المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌19 - كتاب التَّهَجُّد ‌ ‌1 - بَاب التَّهَجُّدِ بِاللَّيْلِ، وَقَوْلِهِ عز - فتح الباري بشرح البخاري - ط السلفية - جـ ٣

[ابن حجر العسقلاني]

فهرس الكتاب

‌19 - كتاب التَّهَجُّد

‌1 - بَاب التَّهَجُّدِ بِاللَّيْلِ،

وَقَوْلِهِ عز وجل: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ}

1120 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي مُسْلِمٍ، عَنْ طَاوُسٍ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ لَكَ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ مَلِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ - أَوْ لَا إِلَهَ غَيْرُكَ -، قَالَ سُفْيَانُ: وَزَادَ عَبْدُ الْكَرِيمِ أَبُو أُمَيَّةَ: وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، قَالَ سُفْيَانُ: قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي مُسْلِمٍ، سَمِعَهُ مِنْ طَاوُسٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

[الحديث 1120 - أطرافه في: 6317، 7385، 7442، 7499]

قَوْلُهُ: (بَابُ التَّهَجُّدِ بِاللَّيْلِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: مِنَ اللَّيْلِ. وَهُوَ أَوْفَقُ لِلَفْظِ الْآيَةِ، وَسَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ.

وَقَصَدَ الْبُخَارِيُّ إِثْبَاتَ مَشْرُوعِيَّةِ قِيَامِ اللَّيْلِ مَعَ عَدَمِ التَّعَرُّضِ لِحُكْمِهِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا إلَّا شُذُوذًا مِنَ الْقُدَمَاءِ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ لَيْسَتْ مَفْرُوضَةً عَلَى الْأُمَّةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهَا مِنْ خَصَائِصِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَسَيَأْتِي تَصْرِيحُ الْمُصَنِّفِ بِعَدَمِ وُجُوبِهِ عَلَى الْأُمَّةِ قَرِيبًا.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُهُ عز وجل: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ} زَادَ أَبُو ذَرٍّ فِي رِوَايَتِهِ: اسْهَرْ بِهِ، وَحَكَاهُ الطَّبَرِيُّ أَيْضًا، وَفِي الْمَجَازِ لِأَبِي عُبَيْدَةَ: قَوْلُهُ: {فَتَهَجَّدْ بِهِ} أَيِ: اسْهَرْ بِصَلَاةٍ. وَتَفْسِيرُ التَّهَجُّدِ بِالسَّهَرِ مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ، وَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ، يُقَالُ: تَهَجَّدَ إِذَا سَهِرَ، وَتَهَجَّدَ إِذَا نَامَ، حَكَاهُ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ: هَجَدْتُ نِمْتُ، وَتَهَجَّدْتُ سَهِرْتُ، حَكَاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَصَاحِبُ الْعَيْنِ، فَعَلَى هَذَا أَصْلُ الْهُجُودِ: النَّوْمُ، وَمَعْنَى تَهَجَّدْتُ: طَرَحْتُ عَنِّي النَّوْمَ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: التَّهَجُّدُ السَّهَرُ بَعْدَ نَوْمَةٍ، ثُمَّ سَاقَهُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الْمُتَهَجِّدُ الْمُصَلِّي لَيْلًا. وَقَالَ كُرَاعٌ: التَّهَجُّدُ صَلَاةُ اللَّيْلِ خَاصَّةً.

قَوْلُهُ: {نَافِلَةً لَكَ} النَّافِلَةُ فِي اللُّغَةِ الزِّيَادَةُ، فَقِيلَ: مَعْنَاهُ عِبَادَةٌ زَائِدَةٌ فِي فَرَائِضِكَ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّافِلَةَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةٌ؛ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِقِيَامِ اللَّيْلِ وَكُتِبَ عَلَيْهِ دُونَ أُمَّتِهِ. وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ زِيَادَةٌ لَكَ خَالِصَةٌ؛ لِأَنَّ تَطَوُّعَ غَيْرِهِ يُكَفِّرُ مَا عَلَى صَاحِبِهِ مِنْ ذَنْبٍ، وَتَطَوُّعُهُ هُوَ صلى الله عليه وسلم يَقَعُ خَالِصًا لَهُ لِكَوْنِهِ لَا ذَنْبَ عَلَيْهِ، وَرَوَى مَعْنَى ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَعَنْ قَتَادَةَ كَذَلِكَ، وَرَجَّحَ الطَّبَرِيُّ الْأَوَّلَ، وَلَيْسَ الثَّانِي بِبَعِيدٍ مِنَ الصَّوَابِ.

قَوْلُهُ: (إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ)

ص: 3

فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ طَاوُسٍ: إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ. وَظَاهِرُ السِّيَاقِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُهُ أَوَّلُ مَا يَقُومُ إِلَى الصَّلَاةِ، وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ ابْنُ خُزَيْمَةَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ هَذَا التَّحْمِيدَ بَعْدَ أَنْ يُكَبِّرَ، ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ لِلتَّهَجُّدِ قَالَ بَعْدَ مَا يُكَبِّرُ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، وَسَيَأْتِي هَذَا فِي الدَّعَوَاتِ مِنْ طَرِيقِ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثِ مَبِيتِهِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ، وَفِي آخِرِهِ: وَكَانَ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا، الْحَدِيثَ. وَهَذَا قَالَهُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ، كَمَا بَيَّنَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِيهِ.

قَوْلُهُ: (قَيِّمُ السَّمَاوَاتِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَذْكُورَةِ قَيَّامُ السَّمَاوَاتِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي التَّوْحِيدِ، قَالَ قَتَادَةُ: الْقَيَّامُ: الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ بِتَدْبِيرِ خَلْقِهِ الْمُقِيمُ لِغَيْرِهِ.

قَوْلُهُ: (أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أَيْ مُنَوِّرُهُمَا، وَبِكَ يَهْتَدِي مَنْ فِيهِمَا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنْتَ الْمُنَزَّهُ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ، يُقَالُ: فُلَانٌ مُنَوَّرٌ؛ أَيْ: مُبَرَّأٌ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، وَيُقَالُ: هُوَ اسْمُ مَدْحٍ؛ تَقُولُ: فُلَانٌ نُورُ الْبَلَدِ؛ أَيْ: مُزَيِّنُهُ.

قَوْلُهُ: (أَنْتَ مَلِكُ السَّمَاوَاتِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، ولِلكُشْمِيهَنِيِّ:(لَكَ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ) وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِالسِّيَاقِ.

قَوْلُهُ: (أَنْتَ الْحَقُّ)؛ أَيِ: الْمُتَحَقِّقُ الْوُجُودِ، الثَّابِتُ بِلَا شَكٍّ فِيهِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا الْوَصْفُ لَهُ سبحانه وتعالى بِالْحَقِيقَةِ خَاصٌّ بِهِ لَا يَنْبَغِي لِغَيْرِهِ، إِذْ وُجُودُهُ لِنَفْسِهِ، فَلَمْ يَسْبِقْهُ عَدَمٌ، وَلَا يَلْحَقُهُ عَدَمٌ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنْتَ الْحَقُّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يُدَّعَى فِيهِ أَنَّهُ إِلَهٌ، أَوْ بِمَعْنَى أَنَّ مَنْ سَمَّاكَ إِلَهًا فَقَدْ قَالَ الْحَقَّ.

قَوْلُهُ: (وَوَعْدُكَ الْحَقُّ) أَيِ: الثَّابِتُ، وَعَرَّفَهُ وَنَكَّرَ مَا بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ وَعْدَهُ مُخْتَصٌّ بِالْإِنْجَازِ دُونَ وَعْدِ غَيْرِهِ، وَالتَّنْكِيرُ فِي الْبَوَاقِي لِلتَّعْظِيمِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ

(1)

.

وَاللِّقَاءُ وَمَا ذُكِرَ بَعْدَهُ دَاخِلٌ تَحْتَ الْوَعْدِ، لَكِنَّ الْوَعْدَ مَصْدَرٌ، وَمَا ذُكِرَ بَعْدَهُ هُوَ الْمَوْعُودُ بِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ كَمَا أَنَّ ذِكْرُ الْقَوْلِ بَعْدَ الْوَعْدِ مِنَ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ، قَالَهُ الْكِرْمَانِيُّ. .

قَوْلُهُ: (وَلِقَاؤُكَ الحَقٌّ) فِيهِ الْإِقْرَارُ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مَآلِ الْخَلْقِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ. وَقِيلَ: مَعْنَى (لِقَاؤُكَ حَقٌّ) أَيِ: الْمَوْتُ، وَأَبْطَلَهُ النَّوَوِيُّ.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُكَ حَقٌّ) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ.

قَوْلُهُ: (وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمَا مَوْجُودَتَانِ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ.

قَوْلُهُ: (مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حَقٌّ) خَصَّهُ بِالذِّكْرِ تَعْظِيمًا لَهُ، وَعَطَفَهُ عَلَى النَّبِيِّينَ إِيذَانًا بِالتَّغَايُرِ بِأَنَّهُ فَائِقٌ عَلَيْهِمْ بِأَوْصَافٍ مُخْتَصَّةٍ، وَجَرَّدَهُ عَنْ ذَاتِهِ كَأَنَّهُ غَيْرُهُ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ بِهِ وَتَصْدِيقُهُ مُبَالَغَةً فِي إِثْبَاتِ نُبُوَّتِهِ، كَمَا فِي التَّشَهُّدِ.

قَوْلُهُ: (وَالسَّاعَةُ حَقٌّ) أَيْ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَأَصْلُ السَّاعَةِ: الْقِطْعَةُ مِنَ الزَّمَانِ، وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْحَقِّ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْأُمُورِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَابُدَّ مِنْ كَوْنِهَا، وَأَنَّهَا مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُصَدِّقَ بِهَا. وَتَكْرَارُ لَفْظِ حَقٌّ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّأْكِيدِ.

قَوْلُهُ: (اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ) أَيِ: انْقَدْتُ وَخَضَعْتُ، (وَبِكَ آمَنْتُ) أَيْ: صَدَّقْتُ، (وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ) أَيْ: فَوَّضْتُ الْأَمْرَ إِلَيْكَ تَارِكًا لِلنَّظَرِ فِي الْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ

(2)

. (وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ) أَيْ: رَجَعْتُ إِلَيْكَ فِي تَدْبِيرِ أَمْرِي.

قَوْلُهُ: (وَبِكَ خَاصَمْتُ) أَيْ: بِمَا أَعْطَيْتَنِي مِنَ الْبُرْهَانِ، وَبِمَا لَقَّنْتَنِي مِنَ الْحُجَّةِ.

قَوْلُهُ: (وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ) أَيْ: كُلُّ مَنْ جَحَدَ الْحَقَّ حَاكَمْتُهُ إِلَيْكَ، جَعَلْتُكَ الْحَكَمَ بَيْنَنَا، لَا مَنْ كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَتَحَاكَمُ إِلَيْهِ مِنْ كَاهِنٍ وَنَحْوِهِ. وَقَدَّمَ مَجْمُوعَ صِلَاتِ

(1)

في مخطوطة الرياض: القرطبي

(2)

ليس هذا التفسير بجيد. الصواب في تفسير التوكل عند أهل التحقيق أنه الاعتماد على الله والثقة به، والإيمان بأنه مقدر الأشياء ومدبر الأمور كلها، مع النظر في الأسباب العادية من العبد وقيامه بها. فالتوكل مركب من شيئين: أحدهما الاعتماد على الله والثقة به التفويض إليه لكونه قد علم الأشياء وقدرها وله القدرة الشاملة والمشيئة النافذة. والثاني النظر من العبد في الأسباب الدينية وقيامه بها. والله أعلم.

