُوسِ الْجِبَالِ.
قَوْلُهُ: (فَانْقَطَعَتْ) أَيِ السَّمَاءُ أَوِ السَّحَابَةُ الْمَاطِرَةُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا أَمْسَكَتْ عَنِ الْمَطَرِ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ فَانْجَابَتْ عَنِ الْمَدِينَةِ انْجِيَابَ الثَّوْبِ أَيْ خَرَجَتْ عَنْهَا كَمَا يَخْرُجُ الثَّوْبُ عَنْ لَابِسُهِ، وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدٍ، عَنْ شَرِيكٍ فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ تَكَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ تَمَزَّقَ السَّحَابُ حَتَّى مَا نَرَى مِنْهُ شَيْئًا وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مَا نَرَى مِنْهُ شَيْئًا أَيْ فِي
الْمَدِينَةِ، وَلِمُسْلِمٍ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ فَلَقَدْ رَأَيْتُ السَّحَابَ يَتَمَزَّقُ كَأَنَّهُ الْمُلَاءُ حِينَ تُطْوَى وَالْمُلَاءُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَالْقَصْرِ وَقَدْ يُمَدُّ جَمْعُ مُلَاءَةٍ وَهُوَ ثَوْبٌ مَعْرُوفٌ، وَفِي رِوَايَةِ قَتَادَةَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فَلَقَدْ رَأَيْتُ السَّحَابَ يَنْقَطِعُ يَمِينًا وَشِمَالًا يُمْطِرُونَ - أَيْ أَهْلَ النَّوَاحِي - وَلَا يُمْطِرُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ وَلَهُ فِي الْأَدَبِ فَجَعَلَ السَّحَابَ يَتَصَدَّعُ عَنِ الْمَدِينَةِ - وَزَادَ فِيهِ - يُرِيهِمُ اللَّهُ كَرَامَةَ نَبِيِّهِ وَإِجَابَةَ دَعَوْتِهِ وَلَهُ فِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ فَتَكَشَّطَتْ - أَيْ تَكَشَّفَتْ - فَجَعَلَتْ تُمْطِرُ حَوْلَ الْمَدِينَةِ وَلَا تُمْطِرُ بِالْمَدِينَةِ قَطْرَةً، فَنَظَرْتُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَأنَّهَا لَمِثْلِ الْإِكْلِيلِ
(1)
.
وَلِأَحْمَدَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَتَقَوَّرَ مَا فَوْقَ رُءُوسِنَا مِنَ السَّحَابِ حَتَّى كَأَنَّا فِي إِكْلِيلٍ وَالْإِكْلِيلُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْكَافِ كُلُّ شَيْءٍ دَارَ مِنْ جَوَانِبِهِ، وَاشْتُهِرَ لِمَا يُوضَعُ عَلَى الرَّأْسِ فَيُحِيطُ بِهِ، وَهُوَ مِنْ مَلَابِسِ الْمُلُوكِ كَالتَّاجِ، وَفِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَنَسٍ فَمَا يُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ السَّحَابِ إِلَّا تَفَرَّجَتْ حَتَّى صَارَتِ الْمَدِينَةُ فِي مِثْلِ الْجَوْبَةِ وَالْجَوْبَةُ بِفَتْحِ الْجِيمِ ثُمَّ الْمُوَحَّدَةِ وَهِيَ الْحُفْرَةُ الْمُسْتَدِيرَةُ الْوَاسِعَةُ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْفُرْجَةُ فِي السَّحَابِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُرَادُ بِالْجَوْبَةِ هُنَا التُّرْسُ، وَضَبَطَهَا الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ بِنُونٍ بَدَلَ الْمُوَحَّدَةِ، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِالشَّمْسِ إِذْ ظَهَرَتْ فِي خِلَالِ السَّحَابِ. لَكِنْ جَزَمَ عِيَاضٌ بِأَنَّ مَنْ قَالَهُ بِالنُّونِ فَقَدْ صَحَّفَ. وَفِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ مِنَ الزِّيَادَةِ أَيْضًا وَسَالَ الْوَادِي - وَادِي قَنَاةَ - شَهْرًا، وَقَنَاةُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالنُّونِ الْخَفِيفَةِ عَلَمٌ عَلَى أَرْضٍ ذَاتِ مَزَارِعٍ بِنَاحِيَةِ أُحُدٍ، وَوَادِيهَا أَحَدُ أَوْدِيَةِ الْمَدِينَةِ الْمَشْهُورَةِ قَالَهُ الْحَازِمِيُّ. وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَخْزُومِيُّ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ بِإِسْنَادٍ لَهُ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ سَمَّاهُ وَادِيَ قَنَاةَ تُبَّعٌ الْيَمَانِيُّ لَمَّا قَدِمَ يَثْرِبَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أَنَّ تُبَّعًا بَعَثَ رَائِدًا يَنْظُرُ إِلَى مَزَارِعِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ: نَظَرْتُ فَإِذَا قَنَاةُ حَبٍّ وَلَا تِبْنٍ، وَالْجُرُفُ حَبٌّ وَتِبْنٌ، وَالْحِرَارُ - يَعْنِي جَمْعَ حِرَّةٍ بِمُهْمَلَتَيْنِ - لَا حَبَّ وَلَا تِبْنَ اهـ.
وَتَقَدَّمَ فِي الْجُمُعَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَسَالَ الْوَادِي قَنَاةُ وَأُعْرِبَ بِالضَّمِّ عَلَى الْبَدَلِ عَلَى أَنَّ قَنَاةَ اسْمُ الْوَادِي وَلَعَلَّهُ مِنْ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَا جَاوَرَهُ. وَقَرَأْتُ بِخَطِّ الرَّضِيِّ الشَّاطِبِيِّ قَالَ: الْفُقَهَاءُ تَقُولُهُ بِالنَّصْبِ وَالتَّنْوِينِ يَتَوَهَّمُونَهُ قَنَاةً مِنَ الْقَنَوَاتِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ اهـ.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ قَدْ جَزَمَ بِهِ بَعْضُ الشُّرَّاحِ وَقَالَ: هُوَ عَلَى التَّشْبِيهِ. أَيْ سَالَ مِثْلَ الْقَنَاةِ. وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ: إِلَّا حَدَّثَ بِالْجَوْدِ هُوَ بِفَتْحِ الْجِيمِ الْمَطَرُ الْغَزِيرُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَطَرَ اسْتَمَرَّ فِيمَا سِوَى الْمَدِينَةِ، فَقَدْ يُشْكِلُ بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنَّ قَوْلَ السَّائِلِ هَلَكَتِ الْأَمْوَالُ وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ لَمْ يَرْتَفِعِ الْإِهْلَاكُ وَلَا الْقَطْعُ وَهُوَ خِلَافُ مَطْلُوبِهِ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْمَطَرَ اسْتَمَرَّ حَوْلَ الْمَدِينَةِ مِنَ الْإِكَامِ وَالظِّرَابِ وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ لَا فِي الطُّرُقِ الْمَسْلُوكَةِ، وَوُقُوعُ الْمَطَرِ فِي بُقْعَةٍ دُونَ بُقْعَةٍ كَثِيرٌ وَلَوْ كَانَتْ تُجَاوِرُهَا، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ جَازَ أَنْ يُوجَدَ لِلْمَاشِيَةِ أَمَاكِنُ تُكِنُّهَا وَتَرْعَى فِيهَا بِحَيْثُ لَا يَضُرُّهَا الْمَطَرُ فَيَزُولُ الْإِشْكَالُ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ جَوَازُ مُكَالَمَةِ الْإِمَامِ فِي الْخُطْبَةِ لِلْحَاجَةِ، وَفِيهِ الْقِيَامُ فِي الْخُطْبَةِ وَأَنَّهَا لَا تَنْقَطِعُ بِالْكَلَامِ وَلَا تَنْقَطِعُ بِالْمَطَرِ، وَفِيهِ قِيَامُ الْوَاحِدِ بِأَمْرِ الْجَمَاعَةِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُبَاشِرْ ذَلِكَ بَعْضُ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْلُكُونَ الْأَدَبَ بِالتَّسْلِيمِ وَتَرْكِ الِابْتِدَاءِ بِالسُّؤَالِ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَنَسٍ، كَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ مِنَ الْبَادِيَةِ فَيَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسُؤَالُ الدُّعَاءِ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَمَنْ يُرْجَى مِنْهُ الْقَبُولُ وَإِجَابَتُهُمْ لِذَلِكَ، وَمِنْ أَدَبِهِ بَثُّ الْحَالِ لَهُمْ قَبْلَ الطَّلَبِ لِتَحْصِيلِ الرِّقَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِصِحَّةِ التَّوَجُّهِ فَتُرْجَى الْإِجَابَةُ عِنْدَهُ، وَفِيهِ تَكْرَارُ الدُّعَاءِ ثَلَاثًا، وَإِدْخَالُ دُعَاءِ الِاسْتِسْقَاءِ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ وَالدُّعَاءُ بِهِ عَلَى
(1)
في مخطوطة الرياض " لفي مثل الإكليل"
الْمِنْبَرِ وَلَا تَحْوِيلَ فِيهِ وَلَا اسْتِقْبَالَ، وَالِاجْتِزَاءُ بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ عَنْ صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ، وَلَيْسَ فِي السِّيَاقِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ نَوَاهَا مَعَ الْجُمُعَةِ، وَفِيهِ عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ فِي إِجَابَةِ اللَّهِ دُعَاءَ نَبِيِّهِ عليه الصلاة والسلام عَقِبَهُ أَوْ مَعَهُ ابْتِدَاءً فِي الِاسْتِسْقَاءِ وَانْتِهَاءً فِي الِاسْتِصْحَاءِ وَامْتِثَالِ السَّحَابِ أَمْرَهُ بِمُجَرَّدِ الْإِشَارَةِ، وَفِيهِ الْأَدَبُ فِي الدُّعَاءِ حَيْثُ لَمْ يَدْعُ بِرَفْعِ الْمَطَرِ مُطْلَقًا لِاحْتِمَالِ الِاحْتِيَاجِ إِلَى اسْتِمْرَارِهِ فَاحْتَرَزَ فِيهِ بِمَا يَقْتَضِي رَفْعَ الضَّرَرِ وَبَقَاءَ النَّفْعِ، وَيُسْتَنْبَطُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِنِعْمَةٍ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَسَخَّطَهَا لِعَارِضٍ يَعْرِضُ فِيهَا، بَلْ يَسْأَلُ اللَّهَ رَفْعَ ذَلِكَ
الْعَارِضِ وَإِبْقَاءَ النِّعْمَةِ. وَفِيهِ أَنَّ الدُّعَاءَ بِرَفْعِ الضَّرَرِ لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ وَإِنْ كَانَ مَقَامُ الْأَفْضَلِ التَّفْوِيض
(1)
؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ عَالِمًا بِمَا وَقَعَ لَهُمْ مِنَ الْجَدْبِ، وَأَخَّرَ السُّؤَالَ فِي ذَلِكَ تَفْوِيضًا لِرَبِّهِ، ثُمَّ أَجَابَهُمْ إِلَى الدُّعَاءِ لَمَّا سَأَلُوهُ فِي ذَلِكَ بَيَانًا لِلْجَوَازِ وَتَقْرِيرَ السُّنَّةِ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ الْخَاصَّةِ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ نَفَعَ اللَّهُ بِهِ. وَفِيهِ جَوَازُ تَبَسُّمِ الْخَطِيبِ عَلَى الْمِنْبَرِ تَعَجُّبًا مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ، وَجَوَازُ الصِّيَاحِ فِي الْمَسْجِدِ بِسَبَبِ الْحَاجَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِذَلِكَ. وَفِيهِ الْيَمِينُ لِتَأْكِيدِ الْكَلَامِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ جَرَى عَلَى لِسَانِ أَنَسٍ بِغَيْرِ قَصْدِ الْيَمِينِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِسْقَاءِ بِغَيْرِ صَلَاةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَعَلَى أَنَّ الِاسْتِسْقَاءَ لَا تُشْرَعُ فِيهِ صَلَاةٌ، فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَقَالَ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَكَرِهَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَأَمَّا الثَّانِي فَقَالَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الَّذِي وَقَعَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مُجَرَّدُ دُعَاءٍ لَا يُنَافِي مَشْرُوعِيَّةَ الصَّلَاةِ لَهَا، وَقَدْ بُيِّنَتْ فِي وَاقِعَةٍ أُخْرَى كَمَا تَقَدَّمَ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِدُعَاءِ الْإِمَامِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ قَالَهُ ابْنُ بَطَّالٍ، وَتُعُقِّبَ بِمَا سَيَأْتِي فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَرَفَعَ النَّاسُ أَيْدِيَهُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُونَ وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِي الدَّعَوَاتِ عَلَى رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي كُلِّ دُعَاءٍ.
وَفِي الْبَابِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ جَمَعَهَا الْمُنْذِرِيُّ فِي جُزْءٍ مُفْرَدٍ وَأَوْرَدَ مِنْهَا النَّوَوِيُّ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ قَدْرَ ثَلَاثِينَ حَدِيثًا، وَسَنَذْكُرُ وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ قَوْلِ أَنَسٍ كَانَ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ إِلَّا فِي الِاسْتِسْقَاءِ بَعْدَ أَرْبَعَةَ عَشْرَ بَابًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِيهِ جَوَازُ الدُّعَاءِ بِالِاسْتِصْحَاءِ لِلْحَاجَةِ، وَقَدْ تَرْجَمَ لَهُ الْبُخَارِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ.
7 - بَاب الِاسْتِسْقَاءِ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةِ
1014 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ جُمُعَةٍ مِنْ بَابٍ كَانَ نَحْوَ باب دَارِ الْقَضَاءِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمًا ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَتْ الْأَمْوَالُ، وَانْقَطَعْتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ يُغِيثُنَا، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، قَالَ أَنَسٌ: وَلَا وَاللَّهِ مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ وَلَا قَزَعَةً وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ وَلَا دَارٍ، قَالَ: فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ فَلَمَّا تَوَسَّطَتْ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ، فَلَا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سِتًّا، ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ فِي الْجُمُعَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يَخْطُبُ
(1)
في هذا نظر. والصواب أن أخذ بالأسباب والبدار بالدعاء والاستعانة عند الحاجة أولى وأفضل من التفويض، وسيرته صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه رضي الله عنهم، ولعله إنما أخر الدعاء لأسباب اقتضت ذلك غير التفويض، فلما ساله هذا السائل بادر باجابته، وذلك عن إذن الله سبحانه وتشريعه، لأنه صلى الله عليه وسلم لاينطق عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} ، والله أعلم
فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَتْ الْأَمْوَالُ، وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ يُمْسِكْهَا عَنَّا، قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الْآكَامِ وَالظِّرَابِ وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ، قَالَ: فَأَقْلَعَتْ وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ، قَالَ شَرِيكٌ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَهُوَ الرَّجُلُ الْأَوَّلُ؟ فَقَالَ: مَا أَدْرِي.
قَوْلُهُ: (بَابُ الِاسْتِسْقَاءِ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ الْمَذْكُورَ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شَرِيكٍ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فَوَائِدُهُ فِي الَّذِي قَبْلَهُ وقَوْلُهُ فِيهِ: يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ بِالتَّنْكِيرِ.
8 - بَاب الِاسْتِسْقَاءِ عَلَى الْمِنْبَرِ
1015 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَحَطَ الْمَطَرُ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَسْقِيَنَا، فَدَعَا فَمُطِرْنَا، فَمَا كِدْنَا أَنْ نَصِلَ إِلَى مَنَازِلِنَا، فَمَا زِلْنَا نُمْطَرُ إِلَى الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ، قَالَ: فَقَامَ ذَلِكَ الرَّجُلُ أَوْ غَيْرُهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَصْرِفَهُ عَنَّا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ السَّحَابَ يَتَقَطَّعُ يَمِينًا وَشِمَالًا يُمْطَرُونَ وَلَا يُمْطَرُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الِاسْتِسْقَاءِ عَلَى الْمِنْبَرِ) أَوْرَدَ فِيهِ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فَوَائِدُهُ أَيْضًا.
9 - بَاب مَنْ اكْتَفَى بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ
1016 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: هَلَكَتْ الْمَوَاشِي، وَتَقَطَّعَتْ السُّبُلُ، فَدَعَا، فَمُطِرْنَا مِنْ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: تَهَدَّمَتْ الْبُيُوتُ، وَتَقَطَّعَتْ السُّبُلُ، وَهَلَكَتْ الْمَوَاشِي، فَادْعُ اللَّهَ يُمْسِكْهَا، فَقَامَ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: اللَّهُمَّ عَلَى الْآكَامِ وَالظِّرَابِ وَالْأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ، فَانْجَابَتْ عَنْ الْمَدِينَةِ انْجِيَابَ الثَّوْبِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنِ اكْتَفَى بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ) أَوْرَدَ فِيهِ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ شَرِيكٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ أَيْضًا، وَقَوْلُهُ فِيهِ: فَدَعَا فَمُطِرْنَا فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ فَادْعُ اللَّهَ بَدَلَ فَدَعَا، وَكُلٌّ مِنَ اللَّفْظَيْنِ مُقَدَّرٌ فِيمَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ، وَفِيهِ تَعَقُّبٌ عَلَى مَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ لِمَنْ يَقُولُ: لَا تُشْرَعُ الصَّلَاةُ لِلِاسْتِسْقَاءِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَا تَضَمَّنَتْهُ التَّرْجَمَةُ.
10 - بَاب الدُّعَاءِ إِذَا تَقَطَّعَتْ السُّبُلُ مِنْ كَثْرَةِ الْمَطَرِ
1017 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَتْ الْمَوَاشِي، وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ. فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمُطِرُوا مِنْ جُمُعَةٍ إِلَى جُمُعَةٍ، فَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَهَدَّمَتْ الْبُيُوتُ، وَتَقَطَّعَتْ السُّبُلُ، وَهَلَكَتْ الْمَوَاشِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ عَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ وَالْآكَامِ وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ. فَانْجَابَتْ عَنْ الْمَدِينَةِ انْجِيَابَ الثَّوْبِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الدُّعَاءِ إِذَا انْقَطَعَتِ السُّبُلُ مِنْ كَثْرَةِ الْمَطَرِ) أَوْرَدَ فِيهِ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ مَالِكٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ. وَمُرَادُهُ بِقَوْلِهِ: مِنْ كَثْرَةِ الْمَطَرِ أَيْ: وَسَائِرُ مَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ مِمَّا يُشْرَعُ الِاسْتِصْحَاءُ عِنْدَ وُجُودِهِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ الدُّعَاءَ بِذَلِكَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى سَبْقِ السُّقْيَا، وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ يُوَافِقُهُ وَزَادَ: أَنَّهُ لَا يُسَنُّ الْخُرُوجُ لِلِاسْتِصْحَاءِ وَلَا الصَّلَاةِ وَلَا تَحْوِيلِ الرِّدَاءِ، بَلْ يُدْعَى بِذَلِكَ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ أَوْ فِي أَعْقَابِ الصَّلَاةِ، وَفِي هَذَا تَعَقُّبٌ عَلَى مَنْ قَالَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِنَّهُ لَيْسَ قَوْلَ الدُّعَاءِ الْمَذْكُورِ فِي أَثْنَاءِ خُطْبَةِ الِاسْتِسْقَاءِ لِأَنَّهُ لَمْ تَرِدْ بِهِ السُّنَّةُ.
11 - بَاب مَا قِيلَ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُحَوِّلْ رِدَاءَهُ فِي الِاسْتِسْقَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
1018 -
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ بِشْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَافَى بْنُ عِمْرَانَ، عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَجُلًا شَكَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَلَاكَ الْمَالِ وَجَهْدَ الْعِيَالِ، فَدَعَا اللَّهَ يَسْتَسْقِي، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ حَوَّلَ رِدَاءَهُ وَلَا اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَا قِيلَ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُحَوِّلْ رِدَاءَهُ إِلَخْ) إِنَّمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ قِيلَ مَعَ صِحَّةِ الْخَبَرِ لِأَنَّ الَّذِي قَالَ فِي الْحَدِيثِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ حَوَّلَ رِدَاءَهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الرَّاوِي عَنْ أَنَسٍ أَوْ مَنْ دُونَهُ فَلِأَجْلِ هَذَا التَّرَدُّدِ لَمْ يَجْزِمْ بِالْحُكْمِ، وَأَيْضًا فَسُكُوتُ الرَّاوِي عَنْ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي نَفْيَ الْوُقُوعِ. وَأَمَّا تَقْيِيدُهُ بِقَوْلِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَلِيُبَيِّنَ أَنَّ قَوْلَهُ فِيمَا مَضَى بَابُ تَحْوِيلِ الرِّدَاءِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ أَيِ الَّذِي يُقَامُ فِي الْمُصَلَّى. وَهَذَا السِّيَاقُ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ لِهَذَا الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ مُخْتَصَرٌ جِدًّا، وَسَيَأْتِي مُطَوَّلًا مِنَ الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ بَعْدَ اثْنَيْ عَشَرَ بَابًا، وَفِيهِ يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ.
12 - بَاب إِذَا اسْتَشْفَعُوا إِلَى الْإِمَامِ لِيَسْتَسْقِيَ لَهُمْ لَمْ يَرُدَّهُمْ
1019 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَتْ الْمَوَاشِي، وَتَقَطَّعَتْ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ. فَدَعَا اللَّهَ فَمُطِرْنَا مِنْ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ فَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَهَدَّمَتْ الْبُيُوتُ، وَتَقَطَّعَتْ السُّبُلُ، وَهَلَكَتْ الْمَوَاشِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ عَلَى ظُهُورِ الْجِبَالِ وَالْآكَامِ وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ، فَانْجَابَتْ عَنْ الْمَدِينَةِ انْجِيَابَ الثَّوْبِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا اسْتَشْفَعُوا إِلَى الْإِمَامِ لِيَسْتَسْقِيَ ثُمَّ لَمْ يَرُدَّهُمْ) أَوْرَدَ فِيهِ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مَالِكٍ
أَيْضًا، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: تَقَدَّمَ لَهُ بَابُ سُؤَالِ النَّاسِ الْإِمَامَ إِذَا قَحَطُوا وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّرْجَمَتَيْنِ أَنَّ الْأُولَى لِبَيَانِ مَا عَلَى النَّاسِ أَنْ يَفْعَلُوهُ إِذَا احْتَاجُوا إِلَى الِاسْتِسْقَاءِ، وَالثَّانِيَةَ لِبَيَانِ مَا عَلَى الْإِمَامِ مِنْ إِجَابَةِ سُؤَالِهِمْ.
13 - بَاب إِذَا اسْتَشْفَعَ الْمُشْرِكُونَ بِالْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الْقَحْطِ
1020 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، وَالْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: أَتَيْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ: إِنَّ قُرَيْشًا أَبْطَئُوا عَنْ الْإِسْلَامِ، فَدَعَا عَلَيْهِمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ حَتَّى هَلَكُوا فِيهَا، وَأَكَلُوا الْمَيْتَةَ وَالْعِظَامَ، فَجَاءَهُ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، جِئْتَ تَأْمُرُ بِصِلَةِ الرَّحِمِ وَإِنَّ قَوْمَكَ هَلَكُوا، فَادْعُ اللَّهَ. فَقَرَأَ:{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} ثُمَّ عَادُوا إِلَى كُفْرِهِمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} يَوْمَ بَدْرٍ، قَالَ: وَزَادَ أَسْبَاطٌ عَنْ مَنْصُورٍ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسُقُوا الْغَيْثَ فَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِمْ سَبْعًا وَشَكَا النَّاسُ كَثْرَةَ الْمَطَرِ، فقَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، فَانْحَدَرَتْ السَّحَابَةُ عَنْ رَأْسِهِ فَسُقُوا النَّاسُ حَوْلَهُمْ.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا اسْتَشْفَعَ الْمُشْرِكُونَ بِالْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الْقَحْطِ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: ظَاهِرُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ مَنْعُ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنَ الِاسْتِبْدَادِ بِالِاسْتِسْقَاءِ، كَذَا قَالَ، وَلَا يَظْهَرُ وَجْهُ الْمَنْعِ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ. وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُ شُيُوخِنَا مُطَابَقَةَ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ لِلتَّرْجَمَةِ، لِأَنَّ الِاسْتِشْفَاعَ إِنَّمَا وَقَعَ عَقِبَ دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِمْ بِالْقَحْطِ، ثُمَّ سُئِلَ أَنْ يَدْعُوَ بِرَفْعِ ذَلِكَ فَفَعَلَ، فَنَظِيرُهُ أَنْ يَكُونَ إِمَامُ الْمُسْلِمِينَ هُوَ الَّذِي دَعَا عَلَى الْكُفَّارِ بِالْجَدْبِ فَأُجِيبَ، فَجَاءَهُ الْكُفَّارُ يَسْأَلُونَهُ الدُّعَاءَ بِالسُّقْيَا. انْتَهَى.
وَمُحَصِّلُهُ أَنَّ التَّرْجَمَةَ أَعَمُّ مِنَ الْحَدِيثِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: هِيَ مُطَابِقَةٌ لِمَا وَرَدَتْ فِيهِ، وَيَلْحَقُ بِهَا بَقِيَّةُ الصُّوَرِ، إِذْ لَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا إِذَا اسْتَشْفَعُوا بِسَبَبِ دُعَائِهِ أَوْ بِابْتِلَاءِ اللَّهِ لَهُمْ بِذَلِكَ، فَإِنَّ الْجَامِعَ بَيْنَهُمَا ظُهُورُ الْخُضُوعِ مِنْهُمْ وَالذِّلَّةِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْتِمَاسِهِمْ مِنْهُمُ الدُّعَاءَ لَهُمْ، وَذَلِكَ مِنْ مَطَالِبِ الشَّرْعِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرَهُ شَيْخُنَا هُوَ السَّبَبُ فِي حَذْفِ الْمُصَنِّفِ جَوَابَ إِذَا مِنَ التَّرْجَمَةِ وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ فِي الْجَوَابِ مَثَلًا: أَجَابَهُمْ مُطْلَقًا، أَوْ أَجَابَهُمْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي دَعَا عَلَيْهِمْ، أَوْ لَمْ يُجِبْهُمْ إِلَى ذَلِكَ أَصْلًا. وَلَا دَلَالَةَ فِيمَا وَقَعَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ، إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ لِاطِّلَاعِهِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ مَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَلَعَلَّهُ حَذَفَ جَوَابَ إِذَا لِوُجُودِ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِذَا رَجَا إِمَامُ الْمُسْلِمِينَ رُجُوعَهُمْ عَنِ الْبَاطِلِ أَوْ وُجُودَ نَفْعٍ عَامٍّ لِلْمُسْلِمِينَ شُرِعَ دُعَاؤُهُ لَهُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: أَتَيْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ) سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ الرُّومِ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ فِي أَوَّلِهِ بَيْنَمَا رَجُلٌ يُحَدِّثُ فِي كِنْدَةَ فَقَالَ: يَجِيءُ دُخَانٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ وَفِيهَا فَفَزِعْنَا فَأَتَيْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: إِنَّ قُرَيْشًا أَبْطَئُوا) سَيَأْتِي فِي الطَّرِيقِ الْمَذْكُورَةِ إِنْكَارُ ابْنِ مَسْعُودٍ لِمَا قَالَهُ الْقَاصُّ الْمَذْكُورُ، وَسَنَذْكُرُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الدُّخَانِ مَا وَقَعَ لَنَا فِي تَسْمِيَةِ الْقَاصِّ الْمَذْكُورِ وَأَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} مَعَ بَقِيَّةِ شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَنَقْتَصِرُ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالِاسْتِسْقَاءِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً.
قَوْلُهُ: (فَدَعَا عَلَيْهِمْ) تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الِاسْتِسْقَاءِ صِفَةُ مَا دَعَا بِهِ عَلَيْهِمْ وَهُوَ قَوْلُهُ: اللَّهُمَّ سَبْعًا كَسَبْعِ يُوسُفَ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ تَقْدِيرُهُ أَسْأَلُكَ، أَوْ سَلِّطْ عَلَيْهِمْ. وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ
سُورَةِ يُوسُفَ بِلَفْظِ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ، وَفِي سُورَةِ الدُّخَانِ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ، إِلَخْ وَأَفَادَ الدِّمْيَاطِيُّ أَنَّ ابْتِدَاءَ دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى قُرَيْشٍ بِذَلِكَ كَانَ عَقِبَ طَرْحِهِمْ عَلَى ظَهْرِهِ سَلَى الْجَزُورِ الَّذِي تَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُ فِي الطَّهَارَةِ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَقَدْ دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ بَعْدَهَا بِالْمَدِينَةِ فِي الْقُنُوتِ كَمَا تَقَدَّمَ أَوَائِلَ الِاسْتِسْقَاءِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ اتِّحَادُ هَذِهِ الْقَصَصِ إِذْ لَا مَانِعَ أَنْ يَدْعُوَ بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ مِرَارًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (فَجَاءَهُ أَبُو سُفْيَانَ) يَعْنِي الْأُمَوِيَّ وَالِدَ مُعَاوِيَةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَجِيئَهُ كَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ ثُمَّ عَادُوا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ:{يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} يَوْمَ بَدْرٍ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ قَبْلَ بَدْرٍ، وَعَلَى هَذَا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَبُو طَالِبٍ كَانَ حَاضِرًا ذَلِكَ فَلِذَلِكَ قَالَ:
وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ
الْبَيْتَ، لَكِنْ سَيَأْتِي بَعْدَ هَذَا بِقَلِيلٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقِصَّةَ الْمَذْكُورَةَ وَقَعَتْ بِالْمَدِينَةِ، فَإِنْ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى التَّعَدُّدِ وَإِلَّا فَهُوَ مُشْكِلٌ جِدًّا وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
قَوْلُهُ: (جِئْتَ تَأْمُرُ بِصِلَةِ الرَّحِمِ) يَعْنِي وَالَّذِينَ هَلَكُوا بِدُعَائِكَ مِنْ ذَوِي رَحِمِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ تَصِلَ رَحِمَكَ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ، وَلَمْ يَقَعْ فِي هَذَا السِّيَاقِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ دَعَا لَهُمْ، وَسَيَأْتِي هَذَا الْحَدِيثُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ ص بِلَفْظِ فَكَشَفَ عَنْهُمْ ثُمَّ عَادُوا وَفِي سُورَةِ الدُّخَانِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِلَفْظِ فَاسْتَسْقَى لَهُمْ فَسُقُوا وَنَحْوَهُ فِي رِوَايَةِ أَسْبَاطَ الْمُعَلَّقَةِ.
قَوْلُهُ: {بِدُخَانٍ مُبِينٍ} ، الْآيَةَ سَقَطَ قَوْلُهُ الْآيَةَ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ بَقِيَّةِ اخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الدُّخَانِ.
قَوْلُهُ: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} زَادَ الْأَصِيلِيُّ بَقِيَّةَ الْآيَةِ.
قَوْلُهُ: (وَزَادَ أَسْبَاطُ) هُوَ ابْنُ نَصْرٍ، وَوَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ مَنْصُورٍ) يَعْنِي بِإِسْنَادِهِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَدْ وَصَلَهُ الْجَوْزَقِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَسْبَاطَ بْنِ نَصْرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ وَهُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ النَّاسِ إِدْبَارًا فَذَكَرَ نَحْوَ الَّذِي قَبْلَهُ وَزَادَ فَجَاءَهُ أَبُو سُفْيَانَ وَنَاسٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّكَ بُعِثْتَ رَحْمَةً وَإِنَّ قَوْمَكَ قَدْ هَلَكُوا فَادْعُ اللَّهَ لَهُمْ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسُقُوا الْغَيْثَ، الْحَدِيثَ. وَقَدْ أَشَارُوا بِقَوْلِهِمْ بُعِثْتُ رَحْمَةً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}
قَوْلُهُ: (فَسُقُوا النَّاسُ حَوْلَهُمْ) كَذَا فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ فِي الصَّحِيحِ بِضَمِّ السِّينِ وَالْقَافِ وَهُوَ عَلَى لُغَةِ بَنِي الْحَارِثِ، وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ الْمَذْكُورَةِ فَأُسْقِيَ النَّاسُ حَوْلَهُمْ وَزَادَ بَعْدَ هَذَا فَقَالَ - يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ - لَقَدْ مَرَّتْ آيَةُ الدُّخَانِ وَهُوَ الْجُوعُ إِلَخْ وَقَدْ تَعَقَّبَ الدَّاوُدِيُّ وَغَيْرُهُ هَذِهِ الزِّيَادَةَ وَنَسَبُوا أَسْبَاطَ بْنَ نَصْرٍ إِلَى الْغَلَطِ فِي قَوْلِهِ: وَشَكَا النَّاسُ كَثْرَةَ الْمَطَرِ إِلَخْ وَزَعَمُوا أَنَّهُ أَدْخَلَ حَدِيثًا فِي حَدِيثٍ، وَأَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي فِيهِ شَكْوَى كَثْرَةِ الْمَطَرِ وَقَوْلُهُ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، لَمْ يَكُنْ فِي قِصَّةِ قُرَيْشٍ وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْقِصَّةِ الَّتِي رَوَاهَا أَنَسٌ، وَلَيْسَ هَذَا التَّعَقُّبُ عِنْدِي بِجَيِّدٍ إِذْ لَا مَانِعَ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ أَسْبَاطَ بْنَ نَصْرٍ لَمْ يُغَلِّطْ مَا سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ الدُّخَانِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى فِي هَذَا الْحَدِيثِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتَسْقِ اللَّهَ لِمُضَرَ، فَإِنَّهَا قَدْ هَلَكَتْ. قَالَ: لِمُضَرَ؟ إِنَّكَ لَجَرِيءٌ. فَاسْتَسْقَى فَسُقُوا، اهـ.
وَالْقَائِلُ: فَقِيلَ يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ أَبُو سُفْيَانَ لِمَا ثَبَتَ فِي كَثِيرٍ مِنْ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الصَّحِيحَيْنِ فَجَاءَهُ أَبُو سُفْيَانَ ثُمَّ وَجَدْتُ فِي الدَّلَائِلِ لِلْبَيْهَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ شَبَابَةَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ السَّمْطِ، عَنْ كَعْبِ بْنِ مُرَّةَ - أَوْ مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ - قَالَ: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. عَلَى مُضَرَ، فَأَتَاهُ أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالَ: ادْعُ اللَّهَ لِقَوْمِكَ فَإِنَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنْ كَعْبِ بْنِ مُرَّةَ وَلَمْ يَشُكَّ، فَأَبْهَمَ أَبَا سُفْيَانَ، قَالَ: جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ اسْتَسْقِ اللَّهَ
لِمُضَرَ، فَقَالَ: إِنَّكَ لَجَرِيءٌ، أَلِمُضَرَ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتَنْصَرْتَ اللَّهَ فَنَصَرَكَ، وَدَعَوْتَ اللَّهَ فَأَجَابَكَ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا مُرِيعًا مَرِيئًا طَبَقًا عَاجِلًا غَيْرَ رَائِثٍ، نَافِعًا غَيْرَ ضَارٍّ. قَالَ: فَأُجِيبُوا، فَمَا لَبِثُوا أَنْ أَتَوْهُ فَشَكَوْا إِلَيْهِ كَثْرَةَ الْمَطَرِ فَقَالُوا: قَدْ تَهَدَّمَتِ الْبُيُوتُ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، فَجَعَلَ السَّحَابُ يَتَقَطَّعُ يَمِينًا وَشِمَالًا فَظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ الْمُبْهَمَ الْمَقُولَ لَهُ إِنَّكَ لَجَرِيءٌ هُوَ أَبُو سُفْيَانَ.
لَكِنْ يَظْهَرُ لِي أَنَّ فَاعِلَ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَنْصَرْتَ اللَّهَ إِلَخْ هُوَ كَعْبُ بْنُ مُرَّةَ رَاوِي هَذَا الْخَبَرِ لِمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ أَيْضًا وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ أَيْضًا عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ إِلَى كَعْبٍ، قَالَ: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مُضَرَ. فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ نَصَرَكَ وَأَعْطَاكَ وَاسْتَجَابَ لَكَ، وَإِنَّ قَوْمَكَ قَدْ هَلَكُوا، الْحَدِيثَ، فَعَلَى هَذَا كَأَنَّ أَبَا سُفْيَانَ وَكَعْبًا حَضَرَا جَمِيعًا، ف كَلَّمَهُ أَبُو سُفْيَانَ بِشَيْءٍ وَكَعْبٌ بِشَيْءٍ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى اتِّحَادِ قِصَّتِهِمَا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي هَذِهِ مَا ثَبَتَ فِي تِلْكَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّكَ لَجَرِيءٌ، وَمِنْ قَوْلِهِ: فَقَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ أَسْبَاطَ بْنَ نَصْرٍ لَمْ يَغْلَطْ فِي الزِّيَادَةِ الْمَذْكُورَةِ وَلَمْ يَنْتَقِلْ مِنْ حَدِيثٍ إِلَى حَدِيثٍ، وَسِيَاقُ كَعْبِ بْنِ مُرَّةَ يُشْعِرُ بِأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ فِي الْمَدِينَةِ بِقَوْلِهِ: اسْتَنْصَرْتَ اللَّهَ فَنَصَرَكَ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ اتِّحَادُ هَذِهِ الْقِصَّةِ مَعَ قِصَّةِ أَنَسٍ، بَلْ قِصَّةُ أَنَسٍ وَاقِعَةٌ أُخْرَى؛ لِأَنَّ فِي رِوَايَةِ أَنَسٍ فَلَمْ يَزَلْ عَلَى الْمِنْبَرِ حَتَّى مُطِرُوا وَفِي هَذِهِ فَمَا كَانَ إِلَّا جُمْعَةً أَوْ نَحْوَهَا حَتَّى مُطِرُوا وَالسَّائِلُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ غَيْرُ السَّائِلِ فِي تِلْكَ فَهُمَا قِصَّتَانِ وَقَعَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا طَلَبُ الدُّعَاءِ بِالِاسْتِسْقَاءِ ثُمَّ طَلَبُ الدُّعَاءِ بِالِاسْتِصْحَاءِ، وَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ كَعْبَ بْنَ مُرَّةَ أَسْلَمَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ حُمِلَ قَوْلُهُ اسْتَنْصَرْتَ اللَّهَ فَنَصَرَكَ عَلَى النَّصْرِ بِإِجَابَةِ دُعَائِهِ عَلَيْهِمْ، وَزَالَ الْإِشْكَالُ الْمُتَقَدِّمُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنِّي لَيَكْثُرُ تَعَجُّبِي مِنْ كَثْرَةِ إِقْدَامِ الدِّمْيَاطِيِّ عَلَى تَغْلِيطِ مَا فِي الصَّحِيحِ بِمُجَرَّدِ التَّوَهُّمِ، مَعَ إِمْكَانِ التَّصْوِيبِ بِمَزِيدِ التَّأَمُّلِ، وَالتَّنْقِيبِ عَنِ الطُّرُقِ، وَجَمْعِ مَا وَرَدَ فِي الْبَابِ مِنِ اخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ عَلَى مَا عَلَّمَ وَأَنْعَمَ.
14 - بَاب الدُّعَاءِ إِذَا كَثُرَ الْمَطَرُ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا
1021 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ يَوْمَ جُمُعَةٍ فَقَامَ النَّاسُ فَصَاحُوا فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَحَطَ الْمَطَرُ، وَاحْمَرَّتْ الشَّجَرُ، وَهَلَكَتْ الْبَهَائِمُ، فَادْعُ اللَّهَ يَسْقِينَا. فَقَالَ: اللَّهُمَّ اسْقِنَا، مَرَّتَيْنِ، وَايْمُ اللَّهِ مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً مِنْ سَحَابٍ فَنَشَأَتْ سَحَابَةٌ وَأَمْطَرَتْ وَنَزَلَ عَنْ الْمِنْبَرِ فَصَلَّى فَلَمَّا انْصَرَفَ لَمْ تَزَلْ تُمْطِرُ إِلَى الْجُمُعَةِ الَّتِي تَلِيهَا، فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ صَاحُوا إِلَيْهِ: تَهَدَّمَتْ الْبُيُوتُ، وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ يَحْبِسْهَا عَنَّا، فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، فَكَشَطَتْ الْمَدِينَةُ فَجَعَلَتْ تَمْطُرُ حَوْلَهَا وَلَا تَمْطُرُ بِالْمَدِينَةِ قَطْرَةٌ، فَنَظَرْتُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَإِنَّهَا لَفِي مِثْلِ الْإِكْلِيلِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الدُّعَاءِ إِذَا كَثُرَ الْمَطَرُ: حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا) كَانَ التَّقْدِيرُ أَنْ يَقُولَ: حَوَالَيْنَا، وَتَكَلَّفَ لَهُ الْكِرْمَانِيُّ إِعْرَابًا آخَرَ، وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ مِنْ طَرِيقِ ثَابِتٍ عَنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى، إِنَّمَا اخْتَارَ لِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ رِوَايَةَ ثَابِتٍ لِقَوْلِهِ فِيهَا: وَمَا تُمْطِرُ بِالْمَدِينَةِ قَطْرَةً لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي انْكِشَافِ الْمَطَرِ، وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ لَمْ تَقَعْ إِلَّا فِي
هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَقَوْلُهُ فِيهَا: وَانْكَشَطَتْ كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِكَرِيمَةَ فَكُشِطَتْ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ.
15 - بَاب الدُّعَاءِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ قَائِمًا
1022 -
وَقَالَ لَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، عَنْ زُهَيْرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: خَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيُّ وَخَرَجَ مَعَهُ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ رضي الله عنهم فَاسْتَسْقَى فَقَامَ بِهِمْ عَلَى رِجْلَيْهِ عَلَى غَيْرِ مِنْبَرٍ فَاسْتَغْفَرَ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ وَلَمْ يُؤَذِّنْ وَلَمْ يُقِمْ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَرَأَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم.
1023 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبَّادُ بْنُ تَمِيمٍ، أَنَّ عَمَّهُ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ بِالنَّاسِ يَسْتَسْقِي لَهُمْ، فَقَامَ فَدَعَا اللَّهَ قَائِمًا، ثُمَّ تَوَجَّهَ قِبَلَ الْقِبْلَةِ وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ فَأُسْقُوا.
قَوْلُهُ: (بَابُ الدُّعَاءِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ قَائِمًا) أَيْ فِي الْخُطْبَةِ وَغَيْرِهَا، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْحِكْمَةُ فِيهِ كَوْنُهُ حَالَ خُشُوعٍ وَإِنَابَةٍ فَيُنَاسِبُهُ الْقِيَامُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْقِيَامُ شِعَارُ الِاعْتِنَاءِ وَالِاهْتِمَامِ، وَالدُّعَاءُ أَهَمُّ أَعْمَالِ الِاسْتِسْقَاءِ فَنَاسَبَهُ الْقِيَامُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَامَ لِيَرَاهُ النَّاسُ فَيَقْتَدُوا بِمَا يَصْنَعُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ لَنَا أَبُو نُعَيْمٍ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ تَبَعًا لِغَيْرِهِ: الْفَرْقُ بَيْنَ قَالَ لَنَا وَحَدَّثَنَا أَنَّ الْقَوْلَ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا يُسْمَعُ مِنَ الشَّيْخِ فِي مَقَامِ الْمُذَاكَرَةِ، وَالتَّحْدِيثَ فِيمَا يُسْمَعُ فِي مَقَامِ التَّحَمُّلِ اهـ. لَكِنْ لَيْسَ اسْتِعْمَالُ الْبُخَارِيِّ لِذَلِكَ مُنْحَصِرًا فِي الْمُذَاكَرَةِ فَإِنَّهُ يَسْتَعْمِلُهُ فِيمَا يَكُونُ ظَاهِرَهُ الْوَقْفُ، وَفِيمَا يَصْلُحُ لِلْمُتَابَعَاتِ، لِتَخَلُّصِ صِيغَةِ التَّحْدِيثِ لِمَا وُضِعَ الْكِتَابُ لِأَجْلِهِ مِنَ الْأُصُولِ الْمَرْفُوعَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ وُجُودُ كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي عَبَّرَ فِيهَا فِي الْجَامِعِ بِصِيغَةِ الْقَوْلِ مُعَبِّرًا فِيهَا بِصِيغَةِ التَّحْدِيثِ فِي تَصَانِيفِهِ الْخَارِجَةِ عَنْ الْجَامِعِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ زُهَيْرٍ) هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ أَبُو خَيْثَمَةَ الْجُعْفِيُّ، وَأَبُو إِسْحَاقَ هُوَ السَّبِيعِيُّ.
قَوْلُهُ: (خَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيُّ) يَعْنِي إِلَى الصَّحْرَاءِ يَسْتَسْقِي، وَذَلِكَ حَيْثُ كَانَ أَمِيرًا عَلَى الْكُوفَةِ مِنْ جِهَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ قَبْلَ غَلَبَةِ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ عَلَيْهَا، ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ قَبِيصَةُ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: بَعَثَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخَطْمِيِّ أَنِ اسْتَسْقِ بِالنَّاسِ، فَخَرَجَ وَخَرَجَ النَّاسُ مَعَهُ وَفِيهِمْ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ أَخْرَجَهُ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ فِي تَارِيخِهِ، وَخَالَفَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، فَقَالَ فِيهِ: إِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ خَرَجَ يَسْتَسْقِي بِالنَّاسِ الْحَدِيثَ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ هُوَ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ وَهَمٌ، وَإِنَّمَا الَّذِي فَعَلَهُ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ بِأَمْرِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَقَدْ وَافَقَ قَبِيصَةُ، عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ، عَنِ الثَّوْرِيِّ عَلَى ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (فَقَامَ ب هِمْ) فِي رِوَايَةِ أَبِي الْوَقْتِ، وَأَبِي ذَرٍّ لَهُمْ.
قَوْلُهُ: (فَاسْتَسْقَى) فِي رِوَايَةِ أَبِي الْوَقْتِ فَاسْتَغْفَرَ.
(فَائِدَةٌ):
أَوْرَدَ الْحُمَيْدِيُّ فِي الْجَمْعِ هَذَا الْحَدِيثَ فِيمَا انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ وَوَهِمَ فِي ذَلِكَ، وَسَبَبُهُ أَنَّ رِوَايَةَ مُسْلِمٍ وَقَعَتْ فِي الْمَغَازِي ضِمْنَ حَدِيثٍ لِزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ أَخَّرَ الصَّلَاةَ عَنِ الْخُطْبَةِ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ الثَّوْرِيُّ فِي رِوَايَةٍ وَخَالَفَهُ شُعْبَةُ، فَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ خَرَجَ يَسْتَسْقِي بِالنَّاسِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ اسْتَسْقَى أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الِاسْتِسْقَاءِ ذِكْرُ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ وَأَنَّ الْجُمْهُورَ ذَهَبُوا إِلَى تَقْدِيمِ الصَّلَاةِ، وَمِمَّنِ اخْتَارَ تَقْدِيمَ الْخُطْبَةِ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَصَرَّحَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ هَذَا الْخِلَافَ فِي الِاسْتِحْبَابِ لَا فِي الْجَوَازِ.
قَوْلُهُ: (وَلَمْ يُؤَذِّنْ وَلَمْ يُقِمْ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنْ لَا أَذَانَ وَلَا إِقَامَةَ لِلِاسْتِسْقَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَرَأَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْحَمَوِيِّ وَحْدَهُ وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ وَجَدْتُهُ كَذَلِكَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ، فَإِنْ كَانَتْ رِوَايَتُهُ مَحْفُوظَةً احْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ بِعَيْنِهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ رَوَى فِي الْجُمْلَةِ فَيُوَافِقُ قَوْلَهُ رَأَى لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَثْبُتُ لَهُ الصُّحْبَةُ، أَمَّا سَمَاعُ هَذَا الْحَدِيثِ فَلَا. وَقَوْلُهُ: قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ هُوَ مَوْصُولٌ، وَقَدْ رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ، وَعَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِيِّ، عَنْ زُهَيْرٍ، وَصَرَّحَا بِاتِّصَالِهِ إِلَى أَبِي إِسْحَاقَ، وَكَأَنَّ السِّرَّ فِي إِيرَادِ هَذَا الْمَوْقُوفِ هُنَا كَوْنُهُ يُفَسِّرُ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْمَرْفُوعَةِ بَعْدَهُ فَدَعَا اللَّهَ قَائِمًا أَيْ: كَانَ عَلَى رِجْلَيْهِ لَا عَلَى الْمِنْبَرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمِ.
16 - بَاب الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ
1024 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَمِّهِ، قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَسْقِي فَتَوَجَّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ يَدْعُو وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ جَهَرَ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ) أَيْ فِي صَلَاتِهَا، وَنَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ أَيْضًا الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ يَجْهَرُ) فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَالْأَصِيلِيِّ جَهَرَ بِلَفْظِ الْمَاضِي.
17 - بَاب كَيْفَ حَوَّلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ظَهْرَهُ إِلَى النَّاسِ
1025 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَمِّهِ، قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لما خَرَجَ يَسْتَسْقِي، قَالَ: فَحَوَّلَ إِلَى النَّاسِ ظَهْرَهُ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ يَدْعُو، ثُمَّ حَوَّلَ رِدَاءَهُ، ثُمَّ صَلَّى لَنَا رَكْعَتَيْنِ جَهَرَ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ كَيْفَ حَوَّلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ظَهْرَهُ إِلَى النَّاسِ) أَوْرَدَ فِيهِ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ وَفِيهِ فَحَوَّلَ إِلَى النَّاسِ ظَهْرَهُ وَقَدِ اسْتُشْكِلَ لِأَنَّ التَّرْجَمَةَ لِكَيْفِيَّةِ التَّحْوِيلِ وَالْحَدِيثُ دَالٌّ عَلَى وُقُوعِ التَّحْوِيلِ فَقَطْ، وَأَجَابَ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّ مَعْنَاهُ حَوَّلَهُ حَالَ كَوْنِهِ دَاعِيًا، وَحَمَلَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ قَوْلَهُ: كَيْفَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ فَقَالَ: لَمَّا كَانَ التَّحْوِيلُ الْمَذْكُورُ لَمْ يَتَبَيَّنْ كَوْنُهُ مِنْ نَاحِيَةِ الْيَمِينِ أَوِ الْيَسَارِ احْتَاجَ إِلَى الِاسْتِفْهَامِ عَنْهُ، اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَبَيَّنْ مِنَ الْخَبَرِ ذَلِكَ كَأَنَّهُ يَقُولُ هُوَ عَلَى التَّخْيِيرِ، لَكِنَّ الْمُسْتَفَادَ مِنْ خَارِجٍ أَنَّهُ الْتَفَتَ بِجَانِبِهِ الْأَيْمَنِ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ، ثُمَّ إِنَّ مَحَلَّ هَذَا التَّحْوِيلِ بَعْدَ فَرَاغِ الْمَوْعِظَةِ وَإِرَادَةِ الدُّعَاءِ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ حَوَّلَ رِدَاءَهُ) ظَاهِرُهُ أَنَّ الِاسْتِقْبَالَ وَقَعَ سَابِقًا لِتَحْوِيلِ الرِّدَاءِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ، وَوَقَعَ فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُحَوِّلُهُ حَالَ الِاسْتِقْبَالِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ تَحْوِيلِ الظَّهْرِ وَالِاسْتِقْبَالِ أَنَّهُ فِي ابْتِدَاءِ التَّحْوِيلِ وَأَوْسَطِهِ يَكُونُ مُنْحَرِفًا حَتَّى يَبْلُغَ الِانْحِرَافُ غَايَتَهُ فَيَصِيرُ مُسْتَقْبِلًا.
18 - بَاب صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ رَكْعَتَيْنِ
1026 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عن عَبَّادَ بْنَ تَمِيمٍ، عَنْ عَمِّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْقَى فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَقَلَبَ رِدَاءَهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ رَكْعَتَيْنِ) هُوَ مَجْرُورٌ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ صَلَاةِ الْمَجْرُورِ بِالْإِضَافَةِ، وَالتَّقْدِيرُ صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ، أَوْ هُوَ عَطْفُ بَيَانٍ أَوْ مَنْصُوبٌ بِمُقَدَّرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ الْبَابِ فِي بَابِ تَحْوِيلِ الرِّدَاءِ وَقَوْلُهُ فِيهِ: عَنْ عَمِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ أَبِي الْوَقْتِ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم.
19 - بَاب الِاسْتِسْقَاءِ فِي الْمُصَلَّى
1027 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ سَمِعَ عَبَّادَ بْنَ تَمِيمٍ، عَنْ عَمِّهِ قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمُصَلَّى يَسْتَسْقِي وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَقَلَبَ رِدَاءَهُ، قَالَ سُفْيَانُ: فَأَخْبَرَنِي المَسْعُودِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: جَعَلَ الْيَمِينَ عَلَى الشِّمَالِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الِاسْتِسْقَاءِ فِي الْمُصَلَّى) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ أَخَصُّ مِنَ التَّرْجَمَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَوَّلَ الْأَبْوَابِ وَهِيَ بَابُ الْخُرُوجِ إِلَى الِاسْتِسْقَاءِ لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ إِلَى الْمُصَلَّى، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْبَابِ تَعْيِينُ الْخُرُوجِ إِلَى الِاسْتِسْقَاءِ إِلَى الْمُصَلَّى، بِخِلَافِ تِلْكَ فَنَاسَبَ كُلَّ رِوَايَةٍ تَرْجَمَتُهَا.
قَوْلُهُ: (قَالَ سُفْيَانُ) هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِالْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ، وَوَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُعَلَّقٌ كَالْمِزِّيِّ حَيْثُ عَلَّمَ عَلَى الْمَسْعُودِيِّ فِي التَّهْذِيبِ عَلَامَةَ التَّعْلِيقِ، فَإِنَّهُ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الْمَسْعُودِيِّ، وَكَذَا قَوْلُ ابْنِ الْقَطَّانِ لَا نَدْرِي عَمَّنْ أَخَذَهُ الْبُخَارِيُّ قَالَ: وَلِهَذَا لَا يَعُدُّ أَحَدٌ الْمَسْعُودِيَّ فِي رِجَالِهِ، وَقَدْ تَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمَوَّاقِ بِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ أَخَذَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ شَيْخِهِ فِيهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِمْ لَمْ يَعُدُّوا الْمَسْعُودِيَّ فِي رِجَالِهِ أَنْ لَا يَكُونَ وَصَلَ هَذَا الْمَوْضِعَ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدِ الرِّوَايَةَ عَنْهُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الزِّيَادَةَ الَّتِي زَادَهَا اسْتِطْرَادًا، وَهُوَ كَمَا قَالَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي بَكْرٍ) يَعْنِي ابْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ بِإِسْنَادِهِ وَهُوَ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ، وَزَعَمَ ابْنُ الْقَطَّانِ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يَدْرِي عَمَّنْ أَخَذَ أَبُو بَكْرٍ هَذِهِ الزِّيَادَةَ، اهـ. وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَفِيهِ بَيَانُ كَوْنِ أَبِي بَكْرٍ رَوَاهَا عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ مُبَيِّنًا. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: حَدِيثُ أَبِي بَكْرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ قَبْلَ الْخُطْبَةِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ صَلَّى قَبْلَ قَلْبِ رِدَائِهِ، قَالَ: وَهُوَ أَضْبَطُ لِلْقِصَّةِ مِنْ وَلَدِهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ حَيْثُ ذَكَرَ الْخُطْبَةَ قَبْلَ الصَّلَاةِ.
20 - بَاب اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ
1028 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنَّ عَبَّادَ بْنَ تَمِيمٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيَّ أَخْبَرَهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى يُصَلِّي، وَأَنَّهُ لَمَّا دَعَا، أَوْ أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ، اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: ابْنُ زَيْدٍ هَذَا مَازِنِيٌّ، وَالْأَوَّلُ كُوفِيٌّ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ) أَيْ: فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ الَّتِي تَقَعُ مِنْ أَجْلِهِ فِي الْمُصَلَّى.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ) بَيَّنَ أَبُو ذَرٍّ فِي رِوَايَتِهِ أَنَّهُ ابْنُ سَلَّامٍ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ.
قَوْلُهُ: (خَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى يُصَلِّي) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي يَدْعُو.
قَوْلُهُ: (وَأَنَّهُ لَمَّا دَعَا أَوْ أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ) الشَّكُّ مِنَ الرَّاوِي وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، فَقَدْ رَوَاهُ السَّرَّاجُ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ عَنْهُ بِالشَّكِّ أَيْضًا، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ عَنْهُ فَلَمْ يَشُكَّ
كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ تَحْوِيلِ الرِّدَاءِ وَكَأَنَّهُ كَانَ يَشُكُّ فِيهِ تَارَةً وَيَجْزِمُ بِهِ أُخْرَى، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ فَوَائِدِهِ هُنَاكَ.
قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ الْمُصَنِّفُ.
قَوْلُهُ: (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ هَذَا مَازِنِيٌّ) يَعْنِي رَاوِيَ حَدِيثِ الِاسْتِسْقَاءِ، وَالْأَوَّلُ كُوفِيٌّ وَهُوَ ابْنُ يَزِيدَ، كَذَا وَقَعَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَحْدَهُ هُنَا، وَأَلْيَقُ الْمَوَاضِعِ بِهَا بَابُ الدُّعَاءِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ قَائِمًا فَإِنَّ فِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ حَدِيثًا وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ حَدِيثًا، فَيَحْسُنُ بَيَانُ تَغَايُرِهِمَا حَيْثُ ذُكِرَا جَمِيعًا، وَأَمَّا هَذَا الْبَابُ فَلَيْسَ فِيهِ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ ذِكْرٌ، وَلَعَلَّ هَذَا مِنْ تَصَرُّفِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَكَأَنَّهُ رَآهُ فِي وَرَقَةٍ مُفْرَدَةٍ فَكَتَبَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ احْتِيَاطًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَالْأَوَّلُ أَيِ الَّذِي مَضَى فِي بَابِ الدُّعَاءِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ بِزِيَادَةِ الْيَاءِ فِي أَوَّلِ اسْمِ أَبِيهِ.