ص: 4

هَذِهِ الْأَفْعَالِ عَلَيْهَا إِشْعَارًا بِالتَّخْصِيصِ وَإِفَادَةً لِلْحَصْرِ، وَكَذَا قَوْلُهُ:(وَلَكَ الْحَمْدُ)، وَقَوْلُهُ:(فَاغْفِرْ لِي) قَالَ ذَلِكَ مَعَ كَوْنِهِ مَغْفُورًا لَهُ، إِمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّوَاضُعِ وَالْهَضْمِ لِنَفْسِهِ وَإِجْلَالًا وَتَعْظِيمًا لِرَبِّهِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ التَّعْلِيمِ لِأُمَّتِهِ لِتَقْتَدِيَ بِهِ، كَذَا قِيلَ، وَالْأَوْلَى أَنَّهُ لِمَجْمُوعِ ذَلِكَ، وَإِلَّا لَوْ كَانَ لِلتَّعْلِيمِ فَقَطْ لَكَفَى فِيهِ أَمْرُهُمْ بِأَنْ يَقُولُوا.

قَوْلُهُ: (وَمَا قَدَّمْتُ) أَيْ: قَبَلَ هَذَا الْوَقْتِ (وَمَا أَخَّرْتُ) عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ) أَيْ: أَخْفَيْتُ وَأَظْهَرْتُ، أَوْ مَا حَدَّثْتُ بِهِ نَفْسِي، وَمَا تَحَرَّكَ بِهِ لِسَانِي. زَادَ فِي التَّوْحِيدِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ:(وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي) وَهُوَ مِنَ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ) قَالَ الْمُهَلَّبُ: أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ الْمُقَدِّمُ فِي الْبَعْثِ فِي الْآخِرَةِ، وَالْمُؤَخِّرُ فِي الْبَعْثِ فِي الدُّنْيَا. زَادَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَيْضًا فِي الدَّعَوَاتِ:(أَنْتَ إِلَهِي لَا إِلَهَ لِي غَيْرُكَ). قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْقَيِّمِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ وُجُودَ الْجَوَاهِرِ وَقِوَامَهَا مِنْهُ، وَالنُّورَ إِلَى أَنَّ الْأَعْرَاضَ أَيْضًا مِنْهُ، وَالْمُلْكَ إِلَى أَنَّهُ حَاكِمٌ عَلَيْهَا إِيجَادًا وَإِعْدَامًا يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، فَلِهَذَا قَرَنَ كُلًّا مِنْهَا بِالْحَمْدِ، وَخَصَّصَ الْحَمْدَ بِهِ. ثُمَّ قَوْلُهُ:(أَنْتَ الْحَقُّ) إِشَارَةٌ إِلَى الْمَبْدَأِ، وَالْقَوْلُ وَنَحْوُهُ إِلَى الْمَعَاشِ، وَالسَّاعَةُ وَنَحْوُهَا إِشَارَةٌ إِلَى الْمَعَادِ، وَفِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى النُّبُوَّةِ وَإِلَى الْجَزَاءِ ثَوَابًا وَعِقَابًا، وَوُجُوبُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، وَالتَّوَكُّلِ وَالْإِنَابَةِ، وَالتَّضَرُّعِ إِلَى اللَّهِ وَالْخُضُوعِ لَهُ، انْتَهَى. وَفِيهِ زِيَادَةُ مَعْرِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِعَظَمَةِ رَبِّهِ، وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ، وَمُوَاظَبَتِهُ عَلَى الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالثَّنَاءِ عَلَى رَبِّهِ، وَالِاعْتِرَافِ لَهُ بِحُقُوقِهِ، وَالْإِقْرَارِ بِصِدْقِ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ تَقْدِيمِ الثَّنَاءِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ كُلِّ مَطْلُوبٍ اقْتِدَاءً بِهِ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (قَالَ سُفْيَانُ، وَزَادَ عَبْدُ الْكَرِيمِ أَبُو أُمَيَّةَ) هَذَا مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ، وَوَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُعَلَّقٌ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ الْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الْأَحْوَلُ خَالُ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ سَمِعْتُ طَاوُسًا، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَقَالَ فِي آخِرِهِ: قَالَ سُفْيَانُ: وَزَادَ فِيهِ عَبْدُ الْكَرِيمِ: وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ وَلَمْ يَقُلْهَا سُلَيْمَانُ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ الْقَاضِي، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ الْمَدِينِيِّ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، فَقَالَ فِي آخِرِهِ: قَالَ سُفْيَانُ: وَكُنْتُ إِذَا قُلْتُ لِعَبْدِ الْكَرِيمِ آخِرَ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ: وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ، قَالَ: وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، قَالَ سُفْيَانُ: وَلَيْسَ هُوَ فِي حَدِيثِ سُلَيْمَانَ، انْتَهَى. وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ عَبْدَ الْكَرِيمِ لَمْ يَذْكُرْ إِسْنَادَهُ فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ، لَكِنَّهُ عَلَى الِاحْتِمَالِ.

وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ سَمَاعِ سُفْيَانَ لَهَا مِنْ سُلَيْمَانَ أَنْ لَا يَكُونَ سُلَيْمَانُ حَدَّثَ بِهَا، وَقَدْ وَهِمَ بَعْضُ أَصْحَابِ سُفْيَانَ فَأَدْرَجَهَا فِي حَدِيثِ سُلَيْمَانَ، أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ سُفْيَانَ، فَذَكَرَهَا فِي آخِرِ الْخَبَرِ بِغَيْرِ تَفْصِيلٍ، وَلَيْسَ لِعَبْدِ الْكَرِيمِ أَبِي أُمَيَّةَ - وَهُوَ ابْنُ أَبِي الْمُخَارِقِ - فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْمَوْضِعُ، وَلَمْ يَقْصِدِ الْبُخَارِيُّ التَّخْرِيجَ لَهُ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَا يَعُدُّونَهُ فِي رِجَالِهِ، وَإِنَّمَا وَقَعَتْ عَنْهُ زِيَادَةٌ فِي الْخَبَرِ غَيْرَ مَقْصُودَةٍ لِذَاتِهَا كَمَا تَقَدَّمَ مِثْلُهُ لِلْمَسْعُودِيِّ فِي الِاسْتِسْقَاءِ، وَسَيَأْتِي نَحْوُهُ لِلْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ فِي الْبُيُوعِ، وَعَلَّمَ الْمِزِّيُّ عَلَى هَؤُلَاءِ عَلَامَةَ التَّعْلِيقِ، وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْهُمْ مَوْصُولَةٌ، إِلَّا أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يَقْصِدِ التَّخْرِيجَ عَنْهُمْ، وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ الْمُنْذِرِيِّ: قَدِ اسْتَشْهَدَ الْبُخَارِيُّ، بِعَبْدِ الْكَرِيمِ أَبِي أُمَيَّةَ فِي كِتَابِ التَّهَجُّدِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَشْهِدْ بِهِ إِلَّا إِنْ أَرَادَ بِالِاسْتِشْهَادِ مُقَابِلَ الِاحْتِجَاجِ فَلَهُ وَجْهٌ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ طَاهِرٍ: إنَّ الْبُخَارِيَّ، وَمُسْلِمًا أَخْرَجَا لِعَبْدِ الْكَرِيمِ هَذَا فِي الْحَجِّ حَدِيثًا وَاحِدًا عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ عَلِيٍّ فِي الْقِيَامِ عَلَى الْبَدَنِ، مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ فَهُوَ غَلَطٌ مَنّهُ، فَإِنَّ عَبْدَ الْكَرِيمِ الْمَذْكُورَ هُوَ الْجَزَرِيُّ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ سُفْيَانُ) هُوَ مَوْصُولٌ أَيْضًا، وَإِنَّمَا أَرَادَ سُفْيَانُ بِذَلِكَ بَيَانَ سَمَاعِ سُلَيْمَانَ لَهُ مِنْ طَاوُسٍ لِإِيرَادِهِ

ص: 5

لَهُ أَوَّلًا بِالْعَنْعَنَةِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ التَّصْرِيحُ بِالسَّمَاعِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَلِأَبِي ذَرٍّ وَحْدَهُ هُنَا، قَالَ عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، قَالَ سُفْيَانُ إِلَخْ. وَلَعَلَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ عَنِ الْفَرَبْرِيِّ، فَإِنَّ عَلِيَّ بْنَ خَشْرَمٍ لَمْ يَذْكُرُوهُ فِي شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَأَمَّا الْفَرَبْرِيُّ فَقَدْ سَمِعَ مِنْ عَلِيِّ بْنِ خَشْرَمٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ فِي قِصَّةِ مُوسَى وَالْخَضِرِ، فَكَأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ أَيْضًا كَانَ عِنْدَهُ عَالِيًا، عَنْ عَلِيِّ بْنِ خَشْرَمٍ، عَنْ سُفْيَانَ فَذَكَرَهُ لِأَجْلِ الْعُلُوِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌2 - بَاب فَضْلِ قِيَامِ اللَّيْلِ

1121 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ. ح وَحَدَّثَنِي مَحْمُودٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذَا رَأَى رُؤْيَا قَصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَتَمَنَّيْتُ أَنْ أَرَى رُؤْيَا فَأَقُصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكُنْتُ غُلَامًا شَابًّا، وَكُنْتُ أَنَامُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَ عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَرَأَيْتُ فِي النَّوْمِ كَأَنَّ مَلَكَيْنِ أَخَذَانِي فَذَهَبَا بِي إِلَى النَّارِ، فَإِذَا هِيَ مَطْوِيَّةٌ كَطَيِّ الْبِئْرِ، وَإِذَا لَهَا قَرْنَانِ وَإِذَا فِيهَا أُنَاسٌ قَدْ عَرَفْتُهُمْ، فَجَعَلْتُ أَقُولُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ النَّارِ، قَالَ: فَلَقِيَنَا مَلَكٌ آخَرُ فَقَالَ لِي: لَمْ تُرَعْ.

1122 -

فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ، فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ، فَكَانَ بَعْدُ لَا يَنَامُ مِنْ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلًا.

[الحديث 1122 - أطرافه في: 1175، 3739، 3741، 7029، 7031]

قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ قِيَامِ اللَّيْلِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ فِي رُؤْيَاهُ، وَفِيهِ: فَقَالَ: نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ، فَكَانَ بَعْدُ لَا يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلًا، وَظَاهِرُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: فَكَانَ بَعْدُ لَا يَنَامُ. .

إِلَخْ مِنْ كَلَامِ سَالِمٍ، لَكِنْ وَقَعَ فِي التَّعْبِيرِ مِنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ شَيْخِهِ هُنَا بِإِسْنَادِهِ هَذَا: قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بَعْدَ ذَلِكَ يُكْثِرُ الصَّلَاةَ مِنَ اللَّيْلِ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ فِي السِّيَاقِ الْأَوَّلِ إِدْرَاجًا، لَكِنْ أَوْرَدَهُ فِي الْمَنَاقِبِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَفِي آخِرِهِ قَالَ سَالِمٌ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ لَا يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلًا، فَظَهَرَ أَنْ لَا إدْرَاجَ فِيهِ، وَأَيْضًا فَكَلَامُ سَالِمٍ فِي ذَلِكَ مُغَايِرٌ لِكَلَامِ الزُّهْرِيِّ، فَانْتَفَى الْإِدْرَاجُ عَنْهُ أَصْلًا وَرَأْسًا، وَشَاهِدُ التَّرْجَمَةِ قَوْلُهُ: نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ، فَمُقْتَضَاهُ أَنَّ مَنْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ يُوصَفُ بِكَوْنِهِ نِعْمَ الرَّجُلُ، وَفِي رِوَايَةِ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي التَّعْبِيرِ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ رَجُلٌ صَالِحٌ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ أَبْيَنُ فِي الْمَقْصُودِ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ حَدِيثٌ صَرِيحٌ فِي هَذَا الْبَابِ، فَاكْتَفَى بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَدْ أَخْرَجَ فِيهِ مُسْلِمٌ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ، وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ تَوَقَّفَ فِيهِ لِلِاخْتِلَافِ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ، وَفِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ) هُوَ الْجُعْفِيُّ، وَهِشَامٌ هُوَ ابْنُ يُوسُفَ الصَّنْعَانِيُّ، وَمَحْمُودٌ هُوَ ابْنُ غَيْلَانَ.