21 - بَاب رَفْعِ النَّاسِ أَيْدِيَهُمْ مَعَ الْإِمَامِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ
1029 -
قَالَ أَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ أَعْرَابِيٌّ مِنْ أَهْلِ الْبَدْوِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَتْ الْمَاشِيَةُ، هَلَكَ الْعِيَالُ، هَلَكَ النَّاسُ. فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ يَدْعُو وَرَفَعَ النَّاسُ أَيْدِيَهُمْ مَعَهُ يَدْعُونَ قَالَ: فَمَا خَرَجْنَا مِنْ الْمَسْجِدِ حَتَّى مُطِرْنَا، فَمَا زِلْنَا نُمْطَرُ حَتَّى كَانَتْ الْجُمُعَةُ الْأُخْرَى، فَأَتَى الرَّجُلُ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَشِقَ الْمُسَافِرُ وَمُنِعَ الطَّرِيقُ.
1030 -
وَقَالَ الْأُوَيْسِيُّ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَشَرِيكٍ سَمِعَا أَنَسًا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ رَفْعِ النَّاسِ أَيْدِيَهُمْ مَعَ الْإِمَامِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ) تَضَمَّنَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ الرَّدَّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُكْتَفَى بِدُعَاءِ الْإِمَامِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَيْهِ قَرِيبًا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ) أَيِ ابْنُ بِلَالٍ، وَهُوَ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ هَذِهِ الطَّرِيقَ عَنْهُ بِصِيغَةِ التَّعَلُّقِ، وَقَدْ وَصَلَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيِّ، عَنْ أَيُّوبَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ الْمَتْنِ فِي بَابِ تَحْوِيلِ الرِّدَاءِ.
قَوْلُهُ: (فَأَتَى الرَّجُلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَشِقَ الْمُسَافِرُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا قَافٌ، وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ فَوَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ بَشِقَ أَيْ مَلَّ، وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ أَنَّهُ وَقَعَ فِيهِ بَشِقَ اشْتَدَّ أَيِ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الضَّرَرُ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: بَشِقَ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا هُوَ لَثِقَ يَعْنِي بِلَامٍ وَمُثَلَّثَةٍ بَدَلَ الْمُوَحَّدَةِ وَالشِّينِ يُقَالُ: لَثِقَ الطَّرِيقُ، أَيْ صَارَ ذَا وَحَلٍ وَلَثِقَ الثَّوْبُ إِذَا أَصَابَهُ نَدَى الْمَطَرِ. قُلْتُ وَهُوَ رِوَايَةُ أَبِي إِسْمَاعِيلَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَشِقَ بِالْمِيمِ بَدَلَ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ صَارَتِ الطَّرِيقُ زَلِقَةً، وَمِنْهُ مَشِقَ الْخَطُّ وَالْمِيمُ وَالْبَاءُ مُتَقَارِبَتَانِ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَمْ أَجِدْ لِبَشِقَ فِي اللُّغَةِ مَعْنًى. وَفِي نَوَادِرِ اللِّحْيَانِيِّ: نَشِقَ بِالنُّونِ أَيْ نَشِبَ، انْتَهَى.
وَفِي النُّونِ وَالْقَافِ مِنْ مُجْمَلِ اللُّغَةِ لِابْنِ فَارِسٍ وَكَذَا فِي الصِّحَاحِ: نَشِقَ الظَّبْيُ فِي الْحِبَالَةِ، أَيْ عَلِقَ فِيهَا، وَرَجُلٌ نَشِقٌ إِذَا كَانَ مِمَّنْ يَدْخُلُ فِي أُمُورٍ لَا يَتَخَلَّصُ مِنْهَا. وَمُقْتَضَى كَلَامِ هَؤُلَاءِ أَنَّ الَّذِي وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ تَصْحِيفٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ لَهُ وَجْهٌ فِي اللُّغَةِ لَا كَمَا قَالُوا، فَفِي الْمُنَضَّدِ لِكُرَاعٍ
بَشِقَ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ تَأَخَّرَ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ، فَعَلَى هَذَا فَمَعْنَى بَشِقَ هُنَا ضَعُفَ عَنِ السَّفَرِ وَعَجَزَ عَنْهُ كَضَعْفِ الْبَاشِقِ وَعَجْزِهِ عَنِ الصَّيْدِ لِأَنَّهُ يُنَفِّرُ الصَّيْدَ وَلَا يَصِيدُ. وَقَالَ أَبُو مُوسَى فِي ذَيْلِ الْغَرِيبَيْنِ
(1)
: الْبَاشِقُ طَائِرٌ مَعْرُوفٌ، فَلَوِ اشْتُقَّ مِنْهُ فَعِلَ فَقِيلَ بَشِقَ لَمَا امْتَنَعَ، قَالَ: وَيُقَالُ: بَشِقَ الثَّوْبُ وَبَشِكَهُ قَطَعَهُ فِي خِفَّةٍ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى بَشِقَ أَيْ قُطِعَ بِهِ مِنَ السَّيْرِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بَثِقَ بِمُوَحَّدَةٍ وَمُثَلَّثَةٍ فَلَمْ أَرَهُ فِي شَيْءٍ مِمَّا اتَّصَلَ بِنَا، وَهُوَ تَصْحِيفٌ، فَإِنَّ الْبَثْقَ الِانْفِجَارُ وَلَا مَعْنَى لَهُ هُنَا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْأُوَيْسِيُّ) هُوَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ الْمَدَنِيُّ أَخُو إِسْمَاعِيلَ. وَهَذَا التَّعْلِيقُ ثَبَتَ هُنَا لِلْمُسْتَمْلِي وَثَبَتَ لِأَبِي الْوَقْتِ وَكَرِيمَةَ فِي آخِرِ الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَسَقَطَ لِلْبَاقِينَ رَأْسًا لِأَنَّهُ مَذْكُورٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ فِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ، وَقَدْ وَصَلَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ كَمَا سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
22 - بَاب رَفْعِ الْإِمَامِ يَدَهُ فِي الِاسْتِسْقَاءِ
1031 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، وَابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ دُعَائِهِ إِلَّا فِي الِاسْتِسْقَاءِ، وَإِنَّهُ يَرْفَعُ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبْطَيْهِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ رَفْعِ الْإِمَامِ يَدَهُ فِي الِاسْتِسْقَاءِ) ثَبَتَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ فِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي، قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: مَقْصُودُهُ بِتَكْرِيرِ رَفْعِ الْإِمَامِ يَدِهِ - وَإِنْ كَانَتْ التَّرْجَمَةُ الَّتِي قَبْلَهَا تَضَمَّنَتْهُ - لِتُفِيدَ فَائِدَةً زَائِدَةً وَهِيَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا فِي الِاسْتِسْقَاءِ، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَصَدَ التَّنْصِيصَ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ عَلَى رَفْعِ الْإِمَامِ يَدَهُ كَمَا قَصَدَ التَّنْصِيصَ فِي التَّرْجَمَةِ الْأُولَى بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ عَلَى رَفْعِ النَّاسِ، وَإِنِ انْدَرَجَ مَعَهُ رَفْعُ الْإِمَامِ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَصَدَ بِهَذِهِ كَيْفِيَّةَ رَفْعِ الْإِمَامِ يَدَهُ لِقَوْلِهِ: حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبْطَيْهِ انْتَهَى. وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ مَا مُحَصِّلُهُ: لَا تَكْرَارَ فِي هَاتَيْنِ التَّرْجَمَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْأُولَى لِبَيَانِ اتِّبَاعِ الْمَأْمُومِينَ الْإِمَامَ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ، وَالثَّانِيَةُ لِإِثْبَاتِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ لِلْإِمَامِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ سَعِيدٍ) هُوَ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ) فِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ كَمَا سَيَأْتِي فِي صِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (إِلَّا فِي الِاسْتِسْقَاءِ) ظَاهِرُهُ نَفْيُ الرَّفْعِ فِي كُلِّ دُعَاءٍ غَيْرِ الِاسْتِسْقَاءِ، وَهُوَ مُعَارَضُ بِالْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ بِالرَّفْعِ فِي غَيْرِ الِاسْتِسْقَاءِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا كَثِيرَةٌ، وَقَدْ أَفْرَدَهَا الْمُصَنِّفُ بِتَرْجَمَةٍ فِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ وَسَاقَ فِيهَا عِدَّةَ أَحَادِيثَ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْعَمَلَ بِهَا أَوْلَى، وَحُمِلَ حَدِيثُ أَنَسٍ عَلَى نَفْيِ رُؤْيَتِهِ، وَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ رُؤْيَةِ غَيْرِهِ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى تَأْوِيلِ حَدِيثِ أَنَسٍ الْمَذْكُورِ لِأَجْلِ الْجَمْعِ بِأَنْ يُحْمَلَ النَّفْيُ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ أمَّا الرَّفْعُ الْبَلِيغُ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبْطَيْهِ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ غَالِبَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الدُّعَاءِ إِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ مَدُّ الْيَدَيْنِ وَبَسْطُهُمَا عِنْدَ الدُّعَاءِ، وَكَأَنَّهُ عِنْدَ الِاسْتِسْقَاءِ مَعَ ذَلِكَ زَادَ فَرَفَعَهُمَا إِلَى جِهَةِ وَجْهِهِ حَتَّى حَاذَتَاهُ وَبِهِ حِينَئِذٍ يُرَى بَيَاضُ إِبْطَيْهِ، وَأَمَّا صِفَةُ الْيَدَيْنِ فِي ذَلِكَ فَلِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْقَى فَأَشَارَ بِظَهْرِ كَفَّيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ
(1)
في الأصل " الغريب" من مخطوطة الرياض " والمراد بالغريبيين غريب القرآن وغريب الحديث، وأبو موسى هو الحافظ محمد بن أبي بكر الاصفهاني المتوفي سنة 581 مؤلف الذيل على الجمع بين الغربيين لأبي عبيد أحمد بن محمد الهروي المتوفى سنة 401 المطبعة
أَنَسٍ أَيْضًا كَانَ يَسْتَسْقِي هَكَذَا وَمَدَّ يَدَيْهِ - وَجَعَلَ بُطُونَهُمَا مِمَّا يَلِي الْأَرْضَ - حَتَّى رَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: السُّنَّةُ فِي كُلِّ دُعَاءٍ لِرَفْعِ الْبَلَاءِ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ جَاعِلًا ظُهُورَ كَفَّيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَإِذَا دَعَا بِسُؤَالِ شَيْءٍ وَتَحْصِيلُهُ أَنْ يَجْعَلَ كَفَّيْهِ إِلَى السَّمَاءِ. انْتَهَى.
وَقَالَ غَيْرُهُ: الْحِكْمَةُ فِي الْإِشَارَةِ بِظُهُورِ الْكَفَّيْنِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ دُونَ غَيْرِهِ لِلتَّفَاؤُلِ بِتَقَلُّبِ الْحَالِ ظَهْرًا لِبَطْنٍ كَمَا قِيلَ فِي تَحْوِيلِ الرِّدَاءِ، أَوْ هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى صِفَةِ الْمَسْئُولِ وَهُوَ نُزُولُ السَّحَابِ إِلَى الْأَرْضِ.
23 - بَاب مَا يُقَالُ إِذَا أمَطَرَتْ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {كَصَيِّبٍ} الْمَطَرُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: صَابَ وَأَصَابَ يَصُوبُ
1032 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا رَأَى الْمَطَرَ قَالَ: صَيِّبًا نَافِعًا. تَابَعَهُ الْقَاسِمُ بْنُ يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَرَوَاهُ الْأَوْزَاعِيُّ وَعُقَيْلٌ عَنْ نَافِعٍ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُقَالُ) يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً أَوْ مَوْصُوفَةً أَوِ اسْتِفْهَامِيَّةً.
قَوْلُهُ: (إِذَا مُطِرَتْ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ مِنَ الثُّلَاثِيِّ وَلِلْبَاقِينَ أَمُطِرَتْ مِنْ رُبَاعِيٍّ وَهُمَا بِمَعْنًى عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقِيلَ: يُقَالُ مُطِرَ فِي الْخَيْرِ وَأُمْطِرَ فِي الشَّرِّ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَصَيِّبِ الْمَطَرِ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ بِذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الصَّيِّبُ السَّحَابُ، وَلَعَلَّهُ أَطْلَقَ ذَلِكَ مَجَازًا. قَالَ ابْنُ الْمُن يرِ: مُنَاسَبَةُ أَثَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ لَمَّا وَقَعَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ الْمَرْفُوعِ قَوْلُهُ صَيِّبًا قَدَّمَ الْمُصَنِّفُ تَفْسِيرَهُ فِي التَّرْجَمَةِ، وَهَذَا يَقَعُ لَهُ كَثِيرًا، وَقَالَ أَخُوهُ الزَّيْنُ: وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ أَنَّ الصَّيِّبَ لَمَّا جَرَى ذِكْرُهُ فِي الْقُرْآنِ قُرِنَ بِأَحْوَالٍ مَكْرُوهَةٍ، وَلَمَّا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ وُصِفَ بِالنَّفْعِ فَأَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ الْمَطَرُ، وَأَنَّهُ يَنْقَسِمُ إِلَى نَافِعٍ وَضَارٍّ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ: صَابَ وَأَصَابَ يَصُوبُ) كَذَا وَقَعَ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ، وَقَدِ اسْتُشْكِلَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ يَصُوبُ مُضَارِعُ صَابَ، وَأَمَّا أَصَابَ فَمُضَارِعُهُ يُصِيبُ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الصَّيِّبُ تَقْدِيرُهُ مِنَ الْفِعْلِ سَيَّدَ وَهُوَ مِنْ صَابَ يَصُوبُ فَلَعَلَّهُ كَانَ فِي الْأَصْلِ وَانْصَابَ كَمَا حَكَاهُ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ فَسَقَطَتِ النُّونُ كَمَا سَقَطَتْ يَنْصَابُ بَعْدَ يَصُوبُ، أَوِ الْمُرَادُ مَا حَكَاهُ صَاحِبُ الْأَفْعَالِ صَابَ الْمَطَرُ يَصُوبُ إِذَا نَزَلَ فَأَصَابَ الْأَرْضَ فَوَقَعَ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ) هُوَ ابْنُ مُقَاتِلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ، وَنَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَيِ ابْنُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَقَدْ سَمِعَ نَافِعٌ مِنْ عَائِشَةَ وَنَزَلَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْهَا، وَكَذَا سَمِعَ عُبَيْدُ اللَّهِ مِنَ الْقَاسِمِ وَنَزَلَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ، مَعَ أَنَّ مَعْمَرًا قَدْ رَوَاهُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ الْقَاسِمِ نَفْسِهِ بِإِسْقَاطِ نَافِعٍ مِنَ السَّنَدِ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (اللَّهُمَّ صَيِّبًا نَافِعًا) كَذَا فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَسَقَطَ اللَّهُمَّ لِغَيْرِهِمَا. وَصَيِّبًا مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ أَيِ اجْعَلْهُ، وَنَافِعًا صِفَةٌ لِلصَّيِّبِ وَكَأَنَّهُ احْتُرِزَ بِهَا عَنِ الصَّيِّبِ الضَّارِّ. وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُخْتَصَرٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنْ عَائِشَةَ تَامًّا وَلَفْظُهُ كَانَ إِذَا كَانَ يَوْمُ رِيحٍ عُرِفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ وَيَقُولُ إِذَا رَأَى الْمَطَرَ: رَحْمَةٌ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ عَنْ عَائِشَةَ أَوْضَحَ مِنْهُ وَلَفْظُهُ كَانَ إِذَا رَأَى نَاشِئًا فِي أُفُقِ السَّمَاءِ تَرَكَ الْعَمَلَ، فَإِنْ كُشِفَ حَمِدَ اللَّهَ فَإِنْ أَمْطَرَتْ قَالَ: اللَّهُمَّ صَيِّبًا نَافِعًا. وَسَيَأْتِي لِلْمُصَنِّفِ فِي أَوَائِلِ بَدْءِ الْخَلْقِ مِنْ رِوَايَةِ عَطَاءٍ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ
مُقْتَصِرًا عَلَى مَعْنَى الشِّقِّ الْأَوَّلِ وَفِيهِ: أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ وَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ وَفِيهِ: وَمَا أَدْرِي لَعَلَّهُ كَمَا قَالَ قَوْمُ عَادٍ: {هَذَا عَارِضٌ} الْآيَةَ وَعُرِفَ بِرِوَايَةِ شُرَيْحٍ أَنَّ الدُّعَاءَ الْمَذْكُورَ يُسْتَحَبُّ بَعْدَ نُزُولِ الْمَطَرِ لِلِازْدِيَادِ مِنَ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ مُقَيَّدًا بِدَفْعِ مَا يُحْذَرُ مِنْ ضَرَرٍ.
قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ الْقَاسِمُ بْنُ يَحْيَى) أَيِ: ابْنُ عَطَاءِ بْنِ مُقَدَّمٍ الْمُقَدَّمِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ بِإِسْنَادِهِ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَوْصُولَةً. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّوْحِيدِ، عَنْ مُقَدَّمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَمِّهِ الْقَاسِمِ بْنِ يَحْيَى بِهَذَا الْإِسْنَادِ حَدِيثًا غَيْرَ هَذَا، وَزَعَمَ مُغَلْطَايْ أَنَّ الدَّارَقُطْنِيَّ وَصَلَ هَذِهِ الْمُتَابَعَةَ فِي غَرَائِبِ الْأَفْرَادِ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ.
قُلْتُ: لَيْسَ ذَلِكَ مُطَابِقًا إِلَّا إِنْ كَانَ نُسْخَتُهُ سَقَطَ مِنْهَا مِنْ مَتْنِ الْبُخَارِيِّ لَفْظُ الْقَاسِمِ بْنِ يَحْيَى.
قَوْلُهُ: (وَرَوَاهُ الْأَوْزَاعِيُّ، وَعُقَيْلٌ، عَنْ نَافِعٍ) يَعْنِي كَذَلِكَ، فَأَمَّا رِوَايَةُ الْأَوْزَاعِيِّ فَأَخْرَجَهَا النَّسَائِيُّ فِي عَمَلِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ بِهَذَا وَلَفْظُهُ هَنِيئًا بَدَلَ نَافِعًا، وَرُوِّينَاهَا فِي الْغِيلَانِيَّاتِ مِنْ طَرِيقِ دُحَيْمٍ، عَنِ الْوَلِيدِ، وَشُعَيْبٌ هُوَ ابْنُ إِسْحَاقَ، قَالَا: حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي نَافِعٌ فَذَكَرَهُ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي الْعِشْرِينَ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، حَدَّثَنِي نَافِعٌ، أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَزَالَ بِهَذَا مَا كَانَ يُخْشَى مِنْ تَدْلِيسِ الْوَلِيدِ وَتَسْوِيَتِهِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى الْأَوْزَاعِيِّ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ، وَأَرْجَحُهَا هَذِهِ الرِّوَايَةُ، وَيُسْتَفَادُ مِنْ رِوَايَةِ دُحَيْمٍ صِحَّةُ سَمَاعِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، خِلَافًا لِمَنْ نَفَاهُ. وَأَمَّا رِوَايَةُ عُقَيْلٍ فَذَكَرَهَا الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: قَالَ أَوَّلًا تَابَعَهُ الْقَاسِمُ ثُمَّ قَالَ وَرَوَاهُ الْأَوْزَاعِيُّ، فَكَانَ تَغَيُّرُ الْأُسْلُوبِ لِإِفَادَةِ الْعُمُومِ فِي الثَّانِي؛ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ عَلَى سَبِيلِ الْمُتَابَعَةِ أَمْ لَا، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَا رَوَيَاهُ عَنْ نَافِعٍ كَمَا رَوَاهُ عُبَيْدُ اللَّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَا رَوَيَاهُ عَلَى صِفَةٍ أُخْرَى، انْتَهَى.
وَمَا أَدْرِي لِمَ تَرَكَ احْتِمَالَ أَنَّهُ صَنَعَ ذَلِكَ لِلتَّفَنُّنِ فِي الْعِبَارَةِ مَعَ أَنَّهُ الْوَاقِعُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّ رِوَايَةَ الْجَمِيعِ مُتَّفِقَةٌ لِأَنَّ الْخِلَافَ الَّذِي ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ إِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى إِدْخَالِ وَاسِطَةٍ بَيْنَ الْأَوْزَاعِيِّ، وَنَافِعٍ أَوْ لَا، وَالْبُخَارِيُّ قَدْ قَيَّدَ رِوَايَةَ الْأَوْزَاعِيِّ بِكَوْنِهَا عَنْ نَافِعٍ، وَالرُّوَاةُ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ نَافِعًا رَوَاهُ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ، فَظَهَرَ بِهَذَا كَوْنُهَا مُتَابَعَةً لَا مُخَالَفَةً، وَكَذَلِكَ رِوَايَةُ عُقَيْلٍ، لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ مُتَابَعَةُ الْقَاسِمِ أَقْرَبَ مِنْ مُتَابَعَتِهِمَا لِأَنَّهُ تَابَعَ فِي عُبَيْدِ اللَّهِ وَهُمَا تَابَعَا فِي شَيْخِهِ حَسُنَ أَنْ يُفْرِدَهَا مِنْهُمَا وَلَمَّا أَفْرَدَهَا تَفَنَّنَ فِي الْعِبَارَةِ.
24 - بَاب مَنْ تَمَطَّرَ فِي الْمَطَرِ حَتَّى يَتَحَادَرَ عَلَى لِحْيَتِهِ
1033 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: أَصَابَتْ النَّاسَ سَنَةٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَ الْمَالُ، وَجَاعَ الْعِيَالُ، فَادْعُ اللَّهَ لَنَا أَنْ يَسْقِيَنَا. قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ وَمَا فِي السَّمَاءِ قَزَعَةٌ، قَالَ: فَثَارَ سَحَابٌ أَمْثَالُ الْجِبَالِ، ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ عَنْ مِنْبَرِهِ حَتَّى رَأَيْتُ الْمَطَرَ يَتَحَادَرُ عَلَى لِحْيَتِهِ، قَالَ: فَمُطِرْنَا يَوْمَنَا ذَلِكَ وَفِي الْغَدِ وَمِنْ بَعْدِ الْغَدِ، وَالَّذِي يَلِيهِ إِلَى الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى، فَقَامَ ذَلِكَ الْأَعْرَابِيُّ أَوْ رَجُلٌ غَيْرُهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَهَدَّمَ الْبِنَاءُ، وَغَرِقَ الْمَالُ، فَادْعُ اللَّهَ لَنَا. فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، قَالَ: فَمَا جَعَلَ يُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْ السَّمَاءِ إِلَّا تَفَرَّجَتْ
حَتَّى صَارَتْ الْمَدِينَةُ فِي مِثْلِ الْجَوْبَةِ، حَتَّى سَالَ الْوَادِي وَادِي قَنَاةَ شَهْرًا، قَالَ: فَلَمْ يَجِئْ أَحَدٌ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَّا حَدَّثَ بِالْجَوْدِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ تَمَطَّرَ) بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ، أَيْ: تَعَرَّضَ لِوُقُوعِ الْمَطَرِ، وَتَفَعَّلَ يَأْتِي لِمَعَانٍ أَلْيَقُهَا هُنَا أَنَّهُ بِمَعْنَى مُوَاصَلَةِ الْعَمَلِ فِي مُهْلَةٍ نَحْوِ تَفَكَّرَ، وَلَعَلَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: حَسِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَوْبَهُ حَتَّى أَصَابَهُ الْمَطَرُ وَقَالَ لِأَنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَعْنَاهُ قَرِيبُ الْعَهْدِ بِتَكْوِينِ رَبِّهِ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفُ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ تَحَادُرَ الْمَطَرِ عَلَى لِحْيَتِهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنِ اتِّفَاقًا وَإِنَّمَا كَانَ قَصْدًا فَلِذَلِكَ تَرْجَمَ بِقَوْلِهِ مَنْ تَمَطَّرَ أَيْ: قَصَدَ نُزُولَ الْمَطَرِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ بِاخْتِيَارِهِ لَنَزَلَ عَنِ الْمِنْبَرِ أَوَّلَ مَا وُكِفَ السَّقْفُ، لَكِنَّهُ تَمَادَى فِي خُطْبَتِهِ حَتَّى كَثُرَ نُزُولُهُ بِحَيْثُ تَحَادَرَ عَلَى لِحْيَتِهِ صلى الله عليه وسلم.
وقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ أَنَسٍ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ تَحْوِيلِ الرِّدَاءِ.
25 - بَاب إِذَا هَبَّتْ الرِّيحُ
1034 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي حُمَيْدٌ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسا يَقُولُ كَانَتْ الرِّيحُ الشَّدِيدَةُ إِذَا هَبَّتْ عُرِفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا هَبَّتِ الرِّيحُ) أَيْ: مَا يُصْنَعُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ. قِيلَ: وَجْهُ دُخُولِ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ فِي أَبْوَابِ الِاسْتِسْقَاءِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِالِاسْتِسْقَاءِ نُزُولُ الْمَطَرِ، وَالرِّيحُ فِي الْغَالِبِ تَعْقُبُهُ، وَقَدْ سَبَقَ قَرِيبًا التَّنْبِيهُ عَلَى إِيضَاحِ مَا يُصْنَعُ عِنْدَ هُبُوبِهَا. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الْآتِي فِي بَدْءِ الْخَلْقِ وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي يَعْلَى بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا هَاجَتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا أُمِرَتْ بِهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا أُمِرَتْ بِهِ وَهَذِهِ زِيَادَةٌ عَلَى رِوَايَةِ حُمَيْدٍ يَجِبُ قَبُولُهَا لِثِقَةِ رُوَاتِهَا. وَفِي الْبَابِ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَعَنْ غَيْرِهِمْ. وَالتَّعْبِيرُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ فِي وَصْفِ الرِّيحِ بِالشَّدِيدَةِ يُخْرِجُ الرِّيحَ الْخَفِيفَةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِيهِ الِاسْتِعْدَادُ بِالْمُرَاقَبَةِ لِلَّهِ، وَالِالْتِجَاءُ إِلَيْهِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَحُدُوثِ مَا يُخَافُ بِسَبَبِهِ.
26 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نُصِرْتُ بِالصَّبَا
1035 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: نُصِرْتُ بِالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ.
[الحديث 4105. 3343. 3205]
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نُصِرْتُ بِالصَّبَا) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِشَارَةٌ إِلَى تَخْصِيصِ حَدِيثِ أَنَسٍ الَّذِي قَبْلَهُ بِمَا سِوَى الصَّبَا مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الرِّيحِ لِأَنَّ قَضِيَّةَ نَصْرِهَا لَهُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُسَرُّ بِهَا دُونَ غَيْرِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَدِيثُ أَنَسٍ عَلَى عُمُومِهِ إِمَّا بِأَنْ يَكُونَ نَصْرُهَا لَهُ مُتَأَخِّرًا عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ فِي غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقولِهِ تَعَالَى:{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} كَمَا جَزَمَ بِهِ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ وَإِمَّا بِأَنْ يَكُونَ نَصْرُهَا لَهُ بِسَبَبِ إِهْلَاكِ أَعْدَائِهِ
فَيُخْشَى مِنْ هُبُوبِهَا أَنْ تُهْلِكَ أَحَدًا مِنْ عُصَاةِ أُمَّتِهِ وَهُوَ كَانَ بِهِمْ رَءُوفًا رَحِيمًا صلى الله عليه وسلم. وَأَيْضًا فَالصَّبَا تُؤَلِّفُ السَّحَابَ وَتَجْمَعُهُ، فَالْمَطَرُ فِي الْغَالِبِ يَقَعُ حِينَئِذٍ، وَقَدْ وَقَعَ فِي الْخَبَرِ الْمَاضِي أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَمْطَرَتْ سُرِّيَ عَنْهُ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الصَّبَا أَيْضًا مِمَّا يَقَعُ التَّخَوُّفُ عِنْدَ هُبُوبِهَا فَيُعَكِّرُ ذَلِكَ عَلَى التَّخْصِيصِ الْمَذْكُورِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ) هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ.
قَوْلُهُ: (بِالصَّبَا) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ مَقْصُورَةٌ يُقَالُ لَهَا الْقَبُولُ بِفَتْحِ الْقَافِ لِأَنَّهَا تُقَابِلُ بَابَ الْكَعْبَةِ إِذْ مَهَبُّهَا مِنْ مَشْرِقِ الشَّمْسِ، وَضِدُّهَا الدَّبُورُ وَهِيَ الَّتِي أُهْلِكَتْ بِهَا قَوْمُ عَادٍ، وَمِنْ لَطِيفِ الْمُنَاسَبَةِ كَوْنُ الْقَبُولِ نَصَرْتَ أَهْلَ الْقَبُولِ وَكَوْنُ الدَّبُّورِ أَهْلَكْتَ أَهْلَ الْإِدْبَارِ، وَأَنَّ الدَّبُّورَ أَشَدُّ مِنَ الصَّبَا لِمَا سَنَذْكُرُهُ فِي قِصَّةِ عَادٍ أَنَّهَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا إِلَّا قَدْرٌ يَسِيرٌ وَمَعَ ذَلِكَ اسْتَأْصَلَتْهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} وَلَمَّا عَلِمَ اللَّهُ رَأْفَةَ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَوْمِهِ رَجَاءَ أَنْ يُسْلِمُوا سَلَّطَ عَلَيْهِمْ الصَّبَا فَكَانَتْ سَبَبُ رَحِيلِهِمْ عَنِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا أَصَابَهُمْ بِسَبَبِهَا مِنَ الشِّدَّةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ تُهْلِكْ مِنْهُمْ أَحَدًا وَلَمْ تَسْتَأْصِلْهُمْ. وَمِنَ الرِّيَاحِ أَيْضًا الْجَنُوبُ وَالشَّمَالُ، فَهَذِهِ الْأَرْبَعُ تَهُبُّ مِنَ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ، وَأَيُّ رِيحٍ هَبَّتْ مِنْ بَيْنِ جِهَتَيْنِ مِنْهَا يُقَالُ لَهَا النَّكْبَاءُ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْكَافِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ وَمَدٌّ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
27 - بَاب مَا قِيلَ فِي الزَّلَازِلِ وَالْآيَاتِ
1036 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلَازِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ - وَهُوَ الْقَتْلُ - حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمْ الْمَالُ فَيَفِيضَ.
1037 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا وَفِي يَمَنِنَا، قَالَ: قَالُوا: وَفِي نَجْدِنَا. قَالَ: قَالَ: هُنَاكَ الزَّلَازِلُ وَالْفِتَنُ وَبِهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ.
[الحديث 1037 - طرفه في: 7094]
قَوْلُهُ: (بَابُ مَا قِيلَ فِي الزَّلَازِلِ وَالْآيَاتِ) قِيلَ: لَمَّا كَانَ هُبُوبُ الرِّيحِ الشَّدِيدَةِ يُوجِبُ التَّخَوُّفَ الْمُفْضِيَ إِلَى الْخُشُوعِ وَالْإِنَابَةِ كَانَتِ الزَّلْزَلَةُ وَنَحْوُهَا مِنَ الْآيَاتِ أَوْلَى بِذَلِكَ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ نَصَّ فِي الْخَبَرِ عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ الزَّلَازِلِ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: وَجْهُ إِدْخَالِ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ فِي أَبْوَابِ الِاسْتِسْقَاءِ أَنَّ وُجُودَ الزَّلْزَلَةِ وَنَحْوِهَا يَقَعُ غَالِبًا مَعَ نُزُولِ الْمَطَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لِنُزُولِ الْمَطَرِ دُعَاءٌ يَخُصُّهُ فَأَرَادَ الْمُصَنِّفُ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَلَى شَرْطِهِ فِي الْقَوْلِ عِنْدَ الزَّلَازِلِ وَنَحْوِهَا شَيْءٌ، وَهَلْ يُصَلِّي عِنْدَ وُجُودِهَا؟ حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ فِيهِ الِاخْتِلَافَ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ وَجَمَاعَةٌ، وَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلَ بِهِ عَلَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ عَنْ عَلِيٍّ، وَصَحَّ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَغَيْرُهُ. وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: صَلَاةُ الْآيَاتِ سِتُّ رَكَعَاتٍ وَأَرْبَعُ سَجَدَاتٍ ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَهُوَ ابْنُ هُرْمُزَ الْأَعْرَجِ عَنْهُ مَرْفُوعًا: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ وَتَكْثُرُ الزَّلَازِلُ الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى
فِي كِتَابِ الْفِتَنِ، فَإِنَّهُ أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ هُنَاكَ مُطَوَّلًا، وَذَكَرَ مِنْهُ قِطَعًا هُنَا وَفِي الزَّكَاةِ وَفِي الرِّقَاقِ.
وَاخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ: يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ فَقِيلَ عَلَى ظَاهِرِهِ فَلَا يَظْهَرُ التَّفَاوُتُ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ بِالْقِصَرِ وَالطُّولِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ قُرْبُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ تَذْهَبُ الْبَرَكَةُ فَيَذْهَبُ الْيَوْمُ وَاللَّيْلَةُ بِسُرْعَةٍ، وَقِيلَ الْمُرَادُ يَتَقَارَبُ أَهْلُ ذَلِكَ الزَّمَانِ فِي الشَّرِّ وَعَدَمِ الْخَيْرِ، وَقِيلَ تَتَقَارَبُ صُدُورُ الدُّوَلِ وتَطُولُ
(1)
مُدَّةُ أَحَدٍ لِكَثْرَةِ الْفِتَنِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ: حَتَّى يَقْتَرِبَ الزَّمَانُ مَعْنَاهُ: حَتَّى تَقْرُبَ الْقِيَامَةُ، وَوَهَّاهُ الْكِرْمَانِيُّ وَقَالَ: هُوَ مِنْ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ بَلْ مَعْنَاهُ قُرْبُ الزَّمَانِ الْعَامِّ مِنَ الزَّمَانِ الْخَاصِّ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَعِنْدَ قُرْبِهِ يَقَعُ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُنْكَرَةِ
(2)
.
الْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: قَالُوا: وَفِي نَجْدِنَا. قَالَ: هُنَاكَ الزَّلَازِلُ وَالْفِتَنُ هَكَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الَّتِي اتَّصَلَتْ لَنَا بِصُورَةِ الْمَوْقُوفِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَمْ يَذْكُرِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ الْقَابِسِيُّ: سَقَطَ ذِكْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ النُّسْخَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْهُ لِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يُقَالُ بِالرَّأْيِ، انْتَهَى.
وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مِنْ آلِ مَالِكِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ، وَرَوَاهُ أَزْهَرُ السَّمَّانُ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ مُصَرِّحًا فِيهِ بِذِكْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا سَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْفِتَنِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ أَيْضًا هُنَاكَ، وَنَذْكُرُ فِيهِ مَنْ وَافَقَ أَزْهَرَ عَلَى التَّصْرِيحِ بِرَفْعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَوْلُهُ فِيهِ: قَالُوا وَفِي نَجْدِنَا قَائِلُ ذَلِكَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ عِنْدَ الدُّعَاءِ لِلْمُحَلِّقِينَ قَالُوا وَالْمُقَصِّرِينَ.
28 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شُكْرَكُمْ.
1038 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنْ اللَّيْلِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شُكْرَكُمْ.)
يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَرَأَهَا كَذَلِكَ، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: وَتَجْعَلُونَ شُكْرَكُمُ أنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي التَّفْسِيرِ الْمُسْنَدِ، وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي زُمَيْلٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مُطِرَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ فِي الْبَابِ وَفِي آخِرِهِ: فَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} إِلَى قَوْلِهِ:
(1)
بهامش طبعة بولاق: كذا بالنسخ، ولعل"لا "سقطت أي " ولا تطول"
(2)
الأقرب تفسير التقارب المذكور في الحديث بما وقع في هذا العصر تقارب ما بين المدن والأقاليم وقصر زمن المسافه بينهما بسبب اختراع الطائرات والسيارات والإذاعة وما إلى ذلك والله أعلم
تُكَذِّبُونَ وَعُرِفَ بِهَذَا مُنَاسَبَةُ التَّرْجَمَةِ وَأَثَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ لِحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ أَثَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُعَلَّقِ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ لَكِنْ سِيَاقُهُ يَدُلُّ عَلَى التَّفْسِيرِ لَا عَلَى الْقِرَاءَةِ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} قَالَ: تَجْعَلُونَ شُكْرَكُمْ، تَقُولُونَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَقَدْ قِيلَ فِي الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ: حُذِفَ تَقْدِيرُهُ وَتَجْعَلُونَ شُكْرَ رِزْقِكُمْ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الْمَعْنَى وَتَجْعَلُونَ الرِّزْقَ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْكُمْ بِهِ الشُّكْرُ تَكْذِيبَكُمْ بِهِ، وَقِيلَ بَلِ الرِّزْقُ بِمَعْنَى الشُّكْرِ فِي لُغَةِ أَزْدِ شَنُوءَةَ نَقَلَهُ الطَّبَرِيُّ، عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ عَدِيٍّ.
قَوْلُهُ: (عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ) هَكَذَا يَقُولُ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ لَمْ يُخْتَلَفْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَخَالَفَهُ الزُّهْرِيُّ فَرَوَاهُ عَنْ شَيْخِهِمَا عُبَيْدُ اللَّهِ فَقَالَ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَقِبَ رِوَايَةِ صَالِحٍ فَصَحَّحَ الطَّرِيقَيْنِ؛ لِأَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ سَمِعَ مِنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ جَمِيعًا عِدَّةَ أَحَادِيثَ مِنْهَا حَدِيثُ الْعَسِيفِ وَحَدِيثُ الْأَمَةِ إِذَا زَنَتْ، فَلَعَلَّهُ سَمِعَ هَذَا مِنْهُمَا فَحَدَّثَ بِهِ تَارَةً عَنْ هَذَا وَتَارَةً عَنْ هَذَا، وَإِنَّمَا لَمْ يَجْمَعْهُمَا لِاخْتِلَافِ لَفْظِهِمَا كَمَا سَنُشِيرُ إِلَيْهِ. وَقَدْ صَرَّحَ صَالِحٌ بِسَمَاعِهِ لَهُ مِنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، وَرَوَى صَالِحٌ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بِوَاسِطَةِ الزُّهْرِيِّ عِدَّةَ أَحَادِيثَ مِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي شَاةِ مَيْمُونَةَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الطَّهَارَةِ، وَحَدِيثُهُ عَنْهُ فِي قِصَّةِ هِرَقْلَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ.
قَوْلُهُ: (صَلَّى لَنَا) أَيْ لِأَجْلِنَا، أَوِ اللَّامُ بِمَعْنَى الْبَاءِ، أَيْ صَلَّى بِنَا، وَفِيهِ جَوَازُ إِطْلَاقِ ذَلِكَ مَجَازًا، وَإِنَّمَا الصَّلَاةُ لِلَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (بِالْحُدَيْبِيَةِ) بِالْمُهْمَلَةِ وَالتَّصْغِيرِ وَتُخَفَّفُ يَاؤُهَا وَتُثَقَّلُ، يُقَالُ: سُمِّيَتْ بِشَجَرَةِ حَدْبَاءَ هُنَاكَ.
قَوْلُهُ: (عَلَى إِثْرِ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَهُوَ مَا يَعْقُبُ الشَّيْءَ.
قَوْلُهُ: (سَمَاءٍ) أَيْ مَطَرٍ وَأُطْلِقَ عَلَيْهِ سَمَاءٌ لِكَوْنِهِ يَنْزِلُ مِنْ جِهَةِ السَّمَاءِ وَكُلُّ جِهَةِ عُلُوٍّ تُسَمَّى سَمَاءً.
قَوْلُهُ: (كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْمُسْتَمْلِي، وَالْحَمَوِيِّ مِنَ اللَّيْلَةِ بِالْإِفْرَادِ.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا انْصَرَفَ) أَيْ مِنْ صَلَاتِهِ أَوْ مِنْ مَكَانِهِ.
قَوْلُهُ: (هَلْ تَدْرُونَ) لَفْظُ اسْتِفْهَامٍ مَعْنَاهُ التَّنْبِيهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ، عَنْ صَالِحٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ أَلَمْ تَسْمَعُوا مَا قَالَ رَبُّكُمُ اللَّيْلَةَ وَهَذَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الْإِلَهِيَّةِ وَهِيَ تَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَهَا عَنِ اللَّهِ بِلَا وَاسِطَةٍ أَوْ بِوَاسِطَةٍ.
قَوْلُهُ: (أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي) هَذِهِ إِضَافَةُ عُمُومٍ بِدَلِيلِ التَّقْسِيمِ إِلَى مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ بِخِلَافِ مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} فَإِنَّهَا إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ.
قَوْلُهُ: (مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْكُفْرِ هُنَا كُفْرَ الشِّرْكِ بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِ بِالْإِيمَانِ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ رِوَايَةِ نَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ اللَّيْثِيِّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ اللَّيْثِيِّ مَرْفُوعًا يَكُونُ النَّاسُ مُجْدِبِينَ فَيُنْزِلُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقِهِ فَيُصْبِحُونَ مُشْرِكِينَ يَقُولُونَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ كُفْرَ النِّعْمَةِ، وَيُرْشِدُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ سُفْيَانَ فَأَمَّا مَنْ حَمِدَنِي عَلَى سُقْيَايَ وَأَثْنَى علي فَذَلِكَ آمَنَ بِي وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ نَحْوُهُ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: وَكَفَرَ بِي أَوْ قَالَ كَفَرَ نِعْمَتِيَ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ قَالَ اللَّهُ: مَا أَنْعَمْتُ عَلَى عِبَادِي مِنْ نِعْمَةٍ إِلَّا أَصْبَحَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ كَافِرِينَ بِهَا وَلَهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَصْبَحَ مِنَ النَّاسِ شَاكِرٌ وَمِنْهُمْ كَافِرٌ وَعَلَى الْأَوَّلِ حَمَلَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَعْلَى مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ، قَالَ فِي الْأُمِّ: مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا عَلَى مَا كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الشِّرْكِ يَعْنُونَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَطَرِ إِلَى أَنَّهُ مَطَرُ نَوْءٍ كَذَا فَذَلِكَ كُفْرٌ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّ النَّوْءَ وَقْتٌ وَالْوَقْتَ مَخْلُوقٌ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ شَيْئًا، وَمَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا عَلَى مَعْنَى مُطِرْنَا فِي وَقْتِ كَذَا فَلَا يَكُونُ كُفْرًا، وَغَيْرُهُ مِنَ الْكَلَامِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ، يَعْنِي حَسْمًا لِلْمَادَّةِ، وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ إِطْلَاقُ الْحَدِيثِ، وَحَكَى ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي كِتَابِ الْأَنْوَاءِ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ فِي
ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبَيْنِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرَه الشَّافِعِيُّ، قَالَ: وَمَعْنَى النَّوْءِ سُقُوطُ نَجْمٍ فِي الْمَغْرِبِ مِنَ النُّجُومِ الثَّمَانِيَةِ وَالْعِشْرِينَ الَّتِي هِيَ مَنَازِلُ الْقَمَرِ،
قَالَ: وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ نَاءَ إِذَا سَقَطَ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ النَّوْءُ طُلُوعُ نَجْمٍ مِنْهَا، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ نَاءَ إِذَا نَهَضَ، وَلَا تَخَالُفَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ فِي الْوَقْتِ لِأَنَّ كُلَّ نَجْمٍ مِنْهَا إِذَا طَلَعَ فِي الْمَشْرِقِ وَقَعَ حَالَ طُلُوعِهِ آخَرُ فِي الْمَغْرِبِ لَا يَزَالُ ذَلِكَ مُسْتَمِرًّا إِلَى أَنْ تَنْتَهِيَ الثَّمَانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ بِانْتِهَاءِ السَّنَةِ، فَإِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا تَقْرِيبًا، قَالَ: وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَظُنُّونَ أَنَّ نُزُولَ الْغَيْثِ بِوَاسِطَةِ النَّوْءِ إِمَّا بِصُنْعِهِ عَلَى زَعْمِهِمْ وَإِمَّا بِعَلَامَتِهِ، فَأَبْطَلَ الشَّرْعُ قَوْلَهُمْ وَجَعَلَهُ كُفْرًا، فَإِنِ اعْتَقَدَ قَائِلٌ ذَلِكَ أَنَّ لِلنَّوْءِ صُنْعًا فِي ذَلِكَ فَكُفْرُهُ كُفْرُ تَشْرِيكٍ، وَإِنِ اعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ التَّجْرِبَةِ فَلَيْسَ بِشِرْكٍ لَكِنْ يَجُوزُ إِطْلَاقُ الْكُفْرِ عَلَيْهِ وَإِرَادَةُ كُفْرِ النِّعْمَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْحَدِيثِ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ وَاسِطَةٌ، فَيُحْمَلُ الْكُفْرُ فِيهِ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ لِتَنَاوُلِ الْأَمْرَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَا يَرِدُ السَّاكِتُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَقِدَ قَدْ يَشْكُرُ بِقَلْبِهِ أَوْ يَكْفُرُ، وَعَلَى هَذَا فَالْقَوْلُ فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا مَنْ قَالَ: لِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ النُّطْقِ وَالِاعْتِقَادِ، كَمَا أَنَّ الْكُفْرَ فِيهِ لِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ كُفْرِ الشِّرْكِ وَكُفْرِ النِّعْمَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
قَوْلُهُ: (مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا) فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مُطِرْنَا بِنَوْءِ الْمِجْدَحِ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْجِيمِ وَفَتْحِ الدَّالِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ، وَيُقَالُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ هُوَ الدَّبَرَانُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا، وَقِيلَ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِاسْتِدْبَارِهِ الثُّرَيَّا، وَهُوَ نَجْمٌ أَحْمَرُ صَغِيرٌ مُنِيرٌ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: كُلُّ النُّجُومِ الْمَذْكُورَةِ لَهُ نَوْءٌ غَيْرُ أَنَّ بَعْضَهَا أَحْمَرُ وَأَغْزَرُ مِنْ بَعْضٍ، وَنَوْءُ الدَّبَرَانِ غَيْرُ مَحْمُودٍ عِنْدَهُمْ، انْتَهَى.
وَكَأَنَّ ذَلِكَ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ تَنْبِيهًا عَلَى مُبَالَغَتِهِمْ فِي نِسْبَةِ الْمَطَرِ إِلَى النَّوْءِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَحْمُودًا، أَوِ اتَّفَقَ وُقُوعُ ذَلِكَ الْمَطَرِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إِنْ كَانَتِ الْقِصَّةُ وَاحِدَةً. وَفِي مَغَازِي الْوَاقِدِيِّ أَنَّ الَّذِي قَالَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مُطِرْنَا بِنَوْءِ الشِّعْرَى هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْمَعْرُوفُ بِابْنِ سَلُولَ أَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ طَرَحُ الْإِمَامِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَإِنْ كَانَتْ لَا تُدْرَكُ إِلَّا بِدِقَّةِ النَّظَرِ. وَيُسْتَنْبَطُ مِنْهُ أَنَّ لِلْوَلِيِّ الْمُتَمَكِّنِ مِنَ النَّظَرِ فِي الْإِشَارَةِ
(1)
أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا عِبَارَاتٍ يَنْسُبُهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى
(2)
، كَذَا قَرَأْتُ بِخَطِّ بَعْضِ شُيُوخِنَا، وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنِ اسْتِنْطَاقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ عَمَّا قَالَ رَبُّهُمْ وَحَمْلُ الِاسْتِفْهَامِ فِيهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، لَكِنَّهُمْ رضي الله عنهم فَهِمُوا خِلَافَ ذَلِكَ، وَلِهَذَا لَمْ يُجِيبُوا إِلَّا بِتَفْوِيضِ الْأَمْرِ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
29 - بَاب لَا يَدْرِي مَتَى يَجِيءُ الْمَطَرُ إِلَّا اللَّهُ،
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ.
1039 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مِفْتَاحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ: لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَا يَكُونُ فِي غَدٍ، وَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَا يَكُونُ فِي الْأَرْحَامِ، وَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، وَمَا يَدْرِي أَحَدٌ مَتَى يَجِيءُ الْمَطَرُ.
[الحديث 1039 - أطرافه في 7379. 4778. 4697. 4627]
(1)
في مخطوطة الرياض"الاشارات"
(2)
هذا خطأ بين، وقول على الله بغير علم، فلا يجوز لمسلم أن يتعاطى ذلك، بل عليه أن يقول إذا سئل عما لايعلم: الله أعلم، كما فعل الصحابة رضي الله عنهم. والله أعلم
قَوْلُهُ: (بَابُ لَا يَدْرِي مَتَى يَجِيءُ الْمَطَرُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى) عَقَّبَ التَّرْجَمَةَ الْمَاضِيَةَ بِهَذِهِ لِأَنَّ تِلْكَ تَضَمَّنَتْ أَنَّ الْمَطَرَ إِنَّمَا يَنْزِلُ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلْكَوَاكِبِ فِي نُزُولِهِ، وَقَضِيَّةُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَتَى يَجِيءُ إِلَّا هُوَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ وَصَلَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي الْإِيمَانِ وَفِي تَفْسِيرِ لُقْمَانَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي سُؤَالِ جِبْرِيلَ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، لَكِنْ لَفْظُهُ فِي خَمْسٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فِي التَّفْسِيرِ بِلَفْظِ وَخَمْسٌ وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ الْبَجَلِيِّ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: خَمْسٌ مِنَ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الْآيَةَ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ) هُوَ الْفِرْيَابِيُّ، وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ.
قَوْلُهُ: (مِفْتَاحُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مَفَاتِحُ.
قَوْلُهُ: (وَمَا يَدْرِي أَحَدٌ مَتَى يَجِيءُ الْمَطَرُ) زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ إِلَّا اللَّهُ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ لِنُزُولِ الْمَطَرِ وَقْتًا مُعَيَّنًا لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي تَفْسِيرِ لُقْمَانَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(خَاتِمَةٌ):
اشْتَمَلَتْ أَبْوَابُ الِاسْتِسْقَاءِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى أَرْبَعِينَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْهَا تِسْعَةٌ وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ، الْمُكَرَّرُ فِيهَا وَفِيمَا مَضَى سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ حَدِيثًا، وَالْخَالِصُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي فِيهِ شِعْرُ أَبِي طَالِبٍ وَحَدِيثِ أَنَسٍ، عَنْ عُمَرَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ بِالْعَبَّاسِ وَحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ فِي الِاسْتِسْقَاءِ عَلَى رِجْلَيْهِ وَحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ فِي صِفَةِ تَحْوِيلِ الرِّدَاءِ - وَإِنْ كَانَ أَخْرَجَ أَصْلَهُ - وَحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي قَوْلِهِ صَيِّبًا نَافِعًا وَأَصْلُهُ أَيْضًا فِيهِ وَحَدِيثِ أَنَسٍ كَانَ إِذَا هَبَّتِ الرِّيحُ الشَّدِيدَةُ وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَا انْفَرَدَ بِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ أَثَرَانِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
بسم الله الرحمن الرحيم
16 - كِتَاب الْكُسُوف
(أَبْوَابُ الْكُسُوفِ) ثَبَتَتْ الْبَسْمَلَةُ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ، وَالتَّرْجَمَةُ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ كِتَابٌ بَدَلَ أَبْوَابٍ، وَالْكُسُوفُ لُغَةُ التَّغَيُّرِ إِلَى سَوَادٍ وَمِنْهُ كَسَفَ وَجْهُهُ وَحَالُهُ، وَكَسَفَتِ الشَّمْسُ اسْوَدَّتْ وَذَهَبَ شُعَاعُهَا. وَاخْتُلِفَ فِي الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ هَلْ هُمَا مُتَرَادِفَانِ أَوْ لَا كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا.
1 - بَاب الصَّلَاةِ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ
1040 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَانْكَسَفَتْ الشَّمْسُ فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَدَخَلْنَا فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ حَتَّى انْجَلَتْ الشَّمْسُ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَصَلُّوا وَادْعُوا حَتَّى يُكْشَفَ مَا بِكُمْ.
[الحديث 1040 - أطرافه في 5785. 1063. 1062. 1048]
1041 -
حَدَّثَنَا شِهَابُ بْنُ عَبَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مَسْعُودٍ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ، وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَقُومُوا فَصَلُّوا.
[الحديث 1041 - طرفاه في: 3204. 1057]
1042 -
حَدَّثَنَا أَصْبَغُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ كَانَ يُخْبِرُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا فَصَلُّوا.
[الحديث 1042 - طرفه في: 3201]
1043 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ، عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: كَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ، فَقَالَ النَّاسُ: كَسَفَتْ الشَّمْسُ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ فَصَلُّوا وَادْعُوا اللَّهَ.
[الحديث 1043 - طرفاه في: 6199. 1060]
قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّلَاةِ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ) أَيْ مَشْرُوعِيَّتِهَا، وَهُوَ أَمْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، لَكِنِ اخْتُلِفَ فِي الْحُكْمِ وَفِي الصِّفَةِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَصَرَّحَ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ بِوُجُوبِهَا، وَلَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ أَجْرَاهَا مَجْرَى الْجُمُعَةِ. وَنَقَلَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ أَوْجَبَهَا، وَكَذَا نَقَلَ بَعْضُ مُصَنِّفِي الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الصِّفَةِ قَرِيبًا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا خَالِدٌ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّحَّانُ، وَيُونُسُ هُوَ ابْنُ عُبَيْدٍ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ، وَتَرْجَمَةُ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ مُتَّصِلَةٌ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ مُنْقَطِعَةٌ عِنْدَ أَبِي حَاتِمٍ، وَالدَّارَقُطْنِيِّ، وَسَيَأْتِي التَّصْرِيحُ بِالْإِخْبَارِ فِيهِ بَعْدِ أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ وَهُوَ يُؤَيِّدُ صَنِيعَ الْبُخَارِيِّ.
قَوْلُهُ: (فَانْكَسَفَتْ) يُقَالُ كَسَفَتِ الشَّمْسُ بِفَتْحِ الْكَافِ وَانْكَسَفَتْ بِمَعْنًى، وَأَنْكَرَ الْقَزَّازُ انْكَسَفَتْ وَكَذَا الْجَوْهَرِيُّ حَيْثُ نَسَبَهُ لِلْعَامَّةِ وَالْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَيْهِ، وَحُكِيَ كُسِفَتْ بِضَمِّ الْكَافِ وَهُوَ نَادِرٌ.
قَوْلُهُ: (فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَجُرُّ رِدَاءَهُ) زَادَ فِي اللِّبَاسِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ يُونُسَ مُسْتَعْجِلًا وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ يُونُسَ مِنَ الْعَجَلَةِ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَفَزِعَ فَأَخْطَأَ بِدِرْعٍ حَتَّى أَدْرَكَ بِرِدَائِهِ يَعْنِي أَنَّهُ أَرَادَ لُبْسَ رِدَائِهِ فَلَبِسَ الدِّرْعَ مِنْ شُغْلِ خَاطِرِهِ بِذَلِكَ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ جَرَّ الثَّوْبِ لَا يُذَمُّ إِلَّا مِمَّنْ قَصَدَ بِهِ الْخُيَلَاءَ
(1)
. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى بَيَانُ السَّبَبِ فِي الْفَزَعِ كَمَا سَيَأْتِي.
قَوْلُهُ: (فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ) زَادَ النَّسَائِيُّ كَمَا تُصَلُّونَ وَاسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ: إِنَّ صَلَاةَ الْكُسُوفِ كَصَلَاةِ النَّافِلَةِ، وَحَمَلَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى كَمَا تُصَلُّونَ فِي الْكُسُوفِ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرَةَ خَاطَبَ بِذَلِكَ أَهْلَ الْبَصْرَةِ، وَقَدْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَّمَهُمْ أَنَّهَا رَكْعَتَانِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعَانِ كَمَا رَوَى ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُمَا، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَارِثِ، عَنْ يُونُسَ الْآتِيَةِ فِي أَوَاخِرِ الْكُسُوفِ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ بْن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِثْلُهُ وَقَالَ فِيهِ: إِنَّ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعَيْنِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى اتِّحَادِ الْقِصَّةِ، وَظَهَرَ أَنَّ رِوَايَةَ أَبِي بَكْرَةَ مُطْلَقَةٌ. وَفِي رِوَايَةِ جَابِرٍ زِيَادَةُ بَيَانٍ فِي صِفَةِ الرُّكُوعِ، وَالْأَخْذُ بِهَا أَوْلَى. وَوَقَعَ فِي أَكْثَرِ الطُّرُقِ عَنْ عَائِشَةَ أَيْضًا أَنَّ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعَيْنِ وَعِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ حَدِيثِهَا أَيْضًا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام.
قَوْلُهُ: (حَتَّى انْجَلَتْ) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى إِطَالَةِ الصَّلَاةِ حَتَّى يَقَعَ الِانْجِلَاءُ، وَأَجَابَ الطَّحَاوِيُّ بِأَنَّهُ قَالَ فِيهِ فَصَلُّوا وَادْعُوا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِنْ سَلَّمَ مِنَ الصَّلَاةِ قَبْلَ الِانْجِلَاءِ يَتَشَاغَلُ بِالدُّعَاءِ حَتَّى تَنْجَلِيَ، وَقَرَّرَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ بِأَنَّهُ جَعَلَ الْغَايَةَ لِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ غَايَةً لِكُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادِهِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ مُمْتَدًّا إِلَى غَايَةِ الِانْجِلَاءِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَيَصِيرُ غَايَةً لِلْمَجْمُوعِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَطْوِيلُ الصَّلَاةِ وَلَا تَكْرِيرُهَا. وَأَمَّا مَا وَقَعَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ وَيَسْأَلُ عَنْهَا حَتَّى انْجَلَتْ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا احْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ رَكْعَتَيْنِ أَيْ رُكُوعَيْنِ، وَقَدْ وَقَعَ التَّعْبِيرُ عَنِ الرُّكُوعِ بِالرَّكْعَةِ فِي حَدِيثِ الْحَسَنِ خَسَفَ الْقَمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ بِالْبَصْرَةِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رَكْعَتَانِ الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ، وَأَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ وَقَعَ بِالْإِشَارَةِ فَلَا يَلْزَمُ التَّكْرَارُ، وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ كُلَّمَا رَكَعَ رَكْعَةً أَرْسَلَ رَجُلًا يَنْظُرُ هَلِ انْجَلَتْ فَتَعَيَّنَ الِاحْتِمَالُ الْمَذْكُورُ، وَإِنْ ثَبَتَ تَعَدُّدُ الْقِصَّةِ زَالَ الْإِشْكَالُ أَصْلًا.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِنَّ الشَّمْسَ) زَادَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ خُزَيْمَةَ فَلَمَّا كَشَفَ عَنَّا خَطَبَنَا فَقَالَ
(1)
لو قال: إذا كان من غير قصد الجر لكان أصح، لعموم الحديث الصحيح" ما أسفل من الكعبين فهو في النار" والله أعلم.
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الِانْجِلَاءَ لَا يُسْقِطُ الْخُطْبَةَ كَمَا سَيَأْتِي.
قَوْلُهُ: (لِمَوْتِ أَحَدٍ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَارِثِ الْآتِيَةِ بَيَانُ سَبَبِ هَذَا الْقَوْلِ وَلَفْظُهُ وَذَلِكَ أَنَّ ابْنًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ مَاتَ فَقَالَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ وَفِي رِوَايَةِ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ فَقَالَ النَّاسُ: إِنَّمَا كَسَفَتِ الشَّمْسُ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ، وَلِأَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَخَرَجَ فَزِعًا يَجُرُّ ثَوْبَهُ حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ، فَلَمْ يَزَلْ يُصَلِّي حَتَّى انْجَلَتْ، فَلَمَّا انْجَلَتْ قَالَ: إِنَّ النَّاسَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَنْكَسِفَانِ إِلَّا لِمَوْتِ عَظِيمٍ مِنَ الْعُظَمَاءِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، الْحَدِيثَ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ إِبْطَالُ مَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ تَأْثِيرِ الْكَوَاكِبِ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْمَاضِي فِي الِاسْتِسْقَاءِ يَقُولُونَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْكُسُوفَ يُوجِبُ حُدُوثَ تَغَيُّرٍ فِي الْأَرْضِ مِنْ مَوْتٍ أَوْ ضَرَرٍ، فَأَعْلَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ اعْتِقَادٌ بَاطِلٌ، وَأَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ خَلْقَانِ مُسَخَّرَانِ لِلَّهِ لَيْسَ لَهُمَا سُلْطَانٌ فِي غَيْرِهِمَا وَلَا قُدْرَةٌ عَلَى الدَّفْعِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا.
وَفِيهِ مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ مِنَ الشَّفَقَةِ عَلَى أُمَّتِهِ وَشِدَّةِ الْخَوْفِ مِنْ رَبِّهِ، وَسَيَأْتِي لِذَلِكَ مَزِيدُ بَيَانٍ.
قَوْلُهُ: (فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا) فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ رَأَيْتُمُوهُمَا بِالتَّثْنِيَةِ، وَسَيَأْتِي الْقَوْلُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا شِهَابُ بْنُ عَبَّادٍ) هُوَ الْعَبْدِيُّ الْكُوفِيُّ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ، وَلَهُمْ شَيْخٌ آخَرُ يُقَالُ لَهُ شِهَابُ بْنُ عَبَّادٍ الْعَبْدِيُّ لَكِنَّهُ بَصْرِيٌّ وَهُوَ أَقْدَمُ مِنَ الْكُوفِيِّ يَكُونُ فِي طَبَقَةِ شُيُوخِ شُيُوخِهِ أَخْرَجَ لَهُ الْبُخَارِيُّ وَحْدَهُ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ حُمَيْدٍ شَيْخُهُ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الرُّؤَاسِيُّ بِضَمِّ الرَّاءِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ خَفِيفَةٌ، وَفِي طَبَقَتِهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الزُّهْرِيُّ وَلَمْ يُخَرِّجُوا لَهُ. وَإِسْمَاعِيلُ هُوَ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ، وَقَيْسٌ هُوَ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، وَهَذَا الْإِسْنَادُ كُلُّهُ كُوفِيُّونَ.
قَوْلُهُ: (آيَتَانِ) أَيْ عَلَامَتَانِ (مِنْ آيَاتِ اللَّهِ) أَيِ: الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ، أَوْ عَلَى تَخْوِيفِ الْعِبَادِ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وَسَطَوْتِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا} وَسَيَأْتِي قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِمَا عِبَادَهُ، فِي بَابٍ مُفْرَدٍ.
قَوْلُهُ: (فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا) أَيِ الْآيَةَ، ولِلكُشْمِيهَنِيِّ رَأَيْتُمُوهُمَا بِالتَّثْنِيَةِ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَالْمَعْنَى: إِذَا رَأَيْتُمْ كُسُوفَ كُلٍّ مِنْهُمَا لِاسْتِحَالَةِ وُقُوعِ ذَلِكَ فِيهِمَا مَعًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ عَادَةً وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا فِي الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الصَّلَاةِ فِي كُسُوفِ الْقَمَرِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُنْذِرِ: حَتَّى يَنْجَلِيَ كُسُوفُ أَيُّهُمَا انْكَسَفَ وَهُوَ أَصْرَحُ فِي الْمُرَادِ، وَأَفَادَ أَبُو عَوَانَةَ أَنَّ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي مُسْنَدِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنِ اتِّحَادِ الْقِصَّةِ.
قَوْلُهُ: (فَقُومُوا فَصَلُّوا) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا وَقْتَ لِصَلَاةِ الْكُسُوفِ مُعَيَّنٌ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عُلِّقَتْ بِرُؤْيَتِهِ، وَهِيَ مُمْكِنَةٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنَ النَّهَارِ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ أَوْقَاتَ الْكَرَاهَةِ وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَعَنِ الْمَالِكِيَّةِ وَقْتُهَا مِنْ وَقْتِ حِلِّ النَّافِلَةِ إِلَى الزَّوَالِ، وَفِي رِوَايَةٍ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَرُجِّحَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِيقَاعُ هَذِهِ الْعِبَادَةِ قَبْلَ الِانْجِلَاءِ. وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا لَا تُقْضَى بَعْدَ الِانْجِلَاءِ، فَلَوِ انْحَصَرَتْ فِي وَقْتٍ لَأَمْكَنَ الِانْجِلَاءُ قَبْلَهُ فَيَفُوتُ الْمَقْصُودُ، وَلَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ مَعَ كَثْرَتِهَا عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّاهَا الْأَضْحَى لَكِنَّ ذَلِكَ وَقَعَ اتِّفَاقًا وَلَا يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ مَا عَدَا، وَاتَّفَقَتِ الطُّرُقِ عَلَى أَنَّهُ بَادَرَ إِلَيْهَا.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي عَمْرٌو) هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ الْمِصْرِيُّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ هُوَ ابْنُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَنِصْفُ رِجَالِ هَذَا الْإِسْنَادِ الْأَعْلَى مَدَنِيُّونَ وَنِصْفُهُ الْأَدْنَى مِصْرِيُّونَ.
قَوْلُهُ: (لَا يَخْسِفَانِ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَيَجُوزُ الضَّمُّ، وَحَكَى ابْنُ الصَّلَاحِ مَنْعَهُ، وَرَوَى ابْنُ
خُزَيْمَةَ، وَالْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَافْزَعُوا إِلَى الصَّلَاةِ وَإِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَادْعُوا وَتَصَدَّقُوا.
قَوْلُهُ: (وَلَا لِحَيَاتِهِ) اسْتُشْكِلَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ لِأَنَّ السِّيَاقَ إِنَّمَا وَرَدَ فِي حَقِّ مَنْ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ وَلَمْ يَذْكُرُوا الْحَيَاةَ. وَالْجَوَابُ أَنَّ فَائِدَةَ ذِكْرِ الْحَيَاةِ دَفْعُ تَوَهُّمِ مَنْ يَقُولُ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ كَوْنِهِ سَبَبًا لِلْفَقْدِ أَنْ لَا يَكُونَ سَبَبًا لِلْإِيجَادِ، فَعَمَّمَ الشَّارِعُ النَّفْيَ لِدَفْعِ هَذَا التَّوَهُّمِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ) هُوَ الْمُسْنَدِيُّ، وَهَاشِمٌ هُوَ أَبُو النَّضْرِ، وَشَيْبَانُ هُوَ النَّحْوِيُّ.
قَوْلُهُ: (يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ) يَعْنِي ابْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ ذَكَرَ جُمْهُورُ أَهْلِ السِّيَرِ أَنَّهُ مَاتَ فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَقِيلَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَقِيلَ فِي رَمَضَانَ، وَقِيلَ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهَا وَقَعَتْ فِي عَاشِرِ الشَّهْرِ، وَقِيلَ فِي رَابِعَ عَشَرَةَ، وَلَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى قَوْلِ ذِي الْحِجَّةِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذْ ذَاكَ بِمَكَّةَ فِي الْحَجِّ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ شَهِدَ وَفَاتَهُ وَكَانَتْ بِالْمَدِينَةِ بِلَا خِلَافٍ، نَعَمْ قِيلَ إِنَّهُ مَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ فَإِنْ ثَبَتَ يَصِحُّ، وَجَزَمَ النَّوَوِيُّ بِأَنَّهَا كَانَتْ سَنَةَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَيُجَابُ بِأَنَّهُ كَانَ يَوْمَئِذٍ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَرَجَعَ مِنْهَا فِي آخِرِ الشَّهْرِ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى أَهْلِ الْهَيْئَةِ لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَذْكُورَةِ، وَقَدْ فَرَضَ الشَّافِعِيُّ وُقُوعَ الْعِيدِ وَالْكُسُوفِ مَعًا. وَاعْتَرَضَهُ بَعْضُ مَنِ اعْتَمَدَ عَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْهَيْئَةِ، وَانْتَدَبَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ لِدَفْعِ قَوْلِ الْمُعْتَرِضِ فَأَصَابُوا.
قَوْلُهُ: (فَإِذَا رَأَيْتُمْ) أَيْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ وَسَيَأْتِي مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بَعْدَ أَبْوَابٍ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا.
(تَنْبِيهٌ): ابْتَدَأَ الْبُخَارِيُّ أَبْوَابَ الْكُسُوفِ بِالْأَحَادِيثِ الْمُطْلَقَةِ فِي الصَّلَاةِ بِغَيْرِ تَقْيِيدٍ بِصِفَةِ إِشَارَةٍ مِنْهُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ يُعْطِي أَصْلَ الِامْتِثَالِ، وَإِنْ كَانَ إِيقَاعُهَا عَلَى الصِّفَةِ الْمَخْصُوصَةِ عِنْدَهُ أَفْضَلَ، وَبِهَذَا قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ. وَوَقَعَ لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ كالْبَنْدَنِيجِيِّ أَنَّ صَلَاتَهَا رَكْعَتَيْنِ كَالنَّافِلَةِ لَا يُجْزِئُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
2 - بَاب الصَّدَقَةِ فِي الْكُسُوفِ
1044 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: خَسَفَتْ الشَّمْسُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالنَّاسِ فَقَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ ثُمَّ قَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ ثُمَّ سَجَدَ فَأَطَالَ السُّجُودَ ثُمَّ فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ مَا فَعَلَ فِي الْأُولَى، ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ انْجَلَتْ الشَّمْسُ، فَخَطَبَ النَّاسَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا ينخسفان لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا اللَّهَ وَكَبِّرُوا وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا، ثُمَّ قَالَ: يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاللَّهِ مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلبَكَيْتُمْ كَثِيرًا.
[الحديث 1044 - أطرافه في: 6631. 5221. 4624. 3203. 1212. 1066. 1065. 1064. 1058. 1056. 1050. 1047. 1046]
قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّدَقَةِ فِي الْكُسُوفِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ مِنْ رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ ثُمَّ عَنْهَا، أَوْرَدَهُ بَعْدَ بَابٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، ثُمَّ بَعْدَ بَابَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ، وَعِنْدَ كُلٍّ مِنْهُمْ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْآخَرِ وَوَرَدَ الْأَمْرُ - فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي أَوْرَدَهَا فِي الْكُسُوفِ - بِالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ قُدِّمَ مِنْهَا الْأَهَمُّ فَالْأَهَمُّ. وَوَقَعَ الْأَمْرُ بِالصَّدَقَةِ فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ دُونَ غَيْرِهَا فَنَاسَبَ أَنْ يُتَرْجَمَ بِهَا، وَلِأَنَّ الصَّدَقَةَ تَالِيَةٌ لِلصَّلَاةِ
فَلِذَلِكَ جَعَلَهَا تِلْوَ تَرْجَمَةِ الصَّلَاةِ فِي الْكُسُوفِ.
قَوْلُهُ: (خَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ فَلِهَذَا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى الْوُضُوءِ فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ فِي السِّيَاقِ حَذْفًا سَيَأْتِي فِي رِوَايَةِ ابْنِ شِهَابٍ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ فَخَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَصَفَّ النَّاسُ وَرَاءَهُ وَفِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ فَخَسَفَتْ فَرَجَعَ ضُحًى فَمَرَّ بَيْنَ الْحَجَرِ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي وَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْأَفْعَالُ جَازَ أَنْ يَكُونَ حُذِفَ أَيْضًا فَتَوَضَّأَ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي فَلَا يَكُونُ نَصًّا فِي أَنَّهُ كَانَ عَلَى وُضُوءٍ.
قَوْلُهُ: (فَأَطَالَ الْقِيَامَ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ شِهَابٍ فَاقْتَرَأَ قِرَاءَةً طَوِيلَةً وَفِي أَوَاخِرِ الصَّلَاةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ فَقَرَأَ بِسُورَةٍ طَوِيلَةٍ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ فَقَرَأَ نَحْوًا مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَنَحْوُهُ لِأَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عُرْوَةَ وَزَادَ فِيهِ أَنَّهُ قَرَأَ فِي الْقِيَامِ الْأَوَّلِ مِنَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ نَحْوًا مِنْ آلِ عِمْرَانَ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ شِهَابٍ ثُمَّ قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. وَزَادَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ فِي أَوَاخِرِ الْكُسُوفِ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى اسْتِحْبَابِ الذِّكْرِ الْمَشْرُوعِ فِي الِاعْتِدَالِ فِي أَوَّلِ الْقِيَامِ الثَّانِي مِنَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَاسْتَشْكَلَهُ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الشَّافِعِيَّةِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ قِيَامَ قِرَاءَةٍ لَا قِيَامَ اعْتِدَالٍ بِدَلِيلِ اتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ مِمَّنْ قَالَ بِزِيَادَةِ الرُّكُوعِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ عَلَى قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْمَالِكِيُّ خَالَفَ فِيهِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ صَلَاةَ الْكُسُوفِ جَاءَتْ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ فَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِيهَا، بَلْ كُلُّ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم فِعْلُهُ فِيهَا كَانَ مَشْرُوعًا لِأَنَّهَا أَصْلٌ بِرَأْسِهِ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى رَدَّ الْجُمْهُورُ عَلَى مَنْ قَاسَهَا عَلَى صَلَاةِ النَّافِلَةِ حَتَّى مَنَعَ مِنْ زِيَادَةِ الرُّكُوعِ فِيهَا. وَقَدْ أَشَارَ الطَّحَاوِيُّ إِلَى أَنَّ قَوْلَ أَصْحَابِهِ جَرَى عَلَى الْقِيَاسِ فِي صَلَاةِ النَّوَافِلِ، لَكِنِ اعْتُرِضَ بِأَنَّ الْقِيَاسَ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ يَضْمَحِلُّ، وَبِأَنَّ صَلَاةَ الْكُسُوفِ أَشْبَهُ بِصَلَاةِ الْعِيدِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يُجْمَعُ فِيهِ مِنْ مُطْلَقِ النَّوَافِلِ، فَامْتَازَتْ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ بِتَرْكِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَصَلَاةُ الْعِيدَيْنِ بِزِيَادَةِ التَّكْبِيرَاتِ، وَصَلَاةُ الْخَوْفِ بِزِيَادَةِ الْأَفْعَالِ الْكَثِيرَةِ وَاسْتِدْبَارِ الْقِبْلَةِ، فَكَذَلِكَ اخْتُصَّتْ صَلَاةُ الْكُسُوفِ بِزِيَادَةِ الرُّكُوعِ، فَالْأَخْذُ بِهِ جَامِعٌ بَيْنَ الْعَمَلِ بِالنَّصِّ وَالْقِيَاسِ بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ.
قَوْلُهُ: (فَأَطَالَ الرُّكُوعَ) لَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ بَيَانَ مَا قَالَ فِيهِ، إِلَّا أَنَّ الْعُلَمَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا قِرَاءَةَ فِيهِ، وَإِنَّمَا فِيهِ الذِّكْرُ مِنْ تَسْبِيحٍ وَتَكْبِيرٍ وَنَحْوِهِمَا، وَلَمْ يَقَعْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ ذِكْرُ تَطْوِيلِ الِاعْتِدَالِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ السُّجُودُ بَعْدَهُ، وَلَا تَطْوِيلِ الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي بَابِ طُولِ السُّجُودِ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ مَا فَعَلَهُ فِي الْأُولَى) وَقَعَ ذَلِكَ مُفَسَّرًا فِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ الْآتِيَةِ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ انْصَرَفَ) أَيْ مِنَ الصَّلَاةِ (وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ شِهَابٍ انْجَلَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفَ وَلِلنَّسَائِيِّ ثُمَّ تَشَهَّدَ وَسَلَّمَ.
قَوْلُهُ: (فَخَطَبَ النَّاسَ) فِيهِ مَشْرُوعِيَّةِ الْخُطْبَةِ لِلْكُسُوفِ، وَالْعَجَبُ أَنَّ مَالِكًا رَوَى حَدِيثَ هِشَامٍ هَذَا وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِالْخُطْبَةِ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَصْحَابُهُ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ بَعْدَ بَابٍ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الِانْجِلَاءَ لَا يُسْقِطُ الْخُطْبَةَ، بِخِلَافِ مَا لَوِ انْجَلَتْ قَبْلَ أَنْ يَشْرَعَ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يُسْقِطُ الصَّلَاةَ وَالْخُطْبَةَ، فَلَوِ انْجَلَتْ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ أَتَمَّهَا عَلَى الْهَيْئَةِ الْمَذْكُورَةِ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِهَا، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ دَلِيلِهِ، وَعَنْ أَصْبَغَ: يُتِمُّهَا عَلَى هَيْئَةِ النَّوَافِلِ الْمُعْتَادَةِ.
قَوْلُهُ: (فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ) زَادَ النَّسَائِيُّ فِي حَدِيثِ سَمُرَةَ وَشَهِدَ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ.
قَوْلُهُ: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَادْعُوا اللَّهَ.
قَوْلُهُ: (وَاللَّهِ مَا مِنْ أَحَدٍ) فِيهِ الْقَسَمُ لِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ، وَإِنْ كَانَ السَّامِعُ غَيْرَ شَاكٍّ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرَ) بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ الْخَبَرُ وَعَلَى أَنَّ مِنْ زَائِدَةٌ، وَيَجُوزُ فِيهِ الرَّفْعُ عَلَى لُغَةِ تَمِيمٍ، أَوْ أَغْيَرَ مَخْفُوضٌ صِفَةٌ لِأَحَدٍ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفُ تَقْدِيرُهُ مَوْجُودٌ.
قَوْلُهُ: (أَغْيَرَ) أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ مِنَ الْغَيْرَةِ بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ تَغَيُّرٌ
يَحْصُلُ مِنَ الْحَمِيَّةِ وَالْأَنَفَةِ، وَأَصْلُهَا فِي الزَّوْجَيْنِ وَالْأَهْلَيْنِ وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى
(1)
لِأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ تَغَيُّرٍ وَنَقْصٍ فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَجَازِ، فَقِيلَ: لَمَّا كَانَتْ ثَمَرَةُ الْغَيْرَةِ صَوْنَ الْحَرِيمِ وَمَنْعَهُمْ وَزَجْرَ مَنْ يَقْصِدُ إِلَيْهِمْ، أُطْلِقَ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مَنَعَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَزَجَرَ فَاعِلَهُ وَتَوَعَّدَهُ، فَهُوَ مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ فَوْرِكَ: الْمَعْنَى مَا أَحَدٌ أَكْثَرَ زَجْرًا عَنِ الْفَوَاحِشِ مِنَ اللَّهِ. وَقَالَ: غَيْرَةُ اللَّهِ مَا يَغِيرُ مِنْ حَالِ الْعَاصِي بِانْتِقَامِهِ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَوْ فِي إِحْدَاهُمَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: أَهْلُ التَّنْزِيهِ فِي مِثْلِ هَذَا عَلَى قَوْلَيْنِ، إِمَّا سَاكِتٌ، وَإِمَّا مُؤَوِّلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْغَيْرَةِ شِدَّةُ الْمَنْعِ وَالْحِمَايَةِ، فَهُوَ مِنْ مَجَازِ الْمُلَازَمَةِ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ وَغَيْرُهُ: وَجْهُ اتِّصَالِ هَذَا الْمَعْنَى بِمَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ فَاذْكُرُوا اللَّهَ إِلَخْ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ لَمَّا أُمِرُوا بِاسْتِدْفَاعِ الْبَلَاءِ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ نَاسَبَ رَدْعَهُمْ عَنِ الْمَعَاصِي الَّتِي هِيَ مِنْ أَسْبَابِ جَلْبِ الْبَلَاءِ، وَخَصَّ مِنْهَا الزِّنَا لِأَنَّهُ أَعْظَمُهَا فِي ذَلِكَ. وَقِيلَ: لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْمَعْصِيَةُ مِنْ أَقْبَحِ الْمَعَاصِي وَأَشَدِّهَا تَأْثِيرًا فِي إِثَارَةِ النُّفُوسِ وَغَلَبَةِ الْغَضَبِ نَاسَبَ ذَلِكَ تَخْوِيفَهُمْ فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ مُؤَاخَذَةِ رَبِّ الْغَيْرَةِ وَخَالِقِهَا سبحانه وتعالى. وَقَوْلُهُ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ فِيهِ مَعْنَى الْإِشْفَاقِ كَمَا يُخَاطِبُ الْوَالِدُ وَلَدَهُ إِذَا أَشْفَقَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ يَا بُنَيَّ كَذَا قِيلَ، وَكَانَ قَضِيَّةَ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ يَا أُمَّتِي لَكِنْ لِعُدُولِهِ عَنِ الْمُضْمَرِ إِلَى الْمُظْهَرِ حِكْمَةٌ، وَكَأَنَّهَا بِسَبَبِ كَوْنِ الْمَقَامِ مَقَامَ تَحْذِيرٍ وَتَخْوِيفٍ لِمَا فِي الْإِضَافَةِ إِلَى الضَّمِيرِ مِنَ الْإِشْعَارِ بِالتَّكْرِيمِ، وَمِثْلُهُ: يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، الْحَدِيثَ. وَصَدَّرَ صلى الله عليه وسلم كَلَامُهُ بِالْيَمِينِ لِإِرَادَةِ التَّأْكِيدِ لِلْخَبَرِ وَإِنْ كَانَ لَا يُرْتَابُ فِي صِدْقِهِ، وَلَعَلَّ تَخْصِيصَ الْعِيدِ وَالْأُمَّةِ بِالذِّكْرِ رِعَايَةٌ لِحُسْنِ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى لِتَنَزُّهِهِ عَنِ الزَّوْجَةِ وَالْأَهْلِ مِمَّنْ يَتَعَلَّقُ بِهِمُ الْغَيْرَةُ غَالِبًا. وَيُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْوَاعِظَ يَنْبَغِي لَهُ حَالَ وَعْظِهِ أَنْ لَا يَأْتِيَ بِكَلَامٍ فِيهِ تَفْخِيمٌ لِنَفْسِهِ، بَلْ يُبَالِغَ فِي التَّوَاضُعِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى انْتِفَاعِ مَنْ يَسْمَعُهُ.
قَوْلُهُ: (لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ) أَيْ مِنْ عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَانْتِقَامِهِ مِنْ أَهْلِ الْإِجْرَامِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ لَوْ دَامَ عِلْمُكُمْ كَمَا دَامَ عِلْمِي؛ لِأَنَّ عِلْمَهُ مُتَوَاصِلٌ بِخِلَافِ غَيْرِهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَوْ عَلِمْتُمْ مِنْ سَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ وَحِلْمِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا أَعْلَمُ لَبَكَيْتُمْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ مِنْ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا) قِيلَ مَعْنَى الْقِلَّةِ هُنَا الْعَدَمُ، وَالتَّقْدِيرُ لَتَرَكْتُمُ الضَّحِكَ وَلَمْ يَقَعْ مِنْكُمُ إلَّا نَادِرًا لِغَلَبَةِ الْخَوْفِ وَاسْتِيلَاءِ الْحُزْنِ. وَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الْمُهَلَّبِ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَنْصَارُ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهْوِ وَالْغِنَاءِ. وَأَطَالَ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ بِمَا لَا طَائِلَ فِيهِ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. وَمِنْ أَيْنَ لَهُ أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِذَلِكَ الْأَنْصَارُ دُونَ غَيْرِهِمْ؟ وَالْقِصَّةُ كَانَتْ فِي أَوَاخِرِ زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ امْتَلَأَتِ الْمَدِينَةُ بِأَهْلِ مَكَّةَ وَوُفُودِ الْعَرَبِ وَقَدْ بَالَغَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ وَالتَّشْنِيعِ بِمَا يُسْتَغْنَى عَنْ حِكَايَتِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ تَرْجِيحُ التَّخْوِيفِ فِي الْخُطْبَةِ عَلَى التَّوَسُّعِ فِي التَّرْخِيصِ لِمَا فِي ذِكْرِ الرُّخَصِ مِنْ مُلَاءَمَةِ النُّفُوسِ لِمَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الشَّهْوَةِ، وَالطَّبِيبُ الْحَاذِقُ يُقَابِلُ الْعِلَّةَ بِمَا يُضَادُّهَا لَا بِمَا يَزِيدُهَا. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ لِصَلَاةِ الْكُسُوفِ هَيْئَةً تَخُصُّهَا مِنَ التَّطْوِيلِ الزَّائِدِ عَلَى الْعَادَةِ فِي الْقِيَامِ وَغَيْرِهِ، وَمِنْ زِيَادَةِ رُكُوعٍ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ.
وَقَدْ وَافَقَ عَائِشَةَ عَلَى رِوَايَةِ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا، وَمِثْلُهُ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ، وَعَنْ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَعَنْ عَلِيٍّ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ الْبَزَّارِ، وَعَنْ أُمِّ
(1)
المحال عليه سبحانه وتعالى وصفه بالغيرة المشابة لغيرة المخلوق، وأما الغيرة اللائقة بجلاله سبحانه وتعالى فلا يستحيل وصفه بها كما دل عليه هذا الحديث وما جاء في معناه، فهو سبحانه يوصف بالغيرة عند أهل السنة على وجه لايماثل فيه صفة المخلوقين، ولا يعلم كمها وكيفيتها إلا هو سبحانه، كالقول في الإستواء والنزول والرضا والغضب وغير ذلك من صفاته سبحانه. والله أعلم
سُفْيَانَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَفِي رِوَايَاتِهِمْ زِيَادَةٌ رَوَاهَا الْحُفَّاظُ الثِّقَاتُ فَالْأَخْذُ بِهَا أَوْلَى مِنْ إِلْغَائِهَا، وَبِذَلِكَ قَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ الْفُتْيَا، وَقَدْ وَرَدَتِ الزِّيَادَةُ فِي ذَلِكَ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى، فَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ، وَآخَرَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ ثَلَاثَ رُكُوعَاتٍ، وَعِنْدَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ أَرْبَعَ رُكُوعَاتٍ، وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَالْبَزَّارِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ أَنَّ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ خَمْسَ رُكُوعَاتٍ، وَلَا يَخْلُو إِسْنَادٌ مِنْهَا عَنْ عِلَّةٍ، وَقَدْ أَوْضَحَ ذَلِكَ الْبَيْهَقِيُّ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَنَقَلَ صَاحِبُ الْهُدَى عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَالْبُخَارِيِّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُّونَ الزِّيَادَةَ عَلَى الرُّكُوعَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ غَلَطًا مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ طُرُقِ الْحَدِيثِ يُمْكِنُ رَدُّ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، وَيَجْمَعُهَا أَنَّ ذَلِكَ يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام وَإِذَا اتَّحَدَتْ تَعَيَّنَ الْأَخْذُ بِالرَّاجِحِ، وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بِتَعَدُّدِ الْوَاقِعَةِ، وَأَنَّ الْكُسُوفَ وَقَعَ مِرَارًا، فَيَكُونُ كُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ جَائِزًا، وَإِلَى ذَلِكَ نَحَا إِسْحَاقُ لَكِنْ لَمْ تَثْبُتْ عِنْدَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى أَرْبَعِ رُكُوعَاتٍ.
وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: يَجُوزُ الْعَمَلُ بِجَمِيعِ مَا ثَبَتَ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ مِنَ الِاخْتِلَافِ الْمُبَاحِ، وَقَوَّاهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَأَبْدَى بَعْضُهُمْ أَنَّ حِكْمَةَ الزِّيَادَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالنَّقْصِ كَانَ بِحَسَبِ سُرْعَةِ الِانْجِلَاءِ وَبُطْئِهِ، فَحِينَ وَقَعَ الِانْجِلَاءُ فِي أَوَّلِ رُكُوعٍ اقْتَصَرَ عَلَى مِثْلِ النَّافِلَةِ، وَحِينَ أَبْطَأَ زَادَ رُكُوعًا، وَحِينَ زَادَ فِي الْإِبْطَاءِ زَادَ ثَالِثًا، وَهَكَذَا إِلَى غَايَةِ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ. وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ إِبْطَاءَ الِانْجِلَاءِ وَعَدَمَهُ لَا يُعْلَمُ فِي أَوَّلِ الْحَالِ وَلَا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَقَدِ اتَّفَقَتِ الرِّوَايَاتُ عَلَى أَنَّ عَدَدَ الرُّكُوعِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ سَوَاءٌ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَقْصُودٌ فِي نَفْسِهِ مَنْوِيٌّ مِنْ أَوَّلِ الْحَالِ. وَأُجِيبَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الِاعْتِمَادُ عَلَى الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَهِيَ تَبَعٌ لَهَا فَمَهْمَا اتَّفَقَ وُقُوعُهُ فِي الْأُولَى بِسَبَبِ بُطْءِ الِانْجِلَاءِ يَقَعُ مِثْلُهُ فِي الثَّانِيَةِ لِيُسَاوِيَ بَيْنَهُمَا، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ أَصْبَغُ كَمَا تَقَدَّمَ: إِذَا وَقَعَ الِانْجِلَاءُ فِي أَثْنَائِهَا يُصَلِّي الثَّانِيَةَ كَالْعَادَةِ. وَعَلَى هَذَا فَيَدْخُلُ الْمُصَلِّي فِيهَا عَلَى نِيَّةِ مُطْلَقِ الصَّلَاةِ، وَيَزِيدُ فِي الرُّكُوعِ بِحَسَبِ الْكُسُوفِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ. وَأَجَابَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ زِيَادَةِ الرُّكُوعِ بِحَمْلِهِ عَلَى رَفْعِ الرَّأْسِ لِرُؤْيَةِ الشَّمْسِ هَلِ انْجَلَتْ أَمْ لَا؟ فَإِذَا لَمْ يَرَهَا انْجَلَتْ رَجَعَ إِلَى رُكُوعِهِ فَفَعَلَ ذَلِكَ مَرَّةً أَوْ مِرَارًا فَظَنَّ بَعْضَ مَنْ رَآهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ رُكُوعًا زَائِدًا.
وَتُعُقِّبَ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ فِي أَنَّهُ أَطَالَ الْقِيَامَ بَيْنَ الرُّكُوعَيْنِ وَلَوْ كَانَ الرَّفْعُ لِرُؤْيَةِ الشَّمْسِ فَقَطْ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَطْوِيلٍ، وَلَا سِيَّمَا الْأَخْبَارُ الصَّرِيحَةُ بِأَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ الِاعْتِدَالَ ثُمَّ شَرَعَ فِي الْقِرَاءَةِ فَكُلُّ ذَلِكَ يَرُدُّ هَذَا الْحَمْلَ، وَلَوْ كَانَ كَمَا زَعَمَ هَذَا الْقَائِلُ لَكَانَ فِيهِ إِخْرَاجٌ لِفِعْلِ الرَّسُولِ عَنِ الْعِبَادَةِ الْمَشْرُوعَةِ أَوْ لَزِمَ مِنْهُ إِثْبَاتُ هَيْئَةٍ فِي الصَّلَاةِ لَا عَهْدَ بِهَا وَهُوَ مَا فَرَّ مِنْهُ. وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ الْمُبَادَرَةُ بِالصَّلَاةِ وَسَائِرُ مَا ذُكِرَ عِنْدَ الْكُسُوفِ، وَالزَّجْرُ عَنْ كَثْرَةِ الضَّحِكِ، وَالْحَثُّ عَلَى كَثْرَةِ الْبُكَاءِ، وَالتَّحَقُّقُ بِمَا سَيَصِيرُ إِلَيْهِ الْمَرْءُ مِنَ الْمَوْتِ وَالْفَنَاءِ وَالِاعْتِبَارِ بِآيَاتِ اللَّهِ. وَفِيهِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ لِلْكَوَاكِبِ تَأْثِيرًا فِي الْأَرْضِ لِانْتِفَاءِ ذَلِكَ عَنِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فَكَيْفَ بِمَا دُونَهُمَا. وَفِيهِ تَقْدِيمُ الْإِمَامِ فِي الْمَوْقِفِ، وَتَعْدِيلُ الصُّفُوفِ، وَالتَّكْبِيرُ بَعْدَ الْوُقُوفِ فِي مَوْضِعِ الصَّلَاةِ، وَبَيَانُ مَا يُخْشَى اعْتِقَادُهُ عَلَى غَيْرِ الصَّوَابِ، وَاهْتِمَامُ الصَّحَابَةِ بِنَقْلِ أَفْعَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِيُقْتَدَى بِهِ فِيهَا. وَمِنْ حِكْمَةِ وُقُوعِ الْكُسُوفِ تَبْيِينُ أُنْمُوذَجِ مَا سَيَقَعُ فِي الْقِيَامَةِ، وَصُورَةُ عِقَابِ مَنْ لَمْ يُذْنِبْ، وَالتَّنْبِيهُ عَلَى سُلُوكِ طَرِيقِ الْخَوْفِ مَعَ الرَّجَاءِ لِوُقُوعِ الْكُسُوفِ بِالْكَوْكَبِ ثُمَّ كَشْفُ ذَلِكَ عَنْهُ لِيَكُونَ الْمُؤْمِنُ مِنْ رَبِّهِ عَلَى خَوْفٍ وَرَجَاءٍ.
وَفِي الْكُسُوفِ إِشَارَةٌ إِلَى تَقْبِيحِ رَأْيِ مَنْ يَعْبُدُ الشَّمْسَ أَوِ الْقَمَرَ، وَحَمَلَ بَعْضُهُمُ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} عَلَى صَلَاةِ الْكُسُوفِ، لِأَنَّهُ الْوَقْتُ الَّذِي يُنَاسِبُ الْإِعْرَاضَ عَنْ عِبَادَتِهِمَا لِمَا
يَظْهَرُ فِيهِمَا مِنَ التَّغْيِيرِ وَالنَّقْصِ الْمُنَزَّهِ عَنْهُ الْمَعْبُودُ جَلَّ وَعَلَا سبحانه وتعالى.
3 - بَاب النِّدَاءِ بِالصَّلَاةُ جَامِعَةٌ فِي الْكُسُوفِ
1045 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامِ بْنِ أَبِي سَلَّامٍ الْحَبَشِيُّ الدِّمَشْقِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، قَالَ: لَمَّا كَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نُودِيَ: إِنَّ الصَّلَاةَ جَامِعَةٌ.
قَوْلُهُ: (بَابُ النِّدَاءِ بِالصَّلَاةِ جَامِعَةٌ) هُوَ بِالنَّصْبِ فِيهِمَا عَلَى الْحِكَايَةِ، وَنَصْبُ الصَّلَاةِ فِي الْأَصْلِ عَلَى الْإِغْرَاءِ، وَجَامِعَةٌ عَلَى الْحَالِ، أَيِ: احْضُرُوا الصَّلَاةَ فِي حَالِ كَوْنِهَا جَامِعَةً. وَقِيلَ بِرَفْعِهِمَا عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ مُبْتَدَأٌ وَجَامِعَةٌ خَبَرُهُ وَمَعْنَاهُ ذَاتُ جَمَاعَةٍ، وَقِيلَ: جَامِعَةٌ صِفَةٌ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ فَاحْضُرُوهَا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ) هُوَ ابْنُ مَنْصُورٍ عَلَى رَأْيِ الْجَيَّانِيِّ أَوِ ابْنُ رَاهْوَيْهِ عَلَى رَأْيِ أَبِي نُعَيْمٍ، وَيَحْيَى ابْنُ صَالِحٍ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ وَرُبَّمَا أَخْرَجَ عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ كَهَذَا.
قَوْلُهُ: (الْحَبَشِيُّ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ، وَوَهِمَ مَنْ ضَبَطَهُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) فِي رِوَايَةِ حَجَّاجٍ الصَّوَافِ، عَنْ يَحْيَى حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ.
قَوْلُهُ: (نُودِيَ) كَذَا فِيهِ بِلَفْظِ الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَصَرَّحَ الشَّيْخَانِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُنَادِيًا فَنَادَى بِذَلِكَ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: هَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ لِمَنِ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُؤَذَّنُ لَهَا وَلَا يُقَامُ.
قَوْلُهُ: (أَنَّ الصَّلَاةَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ وَهِيَ الْمُفَسِّرَةُ، وَرُوِيَ بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ أَنَّ الصَّلَاةَ ذَاتُ جَمَاعَةٍ حَاضِرَةٍ وَيُرْوَى بِرَفْعِ جَامِعَةٍ عَلَى أَنَّهُ الْخَبَرُ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ نُودِيَ بِالصَّلَاةِ جَامِعَةٌ وَفِيهِ مَا تَقَدَّمَ فِي لَفْظِ التَّرْجَمَةِ. وَعَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ يَجُوزُ فِي الصَّلَاةِ جَامِعَةٌ النَّصْبُ فِيهِمَا، وَالرَّفْعُ فِيهِمَا، وَيَجُوزُ رَفْعُ الْأَوَّلِ وَنَصْبُ الثَّانِي، وَبِالْعَكْسِ.
4 - بَاب خُطْبَةِ الْإِمَامِ فِي الْكُسُوفِ
وَقَالَتْ عَائِشَةُ، وَأَسْمَاءُ خَطَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
1046 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، ح. وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَ يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي عُرْوَةُ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: خَسَفَتْ الشَّمْسُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَخَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَصَفَّ النَّاسُ وَرَاءَهُ فَكَبَّرَ فَاقْتَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قِرَاءَةً طَوِيلَةً ثُمَّ كَبَّرَ فَرَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا ثُمَّ قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقَامَ وَلَمْ يَسْجُدْ وَقَرَأَ قِرَاءَةً طَوِيلَةً هِيَ أَدْنَى مِنْ الْقِرَاءَةِ الْأُولَى ثُمَّ كَبَّرَ وَرَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ أَدْنَى مِنْ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ ثُمَّ قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ قَالَ فِي الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ مِثْلَ ذَلِكَ فَاسْتَكْمَلَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي أَرْبَعِ سَجَدَاتٍ وَانْجَلَتْ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفَ، ثُمَّ قَامَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: هُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَافْزَعُوا إِلَى الصَّلَاةِ وَكَانَ يُحَدِّثُ كَثِيرُ بْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ
رضي الله عنهما كَانَ يُحَدِّثُ يَوْمَ خَسَفَتْ الشَّمْسُ بِمِثْلِ حَدِيثِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ فَقُلْتُ لِعُرْوَةَ: إِنَّ أَخَاكَ يَوْمَ خَسَفَتْ بِالْمَدِينَةِ لَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ مِثْلَ الصُّبْحِ. قَالَ: أَجَلْ لِأَنَّهُ أَخْطَأَ السُّنَّةَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ خُطْبَةِ الْإِمَامِ فِي الْكُسُوفِ) اخْتُلِفَ فِي الْخُطْبَةِ فِيهِ، فَاسْتَحَبَّهَا الشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أَحْمَدَ ذَلِكَ. وَقَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لَيْسَ فِي الْكُسُوفِ خُطْبَةٌ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْأَحَادِيثَ ثَبَتَتْ فِيهِ وَهِيَ ذَاتُ كَثْرَةٍ. وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنْ لَا خُطْبَةَ لَهَا، مَعَ أَنَّ مَالِكًا رَوَى الْحَدِيثَ، وَفِيهِ ذِكْرُ الْخُطْبَةِ. وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقْصِدْ لَهَا خُطْبَةً بِخُصُوصِهَا، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمُ الرَّدَّ عَلَى مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْكُسُوفَ لِمَوْتِ بَعْضِ النَّاسِ. وَتُعُقِّبَ بِمَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنَ التَّصْرِيحِ بِالْخُطْبَةِ وَحِكَايَةِ شَرَائِطِهَا مِنَ الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ وَالْمَوْعِظَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَضَمَّنَتْهُ الْأَحَادِيثُ، فَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الْإِعْلَامِ بِسَبَبِ الْكُسُوفِ، وَالْأَصْلُ مَشْرُوعِيَّةُ الِاتِّبَاعِ، وَالْخَصَائِصُ لَا تَثْبُتُ إِلَّا بِدَلِيلٍ. وَقَدِ اسْتَضْعَفَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ التَّأْوِيلَ الْمَذْكُورَ وَقَالَ: إِنَّ الْخُطْبَةَ لَا تَنْحَصِرُ مَقَاصِدُهَا فِي شَيْءٍ مُعَيَّنٍ، بَعْدَ الْإِتْيَانِ بِمَا هُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْهَا مِنَ الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ وَالْمَوْعِظَةِ، وَجَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِنْ سَبَبِ الْكُسُوفِ وَغَيْرِهِ هُوَ مِنْ مَقَاصِدِ خُطْبَةِ الْكُسُوفِ، فَيَنْبَغِي التَّأَسِّي بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيَذْكُرُ الْإِمَامُ ذَلِكَ فِي خُطْبَةِ الْكُسُوفِ.
نَعَمْ نَازَعَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي كَوْنِ خُطْبَةِ الْكُسُوفِ كَخُطْبَتَيِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ، إِذْ لَيْسَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَإِلَى ذَلِكَ نَحَا ابْنُ الْمُنِيرِ فِي حَاشِيَتِهِ وَرَدَّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ أَصْلَ الْخُطْبَةِ لِثُبُوتِ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي الْأَحَادِيثِ وَذَكَرَ أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِهِمُ احْتَجَّ عَلَى تَرْكِ الْخُطْبَةِ بِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ صَعِدَ الْمِنْبَرَ، ثُمَّ زَيَّفَهُ بِأَنَّ الْمِنْبَرَ لَيْسَ شَرْطًا، ثُمَّ لَا يَلْزَمُ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَتْ عَائِشَةُ وَأَسْمَاءُ: خَطَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَقَدْ مَضَى قَبْلُ بِبَابٍ فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ صَرِيحًا، وَأَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثَهَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ وَلَيْسَ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِالْخُطْبَةِ، لَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الْحَدِيثَ وَاحِدٌ، وَأَنَّ الثَّنَاءَ الْمَذْكُورَ فِي طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ كَانَ فِي الْخُطْبَةِ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَسْمَاءَ - وَهِيَ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ أُخْتُ عَائِشَةَ لِأَبِيهَا - فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ بَعْدَ أَحَدَ عَشَرَ بَابًا.
قَوْلُهُ: (فَصَفَّ النَّاسُ) بِالرَّفْعِ أَيِ اصْطَفُّوا، يُقَالُ: صَفَّ الْقَوْمُ إِذَا صَارُوا صَفًّا، وَيَجُوزُ النَّصْبُ وَالْفَاعِلُ مَحْذُوفٌ وَالْمُرَادُ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَالَ فِي الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ مِثْلَ ذَلِكَ) فِيهِ إِطْلَاقُ الْقَوْلِ عَلَى الْفِعْلِ، فَقَدْ ذَكَرَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ بِلَفْظِ ثُمَّ فَعَلَ.
قَوْلُهُ: (فَافْزَعُوا) بِفَتْحِ الزَّايِ أَيِ الْتَجِئُوا وَتَوَجَّهُوا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْمُبَادَرَةِ إِلَى الْمَأْمُورِ بِهِ، وَأَنَّ الِالْتِجَاءَ إِلَى اللَّهِ عِنْدَ الْمَخَاوِفِ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ سَبَبٌ لِمَحْوِ مَا فُرِّطَ مِنَ الْعِصْيَانِ يُرْجَى بِهِ زَوَالُ الْمَخَاوِفِ وَأَنَّ الذُّنُوبَ سَبَبٌ لِلْبَلَايَا وَالْعُقُوبَاتِ الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ، نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى رَحْمَتَهُ وَعَفْوَهُ وَغُفْرَانَهُ.
قَوْلُهُ: (إِلَى الصَّلَاةِ) أَيِ الْمَعْهُودَةِ الْخَاصَّةِ، وَهِيَ الَّتِي تَقَدَّمَ فِعْلُهَا مِنْهُ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ الْخُطْبَةِ. وَلَمْ يُصِبْ مَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى مُطْلَقِ الصَّلَاةِ. وَيُسْتَنْبَطُ مِنْهُ أَنَّ الْجَمَاعَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّتِهَا لِأَنَّ فِيهِ إِشْعَارًا بِالْمُبَادَرَةِ إِلَى الصَّلَاةِ وَالْمُسَارَعَةِ إِلَيْهَا، وَانْتِظَارُ الْجَمَاعَةِ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى فَوَاتِهَا وَإِلَى إِخْلَاءِ بَعْضِ الْوَقْتِ مِنَ الصَّلَاةِ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ يُحَدِّثُ كَثِيرُ بْنُ عَبَّاسٍ) هُوَ بِتَقْدِيمِ الْخَبَرِ عَلَى الِاسْمِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ وَأَخْبَرَنِي كَثِيرُ بْنُ الْعَبَّاسِ وَصَرَّحَ بِرَفْعِهِ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَمِرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ كَذَلِكَ وَسَاقَ الْمَتْنَ بِلَفْظِ صَلَّى يَوْمَ كَسَفَتِ الشَّمْسُ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي رَكْعَتَيْنِ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ وَطَوَّلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ لِعُرْوَةَ) هُوَ مَقُولُ الزُّهْرِيِّ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (أَنَّ أَخَاكَ) يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَصَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ كَمَا سَيَأْتِي فِي أَوَاخِرِ
الْكُسُوفِ، وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ فَقُلْتُ لِعُرْوَةَ وَاللَّهِ مَا فَعَلَ ذَاكَ أَخُوكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، انْخَسَفَتِ الشَّمْسُ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ زَمَنَ أَرَادَ أَنْ يَسِيرَ إِلَى الشَّامِ فَمَا صَلَّى إِلَّا مِثْلَ الصُّبْحِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ أَجَلْ لِأَنَّهُ أَخْطَأَ السُّنَّةَ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ فَقَالَ أَجَلْ، كَذَلِكَ صَنَعَ وَأَخْطَأَ السُّنَّةَ وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ الْكُسُوفِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعَانِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ عُرْوَةَ تَابِعِيٌّ وَعَبْدَ اللَّهِ صَحَابِيٌّ فَالْأَخْذُ بِفِعْلِهِ أَوْلَى، وَأُجِيبَ بِأَنَّ قَوْلَ عُرْوَةَ وَهُوَ تَابِعِيٌّ السُّنَّةُ كَذَا وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ مُرْسَلٌ عَلَى الصَّحِيحِ لَكِنْ قَدْ ذَكَرَ عُرْوَةُ مُسْتَنَدَهُ فِي ذَلِكَ وَهُوَ خَبَرُ عَائِشَةَ الْمَرْفُوعُ، فَانْتَفَى عَنْهُ احْتِمَالُ كَوْنِهِ مَوْقُوفًا أَوْ مُنْقَطِعًا، فَيُرَجَّحُ الْمَرْفُوعُ عَلَى الْمَوْقُوفِ، فَلِذَلِكَ حُكِمَ عَلَى صَنِيعِ أَخِيهِ بِالْخَطَأِ، وَهُوَ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ وَإِلَّا فَمَا صَنَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ يَتَأَدَّى بِهِ أَصْلُ السُّنَّةِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَقْصِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَمَالِ السُّنَّةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَبْدُ اللَّهِ أَخْطَأَ السُّنَّةَ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِأَنَّهَا لَمْ تَبْلُغْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
5 - بَاب هَلْ يَقُولُ كَسَفَتْ الشَّمْسُ أَوْ خَسَفَتْ
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَخَسَفَ الْقَمَرُ}
1047 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى يَوْمَ خَسَفَتْ الشَّمْسُ فَقَامَ فَكَبَّرَ فَقَرَأَ قِرَاءَةً طَوِيلَةً ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، وَقَامَ كَمَا هُوَ ثُمَّ قَرَأَ قِرَاءَةً طَوِيلَةً وَهِيَ أَدْنَى مِنْ الْقِرَاءَةِ الْأُولَى ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهِيَ أَدْنَى مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى ثُمَّ سَجَدَ سُجُودًا طَوِيلًا ثُمَّ فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ سَلَّمَ وَقَدْ تَجَلَّتْ الشَّمْسُ، فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ: إِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَافْزَعُوا إِلَى الصَّلَاةِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ هَلْ يَقُولُ كَسَفَتِ الشَّمْسُ أَوْ خَسَفَتْ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: أَتَى بِلَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ إِشْعَارًا مِنْهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَتَرَجَّحْ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ. قُلْتُ وَلَعَلَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: لَا تَقُولُوا كَسَفَتِ الشَّمْسُ وَلَكِنْ قُولُوا خَسَفَتْ وَهَذَا مَوْقُوفٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْهُ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى عَنْهُ لَكِنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ تُخَالِفُهُ لِثُبُوتِهَا بِلَفْظِ الْكُسُوفِ فِي الشَّمْسِ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ، وَالْمَشْهُورُ فِي اسْتِعْمَالِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْكُسُوفَ لِلشَّمْسِ وَالْخُسُوفَ لِلْقَمَرِ وَاخْتَارَهُ ثَعْلَبٌ، وَذَكَرَ الْجَوْهَرِيُّ أَنَّهُ أَفْصَحُ، وَقِيلَ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ. وَحَكَى عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِهِمْ عَكْسَهُ وَغَلَّطَهُ لِثُبُوتِهِ بِالْخَاءِ فِي الْقَمَرِ فِي الْقُرْآنِ، وَكَأَنَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي اسْتِشْهَادِ الْمُؤَلِّفِ بِهِ فِي التَّرْجَمَةِ، وَقِيلَ: يُقَالُ بِهِمَا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا وَبِهِ جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَدْلُولَ الْكُسُوفِ لُغَةً غَيْرُ مَدْلُولِ الْخُسُوفِ لِأَنَّ الْكُسُوفَ التَّغَيُّرُ إِلَى السَّوَادِ، وَالْخُسُوفَ النُّقْصَانُ أَوِ الذُّلُّ، فَإِذَا قِيلَ فِي الشَّمْسِ كَسَفَتْ أَوْ خَسَفَتْ لِأَنَّهَا تَتَغَيَّرُ وَيَلْحَقُهَا النَّقْصُ سَاغَ، وَكَذَلِكَ الْقَمَرُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْكُسُوفَ وَالْخُسُوفَ مُتَرَادِفَانِ. وَقِيلَ بِالْكَافِ فِي الِابْتِدَاءِ وَبِالْخَاءِ فِي الِانْتِهَاءِ وَقِيلَ بِالْكَافِ لِذَهَابِ جَمِيعِ الضَّوْءِ وَبِالْخَاءِ لِبَعْضِهِ، وَقِيلَ بِالْخَاءِ لِذَهَابِ كُلِّ لَوْنٍ وَبِالْكَافِ لِتَغَيُّرِهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّهُ عز وجل: {وَخَسَفَ الْقَمَرُ} فِي إِيرَادِهِ لِهَذِهِ الْآيَةِ احْتِمَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَنْ يُقَالَ خَسَفَ
الْقَمَرُ كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا يُقَالُ كَسَفَ، وَإِذَا اخْتَصَّ الْقَمَرُ بِالْخُسُوفِ أَشْعَرَ بِاخْتِصَاصِ الشَّمْسِ بِالْكُسُوفِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَنَّ الَّذِي يَتَّفِقُ لِلشَّمْسِ كَالَّذِي يَتَّفِقُ لِلْقَمَرِ، وَقَدْ سُمِّيَ فِي الْقُرْآنِ بِالْخَاءِ فِي الْقَمَرِ فَلْيَكُنِ الَّذِي لِلشَّمْسِ كَذَلِكَ. ثُمَّ سَاقَ الْمُؤَلِّفُ حَدِيثَ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظِ خَسَفَتِ الشَّمْسُ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا قَالَ عُرْوَةُ، لَكِنْ رِوَايَاتُ غَيْرِهِ بِلَفْظِ كَسَفَتْ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
قَوْلُهُ فِيهِ: (ثُمَّ سَجَدَ سُجُودًا طَوِيلًا) فِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا يُسَنُّ تَطْوِيلُ السُّجُودِ فِي الْكُسُوفِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ.
6 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُخَوِّفُ اللَّهُ عِبَادَهُ بِالْكُسُوفِ
قَالَ أَبُو مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
1048 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُخَوِّفُ بِهما عِبَادَهُ. وقَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَلَمْ يَذْكُرْ عَبْدُ الْوَارِثِ وَشُعْبَةُ وَخَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ يُونُسَ: يُخَوِّفُ بِهما عِبَادَهُ. وَتَابَعَهُ أَشْعَثُ عَنْ الْحَسَنِ. وَتَابَعَهُ مُوسَى عَنْ مُبَارَكٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُخَوِّفُ بِهِمَا عِبَادَهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يُخَوِّفُ اللَّهُ عِبَادَهُ بِالْكُسُوفِ، قَالَهُ أَبُو مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) سَيَأْتِي حَدِيثُهُ مَوْصُولًا بَعْدَ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ. ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ أَبِي بَكْرَةَ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُونُسَ وَفِيهِ: وَلَكِنْ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِمَا عِبَادَهُ وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُخَوِّفُ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ الْكُسُوفِ.
قَوْلُهُ: (لَمْ يَذْكُرْ عَبْدُ الْوَارِثِ وَشُعْبَةُ وَخَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ يُونُسَ: يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِمَا عِبَادَهُ) أَمَّا رِوَايَةُ عَبْدِ الْوَارِثِ فَأَوْرَدَهَا الْمُصَنِّفُ بَعْدَ عَشَرَةِ أَبْوَابٍ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنْهُ وَلَيْسَ فِيهَا ذَلِكَ، لَكِنَّهُ ثَبَتَ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَارِثِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ وَذَكَرَ فِيهِ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِمَا عِبَادَهُ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: لَمْ يَذْكُرْهُ أَبُو مَعْمَرٍ، وَذَكَرَهُ غَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ. وَأَمَّا رِوَايَةُ شُعْبَةَ فَوَصَلَهَا الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ وَلَيْسَ فِيهَا ذَلِكَ، وَأَمَّا رِوَايَةُ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَسَبَقَتْ فِي أَوَّلِ الْكُسُوفِ، وَأَمَّا رِوَايَةُ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ فَوَصَلَهَا الطَّبَرَانِيُّ مِنْ رِوَايَةِ حَجَّاجِ بْنِ مِنْهَالٍ عَنْهُ بِلَفْظِ رِوَايَةِ خَالِدٍ وَمَعْنَاهُ وَقَالَ فِيهِ: فَإِذَا كَسَفَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَصَلُّوا وَادْعُوا.
قَوْلُهُ: (وَتَابَعَهُ أَشْعَثُ) يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ الْحُمْرَانِيَّ (عَنِ الْحَسَنِ) يَعْنِي فِي حَذْفِ قَوْلِهِ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِمَا عِبَادَهُ وَقَدْ وَصَلَ النَّسَائِيُّ هَذِهِ الطَّرِيقَ وَابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طُرُقٍ عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ الْحَسَنِ وَلَيْسَ فِيهَا ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَتَابَعَهُ مُوسَى، عَنْ مُبَارَكٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرة عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِمَا عِبَادَهُ) فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى. وَمُوسَى هُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ التَّبُوذَكِيُّ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْمِزِّيُّ، وَقَالَ الدِّمْيَاطِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ: هُوَ ابْنُ دَاوُدَ الضَّبِّيُّ، وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ لِأَنَّ ابْنَ إِسْمَاعِيلَ مَعْرُوفٌ فِي رِجَالِ الْبُخَارِيِّ دُونَ ابْنِ دَاوُدَ، وَلَمْ تَقَعْ لِي هَذِهِ الرِّوَايَةُ إِلَى الْآنِ مِنْ طَرِيقِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الْوَلِيدِ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ رِوَايَةِ هُدْبَةَ، وَقَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ مِنْ رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ كُلُّهُمْ عَنْ مُبَارَكٍ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ، إِلَّا أَنَّ رِوَايَةَ هُدْبَةَ لَيْسَ فِيهَا يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِمَا عِبَادَهُ.
(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ قَوْلُهُ تَابَعَهُ أَشْعَثُ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ عَقِبَ مُتَابَعَةِ مُوسَى، وَالصَّوَابُ تَقْدِيمُهُ لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ خُلُوِّ رِوَايَةِ أَشْعَثَ مِنْ قَوْلِهِ: يُخَوِّفُ
اللَّهُ بِهِمَا عِبَادَهُ.