قَوْلُهُ: (كَانَ الرَّجُلُ) اللَّامُ لِلْجِنْسِ، وَلَا مَفْهُومَ لَهُ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ لِلْغَالِبِ.

قَوْلُهُ: (فَتَمَنَّيْتُ أَنْ أَرَى) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: أَنِّي أَرَى. وَزَادَ فِي التَّعْبِيرِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لَوْ كَانَ فِيكَ خَيْرٌ لَرَأَيْتَ مِثْلَ مَا يَرَى هَؤُلَاءِ. وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةَ تَدُلُّ عَلَى خَيْرِ رَائِيهَا.

قَوْلُهُ: (كَأَنَّ مَلَكَيْنِ) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَتِهِمَا.

قَوْلُهُ: (فَذَهَبَا بِي إِلَى النَّارِ،

ص: 6

فَإِذَا هِيَ مَطْوِيَّةٌ) فِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، الْآتِيَةِ قَرِيبًا: كَأَنَّ اثْنَيْنِ أَتَيَانِي، أَرَادَا أَنْ يَذْهَبَا بِي إِلَى النَّارِ، فَتَلَقَّاهُمَا مَلَكٌ، فَقَالَ: لَنْ تُرَاعَ، خَلِّيَا عَنْهُ، وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُمَا لَمْ يَذْهَبَا بِهِ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِحَمْلِ الثَّانِي عَلَى إِدْخَالِهِ، فَالتَّقْدِيرُ: أَنْ يَذْهَبَا بِي إِلَى النَّارِ فَيُدْخِلَانِي فِيهَا، فَلَمَّا نَظَرْتُهَا فَإِذَا هِيَ مَطْوِيَّةٌ، وَرَأَيْتُ مَنْ فِيهَا وَاسْتَعَذْتُ، فَلَقِيَنَا مَلَكٌ آخَرُ.

قَوْلُهُ: (فَإِذَا هِيَ مَطْوِيَّةٌ) أَيْ مَبْنِيَّةٌ، وَالْبِئْرُ قَبْلَ أَنْ تُبْنَى تُسَمَّى قَلِيبًا.

قَوْلُهُ: (وَإِذَا لَهَا قَرْنَانِ) هَكَذَا لِلْجُمْهُورِ، وَحَكَى الْكِرْمَانِيُّ أَنَّ فِي نُسْخَةٍ: قَرْنَيْنِ، فَأَعْرَبَهَا بِالْجَرِّ أَوْ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّ فِيهِ شَيْئًا مُضَافًا حُذِفَ، وَتُرِكَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَتَقْدِيرُهُ: فَإِذَا لَهَا مِثْلُ قَرْنَيْنِ، وَهُوَ كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ:(تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) بِالْجَرِّ، أَيْ: يُرِيدُ عَرَضَ الْآخِرَةِ، أَوْ ضَمَّنَ إِذًا الْمُفَاجِأَةَ مَعْنَى الْوِجْدَانِ؛ أَيْ: فَإِذَا بِي وَجَدْتُ لَهَا قَرْنَيْنِ. انْتَهَى. وَالْمُرَادُ بِالْقَرْنَيْنِ هُنَا خَشَبَتَانِ أَوْ بِنَاءَانِ تُمَدُّ عَلَيْهِمَا الْخَشَبَةُ الْعَارِضَةُ الَّتِي تُعَلَّقُ فِيهَا الْحَدِيدَةُ الَّتِي فِيهَا الْبَكَرَةُ، فَإِنْ كَانَ مِنْ بِنَاءٍ فَهُمَا الْقَرْنَانِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ خَشَبٍ فَهُمَا الزَّرْنُوقَانِ - بِزَايٍ مَنْقُوطَةٍ قَبْلَ الْمُهْمَلَةِ، ثُمَّ نُونٍ ثُمَّ قَافٍ -، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْخَشَبَةِ أَيْضًا الْقَرْنَانِ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي شَرْحِ حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ فِي غُسْلِ الْمُحْرِمِ فِي بَابِ الِاغْتِسَالِ لِلْمُحْرِمِ مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ.

قَوْلُهُ: (وَإِذَا فِيهَا أُنَاسٌ قَدْ عَرَفْتُهُمْ) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَةِ أَحَدٍ مِنْهُمْ.

قَوْلُهُ: (لَمْ تُرَعْ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ سَاكِنَةٌ؛ أَيْ: لَمْ تُخَفْ، وَالْمَعْنَى لَا خَوْفَ عَلَيْكَ بَعْدَ هَذَا، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فِي التَّعْبِيرِ لَنْ تُرَاعَ وَهِيَ رِوَايَةُ الْجُمْهُورِ بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْقَابِسِيِّ: لَنْ تُرَعْ بِحَذْفِ الْأَلِفِ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَهِيَ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ - أَيِ: الْجَزْمُ بِلَنْ - حَتَّى قَالَ الْقَزَّازُ: لَا أَعْلَمُ لَهُ شَاهِدًا. وَتُعُقِّبَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:

لَنْ يَخِبِ الْآنَ مِنْ رَجَائِكَ مَنْ

حَرَّكَ مِنْ دُونِ بَابِكَ الْحَلْقَهْ

وَبِقَوْلِ الْآخَرِ:

وَلَنْ يَحْلُ لِلْعَيْنَيْنِ بَعْدَكَ مَنْظَرٌ

وَزَادَ فِيهِ: إِنَّكَ رَجُلٌ صَالِحٌ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ بِضْعَةَ عَشَرَ بَابًا بِزِيَادَةٍ فِيهِ وَنُقْصَانٍ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّمَا فَسَّرَ الشَّارِعُ مِنْ رُؤْيَا عَبْدِ اللَّهِ مَا هُوَ مَمْدُوحٌ؛ لِأَنَّهُ عُرِضَ عَلَى النَّارِ، ثُمَّ عُوفِيَ مِنْهَا، وَقِيلَ لَهُ: لَا رَوْعَ عَلَيْكَ وَذَلِكَ لِصَلَاحِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ فَحَصَلَ لِعَبْدِ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ ممَا يَتَّقِي بِهِ النَّارَ وَالدُّنُوَّ مِنْهَا، فَلِذَلِكَ لَمْ يَتْرُكْ قِيَامَ اللَّيْلِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَأَشَارَ الْمُهَلَّبُ إِلَى أَنَّ السِّرَّ فِي ذَلِكَ كَوْنُ عَبْدِ اللَّهِ كَانَ يَنَامُ فِي الْمَسْجِدِ، وَمِنْ حَقِّ الْمَسْجِدِ أَنْ يُتَعَبَّدَ فِيهِ، فَنَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ بِالتَّخْوِيفِ بِالنَّارِ.

قَوْلُهُ: (لَوْ كَانَ) لَوْ لِلتَّمَنِّي لَا لِلشَّرْطِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرِ الْجَوَابَ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ يَدْفَعُ الْعَذَابَ، وَفِيهِ تَمَنِّي الْخَيْرِ وَالْعِلْمِ، وَسَيَأْتِي بَاقِي الْكَلَامِ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ التَّعْبِيرِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(تَنْبِيهٌ): سِيَاقُ هَذَا الْمَتْنِ عَلَى لَفْظِ مَحْمُودٍ، وَأَمَّا سِيَاقُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ فَسَيَأْتِي فِي التَّعْبِيرِ، وَأَغْفَلَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ طَرِيقَ مَحْمُودٍ هَذِهِ، وَهِيَ وَارِدَةٌ عَلَيْهِ.

‌3 - بَاب طُولِ السُّجُودِ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ

1123 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، كَانَتْ تِلْكَ صَلَاتَهُ يَسْجُدُ السَّجْدَةَ مِنْ ذَلِكَ قَدْرَ مَا يَقْرَأُ أَحَدُكُمْ خَمْسِينَ آيَةً قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ، وَيَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، ثُمَّ يَضْطَجِعُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمُنَادِي لِلصَّلَاةِ.

ص: 7

قَوْلُهُ: (بَابُ طُولِ السُّجُودِ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ، وَفِيهِ: كَانَ يَسْجُدُ السَّجْدَةَ مِنْ ذَلِكَ قَدْرَ مَا يَقْرَأُ أَحَدُكُمْ خَمْسِينَ آيَةً، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى مَا تَرْجَمَ لَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِهَا فِي أَبْوَابِ صِفَةِ الصَّلَاةِ، أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ فِي سُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ. رِجَالُهُ ثِقَاتٌ.

قَوْلُهُ: (وَيَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ ثُمَّ يَضْطَجِعُ) سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي آخِرِ أَبْوَابِ التَّهَجُّدِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌4 - بَاب تَرْكِ الْقِيَامِ لِلْمَرِيضِ

1124 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الْأَسْوَدِ قَالَ: سَمِعْتُ جُنْدَبًا يَقُولُ: اشْتَكَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ.

[الحديث 1124 - أطرافه في: 1125، 4950، 4951، 4983]

1125 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه، قَالَ: احْتَبَسَ جِبْرِيلُ صلى الله عليه وسلم عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَبْطَأَ عَلَيْهِ شَيْطَانُهُ، فَنَزَلَتْ {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} .

قَوْلُهُ: (بَابُ تَرْكِ الْقِيَامِ) أَيْ: قِيَامُ الْمَرِيضِ.

قَوْلُهُ: (عَنِ الْأَسْوَدِ) هُوَ ابْنُ قَيْسٍ، وَجُنْدُبٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجْلِيُّ، كَمَا فِي الْإِسْنَادِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ فِيهِمَا، وَوَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ. وَوَقَعَ التَّصْرِيحُ بِسَمَاعِ الْأَسْوَدِ لَهُ مِنْ جُنْدُبٍ فِي طَرِيقِ زُهَيْرٍ عَنْهُ فِي التَّفْسِيرِ.

قَوْلُهُ: (اشْتَكَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَيْ: مَرِضَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ الَّتِي سَيَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا بِلَفْظِ: مَرِضَ، وَلَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى تَفْسِيرِ هَذِهِ الشِّكَايَةِ، لَكِنْ وَقَعَ فِي التِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الْأَسْوَدِ فِي أَوَّلِ هَذَا الْحَدِيثِ، عَنْ جُنْدُبٍ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَارٍ، فَدَمِيَتْ إِصْبَعُهُ، فَقَالَ: هَلْ أَنْتَ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيتَ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتَ. قَالَ: وَأَبْطَأَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: قَدْ وُدِّعَ مُحَمَّدٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} انْتَهَى، فَظَنَّ بَعْضُ الشُّرَّاحِ أَنَّ هَذَا بَيَانٌ لِلشِّكَايَةِ الْمُجْمَلَةِ فِي الصَّحِيحِ، وَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ، فَإِنَّ فِي طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ الَّتِي يَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا أَنَّ نُزُولَ هَذِهِ السُّورَةِ كَانَ فِي أَوَائِلِ الْبَعْثَةِ، وَجُنْدُبٌ لَمْ يَصْحَبِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا مُتَأَخِّرًا، كَمَا حَكَاهُ الْبَغَوِيُّ فِي مُعْجَمِ الصَّحَابَةِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، فَعَلَى هَذَا هُمَا قَضِيَّتَانِ حَكَاهُمَا جُنْدُبٌ؛ إِحْدَاهُمَا مُرْسَلَةٌ، وَالْأُخْرَى مَوْصُولَةٌ؛ لِأَنَّ الْأُولَى لَمْ يَحْضُرْهَا فَرِوَايَتُهُ لَهَا مُرْسَلَةٌ مِنْ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ، وَالثَّانِيَةُ شَهِدَهَا كَمَا ذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَطْفِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ اتِّحَادُهُمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ) هَكَذَا اخْتَصَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَقَدْ سَاقَهُ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ تَامًّا.