قَوْلُهُ: (يُخَوِّفُ) فِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَزْعُمُ مِنْ أَهْلِ الْهَيْئَةِ أَنَّ الْكُسُوفَ أَمْرٌ عَادِيٌّ لَا يَتَأَخَّرُ وَلَا يَتَقَدَّمُ، إِذْ لَوْ كَانَ كَمَا يَقُولُونَ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تَخْوِيفٌ وَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْجَزْرِ وَالْمَدِّ فِي الْبَحْرِ، وَقَدْ رَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِمَا فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْآتِي حَيْثُ قَالَ: فَقَامَ فَزِعًا يَخْشَى أَنْ تَكُونَ السَّاعَةَ. قَالُوا: فَلَوْ كَانَ الْكُسُوفُ بِالْحِسَابِ لَمْ يَقَعِ الْفَزَعُ، وَلَوْ كَانَ بِالْحِسَابِ لَمْ يَكُنْ لِلْأَمْرِ بِالْعِتْقِ وَالصَّدَقَةِ وَالصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ مَعْنًى، فَإِنَّ ظَاهِرَ الْأَحَادِيثِ أَنَّ ذَلِكَ يُفِيدُ التَّخْوِيفَ، وَأَنَّ كُلَّ مَا ذُكِرَ مِنْ أَنْوَاعِ الطَّاعَةِ يُرْجَى أَنْ يُدْفَعَ بِهِ مَا يُخْشَى مِنْ أَثَرِ ذَلِكَ الْكُسُوفِ. وَمِمَّا نَقَصَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الشَّمْسَ لَا تَنْكَسِفُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا يَحُولُ الْقَمَرُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَهْلِ الْأَرْضِ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا فِي الْعُقْدَتَيْنِ، فَقَالَ: هُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الشَّمْسَ أَضْعَافُ الْقَمَرِ فِي الْجِرْمِ، فَكَيْفَ يَحْجُبُ الصَّغِيرُ الْكَبِيرَ إِذَا قَابَلَهُ، أَمْ كَيْفَ يُظْلَمُ الْكَثِيرُ بِالْقَلِيلِ، وَلَا سِيَّمَا وَهُوَ مِنْ جِنْسِهِ؟ وَكَيْفَ تَحْجُبُ الْأَرْضُ نُورَ الشَّمْسِ وَهِيَ فِي زَاوِيَةٍ مِنْهَا لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الشَّمْسَ أَكْبَرُ مِنَ الْأَرْضِ بِتِسْعِينَ ضِعْفًا.
وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ وَغَيْرِهِ لِلْكُسُوفِ سَبَبٌ آخَرُ غَيْرُ مَا يَزْعُمُهُ أَهْلُ الْهَيْئَةِ وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ بِلَفْظِ: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ إِذَا تَجَلَّى لِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ خَشَعَ لَهُ وَقَدِ اسْتَشْكَلَ الْغَزَالِيُّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ وَقَالَ: إِنَّهَا لَمْ تَثْبُتْ فَيَجِبُ تَكْذِيبُ نَاقِلِهَا. قَالَ: وَلَوْ صَحَّتْ لَكَانَ تَأْوِيلُهَا أَهْوَنَ مِنْ مُكَابَرَةِ أُمُورٍ قَطْعِيَّةٍ لَا تُصَادِمُ أَصْلًا مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ. قَالَ ابْنُ بَزِيزَةَ: هَذَا عَجَبٌ مِنْهُ، كَيْفَ يُسَلِّمُ دَعْوَى الْفَلَاسِفَةِ وَيَزْعُمُ أَنَّهَا لَا تَصَادِمُ الشَّرِيعَةَ مَعَ أَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْعَالَمَ كري الشَّكْلِ وَظَاهِرُ الشَّرْعِ يُعْطِي خِلَافَ ذَلِكَ وَالثَّابِتُ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ أَنَّ الْكُسُوفَ أَثَرُ الْإِرَادَةِ الْقَدِيمَةِ وَفِعْلُ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، فَيَخْلُقُ فِي هَذَيْنِ الْجِرْمَيْنِ النُّورَ مَتَى شَاءَ وَالظُّلْمَةَ مَتَى شَاءَ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى سَبَبٍ أَوْ رَبْطٍ بِاقْتِرَابٍ. وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَدَّهُ الْغَزَالِيُّ قَدْ أَثْبَتَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ ثَابِتٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَيْضًا، لِأَنَّ النُّورِيَّةَ وَالْإِضَاءَةَ مِنْ عَالَمِ الْجَمَالِ الْحِسِّيِّ، فَإِذَا تَجَلَّتْ صِفَةُ الْجَلَالِ انْطَمَسَتْ الْأَنْوَارُ لِهَيْبَتِهِ.
وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} اهـ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْحَدِيثَ مَا رَوَيْنَاهُ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ نَظَرَ إِلَى الشَّمْسِ وَقَدِ انْكَسَفَتْ فَبَكَى حَتَّى كَادَ أَنْ يَمُوتَ وَقَالَ: هِيَ أَخْوَفُ لِلَّهِ مِنَّا. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: رُبَّمَا يَعْتَقِدُ بَعْضُهُمْ أَنَّ الَّذِي يَذْكُرُهُ أَهْلُ الْحِسَابِ يُنَافِي قَوْلَهُ: يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِمَا عِبَادَهُ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ
(1)
لِأَنَّ لِلَّهِ أَفْعَالًا عَلَى حَسَبِ الْعَادَةِ، وَأَفْعَالًا خَارِجَةً عَنْ ذَلِكَ، وَقُدْرَتَهُ حَاكِمَةٌ عَلَى كُلِّ سَبَبٍ، فَلَهُ أَنْ يَقْتَطِعَ مَا يَشَاءُ مِنَ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ. وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَالْعُلَمَاءُ بِاللَّهِ لِقُوَّةِ اعْتِقَادِهِمْ فِي عُمُومِ قُدْرَتِهِ عَلَى خَرْقِ الْعَادَةِ وَأَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ إِذَا وَقَعَ شَيْءٌ غَرِيبٌ حَدَثَ عِنْدَهُمُ الْخَوْفُ لِقُوَّةِ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ أَسْبَابٌ تَجْرِي عَلَيْهَا الْعَادَةُ إِلَى أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ خَرَقَهَا. وَحَاصِلُهُ أَنَّ الَّذِي يَذْكُرُهُ أَهْلُ الْحِسَابِ حَقًّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا يُنَافِي كَوْنَ ذَلِكَ مُخَوِّفًا لِعِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى.
7 - بَاب التَّعَوُّذِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ فِي الْكُسُوفِ
(1)
ماقاله ابن دقيق العيد هنا تحقيق جيد. وقد ذكر كثير من المحققين - كشيخ الاسلام ابن تيميه وتلميذه ابن القيم - مايوافق ذلك، وأن الله سبحانه وتعالى قد أجرى العادة بخسوف الشمس والقمر لأسباب معلومة يعقلها أهل الحساب، والواقع شاهد بذلك ولكن لايلزم من ذلك أن يصيب أهل الحساب في كل ما يقولون، بل قد يخطئون في حسابهم، فلا ينبغي أن يصدقوا ولا أن يكذبوا، والتخويف بذلك حاصل على كل تقدير لمن يؤمن بالله واليوم الأخر. والله أعلم
1049 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ يَهُودِيَّةً جَاءَتْ تَسْأَلُهَا فَقَالَتْ لَهَا: أَعَاذَكِ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُعَذَّبُ النَّاسُ فِي قُبُورِهِمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: عَائِذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ.
[الحديث 1049 - أطرافه 6366. 1372. 1055]
1050 -
ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ غَدَاةٍ مَرْكَبًا فَخَسَفَتْ الشَّمْسُ فَرَجَعَ ضُحًى فَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ ظَهْرَانَيْ الْحُجَرِ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي وَقَامَ النَّاسُ وَرَاءَهُ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ ثُمَّ رَفَعَ فَسَجَدَ ثُمَّ قَامَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ ثُمَّ رَفَعَ فَسَجَدَ وَانْصَرَفَ فَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَعَوَّذُوا مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ "
قَوْلُهُ: (بَابُ التَّعَوُّذِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ فِي الْكُسُوفِ) قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: مُنَاسَبَةُ التَّعَوُّذِ عِنْدَ الْكُسُوفِ أَنَّ ظُلْمَةَ النَّهَارِ بِالْكُسُوفِ تُشَابِهُ ظُلْمَةَ الْقَبْرِ وَإِنْ كَانَ نَهَارًا، وَالشَّيْءُ بِالشَّيْءِ يُذْكَرُ، فَيُخَافُ مِنْ هَذَا كَمَا يُخَافُ مِنْ هَذَا، فَيَحْصُلُ الِاتِّعَاظُ بِهَذَا فِي التَّمَسُّكِ بِمَا يُنْجِي مِنْ غَائِلَةِ الْآخِرَةِ. ثُمَّ سَاقَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ عَائِشَةَ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرَةَ عَنْهَا، وَإِسْنَادُهُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ.
قَوْلُهُ: (عَائِذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ) قَالَ ابْنُ السَّيِّدِ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ الَّذِي يَجِيءُ عَلَى مِثَالِ فَاعِلٍ كَقَوْلِهِمْ عُوفِيَ عَافِيَةً. أَوْ عَلَى الْحَالِ الْمُؤَكِّدَةِ النَّائِبَةِ مَنَابَ الْمَصْدَرِ وَالْعَامِلُ فِيهِ مَحْذُوفٌ كَأَنَّهُ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ عَائِذًا، وَلَمْ يَذْكُرِ الْفِعْلَ لِأَنَّ الْحَالَ نَائِبَةٌ عَنْهُ، وَرُوِيَ بِالرَّفْعِ أَيْ أَنَا عَائِذٌ وَكَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَطَّلِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَذَابِ الْقَبْرِ كَمَا سَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (بَيْنَ ظَهْرَانَيْ) بِفَتْحِ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالنُّونِ عَلَى التَّثْنِيَةِ والْحُجَرُ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْجِيمِ جَمْعُ حُجْرَةٍ بِسُكُونِ الْجِيمِ، قِيلَ الْمُرَادُ بَيْنَ ظَهْرِ الْحُجَرِ وَالنُّونُ وَالْيَاءُ زَائِدَتَانِ، وَقِيلَ بَلِ الْكَلِمَةُ كُلُّهَا زَائِدَةٌ، وَالْمُرَادُ بِالْحُجَرِ بُيُوتُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (وَانْصَرَفَ فَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ) تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي رِوَايَةِ عُرْوَةَ، وَأَنَّهُ خَطَبَ وَأَمَرَ بِالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالذِّكْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
8 - بَاب طُولِ السُّجُودِ فِي الْكُسُوفِ
1051 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا كَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نُودِيَ: إِنَّ الصَّلَاةَ جَامِعَةٌ. فَرَكَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ فِي سَجْدَةٍ، ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ فِي سَجْدَةٍ، ثُمَّ جَلَسَ، ثُمَّ جُلِّيَ عَنْ الشَّمْسِ. قَالَ: وَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: مَا سَجَدْتُ سُجُودًا قَطُّ كَانَ أَطْوَلَ مِنْهَا.
قَوْلُهُ: (بَابُ طُولِ السُّجُودِ فِي الْكُسُوفِ) أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَهُ، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى تَرْكِ إِطَالَتِهِ بِأَنَّ الَّذِي شُرِعَ فِيهِ التَّطْوِيلُ شُرِعَ تَكْرَارُهُ كَالْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَلَمْ تُشْرَعِ الزِّيَادَةُ فِي السُّجُودِ فَلَا يُشْرَعُ تَطْوِيلُهُ،
وَهُوَ قِيَاسٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فَهُوَ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ، وَأَبْدَى بَعْضُهُمْ فِي مُنَاسَبَةِ التَّطْوِيلِ فِي الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ دُونَ السُّجُودِ أَنَّ الْقَائِمَ وَالرَّاكِعَ يُمْكِنُهُ رُؤْيَةُ الِانْجِلَاءِ بِخِلَافِ السَّاجِدِ فَإِنَّ الْآيَةَ عُلْوِيَّةٌ فَنَاسَبَ طُولُ الْقِيَامِ لَهَا بِخِلَافِ السُّجُودِ، وَلِأَنَّ فِي تَطْوِيلِ السُّجُودِ اسْتِرْخَاءَ الْأَعْضَاءِ فَقَدْ يُفْضِي إِلَى النَّوْمِ. وَكُلُّ هَذَا مَرْدُودٌ بِثُبُوتِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي تَطْوِيلِهِ. ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُخْتَصَرًا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْمِيمِ بِلَا وَاوٍ وَهُوَ وَهْمٌ.
قَوْلُهُ: (رَكْعَتَيْنِ فِي سَجْدَةٍ) الْمُرَادُ بِالسَّجْدَةِ هُنَا الرَّكْعَةُ بِتَمَامِهَا، وَبِالرَّكْعَتَيْنِ الرُّكُوعَانِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِرِوَايَتَيْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ فِي أَنَّ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعَيْنِ وَسُجُودَيْنِ، وَلَوْ تُرِكَ عَلَى ظَاهِرِهِ لَاسْتَلْزَمَ تَثْنِيَةَ الرُّكُوعِ وَإِفْرَادَ السُّجُودِ وَلَمْ يَصِرْ إِلَيْهِ أَحَدٌ. فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُهُ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ جَلَسَ ثُمَّ جُلِّيَ عَنِ الشَّمْسِ) أَيْ بَيْنَ جُلُوسِهِ فِي التَّشَهُّدِ وَالسَّلَامِ، فَتَبَيَّنَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ وَقَالَتْ عَائِشَةُ) الْقَائِلُ هُوَ ابْنُ سَلَمَةَ فِي نَقْدِي، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو فَيَكُونَ مِنْ رِوَايَةِ صَحَابِيٍّ عَنْ صَحَابِيَّةٍ، وَوَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُعَلَّقٌ فَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُمَا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَفِيهِ قَوْلُ عَائِشَةَ هَذَا.
قَوْلُهُ: (مَا سَجَدْتُ سُجُودًا قَطُّ كَانَ أَطْوَلَ مِنْهَا) كَذَا فِيهِ، وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ مِنْهُ أَيْ مِنَ السُّجُودِ الْمَذْكُورِ، زَادَ مُسْلِمٌ فِيهِ: وَلَا رَكَعْتُ رُكُوعًا قَطُّ كَانَ أَطْوَلَ مِنْهُ، وَتَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظِ ثُمَّ سَجَدَ فَأَطَالَ السُّجُودَ وَفِي أَوَائِلِ صِفَةِ الصَّلَاةِ مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ مِثْلُهُ، وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بِلَفْظِ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَسَجَدَ وَأَطَالَ السُّجُودَ وَنَحْوُهُ عِنْدَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلِلشَّيْخَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى بِأَطْوَلِ قِيَامٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ رَأَيْتُهُ قَطُّ وَلِأَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ كَأَطْوَلِ مَا سَجَدَ بِنَا فِي صَلَاةٍ قَطُّ وَكُلُّ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ السُّجُودَ فِي الْكُسُوفِ يَطُولُ كَمَا يَطُولُ الْقِيَامُ وَالرُّكُوعُ، وَأَبْدَى بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ فِيهِ بَحْثًا فَقَالَ: لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ أَطَالَ أَنْ يَكُونَ بَلَغَ بِهِ حَدَّ الْإِطَالَةِ فِي الرُّكُوعِ، وَكَأَنَّهُ غَفَلَ عَمَّا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ بِلَفْظِ وَسُجُودُهُ نَحْوٌ مِنْ رُكُوعِهِ وَهَذَا مَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ وَبِهِ جَزَمَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ مِنْ أَصْحَابِهِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ ثُمَّ النَّوَوِيُّ، وَتَعَقَّبَهُ صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ بِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ فِي خَبَرٍ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ الشَّافِعِيُّ، اهـ. وَرَدَّ عَلَيْهِ فِي الْأَمْرَيْنِ مَعًا فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْبُوَيْطِيِّ وَلَفْظُهُ: ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ يُقِيمُ فِي كُلِّ سَجْدَةٍ نَحْوًا مِمَّا قَامَ فِي رُكُوعِهِ.
(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ تَطْوِيلُ الِاعْتِدَالِ الَّذِي يَلِيهِ السُّجُودُ وَلَفْظُهُ ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ، ثُمَّ سَجَدَ وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هِيَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ مُخَالِفَةٌ فَلَا يُعْمَلُ بِهَا أَوِ الْمُرَادُ زِيَادَةُ الطُّمَأْنِينَةِ فِي الِاعْتِدَالِ لَا إِطَالَتُهُ نَحْوَ الرُّكُوعِ، وَتُعُقِّبَ بِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُمَا، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَيْضًا، فَفِيهِ: ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ حَتَّى قِيلَ لَا يَرْفَعُ، ثُمَّ رَفَعَ فَأَطَالَ حَتَّى قِيلَ لَا يَسْجُدُ، ثُمَّ سَجَدَ فَأَطَالَ حَتَّى قِيلَ لَا يَرْفَعُ، ثُمَّ رَفَعَ فَجَلَسَ فَأَطَالَ الْجُلُوسَ حَتَّى قِيلَ لَا يَسْجُدُ، ثُمَّ سَجَدَ. لَفْظُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِيهِ عَنْهُ، وَالثَّوْرِيُّ سَمِعَ مِنْ عَطَاءٍ قَبْلَ الِاخْتِلَاطِ فَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ، وَلَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ عَلَى تَطْوِيلِ الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ إِلَّا فِي هَذَا، وَقَدْ نَقَلَ الْغَزَالِيُّ الِاتِّفَاقَ عَلَى تَرْكِ إِطَالَتِهِ، فَإِنْ أَرَادَ الِاتِّفَاقَ الْمَذْهَبِيَّ فَلَا كَلَامَ، وَإِلَّا فَهُوَ مَحْجُوجٌ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ.
9 - بَاب صَلَاةِ الْكُسُوفِ جَمَاعَةً
وَصَلَّى ابْنُ عَبَّاسٍ لَهُمْ فِي صُفَّةِ زَمْزَمَ وَجَمَعَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَصَلَّى ابْنُ عُمَرَ.
1052 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: انْخَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا نَحْوًا مِنْ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ تَجَلَّتْ الشَّمْسُ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئًا فِي مَقَامِكَ، ثُمَّ رَأَيْنَاكَ كَعْكَعْتَ. قَالَ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي رَأَيْتُ الْجَنَّةَ فَتَنَاوَلْتُ عُنْقُودًا وَلَوْ أَصَبْتُهُ لَأَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتْ الدُّنْيَا، وَأُرِيتُ النَّارَ فَلَمْ أَرَ مَنْظَرًا كَالْيَوْمِ قَطُّ أَفْظَعَ وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ. قَالُوا: بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: بِكُفْرِهِنَّ. قِيلَ: يَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ كُلَّهُ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ.
قَوْلُهُ: (بَابُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ جَمَاعَةً) أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَحْضُرِ الْإِمَامُ الرَّاتِبُ فَيَؤُمُّ لَهُمْ بَعْضُهُمْ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَعَنِ الثَّوْرِيُّ: إِنْ لَمْ يَحْضُرِ الْإِمَامُ صَلَّوْا فُرَادَى.
قَوْلُهُ: (وَصَلَّى لَهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي صُفَّةِ زَمْزَمٍ) وَصَلَهُ الشَّافِعِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ جَمِيعًا عَنْ سُفْيَانَ، بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلِ، سَمِعْتُ طَاوُسًا يَقُولُ: كَسَفَتِ الشَّمْسُ فَصَلَّى بِنَا ابْنُ عَبَّاسٍ فِي صُفَّةِ زَمْزَمَ سِتَّ رَكَعَاتٍ فِي أَرْبَعِ سَجَدَاتٍ وَهَذَا مَوْقُوفٌ صَحِيحٌ، إِلَّا أَنَّ ابْنَ عُيَيْنَةَ خُولِفَ فِيهِ رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ فَقَالَ: رَكْعَتَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهُ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ غُنْدَرٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، لَكِنْ قَالَ: سَجَدَاتٍ بَدَلَ رَكَعَاتٍ، وَهُوَ وَهْمٌ مِنْ غُنْدَرٍ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ صَلَّى عَلَى ظَهْرِ زَمْزَمَ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ رَكْعَتَيْنِ، فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رَكْعَتَيْنِ.
قَوْلُهُ: (فِي صُفَّةِ زَمْزَمَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِضَمِّ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الصُّفَّةُ مَوْضِعُ بَهْوٍ مُظَلَّلٍ. وَفِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ بِضَادٍ مُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَمَكْسُورَةٍ وَهِيَ جَانِبُ النَّهْرِ وَلَا مَعْنَى لَهَا هُنَا إِلَّا بِطَرِيقِ التَّجَوُّزِ.
قَوْلُهُ: (وَجَمَعَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ) لَمْ أَقِفْ عَلَى أَثَرِهِ هَذَا مَوْصُولًا.
قَوْلُهُ: (وَصَلَّى ابْنُ عُمَرَ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَقِيَّةَ أَثَرٍ عَلَى الْمَذْكُورِ، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ) كَذَا فِي الْمُوَطَّأِ وَفِي جَمِيعِ مَنْ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ اللُّؤْلُؤِيِّ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بَدَلَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ غَلَطٌ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ سَجَدَ) أَيْ سَجْدَتَيْنِ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ) فِيهِ أَنَّ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ أَقْصَرُ مِنَ الْأُولَى، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ.
قَوْلُهُ: (قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ) فِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ أَحْمَدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ قَالَ لَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ شَيْئًا صَنَعْتُهُ فِي الصَّلَاةِ لَمْ تَكُنْ تَصْنَعُهُ فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، إِلَّا أَنَّ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الظُّهْرِ أَوِ الْعَصْرِ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَهِيَ قِصَّةٌ أُخْرَى، وَلَعَلَّهَا الْقِصَّةُ الَّتِي حَكَاهَا أَنَسٌ
وَذَكَرَ أَنَّهَا وَقَعَتْ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ سِيَاقُهُ فِي بَابِ وَقْتِ الظُّهْرِ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ مِنْ كِتَابِ الْمَوَاقِيتِ، لَكِنْ فِيهِ: عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فِي عُرْضِ هَذَا الْحَائِطِ حَسْبُ، وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَهُوَ شَبِيهٌ بِسِيَاقِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذِكْرِ الْعُنْقُودِ وَذِكْرِ النِّسَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ تَنَاوَلُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ بِضَمِّ اللَّامِ وَبِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ وَأَصْلُهُ تَتَنَاوَلُ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ رَأَيْنَاكَ كَعْكَعْتَ) فِي رِوَايَةَ الْكُشْمِيهَنِيِّ تَكَعْكَعْتَ بِزِيَادَةِ تَاءٍ فِي أَوَّلِهِ وَمَعْنَاهُ تَأَخَّرْتَ، يُقَالُ كَعَّ الرَّجُلُ إِذَا نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَصْلُهُ تَكَعَّعْتَ فَاسْتَثْقَلُوا اجْتِمَاعَ ثَلَاثِ عَيْنَاتٍ فَأَبْدَلُوا مِنْ إِحْدَاهَا حَرْفًا مُكَرَّرًا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: ثُمَّ رَأَيْنَاكَ كَفَفْتَ بِفَاءَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ.
قَوْلُهُ: (إِنِّي رَأَيْتُ الْجَنَّةَ فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا عُنْقُودًا) ظَاهِرُهُ أَنَّهَا رُؤْيَةُ عَيْنٍ فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى أَنَّ الْحُجُبَ كُشِفَتْ لَهُ دُونَهَا فَرَآهَا عَلَى حَقِيقَتِهَا وَطُوِيَتِ الْمَسَافَةُ بَيْنِهِمَا حَتَّى أَمْكَنَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْهَا، وَهَذَا أَشْبَهُ بِظَاهِرِ هَذَا الْخَبَرِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَسْمَاءَ الْمَاضِي فِي أَوَائِلِ صِفَةِ الصَّلَاةِ بِلَفْظِ دَنَتْ مِنِّيَ الْجَنَّةُ حَتَّى لَوِ اجْتَرَأْتُ عَلَيْهَا لَجِئْتُكُمْ بِقِطَافٍ مِنْ قِطَافِهَا وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى أَنَّهَا مُثِّلَتْ لَهُ فِي الْحَائِطِ كَمَا تَنْطَبِعُ الصُّورَةُ فِي الْمِرْآةِ فَرَأَى جَمِيعَ مَا فِيهَا، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَنَسٍ الْآتِي فِي التَّوْحِيدِ لَقَدْ عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ آنِفًا فِي عُرْضِ هَذَا الْحَائِطِ وَأَنَا أُصَلِّي وَفِي رِوَايَةٍ لَقَدْ مُثِّلَتْ وَلِمُسْلِمٍ لَقَدْ صُوِّرَتْ وَلَا يَرِدُ عَلَى هَذَا أَنَّ الِانْطِبَاعَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْأَجْسَامِ الثَّقِيلَةِ لِأَنَّا نَقُولُ هُوَ شَرْطٌ عَادِيٌّ فَيَجُوزُ أَنْ تَنْخَرِقَ الْعَادَةُ خُصُوصًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لَكِنْ هَذِهِ قِصَّةٌ أُخْرَى وَقَعَتْ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ وَلَا مَانِعَ أَنْ يَرَى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ مَرَّتَيْنِ بَلْ مِرَارًا عَلَى صُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالرُّؤْيَةِ رُؤْيَةُ الْعِلْمِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَا إِحَالَةَ فِي إِبْقَاءِ هَذِهِ الْأُمُورِ عَلَى ظَوَاهِرِهَا لَا سِيَّمَا عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي أَنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ قَدْ خُلِقَتَا وَوُجِدَتَا، فَيَرْجِعُ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم إِدْرَاكًا خَاصًّا بِهِ أَدْرَكَ بِهِ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ عَلَى حَقِيقَتِهِمَا.
قَوْلُهُ: (وَلَوْ أَصَبْتُهُ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَلَوْ أَخَذْتُهُ، وَاسْتُشْكِلَ مَعَ قَوْلِهِ تَنَاوَلْتُ وَأُجِيبَ بِحَمْلِ التَّنَاوُلِ عَلَى تَكَلُّفِ الْأَخْذِ لَا حَقِيقَةِ الْأَخْذِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ تَنَاوَلْتُ لِنَفْسِي وَلَوْ أَخَذْتُهُ لَكُمْ حَكَاهُ الْكِرْمَانِيُّ وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: تَنَاوَلْتُ أَيْ وَضَعْتُ يَدِي عَلَيْهِ بِحَيْثُ كُنْتُ قَادِرًا عَلَى تَحْوِيلِهِ لَكِنْ لَمْ يُقَدَّرْ لِي قَطْفُهُ، وَلَوْ أَصَبْتُهُ أَيْ لَوْ تَمَكَّنْتُ مِنْ قَطْفِهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ أَهْوَى بِيَدِهِ لِيَتَنَاوَلَ شَيْئًا وَلِلْمُصَنِّفِ فِي حَدِيثِ أَسْمَاءَ فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ حَتَّى لَوِ اجْتَرَأْتُ عَلَيْهَا وَكَأَنَّهُ لَمْ يُؤْذَنُ لَهُ فِي ذَلِكَ فَلَمْ يَجْتَرِئْ عَلَيْهِ، وَقِيلَ الْإِرَادَةُ مُقَدَّرَةٌ، أَيْ أَرَدْتُ أَنْ أَتَنَاوَلَ ثُمَّ لَمْ أَفْعَلْ وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: وَلَقَدْ مَدَدْتُ يَدِي وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَتَنَاوَلَ مِنْ ثَمَرِهَا لِتَنْظُرُوا إِلَيْهِ، ثُمَّ بَدَا لِي أَنْ لَا أَفْعَلَ وَمِثْلُهُ لِلْمُصَنِّفِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ كَمَا سَيَأْتِي فِي آخِرِ الصَّلَاةِ بِلَفْظِ حَتَّى لَقَدْ رَأَيْتُنِي أُرِيدُ أَنْ آخُذَ قِطْفًا مِنَ الْجَنَّةِ حِينَ رَأَيْتُمُونِي جَعَلْتُ أَتَقَدَّمُ، وَلِعَبْدِ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقٍ مُرْسَلَةٍ أَرَدْتُ أَنْ آخُذَ مِنْهَا قِطْفًا لِأُرِيَكُمُوهُ فَلَمْ يُقَدَّرْ وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فَحِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَمْ يَأْخُذِ الْعُنْقُودَ لِأَنَّهُ مِنْ طَعَامِ الْجَنَّةِ وَهُوَ لَا يَفْنَى، وَالدُّنْيَا فَانِيَةٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْكَلَ فِيهَا مَا لَا يَفْنَى. وَقِيلَ لِأَنَّهُ لَوْ رَآهُ النَّاسُ لَكَانَ مِنْ إِيمَانِهِمْ بِالشَّهَادَةِ لَا بِالْغَيْبِ فَيُخْشَى أَنْ يَقَعَ رَفْعُ التَّوْبَةِ فَلَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا.
وَقِيلَ: لِأَنَّ الْجَنَّةَ جَزَاءُ الْأَعْمَالِ، وَالْجَزَاءُ بِهَا لَا يَقَعُ إِلَّا فِي الْآخِرَةِ. وَحَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي قَانُونِ التَّأْوِيلِ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ أَنَّهُ قَالَ: مَعْنَى قَوْلِهِ لَأَكَلْتُمْ مِنْهُ إِلَخْ أَنْ يَخْلُقَ فِي نَفْسِ الْآكِلِ مِثْلَ الَّذِي أَكَلَ دَائِمًا بِحَيْثُ لَا يَغِيبُ عَنْ ذَوْقِهِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ رَأْيٌ فَلْسَفِيٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ دَارَ الْآخِرَةِ لَا حَقَائِقَ لَهَا وَإِنَّمَا هِيَ أَمْثَالٌ، وَالْحَقُّ أَنَّ ثِمَارَ الْجَنَّةِ لَا مَقْطُوعَةٌ وَلَا مَمْنُوعَةٌ، وَإِذَا قُطِعَتْ خُلِقَتْ فِي الْحَالِ، فَلَا مَانِعَ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا إِذَا شَاءَ، وَالْفَرْقُ
بَيْنَ الدَّارَيْنِ فِي وُجُوبِ الدَّوَامِ وَجَوَازِهِ.
(فَائِدَةٌ): بَيَّنَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ التَّنَاوُلَ الْمَذْكُورَ كَانَ حِينَ قِيَامِهِ الثَّانِي مِنَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ.
قَوْلُهُ: (وَأُرِيتُ النَّارَ) فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ وَرَأَيْتُ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ رُؤْيَتَهُ النَّارَ كَانَتْ قَبْلَ رُؤْيَتِهِ الْجَنَّةَ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِيهِ عُرِضَتْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم النَّارَ فَتَأَخَّرَ عَنْ مُصَلَّاهُ حَتَّى إنَّ النَّاسَ لَيَرْكَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَإِذَا رَجَعَ عُرِضَتْ عَلَيْهِ الْجَنَّةُ فَذَهَبَ يَمْشِي حَتَّى وَقَفَ فِي مُصَلَّاهُ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ لَقَدْ جِيءَ بِالنَّارِ حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ مَخَافَةَ أَنْ يُصِيبَنِي مِنْ لَفْحِهَا وَفِيهِ ثُمَّ جِيءَ بِالْجَنَّةِ وَذَلِكَ حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَقَدَّمْتُ حَتَّى قُمْتُ فِي مَقَامِي وَزَادَ فِيهِ مَا مِنْ شَيْءٍ تُوعَدُونَهُ إِلَّا قَدْ رَأَيْتُهُ فِي صَلَاتِي هَذِهِ، وَفِي حَدِيثِ سَمُرَةَ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ لَقَدْ رَأَيْتُ مُنْذُ قُمْتُ أُصَلِّي مَا أَنْتُمْ لَاقُونَ فِي دُنْيَاكُمْ وَآخِرَتِكُمْ.
قَوْلُهُ: (فَلَمْ أَرَ مَنْظَرًا كَالْيَوْمِ قَطُّ أَفْظَعَ) الْمُرَادُ بِالْيَوْمِ الْوَقْتُ الَّذِي هُوَ فِيهِ، أَيْ لَمْ أَرَ مَنْظَرًا مِثْلَ مَنْظَرِ رَأَيْتِهِ الْيَوْمَ، فَحَذَفَ الْمَرْئِيَّ وَأَدْخَلَ التَّشْبِيهَ عَلَى الْيَوْمِ لِبَشَاعَةِ مَا رَأَى فِيهِ وَبُعْدَهُ عَنِ الْمَنْظَرِ الْمَأْلُوفِ، وَقِيلَ: الْكَافُ اسْمٌ وَالتَّقْدِيرُ مَا رَأَيْتُ مِثْلَ مَنْظَرِ هَذَا الْيَوْمِ مَنْظَرًا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْحَمَوِيِّ فَلَمْ أَنْظُرْ كَالْيَوْمِ قَطُّ أَفْظَعَ.
قَوْلُهُ: (وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ) هَذَا يُفَسِّرُ وَقْتَ الرُّؤْيَةِ فِي قَوْلِهِ لَهُنَّ فِي خُطْبَةِ الْعِيدِ تَصَدَّقْنَ فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْعِيدِ الْإِلْمَامُ بِتَسْمِيَةِ الْقَائِلِ أَيَكْفُرْنَ.
قَوْلُهُ: (يَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ) كَذَا لِلْجُمْهُورِ عَنْ مَالِكٍ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ حَفْصِ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَوَقَعَ فِي مُوَطَّأِ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى الْأَنْدَلُسِيِّ قَالَ: وَيَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ بِزِيَادَةِ وَاوٍ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ زِيَادَةَ الْوَاوِ غَلَطٌ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ تَغْلِيطِهِ كَوْنَهُ خَالَفَ غَيْرَهُ مِنَ الرُّوَاةِ فَهُوَ كَذَلِكَ، وَأَطَاقَ عَلَى الشُّذُوذِ غَلَطًا، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ تَغْلِيطِهِ فَسَادَ الْمَعْنَى فَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْجَوَابَ طَابَقَ السُّؤَالَ وَزَادَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَطْلَقَ لَفْظَ النِّسَاءِ فَعَمَّ الْمُؤْمِنَةَ مِنْهُنَّ وَالْكَافِرَةَ، فَلَمَّا قِيلَ يَكْفُرْنَ بِاللَّهِ فَأَجَابَ وَيَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ إِلَخْ وَكَأَنَّهُ قَالَ: نَعَمْ يَقَعُ مِنْهُنَّ الْكُفْرُ بِاللَّهِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ مِنْهُنَّ مَنْ يَكْفُرُ بِاللَّهِ وَمِنْهُنَّ مَنْ يَكْفُرُ الْإِحْسَانَ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَجْهُ رِوَايَةِ يَحْيَى أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ لَمْ يَقَعْ عَلَى وَفْقِ سُؤَالِ السَّائِلِ، لِإِحَاطَةِ الْعِلْمِ بِأَنَّ مِنَ النِّسَاءِ مَنْ يَكْفُرُ بِاللَّهِ فَلَمْ يُحْتَجْ إِلَى جَوَابِهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الْحَدِيثِ خِلَافُهُ.
قَوْلُهُ: (يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَمْ يُعَدَّ كُفْرُ الْعَشِيرِ بِالْبَاءِ كَمَا عُدِّيَ الْكُفْرُ بِاللَّهِ لِأَنَّ كُفْرَ الْعَشِيرِ لَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الِاعْتِرَافِ.
قَوْلُهُ: (وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ) كَأَنَّهُ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ كُفْرُ إِحْسَانِ الْعَشِيرِ لَا كُفْرُ ذَاتِهِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْعَشِيرِ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ، وَالْمُرَادُ بِكُفْرِ الْإِحْسَانِ تَغْطِيَتُهُ أَوْ جَحْدُهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ آخِرُ الْحَدِيثِ.
قَوْلُهُ: (لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ كُلَّهُ) بَيَانٌ لِلتَّغْطِيَةِ الْمَذْكُورَةِ، ولَوْ هُنَا شَرْطِيَّةٌ لَا امْتِنَاعِيَّةٌ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ امْتِنَاعِيَّةً بِأَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ ثَابِتًا عَلَى النَّقِيضَيْنِ وَالطَّرَفُ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ أَوْلَى مِنَ الْمَذْكُورِ، وَالدَّهْرُ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ مُدَّةُ عُمْرِ الرَّجُلِ أَوِ الزَّمَانُ كُلُّهُ مُبَالَغَةً فِي كُفْرَانِهِنَّ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ أَحْسَنْتَ مُخَاطَبَةَ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ، بَلْ كُلُّ مَنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مُخَاطَبًا، فَهُوَ خَاصٌّ لَفْظًا عَامٌّ مَعْنًى.
قَوْلُهُ: (شَيْئًا) التَّنْوِينُ فِيهِ لِلتَّقْلِيلِ أَيْ شَيْئًا قَلِيلًا لَا يُوَافِقُ غَرَضَهَا مِنْ أَيِّ نَوْعٍ كَانَ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَرْئِيَّ فِي النَّارِ مِنَ النِّسَاءِ مَنِ اتَّصَفَ بِصِفَاتٍ ذَمِيمَةٍ ذُكِرَتْ وَلَفْظُهُ: وَأَكْثَرُ مَنْ رَأَيْتُ فِيهَا مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي إِنِ اؤْتَمِنَّ أَفْشَيْنَ، وَإِنْ سُئِلْنَ بَخِلْنَ، وَإِنْ سَأَلْنَ أَلْحَفْنَ، وَإِنْ أُعْطِينَ لَمْ يَشْكُرْنَ الْحَدِيثَ، وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ الْمُبَادَرَةُ إِلَى الطَّاعَةِ عِنْدَ رُؤْيَةِ مَا يُحْذَرُ مِنْهُ وَاسْتِدْفَاعُ الْبَلَاءِ بِذِكْرِ اللَّهِ وَأَنْوَاعِ
طَاعَتِهِ، وَمُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ نُصْحِ أُمَّتِهِ، وَتَعْلِيمِهِمْ مَا يَنْفَعُهُمْ وَتَحْذِيرُهُمْ مِمَّا يَضُرُّهُمْ، وَمُرَاجَعَةُ الْمُتَعَلِّمِ لِلْعَالِمِ فِيمَا لَا يُدْرِكُهُ فَهْمُهُ، وَجَوَازُ الِاسْتِفْهَامِ عَنْ عِلَّةِ الْحُكْمِ، وَبَيَانُ الْعَالِمِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ تِلْمِيذُهُ، وَتَحْرِيمُ كُفْرَانِ الْحُقُوقِ. وَوُجُوبُ شُكْرِ الْمُنْعِمِ. وَفِيهِ أَنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ مَخْلُوقَتَانِ مَوْجُودَتَانِ الْيَوْمَ، وَجَوَازُ إِطْلَاقِ الْكُفْرِ عَلَى مَا لَا يُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ. وَتَعْذِيبُ أَهْلِ التَّوْحِيدِ عَلَى الْمَعَاصِي، وَجَوَازُ الْعَمَلِ فِي الصَّلَاةِ إِذَا لَمْ يَكْثُرْ.
10 - بَاب صَلَاةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْكُسُوفِ
1053 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ امْرَأَتِهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما، أَنَّهَا قَالَتْ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ خَسَفَتْ الشَّمْسُ فَإِذَا النَّاسُ قِيَامٌ يُصَلُّونَ، وَإِذَا هِيَ قَائِمَةٌ تُصَلِّي فَقُلْتُ: مَا لِلنَّاسِ فَأَشَارَتْ بِيَدِهَا إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ. فَقُلْتُ: آيَةٌ؟ فَأَشَارَتْ أَيْ نَعَمْ. قَالَتْ: فَقُمْتُ حَتَّى تَجَلَّانِي الْغَشْيُ فَجَعَلْتُ أَصُبُّ فَوْقَ رَأْسِي الْمَاءَ فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: مَا مِنْ شَيْءٍ كُنْتُ لَمْ أَرَهُ إِلَّا قَدْ رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي هَذَا، حَتَّى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ مِثْلَ، أَوْ قَرِيبًا مِنْ، فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، لَا أَدْرِي أَيَّتَهُمَا قَالَتْ أَسْمَاءُ، يُؤْتَى أَحَدُكُمْ فَيُقَالُ لَهُ: مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ أَوْ الْمُوقِنُ، لَا أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ، فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى فَأَجَبْنَا وَآمَنَّا وَاتَّبَعْنَا، فَيُقَالُ لَهُ: نَمْ صَالِحًا، فَقَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُوقِنًا، وَأَمَّا الْمُنَافِقُ أَوْ الْمُرْتَابُ، لَا أَدْرِي أَيَّتَهُمَا قَالَتْ أَسْمَاءُ، فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ صَلَاةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْكُسُوفِ)
أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى رَدِّ قَوْلِ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ وَقَالَ: يُصَلِّينَ فُرَادَى، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنِ الثَّوْرِيِّ وَبَعْضِ الْكُوفِيِّينَ. وَفِي الْمُدَوَّنَةِ: تُصَلِّي الْمَرْأَةُ فِي بَيْتِهَا وَتَخْرُجُ الْمُتَجَالَّةُ. وَعَنِ الشَّافِعِيُّ يَخْرُجُ الْجَمِيعُ إِلَّا مَنْ كَانَتْ بَارِعَةَ الْجَمَالِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْكُسُوفَ إِنَّمَا يُخَاطَبُ بِهِ مَنْ يُخَاطَبُ بِالْجُمُعَةِ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ خِلَافُ ذَلِكَ وَهُوَ إِلْحَاقُ الْمُصَلَّى فِي حَقِّهِنَّ بِحُكْمِ الْمَسْجِدِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ) هِيَ جَدَّةُ فَاطِمَةَ وَهِشَامٍ لِأَبَوَيْهِمَا.
قَوْلُهُ: (فَأَشَارَتْ أَيْ نَعَمْ) وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَنْ نَعَمْ بِنُونٍ بَدَلَ التَّحْتَانِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فَوَائِدُهُ فِي بَابِ مَنْ أَجَابَ الْفُتْيَا بِالْإِشَارَةِ مِنْ كِتَابِ الْعِلْمِ وَفِي بَابِ مَنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ إِلَّا مِنَ الْغَشْيِ الْمُثْقِلِ مِنْ كِتَابِ الطَّهَارَةِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَبْرِ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: اسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ بَطَّالٍ عَلَى جَوَازِ خُرُوجِ النِّسَاءِ إِلَى الْمَسْجِدِ لِصَلَاةِ الْكُسُوفِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ أَسْمَاءَ إِنَّمَا صَلَّتْ فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ، لَكِنْ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَنَّ نِسَاءً غَيْرَ أَسْمَاءَ كُنَّ بَعِيدَاتٍ عَنْهَا، فَعَلَى هَذَا فَقَدْ كُنَّ فِي مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ كَمَا جَرَتْ عَادَتُهُنَّ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ.
11 - بَاب مَنْ أَحَبَّ الْعَتَاقَةَ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ
1054 -
حَدَّثَنَا رَبِيعُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا زَائِدَةُ، عَنْ هِشَامٍ عَنْ فَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ: لَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ
صلى الله عليه وسلم بِالْعَتَاقَةِ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أَحَبَّ الْعَتَاقَةَ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ (فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ) قَيَّدَهُ اتِّبَاعًا لِلسَّبَبِ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ؛ لِأَنَّ أَسْمَاءَ إِنَّمَا رَوَتْ قِصَّةَ كُسُوفِ الشَّمْسِ - وَهَذَا طَرَفٌ مِنْهُ - إِمَّا أَنْ يَكُونَ هِشَامٌ حَدَّثَ بِهِ هَكَذَا فَسَمِعَهُ مِنْهُ زَائِدَةُ، أَوْ يَكُونَ زَائِدَةُ اخْتَصَرَهُ، وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ فَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْعِتْقِ مِنْ طَرِيقِ عَثَّامِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ هِشَامٍ بِلَفْظِ كُنَّا نُؤْمَرُ عِنْدَ الْخُسُوفِ بِالْعَتَاقَةِ.
قَوْلُهُ: (لَقَدْ أَمَرَ) فِي رِوَايَةِ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرٍو عَنْ زَائِدَةَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُهُمْ.
12 - بَاب صَلَاةِ الْكُسُوفِ فِي الْمَسْجِدِ
1055 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ يَهُودِيَّةً جَاءَتْ تَسْأَلُهَا فَقَالَتْ: أَعَاذَكِ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُعَذَّبُ النَّاسُ فِي قُبُورِهِمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: عَائِذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ.
1056 -
ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ غَدَاةٍ مَرْكَبًا فَكَسَفَتْ الشَّمْسُ فَرَجَعَ ضُحًى فَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ ظَهْرَانَيْ الْحُجَرِ ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى، وَقَامَ النَّاسُ وَرَاءَهُ، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ فَسَجَدَ سُجُودًا طَوِيلًا، ثُمَّ قَامَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ وَهُوَ دُونَ السُّجُودِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَعَوَّذُوا مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ فِي الْمَسْجِدِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرَةَ عَنْهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَ أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَمْ يَقَعْ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِكَوْنِهَا فِي الْمَسْجِدِ، لَكِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهَا فِيهِ: فَمَرَّ بَيْنَ ظَهْرَانَيِ الْحُجَرِ لِأَنَّ الْحُجَرَ بُيُوتُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَتْ لَاصِقَةً بِالْمَسْجِدِ، وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَلَفْظُهُ: فَخَرَجَتْ فِي نِسْوَةٍ بَيْنَ ظَهْرَانَيِ الْحُجَرِ فِي الْمَسْجِدِ فَأَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَرْكَبِهِ حَتَّى أَتَى إِلَى مُصَلَّاهُ الَّذِي كَانَ يُصَلِّي فِيهِ الْحَدِيثَ، وَالْمَرْكَبُ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ بِسَبَبِ مَوْتِ ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ، فَلَمَّا رَجَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَتَى الْمَسْجِدَ وَلَمْ يُصَلِّهَا ظَاهِرًا، وَصَحَّ أَنَّ السُّنَّةَ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ أَنْ تُصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَتْ صَلَاتُهَا فِي الصَّحْرَاءِ أَجْدَرَ بِرُؤْيَةِ الِانْجِلَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
13 - بَاب لَا تَنْكَسِفُ الشَّمْسُ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ
رَوَاهُ أَبُو بَكْرَةَ، وَالْمُغِيرَةُ، وَأَبُو مُوسَى، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهم
1057 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنِي قَيْسٌ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَصَلُّوا.
1058 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، وَهِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى بِالنَّاسِ فَأَطَالَ الْقِرَاءَةَ، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَأَطَالَ الْقِرَاءَةَ وَهِيَ دُونَ قِرَاءَتِهِ الْأُولَى، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ دُونَ رُكُوعِهِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ قَامَ فَصَنَعَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَامَ فَقَالَ: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ يُرِيهِمَا عِبَادَهُ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَافْزَعُوا إِلَى الصَّلَاةِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ لَا تَنْكَسِفُ الشَّمْسُ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ.
قَوْلُهُ: (رَوَاهُ أَبُو بَكْرَةَ، وَالْمُغِيرَةُ) تَقَدَّمَ حَدِيثُهُمَا فِيهِ.
قَوْلُهُ: (وَأَبُو مُوسَى) سَيَأْتِي حَدِيثُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ.
قَوْلُهُ: (وَابْنُ عَبَّاسٍ) تَقَدَّمَ حَدِيثُهُ قَبْلَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ.
قَوْلُهُ: (وَابْنُ عُمَرَ) تَقَدَّمَ حَدِيثُهُ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ أَيْضًا حَدِيثَ أَبِي مَسْعُودٍ، وَفِيهِ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَكَذَا حَدِيثَ عَائِشَةَ، وَفِي الْبَابِ مِمَّا لَمْ يَذْكُرْهُ عَنْ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَقَبِيصَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، كُلُّهَا عِنْدَ النَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ، وَمَحْمُودِ بْنِ لَبِيَدٍ، كُلُّهَا عِنْدَ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَبِلَالٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَغَيْرِهِ، فَهَذِهِ عِدَّةُ طُرُقٍ غَالِبُهَا عَلَى شَرْطِ الصِّحَّةِ، وَهِيَ تُفِيدُ الْقَطْعِ عِنْدَ مَنِ اطَّلَعَ عَلَيْهَا مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ، فَيَجِبُ تَكْذِيبُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْكُسُوفَ عَلَامَةٌ عَلَى مَوْتِ أَحَدٍ أَوْ حَيَاةِ أَحَدٍ.
قَوْلُهُ: (مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَهِشَامٍ) سَاقَهُ عَلَى لَفْظِ الزُّهْرِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ رِوَايَةُ هِشَامٍ مُفْرَدَةً فِي الْبَابِ الثَّانِي، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ هُنَاكَ. وَبَيَّنَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ أَنَّ فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ مِنَ الزِّيَادَةِ فَتَصَدَّقُوا وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ أَيْضًا.
14 - بَاب الذِّكْرِ فِي الْكُسُوفِ
رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما
1059 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: خَسَفَتْ الشَّمْسُ فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَزِعًا يَخْشَى أَنْ تَكُونَ السَّاعَةُ فَأَتَى الْمَسْجِدَ فَصَلَّى بِأَطْوَلِ قِيَامٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ ما رَأَيْتُهُ قَطُّ يَفْعَلُهُ وَقَالَ: هَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي يُرْسِلُ اللَّهُ لَا تَكُونُ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ وَلَكِنْ {يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ} فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَافْزَعُوا إِلَى ذِكْرِهِ وَدُعَائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الذِّكْرِ فِي الْكُسُوفِ رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ) أَيْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُهُ بِلَفْظِ فَاذْكُرُوا اللَّهَ.
قَوْلُهُ: (فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَزِعًا) بِكَسْرِ الزَّايِ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ، وَيَجُوزُ الْفَتْحُ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الصِّفَةِ.
قَوْلُهُ: (يُخْشَى أَنْ
تَكُونَ السَّاعَةُ) بِالضَّمِّ عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ أَيْ يُخْشَى أَنْ تَحْضُرَ السَّاعَةُ، أَوْ نَاقِصَةٌ وَالسَّاعَةُ اسْمُهَا وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، أَوِ الْعَكْسِ. قِيلَ وَفِيهِ جَوَازُ الْإِخْبَارِ بِمَا يُوجِبُهُ الظَّنُّ مِنْ شَاهِدِ الْحَالِ، لِأَنَّ سَبَبَ الْفَزَعِ يَخْفَى عَنِ الْمُشَاهِدِ لِصُورَةِ الْفَزَعِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْفَزَعُ لِغَيْرِ مَا ذُكِرَ، فَعَلَى هَذَا فَيُشْكِلُ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ لِلسَّاعَةِ مُقَدِّمَاتٍ كَثِيرَةً لَمْ تَكُنْ وَقَعَتْ كَفَتْحِ الْبِلَادِ وَاسْتِخْلَافِ الْخُلَفَاءِ وَخُرُوجِ الْخَوَارِجِ. ثُمَّ الْأَشْرَاطُ كَطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَالدَّابَّةِ وَالدَّجَّالِ وَالدُّخَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ قِصَّةُ الْكُسُوفِ وَقَعَتْ قَبْلَ إِعْلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذِهِ الْعَلَامَاتِ، أَوْ لَعَلَّهُ خَشِيَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَعْضَ الْمُقَدِّمَاتِ، أَوْ أَنَّ الرَّاوِيَ ظَنَّ أَنَّ الْخَشْيَةَ لِذَلِكَ وَكَانَتْ لِغَيْرِهِ كَعُقُوبَةٍ تَحْدُثُ كَمَا كَانَ يُخْشَى عِنْدَ هُبُوبِ الرِّيحِ. هَذَا حَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ تَبَعًا لِغَيْرِهِ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّاعَةِ غَيْرُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَيِ السَّاعَةُ الَّتِي جُعِلَتْ عَلَامَةً عَلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، كَمَوْتِهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَفِي الْأَوَّلِ نَظَرٌ لِأَنَّ قِصَّةَ الْكُسُوفِ مُتَأَخِّرَةٌ جِدًّا، فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَوْتَ إِبْرَاهِيمَ كَانَ فِي الْعَاشِرَةِ كَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْأَخْبَارِ، وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكَثِيرٍ مِنْ الْأَشْرَاطِ وَالْحَوَادِثِ قَبْلَ ذَلِكَ. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَتَحْسِينُ الظَّنِّ بِالصَّحَابِيِّ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُجْزَمُ بِذَلِكَ إِلَّا بِتَوْقِيفٍ.
وَأَمَّا الرَّابِعُ فَلَا يَخْفَى بُعْدَهُ. وَأَقْرَبُهَا الثَّانِي فَلَعَلَّهُ خَشِيَ أَنْ يَكُونَ الْكُسُوفُ مُقَدِّمَةً لِبَعْضِ الْأَشْرَاطِ كَطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَلَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَتَخَلَّلَ بَيْنَ الْكُسُوفِ وَالطُّلُوعِ الْمَذْكُورِ أَشْيَاءُ مِمَّا ذُكِرَ وَتَقَعُ مُتَتَالِيَةً بَعْضُهَا إِثْرَ بَعْضٍ مَعَ اسْتِحْضَارِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَخْرُجَ عَلَى مَسْأَلَةِ دُخُولِ النَّسْخِ فِي الْأَخْبَارِ فَإِذَا قِيلَ بِجَوَازِ ذَلِكَ زَالَ الْإِشْكَالُ.
وَقِيلَ لَعَلَّهُ قَدَّرَ وُقُوعَ الْمُمْكِنِ لَوْلَا مَا أَعْلَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ قَبْلَ الْأَشْرَاطِ تَعْظِيمًا مِنْهُ لِأَمْرِ الْكُسُوفِ لِيَتَبَيَّنَ لِمَنْ يَقَعُ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ ذَلِكَ كَيْفَ يَخْشَى وَيَفْزَعُ لَا سِيَّمَا إِذَا وَقَعَ لَهُمْ ذَلِكَ بَعْدَ حُصُولِ الْأَشْرَاطِ أوْ أَكْثَرِهَا. وَقِيلَ لَعَلَّ حَالَةَ اسْتِحْضَارِ إِمْكَانِ الْقُدْرَةِ غَلَبَتْ عَلَى اسْتِحْضَارِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الشُّرُوطِ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْأَشْرَاطُ كَانَتْ مَشْرُوطَةً بِشَرْطٍ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهُ فَيَقَعُ الْمَخُوفُ بِغَيْرِ أَشْرَاطٍ لِفَقْدِ الشَّرْطِ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (هَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي يُرْسِلُ اللَّهُ) ثُمَّ قَالَ (وَلَكِنْ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ) مُوَافِقٌ لِقولِهِ تَعَالَى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا} وَمُوَافِقٌ لِمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ، وَاسْتُدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمُبَادَرَةِ إِلَى الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِالْكُسُوفَيْنِ لِأَنَّ الْآيَاتِ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ الِاسْتِسْقَاءِ. وَلَمْ يَقَعْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ ذِكْرُ الصَّلَاةِ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِمَنْ اسْتَحَبَّهَا عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ.
قَوْلُهُ: (إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ إِلَى ذِكْرِهِ وَالضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ، وَفِيهِ النَّدْبُ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ عِنْدَ الْكُسُوفِ وَغَيْرِهِ لِأَنَّهُ مِمَّا يُدْفَعُ بِهِ الْبَلَاءُ.
15 - بَاب الدُّعَاءِ فِي الْخُسُوفِ
قَالَهُ أَبُو مُوسَى، وَعَائِشَةُ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
1060 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَائِدَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ عِلَاقَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ يَقُولُ: انْكَسَفَتْ الشَّمْسُ يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ، فَقَالَ النَّاسُ: انْكَسَفَتْ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَادْعُوا اللَّهَ وَصَلُّوا حَتَّى يَنْجَلِيَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الدُّعَاءِ فِي الْكُسُوفِ) فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَأَبِي الْوَقْتِ فِي الْخُسُوفِ.
قَوْلُهُ: (قَالَهُ أَبُو مُوسَى، وَعَائِشَةُ) يُشِيرُ إِلَى حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الَّذِي قَبْلَهُ، وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَوَقَعَ الْأَمْرُ فِيهِ بِالدُّعَاءِ مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ وَهُوَ فِي الْبَابِ الثَّانِي، وَوَرَدَ الْأَمْرُ بِالدُّعَاءِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ وَغَيْرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ الذِّكْرَ وَالدُّعَاءَ عَلَى الصَّلَاةِ لِكَوْنِهِمَا مِنْ أَجْزَائِهَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ جُمِعَ بَيْنَهُمَا فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ حَيْثُ قَالَ: فَصَلُّوا وَادْعُوا، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ وَكَبِّرُوهُ وَسَبِّحُوهُ وَهَلِّلُوهُ وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ.
16 - بَاب قَوْلِ الْإِمَامِ فِي خُطْبَةِ الْكُسُوفِ: أَمَّا بَعْدُ
1061 -
وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ: أَخْبَرَتْنِي فَاطِمَةُ بِنْتُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ: فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ تَجَلَّتْ الشَّمْسُ، فَخَطَبَ فَحَمِدَ اللَّهَ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ الْإِمَامِ فِي خُطْبَةِ الْكُسُوفِ: أَمَّا بَعْدُ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَسْمَاءَ مُخْتَصَرًا مُعَلِّقًا فَقَالَ: وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مُطَوَّلًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ، وَوَقَعَ فِيهِ هُنَا فِي رِوَايَةِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ السَّكَنِ وَهْمٌ نَبَّهَ عَلَيْهِ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ وَذَلِكَ أَنَّهُ أَدْخَلَ - بَيْنَ هِشَامٍ وَفَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ - عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ وَالصَّوَابُ حَذْفُهُ. قُلْتُ: لَعَلَّهُ كَانَ عِنْدَهُ هِشَامُ بْنُ عُرْوةَ بْنِ الزُّبَيْرِ فَتَصَحَّفَتْ ابْنَ فَصَارَتْ عَنْ وَذَلِكَ مِنَ النَّاسِخِ، وَإِلَّا فَابْنُ السَّكَنِ مِنَ الْحُفَّاظِ الْكِبَارِ. وَفِيهِ تَأْيِيدٌ لِمَنِ اسْتَحَبَّ لِصَلَاةِ الْكُسُوفِ خُطْبَةً كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِهِ.
17 - بَاب الصَّلَاةِ فِي كُسُوفِ الْقَمَرِ
1062 -
حَدَّثَنَا مَحْمُودُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: انْكَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ.
1063 -
حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنْ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: خَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَخَرَجَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْمَسْجِدِ، وَثَابَ النَّاسُ إِلَيْهِ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ فَانْجَلَتْ الشَّمْسُ، فَقَالَ: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، وَإِنَّهُمَا لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَإِذَا كَانَ ذَاكَ فَصَلُّوا وَادْعُوا حَتَّى يُكْشَفَ مَا بِكُمْ وَذَاكَ أَنَّ ابْنًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَاتَ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ، فَقَالَ النَّاسُ فِي ذَاكَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّلَاةِ فِي كُسُوفِ الْقَمَرِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي بَكْرَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ مُخْتَصَرًا وَمُطَوَّلًا، وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْمُخْتَصَرَ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْقَمَرِ لَا بِالتَّنْصِيصِ وَلَا بِالِاحْتِمَالِ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الْمُخْتَصَرَ بَعْضُ الْحَدِيثِ الْمُطَوَّلِ، وَأَمَّا الْمُطَوَّلُ فَيُؤْخَذُ الْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَصَلُّوا بَعْدَ قَوْلِهِ: إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ مَا هُوَ أَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ، فَعِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ نُوحِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ فِي
هَذَا الْحَدِيثِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَعِنْدَهُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَإِذَا انْكَسَفَ أَحَدُهُمَا وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ أَبِي مَسْعُودٍ بِلَفْظِ كُسُوفُ أَيِّهِمَا انْكَسَفَ وَفِي ذَلِكَ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: لَا تَنْدُبُ الْجَمَاعَةُ فِي كُسُوفِ الْقَمَرِ، وَفُرِّقَ بِوُجُودِ الْمَشَقَّةِ فِي اللَّيْلِ غَالِبًا دُونَ النَّهَارِ وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِي كُسُوفِ الْقَمَرِ وَلَفْظُهُ مِنْ طَرِيقِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ، عَنْ أَشْعَثَ بِإِسْنَادِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ صَلَّى فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ رَكْعَتَيْنِ مِثْلَ صَلَاتِكُمْ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا، وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ أَطْلَقَ كَابْنِ رَشِيدٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُصَلِّ فِيهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَوَّلَ قَوْلَهُ صَلَّى أَيْ أَمَرَ بِالصَّلَاةِ، جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْهُدَى: لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ صَلَّى فِي كُسُوفِ الْقَمَرِ فِي جَمَاعَةٍ، لَكِنْ حَكَى ابْنُ حِبَّانَ فِي السِّيرَةِ لَهُ أَنَّ الْقَمَرَ خَسَفَ فِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ فَصَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْكُسُوفِ وَكَانَتْ أَوَّلَ صَلَاةِ كُسُوفٍ فِي الْإِسْلَامِ، وَهَذَا إِنْ ثَبَتَ انْتَفَى التَّأْوِيلُ الْمَذْكُورُ، وَقَدْ جَزَمَ بِهِ مُغَلْطَايْ فِي سِيرَتِهِ الْمُخْتَصَرَةِ وَتَبِعَهُ شَيْخُنَا فِي نَظْمِهَا.
(تَنْبِيهٌ): حَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ هَذَا انْكَسَفَ الْقَمَرُ بَدَلَ الشَّمْسِ، وَهَذَا تَغْيِيرٌ لَا مَعْنَى لَهُ، وَكَأَنَّهُ عَسِرَتْ عَلَيْهِ مُطَابَقَةُ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ فَظَنَّ أَنَّ لَفْظَهُ مُغَيَّرٌ فَغَيَّرَهُ هُوَ إِلَى مَا ظَنَّهُ صَوَابًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
18 - بَاب الرَّكْعَةُ الْأُولَى فِي الْكُسُوفِ أَطْوَلُ
1064 -
حَدَّثَنَا مَحْمُودُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهِمْ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي سَجْدَتَيْنِ، الْأَوَّلُ الْأَوَّلُ أَطْوَلُ.
قَوْلُهُ: (بَابٌ الرَّكْعَةُ الْأُولَى فِي الْكُسُوفِ أَطْوَلُ) كَذَا وَقَعَ هُنَا لِلْحَمَوِيِّ، ولِلكُشْمِيهَنِيِّ، وَوَقَعَ بَدَلُهُ لِلْمُسْتَمْلِي بَابُ صَبِّ الْمَرْأَةِ عَلَى رَأْسِهَا الْمَاءَ إِذَا أَطَالَ الْإِمَامُ الْقِيَامَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ وَقَعَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ تَخْلِيطٌ مِنَ الرُّوَاةِ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ الْمَذْكُورُ مُطَابِقٌ لِلتَّرْجَمَةِ الْأُولَى قَطْعًا، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَحَقُّهَا أَنْ تُذْكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ تَرْجَمَ بِهَا وَأَخْلَى بَيَاضًا لِيَذْكُرَ لَهَا حَدِيثًا أَوْ طَرِيقًا كَمَا جَرَتْ عَادَتُهُ فَلَمْ يَحْصُلْ غَرَضُهُ فَضَمَّ بَعْضَ الْكِتَابَةِ إِلَى بَعْضٍ فَنَشَأَ هَذَا، وَالْأَلْيَقُ بِهَا حَدِيثُ أَسْمَاءَ الْمَذْكُورُ قَبْلَ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ فَهُوَ نَصٌّ فِيهِ. انْتَهَى.
وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرَهُ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ شَبُّوَيْهِ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ فَإِنَّهُ ذَكَرَ بَابَ صَبِّ الْمَرْأَةِ أَوَّلًا وَقَالَ فِي الْحَاشِيَةِ: لَيْسَ فِيهِ حَدِيثٌ، ثُمَّ ذَكَرَ بَابُ الرَّكْعَةِ الْأُولَى أَطْوَلُ وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ، وَكَذَا صَنَعَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي مُسْتَخْرَجِهِ. فَعَلَى هَذَا فَالَّذِي وَقَعَ مِنْ صَنِيعِ شُيُوخِ أَبِي ذَرٍّ مِنِ اقْتِصَارِ بَعْضِهِمْ عَلَى إِحْدَى التَّرْجَمَتَيْنِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، أَمَّا مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى الْأُولَى وَهُوَ الْمُسْتَمْلِي فَخَطَأٌ مَحْضٌ، إِذْ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ، وَأَمَّا الْآخَرَانِ فَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُمَا حَذَفَا التَّرْجَمَةَ أَصْلًا، وَكَأَنَّهُمَا اسْتَشْكَلَاهَا فَحَذَفَاهَا، وَلِهَذَا حُذِفَتْ مِنْ رِوَايَةِ كَرِيمَةَ أَيْضًا عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَكَذَا مِنْ رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ) هُوَ الزُّبَيْرِيُّ، وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَهَذَا الْمَتْنُ طَرَفٌ مِنَ الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ الْمَاضِي فِي بَابِ صَلَاةِ الْكُسُوفِ فِي الْمَسْجِدِ وَكَأَنَّهُ مُخْتَصَرٌ مِنْهُ بِالْمَعْنَى فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ وَقَالَ فِي هَذَا أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ فِي سَجْدَتَيْنِ الْأُولَى أَطْوَلُ وَقَدْ رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِلَفْظِ الْأُولَى فَالْأُولَى أَطْوَلُ وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ: إِنَّ الْقِيَامَ الْأَوَّلَ مِنَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ يَكُونُ دُونَ الْقِيَامِ الثَّانِي مِنَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَقَدْ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الرَّكْعَةَ الْأُولَى بِقِيَامِهَا وَرُكُوعَيْهَا تَكُونُ أَطْوَلَ مِنَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بِقِيَامِهَا وَرُكُوعَيْهَا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ
الْقِيَامَ الثَّانِيَ وَرُكُوعَهُ فِيهِمَا أَقْصَرُ مِنَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ وَرُكُوعِهِ فِيهِمَا، وَاخْتَلَفُوا فِي الْقِيَامِ الْأَوَّلِ مِنَ الثَّانِيَةِ وَرُكُوعِهِ هَلْ هُمَا أَقْصَرُ مِنَ الْقِيَامِ الثَّانِي مِنَ الْأُولَى وَرُكُوعِهِ أَوْ يَكُونَانِ سَوَاءً؟ قِيلَ: وَسَبَبُ هَذَا الْخِلَافِ فَهْمُ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ هَلِ الْمُرَادُ بِهِ الْأَوَّلُ مِنَ الثَّانِيَةِ أَوْ يَرْجِعُ إِلَى الْجَمِيعِ فَيَكُونَ كُلُّ قِيَامٍ دُونَ الَّذِي قَبْلَهُ. وَرِوَايَةُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ تُعَيِّنُ هَذَا الثَّانِيَ، وَيُرَجِّحُهُ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ الْقِيَامُ الْأَوَّلُ أَوَّلُ قِيَامٍ مِنَ الْأُولَى فَقَطْ لَكَانَ الْقِيَامُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ مَسْكُوتًا عَنْ مِقْدَارِهِمَا، فَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ فَائِدَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
19 - بَاب الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِي الْكُسُوفِ
1065 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ نَمِرٍ سَمِعَ ابْنَ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: جَهَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي صَلَاةِ الْخُسُوفِ بِقِرَاءَتِهِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَتِهِ كَبَّرَ فَرَكَعَ وَإِذَا رَفَعَ مِنْ الرَّكْعَةِ قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ. ثُمَّ يُعَاوِدُ الْقِرَاءَةَ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي رَكْعَتَيْنِ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ.
1066 -
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَغَيْرُهُ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ الشَّمْسَ خَسَفَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَبَعَثَ مُنَادِيًا بالصَّلَاةِ جَامِعَةٌ، فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي رَكْعَتَيْنِ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ. وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ نَمِرٍ سَمِعَ ابْنَ شِهَابٍ مِثْلَهُ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَقُلْتُ مَا صَنَعَ أَخُوكَ ذَلِكَ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ مَا صَلَّى إِلَّا رَكْعَتَيْنِ مِثْلَ الصُّبْحِ إِذْ صَلَّى بِالْمَدِينَةِ. قَالَ: أَجَلْ، إِنَّهُ أَخْطَأَ السُّنَّةَ. تَابَعَهُ سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ وَسُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ فِي الْجَهْرِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِي الْكُسُوفِ) أَيْ: سَوَاءٌ كَانَ لِلشَّمْسِ أَوِ الْقَمَرِ.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا ابْنُ نَمِرٍ) بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْمِيمِ، اسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ دِمَشْقِيٌّ وَثَّقَهُ دُحَيْمٌ، وَالذُّهْلِيُّ، وَابْنُ الْبَرْقِيِّ وَآخَرُونَ، وَضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ الْوَلِيدِ وَلَيْسَ لَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ غَيرُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ تَابَعَهُ عَلَيْهِ الْأَوْزَاعِيُّ وَغَيْرُهُ.
قَوْلُهُ: (جَهَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي صَلَاةِ الْخُسُوفِ بِقِرَاءَتِهِ) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى الْجَهْرِ فِيهَا بِالنَّهَارِ، وَحَمَلَهُ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ لَمْ يَرَ بِذَلِكَ عَلَى كُسُوفِ الْقَمَرِ، وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ الْإِسْمَاعِيلِيَّ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْوَلِيدِ بِلَفْظِ كَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَكَذَا رِوَايَةُ الْأَوْزَاعِيِّ الَّتِي بَعْدَهُ صَرِيحَةٌ فِي الشَّمْسِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَغَيْرُهُ سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ إِلَخْ) وَصَلَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ وَغَيْرُهُ فَذَكَرَهُ، وَأَعَادَ الْإِسْنَادَ إِلَى الْوَلِيدِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ نَمِرٍ فَذَكَرَهُ، وَزَادَ فِيهِ مُسْلِمٌ طَرِيقَ كَثِيرِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أَخِيهِ وَلَمْ يَذْكُرْ قِصَّةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ عَلَى ضَعْفِ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَمِرٍ فِي الْجَهْرِ بِأَنَّ الْأَوْزَاعِيَّ لَمْ يَذْكُرْ فِي رِوَايَتِهِ الْجَهْرَ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ مَنْ ذَكَرَ حُجَّةً عَلَى مَنْ لَمْ يَذْكُرْ، لَا سِيَّمَا وَالَّذِي لَمْ يَذْكُرْهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِنَفْيِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ الْجَهْرُ فِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالْحَاكِمِ مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ مَزِيدٍ عَنْهُ، وَوَافَقَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ كَمَا تَرَى.
قَوْلُهُ: (قَالَ أَجَلْ) أَيْ نَعَمْ وَزْنًا وَمَعْنًى، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مِنْ أَجْلٍ بِسُكُونِ الْجِيمِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَقَوْلُهُ:
إِنَّهُ أَخْطَأَ بِكَسْرِ هَمْزَةِ إِنَّهُ وَعَلَى الثَّانِي بِفَتْحِهَا.
قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ، وَسُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي الْجَهْرِ) يَعْنِي بِإِسْنَادِهِ الْمَذْكُورِ، وَرِوَايَةُ سُلَيْمَانَ وَصَلَهَا أَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ عَنْهُ بِلَفْظِ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَكَبَّرَ ثُمَّ كَبَّرَ النَّاسُ ثُمَّ قَرَأَ فَجَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ الْحَدِيثَ، وَرَوَيْنَاهُ فِي مُسْنَدِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ كَثِيرٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مُخْتَصَرًا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ وَأَمَّا رِوَايَةُ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ فَوَصَلَهَا التِّرْمِذِيُّ، وَالطَّحَاوِيُّ بِلَفْظِ صَلَّى صَلَاةَ الْكُسُوفِ وَجَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ فِيهَا وَقَدْ تَابَعَهُمْ عَلَى ذِكْرِ الْجَهْرِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عُقَيْلٌ عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاشِدٍ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَهَذِهِ طُرُقٌ يُعَضِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا يُفِيدُ مَجْمُوعُهَا الْجَزْمَ بِذَلِكَ فَلَا مَعْنَى لِتَعْلِيلِ مَنْ أَعَلَّهُ بِتَضْعِيفِ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ وَغَيْرِهِ، فَلَوْ لَمْ يَرِدْ فِي ذَلِكَ إِلَّا رِوَايَةُ الْأَوْزَاعِيِّ لَكَانَتْ كَافِيَةً، وَقَدْ وَرَدَ الْجَهْرُ فِيهَا عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ بِهِ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ مُحَدِّثِي الشَّافِعِيَّةِ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: يُخَيَّرُ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ، وَقَالَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ: يُسِرُّ فِي الشَّمْسِ وَيَجْهَرُ فِي الْقَمَرِ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَرَأَ نَحْوًا مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لِأَنَّهُ لَوْ جَهَرَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَقْدِيرٍ، وَتُعُقِّبَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ بَعِيدًا مِنْهُ، لَكِنْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ تَعْلِيقًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ صَلَّى بِجَنْبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْكُسُوفِ فَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ حَرْفًا، وَوَصَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ ثَلَاثَةِ طُرُقٍ أَسَانِيدُهَا وَاهِيَةٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهَا فَمُثْبِتُ الْجَهْرِ مَعَهُ قَدْرٌ زَائِدَةٌ فَالْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى، وَإِنْ ثَبَتَ الْعَدَدُ فَيَكُونُ فَعَلَ ذَلِكَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَهَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَالتِّرْمِذِيِّ لَمْ يَسْمَعْ لَهُ صَوْتًا وَأَنَّهُ إِنْ ثَبَتَ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْجَهْرِ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْجَهْرُ عِنْدِي أَوْلَى لِأَنَّهَا صَلَاةٌ جَامِعَةٌ يُنَادَى لَهَا وَيُخْطَبُ فَأَشْبَهَتِ الْعِيدَ وَالِاسْتِسْقَاءَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَتْ أَبْوَابُ الْكُسُوفِ عَلَى أَرْبَعِينَ حَدِيثًا نِصْفُهَا مَوْصُولٌ وَنِصْفُهَا مُعَلَّقٌ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ، وَالْخَالِصُ ثَمَانِيَةٌ. وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ، وَحَدِيثِ أَسْمَاءَ فِي الْعَتَاقَةِ، وَرِوَايَةِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ الْأُولَى أَطْوَلُ لَكِنَّهُ أَخْرَجَ أَصْلَهُ. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ خَمْسَةُ آثَارٍ فِيهَا أَثَرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَفِيهَا أَثَرُ عُرْوَةَ فِي تَخْطِئَتِهِ، وَهُمَا مَوْصُولَانِ.
بسم الله الرحمن الرحيم
17 - كِتَاب سُجُودِ الْقُرْآنِ
1 - باب مَا جَاءَ فِي سُجُودِ الْقُرْآنِ وَسُنَّتِهَا
1067 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْأَسْوَدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: قَرَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم النَّجْمَ بِمَكَّةَ فَسَجَدَ فِيهَا وَسَجَدَ مَنْ مَعَهُ، غَيْرَ شَيْخٍ أَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصًى أَوْ تُرَابٍ فَرَفَعَهُ إِلَى جَبْهَتِهِ وَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا، فَرَأَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ قُتِلَ كَافِرًا.
[الحديث 1067 - أطرافه في: 4863. 3972. 3853. 1070]
قَوْلُهُ: (أَبْوَابُ سُجُودِ الْقُرْآنِ) كَذَا لِلْمُسْتَمْلِي، وَلِغَيْرِهِ بَاب مَا جَاءَ فِي سُجُودِ الْقُرْآنِ وَسُنَّتِهَا أَيْ سُنَّةِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ، وَلِلْأَصِيلِيِّ وَسُنَّتِهِ. وَسَيَأْتِي ذِكْرُ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِهَا فِي آخِرِ الْأَبْوَابِ. وَسَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ لِأَبِي ذَرٍّ.
وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَسْجُدُ وَفِي عَشَرَةِ مَوَاضِعَ وَهِيَ مُتَوَالِيَةٌ إِلَّا ثَانِيَةَ الْحَجِّ وَص، وَأَضَافَ مَالِكٌ ص فَقَطْ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ ثَانِيَةُ الْحَجِّ فَقَطْ، وَفِي الْجَدِيدِ هِيَ وَمَا فِي الْمُفَصَّلِ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَعَنْ أَحْمَدَ مِثْلُهُ فِي رِوَايَةٍ، وَفِي أُخْرَى مَشْهُورَةٍ زِيَادَةُ ص وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ، وَإِسْحَاقَ، وَابْنِ وَهْبٍ، وَابْنِ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَابْنِ سُرَيْجٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلُهُ، لَكِنْ نَفَى ثَانِيَةَ الْحَجِّ وَهُوَ قَوْلُ دَاوُدَ، وَوَرَاءَ ذَلِكَ أَقْوَالٌ أُخْرَى مِنْهَا عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ الْجَمِيعُ إِلَّا ثَانِيَةَ الْحَجِّ وَالِانْشِقَاقِ، وَقِيلَ بِإِسْقَاطِهِمَا وَإِسْقَاطِ ص أَيْضًا، وَقِيلَ الْجَمِيعُ مَشْرُوعٌ وَلَكِنِ الْعَزَائِمُ الْأَعْرَافُ وَسُبْحَانَ وَثَلَاثُ الْمُفَصَّلِ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الم تَنْزِيلُ وحم تَنْزِيلُ وَالنَّجْمِ وَاقْرَأْ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلُهُ بِإِسْقَاطِ اقْرَأْ، وَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ مِثْلُهُ لَكِنْ بِإِسْقَاطِ النَّجْمِ وَإِثْبَاتِ الْأَعْرَافِ وَسُبْحَانَ، وَعَنْ عَلِيٍّ مَا وَرَدَ الْأَمْرُ فِيهِ بِالسُّجُودِ عَزِيمَةً، وَقِيلَ يُشْرَعُ السُّجُودُ عِنْدَ كُلِّ لَفْظٍ وَقَعَ فِيهِ الْأَمْرُ بِالسُّجُودِ أَوْ الْحَثِّ عَلَيْهِ وَالثَّنَاءِ عَلَى فَاعِلِهِ، أَوْ سِيقَ مَسَاقَ الْمَدْحِ وَهَذَا يَبْلُغُ عَدَدًا كَثِيرًا، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ الْخَشَّابِ فِي قَصِيدَتِهِ الْإِلْغَازِيَّةِ.
قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ الْأَسْوَدَ) هُوَ ابْنُ يَزِيدَ، وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ.
قَوْلُهُ: (وَسَجَدَ مَنْ مَعَهُ غَيْرَ شَيْخٍ) سَمَّاهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النَّجْمِ مِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، وَوَقَعَ فِي سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةَ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَمْ يُقْتَلْ، وَفِي تَفْسِيرِ سُنَيْدٍ: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ أَوْ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ بِالشَّكِّ وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ مَخْرَمَةَ بْنِ نَوْفَلٍ قَالَ: لَمَّا أَظْهَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْإِسْلَامَ أَسْلَمَ أَهْلُ مَكَّةَ حَتَّى إِنَّهُ كَانَ لَيَقْرَأُ السَّجْدَةَ فَيَسْجُدُونَ فَلَا يَقْدِرُ بَعْضُهُمْ أَنْ يَسْجُدَ مِنَ الزِّحَامِ، حَتَّى قَدِمَ رُؤَسَاءُ قُرَيْشٍ: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَأَبُو جَهْلٍ وَغَيْرُهُمَا، وَكَانُوا بِالطَّائِفِ، فَرَجَعُوا وَقَالُوا: تَدَعُونَ دِينَ آبَائِكُمْ. لَكِنْ فِي ثُبُوتِ هَذَا نَظَرٌ، لِقَوْلِ أَبِي سُفْيَانَ فِي الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ: إِنَّهُ لَمْ يَرْتَدَّ أَحَدٌ مِمَّنْ أَسْلَمَ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْمَعَ بِأَنَّ النَّفْيَ مُقَيَّدٌ بِمَنِ ارْتَدَّ سَخَطًا لَا بِسَبَبِ مُرَاعَاةِ خَاطِرِ رُؤَسَائِهِ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ الَّذِي رَفَعَ التُّرَابَ فَسَجَدَ عَلَيْهِ هُوَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ أَبُو أُحَيْحَةَ وَتَبِعَهُ النَّحَّاسُ، وَذَكَرَ أَبُو حَيَّانَ شَيْخُ شُيُوخِنَا فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّهُ أَبُو لَهَبٍ وَلَمْ يَذْكُرْ مُسْتَنَدَهُ، وَفِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سَجَدُوا فِي النَّجْمِ إِلَّا رَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ أَرَادَا بِذَلِكَ الشُّهْرَةَ.
وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ قَالَ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّجْمَ، فَسَجَدَ وَسَجَدَ
مَنْ مَعَهُ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي وَأَبَيْتُ أَنْ أَسْجُدَ وَلَمْ يَكُنِ الْمُطَّلِبُ يَوْمَئِذٍ أَسْلَمَ. وَمَهْمَا ثَبَتَ مِنْ ذَلِكَ فَلَعَلَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَمْ يَرَهُ أَوْ خَصَّ وَاحِدًا بِذِكْرِهِ لِاخْتِصَاصِهِ بِأَخْذِ الْكَفِّ مِنَ التُّرَابِ دُونَ غَيْرِهِ. وَأَفَادَ الْمُصَنِّفُ فِي رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ أَنَّ النَّجْمَ أَوَّلُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ فِيهَا سَجْدَةٌ، وَهَذَا هُوَ السِّرُّ فِي بَدَاءَةِ الْمُصَنِّفِ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} أَوَّلُ السُّوَرِ نُزُولًا وَفِيهَا أَيْضًا سَجْدَةٌ فَهِيَ سَابِقَةٌ عَلَى النَّجْمِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ السَّابِقَ مِنِ اقْرَأْ أَوَائِلُهَا، وَأَمَّا بَقِيَّتُهَا فَنَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ. بِدَلِيلِ قِصَّةِ أَبِي جَهْلٍ فِي نَهْيِهِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الصَّلَاةِ، أَوِ الْأَوَّلِيَّةُ مُقَيَّدَةٌ بِشَيْءٍ مَحْذُوفٍ بَيَّنَتْهُ رِوَايَةُ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ بِلَفْظِ أَنَّ أَوَّلَ سُورَةٍ اسْتَعْلَنَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّجْمِ وَلَهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْكَبِيرِ
(1)
بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ? أَوَّلُ سُورَةٍ تَلَاهَا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَذَكَرَهُ، فَيُجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ الثَّلَاثِ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَوَّلُ سُورَةٍ فِيهَا سَجْدَةٌ تَلَاهَا جَهْرًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ. وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النَّجْمِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
2 - بَاب سَجْدَةِ تَنْزِيلُ السَّجْدَةُ
1068 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْجُمُعَةِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةُ، وَهَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ.
قوله (بَابُ سَجْدَةِ تَنْزِيلِ السَّجْدَةِ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَجْمَعُوا عَلَى السُّجُودِ فِيهَا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي السُّجُودِ بِهَا فِي الصَّلَاةِ. انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ وَعَلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ مُسْتَوْفًى.
3 - بَاب سَجْدَةِ ص
1069 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَبُو النُّعْمَانِ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: ص لَيْسَ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ، وَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْجُدُ فِيهَا.
[الحديث 1069 - طرفه في 3422]
قَوْلُهُ: (بَابُ سَجْدَةِ ص) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ ص لَيْسَ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ يَعْنِي السُّجُودَ فِي ص إِلَى آخِرِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْعَزَائِمِ مَا وَرَدَتِ الْعَزِيمَةُ عَلَى فِعْلِهِ كَصِيغَةِ الْأَمْرِ مَثَلًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْمَنْدُوبَاتِ آكَدُ مِنْ بَعْضٍ عِنْدَ مَنْ لَا يَقُولُ بِالْوُجُوبِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ: أَنَّ الْعَزَائِمَ حم وَالنَّجْمِ وَاقْرَأْ والم تَنْزِيلُ. وَكَذَا ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُخَرِ، وَقِيلَ: الْأَعْرَافُ وَسُبْحَانَ وحم والم، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ.
قَوْلُهُ: (وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْجُدُ فِيهَا) وَقَعَ فِي تَفْسِيرِ ص عِنْدَ الْمُصَنِّفِ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ: مِنْ أَيْنَ سَجَدْتَ فِي ص، وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ أَيْنَ أَخَذْتَ سَجْدَةَ ص، ثُمَّ اتَّفَقَا فَقَالَ:{وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} فَفِي هَذَا أَنَّهُ اسْتَنْبَطَ مَشْرُوعِيَّةَ السُّجُودِ فِيهَا
(1)
بهامش طبعة بولاق: في نسخة "عبدالكريم".
مِنَ الْآيَةِ، وَفِي الْأَوَّلِ أَنَّهُ أَخَذَهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ اسْتَفَادَهُ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ. وَقَدْ وَقَعَ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ فِي آخِرِهِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَبِيُّكُمْ مِمَّنْ أُمِرَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ فَاسْتُنْبِطَ وَجْهُ سُجُودِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا مِنَ الْآيَةِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ كَوْنُ السَّجْدَةِ الَّتِي فِي ص إِنَّمَا وَرَدَتْ بِلَفْظِ الرُّكُوعِ، فَلَوْلَا التَّوْقِيفُ مَا ظَهَرَ أَنَّ فِيهَا سَجْدَةً. وَفِي النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا سَجَدَهَا دَاوُدُ تَوْبَةً، وَنَحْنُ نَسْجُدُهَا شُكْرًا، فَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ: شُكْرًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْجُدُ فِيهَا فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ سُجُودَ الشَّاكِرِ لَا يُشْرَعُ دَاخِلَ الصَّلَاةِ.
وَلِأَبِي دَاوُدَ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ ص، فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَةَ نَزَلَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ، ثُمَّ قَرَأَهَا فِي يَوْمٍ آخَرَ فَتَهَيَّأَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ فَقَالَ: إِنَّمَا هِيَ تَوْبَةُ نَبِيٍّ، وَلَكِنِّي رَأَيْتُكُمْ تَهَيَّأْتُمْ فَنَزَلَ وَسَجَدَ وَسَجَدُوا مَعَهُ فَهَذَا السِّيَاقُ يُشْعِرُ بِأَنَّ السُّجُودَ فِيهَا لَمْ يُؤَكَّدْ كَمَا أُكِّدَ فِي غَيْرِهَا، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ السُّجُودِ عِنْدَ قَوْلِهِ:{وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} بِأَنَّ الرُّكُوعَ عِنْدَهَا يَنُوبُ عَنِ السُّجُودِ، فَإِنْ شَاءَ الْمُصَلِّي رَكَعَ بِهَا وَإِنْ شَاءَ سَجَدَ، ثُمَّ طَرَدَهُ فِي جَمِيعِ سَجَدَاتِ التِّلَاوَةِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ.
4 - بَاب سَجْدَةِ النَّجْمِ
قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
1070 -
حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ فَسَجَدَ بِهَا، فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ مِنْ الْقَوْمِ إِلَّا سَجَدَ، فَأَخَذَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ كَفًّا مِنْ حَصًى أَوْ تُرَابٍ فَرَفَعَهُ إِلَى وَجْهِهِ وَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا. فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدُ قُتِلَ كَافِرًا.
قَوْلُهُ: (بَابُ سَجْدَةِ النَّجْمِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَأْتِي مَوْصُولًا فِي الَّذِي يَلِيهِ. وَالْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ يَأْتِي فِي التَّفْسِيرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ وَضَعَ جَبْهَتَهُ عَلَى كَفِّهِ وَنَحْوِهِ لَا يُعَدُّ سَاجِدًا حَتَّى يَضَعَهَا بِالْأَرْضِ، وَفِيهِ نَظَرٌ.
5 - بَاب سُجُودِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ،
وَالْمُشْرِكُ نَجَسٌ لَيْسَ لَهُ وُضُوءٌ
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَسْجُدُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ
1071 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَجَدَ بِالنَّجْمِ، وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ، وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ.
وَرَوَاهُ ابْنُ طَهْمَانَ عَنْ أَيُّوبَ.
[الحديث 1071 - طرفه في: 4862]
قَوْلُهُ: (بَابُ سُجُودِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَالْمُشْرِكُ نَجَسٌ لَيْسَ لَهُ وُضُوءٌ) قَالَ ابْنُ التِّينِ: رُوِّينَا قَوْلَهُ: نَجَسٌ بِفَتْحِ النُّونِ وَالْجِيمِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: تُسَكَّنُ الْجِيمُ إِذَا ذُكِرَتِ اتِّبَاعًا فِي قَوْلِهِمْ: رِجْسٌ نَجَسٌ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَسْجُدُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ بِحَذْفِ غَيْرِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، فَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ رَجُلٍ زَعَمَ أَنَّهُ كَنَفْسِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَنْزِلُ عَنْ رَاحِلَتِهِ
فَيُهْرِيقُ الْمَاءَ، ثُمَّ يَرْكَبُ فَيَقْرَأُ السَّجْدَةَ فَيَسْجُدُ وَمَا يَتَوَضَّأُ وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَا يَسْجُدُ الرَّجُلُ إِلَّا وَهُوَ طَاهِرٌ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: طَاهِرٌ الطَّهَارَةَ الْكُبْرَى، أَوِ الثَّانِي عَلَى حَالَةِ الِاخْتِيَارِ وَالْأَوَّلُ عَلَى الضَّرُورَةِ. وَقَدِ اعْتَرَضَ ابْنُ بَطَّالٍ عَلَى هَذِهِ التَّرْجَمَةِ فَقَالَ: إِنْ أَرَادَ الْبُخَارِيُّ الِاحْتِجَاجَ لِابْنِ عُمَرَ بِسُجُودِ الْمُشْرِكِينَ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ سُجُودَهُمْ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ لَمَّا أَلْقَى الشَّيْطَانُ إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ، قَالَ: وَإِنْ أَرَادَ الرَّدَّ عَلَى ابْنِ عُمَرَ بِقَوْلِهِ وَالْمُشْرِكُ نَجَسٌ فَهُوَ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ. وَأَجَابَ ابْنُ رَشِيدٍ بِأَنَّ مَقْصُودَ الْبُخَارِيِّ تَأْكِيدُ مَشْرُوعِيَّةِ السُّجُودِ؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكَ قَدْ أَقَرَّ عَلَى السُّجُودِ، وَسَمَّى الصَّحَابِيُّ فِعْلَهُ سُجُودًا مَعَ عَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ، فَالْمُتَأَهِّلُ لِذَلِكَ أَحْرَى بِأَنْ يَسْجُدَ عَلَى كُلِّ حَالَةٍ. وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ الَّذِي مَا سَجَدَ عُوقِبَ بِأَنْ قتلَ كَافِرًا، فَلَعَلَّ جَمِيعَ مَنْ وُفِّقَ لِلسُّجُودِ يَوْمَئِذٍ خُتِمَ لَهُ بِالْحُسْنَى فَأَسْلَمَ لِبَرَكَةِ السُّجُودِ.
قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ التَّرْجَمَةِ وَأَثَرِ ابْنِ عُمَرَ بِأَنَّهُ يَبْعُدُ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ مَنْ حَضَرَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا عِنْدَ قِرَاءَةِ الْآيَةِ عَلَى وُضُوءٍ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَأَهَّبُوا لِذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَنْ بَادَرَ مِنْهُمْ إِلَى السُّجُودِ خَوْفَ الْفَوَاتِ بِلَا وُضُوءٍ وَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ اسْتُدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى جَوَازِ السُّجُودِ بِلَا وُضُوءٍ عِنْدَ وُجُودِ الْمَشَقَّةِ بِالْوُضُوءِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ لَفْظَ الْمَتْنِ: وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ. فَسَوَّى ابْنُ عَبَّاسٍ فِي نِسْبَةِ السُّجُودِ بَيْنَ الْجَمِيعِ، وَفِيهِمْ مَنْ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الْوُضُوءُ فَيَلْزَمُ أَنْ يَصِحَّ السُّجُودُ مِمَّنْ كَانَ بِوُضُوءٍ وَمِمَّنْ لَمْ يَكُنْ بِوُضُوءٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْقِصَّةُ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا سَيَحْصُلُ لَنَا إِلْمَامٌ بِشَيْءٍ مِنْهَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْحَجِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(فَائِدَةٌ): لَمْ يُوَافِقِ ابْنَ عُمَرَ أَحَدٌ عَلَى جَوَازِ السُّجُودِ بِلَا وُضُوءٍ إِلَّا الشَّعْبِيُّ. أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ السَّجْدَةَ ثُمَّ يُسَلِّمُ
(1)
، وَهُوَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ وَهُوَ يَمْشِي يُومِئُ إِيمَاءً.
قَوْلُهُ: (سَجَدَ بِالنَّجْمِ) زَادَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِمَكَّةَ فَأَفَادَ اتِّحَادَ قِصَّةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ.
قَوْلُهُ: (وَالْجِنُّ) كَأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ اسْتَنَدَ فِي ذَلِكَ إِلَى إِخْبَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِمَّا مُشَافَهَةً لَهُ وَإِمَّا بِوَاسِطَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْضُرِ الْقِصَّةَ لِصِغَرِهِ. وَأَيْضًا فَهُوَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يَطَّلِعُ الْإِنْسَانُ عَلَيْهَا إِلَّا بِتَوْقِيفٍ وَتَجْوِيزُ أَنَّهُ كَشَفَ لَهُ عَنْ ذَلِكَ بَعِيدٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْهَا قَطْعًا.
قَوْلُهُ: (وَرَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ أَيُّوبَ) يَأْتِ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النَّجْمِ.
6 - بَاب مَنْ قَرَأَ السَّجْدَةَ وَلَمْ يَسْجُدْ
1072 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ أَبُو الرَّبِيعِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ، عَنْ ابْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ سَأَلَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رضي الله عنه، فَزَعَمَ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالنَّجْمِ فَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا.
[الحديث 1072 - طرفه في: 1073]
1073 -
حَدَّثَنَا آدَمُ عن أَبِي إِيَاسٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالنَّجْمِ، فَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا.
(1)
كذا في الأميرية والمخطوطة، ولعل الصواب "ثم يسجد" بدل "ثم يسلم"، والله أعلم.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ قَرَأَ السَّجْدَةَ وَلَمْ يَسْجُدْ) يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنِ احْتَجَّ بِحَدِيثِ الْبَابِ عَلَى أَنَّ الْمُفَصَّلَ لَا سُجُودَ فِيهِ كَالْمَالِكِيَّةِ، أَوْ أَنَّ النَّجْمَ بِخُصُوصِهِمَا لَا سُجُودَ فِيهَا كَأَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّ تَرْكَ السُّجُودِ فِيهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى تَرْكِهِ مُطْلَقًا، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ فِي التَّرْكِ إِذْ ذَاكَ إِمَّا لِكَوْنِهِ كَانَ بِلَا وُضُوءٍ أَوْ لِكَوْنِ الْوَقْتِ كَانَ وَقْتَ كَرَاهَةٍ أَوْ لِكَوْنِ الْقَارِئِ كَانَ لَمْ يَسْجُدْ كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ بَعْدَ بَابٍ، أَوْ تَرَكَ حِينَئِذٍ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَهَذَا أَرْجَحُ الِاحْتِمَالَاتِ وَبِهِ جَزَمَ الشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَأَمَرَهُ بِالسُّجُودِ وَلَوْ بَعْدَ ذَلِكَ. وَأَمَّا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْجُدْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمُفَصَّلِ مُنْذُ تَحَوَّلَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَقَدْ ضَعَّفَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ لِضَعْفٍ فِي بَعْضِ رُوَاتِهِ وَاخْتِلَافٍ فِي إِسْنَادِهِ.
وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ، فَرِوَايَةُ مَنْ أَثْبَتَ ذَلِكَ أَرْجَحُ إِذِ الْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي، فَسَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ ثُبُوتُ السُّجُودِ فِي {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} وَرَوَى الْبَزَّارُ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَجَدَ فِي سُورَةِ النَّجْمِ وَسَجَدْنَا مَعَهُ الْحَدِيثُ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي التَّفْسِيرِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ رَأَى أَبَا هُرَيْرَةَ سَجَدَ فِي خَاتِمَةِ النَّجْمِ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: إِنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْجُدُ فِيهَا وَأَبُو هُرَيْرَةَ إِنَّمَا أَسْلَمَ بِالْمَدِينَةِ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَمْرٍو أَنَّهُ سَجَدَ فِي {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} وَمِنْ طَرِيقِ نَافِعِ عن، اِبْن عُمَرَ أَنَّهُ سَجَدَ فِيهَا، وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ عَمَلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ اسْتَمَرَّ عَلَى تَرْكِ السُّجُودِ فِي الْمُفَصَّلِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَنْفِيُّ الْمُوَاظَبَةَ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُفَصَّلَ تَكْثُرُ قِرَاءَتُهُ فِي الصَّلَاةِ، فَتَرْكُ السُّجُودِ فِيهِ كَثِيرًا؛ لِئَلَّا تَخْتَلِطَ الصَّلَاةُ عَلَى مَنْ لَمْ يَفْقَهْ، أَشَارَ إِلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ مَالِكٌ فِي قَوْلِهِ بِتَرْكِ السُّجُودِ فِي الْمُفَصَّلِ أَصْلًا. وَقَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ: الْأَمْرُ بِالسُّجُودِ فِي النَّجْمِ يَنْصَرِفُ إِلَى الصَّلَاةِ، وَرُدَّ بِفِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا تَقَدَّمَ قَبْلُ.
وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ عَمَلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ اسْتَمَرَّ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى تَرْكِ السُّجُودِ فِيهَا، وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَرَأَ النَّجْمَ فِي الصَّلَاةِ فَسَجَدَ فِيهَا ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ (إِذَا زُلْزِلَتْ)، وَمِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَجَدَ فِي النَّجْمِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ مُصَغَّرٌ، وَهُوَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خُصَيْفَةَ نُسِبَ إِلَى جَدِّهِ، وَشَيْخُهُ ابْنُ قُسَيْطٍ هُوَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ الثَّانِي، وَرِجَالُ الْإِسْنَادَيْنِ مَعًا مَدَنِيُّونَ غَيْرَ شَيْخَيِ الْبُخَارِيِّ.
قَوْلُهُ: (أَنَّهُ سَأَلَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَزَعَمَ) حَذَفَ الْمَسْئُولَ عَنْهُ، وَظَاهِرُ السِّيَاقِ يُوهِمُ أَنَّ الْمَسْئُولَ عَنْهُ السُّجُودُ فِي النَّجْمِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُجْرٍ وَغَيْرِهِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ قَالَ: سَأَلْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ عَنِ الْقِرَاءَةِ مَعَ الْإِمَامِ، فَقَالَ: لَا قِرَاءَةَ مَعَ الْإِمَامِ فِي شَيْءٍ، وَزَعَمَ أَنَّهُ قَرَأَ النَّجْمَ الْحَدِيثَ. فَحَذَفَ الْمُصَنِّفُ الْمَوْقُوفَ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ غَرَضِهِ فِي هَذَا الْمَكَانِ، وَلِأَنَّهُ يُخَالِفُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فِي تَرْكِ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ وِفَاقًا لِمَنْ أَوْجَبَهَا مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ تَبَعًا لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الدَّالِّ عَلَى ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ.
قَوْلُهُ: (فَزَعَمَ) أَرَادَ أَخْبَرَ، وَالزَّعْمُ يُطْلَقُ عَلَى الْمُحَقَّقِ قَلِيلًا كَهَذَا وَعَلَى الْمَشْكُوكِ كَثِيرًا، قَدْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ، وَمِنْ شَوَاهِدِهِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
عَلَى اللَّهِ أَرْزَاقُ الْعِبَادِ كَمَا زَعَمْ
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ زَعَمَ فِي هَذَا الشِّعْرِ بِمَعْنَى ضَمِنَ وَمِنْهُ الزَّعِيمُ غَارِمٌ أَيِ الضَّامِنُ. وَاسْتَنْبَطَ بَعْضُهُمْ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ الْقَارِئَ إِذَا تَلَا عَلَى الشَّيْخِ لَا يُنْدَبُ لَهُ سُجُودُ التِّلَاوَةِ مَا لَمْ يَسْجُدِ الشَّيْخُ أَدَبًا مَعَ الشَّيْخِ وَفِيهِ نَظَرٌ.
(فَائِدَةٌ): اتَّفَقَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، وَيَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ عَلَى هَذَا الْإِسْنَادِ عَلَى ابْنِ قُسَيْطٍ، وَخَالَفَهُمَا أَبُو صَخْرٍ فَرَوَاهُ عَنِ ابْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ أَخْرَجَهُ أَبُو
دَاوُدَ، وَالطَّبَرَانِيُّ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا حُمِلَ عَلَى أَنَّ لِابْنِ قُسَيْطٍ فِيهِ شَيْخَيْنِ، وَزَادَ أَبُو صَخْرٍ فِي رِوَايَتِهِ: وَصَلَّيْتُ خَلْفَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ فَلَمْ يَسْجُدَا فِيهَا.
7 - بَاب سَجْدَةِ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ
1074 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمُ، وَمُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ، قَالَا: أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَرَأَ: إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ فَسَجَدَ بِهَا، فَقُلْتُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، أَلَمْ أَرَكَ تَسْجُدُ؟ قَالَ: لَوْ لَمْ أَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَجَدَ لَمْ أَسْجُدْ.
قَوْلُهُ: (بَابُ سَجْدَةِ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي السُّجُودِ فِيهَا. وَهِشَامٌ هُوَ ابْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الدَّسْتُوَائِيُّ، وَيَحْيَى هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ. وَقَوْلُهُ: فَسَجَدَ بِهَا فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فِيهَا وَالْبَاءُ لِلظَّرْفِ. وَقَوْلُ أَبِي سَلَمَةَ لَمْ أَرَكَ تَسْجُدُ قِيلَ هُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْعَمَلَ اسْتَمَرَّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ أَنْكَرَهُ أَبُو رَافِعٍ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهِ مَنْ لَا يَرَى السُّجُودَ بِهَا فِي الصَّلَاةِ، أَمَّا تَرْكُهَا مُطْلَقًا فَلَا. وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْمُدَّعِي أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ، وَأَبَا رَافِعٍ لَمْ يُنَازِعَا أَبَا هُرَيْرَةَ بَعْدَ أَنْ أَعْلَمَهُمَا بِالسُّنَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَا احْتَجَّا عَلَيْهِ بِالْعَمَلِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَأَيُّ عَمَلٍ يُدَّعَى مَعَ مُخَالَفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بَعْدَهُ؟
8 - بَاب مَنْ سَجَدَ لِسُجُودِ الْقَارِئِ
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، لِتَمِيمِ بْنِ حَذْلَمٍ - وَهُوَ غُلَامٌ - فَقَرَأَ عَلَيْهِ سَجْدَةً فَقَالَ
اسْجُدْ، فَأَنْتَ إِمَامُنَا فِيهَا
1075 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عن عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ عَلَيْنَا السُّورَةَ فِيهَا السَّجْدَةُ فَيَسْجُدُ وَنَسْجُدُ حَتَّى مَا يَجِدُ أَحَدُنَا مَوْضِعَ جَبْهَتِهِ.
[الحديث 1057 - طرفاه في 1076، 1079]
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ سَجَدَ سُجُودَ الْقَارِئِ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْقَارِئَ إِذَا سَجَدَ لَزِمَ الْمُسْتَمِعَ أَنْ يَسْجُدَ كَذَا أُطْلِقَ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ بَابِ قَوْلِ مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ مَشْرُوطًا بِقَصْدِ الِاسْتِمَاعِ. وَفِي التَّرْجَمَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْقَارِئَ إِذَا لَمْ يَسْجُدْ لَمْ يَسْجُدِ السَّامِعُ. وَيَتَأَيَّدُ بِمَا سَأَذْكُرُهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، لِتَمِيمِ بْنِ حَذْلَمٍ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَاللَّامِ بَيْنَهُمَا مُعْجَمَةٌ سَاكِنَةٌ.
قَوْلُهُ: (إِمَامُنَا) زَادَ الْحَمَوِيُّ فِيهَا وَهَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ رِوَايَةِ مُغِيرَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: قَالَ تَمِيمُ بْنُ حَذْلَمٍ: قَرَأْتُ الْقُرْآنَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَأَنَا غُلَامٌ، فَمَرَرْتُ بِسَجْدَةٍ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَنْتَ إِمَامُنَا فِيهَا. وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، أَنَّ غُلَامًا قَرَأَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم السَّجْدَةَ، فَانْتَظَرَ الْغُلَامُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَسْجُدَ، فَلَمَّا لَمْ يَسْجُدْ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَيْسَ فِي هَذِهِ السَّجْدَةِ سُجُودٌ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنَّكَ كُنْتَ إِمَامَنَا فِيهَا، وَلَوْ سَجَدْتَ لَسَجَدْنَا. رِجَالُهُ ثِقَاتٌ إِلَّا أَنَّهُ مُرْسَلٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: بَلَغَنِي، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، وَحَفْصِ بْنِ مَيْسَرَةَ مَعًا عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ
بِهِ. وَجَوَّزَ الشَّافِعِيُّ أَنْ يَكُونَ الْقَارِئُ الْمَذْكُورُ هُوَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ؛ لِأَنَّهُ يَحْكِي أَنَّهُ قَرَأَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَسْجُدْ، وَلِأَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ رَوَى الْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ. انْتَهَى.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) هُوَ الْقَطَّانُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْمَتْنِ فِي الْبَابِ الْأَخِيرِ.
9 - بَاب ازْدِحَامِ النَّاسِ إِذَا قَرَأَ الْإِمَامُ السَّجْدَةَ
1076 -
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ السَّجْدَةَ وَنَحْنُ عِنْدَهُ، فَيَسْجُدُ وَنَسْجُدُ مَعَهُ، فَنَزْدَحِمُ حَتَّى مَا يَجِدُ أَحَدُنَا لِجَبْهَتِهِ مَوْضِعًا يَسْجُدُ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ ازْدِحَامِ النَّاسِ إِذَا قَرَأَ الْإِمَامُ السَّجْدَةَ) أَيْ لِضِيقِ الْمَكَانِ وَكَثْرَةِ السَّاجِدِينَ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا بِشْرِ بْنِ آدَمَ) هُوَ الضَّرِيرُ الْبَغْدَادِيُّ، بَصْرِيُّ الْأَصْلِ، لَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْمَوْضِعُ الْوَاحِدُ. وَفِي طَبَقَتِهِ بِشْرُ بْنُ آدَمَ بْنِ يَزِيدَ بَصْرِيٌّ أَيْضًا وَهُوَ ابْنُ بِنْتِ أَزْهَرَ السَّمَّانِ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا مَقَالٌ. وَرَجَّحَ ابْنُ عَدِيٍّ أَنَّ شَيْخَ الْبُخَارِيِّ هُنَا هُوَ ابْنُ بِنْتِ أَزْهَرَ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَلَمْ يُخَرِّجْ لَهُ إِلَّا فِي الْمُتَابَعَاتِ، فَسَيَأْتِي مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى بَعْدَ بَابٍ وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ. وَوَافَقَهُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، سُوِيدُ بْنُ سَعِيدٍ، أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ.
10 - بَاب مَنْ رَأَى أَنَّ اللَّهَ عز وجل لَمْ يُوجِبْ السُّجُودَ
وَقِيلَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: الرَّجُلُ يَسْمَعُ السَّجْدَةَ وَلَمْ يَجْلِسْ لَهَا. قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ قَعَدَ لَهَا. كَأَنَّهُ لَا يُوجِبُهُ عَلَيْهِ: وَقَالَ سَلْمَانُ: مَا لِهَذَا غَدَوْنَا. وَقَالَ عُثْمَانُ رضي الله عنه: إِنَّمَا السَّجْدَةُ عَلَى مَنْ اسْتَمَعَهَا. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا يَسْجُدُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا، فَإِذَا سَجَدْتَ وَأَنْتَ فِي حَضَرٍ فَاسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ، فَإِنْ كُنْتَ رَاكِبًا فَلَا عَلَيْكَ حَيْثُ كَانَ وَجْهُكَ. وَكَانَ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ لَا يَسْجُدُ لِسُجُودِ الْقَاصِّ.
1077 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ التَّيْمِيِّ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهُدَيْرِ التَّيْمِيِّ - قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَكَانَ رَبِيعَةُ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ - عَمَّا حَضَرَ رَبِيعَةُ مِنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، قَرَأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ بِسُورَةِ النَّحْلِ، حَتَّى إِذَا جَاءَ السَّجْدَةَ نَزَلَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ، حَتَّى إِذَا كَانَتْ الْجُمُعَةُ الْقَابِلَةُ قَرَأَ بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءَ السَّجْدَةَ، قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّا نَمُرُّ بِالسُّجُودِ، فَمَنْ سَجَدَ فَقَدْ أَصَابَ، وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ. وَلَمْ يَسْجُدْ عُمَرُ رضي الله عنه.
وَزَادَ نَافِعٌ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْرِضْ السُّجُودَ إِلَّا أَنْ نَشَاءَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ رَأَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُوجِبِ السُّجُودَ) أَيْ وَحَمَلَ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ اسْجُدُوا عَلَى النَّدْبِ أَوْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ
بِهِ سُجُودُ الصَّلَاةِ أَوْ فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ عَلَى الْوُجُوبِ وَفِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ عَلَى النَّدْبِ، عَلَى قَاعِدَةِ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ تَابَعَهُ فِي حَمْلِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَعْنَيَيْهِ. وَمِنْ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ سُجُودَ التِّلَاوَةِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الطَّحَاوِيُّ مِنْ أَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ مِنْهَا مَا هُوَ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ وَمِنْهَا مَا هُوَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي الَّتِي بِصِيغَةِ الْأَمْرِ هَلْ فِيهَا سُجُودٌ أَوْ لَا، وَهِيَ ثَانِيَةُ الْحَجِّ وَخَاتِمَةُ النَّجْمِ وَاقْرَأْ، فَلَوْ كَانَ سُجُودُ التِّلَاوَةِ وَاجِبًا لَكَانَ مَا وَرَدَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ أَوْلَى أَنْ يُتَّفَقَ عَلَى السُّجُودِ فِيهِ مِمَّا وَرَدَ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ.
قَوْلُهُ: (وَقِيلَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِمَعْنَاهُ مِنْ طَرِيقٍ مُطَرِّفٍ قَالَ: سَأَلْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ عَنِ الرَّجُلِ لَا يَدْرِي أَسَمِعَ السَّجْدَةَ أَوْ لَا؟ فَقَالَ: وَسَمِعَهَا أَوْ لَا فَمَاذَا؟. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُطَرِّفٍ أَنَّ عِمْرَانَ مَرَّ بِقَاصٍّ فَقَرَأَ الْقَاصُّ السَّجْدَةَ فَمَضَى عِمْرَانُ وَلَمْ يَسْجُدْ مَعَهُ. إِسْنَادُهُمَا صَحِيحٌ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ سَلْمَانُ) هُوَ الْفَارِسِيُّ.
قَوْلُهُ: (مَا لِهَذَا غَدَوْنَا) هُوَ طَرَفٌ مِنْ أَثَرٍ وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ قَالَ مَرَّ سَلْمَانُ عَلَى قَوْمٍ قُعُودٍ، فَقَرَءُوا السَّجْدَةَ فَسَجَدُوا، فَقِيلَ لَهُ، فَقَالَ: لَيْسَ لِهَذَا غَدَوْنَا وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُثْمَانُ: إِنَّمَا السَّجْدَةُ عَلَى مَنِ اسْتَمَعَهَا) وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُثْمَانَ مَرَّ بِقَاصٍّ فَقَرَأَ سَجْدَةً لِيَسْجُدَ مَعَهُ عُثْمَانُ، فَقَالَ عُثْمَانُ: إِنَّمَا السُّجُودُ عَلَى مَنِ اسْتَمَعَ، ثُمَّ مَضَى وَلَمْ يَسْجُدْ وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِلَفْظِ: إِنَّمَا السَّجْدَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَهَا مُخْتَصَرًا، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: قَالَ عُثْمَانُ: إِنَّمَا السَّجْدَةُ عَلَى مَنْ جَلَسَ لَهَا وَاسْتَمَعَ وَالطَّرِيقَانِ صَحِيحَانِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الزُّهْرِيُّ إِلَخْ) وَصَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ عَنْهُ بِتَمَامِهِ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: لَا يَسْجُدُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا قِيلَ لَيْسَ بِدَالٍّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ، لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَقُولُ: عَلَّقَ فِعْلَ السُّجُودِ مِنَ الْقَارِئِ وَالسَّامِعِ عَلَى شَرْطٍ وَهُوَ وُجُودُ الطَّهَارَةِ، فَحَيْثُ وُجِدَ الشَّرْطُ لَزِمَ؛ لَكِنْ مَوْضِعُ التَّرْجَمَةِ مِنْ هَذَا الْأَثَرِ قَوْلُهُ فَإِنْ كُنْتَ رَاكِبًا فَلَا عَلَيْكَ حَيْثُ كَانَ وَجْهُكَ لِأَنَّ هَذَا دَلِيلُ النَّفْلِ، وَالْوَاجِبُ لَا يُؤَدَّى عَلَى الدَّابَّةِ فِي الْأَمْنِ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ لَا يَسْجُدُ لِسُجُودِ الْقَاصِّ) بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ الثَّقِيلَةِ: الَّذِي يَقُصُّ عَلَى النَّاسِ الْأَخْبَارَ وَالْمَوَاعِظَ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى هَذَا الْأَثَرِ مَوْصُولًا. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآثَارِ لِلتَّرْجَمَةِ ظَاهِرَةٌ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ سُجُودَ التِّلَاوَةِ وَاجِبٌ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ قَارِئٍ وَمُسْتَمِعٍ، قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: السَّجْدَةُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ - أَيْ مَوَاضِعَ سُجُودِ التِّلَاوَةِ - سِوَى ثَانِيَةِ الْحَجِّ وَاجِبَةٌ عَلَى التَّالِي وَالسَّامِعِ، سَوَاءٌ قَصَدَ سَمَاعَ الْقُرْآنِ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ اهـ. وَفَرَّقَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بَيْنَ السَّامِعِ وَالْمُسْتَمِعِ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآثَارُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْبُوَيْطِيِّ: لَا أُؤَكِّدُهُ عَلَى السَّامِعِ كَمَا أُؤَكِّدُهُ عَلَى الْمُسْتَمِعِ. وَأَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى نَفْيِ الْوُجُوبِ حَدِيثُ عُمَرَ الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْبَابِ
(1)
.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ) هُوَ أَخُو مُحَمَّدٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ التَّيْمِيُّ وَثَّقَهُ أَبُو حَاتِمٍ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَلِأَبِيهِ صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ، وَهُوَ ابْنُ عُثْمَانَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ اِبْن أَخِي طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَحَدُ الْعَشَرَةِ، وَرَبِيعَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهُدَيْرِ هُوَ عَمُّ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهُدَيْرِ الرَّاوِي عَنْهُ، وَالْهُدَيْرُ بِلَفْظِ التَّصْغِيرِ، ذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ أَنَّ رَبِيعَةَ وُلِدَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ لَهُ أَيْضًا فِي الْبُخَارِيِّ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ.
قَوْلُهُ: (عَمَّا حَضَرَ رَبِيعَةُ مِنْ عُمَرَ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ أَخْبَرَنِي
(1)
أقوى منه وأوضح في الدلالة على عدم وجوب سجود التلاوة حديث ابن عباس المتقدم في قراءة زيد بن ثابت على النبي صلى الله عليه وسلم سورة النجم فلم يسجد فيها ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالسجود ولو كان واجبا لأمره به. والله أعلم
أَيْ أَخْبَرَنِي رَاوِيًا عَنْ عُثْمَانَ، عَنْ رَبِيعَةَ عَنْ قِصَّةِ حُضُورِهِ مَجْلِسَ عُمَرَ. وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ حَجَّاجٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عُثْمَانَ التَّيْمِيَّ أَخْبَرَهُ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ حَضَرَ عُمَرَ فَذَكَرَهُ اهـ.
وَقَوْلُهُ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُثْمَانَ مَقْلُوبٌ، وَالصَّوَابُ مَا تَقَدَّمَ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ.
قَوْلُهُ: (قَرَأَ) أَيْ أَنَّهُ قَرَأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ.
قَوْلُهُ: (إِنَّا نَمُرُّ بِالسُّجُودِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ إِنَّمَا.
قَوْلُهُ: (وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) ظَاهِرٌ فِي عَدَمِ الْوُجُوبِ.
قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَسْجُدْ عُمَرُ) فِيهِ تَوْكِيدٌ لِبَيَانِ جَوَازِ تَرْكِ السُّجُودِ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ.
قَوْلُهُ: (وَزَادَ نَافِعٌ) هُوَ مَقُولُ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَالْخَبَرُ مُتَّصِلٌ بِالْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ فَذَكَرَهُ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَزَادَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يُفْرَضْ عَلَيْنَا السُّجُودُ إِلَّا أَنْ نَشَاءَ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فَذَكَرَ الْإِسْنَادَ الْأَوَّلَ، قَالَ: وَقَالَ حَجَّاجٌ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَزَادَ نَافِعٌ فَذَكَرَهُ، وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى الْحُمَيْدِيِّ فِي زَعْمِهِ أَنَّ هَذَا مُعَلَّقٌ، وَكَذَا عَلَّمَ عَلَيْهِ الْمِزِّيُّ عَلَامَةَ التَّعْلِيقِ، وَهُوَ وَهَمٌ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ لَكِنَّهُ مُنْقَطِعٌ بَيْنَ عُرْوَةَ، وَعُمَرَ. (تَنْبِيهٌ): قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَنَّهُ قَالَ الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى عُمَرَ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ حَيْثُ نَسَبَ ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: لَمْ يُفْرَضْ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ، وَأَجَابَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى قَاعِدَتِهِمْ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ بِأَنَّ نَفْيَ الْفَرْضِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْوُجُوبِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ اصْطِلَاحٌ لَهُمْ حَادِثٌ، وَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا، وَيُغْنِي عَنْ هَذَا قَوْلُ عُمَرَ: وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ. وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ نَشَاءَ عَلَى أَنَّ الْمَرْءَ مُخَيَّرٌ فِي السُّجُودِ فَيَكُونُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ.