أَخْرَجَهُ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ شَيْخِهِ فِيهِ هُنَا بِإِسْنَادِهِ الْمَذْكُورِ، فَزَادَ: فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ، مَا أَرَى شَيْطَانَكَ إِلَّا قَدْ تَرَكَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَالضُّحَى} إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَا قَلَى} ثُمَّ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ سُفْيَانَ بِلَفْظٍ آخَرَ، وَهُوَ: احْتَبَسَ جِبْرِيلُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ الْحَدِيثَ. وَقَدْ وَافَقَ

ص: 8

أَبَا نُعَيْمٍ، أَبُو أُسَامَةَ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ، وَوَافَقَ مُحَمَّدَ بْنَ كَثِيرٍ، وَكِيعٌ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَرِوَايَةُ زُهَيْرٍ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا فِي التَّفْسِيرِ كَرِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ، لَكِنْ قَالَ فِيهَا: فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، وَرِوَايَةُ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الْأَسْوَدِ عِنْدَ مُسْلِمٍ كَرِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَسْوَدَ حَدَّثَ بِهِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، فَحَمَلَ عَنْهُ كُلُّ وَاحِدٍ مَا لَمْ يَحْمِلْهُ الْآخَرُ، وَحَمَلَ عَنْهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ الْأَمْرَيْنِ فَحَدَّثَ بِهِ مَرَّةً هَكَذَا، وَمَرَّةً هَكَذَا، وَقَدْ رَوَاهُ شُعْبَةُ، عَنِ الْأَسْوَدِ عَلَى لَفْظٍ آخَرَ، أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّفْسِيرِ قَالَ: قَالَتِ امْرَأَةٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَرَى صَاحِبَكَ إِلَّا أَبْطَأَ عَنْكَ. وَزَادَ النَّسَائِيُّ فِي أَوَّلِهِ: أَبْطَأَ جِبْرِيلُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ الْحَدِيثَ. وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ - فِيمَا ظَهَرَ لِي - غَيْرُ الْمَرْأَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ سُفْيَانَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ عَبَّرَتْ بِقَوْلِهَا: صَاحِبَكَ وَتِلْكَ عَبَّرَتْ بِقَوْلِهَا: شَيْطَانَكَ. وَهَذِهِ عَبَّرَتْ بِقَوْلِهَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَتِلْكَ عَبَّرَتْ بِقَوْلِهَا: يَا مُحَمَّدُ.

وَسِيَاقُ الْأُولَى يُشْعِرُ بِأَنَّهَا قَالَتْه تَأَسُّفًا وَتَوَجُّعًا، وَسِيَاقُ الثَّانِيَةِ يُشْعِرُ بِأَنَّهَا قَالَتْهُ تَهَكُّمًا وَشَمَاتَةً. وَقَدْ حَكَى ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ تَفْسِيرِ بَقِيِّ بْنِ مَخْلَدٍ، قَالَ: قَالَتْ خَدِيجَةُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَبْطَأَ عَنْهُ الْوَحْيُ: إِنَّ رَبَّكَ قَدْ قَلَاكَ، فَنَزَلَتْ:{وَالضُّحَى} ، وَقَدْ تَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ وَمَنْ تَبِعَهُ بِالْإِنْكَارِ، لِأَنَّ خَدِيجَةَ قَوِيَّةُ الْإِيمَانِ، لَا يَلِيقُ نِسْبَةُ هَذَا الْقَوْلِ إِلَيْهَا، لَكِنَّ إِسْنَادَ ذَلِكَ قَوِيٌّ، أَخْرَجَهُ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي فِي أَحْكَامِهِ، وَالطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ لَهُ، كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ، وَهُوَ مِنْ صِغَارِ الصَّحَابَةِ، وَالْإِسْنَادُ إِلَيْهِ صَحِيحٌ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، لَكِنْ لَيْسَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهَا عَبَّرَتْ بِقَوْلِهَا: شَيْطَانَكَ، وَهَذِهِ هِيَ اللَّفْظَةُ الْمُسْتَنْكَرَةُ فِي الْخَبَرِ. وَفِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ وَغَيْرِهِ: مَا أَرَى صَاحِبَكَ بَدَلَ رَبَّكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا عَنَتْ بِذَلِكَ جِبْرِيلَ.

وَأَغْرَبَ سُنَيْدُ بْنُ دَاوُدَ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ بَشْكُوَالَ، فَرَوَى فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ، وَغَلِطَ سُنَيْدٌ فِي ذَلِكَ، فَقَدْ رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنْ وَكِيعٍ، فَقَالَ فِيهِ: قَالَتْ خَدِيجَةُ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامٍ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي حَدِيثِ سُفْيَانَ الَّتِي عَبَّرَتْ بِقَوْلِهَا: شَيْطَانَكَ فَهِيَ أُمُّ جَمِيلٍ الْعَوْرَاءُ بِنْتُ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَهِيَ أُخْتُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَامْرَأَةُ أَبِي لَهَبٍ، كَمَا رَوَى الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: قَالَتِ امْرَأَةُ أَبِي لَهَبٍ لَمَّا مَكَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَيَّامًا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ الْوَحْيُ: يَا مُحَمَّدُ، مَا أَرَى شَيْطَانَكَ إِلَّا قَدْ قَلَاكَ، فَنَزَلَتْ: وَالضُّحَى. رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَفِي تَفْسِيرِ الطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ الْمُفَضَّلِ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ الْأَسْوَدِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ: فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِهِ وَمِنْ قَوْمِهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ أُمَّ جَمِيلٍ مِنْ قَوْمِهِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ. وَعِنْدَ ابْنِ عَسَاكِرَ أَنَّهَا إِحْدَى عَمَّاتِهِ، وَقَدْ وَقَفْتُ عَلَى مُسْتَنَدِهِ فِي ذَلِكَ؛ وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ رَاوِيهِ، وَأَخْرَجَهُ الْفِرْيَابِيُّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْهُ، وَلَفْظُهُ: فَأَتَتْهُ إِحْدَى عَمَّاتِهِ، أَوْ بَنَاتُ عَمِّهِ، فَقَالَتْ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ شَيْطَانُكَ قَدْ وَدَّعَكَ.

(تَنْبِيهٌ): اسْتَشْكَلَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْوَرْدِ مُطَابَقَةَ حَدِيثِ جُنْدُبٍ لِلتَّرْجَمَةِ، وَتَبِعَهُ ابْنُ التِّينِ، فَقَالَ: احْتِبَاسُ جِبْرِيلَ لَيْسَ ذِكْرُهُ فِي هَذَا الْبَابِ فِي مَوْضِعِهِ، انْتَهَى. وَقَدْ ظَهَرَ - بِسِيَاقِ تَكْمِلَةِ الْمَتْنِ - وَجْهُ الْمُطَابَقَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ وَاحِدٌ لِاتِّحَادِ مَخْرَجِهِ، وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ مُخْتَلِفًا، لَكِنَّهُ فِي قِصَّةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ جُنْدُبٍ فِي التَّفْسِيرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا: فَلَمْ يُطِقِ الْقِيَامَ، وَكَانَ يُحِبُّ التَّهَجُّدَ.

‌5 - بَاب تَحْرِيضِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى صَلَاةِ اللَّيْلِ وَالنَّوَافِلِ مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ،

وَطَرَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاطِمَةَ وَعَلِيًّا عليهما السلام لَيْلَةً لِلصَّلَاةِ

ص: 9

1126 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ هِنْدٍ بِنْتِ الْحَارِثِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَيْقَظَ لَيْلَةً فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ، مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنْ الْفِتْنَةِ، مَاذَا أُنْزِلَ مِنْ الْخَزَائِنِ، مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجُرَاتِ؟ يَا رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الْآخِرَةِ.

1127 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ، أَنَّ حُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ، أَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، أَخْبَرَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ بِنْتَ النَّبِيِّ عليه السلام لَيْلَةً فَقَالَ أَلَا تُصَلِّيَانِ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ، فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا. فَانْصَرَفَ حِينَ قُلْنَا ذَلِكَ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا، ثُمَّ سَمِعْتُهُ وَهُوَ مُوَلٍّ يَضْرِبُ فَخِذَهُ وَهُوَ يَقُولُ:{وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جدلاً} .

[الحديث 1127 - أطرافه في: 4724، 7347، 7465]

1128 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شهاب، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عائشة رضي الله عنها، قَالَتْ: "إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيَدَعُ الْعَمَلَ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ، وَمَا سَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُبْحَةَ الضُّحَى قَطُّ وَإِنِّي لَاسَبِّحُهَا

[الحديث 1128 - طرفة في: 1177]

1129 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَصَلَّى بِصَلَاتِهِ نَاسٌ، ثُمَّ صَلَّى مِنْ الْقَابِلَةِ فَكَثُرَ النَّاسُ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنْ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ:"قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ، وَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنْ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلاَّ أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ" وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ تَحْرِيضِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي: أُمَّتَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، (عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ) فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ: صَلَاةِ اللَّيْلِ وَالنَّوَافِلِ مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: اشْتَمَلَتِ التَّرْجَمَةُ عَلَى أَمْرَيْنِ: التَّحْرِيضِ، وَنَفْيِ الْإِيجَابِ. فَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ وَعَلِيٍّ لِلْأَوَّلِ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ لِلثَّانِي. قُلْتُ: بَلْ يُؤْخَذُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْأَرْبَعَةِ نَفْيُ الْإِيجَابِ، وَيُؤْخَذُ التَّحْرِيضُ مِنْ حَدِيثَيْ عَائِشَةَ مِنْ قَوْلِهَا: كَانَ يَدَعُ الْعَمَلَ وَهُوَ يُحِبُّهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ أَحَبَّهُ اسْتَلْزَمَ التَّحْرِيضَ عَلَيْهِ، لَوْلَا مَا عَارَضَهُ مِنْ خَشْيَةِ الِافْتِرَاضِ، كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ. قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: كَأَنَّ الْبُخَارِيَّ فَهِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِيقَاظِ الْإِيقَاظُ لِلصَّلَاةِ، لَا لِمُجَرَّدِ الْإِخْبَارِ بِمَا أُنْزِلَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِمُجَرَّدِ الْإِخْبَارِ لَكَانَ يُمْكِنُ تَأْخِيرُهُ إِلَى النَّهَارِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفُوتُ.

قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ لِمُشَاهَدَةِ حَالِ الْمُخْبِرِ حِينَئِذٍ أَثَرًا لَا يَكُونُ عِنْدَ التَّأْخِيرِ، فَيَكُونُ الْإِيقَاظُ فِي الْحَالِ أَبْلَغَ لِوَعْيِهِنَّ مَا يُخْبِرُهُنَّ بِهِ، وَلِسَمْعِهِنَّ مَا يَعِظُهُنَّ بِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْبُخَارِيِّ بِقَوْلِهِ: قِيَامِ اللَّيْلِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الصَّلَاةِ، وَالْقِرَاءَةِ، وَالذِّكْرِ، وَسَمَاعِ الْمَوْعِظَةِ، وَالتَّفَكُّرِ فِي الْمَلَكُوتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيَكُونَ قَوْلُهُ: وَالنَّوَافِلِ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ. قُلْتُ: وَهَذَا عَلَى رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ كَمَا بَيَّنْتُهُ، لَا عَلَى رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ

ص: 10

وَكَرِيمَةَ. وَمَا نَسَبَهُ إِلَى فَهْمِ الْبُخَارِيِّ أَوَّلًا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، فَإِنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الْأَدَبِ وَغَيْرِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجَرِ؛ يُرِيدُ أَزْوَاجَهُ حَتَّى يُصَلِّينَ، فَظَهَرَتْ مُطَابَقَةُ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ، وَأَنَّ فِيهِ التَّحْرِيضَ عَلَى صَلَاةِ اللَّيْلِ. وَعَدَمُ الْإِيجَابِ يُؤْخَذُ مِنْ تَرْكِ إِلْزَامِهِنَّ بِذَلِكَ. وَجَرَى الْبُخَارِيُّ عَلَى عَادَتِهِ فِي الْحَوَالَةِ عَلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ الَّذِي يُورِدُهُ، وَسَتَأْتِي بَقِيَّةُ فَوَائِدِ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ فِي الْفِتَنِ. وَعَبْدُ اللَّهِ الْمَذْكُورُ فِي إِسْنَادِهِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ فِعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ الْمَذْكُورُ فِي إِسْنَادِهِ هُوَ زَيْنُ الْعَابِدِينَ، وَهَذَا مِنْ أَصَحِّ الْأَسَانِيدِ، وَمِنْ أَشْرَفِ التَّرَاجِمِ الْوَارِدَةِ فِيمَنْ رَوَى عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ.

وَحَكَى الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ كَاتِبَ اللَّيْثِ رَوَاهُ عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، فَقَالَ: عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَجَّاجِ بْنِ أَبِي مَنِيعٍ عَنْ جَدِّهِ الزُّهْرِيِّ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ، وَهُوَ وَهْمٌ، وَالصَّوَابُ: عَنِ الْحُسَيْنِ. وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ حَكِيمِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ، أَخْرَجَهَا النَّسَائِيُّ، وَالطَّبَرِيُّ.

قَوْلُهُ: (أَلَا تُصَلِّيَانِ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ فَضِيلَةُ صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَإِيقَاظُ النَّائِمِينَ مِنَ الْأَهْلِ وَالْقَرَابَةِ لِذَلِكَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَكِيمِ بْنِ حَكِيمٍ الْمَذْكُورَةِ:(وَدَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيّ وعَلى فَاطِمَةَ مِنَ اللَّيْلِ فَأَيْقَظَنَا لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ، فَصَلَّى هَوِيًّا مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمْ يَسْمَعْ لَنَا حِسًّا، فَرَجَعَ إِلَيْنَا فَأَيْقَظَنَا) الْحَدِيثَ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: لَوْلَا مَا عَلِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ عِظَمِ فَضْلِ الصَّلَاةِ فِي اللَّيْلِ مَا كَانَ يُزْعِجُ ابْنَتَهُ وَابْنَ عَمِّهِ فِي وَقْتٍ جَعَلَهُ اللَّهُ لِخَلْقِهِ سَكَنًا، لَكِنَّهُ اخْتَارَ لَهُمَا إِحْرَازَ تِلْكَ الْفَضِيلَةِ عَلَى الدَّعَةِ وَالسُّكُونِ، امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ} الْآيَةَ.

قَوْلُهُ: (أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ) اقْتَبَسَ عَلِيٌّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} الْآيَةَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَكِيمٍ الْمَذْكُورَةِ: قَالَ عَلِيٌّ: فَجَلَسْتُ وَأَنَا أَعْرُكُ عَيْنِي، وَأَنَا أَقُولُ: وَاللَّهِ مَا نُصَلِّي إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا، إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ، وَفِيهِ إِثْبَاتُ الْمَشِيئَةِ لِلَّهِ، وَأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا إِلَّا بِإِرَادَةِ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (بَعَثَنَا) بِالْمُثَلَّثَةِ؛ أَيْ: أَيْقَظَنَا، وَأَصْلُهُ إِثَارَةُ الشَّيْءِ مِنْ مَوْضِعِهِ.

قَوْلُهُ: (حِينَ قُلْتُ) فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ: حِينَ قُلْنَا.

قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَرْجِعْ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ؛ أَيْ: لَمْ يُجِبْنِي، وَفِيهِ أَنَّ السُّكُوتَ يَكُونُ جَوَابًا، وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الْقَوْلِ الَّذِي لَا يُطَابِقُ الْمُرَادَ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا فِي نَفْسِهِ.

قَوْلُهُ: (يَضْرِبُ فَخِذَهُ) فِيهِ جَوَازُ ضَرْبِ الْفَخِذِ عِنْدَ التَّأَسُّفِ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: كَرِهَ احْتِجَاجَهُ بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَأَرَادَ مِنْهُ أَنْ يَنْسُبَ التَّقْصِيرَ إِلَى نَفْسِهِ. وَفِيهِ جَوَازُ الِانْتِزَاعِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَتَرْجِيحُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ) لِلْعُمُومِ لَا لِخُصُوصِ الْكُفَّارِ. وَفِيهِ مَنْقَبَةٌ لِعَلِيٍّ حَيْثُ لَمْ يَكْتُمْ مَا فِيهِ عَلَيْهِ أَدْنَى غَضَاضَةً، فَقَدَّمَ مَصْلَحَةَ نَشْرِ الْعِلْمِ وَتَبْلِيغِهِ عَلَى كَتْمِهِ. وَنَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الْمُهَلَّبِ قَالَ: فِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُشَدِّدَ فِي النَّوَافِلِ حَيْثُ قَنَعَ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه: أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ لِأَنَّهُ كَلَامٌ صَحِيحٌ فِي الْعُذْرِ عَنِ التَّنَفُّلِ، وَلَوْ كَانَ فَرْضًا مَا عَذَرَهُ. قَالَ: وَأَمَّا ضَرْبُهُ فَخِذَهُ وَقِرَاءَتُهُ الْآيَةَ فَدَالٌّ عَلَى أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ أَحْرَجَهُمْ، فَنَدِمَ عَلَى إِنْبَاهِهِمْ، كَذَا قَالَ، وَأَقَرَّهُ ابْنُ بَطَّالٍ، وَلَيْسَ بِوَاضِحٍ، وَمَا تَقَدَّمَ أَوْلَى. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُخْتَارُ أَنَّهُ ضَرَبَ فَخِذَهُ تَعَجُّبًا مِنْ سُرْعَةِ جَوَابِهِ، وَعَدَمِ مُوَافَقَتِهِ لَهُ عَلَى الِاعْتِذَارِ بِمَا اعْتَذَرَ بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ الْأَوَّلُ فَيَشْتَمِلُ عَلَى حَدِيثَيْنِ: أَحَدِهِمَا: تَرْكِ الْعَمَلِ خَشْيَةَ افْتِرَاضِهِ. ثَانِيهِمَا: ذِكْرِ صَلَاةِ الضُّحَى. وَهَذَا الثَّانِي سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابِ مَنْ لَمْ يُصَلِّ الضُّحَى.

وَقَوْلُهُ فِي الْأَوَّلِ (إِن) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَهِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَفِيهَا ضَمِيرُ

ص: 11

الشَّأْنِ.

وقَوْلُهُ: (لَيَدَعُ) بِفَتْحِ اللَّامِ؛ أَيْ: يَتْرُكُ، وَقَوْلُهُ:(خَشْيَةَ) النَّصْبُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ لَيَدَعُ، وَقَوْلُهُ:(فَيُفْرَضَ) بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى يَعْمَلَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى فَوَائِدِهِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ. وَزَادَ فِيهِ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ: قَالَتْ: وَكَانَ يُحِبُّ مَا خَفَّ عَلَى النَّاسِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ الثَّانِي فَهُوَ بِإِسْنَادِ الَّذِي قَبْلَهُ.

وَقَوْلُهُ: (صَلَّى ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي الْمَسْجِدِ) تَقَدَّمَ قُبَيْلَ صِفَةِ الصَّلَاةِ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهُ صَلَّى فِي حُجْرَتِهِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا بَيْتَهُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ الْحَصِيرُ الَّتِي كَانَ يَحْتَجِرُهَا بِاللَّيْلِ فِي الْمَسْجِدِ، فَيَجْعَلُهَا عَلَى بَابِ بَيْتِ عَائِشَةَ، فَيُصَلِّي فِيهِ، وَيَجْلِسُ عَلَيْهِ بِالنَّهَارِ، وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ مُبَيَّنًا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، وَهُوَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ، وَلَفْظُهُ: كَانَ يَحْتَجِرُ حَصِيرًا بِاللَّيْلِ فَيُصَلِّي عَلَيْهِ، وَيَبْسُطهُ بِالنَّهَارِ فَيَجْلِسُ عَلَيْهِ. وَلِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: فَأَمَرَنِي أَنْ أَنْصِبَ لَهُ حَصِيرًا عَلَى بَابِ حُجْرَتِي، فَفَعَلْتُ، فَخَرَجَ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَى يَحْتَجِرُ: يُحَوِّطُ مَوْضِعًا مِنَ الْمَسْجِدِ بِحَصِيرٍ يَسْتُرهُ؛ لِيُصَلِّيَ فِيهِ، وَلَا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ مَارٌّ لِيَتَوَفَّرَ خُشُوعُهُ وَيَتَفَرَّغَ قَلْبُهُ. وَتَعَقَّبَهُ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ احْتِجَارَهُ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ، قَالَ: وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَلَزِمَ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ تَارِكًا لِلْأَفْضَلِ الَّذِي أُمِرَ النَّاسُ بِهِ، حَيْثُ قَالَ: فَصَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ أَفْضَلَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ. ثُمَّ أَجَابَ بِأَنَّهُ إِنْ صَحَّ أَنَّهُ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ، فَهُوَ إِذَا احْتَجَرَ صَارَ كَأَنَّهُ بَيَّتَ بِخُصُوصِيَّتِهِ، أَوْ أَنَّ السَّبَبَ فِي كَوْنِ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ فِي الْبَيْتِ أَفْضَلَ عَدَمِ شَوْبِهِ بِالرِّيَاءِ غَالِبًا، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُنَزَّهٌ عَنِ الرِّيَاءِ فِي بَيْتِهِ، وَفِي غَيْرِ بَيْتِهِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ صَلَّى مِنَ الْقَابِلَةِ) أَيْ: مِنَ اللَّيْلَةِ الْمُقْبِلَةِ، وَهُوَ لَفْظُ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي: ثُمَّ صَلَّى مِنَ الْقَابِلِ؛ أَيِ: الْوَقْتِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ، أَوِ الرَّابِعَةِ) كَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ بِالشَّكِّ، وَفِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْجُمُعَةِ: فَصَلَّى رِجَالٌ بِصَلَاتِهِ، فَأَصْبَحَ النَّاسُ، فَتَحَدَّثُوا. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: يَتَحَدَّثُونَ بِذَلِكَ، وَنَحْوَهُ فِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ الْمَاضِيَةِ قَبْلَ صِفَةِ الصَّلَاةِ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: فَلَمَّا أَصْبَحَ تَحَدَّثُوا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، فَاجْتَمَعَ أَكْثَرُ مِنْهُمْ، زَادَ يُونُسُ: فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ، فَصَلَّوْا مَعَهُ، فَأَصْبَحَ النَّاسُ يَذْكُرُونَ ذَلِكَ، فَكَثُرَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ، فَخَرَجَ، فَصَلَّوْا بِصَلَاتِهِ، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الرَّابِعَةُ عَجَزَ الْمَسْجِدُ عَنْ أَهْلِهِ. وَلِابْنِ جُرَيْجٍ: حَتَّى كَانَ الْمَسْجِدُ يَعْجِزُ عَنْ أَهْلِهِ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: امْتَلَأَ الْمَسْجِدُ، حَتَّى اغْتَصَّ بِأَهْلِهِ، وَلَهُ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْهُ: فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الرَّابِعَةُ غَصَّ الْمَسْجِدُ بِأَهْلِهِ.