وَأَجَابَ مَنْ أَوْجَبَهُ بِأَنَّ الْمَعْنَى إِلَّا أَنْ نَشَاءَ قِرَاءَتَهَا فَيَجِبُ وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ، وَيَرُدُّهُ تَصْرِيحُ عُمَرَ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ فَإِنَّ انْتِفَاءَ الْإِثْمِ عَمَّنْ تَرَكَ الْفِعْلَ مُخْتَارًا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ، واسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ شَرَعَ فِي السُّجُودِ وَجَبَ عَلَيْهِ إِتْمَامُهُ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَالْمَعْنَى لَكِنَّ ذَلِكَ مَوْكُولٌ إِلَى مَشِيئَةِ الْمَرْءِ بِدَلِيلِ إِطْلَاقِهِ: وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ أَنَّ لِلْخَطِيبِ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ فِي الْخُطْبَةِ، وَأَنَّهُ إِذَا مَرَّ بِآيَةِ سَجْدَةٍ يَنْزِلُ إِلَى الْأَرْضِ لِيَسْجُدَ بِهَا إِذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ السُّجُودِ فَوْقَ الْمِنْبَرِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْطَعُ الْخُطْبَةَ. وَوَجْهُ ذَلِكَ فِعْلُ عُمَرَ مَعَ حُضُورِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَعَنْ مَالِكٍ يَمُرُّ فِي خُطْبَتِهِ وَلَا يَسْجُدُ، وَهَذَا الْأَثَرُ وَارِدٌ عَلَيْهِ.
11 - بَاب مَنْ قَرَأَ السَّجْدَةَ فِي الصَّلَاةِ فَسَجَدَ بِهَا
1078 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي بَكْرٌ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْعَتَمَةَ، فَقَرَأَ: إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ فَسَجَدَ، فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ؟ قَالَ: سَجَدْتُ بِهَا خَلْفَ أَبِي الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم، فَلَا أَزَالُ أَسْجُدُ فِيهَا حَتَّى أَلْقَاهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ قَرَأَ السَّجْدَةَ فِي الصَّلَاةِ فَسَجَدَ بِهَا) أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى مَنْ كَرِهَ قِرَاءَةَ السَّجْدَةِ فِي الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ مَالِكٍ، وَعَنْهُ كَرَاهَتُهُ فِي السِّرِّيَّةِ دُونَ الْجَهْرِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا وَغَيْرِهِمْ،
وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُحْتَجُّ بِهِ فِي الْبَابِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابِ الْجَهْرِ فِي الْعِشَاءِ وَبَيَّنَّا فِيهِ أَنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَشْعَثِ، عَنْ مَعْمَرٍ التَّصْرِيحَ بِأَنَّ سُجُودَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا كَانَ دَاخِلَ الصَّلَاةِ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ فِي صَحِيحِ أَبِي عَوَانَةَ وَغَيْرِهِ، وَفِيهِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ النَّقْلُ عَمَّنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا سُجُودَ فِي {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} وَلَا غَيْرِهَا مِنَ الْمُفَصَّلِ، وَأَنَّ الْعَمَلَ اسْتَمَرَّ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ إِنْكَارِ أَبِي رَافِعٍ، وَكَذَا أَنْكَرَهُ أَبُو سَلَمَةَ، وَبَيَّنَّا أَنَّ النَّقْلَ عَنْ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ بِخِلَافِ ذَلِكَ كَعُمَرَ، وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي بَكْرٌ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ.
12 - بَاب مَنْ لَمْ يَجِدْ مَوْضِعًا لِلسُّجُودِ مَعَ الْإِمَامِ مِنْ الزِّحَامِ
1079 -
حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ السُّورَةَ الَّتِي فِيهَا السَّجْدَةُ، فَيَسْجُدُ وَنَسْجُدُ مَعَهُ، حَتَّى مَا يَجِدُ أَحَدُنَا مَكَانًا لِمَوْضِعِ جَبْهَتِهِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ لَمْ يَجِدْ مَوْضِعًا لِلسُّجُودِ مَعَ الْإِمَامِ مِنَ الزِّحَامِ) أَيْ مَاذَا يَفْعَلُ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَمْ أَجِدْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إِلَّا فِي سُجُودِ الْفَرِيضَةِ، وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ، فَقَالَ عُمَرُ: يَسْجُدُ عَلَى ظَهْرِ أَخِيهِ، وَبِهِ قَالَ الْكُوفِيُّونَ وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ عَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ: يُؤَخِّرُ حَتَّى يَرْفَعُوا وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالْجُمْهُورُ، وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي سُجُودِ الْفَرِيضَةِ فَيَجْرِي مِثْلُهُ فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ، وَظَاهِرُ صَنِيعِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّهُ يَسْجُدُ بِقَدْرِ اسْتِطَاعَتِهِ وَلَوْ عَلَى ظَهْرِ أَخِيهِ.
قَوْلُهُ: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ السُّورَةَ الَّتِي فِيهَا السَّجْدَةُ) زَادَ عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ وَنَحْنُ عِنْدَهُ وَقَدْ مَضَى قَبْلُ بِبَابٍ.
قَوْلُهُ: (فَيَسْجُدُ فَنَسْجُدُ) زَادَ الْكُشْمِيهَنِيُّ مَعَهُ.
قَوْلُهُ: (لِمَوْضِعِ جَبْهَتِهِ) يَعْنِي مِنَ الزِّحَامِ، زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةٍ لَهُ فِي غَيْرِ وَقْتِ صَلَاةٍ وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ عُمَرَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ حِينَئِذٍ، وَلِذَلِكَ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ كَمَا مَضَى، وَوَقَعَ فِي الطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ نَافِعٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِمَكَّةَ لَمَّا قَرَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم النَّجْمَ، وَزَادَ فِيهِ حَتَّى سَجَدَ الرَّجُلُ عَلَى ظَهْرِ الرَّجُلِ وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا فَهِمْنَاهُ عَنِ الْمُصَنِّفِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ وَقَعَ مِنِ ابْنِ عُمَرَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ فِي أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ إِلَّا سَجَدَ، وَسِيَاقُ حَدِيثِ الْبَابِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ مِرَارًا، فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ رِوَايَةُ الطَّبَرَانِيِّ بَيَّنَتْ مَبْدَأَ ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَظْهَرَ أَهْلُ مَكَّةَ الْإِسْلَامَ - يَعْنِي فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ - حَتَّى إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَيَقْرَأُ السَّجْدَةَ فَيَسْجُدُ وَمَا يَسْتَطِيعُ بَعْضُهُمْ أَنْ يَسْجُدَ مِنَ الزِّحَامِ، حَتَّى قَدِمَ رُؤَسَاءُ أَهْلِ مَكَّةَ وَكَانُوا بِالطَّائِفِ فَرَجَعُوهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ عَلَى السُّجُودِ لِسُجُودِ الْقَارِئِ كَمَا مَضَى وَعَلَى الِازْدِحَامِ عَلَى ذَلِكَ.
(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَتْ أَبْوَابُ السُّجُودِ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ حَدِيثًا، اثْنَانِ مِنْهَا مُعَلَّقَانِ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى تِسْعَةُ أَحَادِيثَ، وَالْخَالِصُ سِتَّةٌ وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثَيِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ص وَفِي النَّجْمِ، وَحَدِيثُ عُمَرَ فِي التَّخْيِيرِ فِي السُّجُودِ. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ سَبْعَةُ آثَارٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
بسم الله الرحمن الرحيم
18 - كِتَاب تَقْصِيرِ الصَّلَاةِ
1 - بَاب مَا جَاءَ فِي التَّقْصِيرِ، وَكَمْ يُقِيمُ حَتَّى يَقْصُرَ
1080 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، وَحُصَيْنٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: أَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تِسْعَةَ عَشَرَ يَقْصُرُ، فَنَحْنُ إِذَا سَافَرْنَا تِسْعَةَ عَشَرَ قَصَرْنَا، وَإِنْ زِدْنَا أَتْمَمْنَا.
[الحديث 1080 - طرفاه في: 4299. 4298]
1081 -
حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ فَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ قُلْتُ أَقَمْتُمْ بِمَكَّةَ شَيْئًا قَالَ أَقَمْنَا بِهَا عَشْرًا "
[الحديث 1080 - طرفه 4297]
قَوْلُهُ: (أَبْوَابُ التَّقْصِيرِ) ثَبَتَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ لِلْمُسْتَمْلِي. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْوَقْتِ أَبْوَابُ تَقْصِيرِ الصَّلَاةِ، وَثَبَتَتِ الْبَسْمَلَةُ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَالْأَصِيلِيِّ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَا جَاءَ فِي التَّقْصِيرِ) تَقُولُ: قَصَرْتُ الصَّلَاةَ بِفَتْحَتَيْنِ مُخَفَّفًا قَصْرًا، وَقَصَّرْتُهَا بِالتَّشْدِيدِ تَقْصِيرًا، وَأَقْصَرْتُهَا إِقْصَارًا، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ فِي الِاسْتِعْمَالِ. وَالْمُرَادُ بِهِ تَخْفِيفُ الرُّبَاعِيَّةِ إِلَى رَكْعَتَيْنِ. وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنْ لَا تَقْصِيرَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَلَا فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْقَصْرُ فِي كُلِّ سَفَرٍ مُبَاحٍ. وَذَهَبَ بَعْضُ السَّلَفِ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْقَصْرِ الْخَوْفُ فِي السَّفَرِ، وَبَعْضُهُمْ كَوْنُهُ سَفَرَ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ جِهَادٍ، وَبَعْضُهُمْ كَوْنُهُ سَفَرَ طَاعَةٍ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيِّ فِي كُلِّ سَفَرٍ سَوَاءٌ كَانَ طَاعَةً أَوْ مَعْصِيَةً.
قَوْلُهُ: (وَكَمْ يُقِيمُ حَتَّى يَقْصُرَ) فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِشْكَالٌ؛ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ لَيْسَتْ سَبَبًا لِلْقَصْرِ، وَلَا الْقَصْرَ غَايَةٌ لِلْإِقَامَةِ، قَالَهُ الْكِرْمَانِيُّ وَأَجَابَ بِأَنَّ عَدَدَ الْأَيَّامِ الْمَذْكُورَةِ سَبَبٌ لِمَعْرِفَةِ جَوَازِ الْقَصْرِ فِيهَا وَمَنْعِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا، وَأَجَابَ غَيْرُهُ بِأَنَّ الْمَعْنَى وَكَمْ أَقَامَتُهُ الْمُغَيَّاةُ بِالْقَصْرِ؟ وَحَاصِلُهُ كَمْ يُقِيمُ مُقْصِرٌ؟ وَقِيلَ الْمُرَادُ كَمْ يَقْصُرُ حَتَّى يُقِيمَ؟ أَيْ حَتَّى يُسَمَّى مُقِيمًا فَانْقَلَبَ اللَّفْظُ، أَوْ حَتَّى هُنَا بِمَعْنَى حِينَ أَيْ كَمْ يُقِيمُ حِينَ يَقْصُرُ؟ وَقِيلَ فَاعِلُ يُقِيمُ هُوَ الْمُسَافِرُ، وَالْمُرَادُ إِقَامَتُهُ فِي بَلَدٍ مَا غَايَتُهَا الَّتِي إِذَا حَصَلَتْ يَقْصُرُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَاصِمٍ) هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ، وَحُصَيْنٌ بِالضَّمِّ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ.
قَوْلُهُ: (تِسْعَةَ عَشَرَ) أَيْ يَوْمًا بِلَيْلَتِهِ، زَادَ فِي الْمَغَازِي مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَاصِمٍ وَحْدَهُ بِمَكَّةَ، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ سَبْعَةَ عَشَرَ بِتَقْدِيمِ السِّينِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنْ عَاصِمٍ قَالَ: وَقَالَ عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ: تِسْعَ عَشْرَةَ كَذَا ذَكَرَهَا مُعَلَّقَةً، وَقَدْ وَصَلَهَا الْبَيْهَقِيُّ. وَلِأَبِي دَاوُدَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ
فَأَقَامَ بِمَكَّةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَيْلَةً لَا يُصَلِّي إِلَّا رَكْعَتَيْنِ وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ اب نِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ، وَجَمَعَ الْبَيْهَقِيُّ بَيْنَ هَذَا الِاخْتِلَافِ بِأَنَّ مَنْ قَالَ تِسْعَ عَشْرَةَ عَدَّ يَوْمَيِ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ، وَمَنْ قَالَ سَبْعَ عَشْرَةَ حَذَفَهُمَا، وَمَنْ قَالَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ عَدَّ أَحَدَهُمَا.
وَأَمَّا رِوَايَةُ خَمْسَةَ عَشَرَ فَضَعَّفَهَا النَّوَوِيُّ فِي الْخُلَاصَةِ، وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ رُوَاتَهَا ثِقَاتٌ، وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهَا ابْنُ إِسْحَاقَ فَقَدْ أَخْرَجَهَا النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ كَذَلِكَ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا صَحِيحَةٌ فَلْيُحْمَلْ عَلَى أَنَّ الرَّاوِيَ ظَنَّ أَنَّ الْأَصْلَ رِوَايَةُ سَبْعَةَ عَشَرَ فَحَذَفَ مِنْهَا يَوْمَيِ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ فَذَكَرَ أَنَّهَا خَمْسَةَ عَشَرَ، وَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ رِوَايَةَ تِسْعَةَ عَشَرَ أَرْجَحُ الرِّوَايَاتِ، وَبِهَذَا أَخَذَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، وَيُرَجِّحُهَا أَيْضًا أَنَّهَا أَكْثَرُ مَا وَرَدَتْ بِهِ الرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَةُ، وَأَخَذَ الثَّوْرِيُّ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ بِرِوَايَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ لِكَوْنِهَا أَقَلَّ مَا وَرَدَ، فَيُحْمَلُ مَا زَادَ عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ اتِّفَاقًا. وَأَخَذَ الشَّافِعِيُّ بِحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ لَكِنْ مَحَلُّهُ عِنْدَهُ فِيمَنْ لَمْ يُزْمِعِ الْإِقَامَةَ، فَإِنَّهُ إِذَا مَضَتْ عَلَيْهِ الْمُدَّةُ الْمَذْكُورَةُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ، فَإِنْ أَزْمَعَ الْإِقَامَةَ فِي أَوَّلِ الْحَالِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أَتَمَّ، عَلَى خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِهِ فِي دُخُولِ يَوْمَيِ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ فِيهَا أَوْ لَا، وَحُجَّتُهُ حَدِيثُ أَنَسٍ الَّذِي يَلِيهِ.
قَوْلُهُ: (فَنَحْنُ إِذَا سَافَرْنَا تِسْعَ عَشَرَ قَصَرْنَا، وَإِنْ زِدْنَا أَتْمَمْنَا) ظَاهِرُهُ أَنَّ السَّفَرَ إِذَا زَادَ عَلَى تِسْعَةَ عَشَرَ لَزِمَ الْإِتْمَامُ وَلَيْسَ ذَلِكَ الْمُرَادَ، وَقَدْ صَرَّحَ أَبُو يَعْلَى، عَنْ شَيْبَانَ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِالْمُرَادِ وَلَفْظِهِ إِذَا سَافَرْنَا فَأَقَمْنَا فِي مَوْضِعٍ تِسْعَةَ عَشَرَ وَيُؤَيِّدُهُ صَدْرُ الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَقَامَ وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَاصِمٍ: فَإِذَا أَقَمْنَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ صَلَّيْنَا أَرْبَعًا. قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ: خَرَجْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ عِنْدَ مُسْلِمٍ إِلَى الْحَجِّ.
قَوْلُهُ: (فَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ) فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَنَسٍ إِلَّا فِي الْمَغْرِبِ.
قَوْلُهُ: (أَقَمْنَا بِهَا عَشْرًا) لَا يُعَارِضُ ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورُ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ فِي فَتْحِ مَكَّةَ وَحَدِيثَ أَنَسٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ لِصُبْحٍ رَابِعَةٍ الْحَدِيثَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ صُبْحَ الرَّابِعَ عَشَرَ فَتَكُونُ مُدَّةُ الْإِقَامَةِ بِمَكَّةَ وَضَوَاحِيهَا عَشَرَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهَا كَمَا قَالَ أَنَسٌ، وَتَكُونُ مُدَّةُ إِقَامَتِهِ بِمَكَّةَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ سَوَاءً لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ فَصَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا أَقَامَ بِبَلْدَةٍ قَصَرَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، وَقَالَ أَحْمَدُ: إِحْدَى وَعِشْرِينَ صَلَاةً.
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ رَشِيدٍ: أَرَادَ الْبُخَارِيُّ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ حَدِيثَ أَنَسٍ دَاخِلٌ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ لِأَنَّ إِقَامَةَ عَشْرٍ دَاخِلٌ فِي إِقَامَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ - فَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ الْأَخْذَ بِالزَّائِدِ مُتَعَيِّنٌ - فَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَجِيءُ عَلَى اتِّحَادِ الْقِصَّتَيْنِ، وَالْحَقُّ أَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ، فَالْمُدَّةُ الَّتِي فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَسُوغُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى مَنْ لَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ، بَلْ كَانَ مُتَرَدِّدًا مَتَى يَتَهَيَّأُ لَهُ فَرَاغُ حَاجَتِهِ يَرْحَلُ، وَالْمُدَّةُ الَّتِي فِي حَدِيثِ ابْنِ أَنَسٍ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى مَنْ نَوَى الْإِقَامَةَ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم فِي أَيَّامِ الْحَجِّ كَانَ جَازِمًا بِالْإِقَامَةِ تِلْكَ الْمُدَّةَ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ. حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمَّا كَانَ الْأَصْلُ فِي الْمُقِيمِ الْإِتْمَامَ، فَلَمَّا لَمْ يَجِئْ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَقَامَ فِي حَالِ السَّفَرِ أَكْثَرَ مِنْ تِلْكَ الْمُدَّةِ جَعَلَهَا غَايَةً لِلْقَصْرِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ كَمَا سَيَأْتِي، وَفِيهِ أَنَّ الْإِقَامَةَ فِي أَثْنَاءِ السَّفَرِ تُسَمَّى إِقَامَةً، وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْبَلَدِ عَلَى مَا جَاوَرَهَا وَقَرُبَ مِنْهَا لِأَنَّ مِنًى وَعَرَفَةَ لَيْسَا مِنْ مَكَّةَ، أَمَّا عَرَفَةُ فَلِأَنَّهَا خَارِجُ الْحَرَمِ فَلَيْسَتْ مِنْ مَكَّةَ قَطْعًا، وَأَمَّا مِنًى فَفِيهَا احْتِمَالٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ مَكَّةَ إِلَّا إِنْ قُلْنَا إِنَّ اسْمَ مَكَّةَ يَشْمَلُ جَمِيعَ الْحَرَمِ، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَيْسَ لِحَدِيثِ أَنَسٍ وَجْهٌ إِلَّا أَنَّهُ حَسَبَ أَيَّامَ إِقَامَتِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّتِهِ مُنْذُ دَخَلَ مَكَّةَ إِلَى أَنْ
خَرَجَ مِنْهَا لَا وَجْهَ لَهُ إِلَّا هَذَا.
وَقَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: أُطْلِقَ عَلَى ذَلِكَ إِقَامَةٌ بِمَكَّةَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ مَوَاضِعُ النُّسُكِ وَهِيَ فِي حُكْمِ التَّابِعِ لِمَكَّةَ؛ لِأَنَّهَا الْمَقْصُودُ بِالْأَصَالَةِ لَا يَتَّجِهُ سِوَى ذَلِكَ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَزَعَمَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَسْبِقْ إِلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ يَصِيرُ بِنِيَّةِ إِقَامَتِهِ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ مُقِيمًا، وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ نَحْوَ مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ.
2 - بَاب الصَّلَاةِ بِمِنًى
1082 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَمَعَ عُثْمَانَ صَدْرًا مِنْ إِمَارَتِهِ، ثُمَّ أَتَمَّهَا.
[الحديث 10822 - طرفه في: 1655]
1083 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَنْبَأَنَا أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ قَالَ صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم آمَنَ مَا كَانَ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ "
[الحديث 1083 - طرفه في: 1656]
1084 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ عَنْ الأَعْمَشِ قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ صَلَّى بِنَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رضي الله عنه بِمِنًى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فَقِيلَ ذَلِكَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه فَاسْتَرْجَعَ ثُمَّ قَالَ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ وَصَلَّيْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ وَصَلَّيْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ فَلَيْتَ حَظِّي مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ "
[الحديث 1084 - طرفه في 1657]
قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّلَاةِ بِمِنًى) أَيْ فِي أَيَّامِ الرَّمْيِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ الْمَسْأَلَةِ لِقُوَّةِ الْخِلَافِ فِيهَا، وَخَصَّ مِنًى بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهَا الْمَحَلُّ الَّذِي وَقَعَ فِيهَا ذَلِكَ قَدِيمًا. وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْمُقِيمِ بِمِنًى هَلْ يَقْصُرُ أَوْ يُتِمُّ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَصْرَ بِهَا لِلسَّفَرِ أَوْ لِلنُّسُكِ؟ وَاخْتَارَ الثَّانِيَ مَالِكٌ، وَتَعَقَّبَهُ الطَّحَاوِيُّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ أَهْلُ مِنًى يُتِمُّونَ وَلَا قَائِلَ بِذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: لَوْ لَمْ يَجُزْ لِأَهْلِ مَكَّةَ الْقَصْرُ بِمِنًى لَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَتِمُّوا، وَلَيْسَ بَيْنَ مَكَّةَ وَمِنًى مَسَافَةُ الْقَصْرِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ قَصَرُوا لِلنُّسُكِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ التِّرْمِذِيَّ رَوَى مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي بِمَكَّةَ رَكْعَتَيْنِ وَيَقُولُ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَتِمُّوا؛ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ. وَكَأَنَّهُ تَرَكَ إِعْلَامَهُمْ بِذَلِكَ بِمِنًى اسْتِغْنَاءً بِمَا تَقَدَّمَ بِمَكَّةَ. قُلْتُ: وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْحَدِيثَ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَلَوْ صَحَّ فَالْقِصَّةُ كَانَتْ فِي الْفَتْحِ، وَقِصَّةُ مِنًى فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَكَانَ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ ذَلِكَ لِبُعْدِ الْعَهْدِ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ أَصْلَ الْبَحْثِ مَبْنِيٌّ عَلَى تَسْلِيمِ أَنَّ الْمَسَافَةَ الَّتِي بَيْنَ مَكَّةَ وَمِنًى لَا يُقْصَرُ فِيهَا، وَهُوَ مِنْ مُحَالِ الْخِلَافِ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ.
قَوْلُهُ: (بِمِنًى) زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةِ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ بِمِنًى وَغَيْرِهِ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ أَتَمَّهَا) فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ ثُمَّ إِنَّ عُثْمَانَ
صَلَّى أَرْبَعًا فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ صَلَّى أَرْبَعًا، وَإِذَا صَلَّى وَحْدَهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَسَيَأْتِي ذِكْرُ السَّبَبِ فِي إِتْمَامِ عُثْمَانَ بِمِنًى فِي بَابِ يَقْصُرُ إِذَا خَرَجَ مِنْ مَوْضِعِهِ.
قَوْلُهُ: (أَنْبَأَنَا أَبُو إِسْحَاقَ) كَذَا هُوَ بِلَفْظِ الْإِنْبَاءِ، وَهُوَ فِي عُرْفِ الْمُتَقَدِّمِينَ بِمَعْنَى الْإِخْبَارِ وَالتَّحْدِيثِ وَهَذَا مِنْهُ.
قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ) زَادَ الْبَرْقَانِيُّ فِي مُسْتَخْرَجِهِ رَجُلًا مِنْ خُزَاعَةَ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْوَلِيدِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (آمَنَ) أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ مِنَ الْأَمْنِ.
قَوْلُهُ: (مَا كَانَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَالْحَمَوِيِّ كَانَتْ أَيْ حَالَةَ كَوْنِهَا آمَنَ أَوْقَاتِهِ. وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: وَالنَّاسُ أَكْثَرُ مَا كَانُوا وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ النَّسَائِيُّ بِلَفْظِ، خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ قَالَ الطِّيبِيُّ: مَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَمَعْنَاهُ الْجَمْعُ، لِأَنَّ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ أَفْعَلُ يَكُونُ جَمْعًا، وَالْمَعْنَى صَلَّى بِنَا وَالْحَالُ أَنَّا أَكْثَرُ أَكْوَانِنَا فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ أَمْنًا. وَسَيَأْتِي فِي بَابِ الصَّلَاةِ بِمِنًى مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ عَنْ آدَمَ، عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ وَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ وَنَحْنُ أَكْثَرُ مَا كُنَّا قَطُّ وَآمَنُهُ وَكَلِمَةُ قَطُّ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَنَحْنُ مَا كُنَّا أَكْثَرَ مِنَّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَا أَكْثَرَ أَمْنًا. وَهَذَا يَسْتَدْرِكُ بِهِ عَلِيُّ بْنُ مَالِكٍ حَيْثُ قَالَ: اسْتِعْمَالُ قَطُّ غَيْرُ مَسْبُوقَةٍ بِالنَّفْيِ مِمَّا يَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّحْوِيِّينَ، وَقَدْ جَاءَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِدُونِ النَّفْيِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: قَوْلُهُ: وَآمَنُهُ بِالرَّفْعِ وَيَجُوزُ النَّصْبُ بِأَنْ يَكُونَ فِعْلًا مَاضِيًا وَفَاعِلُهُ اللَّهُ وَضَمِيرُ الْمَفْعُولِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَالتَّقْدِيرُ: وَآمَنَ اللَّهُ نَبِيَّهُ حِينَئِذٍ.
وَلَا يَخْفَى بُعْدُ هَذَا الْإِعْرَابِ. وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقَصْرَ مُخْتَصٌّ بِالْخَوْفِ، وَالَّذِي قَالَ ذَلِكَ تَمَسَّكَ بِقولِهِ تَعَالَى:{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وَلَمْ يَأْخُذِ الْجُمْهُورُ بِهَذَا الْمَفْهُومِ، فَقِيلَ لِأَنَّ شَرْطَ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ أَنْ لَا يَكُونَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، وَقِيلَ هُوَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي شُرِعَ الْحُكْمُ فِيهَا بِسَبَبٍ ثُمَّ زَالَ السَّبَبُ وَبَقِيَ الْحُكْمُ كَالرَّمَلِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْقَصْرِ فِي الْآيَةِ: قَصْرُ الصَّلَاةِ فِي الْخَوْفِ إِلَى رَكْعَةٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، وَلَهُ صُحْبَةٌ أَنَّهُ سَأَلَ عُمَرَ عَنْ قَصْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ فَقَالَ: إِنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ. فَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الصَّحَابَةَ فَهِمُوا مِنْ ذَلِكَ قَصْرَ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ مُطْلَقًا لَا قَصْرَهَا فِي الْخَوْفِ خَاصَّةً. وَفِي جَوَابِ عُمَرَ إِشَارَةٌ إِلَى الْقَوْلِ الثَّانِي. وَرَوَى السَّرَّاجُ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي حَنْظَلَةَ وَهُوَ الْحَذَّاءُ لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ. قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ، فَقَالَ: رَكْعَتَانِ، فَقُلْتُ: إِنَّ اللَّهَ عز وجل قَالَ: {إِنْ خِفْتُمْ} وَنَحْنُ آمِنُونَ، فَقَالَ: سُنَّةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَهَذَا يُرَجِّحُ الْقَوْلَ الثَّانِيَ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ) هُوَ النَّخَعِيُّ لَا التَّيْمِيُّ.
قَوْلُهُ: (صَلَّى بِنَا عُثْمَانُ بِمِنًى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ) كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ فِي حَالِ إِقَامَتِهِ بِمِنًى لِلرَّمْيِ، كَمَا سَيَأْتِي ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي قِصَّةِ مُعَاوِيَةَ بَعْدَ بَابَيْنِ.
قَوْلُهُ: (فَقِيلَ ذَلِكَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَالْأَصِيلِيِّ فَقِيلَ فِي ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (فَاسْتَرْجَعَ) أَيْ فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
قَوْلُهُ: (وَمَعَ عُمَرَ رَكْعَتَيْنِ) زَادَ الثَّوْرِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، ثُمَّ تَفَرَّقَتْ بِكُمُ الطُّرُقُ، أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْحَجِّ مِنْ طَرِيقِهِ.
قَوْلُهُ: (فَلَيْتَ حَظِّي مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَانِ) لَمْ يَقُلْ الْأَصِيلِيُّ رَكَعَاتٍ، وَمِنْ لِلْبَدَلِيَّةِ، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى:{أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ} وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَرَى الْإِتْمَامَ جَائِزًا، وَإِلَّا لَمَا كَانَ لَهُ حَظٌّ مِنَ الْأَرْبَعِ وَلَا مِنْ غَيْرِهَا؛ فَإِنَّهَا كَانَتْ تَكُونُ فَاسِدَةً كُلَّهَا، وَإِنَّمَا اسْتَرْجَحَ ابْنُ مَسْعُودٍ لِمَا وَقَعَ عِنْدَهُ مِنْ مُخَالَفَةِ الْأَوْلَى. وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ صَلَّى أَرْبَعًا، فَقِيلَ لَهُ: عِبْتَ عَلَى عُثْمَانَ ثُمَّ صَلَّيْتَ أَرْبَعًا. فَقَالَ: الْخِلَافُ شَرٌّ وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ: إِنِّي لَأَكْرَهُ الْخِلَافَ وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ
أَبِي ذَرٍّ مِثْلُ الْأَوَّلِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْقَصْرَ وَاجِبٌ كَمَا قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَوَافَقَهُمُ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ وَعَنْ أَحْمَدَ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ عَلَى الِاخْتِيَارِ وَالْقَصْرُ عِنْدَهُ أَفْضَلُ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ بِأَنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا دَخَلَ فِي صَلَاةِ الْمُقِيمِ صَلَّى أَرْبَعًا بِاتِّفَاقِهِمْ، وَلَوْ كَانَ فَرْضُهُ الْقَصْرَ لَمْ يَأْتَمَّ مُسَافِرٌ بِمُقِيمٍ. وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَمَّا كَانَ الْفَرْضُ لَا بُدَّ لِمَنْ هُوَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ وَلَا يَتَخَيَّرُ فِي الْإِتْيَانِ بِبَعْضِهِ، وَكَانَ التَّخْيِيرُ مُخْتَصًّا بِالتَّطَوُّعِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ لَا يَتَخَيَّرُ فِي الِاثْنَتَيْنِ وَالْأَرْبَعِ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ بَطَّالٍ بِأَنَّا وَجَدْنَا وَاجِبًا يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْإِتْيَانِ بِجَمِيعِهِ أَوْ بِبَعْضِهِ وَهُوَ الْإِقَامَةُ بِمِنًى اهـ.
وَنَقَلَ الدَّاوُدِيُّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَرَى الْقَصْرَ فَرْضًا، وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا ذَكَرْتُهُ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا تَعَمَّدَ تَرْكَ الْفَرْضِ حَيْثُ صَلَّى أَرْبَعًا وَقَالَ إِنَّ الْخِلَافَ شَرٌّ، وَيَظْهَرُ أَثَرُ الْخِلَافِ فِيمَا إِذَا قَامَ إِلَى الثَّالِثَةِ عَمْدًا فَصَلَاتُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ صَحِيحَةٌ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَاسِدَةٌ مَا لَمْ يَكُنْ جَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ السَّبَبِ فِي إِتْمَامِ عُثْمَانَ بَعْدَ بَابَيْنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
3 - بَاب كَمْ أَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّتِهِ
1085 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ الْبَرَّاءِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ لِصُبْحِ رَابِعَةٍ يُلَبُّونَ بِالْحَجِّ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، إِلَّا مَنْ مَعَهُ الْهَدْيُ. تَابَعَهُ عَطَاءٌ عَنْ جَابِرٍ.
[الحديث 1085 - أطرافه في: 3832. 2505. 1564]
قَوْلُهُ: (بَابُ كَمْ أَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّتِهِ) أَيْ مِنْ يَوْمِ قُدُومِهِ إِلَى أَنْ خَرَجَ مِنْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ أَنَسٍ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَالْمَقْصُودُ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ بَيَانُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمُحَقَّقَ فِيهِ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ هِيَ مُدَّةُ الْمُقَامِ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْخُرُوجِ إِلَى مِنًى، ثُمَّ إِلَى عَرَفَةَ وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ مُلَفَّقَةً؛ لِأَنَّهُ قَدِمَ فِي الرَّابِعِ، وَخَرَجَ فِي الثَّامِنِ فَصَلَّى بِهَا إِحْدَى وَعِشْرِينَ صَلَاةً مِنْ أَوَّلِ ظُهْرِ الرَّابِعِ إِلَى آخِرِ ظُهْرِ الثَّامِنِ
(1)
. وَقِيلَ: أَرَادَ مُدَّةَ إِقَامَتِهِ إِلَى أَنْ تَوَجَّهَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَهِيَ عَشَرَةٌ كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُصَرِّحْ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِغَايَتِهَا فَإِنَّهَا تُعْرَفُ مِنَ الْوَاقِعِ، فَإِنَّ بَيْنَ دُخُولِهِ وَخُرُوجِهِ يَوْمَ النَّفْرِ الثَّانِي مِنْ مِنًى إِلَى الْأَبْطَحِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ سَوَاءً.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ الْبَرَّاءِ) هُوَ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ، كَانَ يَبْرِي النَّبْلَ، وَاسْمُهُ زِيَادٌ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَهُوَ غَيْرُ أَبِي الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيِّ، وَقَدِ اشْتَرَكَا فِي الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي عَبَّاسٍ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ وَعَلَى مُتَابَعَةِ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ فِي كِتَابِ الْحَجِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
4 - بَاب فِي كَمْ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ؟
وَسَمَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا وَلَيْلَةً سَفَرًا
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم يَقْصُرَانِ وَيُفْطِرَانِ فِي أَرْبَعَةِ بُرُدٍ، وَهِيَ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا
1086 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي أُسَامَةَ: حَدَّثَكُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ
(1)
فيما قاله الشارح هنا نظر " وسبق أنه صلى الظهر يوم الثامن بمنى، كما صح ذلك من حديث جابر وغير، وعليه يكون المحفوظ أنه صلى بمكة قبل التوجه إلى منى عشرين صلاة فقط أولها ظهر اليوم الرابع وآخرها فجر اليوم الرابع فقد اختلف فيه هل صلاه بمكة أو في الطريق. والله أعلم
عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا تُسَافِرْ الْمَرْأَةُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ "
[الحديث 1086 - طرفه 1087]
1087 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تُسَافِرْ الْمَرْأَةُ ثَلَاثًا إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ "
تَابَعَهُ أَحْمَدُ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
1088 -
حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَيْسَ مَعَهَا حُرْمَةٌ تَابَعَهُ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ وَسُهَيْلٌ وَمَالِكٌ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه.
قَوْلُهُ: (بَابٌ فِي كَمْ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ) يُرِيدُ بَيَانَ الْمَسَافَةِ الَّتِي إِذَا أَرَادَ الْمُسَافِرُ الْوُصُولَ إِلَيْهَا سَاغَ لَهُ الْقَصْرُ وَلَا يَسُوغُ لَهُ فِي أَقَلَّ مِنْهَا، وَهِيَ مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي انْتَشَرَ فِيهَا الْخِلَافُ جِدًّا، فَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ فِيهَا نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ قَوْلًا، فَأَقَلُّ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَأَكْثَرُهُ مَا دَامَ غَائِبًا عَنْ بَلَدِهِ. وَقَدْ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ التَّرْجَمَةَ بِلَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ، وَأَوْرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اخْتِيَارَهُ أَنَّ أَقَلَّ مَسَافَةِ الْقَصْرِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ.
قَوْلُهُ: (وَسَمَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا وَلَيْلَةً سَفَرًا) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ السَّفَرُ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا تَجَوُّزٌ، وَالْمَعْنَى سَمَّى مُدَّةَ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ سَفَرًا، وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورِ عِنْدَهُ فِي الْبَابِ، وَقَدْ تُعُقِّبَ بِأَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كَمَا أَوْرَدَهُ هُوَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَفِي بَعْضِهَا يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَفِي بَعْضِهَا يَوْمٌ وَفِي بَعْضِهَا لَيْلَةٌ وَفِي بَعْضِهَا بَرِيدٌ فَإِنْ حُمِلَ الْيَوْمُ الْمُطْلَقُ أَوِ اللَّيْلَةُ الْمُطْلَقَةُ عَلَى الْكَامِلِ أَيْ يَوْمٌ بِلَيْلَتِهِ أَوْ لَيْلَةٌ بِيَوْمِهَا قَلَّ الِاخْتِلَافُ وَانْدَرَجَ فِي الثَّلَاثِ فَيَكُونُ أَقَلُّ الْمَسَافَةِ يَوْمًا وَلَيْلَةً، لَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ بَرِيدٍ وَيُجَابُ عَنْهُ بِمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ إِلَخْ)، وَصَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عَطَاءِ ابْنِ أَبِي رَبَاحٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ، وَابْنَ عَبَّاسٍ كَانَا يُصَلِّيَانِ رَكْعَتَيْنِ وَيُفْطِرَانِ فِي أَرْبَعَةِ بُرُدٍ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ وَرَوَى السَّرَّاجُ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ، وَرَوَى الشَّافِعِيُّ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَكِبَ إِلَى ذَاتِ النُّصُبِ فَقَصَرَ الصَّلَاةَ قَالَ مَالِكٌ: وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ، رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَالِكٍ هَذَا فَقَالَ: بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَذَاتِ النُّصُبِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيلًا. وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَقْصُرُ فِي مَسِيرَةِ الْيَوْمِ التَّامِّ وَمِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ: أَنَقْصُرُ الصَّلَاةَ إِلَى عَرَفَةَ؟ قَالَ: لَا.
وَلَكِنْ إِلَى عُسْفَانَ أَوْ إِلَى جِدَّةَ أَوِ الطَّائِفِ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِيهِ وَعَطَاءٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَقْصُرُوا الصَّلَاةَ فِي أَدْنَى مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ مِنْ مَكَّةَ إِلَى عُسْفَانَ وَهَذَا إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ مِنْ أَجْلِ عَبْدِ الْوَهَّابِ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا تَقْصُرُوا الصَّلَاةَ إِلَّا فِي الْيَوْمِ، وَلَا تُقْصَرُ فِيمَا دُونَ الْيَوْمِ، وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ صَحِيحٍ عَنْهُ قَالَ: تُقْصَرُ الصَّلَاةُ فِي مَسِيرَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ بِأَنَّ مَسَافَةَ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ يُمْكِنُ سَيْرُهَا فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الدَّالُّ عَلَى اعْتِبَارِ
الثَّلَاثِ فَإِمَّا أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اخْتِيَارِهِ بِأَنَّ الْمَسَافَةَ وَاحِدَةٌ وَلَكِنَّ السَّيْرَ يَخْتَلِفُ، أَوْ أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَرْفُوعَ مَا سِيقَ لِأَجْلِ بَيَانِ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، بَلْ لِنَهْيِ الْمَرْأَةِ عَنِ الْخُرُوجِ وَحْدَهَا، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَتِ الْأَلْفَاظُ فِي ذَلِكَ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الْحُكْمَ فِي نَهْيِ الْمَرْأَةِ عَنِ السَّفَرِ وَحْدَهَا مُتَعَلِّقٌ بِالزَّمَانِ، فَلَوْ قَطَعَتْ مَسِيرَةَ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ مَثَلًا فِي يَوْمٍ تَامٍّ لَتَعَلَّقَ بِهَا النَّهْيُ، بِخِلَافِ الْمُسَافِرِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَطَعَ مَسِيرَةَ نِصْفِ يَوْمٍ مَثَلًا فِي يَوْمَيْنِ لَمْ يَقْصُرْ فَافْتَرَقَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَقَلُّ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ لَفْظُ بَرِيدٌ إِنْ كَانَتْ مَحْفُوظَةً وَسَنَذْكُرُهَا فِي آخِرِ هَذَا الْبَابِ، وَعَلَى هَذَا فَفِي تَمَسُّكِ الْحَنَفِيَّةِ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَلَى أَنَّ أَقَلَّ مَسَافَةِ الْقَصْرِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ إِشْكَالٌ، وَلَا سِيَّمَا عَلَى قَاعِدَتِهِمْ بِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِمَا رَأَى الصَّحَابِيُّ لَا بِمَا رَوَى، فَلَوْ كَانَ الْحَدِيثُ عِنْدَهُ لِبَيَانِ أَقَلِّ مَسَافَةِ الْقَصْرِ لَمَا خَالَفَهُ وَقَصَرَ فِي مَسِيرَةِ الْيَوْمِ التَّامِّ. وَقَدِ اخْتُلِفَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي تَحْدِيدِ ذَلِكَ اخْتِلَافًا غَيْرَ مَا ذُكِرَ، فَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ أَدْنَى مَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فِيهِ مَالٌ لَهُ بِخَيْبَرَ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ وَخَيْبَرَ سِتَّةٌ وَتِسْعُونَ مِيلًا.
وَرَوَى وَكِيعٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: يَقْصُرُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى السُّوَيْدَاءِ وَبَيْنَهُمَا اثْنَانِ وَسَبْعُونَ مِيلًا. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَافَرَ إِلَى رِيمٍ فَقَصَرَ الصَّلَاةَ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِينَ مِيلًا مِنَ الْمَدِينَةِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ مُحَارِبٍ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: إِنِّي لَأُسَافِرُ السَّاعَةَ مِنَ النَّهَارِ فَأَقْصُرُ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: سَمِعْتُ جَبَلَةَ بْنَ سُحَيْمٍ، سَمِعْتُ ابْنِ عُمَرَ يَقُولُ: لَوْ خَرَجْتُ مِيلًا قَصَرْتُ الصَّلَاةَ إِسْنَادُ كُلٍّ مِنْهُمَا صَحِيحٌ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتغَايِرَةٌ جِدًّا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَهِيَ) أَيِ الْأَرْبَعَةُ بُرُدٍ (سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا) ذَكَرَ الْفَرَّاءُ أَنَّ الْفَرْسَخَ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ، وَالْمِيلُ مِنَ الْأَرْضِ مُنْتَهَى مَدِّ الْبَصَرِ لِأَنَّ الْبَصَرَ يَمِيلُ عَنْهُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ حَتَّى يَفْنَى إِدْرَاكُهُ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ الْجَوْهَرِيُّ. وَقِيلَ حَدُّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الشَّخْصِ فِي أَرْضٍ مُسَطَّحَةٍ فَلَا يُدْرَى أَهُوَ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ أَوْ هُوَ ذَاهِبٌ أَوْ آتٍ، قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمِيلُ سِتَّةُ آلَافِ ذِرَاعٍ وَالذِّرَاعُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ إِصْبَعًا مُعْتَرِضَةً مُعْتَدِلَةً وَالْإِصْبَعُ سِتُّ شَعِيرَاتٍ مُعْتَرِضَةٍ مُعْتَدِلَةٍ اهـ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هُوَ الْأَشْهَرُ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ قَدَمٍ بِقَدَمِ الْإِنْسَانِ، وَقِيلَ: هُوَ أَرْبَعَةُ آلافِ ذِرَاعٍ، وَقِيلَ: بَلْ ثَلَاثَةُ آلَافِ ذِرَاعٍ نَقَلَهُ صَاحِبُ الْبَيَانِ، وَقِيلَ: وَخَمْسُمِائَةٍ، صَحَّحَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. وَقِيلَ: هُوَ أَلْفَا ذِرَاعٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِأَلْفِ خُطْوَةٍ لِلْجَمَلِ، ثُمَّ إِنَّ الذِّرَاعَ الَّذِي ذَكَرَ النَّوَوِيُّ تَحْدِيدَهُ قَدْ حَرَّرَهُ غَيْرُهُ بِذِرَاعِ الْحَدِيدِ الْمُسْتَعْمَلِ الْآنَ فِي مِصْرَ وَالْحِجَازِ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ، فَوَجَدَهُ يَنْقُصُ عَنْ ذِرَاعِ الْحَدِيدِ بِقَدْرِ الثُّمُنِ، فَعَلَى هَذَا فَالْمِيلُ بِذِرَاعِ الْحَدِيدِ عَلَى الْقَوْلِ الْمَشْهُورِ خَمْسَةُ آلَافِ ذِرَاعٍ وَمِائَتَانِ وَخَمْسُونَ ذِرَاعًا، وَهَذِهِ فَائِدَةٌ نَفِيسَةٌ قَلَّ مَنْ نَبَّهَ عَلَيْهَا.
وَحَكَى النَّوَوِيُّ أَنَّ أَهْلَ الظَّاهِرِ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ أَقَلَّ مَسَافَةِ الْقَصْرِ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ، وَكَأَنَّهُمُ احْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَرَجَ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ - أَوْ فَرَاسِخٍ - قَصَرَ الصَّلَاةَ. وَهُوَ أَصَحُّ حَدِيثٍ وَرَدَ فِي بَيَانِ ذَلِكَ وَأَصْرَحُهُ، وَقَدْ حَمَلَهُ مَنْ خَالَفَهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَسَافَةُ الَّتِي يُبْتَدَأُ منها الْقَصْرُ لَا غَايَةُ السَّفَرِ، وَلَا يَخْفَى بَعْدَ هَذَا الْحَمْلِ، مع أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ ذَكَرَ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ يَحْيَى بْنَ يَزِيدَ رَاوِيهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسًا عَنْ قَصْرِ الصَّلَاةِ وَكُنْتُ أَخْرُجُ إِلَى الْكُوفَةِ - يَعْنِي مِنَ الْبَصْرَةِ - فَأُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى أَرْجِعَ، فَقَالَ أَنَسٌ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَظَهَرَ أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ جَوَازِ الْقَصْرِ فِي السَّفَرِ لَا عَنِ الْمَوْضِعِ الَّذِي يُبْتَدَأُ الْقَصْرُ مِنْهُ. ثُمَّ إِنَّ الصَّحِيحَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَتَقَيَّدُ بِمَسَافَةٍ بَلْ بِمُجَاوَزَةِ الْبَلَدِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهَا، وَرَدَّهُ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ فِي التَّحْدِيدِ بِثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ، فَإِنَّ الثَّلَاثَةَ أَمْيَالٍ مُدْرَجَةٌ فِيهَا، فَيُؤْخَذُ بِالْأَكْثَرِ
احْتِيَاطًا، وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ حَاتِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ قَالَ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَأَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَأُفْطِرُ فِي بَرِيدٍ مِنَ الْمَدِينَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(تَنْبِيهٌ): اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الْفَرْسَخِ، فَقِيلَ السُّكُونُ ذَكَرَهُ ابْنُ سِيدَهْ، وَقِيلَ السَّعَةُ، وَقِيلَ الْمَكَانُ الَّذِي لَا فُرْجَةَ فِيهِ، وَقِيلَ الشَّيْءُ الطَّوِيلُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ) قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ حَيْثُ قَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ فَهُوَ إِمَّا ابْنُ رَاهْوَيْهِ، وَإِمَّا ابْنُ نَصْرٍ السَّعْدِيُّ، وَإِمَّا ابْنُ مَنْصُورٍ الْكَوْسَجُ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ أَخْرَجَ عَنْهُمْ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ. قُلْتُ: لَكِنْ إِسْحَاقُ هُنَا هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ؛ لِأَنَّهُ سَاقَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي مُسْنَدِهِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ سَنَدًا وَمَتْنًا، وَمِنْ عَادَتِهِ الْإِتْيَانُ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ دُونَ الْأَخِيرَيْنِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَكُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ التَّحَمُّلِ قَوْلُ الشَّيْخِ: نَعَمْ فِي جَوَابِ مَنْ قَالَ لَهُ حَدَّثَكُمْ فُلَانٌ بِكَذَا، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ فِي مُسْنَدِ إِسْحَاقَ فِي آخِرِهِ فَأَقَرَّ بِهِ أَبُو أُسَامَةَ وَقَالَ: نَعَمْ.
قَوْلُهُ: (لَا تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ نَافِعٍ مَسِيرَةَ ثَلَاثِ لَيَالٍ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا أَوْ ثَلَاثُ لَيَالٍ بِأَيَّامِهَا.
قَوْلُهُ: (إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَالْأَصِيلِيِّ إِلَّا مَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ وَالْمَحْرَمُ بِفَتْحِ الْمِيمِ الْحَرَامُ وَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَبِي دَاوُدَ إِلَّا وَمَعَهَا أَبُوهَا أَوْ أَخُوهَا أَوْ زَوْجُهَا أَوِ ابْنُهَا أَوْ ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا. أَخْرَجَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ.
تَابَعَهُ أَحْمَدُ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ أَحْمَدُ) هُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيُّ أَحَدُ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَوَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، وَنَقَلَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ قَالَ: مَا أَنْكَرْتُ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثَ. وَرَوَاهُ أَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ مَوْقُوفًا. قُلْتُ: وَعَبْدُ اللَّهِ ضَعِيفٌ، وَقَدْ تَابَعَ عُبَيْدَ اللَّهِ الضَّحَّاكَ كَمَا تَقَدَّمَ فَاعْتَمَدَهُ الْبُخَارِيُّ لِذَلِكَ.
تَابَعَهُ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ وَسُهَيْلٌ وَمَالِكٌ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه.
قَوْلُهُ: (لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) مَفْهُومُهُ أَنَّ النَّهْيَ الْمَذْكُورَ يَخْتَصُّ بِالْمُؤْمِنَاتِ، فَتَخْرُجُ الْكَافِرَاتُ كِتَابِيَّةً كَانَتْ أَوْ حَرْبِيَّةً، وَقَدْ قَالَ بِهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الَّذِي يَسْتَمِرُّ لِلْمُتَّصِفِ بِهِ خِطَابُ الشَّارِعِ فَيَنْتَفِعُ بِهِ وَيَنْقَادُ لَهُ، فَلِذَلِكَ قُيِّدَ بِهِ، أَوْ أَنَّ الْوَصْفَ ذُكِرَ لِتَأْكِيدِ التَّحْرِيمِ وَلَمْ يُقْصَدْ بِهِ إِخْرَاجُ مِمَّا سِوَاهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَيْسَ مَعَهَا حُرْمَةٌ) أَيْ مَحْرَمٌ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ السَّفَرِ لِلْمَرْأَةِ بِلَا مَحْرَمٍ، وَهُوَ إِجْمَاعٌ فِي غَيْرِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْخُرُوجِ مِنْ دَارِ الشِّرْكِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ مِنْ شَرَائِطِ الْحَجِّ كَمَا سَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(تَنْبِيهٌ): قَالَ شَيْخُنَا ابْنُ الْمُلَقِّنِ تَبَعًا لِشَيْخِهِ مُغَلْطَايْ: الْهَاءُ فِي قَوْلِهِ: مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِلْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَالتَّقْدِيرُ أَنْ تُسَافِرَ مَرَّةً وَاحِدَةً مَخْصُوصَةً بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَلَا سَلَفَ لَهُ فِي هَذَا الْإِعْرَابِ، وَمَسِيرَةٌ إِنَّمَا هِيَ مَصْدَرٌ سَارَ كَقَوْلِهِ سَيْرًا مِثْلَ عَاشَ مَعِيشَةً وَعَيْشًا.
قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، وَسُهَيْلٌ، وَمَالِكٌ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ) يَعْنِي سَعِيدًا (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) يَعْنِي لَمْ يَقُولُوا عَنْ أَبِيهِ فَعَلَى هَذَا فَهِيَ مُتَابَعَةٌ فِي الْمَتْنِ لَا فِي الْإِسْنَادِ، عَلَى أَنَّهُ قَدِ اخْتُلِفَ عَلَى سُهَيْلٍ وَعَلَى مَالِكٍ فِيهِ، وَكَأَنَّ الرِّوَايَةَ الَّتِي جَزَمَ بِهَا الْمُصَنِّفُ أَرْجَحُ عِنْدَهُ عَنْهُمْ، وَرَجَّحَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّهُ عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ لَيْسَ فِيهِ عَنْ أَبِيهِ كَمَا رَوَاهُ مُعْظَمُ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ، لَكِنِ الزِّيَادَةُ مِنَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ حَافِظًا، وَقَدْ وَافَقَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَلَى قَوْلِهِ: عَنْ أَبِيهِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَاللَّيْثِ، وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ مِنْ أَثْبَتِ النَّاسِ فِي سَعِيدٍ، فَأَمَّا رِوَايَةُ يَحْيَى فَأَخْرَجَهَا أَحْمَدُ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُوسَى، عَنْ شَيْبَانَ النَّحْوِيِّ عَنْهُ وَلَمْ أَجِدْ عَنْهُ فِيهِ اخْتِلَافًا إِلَّا أَنَّ لَفْظَةَ أَنْ تُسَافِرَ يَوْمًا إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ يَوْمًا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْيَوْمُ بِلَيْلَتِهِ فَيُوَافِقُ رِوَايَةَ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، وَأَمَّا رِوَايَةُ سُهَيْلٍ فَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ اضْطَرَبَ فِي
إِسْنَادِهَا وَمَتْنِهَا، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ خَالِدٍ الْوَاسِطِيِّ، وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ جَرِيرٍ كِلَاهُمَا عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ، إِلَّا أَنَّ جَرِيرًا قَالَ فِي رِوَايَتِهِ: بَرِيدًا بَدَلَ يَوْمًا، وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَبْدَلَ سَعِيدًا، بِأَبِي صَالِحٍ، وَخَالَفَ فِي اللَّفْظِ أَيْضًا فَقَالَ: تُسَافِرُ ثَلَاثًا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ،
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثَانِ مَعًا عِنْدَ سُهَيْلٍ، وَمِنْ ثَمَّ صَحَّحَ ابْنُ حِبَّانَ الطَّرِيقَيْنِ عَنْهُ، لَكِنِ الْمَحْفُوظُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ. وَأَمَّا رِوَايَةُ مَالِكٍ فَهِيَ فِي الْمُوَطَّأِ كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ، وَأَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُمَا، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ.
وَرَوَاهَا بِشْرُ بْنُ عُمَرَ الزَّهْرَانِيُّ عَنْهُ فَقَالَ: عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو عَوَانَةَ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِهِ، وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: إِنَّهُ تَفَرَّدَ بِهِ عَنْ مَالِكٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الدَّارَقُطْنِيَّ أَخْرَجَهُ فِي الْغَرَائِبِ مِنْ رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْفَرْوِيِّ، عَنْ مَالِكٍ كَذَلِكَ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ مَالِكٍ، وَالْمَحْفُوظُ عَنْ مَالِكٍ لَيْسَ فِيهِ قَوْلُهُ عَنْ أَبِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
5 - بَاب يَقْصُرُ إِذَا خَرَجَ مِنْ مَوْضِعِهِ
وَخَرَجَ عَلِيُّ رضي الله عنه فَقَصَرَ وَهُوَ يَرَى الْبُيُوتَ، فَلَمَّا رَجَعَ قِيلَ لَهُ: هَذِهِ الْكُوفَةُ؟ قَالَ: لَا، حَتَّى نَدْخُلَهَا
1089 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ أَنَسِ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّيْتُ الظُّهْرَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا وَبِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ.
[الحديث 1089 - أطرافه في:. 1546، 1547، 1548، 1551، 1712، 1714، 1715، 2951، 2986]
1090 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ الصَّلَاةُ أَوَّلُ مَا فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ وَأُتِمَّتْ صَلَاةُ الْحَضَرِ قَالَ الزُّهْرِيُّ فَقُلْتُ لِعُرْوَةَ مَا بَالُ عَائِشَةَ تُتِمُّ قَالَ تَأَوَّلَتْ مَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ
قَوْلُهُ: (بَابُ يَقْصُرُ إِذَا خَرَجَ مِنْ مَوْضِعِهِ) يَعْنِي إِذَا قَصَدَ سَفَرًا تُقْصَرُ فِي مِثْلِهِ الصَّلَاةُ، وَهِيَ مِنَ الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا أَيْضًا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ لِمَنْ يُرِيدُ السَّفَرَ أَنْ يَقْصُرَ إِذَا خَرَجَ عَنْ جَمِيعِ بُيُوتِ الْقَرْيَةِ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْهَا، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا قَبْلَ الْخُرُوجِ عَنِ الْبُيُوتِ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مُفَارَقَةِ جَمِيعِ الْبُيُوتِ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ السَّفَرَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَلَوْ كَانَ فِي مَنْزِلِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِذَا رَكِبَ قَصَرَ إِنْ شَاءَ، وَرَجَّحَ ابْنُ الْمُنْذِرِ الْأَوَّلَ بِأَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَقْصُرُ إِذَا فَارَقَ الْبُيُوتَ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا قَبْلَ ذَلِكَ، فَعَلَيْهِ الْإِتْمَامُ عَلَى أَصْلِ مَا كَانَ عَلَيْهِ حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّ لَهُ الْقَصْرَ، قَالَ: وَلَا أَعْلَمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَصَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَسْفَارِهِ إِلَّا بَعْدَ خُرُوجِهِ عَنْ الْمَدِينَةِ.
قَوْلُهُ: (وَخَرَجَ عَلِيٌّ فَقَصَرَ وَهُوَ يَرَى الْبُيُوتَ، فَلَمَّا رَجَعَ قِيلَ لَهُ: هَذِهِ الْكُوفَةُ، قَالَ: لَا، حَتَّى نَدْخُلَ) وَصَلَهُ الْحَاكِمُ مِنْ رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ وِقَاءَ بْنِ إِيَاسٍ وَهُوَ بِكَسْرِ الْوَاوِ وَبَعْدَهَا قَافٌ ثُمَّ مَدَّةٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَصَرْنَا الصَّلَاةَ وَنَحْنُ نَرَى الْبُيُوتَ، ثُمَّ رَجَعْنَا فَقَصَرْنَا الصَّلَاةَ وَنَحْنُ نَرَى الْبُيُوتَ وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ
مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ وِقَاءَ بْنِ إِيَاسٍ بِلَفْظِ خَرَجْنَا مَعَ عَلِيٍّ مُتَوَجِّهِينَ هَاهُنَا - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الشَّامِ - فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، حَتَّى إِذَا رَجَعْنَا وَنَظَرْنَا إِلَى الْكُوفَةِ حَضَرَتِ الصَّلَاةُ قَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذِهِ الْكُوفَةُ، أَتِمَّ الصَّلَاةَ. قَالَ: لَا، حَتَّى نَدْخُلَهَا وَفَهِمَ ابْنُ بَطَّالٍ مِنْ قَوْلِهِ فِي التَّعْلِيقِ: لَا، حَتَّى نَدْخُلَهَا أَنَّهُ امْتَنَعَ مِنَ الصَّلَاةِ حَتَّى يَدْخُلَ الْكُوفَةَ، قَالَ: لِأَنَّهُ لَوْ صَلَّى فَقَصَرَ سَاغَ لَهُ ذَلِكَ، لَكِنَّهُ اخْتَارَ أَنْ يُتِمَّ لِاتِّسَاعِ الْوَقْتِ اهـ. وَقَدْ تَبَيَّنَ مِنْ سِيَاقِ أَثَرِ عَلِيٍّ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى خِلَافِ مَا فَهِمَهُ ابْنُ بَطَّالٍ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: هَذِهِ الْكُوفَةُ أَيْ فَأَتِمَّ الصَّلَاةَ، فَقَالَ: لَا، حَتَّى نَدْخُلَهَا أَيْ لَا نَزَالُ نَقْصُرُ حَتَّى نَدْخُلَهَا، فَإِنَّا مَا لَمْ نَدْخُلْهَا فِي حُكْمِ الْمُسَافِرِينَ.
قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ (صَلَّيْتُ الظُّهْرَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا وَبِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَالْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ وَهِيَ ثَابِتَةٌ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الْحَجِّ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى اسْتِبَاحَةِ قَصْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ؛ لِأَنَّ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَذِي الْحُلَيْفَةِ سِتَّةَ أَمْيَالٍ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ ذَا الْحُلَيْفَةِ لَمْ تَكُنْ مُنْتَهَى السَّفَرِ وَإِنَّمَا خَرَجَ إِلَيْهَا حَيْثُ كَانَ قَاصِدًا إِلَى مَكَّةَ، فَاتَّفَقَ نُزُولُهُ بِهَا وَكَانَتْ أَوَّلَ صَلَاةٍ حَضَرَتْ بِهَا الْعَصْرُ فَقَصَرَهَا، وَاسْتَمَرَّ يَقْصُرُ إِلَى أَنْ رَجَعَ، وَمُنَاسَبَةُ أَثَرِ عَلِيٍّ لِحَدِيثِ أَنَسٍ ثُمَّ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ؛ أَنَّ حَدِيثَ عَلِيٍّ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْقَصْرَ يُشْرَعُ بِفِرَاقِ الْحَضَرِ، وَكَوْنُهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقْصُرْ حَتَّى رَأَى ذَا الْحُلَيْفَةِ إِنَّمَا هُوَ لِكَوْنِهِ أَوَّلَ مَنْزِلٍ نَزَلَهُ وَلَمْ يَحْضُرْ قَبْلَهُ وَقْتُ صَلَاةٍ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ فَفِيهِ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالسَّفَرِ وَالْحَضَرِ، فَحَيْثُ وُجِدَ السَّفَرُ شُرِعَ الْقَصْرُ، وَحَيْثُ وُجِدَ الْحَضَرُ شُرِعَ الْإِتْمَامُ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ السَّفَرَ لَا يَقْصُرُ حَتَّى يَبْرُزَ مِنَ الْبَلَدِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ مِنَ السَّلَفِ يَقْصُرُ وَلَوْ فِي بَيْتِهِ، وَفِيهِ حُجَّةٌ عَلَى مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: لَا يَقْصُرُ حَتَّى يَدْخُلَ اللَّيْلُ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَقُلْتُ لِعُرْوَةَ: مَا بَالُ عَائِشَةَ تُتِمُّ؟ قَالَ: تَأَوَّلَتْ مَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ.
قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: (الصَّلَاةُ أَوَّلُ مَا فُرِضَتْ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ الصَّلَوَاتُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَأَوَّلُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الصَّلَاةِ أَوْ مُبْتَدَأٌ ثَانٍ، وَيَجُوزُ النَّصْبُ عَلَى أَنَّهُ ظَرْفٌ أَيْ فِي أَوَّلِ.
قَوْلُهُ: (رَكْعَتَيْنِ) فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ.
قَوْلُهُ: (فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ، وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْمُسَافِرِ لَا تَجُوزُ إِلَّا مَقْصُورَةً، وَرُدَّ بِأَنَّهُ مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} وَلِأَنَّهُ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ الْإِتْمَامُ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ قَوْلَ عَائِشَةَ: فُرِضَتْ أَيْ قُدِّرَتْ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا اخْتَارَ الْقَصْرَ فَهُوَ فَرْضُهُ، وَمِنْ أَدَلِّ دَلِيلٍ عَلَى تَعَيُّنِ تَأْوِيلِ حَدِيثِ عَائِشَةَ هَذَا كَوْنُهَا كَانَتْ تُتِمُّ فِي السَّفَرِ، وَلِذَلِكَ أَوْرَدَهُ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ.
قَوْلُهُ: (تَأَوَّلَتْ مَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ) هَذَا فِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ عُثْمَانَ إِنَّمَا أَتَمَّ لِكَوْنِهِ تَأَهَّلَ بِمَكَّةَ، أَوْ لِأَنَّهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَكُلُّ مَوْضِعٍ لَهُ دَارٌ، أَوْ لِأَنَّهُ عَزَمَ عَلَى الْإِقَامَةِ بِمَكَّةَ، أَوْ لِأَنَّهُ اسْتَجَدَّ لَهُ أَرْضًا بِمِنًى، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ يَسْبِقُ النَّاسَ إِلَى مَكَّةَ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مُنْتَفٍ فِي حَقِّ عَائِشَةَ وَأَكْثَرُهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ بَلْ هِيَ ظُنُونٌ مِمَّنْ قَالَهَا، وَيَرُدُّ الْأَوَّلُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُسَافِرُ بِزَوْجَاتِهِ وَقَصَرَ، وَالثَّانِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَوْلَى بِذَلِكَ، وَالثَّالِثُ أَنَّ الْإِقَامَةَ بِمَكَّةَ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ حَرَامٌ كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ فِي الْكَلَامِ حَدِيثٌ عَلَى حَدِيثِ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي، وَالرَّابِعُ وَالْخَامِسُ لَمْ يُنْقَلَا فَلَا يَكْفِي التَّخَرُّصُ فِي ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ وَإِنْ كَانَ نُقِلَ وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ وَأَنَّهُ لَمَّا صَلَّى بِمِنًى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ أَنْكَرَ النَّاسُ عَلَيْهِ فَقَالَ: إِنِّي تَأَهَّلْتُ بِمَكَّةَ لَمَّا قَدِمْتُ وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ تَأَهَّلَ بِبَلْدَةٍ فَإِنَّهُ يُصَلِّي صَلَاةَ مُقِيمٍ فَهَذَا الْحَدَثُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ، وَفِي رُوَاتِهِ مَنْ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَيَرُدُّهُ قَوْلُ عُرْوَةَ: إِنَّ عَائِشَةَ تَأَوَّلَتْ مَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ، وَلَا جَائِزَ أَنْ تَتَأَهَّلَ عَائِشَةُ أَصْلًا. فَدَلَّ عَلَى وَهْنِ ذَلِكَ الْخَبَرِ.
ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ
عُرْوَةَ بِقَوْلِهِ كَمَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ التَّشْبِيهُ بِعُثْمَانَ فِي الْإِتْمَامِ بِتَأْوِيلٍ لَا اتِّحَادِ تَأْوِيلِهِمَا، وَيُقَوِّيهِ أَنَّ الْأَسْبَابَ اخْتَلَفَتْ فِي تَأْوِيلِ عُثْمَانَ فَتَكَاثَرَتْ، بِخِلَافِ تَأْوِيلِ عَائِشَةَ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تُصَلِّي فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا، فَإِذَا احْتَجُّوا عَلَيْهَا تَقُولُ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي حَرْبٍ وَكَانَ يَخَافُ، فَهَلْ تَخَافُونَ أَنْتُمْ؟ وَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِ عَائِشَةَ إِنَّمَا أَتَمَّتْ فِي سَفَرِهَا إِلَى الْبَصْرَةِ إِلَى قِتَالِ عَلِيٍّ وَالْقَصْرُ عِنْدَهَا إِنَّمَا يَكُونُ فِي سَفَرِ طَاعَةٍ، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ بَاطِلَانِ لَا سِيَّمَا الثَّانِي، وَلَعَلَّ قَوْلَ عَائِشَةَ هَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي حَدِيثِ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ الْمَاضِي قَبْلُ بِبَابَيْنِ، وَالْمَنْقُولُ أَنَّ سَبَبَ إِتْمَامِ عُثْمَانَ أَنَّهُ كَانَ يَرَى الْقَصْرَ مُخْتَصًّا بِمَنْ كَانَ شَاخِصًا سَائِرًا، وَأَمَّا مَنْ أَقَامَ فِي مَكَانٍ فِي أَثْنَاءِ سَفَرِهِ فَلَهُ حُكْمُ الْمُقِيمِ فَيُتِمُّ، وَالْحُجَّةُ فِيهِ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ عَلَيْنَا مُعَاوِيَةُ حَاجًّا صَلَّى بِنَا الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ بِمَكَّةَ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى دَارِ النَّدْوَةِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ مَرْوَانُ، وَعَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ فَقَالَا: لَقَدْ عِبْتَ أَمْرَ ابْنِ عَمِّكَ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ أَتَمَّ الصَّلَاةَ. قَالَ: وَكَانَ عُثْمَانُ حَيْثُ أَتَمَّ الصَّلَاةَ إِذَا قَدِمَ مَكَّةَ صَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْعِشَاءَ أَرْبَعًا أَرْبَعًا، ثُمَّ إِذَا خَرَجَ إِلَى مِنًى وَعَرَفَةَ قَصَرَ الصَّلَاةَ، فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الْحَجِّ وَأَقَامَ بِمِنًى أَتَمَّ الصَّلَاةَ.
وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْوَجْهُ الصَّحِيحُ فِي ذَلِكَ أَنَّ عُثْمَانَ، وَعَائِشَةَ كَانَا يَرَيَانِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا قَصَرَ لِأَنَّهُ أَخَذَ بِالْأَيْسَرِ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أُمَّتِهِ، فَأَخَذَا لِأَنْفُسِهِمَا بِالشِّدَّةِ اهـ.
وَهَذَا رَجَّحَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ آخِرِهِمُ الْقُرْطُبِيُّ، لَكِنِ الْوَجْهُ الَّذِي قَبْلَهُ أَوْلَى لِتَصْرِيحِ الرَّاوِي بِالسَّبَبِ، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ عُثْمَانَ إِنَّمَا أَتَمَّ الصَّلَاةَ لِأَنَّهُ نَوَى الْإِقَامَةَ بَعْدَ الْحَجِّ فَهُوَ مُرْسَلٌ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ بِمَكَّةَ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ حَرَامٌ، كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ فِي الْمَغَازِي، وَصَحَّ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ كَانَ لَا يُوَدِّعُ النِّسَاءَ إِلَّا عَلَى ظَهْرِ رَاحِلَتِهِ، وَيُسْرِعُ الْخُرُوجَ خَشْيَةَ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِجْرَتِهِ. وَثَبَتَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ قَالَ لَمَّا حَاصَرُوهُ - وَقَالَ لَهُ الْمُغِيرَةُ: ارْكَبْ رَوَاحِلَكُ إِلَى مَكَّةَ - قَالَ: لَنْ أُفَارِقَ دَارَ هِجْرَتِي.
وَمَعَ هَذَا النَّظَرِ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، فَقَدْ رَوَى أَيُّوبُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ مَا يُخَالِفُهُ، فَرَوَى الطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: إِنَّمَا صَلَّى عُثْمَانُ بِمِنًى أَرْبَعًا لِأَنَّ الْأَعْرَابَ كَانُوا كَثُرُوا فِي ذَلِكَ الْعَامِ فَأَحَبَّ أَنْ يُعْلِمَهُمْ أَنَّ الصَّلَاةَ أَرْبَعٌ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ أَتَمَّ بِمِنًى ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ: إِنَّ الْقَصْرَ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبَيْهِ، وَلَكِنَّهُ حَدَثٌ طَغَامٌ - يَعْنِي بِفَتْحِ الطَّاءِ وَالْمُعْجَمَةِ - فَخِفْتُ أَنْ يَسْتَنُّوا. وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا نَادَاهُ فِي مِنًى: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمَنِينَ مَا زِلْتُ أُصَلِّيهَا مُنْذُ رَأَيْتُكَ عَامَ أَوَّلَ رَكْعَتَيْنِ. وَهَذِهِ طُرُقٌ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا، وَلَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَصْلَ سَبَبِ الْإِتْمَامِ، وَلَيْسَ بِمُعَارِضٍ لِلْوَجْهِ الَّذِي اخْتَرْتُهُ بَلْ يُقَوِّيهِ، مِنْ حَيْثُ إنَّ حَالَةَ الْإِقَامَةِ فِي أَثْنَاءِ السَّفَرِ أَقْرَبُ إِلَى قِيَاسِ الْإِقَامَةِ الْمُطْلَقَةِ عَلَيْهَا بِخِلَافِ السَّائِرِ، وَهَذَا مَا أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُ عُثْمَانَ. وَأَمَّا عَائِشَةُ فَقَدْ جَاءَ عَنْهَا سَبَبُ الْإِتْمَامِ صَرِيحًا، وَهُوَ فِيمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهَا كَانَتْ تُصَلِّي فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا، فَقُلْتُ لَهَا: لَوْ صَلَّيْتِ رَكْعَتَيْنِ، فَقَالَتْ: يَا ابْنَ أُخْتِي إِنَّهُ لَا يَشُقُّ عَلَيَّ إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّهَا تَأَوَّلَتْ أَنَّ الْقَصْرَ رُخْصَةٌ، وَأَنَّ الْإِتْمَامَ لِمَنْ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ أَفْضَلٌ.
وَيَدُلُّ عَلَى اخْتِيَارِ الْجُمْهُورِ مَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى، وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَافَرَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ومع أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ فَكُلُّهُمْ كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ مِنْ حِينِ يَخْرُجُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي السَّيْرِ وَفِي الْمُقَامِ بِمَكَّةَ.
قَالَ الْكِرْمَانِيُّ مَا مُلَخَّصُهُ: تَمَسَّكَ الْحَنَفِيَّةُ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي أَنَّ الْفَرْضَ فِي السَّفَرِ أَنْ يُصَلِّيَ الرُّبَاعِيَّةَ رَكْعَتَيْنِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى ظَاهِرِهِ لَمَا أَتَمَّتْ عَائِشَةُ، وَعِنْدَهُمُ الْعِبْرَةُ بِمَا رَأَى الرَّاوِي إِذَا عَارَضَ مَا رَوَى. ثُمَّ
ظَاهِرُ الْحَدِيثِ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا فُرِضَتْ فِي الْأَصْلِ رَكْعَتَيْنِ وَاسْتَمَرَّتْ فِي السَّفَرِ، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ أَنَّهَا كَانَتْ أَرْبَعًا فَنَقَصَتْ. ثُمَّ إِنَّ قَوْلَهَا: الصَّلَاةُ تَعُمُّ الْخَمْسَ، وَهُوَ مَخْصُوصٌ بِخُرُوجِ الْمَغْرِبِ مُطْلَقًا وَالصُّبْحِ بِعَدَمِ الزِّيَادَةِ فِيهَا فِي الْحَضَرِ قَالَ: وَالْعَامُّ إِذَا خُصَّ ضَعُفَتْ دَلَالَتُهُ حَتَّى اخْتُلِفَ فِي بَقَاءِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ.
6 - بَاب يُصَلِّي الْمَغْرِبَ ثَلَاثًا فِي السَّفَرِ
1091 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ فِي السَّفَرِ يُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ. قَالَ سَالِمٌ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَفْعَلُهُ إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ.
[الحديث 1091 - أطرافه في: 3000. 1805. 1673. 1668. 1109. 1106. 1092]
1092 -
وَزَادَ اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ سَالِمٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمُزْدَلِفَةِ. قَالَ سَالِمٌ: وَأَخَّرَ ابْنُ عُمَرَ الْمَغْرِبَ، وَكَانَ اسْتُصْرِخَ عَلَى امْرَأَتِهِ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ، فَقُلْتُ لَهُ: الصَّلَاةَ. فَقَالَ: سِرْ. فَقُلْتُ: الصَّلَاةَ، فَقَالَ: سِرْ حَتَّى سَارَ مِيلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ يُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ فَيُصَلِّيهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ يُسَلِّمُ، ثُمَّ قَلَّمَا يَلْبَثُ حَتَّى يُقِيمَ الْعِشَاءَ فَيُصَلِّيهَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يُسَلِّمُ، وَلَا يُسَبِّحُ بَعْدَ الْعِشَاءِ حَتَّى يَقُومَ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ يُصَلِّي الْمَغْرِبَ ثَلَاثًا فِي السَّفَرِ) أَيْ وَلَا يَدْخُلُ الْقَصْرُ فِيهَا، وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ فِيهِ الْإِجْمَاعَ وَأَرَادَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْمُطْلَقَةَ فِي قَوْلِ الرَّاوِي: كَانَ يُصَلِّي فِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمُقَيَّدَةِ بِأَنَّ الْمَغْرِبَ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ ثُمَامَةَ بْنِ شُرَحْبِيلَ قَالَ: خَرَجْتُ إِلَى ابْنِ عُمَرَ فَقُلْتُ: مَا صَلَاةُ الْمُسَافِرِ؟ قَالَ: رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، إِلَّا صَلَاةَ الْمَغْرِبِ ثَلَاثًا.
قَوْلُهُ: (إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ فِي السَّفَرِ) يَخْرُجُ مَا إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ فِي الْحَضَرِ، كَأَنْ يَكُونَ خَارِجَ الْبَلَدِ فِي بُسْتَانٍ مَثَلًا.
قَوْلُهُ: (وَزَادَ اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي يُونُسُ) وَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِطُولِهِ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ زَكَرِيَّا، عَنِ ابْنِ زَنْجَوَيْهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَانِئٍ، عَنِ الرَّمَادِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ اللَّيْثِ بِهِ.
قَوْلُهُ: (وَأَخَّرَ ابْنُ عُمَرَ الْمَغْرِبَ، وَكَانَ اسْتَصْرَخَ عَلَى صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ) هِيَ أُخْتُ الْمُخْتَارِ الثَّقَفِيِّ، وَقَوْلُهُ اسْتُصْرِخَ بِالضَّمِّ أَيِ اسْتُغِيثَ بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ، وَهُوَ مِنَ الصُّرَاخِ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَالْمُصْرَخُ الْمُغِيثُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ لَهُ الصَّلَاةَ) بِالنَّصْبِ عَلَى الْإِغْرَاءِ.
قَوْلُهُ: (قُلْتُ لَهُ الصَّلَاةَ) فِيهِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ مُرَاعَاةِ أَوْقَاتِ الْعِبَادَةِ، وَفِي قَوْلِهِ: سِرُّ جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ.
(تَنْبِيهٌ): ظَاهِرُ سِيَاقِ الْمُؤَلِّفِ أَنَّ جَمِيعَ مَا بَعْدَ قَوْلِهِ زَادَ اللَّيْثُ لَيْسَ دَاخِلًا فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ أَخْرَجَ رِوَايَةَ شُعَيْبٍ بَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَبْوَابٍ وَفِيهَا أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الزِّيَادَةُ فِي قِصَّةِ صَفِيَّةَ وَصَنِيعِ ابْنِ عُمَرَ خَاصَّةً، وَفِي التَّصْرِيحِ بِقَوْلِهِ: (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَطْ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى سَارَ مِيلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً) أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ السُّرْعَةِ فِي السَّيْرِ مِنْ كِتَابِ الْجِهَادِ مِنْ
رِوَايَةِ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بِطَرِيقِ مَكَّةَ فَبَلَغَهُ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ شِدَّةُ وَجَعٍ، فَأَسْرَعَ السَّيْرَ حَتَّى إِذَا كَانَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّفَقِ نَزَلَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعَتَمَةَ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَأَفَادَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ تَعْيِينَ السَّفَرِ الْمَذْكُورِ وَوَقْتِ انْتِهَاءِ السَّيْرِ وَالتَّصْرِيحِ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، وَأَفَادَ النَّسَائِيُّ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهَا كَتَبَتْ إِلَيْهِ تُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، وَلِمُسْلِمٍ نَحْوُهُ مِنْ رِوَايَةِ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: فَسَارَ حَتَّى غَابَ الشَّفَقُ وَتَصَوَّبَتِ النُّجُومُ نَزَلَ فَصَلَّى الصَّلَاتَيْنِ جَمِيعًا وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: حَتَّى إِذَا كَانَ فِي آخِرِ الشَّفَقِ نَزَلَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ ثُمَّ أَقَامَ الْعِشَاءَ وَقَدْ تَوَارَى الشَّفَقُ فَصَلَّى بِنَا فَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهَا قِصَّةٌ أُخْرَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ فِي أَوَّلِهِ خَرَجْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ فِي سَفَرٍ يُرِيدُ أَرْضًا لَهُ وَفِي الْأَوَّلِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنْ مَكَّةَ، فَدَلَّ عَلَى التَّعَدُّدِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ) أَيِ ابْنُ عُمَرَ (رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ) يُؤْخَذُ مِنْهُ تَقْيِيدُ جَوَازِ التَّأْخِيرِ بِمَنْ كَانَ عَلَى ظَهْرِ سَيْرٍ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ بَعْدَ سِتَّةِ أَبْوَابٍ.
قَوْلُهُ: (يُقِيمُ الْمَغْرِبَ) كَذَا لِلْحَمَوِيِّ وَالْأَكْثَرُ بِالْقَافِ، وَهِيَ مُوَافِقَةٌ لِلرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ، وَلِلْمُسْتَمْلِي، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ يُعْتِمُ بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ فَوْقَانِيَّةٌ مَكْسُورَةٌ أَيْ يَدْخُلُ فِي الْعَتَمَةِ، وَلِكَرِيمَةَ يُؤَخِّرُ، وَفِي الْبَابِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: مَا سَافَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، إِلَّا الْمَغْرِبَ صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَعَنْ عَلِيٍّ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ إِلَّا الْمَغْرِبَ ثَلَاثًا. أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ، وَجَابِرٍ وَغَيْرِهِمَا وَعَنْ عَائِشَةَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ.
7 - بَاب صَلَاةِ التَّطَوُّعِ عَلَى الدواب وَحَيْثُ مَا تَوَجَّهَتْ بِهِ
1093 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ.
[الحديث 1093 - طرفاه في: 1104، 1097]
1094 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي التَّطَوُّعَ وَهُوَ رَاكِبٌ فِي غَيْرِ الْقِبْلَةِ "
1095 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ قَالَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ قَالَ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ وَيُوتِرُ عَلَيْهَا وَيُخْبِرُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُهُ "
قَوْلُهُ: (بَابُ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ على الدَّابَّةِ) فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَأَبِي الْوَقْتِ عَلَى الدَّوَابِّ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: أَوْرَدَ فِيهِ الصَّلَاةَ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَرْجَمَ بِأَعَمَّ لِيُلْحِقَ الْحُكْمَ بِالْقِيَاسِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَفَادَ ذَلِكَ مِنْ إِطْلَاقِ حَدِيثِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ اهـ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَبْوَابِ الْوِتْرِ قَوْلُ الزَّيْنِ بْنِ الْمُنِيرِ: إِنَّهُ تَرْجَمَ بِالدَّابَّةِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنْ لا فرقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْبَعِيرِ فِي الْحُكْمِ إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ، وَأَشَرْنَا هُنَاكَ إِلَى مَا وَرَدَ هُنَا بَعْدَ بَابٍ بِلَفْظِ الدَّابَّةِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ أَبِيهِ) هُوَ الْعَنَزِيُّ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونُ بَعْدَهَا زَايٌ حَلِيفُ آلِ الْخَطَّابِ، كَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ وَآخَرَ فِي الْجَنَائِزِ وَآخَرَ عَلَّقَهُ فِي الصِّيَامِ. وَفِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الْآتِيَةِ بَعْدَ بَابٍ أَنَّ عَامِرَ بْنَ رَبِيعَةَ أَخْبَرَهُ.
قَوْلُهُ: (يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ) بَيَّنَ فِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ أَنَّ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمَكْتُوبَةِ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ، وَكَذَا
لِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِلَفْظِ السُّبْحَةِ.
قَوْلُهُ: (حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ) هُوَ أَعَمُّ مِنْ قَوْلِ جَابِرٍ: فِي غَيْرِ الْقِبْلَةِ قَالَ ابْنُ التِّينِ: قَوْلُهُ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ مَفْهُومُهُ أَنَّهُ يَجْلِسُ عَلَيْهَا عَلَى هَيْئَتِهِ الَّتِي يَرْكَبُهَا عَلَيْهَا وَيَسْتَقْبِلُ بِوَجْهِهِ مَا اسْتَقْبَلَتْهُ الرَّاحِلَةُ، فَتَقْدِيرُهُ: يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ الَّتِي لَهُ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ، فَعَلَى هَذَا يَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: تَوَجَّهَتْ بِهِ بِقَوْلِهِ يُصَلِّي، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: عَلَى رَاحِلَتِهِ، لَكِنْ يُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ الرِّوَايَةُ الْآتِيَةُ يَعْنِي رِوَايَةَ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِلَفْظِ: وَهُوَ عَلَى الرَّاحِلَةِ يُسَبِّحُ قِبَلَ أَيِّ وَجْهٍ تَوَجَّهَتْ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ) هُوَ النَّحْوِيُّ، وَيَحْيَى هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ هُوَ ابْنُ ثَوْبَانَ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ بَعْدَ بَابٍ.
قَوْلُهُ: (وَهُوَ رَاكِبٌ) فِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ عَلَى رَاحِلَتِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ وَزَادَ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ الْمَكْتُوبَةَ نَزَلَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ. وَبَيَّنَ فِي الْمَغَازِي مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُرَاقَةَ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي غَزْوَةِ أَنْمَارٍ، وَكَانَت أَرْضُهُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ لِمَنْ يَخْرُجُ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَتَكُونُ الْقِبْلَةُ عَلَى يَسَارِ الْقَاصِدِ إِلَيْهِمْ.
وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ بِلَفْظِ فَجِئْتُ وَهُوَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ السُّجُودُ أَخْفَضُ مِنَ الرُّكُوعِ.
قَوْلُهُ: (كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ) يَعْنِي فِي السَّفَرِ، وَصَرَّحَ بِهِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.
قَوْلُهُ: (وَيُوتِرُ عَلَيْهَا) لَا يُعَارِضُ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُصَلِّي عَلَى الرَّاحِلَةِ تَطَوُّعًا، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ نَزَلَ فَأَوْتَرَ عَلَى الْأَرْضِ لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَ كُلًّا مِنَ الْأَمْرَيْنِ، وَيُؤَيِّدُ رِوَايَةَ الْبَابِ مَا تَقَدَّمَ فِي أَبْوَابِ الْوِتْرِ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ نُزُولَهُ الْأَرْضَ لِيُوتِرَ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ - مَعَ كَوْنِهِ كَانَ يَفْعَلُهُ - لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ أَنَّ النُّزُولَ بِحَتْمٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَتَنَزَّلَ فِعْلُ ابْنِ عُمَرَ عَلَى حَالَيْنِ: فَحَيْثُ أَوْتَرَ عَلَى الرَّاحِلَةِ كَانَ مُجِدًّا فِي السَّيْرِ، وَحَيْثُ نَزَلَ فَأَوْتَرَ عَلَى الْأَرْضِ كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ.
8 - بَاب الْإِيمَاءِ عَلَى الدَّابَّةِ
1096 -
حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يُصَلِّي فِي السَّفَرِ عَلَى رَاحِلَتِهِ أَيْنَمَا تَوَجَّهَتْ يُومِئُ. وَذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الْإِيمَاءِ عَلَى الدَّابَّةِ) أَيْ لِلرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لِمَنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ، وَبِهَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ، وَرَوَى أَشْهَبُ، عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الَّذِي يُصَلِّي عَلَى الدَّابَّةِ لَا يَسْجُدُ بَلْ يُومِئُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ) تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي أَبْوَابِ الْوِتْرِ بَابُ الْوِتْرِ فِي السَّفَرِ عَنْ مُوسَى هَذَا عَنْ جُوَيْرِيَةَ بْنِ أَسْمَاءَ، فَكَأَنَّ لِمُوسَى فِيهِ شَيْخَيْنِ، فَإِنَّ الرَّاوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ مُغَايِرٌ لِهَذَا، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ جُوَيْرِيَةَ يُومِئُ إِيمَاءً إِلَّا الْفَرَائِضَ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى الْإِيمَاءِ مُطْلَقًا فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مَعًا، وَالْفُقَهَاءُ قَالُوا: يَكُونُ الْإِيمَاءُ فِي السُّجُودِ أَخَفْضَ مِنَ الرُّكُوعِ لِيَكُونَ الْبَدَلُ عَلَى وَفْقِ الْأَصْلِ، وَلَيْسَ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ مَا يُثْبِتُهُ وَلَا يَنْفِيهِ. قُلْتُ: إِلَّا أَنَّهُ وَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ.
9 - بَاب يَنْزِلُ لِلْمَكْتُوبَةِ
1097 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن بُكَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ
رَبِيعَةَ، أَنَّ عَامِرَ بْنَ رَبِيعَةَ أَخْبَرَهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى الرَّاحِلَةِ يُسَبِّحُ، يُومِئُ بِرَأْسِهِ قِبَلَ أَيِّ وَجْهٍ تَوَجَّهَ، وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ.
1098 -
وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: قَالَ سَالِمٌ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُصَلِّي عَلَى دَابَّتِهِ مِنْ اللَّيْلِ وَهُوَ مُسَافِرٌ، مَا يُبَالِي حَيْثُ مَا كَانَ وَجْهُهُ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُسَبِّحُ عَلَى الرَّاحِلَةِ قِبَلَ أَيِّ وَجْهٍ تَوَجَّهَ، وَيُوتِرُ عَلَيْهَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ يَنْزِلُ لِلْمَكْتُوبَةِ) أَيْ لِأَجْلِهَا، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى اشْتِرَاطِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرِيضَةَ عَلَى الدَّابَّةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، حَاشَا مَا ذُكِرَ فِي صَلَاةِ شِدَّةِ الْخَوْفِ وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا.
قَوْلُهُ: (يُسَبِّحُ) أَيْ يُصَلِّي النَّافِلَةَ، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْحَدِيثِ كَثِيرًا، وَسَيَأْتِي قَرِيبًا حَدِيثُ عَائِشَةَ سُبْحَةَ الضُّحَى وَالتَّسْبِيحُ حَقِيقَةٌ فِي قَوْلِ سُبْحَانَ اللَّهِ، فَإِذَا أُطْلِقَ عَلَى الصَّلَاةِ فَهُوَ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ اسْمِ الْبَعْضِ عَلَى الْكُلِّ، أَوْ لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ مُنَزِّهٌ لِلَّهِ سبحانه وتعالى بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ، وَالتَّسْبِيحُ التَّنْزِيهُ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْمُلَازَمَةِ، وَأَمَّا اخْتِصَاصُ ذَلِكَ بِالنَّافِلَةِ فَهُوَ عُرْفٌ شَرْعِيٌّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّيْثُ) وَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِالْإِسْنَادَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ قَبْلَ بَابَيْنِ.
1099 -
حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبانَ قَالَ: حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ الْمَكْتُوبَةَ نَزَلَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا هِشَامٌ) هُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ، وَيَحْيَى هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ. قَالَ الْمُهَلَّبُ: هَذِهِ الْأَحَادِيثُ تَخُصُّ قولَهُ تَعَالَى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} وَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} فِي النَّافِلَةِ، وَقَدْ أَخَذَ بِمَضْمُونِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ، إِلَّا أَنَّ أَحْمَدَ، وَأَبَا ثَوْرٍ كَانَا يَسْتَحِبَّانِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ بِالتَّكْبِيرِ حَالَ ابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ، وَالْحُجَّةُ لِذَلِكَ حَدِيثُ الْجَارُودِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَطَوَّعَ فِي السَّفَرِ اسْتَقْبَلَ بِنَاقَتِهِ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ صَلَّى حَيْثُ وَجَّهَتْ رِكَابُهُ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَأَحْمَدُ، وَالدَّرَاقُطْنِيُّ، وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّلَاةِ عَلَى الدَّوَابِّ فِي السَّفَرِ الَّذِي لَا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ فِي كُلِّ سَفَرٍ، غَيْرَ مَالِكٍ فَخَصَّهُ بِالسَّفَرِ الَّذِي تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ.
قُلْتُ: وَلَمْ يَتَّفِقْ عَلَى ذَلِكَ عَنْهُ، وَحُجَّتُهُ أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ إِنَّمَا وَرَدَتْ فِي أَسْفَارِهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ سَافَرَ سَفَرًا قَصِيرًا فَصَنَعَ ذَلِكَ، وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ مُطْلَقُ الْأَخْبَارِ فِي ذَلِكَ، وَاحْتَجَّ الطَّبَرِيُّ لِلْجُمْهُورِ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ التَّيَمُّمَ رُخْصَةً لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ خَارِجَ الْمِصْرِ عَلَى مِيلٍ أَوْ أَقَلَّ وَنِيَّتُهُ الْعَوْدُ إِلَى مَنْزِلِهِ لَا إِلَى سَفَرٍ آخَرَ وَلَمْ يَجِدْ مَاءً أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ، وَقَالَ: فَكَمَا جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ فِي هَذَا الْقَدْرِ جَازَ لَهُ النَّفْلُ عَلَى الدَّابَّةِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الرُّخْصَةِ اهـ.
وَكَأَنَّ السِّرَّ فِيمَا ذُكِرَ تَيْسِيرُ تَحْصِيلِ النَّوَافِلِ عَلَى الْعِبَادِ وَتَكْثِيرِهَا تَعْظِيمًا لِأُجُورِهِمْ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ بِهِمْ. وَقَدْ طَرَدَ أَبُو يُوسُفَ وَمَنْ وَافَقَهُ التَّوْسِعَةَ فِي ذَلِكَ فَجَوَّزَهُ فِي الْحَضَرِ أَيْضًا، وَقَالَ بِهِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ، وَاسْتُدِلَّ
بِقَوْلِهِ: حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ عَلَى أَنَّ جِهَةَ الطَّرِيقِ تَكُونُ بَدَلًا عَنِ الْقِبْلَةِ حَتَّى لَا يَجُوزَ الِانْحِرَافُ عَنْهَا عَامِدًا قَاصِدًا لِغَيْرِ حَاجَةِ الْمَسِيرِ إِلَّا إِنْ كَانَ سَائِرًا فِي غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ فَانْحَرَفَ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّهُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم لِإِيقَاعِهِ إِيَّاهُ عَلَى الرَّاحِلَةِ كَمَا تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ فِي بَابِ الْوِتْرِ فِي السَّفَرِ مِنْ أَبْوَابِ الْوِتْرِ، وَاسْتُنْبِطَ مِنْ دَلِيلِ التَّنَفُّلِ لِلرَّاكِبِ جَوَازُ التَّنَفُّلِ لِلْمَاشِي، وَمَنَعَهُ مَالِكٌ مع أَنَّهُ أَجَازَهُ لِرَاكِبِ السَّفِينَةِ.
10 - بَاب صَلَاةِ التَّطَوُّعِ عَلَى الْحِمَارِ
1100 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَبَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ سِيرِينَ، قَالَ: اسْتَقْبَلْنَا أَنَسًا حِينَ قَدِمَ مِنْ الشَّامِ، فَلَقِينَاهُ بِعَيْنِ التَّمْرِ، فَرَأَيْتُهُ يُصَلِّي عَلَى حِمَارٍ وَوَجْهُهُ مِنْ ذَا الْجَانِبِ - يَعْنِي عَنْ يَسَارِ الْقِبْلَةِ - فَقُلْتُ: رَأَيْتُكَ تُصَلِّي لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ؟ فَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَلَهُ لَمْ أَفْعَلْهُ.
رَوَاهُ ابْنُ طَهْمَانَ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (بَابُ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ عَلَى الْحِمَارِ) قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: مَقْصُودُهُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي التَّطَوُّعِ عَلَى الدَّابَّةِ أَنْ تَكُونَ الدَّابَّةُ طَاهِرَةَ الْفَضَلَاتِ، بَلِ الْبَابُ فِي الْمَرْكُوبَاتِ وَاحِدٌ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَمَاسَّ النَّجَاسَةَ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ طَهَارَةُ عَرَقِ الْحِمَارِ، لِأَنَّ مُلَابَسَتَهُ مَعَ التَّحَرُّزِ مِنْهُ مُتَعَذِّرٌ لَا سِيَّمَا إِذَا طَالَ الزَّمَانُ فِي رُكُوبِهِ وَاحْتَمَلَ الْعَرَقَ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا حَبَّانُ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْمُوَحَّدَةِ هُوَ ابْنُ هِلَالٍ.
قَوْلُهُ: (اسْتَقْبَلْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ) بِسُكُونِ اللَّامِ.
قَوْلُهُ: (حِينَ قَدِمَ مِنَ الشَّامِ) كَانَ أَنَسٌ قَدْ تَوَجَّهَ إِلَى الشَّامِ يَشْكُو مِنَ الْحَجَّاجِ، وَقَدْ ذَكَرْتُ طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ حِينَ قَدِمَ الشَّامَ وَغَلَّطُوهُ لِأَنَّ أَنَسَ بْنَ سِيرِينَ إِنَّمَا تَلَقَّاهُ لَمَّا رَجَعَ مِنَ الشَّامِ فَخَرَجَ ابْنُ سِيرِينَ مِنَ الْبَصْرَةِ لِيَتَلَقَّاهُ، وَيُمْكِنُ تَوْجِيهُهُ بِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ حِينَ قَدِمَ الشَّامَ مُجَرَّدَ ذِكْرِ الْوَقْتِ الَّذِي وَقَعَ لَهُ فِيهِ ذَلِكَ كَمَا تَقُولُ فَعَلْتُ كَذَا لَمَّا حَجَجْتُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: رِوَايَةُ مُسْلِمٍ صَحِيحَةٌ وَمَعْنَاهُ تَلَقَّيْنَاهُ فِي رُجُوعِهِ حِينَ قَدِمَ الشَّامَ.
قَوْلُهُ: (فَلَقِينَاهُ بِعَيْنِ التَّمْرِ) هُوَ مَوْضِعٌ بِطَرِيقِ الْعِرَاقِ مِمَّا يَلِي الشَّامَ وَكَانَتْ بِهِ وَقْعَةٌ شَهِيرَةٌ فِي آخِرِ خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ بَيْنَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَالْأَعَاجِمِ، وَوَجَدَ بِهَا غِلْمَانًا مِنَ الْعَرَبِ كَانُوا رَهْنًا تَحْتَ يَدِ كِسْرَى مِنْهُمْ جَدُّ الْكَلْبِيِّ الْمُفَسِّرِ وَحُمْرَانُ مَوْلَى عُثْمَانَ، وَسِيرِينُ مَوْلَى أَنَسٍ.
قَوْلُهُ: (رَأَيْتُكَ تُصَلِّي لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ) فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ لَمْ يُنْكِرِ الصَّلَاةَ عَلَى الْحِمَارِ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ هَيْئَةِ أَنَسٍ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ عَدَمَ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فَقَطْ، وَفِي قَوْلِ أَنَسٍ: لَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ يَعْنِي تَرْكُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ لِلْمُتَنَفِّلِ عَلَى الدَّابَّةِ، وَهَلْ يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى حِمَارٍ؟ فِيهِ احْتِمَالٌ، وَقَدْ نَازَعَ فِي ذَلِكَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فَقَالَ: خَبَرُ أَنَسٍ إِنَّمَا هُوَ فِي صَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَاكِبًا تَطَوُّعًا لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ، فَإِفْرَادُ التَّرْجَمَةِ فِي الْحِمَارِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ لَا وَجْهَ لَهُ عِنْدِي اهـ. وَقَدْ رَوَى السَّرَّاجُ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عَلَى حِمَارٍ وَهُوَ ذَاهِبٌ إِلَى خَيْبَرَ إِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عَلَى حِمَارٍ وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى خَيْبَرَ. فَهَذَا يُرَجِّحُ الِاحْتِمَالَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْبُخَارِيُّ.
(فَائِدَةٌ): لَمْ يُبَيِّنْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ كَيْفِيَّةَ صَلَاةِ أَنَسٍ، وَذَكَرَهُ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: رَأَيْتُ أَنَسًا وَهُوَ يُصَلِّي عَلَى حِمَارٍ وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ إِيمَاءً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَضَعَ
جَبْهَتَهُ عَلَى شَيْءٍ.
قَوْلُهُ: (وَرَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ حَجَّاجٍ) يَعْنِي ابْنَ حَجَّاجٍ الْبَاهِلِيَّ، وَلَمْ يَسُقِ الْمُصَنِّفُ الْمَتْنَ وَلَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ مَوْصُولًا مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ، نَعَمْ وَقَعَ عِنْدَ السَّرَّاجِ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْحَجَّاجِ بِلَفْظِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي عَلَى نَاقَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ. فَعَلَى هَذَا كَأَنَّ أَنَسًا قَاسَ الصَّلَاةَ عَلَى الرَّاحِلَةِ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْحِمَارِ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرِ مَا مَضَى أَنَّ مَنْ صَلَّى عَلَى مَوْضِعٍ فِيهِ نَجَاسَةٌ لَا يُبَاشِرُهَا بِشَيْءٍ مِنْهُ أَنَّ صَلَاتَهُ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّ الدَّابَّةَ لَا تَخْلُو مِنْ نَجَاسَةٍ وَلَوْ عَلَى مَنْفَذِهَا. وَفِيهِ الرُّجُوعُ إِلَى أَفْعَالِهِ كَالرُّجُوعِ إِلَى أَقْوَالِهِ مِنْ غَيْرِ عُرْضَةٍ لِلِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ. وَفِيهِ تَلَقِّي الْمُسَافِرِ، وَسُؤَالُ التِّلْمِيذِ شَيْخَهُ عَنْ مُسْتَنَدِ فِعْلِهِ وَالْجَوَابُ بِالدَّلِيلِ، وَفِيهِ التَّلَطُّفُ فِي السُّؤَالِ، وَالْعَمَلُ بِالْإِشَارَةِ لِقَوْلِهِ: مِنْ ذَا الْجَانِبِ.
11 - بَاب مَنْ لَمْ يَتَطَوَّعْ فِي السَّفَرِ دُبُرَ الصَّلَاةِ وَقَبْلَهَا
1101 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنَّ حَفْصَ بْنَ عَاصِمٍ قَالَ: سَافَرَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما فَقَالَ: صَحِبْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ أَرَهُ يُسَبِّحُ فِي السَّفَرِ، وَقَالَ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}
[الحديث 1101 طرفه في: 1102]
1102 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عِيسَى بْنِ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ لَا يَزِيدُ فِي السَّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كَذَلِكَ رضي الله عنهم "
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ لَمْ يَتَطَوَّعْ فِي السَّفَرِ دُبُرَ الصَّلَاةِ) زَادَ الْحَمَوِيُّ فِي رِوَايَتِهِ وَقَبْلَهَا وَالْأَرْجَحُ رِوَايَةُ الْأَكْثَرِ لِمَا سَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ مَبَاحِثِ هَذَا الْبَابِ فِي أَبْوَابِ الْوِتْرِ، وَالْمَقْصُودُ هُنَا بَيَانُ أَنَّ مُطْلَقَ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ: صَحِبْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ أَرَهُ يُسَبِّحُ فِي السَّفَرِ أَيْ يَتَنَفَّلُ الرَّوَاتِبَ الَّتِي قَبْلَ الْفَرِيضَةِ وَبَعْدَهَا، وَذَلِكَ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ وَكَانَ لَا يَزِيدُ فِي السَّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهَذَا اللَّفْظُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ أَنْ لَا يَزِيدَ فِي عَدَدِ رَكَعَاتِ الْفَرْضِ فَيَكُونَ كِنَايَةً عَنْ نَفْيِ الْإِتْمَامِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْإِخْبَارُ عَنِ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى الْقَصْرِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ لَا يَزِيدُ نَفْلًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرِيدَ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ. قُلْتُ: وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الثَّانِي رِوَايَةُ مُسْلِمٍ مِنَ الْوَجْهِ الثَّانِي الَّذِي أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ وَلَفْظُهُ: صَحِبْتُ ابْنَ عُمَرَ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ فَصَلَّى لَنَا الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَقْبَلَ وَأَقْبَلْنَا مَعَهُ حَتَّى جَاءَ رَحْلُهُ وَجَلَسْنَا مَعَهُ، فَحَانَتْ مِنْهُ الْتِفَاتَةٌ فَرَأَى نَاسًا قِيَامًا فَقَالَ: مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ؟ قُلْتُ: يُسَبِّحُونَ. قَالَ: لَوْ كُنْتُ مُسَبِّحًا لَأَتْمَمْتُ فَذَكَرَ الْمَرْفُوعَ كَمَا سَاقَهُ الْمُصَنِّفُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: أَجَابُوا عَنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ هَذَا بِأَنَّ الْفَرِيضَةَ مُحَتَّمَةٌ، فَلَوْ شُرِعَتْ تَامَّةً لَتَحَتَّمَ إِتْمَامُهَا، وَأَمَّا النَّافِلَةُ فَهِيَ إِلَى خِيرَةِ الْمُصَلِّي، فَطَرِيقُ الرِّفْقِ بِهِ أَنْ تَكُونَ مَشْرُوعَةً وَيُخَيَّرُ فِيهَا اهـ.
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ مُرَادَ ابْنِ عُمَرَ بِقَوْلِهِ: لَوْ كُنْتُ مُسَبِّحًا لَأَتْمَمْتُ يَعْنِي أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْإِتْمَامِ وَصَلَاةِ الرَّاتِبَةِ لَكَانَ الْإِتْمَامُ أَحَبَّ إِلَيْهِ، لَكِنَّهُ فُهِمَ مِنَ الْقَصْرِ التَّخْفِيفُ، فَلِذَلِكَ كَانَ لَا يُصَلِّي الرَّاتِبَةَ وَلَا يُتِمُّ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ) هُوَ ابْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَحَفْصٌ هُوَ ابْنُ عَاصِمٍ أَيِ ابْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ،
وَيَحْيَى شَيْخُ مُسَدِّدٍ هُوَ الْقَطَّانُ.
قَوْلُهُ: (وَأَبَا بَكْرٍ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: (وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ) أَيْ أَنَّهُ (كَذَلِكَ) صَحِبَهُمْ، وَكَانُوا لَا يَزِيدُونَ فِي السَّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَفِي ذِكْرِ عُثْمَانَ إِشْكَالٌ لِأَنَّهُ كَانَ فِي آخِرِ أَمْرِهِ يُتِمُّ الصَّلَاةَ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيبًا، فَيُحْمَلُ عَلَى الْغَالِبِ. أَوِ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَتَنَفَّلُ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ وَلَا فِي آخِرِهِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ يُتِمُّ إِذَا كَانَ نَازِلًا، وَأَمَّا إِذَا كَانَ سَائِرًا فَيَقْصُرُ، فَلِذَلِكَ قَيَّدَهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِالسَّفَرِ، وَهَذَا أَوْلَى لِمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى تَأْوِيلِ عُثْمَانَ.
12 - بَاب مَنْ تَطَوَّعَ فِي السَّفَرِ فِي غَيْرِ دُبُرِ الصَّلَوَاتِ وَقَبْلَهَا
وَرَكَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ فِي السَّفَرِ
1103 -
حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو، عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: مَا أنبأ أَحَدٌ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الضُّحَى غَيْرُ أُمِّ هَانِئٍ، ذَكَرَتْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ اغْتَسَلَ فِي بَيْتِهَا فَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ، فَمَا رَأَيْتُهُ صَلَّى صَلَاةً أَخَفَّ مِنْهَا، غَيْرَ أَنَّهُ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ.
[الحديث 1103 - طرفاه في: 4292. 1176]
1104 -
وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى السُّبْحَةَ بِاللَّيْلِ فِي السَّفَرِ عَلَى ظَهْرِ رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ "
1105 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُسَبِّحُ عَلَى ظَهْرِ رَاحِلَتِهِ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ يُومِئُ بِرَأْسِهِ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ "
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ تَطَوَّعَ فِي السَّفَرِ فِي غَيْرِ دُبُرِ الصَّلَاةِ) هَذَا مُشْعِرٌ بِأَنَّ نَفْيَ التَّطَوُّعِ فِي السَّفَرِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا بَعْدَ الصَّلَاةِ خَاصَّةً، فَلَا يَتَنَاوَلُ مَا قَبْلَهَا وَلَا مَا لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِهَا مِنَ النَّوَافِلِ الْمُطْلَقَةِ كَالتَّهَجُّدِ وَالْوِتْرِ وَالضُّحَى وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا أَنَّ التَّطَوُّعَ قَبْلَهَا لَا يُظَنُّ أَنَّهُ مِنْهَا لِأَنَّهُ يَنْفَصِلُ عَنْهَا بِالْإِقَامَةِ وَانْتِظَارِ الْإِمَامِ غَالِبًا وَنَحْوِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَهَا فَإِنَّهُ فِي الْغَالِبِ يَتَّصِلُ بِهَا فَقَدْ يُظَنُّ أَنَّهُ مِنْهَا.
(فَائِدَةٌ): نَقَلَ النَّوَوِيُّ تَبَعًا لِغَيْرِهِ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي التَّنَفُّلِ فِي السَّفَرِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْمَنْعِ مُطْلَقًا، وَالْجَوَازِ مُطْلَقًا، وَالْفَرْقِ بَيْنَ الرَّوَاتِبِ وَالْمُطْلَقَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ كَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: صَحِبْتُ ابْنَ عُمَرَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ، وَكَانَ يُصَلِّي تَطَوُّعًا عَلَى دَابَّتِهِ حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ، فَإِذَا كَانَتِ الْفَرِيضَةَ نَزَلَ فَصَلَّى. وَأَغْفَلُوا قَوْلًا رَابِعًا وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي الْمُطْلَقَةِ، وَخَامِسًا وَهُوَ مَا فَرَغْنَا مِنْ تَقْرِيرِهِ.
قَوْلُهُ: (وَرَكَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي السَّفَرِ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ) قُلْتُ: وَرَدَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي قِصَّةِ النَّوْمِ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَفِيهِ: ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الصُّبْحِ، ثُمَّ صَلَّى الصُّبْحَ كَمَا كَانَ يُصَلِّي، وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَيْضًا: ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى سَجْدَتَيْنِ - أَيْ رَكْعَتَيْنِ - ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّى صَلَاةَ الْغَدَاةِ. الْحَدِيثَ. وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ، وَالدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ بِلَالٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ
فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ فَصَلَّوْا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّوُا الْغَدَاةَ. وَنَحْوُهُ لِلدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ صَاحِبُ الْهُدَى: لَمْ يُحْفَظْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ صَلَّى سُنَّةَ الصَّلَاةِ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا فِي السَّفَرِ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ سُنَّةِ الْفَجْرِ. قُلْتُ: وَيَرِدُ عَلَى إِطْلَاقِهِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: سَافَرْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَفَرًا فَلَمْ أَرَهُ تَرَكَ رَكْعَتَيْنِ إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ الظُّهْرِ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ، لَكِنِ التِّرْمِذِيُّ اسْتَغْرَبَهُ وَنُقِلَ عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ رَآهُ حَسَنًا، وَقَدْ حَمَلَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى سُنَّةِ الزَّوَالِ لَا عَلَى الرَّاتِبَةِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (مَا أَخْبَرَنَا أَحَدٌ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الضُّحَى غَيْرُ أُمِّ هَانِئٍ) هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْوُقُوعِ؛ لِأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى إِنَّمَا نَفَى ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ بَطَّالٍ: لَا حُجَّةَ فِي قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَتَرِدُ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي أَنَّهُ صَلَّى الضُّحَى وَأَمَرَ بِهَا، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْهَا جُمْلَةً، فَلَا يَرِدُ عَلَى ابْنِ أَبِي لَيْلَى شَيْءٌ مِنْهَا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى صَلَاةِ الضُّحَى فِي بَابٍ مُفْرَدٍ فِي أَبْوَابِ التَّطَوُّعِ، وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّاهَا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ حِينَئِذٍ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُسَافِرِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي يُونُسُ) قَدْ تَقَدَّمَ قَبْلُ بِبَابَيْنِ مَوْصُولًا مِنْ رِوَايَةِ اللَّيْثِ، عَنْ عُقَيْلٍ، وَلَكِنْ لَفْظُ الرِّوَايَتَيْنِ مُخْتَلِفٌ، وَرِوَايَةُ يُونُسَ هَذِهِ وَصَلَهَا الذُّهْلِيُّ فِي الزُّهْرِيَّاتِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (يُومِئُ بِرَأْسِهِ) هُوَ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ يُسَبِّحُ أَيْ يُصَلِّي إِيمَاءً، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْإِيمَاءِ عَلَى الدَّابَّةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، لَكِنْ هُنَاكَ ذَكَرَهُ مَوْقُوفًا ثُمَّ عَقَّبَهُ بِالْمَرْفُوعِ، وَهَذَا ذُكِرَ مَرْفُوعًا ثُمَّ عَقَّبَهُ بِالْمَوْقُوفِ، وَفَائِدَةُ ذَلِكَ مَعَ أَنَّ الْحُجَّةَ قَائِمَةٌ بِالْمَرْفُوعِ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الْعَمَلَ اسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَتَطَرَّقْ إِلَيْهِ نَسْخٌ وَلَا مُعَارِضٌ وَلَا رَاجِحٌ، وَقَدِ اشْتَمَلَتْ أَحَادِيثُ الْبَابِ عَلَى أَنْوَاعٍ مَا يُتَطَوَّعُ بِهِ سِوَى الرَّاتِبَةِ الَّتِي بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ، فَالْأَوَّلُ لِمَا قَبْلَ الْمَكْتُوبَةِ، وَالثَّانِي لِمَا لَهُ وَقْتٌ مَخْصُوصٌ مِنَ النَّوَافِلِ كَالضُّحَى، وَالثَّالِثُ لِصَلَاةِ اللَّيْلِ، وَالرَّابِعُ لِمُطْلَقِ النَّوَافِلِ. وَقَدْ جَمَعَ ابْنُ بَطَّالٍ بَيْنَ مَا اخْتُلِفَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَ يَمْنَعُ التَّنَفُّلَ عَلَى الْأَرْضِ وَيَقُولُ بِهِ عَلَى الدَّابَّةِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ تَبَعًا لِغَيْرِهِ: لَعَلَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي الرَّوَاتِبَ فِي رَحْلِهِ وَلَا يَرَاهُ ابْنُ عُمَرَ، أَوْ لَعَلَّهُ تَرَكَهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لِبَيَانِ الْجَوَازِ اهـ. وَمَا جَمَعْنَا بِهِ تَبَعًا لِلْبُخَارِيِّ فِيمَا يَظْهَرُ أَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
13 - بَاب الْجَمْعِ فِي السَّفَرِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ
1106 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ إِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ.
1107 -
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ الْحُسَيْنِ الْمُعَلِّمِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ بَيْنَ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ إِذَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ سَيْرٍ، وَيَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ.
1108 -
وَعَنْ حُسَيْنٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ بَيْنَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي السَّفَرِ.
وَتَابَعَهُ عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ وَحَرْبٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ حَفْصٍ عَنْ أَنَسٍ: جَمَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.
[الحديث 1108 - طرفه في 1110]
قَوْلُهُ: (بَابُ الْجَمْعِ فِي السَّفَرِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ) أَوْرَدَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ: حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا جَدَّ السَّيْرَ، وَحَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا كَانَ سَائِرًا، وَحَدِيثَ أَنَسٍ وَهُوَ مُطْلَقٌ. وَاسْتَعْمَلَ الْمُصَنِّفُ التَّرْجَمَةَ مُطْلَقَةً إِشَارَةً إِلَى الْعَمَلِ بِالْمُطْلَقِ؛ لِأَنَّ الْمُقَيَّدَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِهِ، وَكَأَنَّهُ رَأَى جَوَازَ الْجَمْعِ بِالسَّفَرِ سَوَاءٌ كَانَ سَائِرًا أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ كَانَ سَيْرُهُ مُجِدًّا أَمْ لَا، وَهَذَا مِمَّا وَقَعَ فِيهِ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَقَالَ بِالْإِطْلَاقِ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَشْهَبُ، وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ مُطْلَقًا إِلَّا بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ، وَوَقَعَ عِنْدَ النَّوَوِيِّ أَنَّ الصَّاحِبَيْنِ خَالَفَهُ شَيْخُهُمَا، وَرَدَّ عَلَيْهِ السَّرُوجِيُّ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ وَهُوَ أَعْرَفُ بِمَذْهَبِهِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْجَمْعِ بِعَرَفَةَ فِي كِتَابِ الْحَجِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَجَابُوا عَمَّا وَرَدَ مِنَ الْأَخْبَارِ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِي وَقَعَ جَمْعٌ صُورِيٌّ، وَهُوَ أَنَّهُ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ مَثَلًا إِلَى آخِرِ وَقْتِهَا وَعَجَّلَ الْعِشَاءَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا. وَتَعَقَّبَهُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ الْجَمْعَ رُخْصَةٌ، فَلَوْ كَانَ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ لَكَانَ أَعْظَمَ ضِيقًا مِنَ الْإِتْيَانِ بِكُلِّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا؛ لِأَنَّ أَوَائِلَ الْأَوْقَاتِ وَأَوَاخِرَهَا مِمَّا لَا يُدْرِكُهُ أَكْثَرُ الخَاصَّةِ فَضْلًا عَنِ الْعَامَّةِ.
وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْجَمْعَ رُخْصَةٌ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَرَادَ أَنْ لَا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَخْبَارَ جَاءَتْ صَرِيحَةً بِالْجَمْعِ فِي وَقْتِ إِحْدَى الصَّلَاتَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ لَفْظِ الْجَمْعِ، وَمِمَّا يَرُدُّ الْحَمْلَ عَلَى الْجَمْعِ الصُّورِيِّ جَمْعُ التَّقْدِيمِ الْآتِي ذِكْرُهُ بَعْدَ بَابِ، وَقِيلَ يَخْتَصُّ الْجَمْعُ بِمَنْ يَجِدُّ فِي السَّيْرِ. قَالَهُ اللَّيْثُ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ، وَقِيلَ يَخْتَصُّ بِالْمُسَافِرِ دُونَ النَّازِلِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَبِيبٍ، وَقِيلَ يَخْتَصُّ بِمَنْ لَهُ عُذْرٌ حُكِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، وَقِيلَ يَجُوزُ جَمْعُ التَّأْخِيرِ دُونَ التَّقْدِيمِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَزْمٍ.
(تَنْبِيهٌ): أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي أَبْوَابِ التَّقْصِيرِ أَبْوَابَ الْجَمْعِ؛ لِأَنَّهُ تَقْصِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الزَّمَانِ، ثُمَّ أَبْوَابَ صَلَاةِ الْمَعْذُورِ قَاعِدًا لِأَنَّهُ تَقْصِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِ صُوَرِ الْأَفْعَالِ، وَيُجْمِعُ الْجَمِيعُ الرُّخْصَةَ لِلْمَعْذُورِ.
قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ (جَدَّ بِهِ السَّيْرُ) أَيِ اشْتَدَّ. قَالَهُ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ. وَقَالَ عِيَاضٌ: جَدَّ بِهِ السَّيْرُ أَسْرَعَ، كَذَا قَالَ: وَكَأَنَّهُ نَسَبَ الْإِسْرَاعَ إِلَى السَّيْرِ تَوَسُّعًا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ) وَصَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدُوسٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَفْصٍ النَّيْسَابُورِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْمَذْكُورِ بِسَنَدِهِ الْمَذْكُورِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِهِ.
قَوْلُهُ: (عَلَى ظَهْرِ سَيْرٍ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالْإِضَافَةِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ عَلَى ظَهْرٍ بِالتَّنْوِينِ يَسِيرُ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ بِتَحْتَانِيَّةٍ مَفْتُوحَةٍ فِي أَوَّلِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّهْرُ فِي قَوْلِهِ: ظَهْرَ سَيْرٍ لِلتَّأْكِيدِ؛ كَقَوْلِهِ: الصَّدَقَةُ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَلَفْظُ الظَّهْرِ يَقَعُ فِي مِثْلِ هَذَا اتِّسَاعًا لِلْكَلَامِ كَأَنَّ السَّيْرَ كَانَ مُسْتَنِدًا إِلَى ظَهْرٍ قَوِيٍّ مِنَ الْمَطِيِّ مَثَلًا. وَقَالَ غَيْرُهُ: حَصَلَ لِلسَّيْرِ ظَهْرٌ؛ لِأَنَّ الرَّاكِبَ مَا دَامَ سَائِرًا فَكَأَنَّهُ رَاكِبُ ظَهْرٍ. قُلْتُ: وَفِيهِ جِنَاسُ التَّحْرِيفِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالظَّهْرِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ جَمْعِ التَّأْخِيرِ، وَأَمَّا جَمْعُ التَّقْدِيمِ فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ بَعْدَ بَابٍ.
قَوْلُهُ: (وَعَنْ حُسَيْنٍ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الَّذِي قَبْلَهُ، وَالتَّقْدِيرُ: وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ حُسَيْنٍ عَنْ يَحْيَى عَنْ حَفْصٍ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَّقَهُ عَنْ حُسَيْنٍ لَا بِقَيْدٍ مِنْ رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ عَلَيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ، وَحَرْبٌ) أَيِ ابْنُ شَدَّادٍ (عَنْ يَحْيَى) هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ (عَنْ حَفْصٍ) أَيْ تَابِعًا حُسَيْنًا، فَأَمَّا مُتَابَعَةٌ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ فَوَصَلَهَا أَبُو نُعَيْمٍ فِي
الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ بْنِ فَارِسٍ عَنْهُ، وَأَمَّا مُتَابَعَةُ حَرْبٍ فَوَصَلَهَا الْمُصَنِّفُ فِي آخِرِ الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَقَدْ تَابَعَهُمْ مَعْمَرٌ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبَانِ بْنِ يَزِيدَ عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ.
14 - بَاب هَلْ يُؤَذِّنُ أَوْ يُقِيمُ إِذَا جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ؟
1109 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ فِي السَّفَرِ يُؤَخِّرُ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ. قَالَ سَالِمٌ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَفْعَلُهُ إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ، وَيُقِيمُ الْمَغْرِبَ فَيُصَلِّيهَا ثَلَاثًا ثُمَّ يُسَلِّمُ، ثُمَّ قَلَّمَا يَلْبَثُ حَتَّى يُقِيمَ الْعِشَاءَ فَيُصَلِّيهَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يُسَلِّمُ، وَلَا يُسَبِّحُ بَيْنَهُمَا بِرَكْعَةٍ وَلَا بَعْدَ الْعِشَاءِ بِسَجْدَةٍ حَتَّى يَقُومَ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ.
1110 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا حَرْبٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنِي حَفْصُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّ أَنَسًا رضي الله عنه حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ يَعْنِي الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ
قَوْلُهُ: (بَابُ هَلْ يُؤَذِّنُ أَوْ يُقِيمُ إِذَا جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ)؟ قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: لَيْسَ فِي حَدِيثَيِ الْبَابِ تَنْصِيصٌ عَلَى الْأَذَانِ، لَكِنْ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مِنْهُمَا يُقِيمُ الْمَغْرِبَ فَيُصَلِّيهَا وَلَمْ يُرِدْ بِالْإِقَامَةِ نَفْسَ الْأَذَانِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ يُقِيمُ لِلْمَغْرِبِ، فَعَلَى هَذَا فَكَأَنَّ مُرَادَهُ بِالتَّرْجَمَةِ: هَلْ يُؤَذِّنُ أَوْ يَقْتَصِرُ عَلَى الْإِقَامَةِ، وَجَعَلَ حَدِيثَ أَنَسٍ مُفَسَّرًا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ؛ لِأَنَّ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ حُكْمًا زَائِدًا اهـ. وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، فَفِي الدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ جَمْعِهِ بين الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ فَنَزَلَ فَأَقَامَ الصَّلَاةَ، وَكَانَ لَا يُنَادِي بِشَيْءٍ مِنَ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ، فَقَامَ فَجَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ ثُمَّ رَفَعَ الْحَدِيثَ.
وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَعَلَّ الرَّاوِيَ لَمَّا أَطْلَقَ لَفْظَ الصَّلَاةِ اسْتُفِيدَ مِنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا التَّامَّةُ بِأَرْكَانِهَا وَشَرَائِطِهَا وَسُنَنِهَا، وَمِنْ جُمْلَتِهَا الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ، وَسَبَقَهُ ابْنُ بَطَّالٍ إِلَى نَحْوِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (يُؤَخِّرُ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ) لَمْ يُعَيِّنْ غَايَةَ التَّأْخِيرِ، وَبَيَّنَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، وَمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ فَأَخَّرَ الْمَغْرِبَ بَعْدَ ذَهَابِ الشَّفَقِ حَتَّى ذَهَبَ هَوَى مِنَ اللَّيْلِ وَلِلْمُصَنِّفِ فِي الْجِهَادِ مِنْ طَرِيقِ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ حَتَّى كَانَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّفَقِ نَزَلَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمْعًا بَيْنَهُمَا وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فَصَارَ حَتَّى غَابَ الشَّفَقُ وَتَصَوَّبَتِ النُّجُومُ نَزَلَ فَصَلَّى الصَّلَاتَيْنِ جَمْعًا وَجَاءَتْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رِوَايَاتٌ أُخْرَى أَنَّهُ صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي آخِرِ الشَّفَقِ، ثُمَّ أَقَامَ الصَّلَاةَ وَقَدْ تَوَارَى الشَّفَقُ، فَصَلَّى الْعِشَاءَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ نَافِعٍ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا سَبَقَ لِأَنَّهُ كَانَ فِي وَاقِعَةٍ أُخْرَى.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَلَّمَا يَلْبَثُ حَتَّى يُقِيمَ الْعِشَاءَ) فِيهِ إِثْبَاتٌ لِلُبْثٍ قَلِيلٍ، وَذَلِكَ نَحْوُ مَا وَقَعَ فِي الْجَمْعِ بِمُزْدَلِفَةَ مِنْ إِنَاخَةِ الرَّوَاحِلِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الطُّرُقِ الَّتِي فِيهَا جَمْعٌ بَيْنَهُمَا وَصَلَّاهُمَا جَمِيعًا، وَفِيهِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ حَمَلَ أَحَادِيثَ الْجَمْعِ عَلَى الْجَمْعِ الصُّورِيِّ، قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: ثَبَتَ
فِي الْجَمْعِ أَحَادِيثُ نُصُوصٍ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا تَأْوِيلٌ، وَدَلِيلُهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى الِاسْتِنْبَاطُ مِنَ الْجَمْعِ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ، فَإِنَّ سَبَبَهُ احْتِيَاجُ الْحَاجِّ إِلَيْهِ لِاشْتِغَالِهِمْ بِمَنَاسِكِهِمْ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي كُلِّ الْأَسْفَارِ وَلَمْ تَتَقَيَّدِ الرُّخَصُ كَالْقَصْرِ وَالْفِطْرِ بِالنُّسُكِ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَلَا يَخْفَى عَلَى مُنْصِفٍ أَنَّ الْجَمْعَ أَرْفَقُ مِنَ الْقَصْرِ، فَإِنَّ الْقَائِمَ إِلَى الصَّلَاةِ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ رَكْعَتَانِ يَضُمُّهُمَا إِلَى رَكْعَتَيْهِ، وَرِفْقُ الْجَمْعِ وَاضِحٌ لِمَشَقَّةِ النُّزُولِ عَلَى الْمُسَافِرِ، وَاحْتَجَّ بِهِ مَنْ قَالَ بِاخْتِصَاصِ الْجَمْعِ لِمَنْ جَدَّ بِهِ السَّيْرُ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ) هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ كَمَا جَزَمَ بِهِ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ، وَمَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ إِلَى أَنَّهُ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ أَنَسٍ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ.
15 - بَاب يُؤَخِّرُ الظُّهْرَ إِلَى الْعَصْرِ إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ
فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
1111 -
حَدَّثَنَا حَسَّانُ الْوَاسِطِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَإِذَا زَاغَتْ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ رَكِبَ.
[الحديث 1111 - طرفه في: 1112]
قَوْلُهُ: (بَابُ يُؤَخِّرُ الظُّهْرَ إِلَى الْعَصْرِ إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ) فِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ جَمْعَ التَّأْخِيرِ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ يَخْتَصُّ بِمَنِ ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ وَقْتُ الظُّهْرِ.
قَوْلُهُ: (فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُشِيرُ إِلَى حَدِيثِهِ الْمَاضِي قَبْلَ بَابٍ، فَإِنَّهُ قَيَّدَ الْجَمْعَ فِيهِ بِمَا إِذَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ السَّيْرِ، وَلَا قَائِلَ بِأَنَّهُ يُصَلِّيهُمَا وَهُوَ رَاكِبٌ فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ جَمْعُ التَّأْخِيرِ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْحِمَانِيِّ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَفِيهَا التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ فِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ، لَكِنَّهُ يَصْلُحُ لِلْمُتَابَعَةِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا حَسَّانُ الْوَاسِطِيُّ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ الْكِنْدِيُّ الْمِصْرِيُّ، كَانَ أَبُوهُ وَاسِطِيًّا فَقَدِمَ مِصْرَ فَوَلَدَ بِهَا حَسَّانَ الْمَذْكُورَ وَاسْتَمَرَّ بِهَا إِلَى أَنْ مَاتَ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ فَضَالَةَ) بِفَتْحِ الْفَاءِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ خَفِيفَةٌ، مِنْ ثِقَاتِ الْمِصْرِيِّينَ. وَفِي الرُّوَاةِ حَسَّانُ الْوَاسِطِيُّ آخَرُ لَكِنَّهُ حَسَّانُ بْنُ حَسَّانٍ يَرْوِي عَنْ شُعْبَةَ وَغَيْرِهِ ضَعَّفَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَوَهِمَ بَعْضُ النَّاسِ فَزَعَمَ أَنَّهُ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ هُنَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَيْسَتْ لَهُ رِوَايَةٌ عَنِ الْمِصْرِيِّينَ.
قَوْلُهُ: (تَزِيغُ) بِزَايٍ وَمُعْجَمَةٍ أَيْ تَمِيلُ، وَزَاغَتْ مَالَتْ، وَذَلِكَ إِذَا قَامَ الْفَيْءُ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا) أَيْ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ، وَفِي رِوَايَةِ قُتَيْبَةَ، عَنِ الْمُفَضَّلِ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ ثُمَّ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ جَابِرِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عُقَيْلٍ يُؤَخِّرُ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَيُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ حِينَ يَغِيبُ الشَّفَقُ، وَلَهُ مِنْ رِوَايَةِ شَبَابَةَ، عَنْ عُقَيْلٍ: حَتَّى يَدْخُلَ أَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا.
قَوْلُهُ: (إِذَا زَاغَتْ) أَيْ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ كَمَا سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.
16 - بَاب إِذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ مَا زَاغَتْ الشَّمْسُ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ رَكِبَ
1112 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ، ثُمَّ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ زَاغَتْ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ رَكِبَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ مَا زَاغَتِ الشَّمْسُ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ رَكِبَ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ الْمَذْكُورَ قَبْلَهُ وَفِيهِ فَإِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ رَكِبَ كَذَا فِيهِ الظُّهْرُ فَقَطْ، وَهُوَ الْمَحْفُوظُ عَنْ عُقَيْلٍ فِي الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَجْمَعُ بْيَنَ الصَّلَاتَيْنِ إِلَّا فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ مِنْهُمَا، وَبِهِ احْتَجَّ مَنْ أَبَى جَمْعَ التَّقْدِيمِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَكِنْ رَوَى إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ شَبَابَةَ فَقَالَ: كَانَ إِذَا كَانَ فِي سَفَرٍ فَزَالَتِ الشَّمْسُ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا ثُمَّ ارْتَحَلَ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَأُعِلَّ بِتَفَرُّدِ إِسْحَاقَ بِذَلِكَ عَنْ شَبَابَةَ ثُمَّ تَفَرَّدَ جَعْفَرٌ الْفِرْيَابِيُّ بِهِ عَنْ إِسْحَاقَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِحٍ فَإِنَّهُمَا إِمَامَانِ حَافِظَانِ. وَقَدْ وَقَعَ نَظِيرُهُ فِي الْأَرْبَعِينَ لِلْحَاكِمِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ هُوَ الْأَصَمُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيُّ هُوَ أَحَدُ شُيُوخِ مُسْلِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْوَاسِطِيُّ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَإِنْ زَاغَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ ثُمَّ رَكِبَ قَالَ الْحَافِظُ صَلَاحُ الدِّينِ الْعَلَائِيُّ: هَكَذَا وَجَدْتُهُ بَعْدَ التَّتَبُّعِ فِي نُسَخٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْأَرْبَعِينَ بِزِيَادَةِ الْعَصْرِ، وَسَنَدُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ جَيِّدٌ. انْتَهَى.
قُلْتُ: وَهِيَ مُتَابَعَةٌ قَوِيَّةٌ لِرِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ إِنْ كَانَتْ ثَابِتَةً، لَكِنْ فِي ثُبُوتِهَا نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْبَيْهَقِيَّ أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ الْحَاكِمِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مَقْرُونًا بِرِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ قُتَيْبَةَ وَقَالَ: إِنَّ لَفْظَهُمَا سَوَاءٌ، إِلَّا أَنَّ فِي رِوَايَةِ قُتَيْبَةَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي رِوَايَةِ حَسَّانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمَشْهُورُ فِي جَمْعِ التَّقْدِيمِ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الطَّوِيلِ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَقَدْ أَعَلَّهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ بِتَفَرُّدِ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ، وَأَشَارَ الْبُخَارِيُّ إِلَى أَنَّ بَعْضَ الضُّعَفَاءِ أَدْخَلَهُ عَلَى قُتَيْبَةَ، حَكَاهُ الْحَاكِمُ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ، وَلَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، وَهِشَامٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَقَدْ خَالَفَهُ الْحُفَّاظُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي الزُّبَيْرِ، كَمَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَقُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ وَغَيْرِهِمْ فَلَمْ يَذْكُرُوا فِي رِوَايَتِهِمْ جَمْعَ التَّقْدِيمِ، وَوَرَدَ فِي جَمْعِ التَّقْدِيمِ حَدِيثٌ آخَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ تَعْلِيقًا وَالتِّرْمِذِيُّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ وَفِي إِسْنَادِهِ حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْهَاشِمِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ، لَكِنْ لَهُ شَوَاهِدُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا مَرْفُوعًا: أَنَّهُ كَانَ إِذَا نَزَلَ مَنْزِلًا فِي السَّفَرِ فَأَعْجَبَهُ أَقَامَ فِيهِ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ
وَالْعَصْرِ ثُمَّ يَرْتَحِلُ، فَإِذَا لَمْ يَتَهَيَّأْ لَهُ الْمَنْزِلُ مَدَّ فِي السَّيْرِ فَسَارَ حَتَّى يَنْزِلَ فَيَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ. أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، إِلَّا أَنَّهُ مَشْكُوكٌ فِي رَفْعِهِ، وَالْمَحْفُوظُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَجْزُومًا بِوَقْفِهِ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَفْظُهُ: إِذَا كُنْتُمْ سَائِرِينَ فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ اسْتِحْبَابُ التَّفْرِقَةِ فِي حَالِ الْجَمْعِ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ سَائِرًا أَوْ نَازِلًا، وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى اخْتِصَاصِ الْجَمْعِ بِمَنْ جَدَّ بِهِ السَّيْرُ، لَكِنْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ فِي حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ فِي الْمُوَطَّأِ وَلَفْظُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخَّرَ الصَّلَاةَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، ثُمَّ دَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمْعًا. قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ. قَوْلُهُ دَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ لَا يَكُونُ إِلَّا وَهُوَ نَازِلٌ، فَلِلْمُسَافِرِ أَنْ يَجْمَعَ نَازِلًا وَمُسَافِرًا. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فِي هَذَا أَوْضَحُ دَلِيلٍ عَلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ لَا يَجْمَعُ إِلَّا مَنْ جَدَّ بِهِ السَّيْرُ، وَهُوَ قَاطِعٌ لِلِالْتِبَاسِ. انْتَهَى.
وَحَكَى عِيَاضٌ أَنَّ بَعْضَهُمْ أَوَّلَ قَوْلَهُ ثُمَّ دَخَلَ أَيْ فِي الطَّرِيقِ مُسَافِرًا ثُمَّ خَرَجَ أَيْ عَنِ الطَّرِيقِ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ اسْتَبْعَدَهُ، وَلَا شَكَّ فِي بُعْدِهِ، وَكَأَنَّهُ
صلى الله عليه وسلم فَعَلَ ذَلِكَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَكَانَ أَكْثَرُ عَادَتِهِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَنَسٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: تَرْكُ الْجَمْعِ أَفْضَلُ وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَةٌ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ تَخْصِيصٌ لِحَدِيثِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي بَيَّنَهَا جِبْرِيلُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَيَّنَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْأَعْرَابِيِّ حَيْثُ قَالَ فِي آخِرِهَا: الْوَقْتُ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي الْمَوَاقِيتِ
(تَنْبِيهٌ): تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِعُذْرِ الْمَطَرِ أَوِ الْمَرَضِ أَوِ الْحَاجَةِ فِي الْحَضَرِ فِي الْمَوَاقِيتِ فِي بَابِ وَقْتِ الظُّهْرِ وَفِي بَابِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ.
17 - بَاب صَلَاةِ الْقَاعِدِ
1113 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِهِ وَهُوَ شَاكٍ، فَصَلَّى جَالِسًا وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنْ اجْلِسُوا. فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا.
1114 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسِ رضي الله عنه قَالَ: سَقَطَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ فَرَسٍ فَخُدِشَ - أَوْ فَجُحِشَ - شِقُّهُ الْأَيْمَنُ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ نَعُودُهُ، فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّى قَاعِدًا، فَصَلَّيْنَا قُعُودًا وَقَالَ: إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ.
1115 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، أَخْبَرَنَا حُسَيْنٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه، أَنَّهُ سَأَلَ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَأَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ عَنْ أَبِي بُرَيْدَةَ قَالَ حَدَّثَنِي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ وَكَانَ مَبْسُورًا قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَلَاةِ الرَّجُلِ قَاعِدًا فَقَالَ إِنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَلُ وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ وَمَنْ صَلَّى نَائِمًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَاعِدِ "
[الحديث 1115 - طرفاه في 1117. 1116]
قَوْلُهُ: (بَابُ صَلَاةِ الْقَاعِدِ) قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: أَطْلَقَ التَّرْجَمَةَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ صَلَاةَ الْقَاعِدِ لِعُذْرٍ إِمَامًا كَانَ أَوْ مَأْمُومًا أَوْ مُنْفَرِدًا. وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ أَحَادِيثَ الْبَابِ دَالَّةٌ عَلَى التَّقْيِيدِ بِالْعُذْرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ مُطْلَقًا لِعُذْرٍ وَلِغَيْرِ عُذْرٍ لِيُبَيِّنَ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، إِلَّا مَا دَلَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى مَنْعِهِ وَهُوَ صَلَاةُ الْفَرِيضَةِ لِلصَّحِيحِ قَاعِدًا اهـ.
قَوْلُهُ: (وَهُوَ شَاكٍ) بِالتَّنْوِينِ مُخَفَّفًا مِنَ الشِّكَايَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُوَضَّحًا فِي أَبْوَابِ الْإِمَامَةِ، وَكَذَا عَلَى حَدِيثِ أَنَسٍ، وَفِيهِ بَيَانُ سَبَبِ الشِّكَايَةِ وَهُمَا فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ بِلَا خِلَافٍ، وَأَمَّا حَدِيثُ عِمْرَانَ فَفِيهِ احْتِمَالٌ سَنَذْكُرُهُ.
وَأَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، عَنْ ابن بُرَيْدَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ - وَكَانَ مَبْسُورًا - قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَلَاةِ الرَّجُلِ قَاعِدًا، فَقَالَ: إِنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَلُ، وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ، وَمَنْ صَلَّى نَائِمًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَاعِدِ.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا حُسَيْنٌ) هُوَ الْمُعَلِّمُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ) فِي رِوَايَةِ عَفَّانَ، عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا عِمْرَانُ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَفِيهِ غُنْيَةٌ عَنْ تَكَلُّفِ ابْنِ حِبَّانَ إِقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ ابْنَ بُرَيْدَةَ عَاصَرَ عِمْرَانَ.
قَوْلُهُ:
(وَأَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَزَادَ إِسْحَاقُ وَالْمُرَادُ بِهِ عَلَى الْحَالَيْنِ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ شَيْخُهُ فِي الْإِسْنَادِ الَّذِي قَبْلَهُ.
قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ أَبِي) هُوَ عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ التَّنُّورِيُّ، وَهَذِهِ الطَّرِيقُ أَنْزَلُ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا، وَكَذَا مِنَ الَّتِي بَعْدَهَا بِدَرَجَةٍ، لَكِنِ اسْتُفِيدَ مِنْهَا تَصْرِيحُ ابْنِ بُرَيْدَةَ بِقَوْلِهِ حَدَّثَنِي عِمْرَانُ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ مَبْسُورًا) بِسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ أَيْ كَانَتْ بِهِ بَوَاسِيرُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ بَعْدَ بَابٍ، وَالْبَوَاسِيرُ جَمْعُ بَاسُورٍ يُقَالُ بِالْمُوَحَّدَةِ وَبِالنُّونِ، أَوِ الَّذِي بِالْمُوَحَّدَةِ وَرَمٌ فِي بَاطِنِ الْمُقْعَدَةِ وَالَّذِي بِالنُّونِ قُرْحَةٌ فَاسِدَةٌ لَا تَقْبَلُ الْبُرْءَ مَا دَامَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَسَادُ.
قَوْلُهُ: (عَنْ صَلَاةِ الرَّجُلِ قَاعِدًا) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: كُنْتُ تَأَوَّلْتُ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ صَلَاةُ التَّطَوُّعِ - يَعْنِي لِلْقَادِرِ - لَكِنْ قَوْلُهُ مَنْ صَلَّى نَائِمًا يُفْسِدُهُ، لِأَنَّ الْمُضْطَجِعُ لَا يُصَلِّي التَّطَوُّعَ كَمَا يَفْعَلُ الْقَاعِدُ؛ لِأَنِّي لَا أَحْفَظُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ رَخَّصَ فِي ذَلِكَ، قَالَ: فَإِنْ صَحَّتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ وَلَمْ يَكُنْ بَعْضُ الرُّوَاةِ أَدْرَجَهَا قِيَاسًا مِنْهُ لِلْمُضْطَجِعِ عَلَى الْقَاعِدِ كَمَا يَتَطَوَّعُ الْمُسَافِرُ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَالتَّطَوُّعُ لِلْقَادِرِ عَلَى الْقُعُودِ مُضْطَجِعًا جَائِزٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ. قَالَ: وَفِي الْقِيَاسِ الْمُتَقَدِّمِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْقُعُودَ شَكْلٌ مِنْ أَشْكَالِ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ الِاضْطِجَاعِ. قَالَ: وَقَدْ رَأَيْتُ الْآنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِحَدِيثِ عِمْرَانَ الْمَرِيضُ الْمُفْتَرِضُ الَّذِي يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَحَامَلَ فَيَقُومُ مَعَ مَشَقَّةٍ، فَجَعَلَ أَجْرَ الْقَاعِدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ أَجْرِ الْقَائِمِ تَرْغِيبًا لَهُ فِي الْقِيَامِ مَعَ جَوَازِ قُعُودِهِ. انْتَهَى.
وَهُوَ حَمْلٌ مُتَّجَهٌ، وَيُؤَيِّدُهُ صَنِيعُ الْبُخَارِيِّ حَيْثُ أَدْخَلَ فِي الْبَابِ حَدِيثَ عَائِشَةَ وَأَنَسٍ وَهُمَا صَلَاةُ الْمُفْتَرِضِ قَطْعًا، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ تَكُونَ التَّرْجَمَةُ شَامِلَةً لِأَحْكَامِ الْمُصَلِّي قَاعِدًا، وَيُتَلَقَّى ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي أَوْرَدَهَا فِي الْبَابِ، فَمَنْ صَلَّى فَرْضًا قَاعِدًا وَكَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِ الْقِيَامُ أَجْزَأَهُ وَكَانَ هُوَ وَمَنْ صَلَّى قَائِمًا سَوَاءً كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَنَسٍ وَعَائِشَةَ، فَلَوْ تَحَامَلَ هَذَا الْمَعْذُورُ وَتَكَلَّفَ الْقِيَامَ وَلَوْ شَقَّ عَلَيْهِ كَانَ أَفْضَلَ لِمَزِيدِ أَجْرِ تَكَلُّفِ الْقِيَامِ، فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَجْرُهُ عَلَى ذَلِكَ نَظِيرَ أَجْرِهِ عَلَى أَصْلِ الصَّلَاةِ، فَيَصِحُّ أَنَّ أَجْرَ الْقَاعِدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ أَجْرِ الْقَائِمِ، وَمَنْ صَلَّى النَّفْلَ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ أَجْزَأَهُ وَكَانَ أَجْرُهُ عَلَى النِّصْفِ مِنْ أَجْرِ الْقَائِمِ بِغَيْرِ إِشْكَالٍ. وَأَمَّا قَوْلُ الْبَاجِيِّ إِنَّ الْحَدِيثَ فِي الْمُفْتَرِضِ وَالْمُتَنَفِّلِ مَعًا فَإِنْ أَرَادَ بِالْمُفْتَرِضِ مَا قَرَّرْنَاهُ فَذَاكَ، وَإِلَّا فَقَدْ أَبَى ذَلِكَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ. وَحَكَى ابْنُ التِّينِ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ، وَابْنِ الْمَاجِشُونِ، وَإِسْمَاعِيلَ الْقَاضِي، وَابْنِ شَعْبَانَ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَالدَّاوُدِيِّ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ حَمَلُوا حَدِيثَ عِمْرَانَ عَلَى الْمُتَنَفِّلِ، وَكَذَا نَقَلَهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنِ الثَّوْرِيِّ قَالَ: وَأَمَّا الْمَعْذُورُ إِذَا صَلَّى جَالِسًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ الْقَائِمِ.
ثُمَّ قَالَ: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا يَشْهَدُ لَهُ، يُشِيرُ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْجِهَادِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى رَفَعَهُ إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ صَالِحُ مَا كَانَ يَعْمَلُ
(1)
وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ، وَلِهَذَا الْحَدِيثِ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ سَيَأْتِي ذِكْرُهَا فِي الْكَلَامِ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَاعِدَةُ تَغْلِيبِ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَبُولُ عُذْرِ مَنْ لَهُ عُذْرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَا يَلْزَمُ مِنِ اقْتِصَارِ الْعُلَمَاءِ الْمَذْكُورِينَ فِي حَمْلِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَلَى صَلَاةِ النَّافِلَةِ أَنْ لَا تَرِدَ الصُّورَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْخَطَّابِيُّ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَشْهَدُ لَهَا، فَعِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وَهِيَ مُحَمَّةٌ، فَحُمَّ النَّاسُ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَسْجِدَ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ مِنْ قُعُودٍ فَقَالَ: صَلَاةُ الْقَاعِدِ نِصْفُ صَلَاةِ الْقَائِمِ. رِجَالُهُ ثِقَاتٌ. وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ مُتَابِعٌ لَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ وَارِدٌ فِي الْمَعْذُورِ فَيُحْمَلُ عَلَى مَنْ تَكَلَّفَ الْقِيَامَ مَعَ مَشَقَّتِهِ عَلَيْهِ كَمَا بَحَثَهُ الْخَطَّابِيُّ. وَأَمَّا نَفْيُ الْخَطَّابِيِّ جَوَازَ التَّنَفُّلِ مُضْطَجِعًا فَقَدْ تَبِعَهُ ابْنُ بَطَّالٍ عَلَى ذَلِكَ وَزَادَ: لَكِنِ الْخِلَافُ ثَابِتٌ، فَقَدْ نَقَلَهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: إِنْ شَاءَ
(1)
في هامش طبعة بولاق: في نسخة" كتب له ماكان الخ"
الرَّجُلُ صَلَّى صَلَاةَ التَّطَوُّعِ قَائِمًا وَجَالِسًا وَمُضْطَجِعًا.
وَقَالَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَصَحَّحَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ، وَحَكَاهُ عِيَاضٌ وَجْهًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْأَبْهَرِيِّ مِنْهُمْ وَاحْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ.
(تَنْبِيهٌ): سُؤَالُ عِمْرَانَ عَنِ الرَّجُلِ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ، بَلِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ.
قَوْلُهُ: (وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا) يُسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّ صَلَاتَهُ قَاعِدًا لَا يَنْقُصُ أَجْرُهَا عَنْ صَلَاتِهِ قَائِمًا، لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: صَلَاةُ الرَّجُلِ قَاعِدًا عَلَى نِصْفِ الصَّلَاةِ، فَأَتَيْتُهُ فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي جَالِسًا فَوَضَعَ يَدِي عَلَى رَأْسِي، فَقَالَ: مَا لَكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ؟ فَأَخْبَرْتُهُ. فَقَالَ: أَجَلْ، وَلَكِنِّي لَسْتُ كَأَحَدٍ مِنْكُمْ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ خِطَابِهِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَقَدْ عَدَّ الشَّافِعِيَّةُ فِي خَصَائِصِهِ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ. وَقَالَ عِيَاضٌ فِي الْكَلَامِ عَلَى تَنَفُّلِهِ صلى الله عليه وسلم قَاعِدًا: قَدْ عَلَّلَهُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بِقَوْلِهِ: لَسْتُ كَأَحَدٍ مِنْكُمْ. فَيَكُونُ هَذَا مِمَّا خُصَّ بِهِ. قَالَ: وَلَعَلَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنِّي ذُو عُذْرٍ. وَقَدْ رَدَّ النَّوَوِيُّ هَذَا الِاحْتِمَالَ قَالَ: وَهُوَ ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ. (فَائِدَةٌ): لَمْ يُبَيِّنْ كَيْفِيَّةَ الْقُعُودِ، فَيُؤْخَذُ مِنْ إِطْلَاقِهِ جَوَازُهُ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ شَاءَ الْمُصَلِّي، وَهُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي الْبُوَيْطِيِّ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْأَفْضَلِ فَعَنِ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ يُصَلِّي مُتَرَبِّعًا، وَقِيلَ يَجْلِسُ مُفْتَرِشًا وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ وَصَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَقِيلَ مُتَوَرِّكًا وَفِي كُلٍّ مِنْهَا أَحَادِيثُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: نَائِمًا فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ.
18 - بَاب صَلَاةِ الْقَاعِدِ بِالْإِيمَاءِ
1116 -
حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ: أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ وَكَانَ رَجُلًا مَبْسُورًا. وَقَالَ أَبُو مَعْمَرٍ مَرَّةً: عَنْ عِمْرَانَ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَهُوَ قَاعِدٌ، فَقَالَ: مَنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَلُ، وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ، وَمَنْ صَلَّى نَائِمًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَاعِدِ. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: نَائِمًا عِنْدِي مُضْطَجِعًا هَا هُنَا.
قَوْلُهُ: (بَابُ صَلَاةِ الْقَاعِدِ بِالْإِيمَاءِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَيْضًا، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْإِيمَاءِ، وَإِنَّمَا فِيهِ مِثْلُ مَا فِي الَّذِي قَبْلَهُ وَمَنْ صَلَّى نَائِمًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَاعِدِ قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: مُطَابَقَةُ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ مَنْ صَلَّى عَلَى جَنْبٍ فَقَدِ احْتَاجَ إِلَى الْإِيمَاءِ. انْتَهَى.
وَلَيْسَ ذَلِكَ بِلَازِمٍ. نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْبُخَارِيُّ يَخْتَارُ جَوَازَ ذَلِكَ، وَمُسْتَنَدُهُ تَرْكُ التَّفْصِيلِ فِيهِ مِنَ الشَّارِعِ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ وَعَلَيْهِ شَرْحُ الْكِرْمَانِيِّ. وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْقَادِرِ الْإِيمَاءُ لِلرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَإِنْ جَازَ التَّنَفُّلُ مُضْطَجِعًا، بَلْ لَا بُدُّ مِنَ الْإِتْيَانِ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ حَقِيقَةً. وَقَدِ اعْتَرَضَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فَقَالَ: تَرْجَمَ بِالْإِيمَاءِ وَلَمْ يَقَعْ فِي الْحَدِيثِ إِلَّا ذِكْرُ النَّوْمِ فَكَأَنَّهُ صَحَّفَ قَوْلَهُ: نَائِمًا يَعْنِي بِنُونٍ عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ مِنَ النَّوْمِ فَظَنَّهُ بِإِيمَاءٍ يَعْنِي بِمُوَحَّدَةٍ مَصْدَرُ أَوْمَأَ، فَلِهَذَا تَرْجَمَ بِذَلِكَ. انْتَهَى.
وَلَمْ يُصِبْ فِي ظَنِّهِ أَنَّ الْبُخَارِيَّ صَحَّفَهُ، فَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَغَيْرِهَا عَقِبَ حَدِيثِ الْبَابِ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ - يَعْنِي الْبُخَارِيَّ - قَوْلُهُ: نَائِمًا عِنْدِي أَيْ مُضْطَجِعًا، فَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ كُوشِفَ بِذَلِكَ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ قَدْ وَقَعَ مِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ عَفَّانَ، عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، قَالَ عَبْدُ الْوَارِثِ: النَّائِمُ الْمُضْطَجِعُ، أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، قَالَ
الْإِسْمَاعِيلِيُّ: مَعْنَى قَوْلِهِ: نَائِمًا أَيْ عَلَى جَنْبٍ اهـ. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ عَلَى التَّصْحِيفِ أَيْضًا حَكَاهُ ابْنُ رَشِيدٍ، وَوَجَّهَهُ بِأَنَّ مَعْنَاهُ مَنْ صَلَّى قَاعِدًا أَوْمَأَ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِلْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْإِيمَاءُ إِذَا صَلَّى نَفْلًا قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَبَيَّنُ مِنِ اخْتِيَارِ الْبُخَارِيِّ. وَعَلَى رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ شَرَحَ ابْنُ بَطَّالٍ وَأَنْكَرَ عَلَى النَّسَائِيِّ تَرْجَمَتَهُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فَضْلُ صَلَاةِ الْقَاعِدِ عَلَى النَّائِمِ، وَادَّعَى أَنَّ النَّسَائِيَّ صَحَّفَهُ قَالَ: وَغَلَطُهُ فِيهِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ ثَبَتَ الْأَمْرُ لِلْمُصَلِّي إِذَا وَقَعَ عَلَيْهِ النَّوْمُ أَنْ يَقْطَعَ الصَّلَاةَ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبَّ نَفْسَهُ، قَالَ: فَكَيْفَ يَأْمُرُهُ بِقَطْعِ الصَّلَاةِ ثُمَّ يَثْبُتُ أَنَّ لَهُ عَلَيْهَا نِصْفَ أَجْرِ الْقَاعِدِ اهـ. وَمَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّعَقُّبِ عَلَى الْإِسْمَاعِيلِيِّ يَرُدُّ عَلَيْهِ.
قَالَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ بَعْدَ أَنْ حَكَى كَلَامَ ابْنَ بَطَّالٍ: لَعَلَّهُ هُوَ الَّذِي صَحَّفَ، وَإِنَّمَا أَلْجَأَهُ إِلَى ذَلِكَ حَمْلُ قَوْلِهِ: نَائِمًا عَلَى النَّوْمِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي أُمِرَ الْمُصَلِّي إِذَا وَجَدَهُ بِقَطْعِ الصَّلَاةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ الْمُرَادَ هُنَا إِنَّمَا الْمُرَادُ الِاضْطِجَاعُ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ، وَقَدْ تَرْجَمَ النَّسَائِيُّ فَضْلُ صَلَاةِ الْقَاعِدِ عَلَى النَّائِمِ وَالصَّوَابُ مِنَ الرِّوَايَةِ نَائِمًا بِالنُّونِ عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ مِنَ النَّوْمِ وَالْمُرَادُ بِهِ الِاضْطِجَاعُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمَنْ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ فَهُوَ الَّذِي صَحَّفَ، وَالَّذِي غَرَّهُمْ تَرْجَمَةُ الْبُخَارِيِّ وَعُسْرِ تَوْجِيهِهَا عَلَيْهِمْ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ عَلَى مَا وَهَبَ.
19 - بَاب إِذَا لَمْ يُطِقْ قَاعِدًا صَلَّى عَلَى جَنْبٍ
وَقَالَ عَطَاءٌ: إِنْ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَتَحَوَّلَ إِلَى الْقِبْلَةِ صَلَّى حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ
1117 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ الْمُكْتِبُ، عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَتْ بِي بَوَاسِيرُ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الصَّلَاةِ، فَقَالَ: صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا لَمْ يُطِقْ) أَيِ الْإِنْسَانُ الصَّلَاةَ فِي حَالِ الْقُعُودِ صَلَّى عَلَى جَنْبِهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَطَاءٌ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ إِنْ لَمْ يَقْدِرْ إِلَخْ وَهَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ بِمَعْنَاهُ، وَمُطَابَقَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْجَامِعَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعَاجِزَ عَنْ أَدَاءِ فَرْضٍ يَنْتَقِلُ إِلَى فَرْضٍ دُونَهُ وَلَا يَتْرُكُ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْعَاجِزَ عَنِ الْقُعُودِ فِي الصَّلَاةِ تَسْقُطُ عَنْهُ الصَّلَاةُ، وَقَدْ حَكَاهُ الْغَزَالِيُّ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَسَقَطَ ذِكْرُهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ وَلَا بُدَّ مِنْهُ، فَإِنَّ عَبْدَانَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ، وَالْحُسَيْنُ الْمُكْتِبُ هُوَ ابْنُ ذَكْوَانَ الْمُعَلِّمُ الَّذِي سَبَقَ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَى هَذَا عَنْ حُسَيْنٍ إِلَّا إِبْرَاهِيمُ، وَرَوَى أَبُو أُسَامَةَ، وَعِيسَى بْنُ يُونُسَ وَغَيْرُهُمَا عَنْ حُسَيْنٍ عَلَى اللَّفْظِ السَّابِقِ اهـ. وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ تَضْعِيفُ رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ كَمَا فَهِمَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ تَبَعًا لِابْنِ بَطَّالٍ، وَرُدَّ عَلَى التِّرْمِذِيِّ بِأَنَّ رِوَايَةَ إِبْرَاهِيمَ تُوَافِقُ الْأُصُولَ وَرِوَايَةُ غَيْرِهِ تُخَالِفُهَا، فَتَكُونُ رِوَايَةُ إِبْرَاهِيمَ أَرْجَحَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى التَّرْجِيحِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَا مِنْ حَيْثُ الْإِسْنَادُ، وَإِلَّا فَاتِّفَاقُ الْأَكْثَرِ عَلَى شَيْءٍ يَقْتَضِي أَنَّ رِوَايَةَ مَنْ خَالَفَهُمْ تَكُونُ شَاذَّةً، وَالْحَقُّ أَنَّ الرِّوَايَتَيْنِ صَحِيحَتَانِ كَمَا صَنَعَ الْبُخَارِيُّ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى حُكْمٍ غَيْرِ الْحُكْمِ الَّذِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْأُخْرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (عَنِ الصَّلَاةِ) الْمُرَادُ عَنْ صَلَاةِ الْمَرِيضِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي أَوَّلِهِ: كَانَتْ بِي
بَوَاسِيرُ وَفِي رِوَايَةِ وَكِيعٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ سَأَلْتُ عَنْ صَلَاةِ الْمَرِيضِ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ.
(تَنْبِيهٌ): قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَعَلَّ هَذَا الْكَلَامَ كَانَ جَوَابَ فُتْيَا اسْتَفْتَاهَا عِمْرَانُ، وَإِلَّا فَلَيْسَتْ عِلَّةُ الْبَوَاسِيرِ بِمَانِعَةٍ مِنَ الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى مَا فِيهَا مِنَ الْأَذَى اهـ. وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ حُكْمِ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَحْتَاجَ إِلَيْهِ فِيمَا بَعْدُ.
قَوْلُهُ: (فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ) اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ لَا يَنْتَقِلُ الْمَرِيضُ إِلَى الْقُعُودِ إِلَّا بَعْدَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ، وَقَدْ حَكَاهُ عِيَاضٌ، عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَعَنْ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ لَا يُشْتَرَطُ الْعَدَمُ بَلْ وُجُودُ الْمَشَقَّةِ، وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِنَفْيِ الِاسْتِطَاعَةِ وُجُودُ الْمَشَقَّةِ الشَّدِيدَةِ بِالْقِيَامِ، أَوْ خَوْفُ زِيَادَةِ الْمَرَضِ، أَوِ الْهَلَاكِ، وَلَا يُكْتَفَى بِأَدْنَى مَشَقَّةٍ. وَمِنَ الْمَشَقَّةِ الشَّدِيدَةِ دَوَرَانُ الرَّأْسِ فِي حَقِّ رَاكِبِ السَّفِينَةِ وَخَوْفُ الْغَرَقِ لَوْ صَلَّى قَائِمًا فِيهَا، وَهَلْ يُعَدُّ فِي عَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ مَنْ كَانَ كَامِنًا فِي الْجِهَادِ وَلَوْ صَلَّى قَائِمًا لَرَآهُ الْعَدُوُّ فَتَجُوزُ لَهُ الصَّلَاةُ قَاعِدًا أَوْ لَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ لِلشَّافِعِيَّةِ الْأَصَحُّ الْجَوَازُ، لَكِنْ يَقْضِي
(1)
لِكَوْنِهِ عُذْرًا نَادِرًا.
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَسَاوِي عَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ فِي الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ فِي الِانْتِقَالِ خِلَافًا لِمَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَيَدُلُّ لِلْجُمْهُورِ أَيْضًا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ بِلَفْظِ يُصَلِّي قَائِمًا، فَإِنْ نَالَتْهُ مَشَقَّةٌ فَجَالِسًا، فَإِنْ نَالَتْهُ مَشَقَّةٌ صَلَّى نَائِمًا الْحَدِيثَ، فَاعْتُبِرَ فِي الْحَالَيْنِ وُجُودُ الْمَشَقَّةِ وَلَمْ يُفَرَّقْ.
قَوْلُهُ: (فَعَلَى جَنْبٍ) فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ: عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ مُسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةِ بِوَجْهِهِ وَهُوَ حُجَّةٌ لِلْجُمْهُورِ فِي الِانْتِقَالِ مِنَ الْقُعُودِ إِلَى الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنْبِ، وَعَنِ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ يَسْتَلْقِي عَلَى ظَهْرِهِ وَيَجْعَلُ رِجْلَيْهِ إِلَى الْقِبْلَةِ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ أَنَّ حَالَةَ
(2)
الِاسْتِلْقَاءِ تَكُونُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ حَالَةِ الِاضْطِجَاعِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ لَا يَنْتَقِلُ الْمَرِيضُ بَعْدَ عَجْزِهِ عَنْ الِاسْتِلْقَاءِ إِلَى حَالَةٍ أُخْرَى كَالْإِشَارَةِ بِالرَّأْسِ ثُمَّ الْإِيمَاءِ بِالطَّرْفِ ثُمَّ إِجْرَاءِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ عَلَى اللِّسَانِ ثُمَّ عَلَى الْقَلْبِ لِكَوْنِ جَمِيعِ ذَلِكَ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِالتَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ وَجَعَلُوا مَنَاطَ الصَّلَاةِ حُصُولَ الْعَقْلِ، فَحَيْثُ كَانَ حَاضِرُ الْعَقْلِ لَا يَسْقُطُ عِنْدَ التَّكْلِيفِ بِهَا فَيَأْتِي بِمَا يَسْتَطِيعُهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ. هَكَذَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْغَزَالِيُّ، وَتَعَقَّبَهُ الرَّافِعِيُّ بِأَنَّ الْخَبَرَ أَمْرٌ بِالْإِتْيَانِ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْمَأْمُورُ، وَالْقُعُودُ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى الْقِيَامِ وَكَذَا مَا بَعْدَهُ إِلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ، وَأَجَابَ عَنْهُ ابْنُ الصَّلَاحِ بِأَنَّا لَا نَقُولُ: إِنَّ الْآتِيَ بِالْقُعُودِ آتٍ بِمَا اسْتَطَاعَهُ مِنَ الْقِيَامِ مَثَلًا، وَلَكِنَّا نَقُولُ: يَكُونُ آتِيًا بِمَا اسْتَطَاعَهُ مِنَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَاتِ أَنْوَاعٌ لِجِنْسِ الصَّلَاةِ بَعْضُهَا أَدْنَى مِنْ بَعْضٍ، فَإِذَا عَجَزَ عَنِ الْأَعْلَى وَأَتَى بِالْأَدْنَى كَانَ آتِيًا بِمَا اسْتَطَاعَ مِنَ الصَّلَاةِ.
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ كَوْنَ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ مِنَ الصَّلَاةِ فَرْعٌ لِمَشْرُوعِيَّةِ الصَّلَاةِ بِهَا وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ.
(فَائِدَةٌ): قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: اتَّفَقَ لِبَعْضِ شُيُوخِنَا فَرْعٌ غَرِيبٌ فِي النَّقْلِ كَثِيرٌ فِي الْوُقُوعِ، وَهُوَ أَنْ يَعْجَزَ الْمَرِيضُ عَنِ التَّذَكُّرِ وَيَقْدِرُ عَلَى الْفِعْلِ فَأَلْهَمَهُ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ مَنْ يُلَقِّنُهُ فَكَانَ يَقُولُ: أَحْرِمْ بِالصَّلَاةِ، قُلِ اللَّهُ أَكْبَرُ، اقْرَأِ الْفَاتِحَةَ، قُلِ: اللَّهُ أَكْبَرُ لِلرُّكُوعِ إِلَى آخِرِ الصَّلَاةِ، يُلَقِّنُهُ ذَلِكَ تَلْقِينًا وَهُوَ يَفْعَلُ جَمِيعَ مَا يَقُولُ لَهُ بِالنُّطْقِ أَوْ بِالْإِيمَاءِ رحمه الله.
20 - بَاب إِذَا صَلَّى قَاعِدًا ثُمَّ صَحَّ، أَوْ وَجَدَ خِفَّةً، تَمَّمَ مَا بَقِيَ
وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنْ شَاءَ الْمَرِيضُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ قَائِمًا وَرَكْعَتَيْنِ قَاعِدًا
(1)
والصواب من حيث الدليل عدم القضاء، لأن عذره أولى من عذر المريض. والله أعلم
(2)
وكذا وقع في حديث عمران عند النسائي
1118 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا لَمْ تَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي صَلَاةَ اللَّيْلِ قَاعِدًا قَطُّ حَتَّى أَسَنَّ فَكَانَ يَقْرَأُ قَاعِدًا حَتَّى إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ فَقَرَأَ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ آيَةً أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً ثُمَّ رَكَعَ.
[الحديث 1118 - أطرافه في: 1119، 1148، 1161، 1168، 4837]
1119 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، وَأَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي جَالِسًا فَيَقْرَأُ وَهُوَ جَالِسٌ، فَإِذَا بَقِيَ مِنْ قِرَاءَتِهِ نَحْوٌ مِنْ ثَلَاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً قَامَ فَقَرَأَهَا وَهُوَ قَائِمٌ، ثُمَّ يَرْكَعُ، ثُمَّ سَجَدَ، يَفْعَلُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ ذَلِكَ، فَإِذَا قَضَى صَلَاتَهُ نَظَرَ، فَإِنْ كُنْتُ يَقْظَى تَحَدَّثَ مَعِي، وَإِنْ كُنْتُ نَائِمَةً اضْطَجَعَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا صَلَّى قَاعِدًا ثُمَّ صَحَّ أَوْ وَجَدَ خِفَّةً تَمَّمَ مَا بَقِيَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَتَمَّ مَا بَقِيَ أَيْ لَا يَسْتَأْنِفُ بَلْ يَبْنِي عَلَيْهِ إِتْيَانًا بِالْوَجْهِ الْأَتَمِّ مِنَ الْقِيَامِ وَنَحْوِهِ، وَفِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِشَارَةٌ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ: مَنِ افْتَتَحَ الْفَرِيضَةَ قَاعِدًا لِعَجْزِهِ عَنِ الْقِيَامِ ثُمَّ أَطَاقَ الْقِيَامَ وَجَبَ عَلَيْهِ الِاسْتِئْنَافُ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَخَفِيَ ذَلِكَ عَلَى ابْنِ الْمُنِيرِ حَتَّى قَالَ: أَرَادَ الْبُخَارِيُّ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ رَفْعَ خَيَالِ مَنْ تَخَيَّلَ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَتَبَعَّضُ فَيَجِبُ الِاسْتِئْنَافُ عَلَى مَنْ صَلَّى قَاعِدًا ثُمَّ اسْتَطَاعَ الْقِيَامَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَسَنُ إِنْ شَاءَ الْمَرِيضُ) أَيْ فِي الْفَرِيضَةِ (صَلَّى رَكْعَتَيْنِ قَائِمًا) وَهَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ ابْنُ شَيْبَةَ بِمَعْنَاهُ، وَوَصَلَهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا بِلَفْظٍ آخَرَ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِلْمَشِيئَةِ هُنَا؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ لَا يَسْقُطُ عَمَّنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، إِلَّا إِنْ كَانَ يُرِيدُ بِقَوْلِهِ إِنْ شَاءَ أَيْ بِكُلْفَةٍ كَثِيرَةٍ اهـ. وَيَظْهَرُ أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّ مَنِ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ قَاعِدًا ثُمَّ اسْتَطَاعَ الْقِيَامَ كَانَ لَهُ إِتْمَامُهَا قَائِمًا إِنْ شَاءَ بِأَنْ يَبْنِيَ عَلَى مَا صَلَّى، وَإِنْ شَاءَ اسْتَأْنَفَهَا، فَاقْتَضَى ذَلِكَ جَوَازَ الْبِنَاءِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ عَائِشَةَ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ بِإِسْنَادَيْنِ لَهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي قَاعِدًا، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ فَقَرَأَ ثَلَاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً قَائِمًا ثُمَّ رَكَعَ. وَزَادَ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ مِنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَفِي الْأُولَى مِنْهُمَا تَقْيِيدُ ذَلِكَ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُصَلِّ صَلَاةَ اللَّيْلِ قَاعِدًا إِلَّا بَعْدَ أَنْ أَسَنَّ، وَسَيَأْتِي فِي أَثْنَاءِ صَلَاةِ اللَّيْلِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ حَتَّى إِذَا كَبَّرَ، وَفِي رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ: لَمْ يَمُتْ حَتَّى كَانَ أَكْثَرُ صَلَاتِهِ جَالِسًا.
وَفِي حَدِيثِ حَفْصَةَ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي سُبْحَتِهِ جَالِسًا حَتَّى إِذَا كَانَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِعَامٍ وَكَانَ يُصَلِّي فِي سُبْحَتِهِ جَالِسًا الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُمَا مُسْلِمٌ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: قَيَّدَتْ عَائِشَةُ ذَلِكَ بِصَلَاةِ اللَّيْلِ لِتُخْرِجَ الْفَرِيضَةَ، وَبِقَوْلِهَا حَتَّى أَسَنَّ لِنَعْلَمَ أَنَّهُ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ إِبْقَاءً عَلَى نَفْسِهِ لِيَسْتَدِيمَ الصَّلَاةَ، وَأَفَادَتْ أَنَّهُ كَانَ يُدِيمُ الْقِيَامَ وَأَنَّهُ كَانَ لَا يَجْلِسُ عَمَّا يُطِيقُهُ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذِهِ التَّرْجَمَةُ تَتَعَلَّقُ بِالْفَرِيضَةِ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ يَتَعَلَّقُ بِالنَّافِلَةِ. وَوَجْهُ اسْتِنْبَاطِهِ أَنَّهُ لَمَّا جَازَ فِي النَّافِلَةِ الْقُعُودُ لِغَيْرِ عِلَّةٍ مَانِعَةٍ مِنَ الْقِيَامِ، وَكَانَ عليه الصلاة والسلام يَقُومُ فِيهَا قَبْلَ الرُّكُوعِ كَانَتِ الْفَرِيضَةُ الَّتِي لَا يَجُوزُ الْقُعُودُ فِيهَا إِلَّا بِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ أَوْلَى اهـ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ التَّرْجَمَةَ لَيْسَتْ مُخْتَصَّةً بِالْفَرِيضَةِ، بَلْ قَوْلُهُ: ثُمَّ صَحَّ يَتَعَلَّقُ بِالْفَرِيضَةِ.
وَقَوْلُهُ أَوْ وَجَدَ خِفَّةً يَتَعَلَّقُ بِالنَّافِلَةِ، وَهَذَا الشِّقُّ مُطَابِقٌ لِلْحَدِيثِ، وَيُؤْخَذُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالشِّقِّ الْآخَرِ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا جَوَازُ إِيقَاعِ بَعْضِ
الصَّلَاةِ قَاعِدًا وَبَعْضِهَا قَائِمًا، وَدَلَّ حَدِيثُ عَائِشَةَ عَلَى جَوَازِ الْقُعُودِ فِي أَثْنَاءِ صَلَاةِ النَّافِلَةِ لِمَنِ افْتَتَحَهَا قَائِمًا كَمَا يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَفْتَتِحَهَا قَاعِدًا ثُمَّ يَقُومَ، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ، وَلَا سِيَّمَا مَعَ وُقُوعِ ذَلِكَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ خِلَافًا لِمَنْ أَبَى ذَلِكَ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ مُضْطَجِعًا ثُمَّ اسْتَطَاعَ الْجُلُوسَ أَوِ الْقِيَامَ أَتَمَّهَا عَلَى مَا أَدَّتْ إِلَيْهِ حَالُهُ.
قَوْلُهُ: (فَإِذَا بَقِيَ مِنْ قِرَاءَتِهِ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الَّذِي كَانَ يَقْرَؤُهُ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ أَكْثَرُ؛ لِأَنَّ الْبَقِيَّةَ تُطْلَقُ فِي الْغَالِبِ عَلَى الْأَقَلِّ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِمَنِ افْتَتَحَ النَّافِلَةَ قَاعِدًا أَنْ يَرْكَعَ قَاعِدًا، أَوْ قَائِمًا أَنْ يَرْكَعَ قَائِمًا، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي بَابِ قِيَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِاللَّيْلِ مِنْ أَبْوَابِ التَّهَجُّدِ.
قَوْلُهُ: (فَإِذَا قَضَى صَلَاتَهُ نَظَرَ إِلَخْ) يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَبْوَابِ التَّطَوُّعِ فِي الْكَلَامِ عَلَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَتْ أَبْوَابُ التَّقْصِيرِ وَمَا مَعَهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْهَا سِتَّةَ عَشَرَ حَدِيثًا وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَدْرِ الْإِقَامَةِ بِمَكَّةَ، وَحَدِيثِ جَابِرٍ فِي التَّطَوُّعِ رَاكِبًا إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، وَحَدِيثِ أَنَسٍ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَحَدِيثِ عِمْرَانَ فِي صَلَاةِ الْقَاعِدِ. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ الْمَوْقُوفَةِ عَلَى الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ سِتَّةُ آثَارٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
تَمَّ الْجُزْءُ الثَّانِي
وَيَلِيهِ إَنْ شَاءَ اللَّهُ الْجُزْءُ الثَّالِثُ، وَأَوَّلُهُ كِتَابُ التَّهَجُّدِ