قَوْلُهُ: (فَلَمْ يَخْرُجْ) زَادَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ: حَتَّى سَمِعْتُ نَاسًا مِنْهُمْ يَقُولُونَ: الصَّلَاةَ، وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ: فَقَالُوا مَا شَأْنُهُ، وَفِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، كَمَا سَيَأْتِي فِي الِاعْتِصَامِ: فَفَقَدُوا صَوْتَهُ وَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ نَامَ، فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَتَنَحْنَحُ لِيَخْرُجَ إِلَيْهِمْ، وَفِي حَدِيثِهِ فِي الْأَدَبِ: فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ، وَحَصَبُوا الْبَابَ.

قَوْلُهُ: (فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ)، فِي رِوَايَةِ عَقَيْلٍ: فَلَمَّا قَضَى صَلَاةَ الْفَجْرِ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَتَشَهَّدَ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ مَكَانُكُمْ، وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ، وَابْنِ جُرَيْجٍ: لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ شَأْنُكُمْ. وَزَادَ فِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ: اكْلَفُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ. وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، أَنَّ الَّذِي سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ أَصْبَحَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَلَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِهِ بَيَانَ عَدَدِ صَلَاتِهِ فِي تِلْكَ اللَّيَالِي، لَكِنْ رَوَى ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ ثَمَانِ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ أَوْتَرَ، فَلَمَّا كَانَتِ الْقَابِلَةُ اجْتَمَعْنَا فِي الْمَسْجِدِ، وَرَجَوْنَا أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْنَا حَتَّى أَصْبَحْنَا، ثُمَّ دَخَلْنَا، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ. الْحَدِيثَ. فَإِنْ كَانَتِ الْقِصَّةُ وَاحِدَةً احْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ جَابِرٌ مِمَّنْ جَاءَ فِي

ص: 12

اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ، فَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ عَلَى وَصْفِ لَيْلَتَيْنِ، وَكَذَا مَا وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي رَمَضَانَ، فَجِئْتُ فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَامَ، حَتَّى كُنَّا رَهْطًا، فَلَمَّا أَحَسَّ بِنَا تَجَوَّزَ، ثُمَّ دَخَلَ رَحْلَهُ. الْحَدِيثَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا كَانَ فِي قِصَّةٍ أُخْرَى.

قَوْلُهُ: (إِلَّا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ) ظَاهِرٌ فِي أَنَّ عَدَمَ خُرُوجِهِ إِلَيْهِمْ كَانَ لِهَذِهِ الْخَشْيَةِ، لَا لِكَوْنِ الْمَسْجِدِ امْتَلَأَ وَضَاقَ عَنِ الْمُصَلِّينَ.

قَوْلُهُ: (أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ)؛ فِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ: فَتَعْجِزُوا عَنْهَا. وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ: وَلَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ صَلَاةُ اللَّيْلِ فَتَعْجِزُوا عَنْهَا. وَكَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ الْمَذْكُورَةِ قُبَيْلَ صِفَةِ الصَّلَاةِ: خَشِيتُ أَنْ تُكْتَبَ عَلَيْكُمْ صَلَاةُ اللَّيْلِ. وَقَوْلُهُ: فَتَعْجِزُوا عَنْهَا؛ أَيْ تَشُقَّ عَلَيْكُمْ، فَتَتْرُكُوهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْعَجْزَ الْكُلِّيَّ؛ لِأَنَّهُ يُسْقِطُ التَّكْلِيفَ مِنْ أَصْلِهِ، ثُمَّ إِنَّ ظَاهِرَ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَوَقَّعَ تَرَتُّبَ افْتِرَاضِ الصَّلَاةِ بِالَلِيلِ جَمَاعَةً عَلَى وُجُودِ الْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهَا، وَفِي ذَلِكَ إِشْكَالٌ، وَقَدْ بَنَاهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى قَاعِدَتِهِمْ فِي أَنَّ الشُّرُوعَ مُلْزِمٌ، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَأَجَابَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عز وجل أَوْحَى إِلَيْهِ أَنَّكَ إِنْ وَاظَبْتَ عَلَى هَذِهِ الصَّلَاةِ مَعَهُمُ افْتَرَضْتُهَا عَلَيْهِمْ، فَأَحَبَّ التَّخْفِيفَ عَنْهُمْ، فَتَرَكَ الْمُوَاظَبَةَ. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ، كَمَا اتَّفَقَ فِي بَعْضِ الْقُرَبِ الَّتِي دَاوَمَ عَلَيْهَا فَافْتُرِضَتْ، وَقِيلَ: خَشِيَ أَنْ يَظُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْأُمَّةِ مِنْ مُدَاوَمَتِهِ عَلَيْهَا الْوُجُوبَ، وَإِلَى هَذَا الْأَخِيرِ نَحَا الْقُرْطُبِيُّ، فَقَالَ: قَوْلُهُ: فَتُفْرَضَ عَلَيْكُمْ؛ أَيْ: تَظُنُّونَهُ فَرْضًا، فَيَجِبُ عَلَى مَنْ ظَنَّ ذَلِكَ، كَمَا إِذَا ظَنَّ الْمُجْتَهِدُ حِلَّ شَيْءٍ أَوْ تَحْرِيمَهُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِهِ. قَالَ: وَقِيلَ: كَانَ حُكْمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ إِذَا وَاظَبَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ، وَاقْتَدَى النَّاسُ بِهِ فِيهِ، أَنَّهُ يُفْرَضَ عَلَيْهِمُ. انْتَهَى.

وَلَا يَخْفَى بُعْدَ هَذَا الْأَخِيرِ، فَقَدْ وَاظَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَوَاتِبِ الْفَرَائِضِ، وَتَابَعَهُ أَصْحَابُهُ، وَلَمْ تُفْرَضْ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَوْلُ صَدَرَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا كَانَ قِيَامُ اللَّيْلِ فَرْضًا عَلَيْهِ دُونَ أُمَّتِهِ، فَخَشِيَ إِنْ خَرَجَ إِلَيْهِمْ، وَالْتَزَمُوا مَعَهُ قِيَامَ اللَّيْلِ أَنْ يُسَوِّيَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فِي حُكْمِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّرْعِ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ أُمَّتِهِ فِي الْعِبَادَةِ. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَشِيَ مِنْ مُوَاظَبَتِهِمْ عَلَيْهَا أَنْ يَضْعُفُوا عَنْهَا، فَيَعْصِيَ مَنْ تَرَكَهَا بِتَرْكِ اتِّبَاعِهِ صلى الله عليه وسلم. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ الْخَطَّابِيُّ أَصْلَ هَذِهِ الْخَشْيَةِ، مَعَ مَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: هُنَّ خَمْسٌ وَهُنَّ خَمْسُونَ، لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ، فَإِذَا أُمِنَ التَّبْدِيلُ، فَكَيْفَ يَقَع الْخَوْفُ مِنَ الزِّيَادَةِ؟ وَهَذَا يُدْفَعُ فِي صُدُورِ الْأَجْوِبَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، وَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ الْخَطَّابِيُّ بِأَنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَفْعَالُهُ الشَّرْعِيَّةُ يَجِبُ عَلَى الْأُمَّةِ الِاقْتِدَاءُ بِهِ فِيهَا - يَعْنِي عِنْدَ الْمُوَاظَبَةِ - فَتَرَكَ الْخُرُوجَ إِلَيْهِمْ؛ لِئَلَّا يَدْخُلَ ذَلِكَ فِي الْوَاجِبِ مِنْ طَرِيقِ الْأَمْرِ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ، لَا مِنْ طَرِيقِ إِنْشَاءِ فَرْضٍ جَدِيدٍ زَائِدٍ عَلَى الْخَمْسِ، وَهَذَا كَمَا يُوجِبُ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ صَلَاةَ نَذْرٍ فَتَجِبُ عَلَيْهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ زِيَادَةُ فَرْضٍ فِي أَصْلِ الشَّرْعِ.

قَالَ: وَفِيهِ احْتِمَالٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ الصَّلَاةَ خَمْسِينَ، ثُمَّ حَطَّ مُعْظَمَهَا بِشَفَاعَةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا عَادَتِ الْأُمَّةُ فِيمَا اسْتَوْهَبَ لَهَا، وَالْتَزَمَتْ مَا اسْتَعْفَى لَهُمْ نَبِيُّهُمْ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ لَمْ يُسْتَنْكَرْ أَنْ يَثْبُتَ ذَلِكَ فَرْضًا عَلَيْهِمْ، كَمَا الْتَزَمَ نَاسٌ الرَّهْبَانِيَّةَ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ عَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ التَّقْصِيرَ فِيهَا، فَقَالَ:{فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} ، فَخَشِيَ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَكُونَ سَبِيلُهُمْ سَبِيلَ أُولَئِكَ، فَقَطَعَ الْعَمَلَ شَفَقَةً عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ تَلَقَّى هَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ مِنَ الْخَطَّابِيِّ جَمَاعَةٌ مِنَ الشُّرَّاحِ كَابْنِ الْجَوْزِيِّ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم، وَعَلَى وُجُوبِ الِاقْتِدَاءِ بِأَفْعَالِهِ. وَفِي كُلٍّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ نِزَاعٌ. وَأَجَابَ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّ حَدِيثَ الْإِسْرَاءِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} ؛ الْأَمْنُ مِنْ نَقْصِ شَيْءٍ مِنَ الْخَمْسِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلزِّيَادَةِ. انْتَهَى. لَكِنْ فِي ذِكْرِ التَّضْعِيفِ بِقَوْلِهِ: هُنَّ خَمْسٌ، وَهُنَّ خَمْسُونَ؛ إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ

ص: 13

الزِّيَادَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ التَّضْعِيفَ لَا يَنْقُصُ عَنِ الْعَشْرِ، وَدَفَعَ بَعْضُهُمْ فِي أَصْلِ السُّؤَالِ بِأَنَّ الزَّمَانَ كَانَ قَابِلًا لِلنَّسْخِ، فَلَا مَانِعَ مِنْ خَشْيَةِ الِافْتِرَاضِ. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ:{مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} خَبَرٌ، وَالنَّسْخُ لَا يَدْخُلُهُ عَلَى الرَّاجِحِ، وَلَيْسَ هُوَ كَقَوْلِهِ مَثَلًا لَهُمْ: صُومُوا الدَّهْرَ أَبَدًا، فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ النَّسْخُ.

وَقَدْ فَتَحَ الْبَارِي بِثَلَاثَةِ أَجْوِبَةٍ أُخْرَى: أَحَدِهَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَخُوِّفُ افْتِرَاضَ قِيَامِ اللَّيْلِ، بِمَعْنَى جَعْلِ التَّهَجُّدِ فِي الْمَسْجِدِ جَمَاعَةً شَرْطًا فِي صِحَّةِ التَّنَفُّلِ بِاللَّيْلِ، وَيُومِئُ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمْ، وَلَوْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ مَا قُمْتُمْ بِهِ، فَصَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ. فَمَنَعَهُمْ مِنَ التَّجْمِيعِ فِي الْمَسْجِدِ إِشْفَاقًا عَلَيْهِمْ مِنَ اشْتِرَاطِهِ، وَأُمِنَ مَعَ إِذْنِهِ فِي الْمُوَاظَبَةِ عَلَى ذَلِكَ فِي بُيُوتِهِمْ مِنَ افْتِرَاضِهِ عَلَيْهِمْ. ثَانِيهَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَخُوِّفُ افْتِرَاضَ قِيَامِ اللَّيْلِ عَلَى الْكِفَايَةِ لَا عَلَى الْأَعْيَانِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ زَائِدًا عَلَى الْخَمْسِ؛ بَلْ هُوَ نَظِيرُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ قَوْمٌ فِي الْعِيدِ وَنَحْوِهَا. ثَالِثُهَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَخُوِّفُ افْتِرَاضَ قِيَامِ رَمَضَانَ خَاصَّةً، فَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي رَمَضَانَ، وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ: خَشِيتُ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْكُمْ قِيَامُ هَذَا الشَّهْرِ، فَعَلَى هَذَا يَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ؛ لِأَنَّ قِيَامَ رَمَضَانَ لَا يَتَكَرَّرُ كُلَّ يَوْمٍ فِي السَّنَةِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ قَدْرًا زَائِدًا عَلَى الْخَمْسِ. وَأَقْوَى هَذِهِ الْأَجْوِبَةِ الثَّلَاثَةِ - فِي نَظَرِي - الْأَوَّلُ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنَ الْفَوَائِدِ - غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ - نَدْبُ قِيَامِ اللَّيْلِ وَلَاسِيَّمَا فِي رَمَضَانَ جَمَاعَةً؛ لِأَنَّ الْخَشْيَةَ الْمَذْكُورَةَ أُمِنَتْ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلِذَلِكَ جَمَعَهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، كَمَا سَيَأْتِي فِي الصِّيَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِيهِ جَوَازُ الْفِرَارِ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ، قَالَهُ الْمُهَلَّبُ، وَفِيهِ أَنَّ الْكَبِيرَ إِذَا فَعَلَ شَيْئًا خِلَافَ مَا اعْتَادَهُ أَتْبَاعُهُ أَنْ يَذْكُرَ لَهُمْ عُذْرَهُ وَحُكْمَهُ وَالْحِكْمَةَ فِيهِ، وَفِيهِ مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ مِنَ الزَّهَادَةِ فِي الدُّنْيَا، وَالِاكْتِفَاءِ بِمَا قَلَّ مِنْهَا وَالشَّفَقَةِ عَلَى أُمَّتِهِ وَالرَّأْفَةِ بِهِمْ، وَفِيهِ تَرْكُ بَعْضِ الْمَصَالِحِ لِخَوْفِ الْمَفْسَدَةِ، وَتَقْدِيمِ أَهَمِّ الْمَصْلَحَتَيْنِ، وَفِيهِ جَوَازُ الِاقْتِدَاءِ بِمَنْ لَمْ يَنْوِ الْإِمَامَةَ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِيهِ نَظَرٌ

(1)

لِأَنَّ نَفْيَ النِّيَّةِ لَمْ يُنْقَلْ، وَلَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ بِالظَّنِّ، وَفِيهِ تَرْكُ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ لِلنَّوَافِلِ إِذَا صُلِّيَتْ جَمَاعَةً.

‌6 - بَاب قِيَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اللَّيْلَ

وَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: كَانَ يَقُومُ حَتَّى تَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، وَالْفُطُورُ: الشُّقُوقُ، {انْفَطَرَتْ}: انْشَقَّتْ.

1130 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ زِيَادٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَيَقُومُ - أو لِيُصَلِّيَ: حَتَّى تَرِمُ قَدَمَاهُ - أَوْ سَاقَاهُ - فَيُقَالُ لَهُ، فَيَقُولُ: أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟.

[الحديث 1130 - طرفاه في: 4836، 6471]

قَوْلُهُ: (بَابُ قِيَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اللَّيْلَ) كَذَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ مِنْ طَرِيقَيْنِ عَنْهُ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ: حَتَّى تَرِمَ قَدَمَاهُ. وَلِلْبَاقِينَ: قِيَامُ اللَّيْلِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (وَقَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ يَقُومُ) كَذَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ، وَلِغَيْرِهِ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (حَتَّى تَفَطَّرَ) بِتَاءٍ وَاحِدَةٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ: تَتْفَطَّرُ بِمُثَنَّاتَيْنِ.

قَوْلُهُ: (وَالْفُطُورُ الشُّقُوقُ) كَذَا ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي الْمَجَازِ.

قَوْلُهُ: (انْفَطَرَتْ: انْشَقَّتْ) هَذَا التَّفْسِيرُ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مَوْصُولًا، عَنِ الضَّحَّاكِ، قَالَ:

(1)

هذا النظر ليس يجيد، والصواب جواز الاقتداء بمن لم ينو الإمامة عملا بظاهر هذا الحديث، وبحديث ابن عباس حين صلى النبي صلى الله عليه وسلم في الليلة التي بات فيها عند خالته ميمونة، ولأحاديث أخر وردت في هذا الباب. ولا فرق بين الفريضة والنافلة لأن الأصل التسوية بينهما في الأحكام إلا ما خصه الدليل، ولا مخصص هنا فيما أعلم. والله أعلم.

ص: 14

وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ، وَغَيْرِهِمَا ذَلِكَ، وَكَذَا حَكَاهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ الشَّامِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَتْحِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ زِيَادٍ) هُوَ ابْنُ عِلَاقَةَ، وَلِلْمُصَنِّفِ فِي الرِّقَاقِ، عَنْ خَلَّادِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ مِسْعَرٍ: حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ عِلَاقَةَ.

(تَنْبِيهٌ): هَكَذَا رَوَاهُ الْحُفَّاظُ مِنْ أَصْحَابِ مِسْعَرٍ عَنْهُ، وَخَالَفَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ وَحْدَهُ، فَرَوَاهُ عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَقَالَ: الصَّوَابُ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ زِيَادٍ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي قَتَادَةَ الْحَرَّانِيِّ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْأَقْمَرِ، عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ، وَأَخْطَأَ فِيهِ أَيْضًا، وَالصَّوَابُ مِسْعَرٌ، عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ.

قَوْلُهُ: (إِنْ كَانَ لَيَقُومُ أَوْ لَيُصَلِّي) إِنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَلَيَقُومُ بِفَتْحِ اللَّامِ، وَفِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ: لَيَقُومُ يُصَلِّي، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى تَرِمُ) بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ، وَكَسْرِ الرَّاءِ، وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ مِنَ الْوَرَمِ، هَكَذَا سُمِعَ، وَهُوَ نَادِرٌ، وَفِي رِوَايَةِ خَلَّادِ بْنِ يَحْيَى: حَتَّى تَرِمَ أَوْ تَنْتَفِخَ قَدَمَاهُ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ زِيَادٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ: حَتَّى انْتَفَخَتْ قَدَمَاهُ.

قَوْلُهُ: (قَدَمَاهُ أَوْ سَاقَاهُ)، وَفِي رِوَايَةِ خَلَّادٍ: قَدَمَاهُ وَلَمْ يَشُكَّ، وَلِلْمُصَنِّفِ فِي تَفْسِيرِ الْفَتْحِ: حَتَّى تَوَرَّمَتْ، وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: حَتَّى تَزْلَعَ قَدَمَاهُ بِزَايٍ وَعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ، وَلَا اخْتِلَافَ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ، فَإِنَّهُ إِذَا حَصَلَ الِانْتِفَاخُ أَوِ الْوَرَمُ حَصَلَ الزَّلَعُ وَالتَّشَقُّقُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (فَيُقَالُ لَهُ) لَمْ يَذْكُرِ الْمَقُولَ، وَلَمْ يُسَمِّ الْقَائِلَ، وَفِي تَفْسِيرِ الْفَتْحِ: فَقِيلَ لَهُ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ: فَقِيلَ لَهُ: أَتَتَكَلَّفُ هَذَا. وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ؟. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْبَزَّارِ: فَقِيلَ لَهُ: تَفْعَلُ هَذَا، وَقَدْ جَاءَكَ مِنَ اللَّهِ أَنْ قَدْ غَفَرَ لَكَ؟

قَوْلُهُ: (أَفَلَا أَكُونُ) فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: أَفَلَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ (عَبْدًا شَكُورًا)، وَزَادَتْ فِيهِ: فَلَمَّا كَثُرَ لَحْمُهُ صَلَّى جَالِسًا، الْحَدِيثَ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: أَفَلَا أَكُونُ؛ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَهِيَ عَنْ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: أَأَتْرُكُ تَهَجُّدِي، فَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَغْفِرَةَ سَبَبٌ لِكَوْنِ التَّهَجُّدِ شُكْرًا، فَكَيْفَ أَتْرُكُهُ؟ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَخْذُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ بِالشِّدَّةِ فِي الْعِبَادَةِ، وَإِنْ أَضَرَّ ذَلِكَ بِبَدَنِهِ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ بِمَا سَبَقَ لَهُ، فَكَيْفَ بِمَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ، فَضْلًا عَمَّنْ لَمْ يَأْمَنْ أَنَّهُ اسْتَحَقَّ النَّارَ. انْتَهَى. وَمَحَلُّ ذَلِكَ مَا إِذَا لَمْ يُفْضِ إِلَى الْمَلَالِ؛ لِأَنَّ حَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ أَكْمَلَ الْأَحْوَالِ، فَكَانَ لَا يَمَلُّ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَإِنْ أَضَرَّ ذَلِكَ بِبَدَنِهِ، بَلْ صَحَّ أَنَّهُ قَالَ: وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ، كَمَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، فَأَمَّا غَيْرُهُ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا خَشِيَ الْمَلَلَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُكْرِهَ نَفْسَهُ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: خُذُوا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا.

وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الصَّلَاةِ لِلشُّكْرِ، وَفِيهِ أَنَّ الشُّكْرَ يَكُونُ بِالْعَمَلِ، كَمَا يَكُونُ بِاللِّسَانِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ظَنَّ مَنْ سَأَلَهُ عَنْ سَبَبِ تَحَمُّلِهِ الْمَشَقَّةَ فِي الْعِبَادَةِ أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْبُدُ اللَّهَ خَوْفًا مِنَ الذُّنُوبِ، وَطَلَبًا لِلْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، فَمَنْ تَحَقَّقَ أَنَّهُ غُفِرَ لَهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ، فَأَفَادَهُمْ أَنَّ هُنَاكَ طَرِيقًا آخَرَ لِلْعِبَادَةِ، وَهُوَ الشُّكْرُ عَلَى الْمَغْفِرَةِ وَإِيصَالُ النِّعْمَةِ لِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ فِيهَا شَيْئًا، فَيَتَعَيَّنُ كَثْرَةُ الشُّكْرِ عَلَى ذَلِكَ، وَالشُّكْرُ: الِاعْتِرَافُ بِالنِّعْمَةِ، وَالْقِيَامُ بِالْخِدْمَةِ، فَمَنْ كَثُرَ ذَلِكَ مِنْهُ سُمِّيَ شَكُورًا، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ سبحانه وتعالى:{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} . وَفِيهِ مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ وَالْخَشْيَةِ مِنْ رَبِّهِ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّمَا أَلْزَمَ الْأَنْبِيَاءُ أَنْفُسَهُمْ بِشِدَّةِ الْخَوْفِ لِعِلْمِهِمْ بِعَظِيمِ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ ابْتَدَأَهُمْ بِهَا قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهَا، فَبَذَلُوا مَجْهُودَهُمْ فِي عِبَادَتِهِ لِيُؤَدُّوا بَعْضَ شُكْرِهِ، مَعَ أَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَقُومَ بِهَا الْعِبَادُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 15

(تَكْمِلَةٌ): قِيلَ: أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ قِيَامَ جَمِيعِ اللَّيْلِ غَيْرُ مَكْرُوهٍ، وَلَا تُعَارِضُهُ الْأَحَادِيثُ الْآتِيَةُ بِخِلَافِهِ؛ لِأَنَّهُ يُجْمَعُ بَيْنَهَا، بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يُدَاوِمُ عَلَى قِيَامِ جَمِيعِ اللَّيْلِ، بَلْ كَانَ يَقُومُ وَيَنَامُ كَمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَخْبَرَتْ عَنْهُ عَائِشَةُ أَيْضًا، وَسَيَأْتِي نَقْلُ الْخِلَافِ فِي إِيجَابِ قِيَامِ اللَّيْلِ فِي بَابِ عَقْدِ الشَّيْطَانِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌7 - بَاب مَنْ نَامَ عِنْدَ السَّحَرِ

1131 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: أَنَّ عَمْرَو بْنَ أَوْسٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: أَحَبُّ الصَّلَاةِ إِلَى اللَّهِ صَلَاةُ دَاوُدَ عليه السلام، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ، وَكَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَيَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا.

[الحديث 1131 - أطرافه في: 1152، 1153، 1974، 1975، 1976، 1978، 1980، 3418، 3419، 3420، 5052، 5053، 5054، 5199، 6134، 6277]

1132 -

حَدَّثَنِي عَبْدَانُ، قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَشْعَثَ، قال: سَمِعْتُ أَبِي، قَالَ: سَمِعْتُ مَسْرُوقًا، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَيُّ الْعَمَلِ كَانَ أَحَبَّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتْ: الدَّائِمُ. قُلْتُ: مَتَى كَانَ يَقُومُ؟ قَالَتْ: كَانَ يَقُومُ إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ".

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ الأَشْعَثِ، قَالَ: إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ قَامَ فَصَلَّى".

[الحديث 1132 - طرفاه في: 6461، 6462]

1133 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ذَكَرَ أَبِي، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: مَا أَلْفَاهُ السَّحَرُ عِنْدِي إِلاَّ نَائِمًا". تَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ نَامَ عِنْدَ السَّحَرِ) فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ: السُّحُورِ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا وَجْهٌ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ. وَأَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ: أَحَدُهَا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَالْآخَرَانِ لِعَائِشَةَ.

قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: (أَنَّ عَمْرَو بْنَ أَوْسٍ أَخْبَرَهُ) أَيِ: ابْنَ أَبِي أَوْسٍ الثَّقَفِيَّ الطَّائِفِيَّ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ كَبِيرٌ، وَوَهِمَ مَنْ ذَكَرَهُ فِي الصَّحَابَةِ، وَإِنَّمَا الصُّحْبَةُ لِأَبِيهِ.

قَوْلُهُ: (أَحَبُّ الصَّلَاةِ إِلَى اللَّهِ صَلَاةُ دَاوُدَ) قَالَ الْمُهَلَّبُ: كَانَ دَاوُدُ عليه السلام يُجِمُّ نَفْسَهُ بِنَوْمِ أَوَّلِ اللَّيْلِ، ثُمَّ يَقُومُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُنَادِي اللَّهُ فِيهِ: هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ سُؤْلَهُ، ثُمَّ يَسْتَدِرْكُ بِالنَّوْمِ مَا يَسْتَرِيحُ بِهِ مِنْ نَصَبِ الْقِيَامِ فِي بَقِيَّةِ اللَّيْلِ، وَهَذَا هُوَ النَّوْمُ عِنْدَ السَّحَرِ كَمَا تَرْجَمَ بِهِ الْمُصَنِّفُ، وَإِنَّمَا صَارَتْ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ أَحَبَّ مِنْ أَجْلِ الْأَخْذِ بِالرِّفْقِ لِلنَّفْسِ الَّتِي يُخْشَى مِنْهَا السَّآمَةُ، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَاللَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُدِيمَ فَضْلَهُ وَيُوَالِيَ إِحْسَانَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ أَرْفَقَ؛ لِأَنَّ النَّوْمَ بَعْدَ الْقِيَامِ يُرِيحُ الْبَدَنَ، وَيُذْهِبُ ضَرَرَ السَّهَرِ، وَذُبُولَ الْجِسْمِ، بِخِلَافِ السَّهَرِ إِلَى الصَّبَاحِ.

وَفِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ أَيْضًا: اسْتِقْبَالُ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَأَذْكَارِ النَّهَارِ بِنَشَاطٍ وَإِقْبَالٍ، وَأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى عَدَمِ الرِّيَاءِ؛ لِأَنَّ مَنْ نَامَ السُّدُسَ الْأَخِيرَ أَصْبَحَ ظَاهِرَ اللَّوْنِ سَلِيمَ الْقُوَى، فَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى أَنْ

ص: 16

يُخْفِيَ عَمَلَهُ الْمَاضِي عَلَى مَنْ يَرَاهُ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، وَحُكِيَ عَنْ قَوْمٍ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: أَحَبُّ الصَّلَاةِ هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ حَالُهُ مِثْلُ حَالِ الْمُخَاطَبِ بِذَلِكَ، وَهُوَ مَنْ يَشُقُّ عَلَيْهِ قِيَامُ أَكْثَرِ اللَّيْلِ، قَالَ: وَعُمْدَةُ هَذَا الْقَائِلِ اقْتِضَاءُ الْقَاعِدَةِ زِيَادَةَ الْأَجْرِ بِسَبَبِ زِيَادَةِ الْعَمَلِ، لكنْ يُعَارِضُهُ هُنَا اقْتِضَاءُ الْعَادَةِ وَالْجِبِلَّةِ التَّقْصِيرَ فِي حُقُوقٍ يُعَارِضُهَا طُولُ الْقِيَامِ، وَمِقْدَارُ ذَلِكَ الْفَائِتِ مَعَ مِقْدَارِ الْحَاصِلِ مِنَ الْقِيَامِ غَيْرُ مَعْلُومٍ لَنَا، فَالْأَوْلَى أَنْ يَجْرِيَ الْحَدِيثُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَعُمُومِهِ، وَإِذَا تَعَارَضَتِ الْمَصْلَحَةُ وَالْمَفْسَدَةُ، فَمِقْدَارُ تَأْثِيرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْحَثِّ أَوِ الْمَنْعِ غَيْرُ مُحَقَّقٍ لَنَا، فَالطَّرِيقُ أَنَّنَا نُفَوِّضُ الْأَمْرَ إِلَى صَاحِبِ الشَّرْعِ، وَنَجْرِي عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قُوَّةِ الظَّاهِرِ هُنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(تَنْبِيهٌ): قَالَ ابْنُ التِّينِ: هَذَا الْمَذْكُورُ إِذَا أَجْرَيْنَاهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَهُوَ فِ حَقِّ الْأُمَّةِ، وَأَمَّا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقِيَامِ أَكْثَرِ اللَّيْلِ، فَقَالَ:{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا} انْتَهَى. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ قَدْ نُسِخَ كَمَا سَيَأْتِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَلَمَّا كَانَ نِصْفُ اللَّيْلِ، أَوْ قَبْلُهُ بِقَلِيلٍ، أَوْ بَعْدُهُ بِقَلِيلٍ وَهُوَ نَحْوُ الْمَذْكُورِ هُنَا. نَعَمْ سَيَأْتِي بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يُجْرِي الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ عَلَى وَتِيرَةٍ وَاحِدَةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ) يَأْتِي فِيهِ مَا تَقَدَّمَ فِي الصَّلَاةِ، وَسَتَأْتِي بَقِيَّةُ مَبَاحِثِهِ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ إِلَخْ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ:(كَانَ يَرْقُدُ شَطْرَ اللَّيْلِ، ثُمَّ يَقُومُ ثُلُثَ اللَّيْلِ بَعْدَ شَطْرِهِ) قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ: عَمْرُو بْنُ أَوْسٍ هُوَ الَّذِي يَقُولُ: يَقُومُ ثُلُثَ اللَّيْلِ؟ قَالَ: نَعَمْ. انْتَهَى. وَظَاهِرُهُ أَنَّ تَقْدِيرَ الْقِيَامِ بِالثُّلُثِ مِنْ تَفْسِيرِ الرَّاوِي، فَيَكُونُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى إِدْرَاجٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: عَمْرُو بْنُ أَوْسٍ ذَكَرَهُ أَيْ بِسَنَدِهِ فَلَا يَكُونُ مُدْرَجًا. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ مِنَ الْفَائِدَةِ تَرْتِيبُ ذَلِكَ بِثُمَّ، فَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ أَجَازَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ أَنْ تَحْصُلَ السُّنَّةُ بِنَوْمِ السُّدُسِ الْأَوَّلِ مَثَلًا، وَقِيَامِ الثُّلُثِ، وَنَوْمِ النِّصْفِ الْأَخِيرِ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْوَاوَ لَا تُرَتِّبُ.

(تَنْبِيهٌ): قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: الظَّاهِرُ مِنْ سِيَاقِ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَمْرٍو مُطَابَقَةُ مَا تَرْجَمَ لَهُ، إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ نَصًّا فِيهِ، فَبَيَّنَهُ بِالْحَدِيثِ الثَّالِثِ، وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ: مَا أَلْفَاهُ السَّحَرُ عِنْدِي إِلَّا نَائِمًا.

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ الْأَشْعَثِ قَالَ: إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ قَامَ فَصَلَّى.

وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ الْأَوَّلُ فوَالِدُ عَبْدَانَ اسْمُهُ عُثْمَانُ بْنُ جَبَلَةَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْمُوَحَّدَةِ، وَقَوْلُهُ: عَنْ أَشْعَثَ؛ هُوَ ابْنُ أَبِي الشَّعْثَاءِ الْمُحَارِبِيِّ، وَقَوْلُهُ: الدَّائِمُ؛ أَيِ الْمُوَاظَبَةُ الْعُرْفِيَّةُ. وَقَوْلُهُ: الصَّارِخُ أَيِ الدِّيكُ. وَوَقَعَ فِي مُسْنَدِ الطَّيَالِسِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: الصَّارِخُ: الدِّيكُ وَالصَّرْخَةُ: الصَّيْحَةُ الشَّدِيدَةُ، وَجَرَتِ الْعَادَةُ بِأَنَّ الدِّيكَ يَصِيحُ عِنْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ غَالِبًا، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَاصِرٍ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نِصْفُ اللَّيْلِ أَوْ قَبْلُهُ بِقَلِيلٍ أَوْ بَعْدُهُ بِقَلِيلٍ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الصَّارِخُ يَصْرُخُ عِنْدَ ثُلُثِ اللَّيْلِ، وَكَانَ دَاوُدُ يَتَحَرَّى الْوَقْتَ الَّذِي يُنَادِي اللَّهُ فِيهِ: هَلْ مِنْ سَائِلٍ، كَذَا قَالَ، وَالْمُرَادُ بِالدَّوَامِ قِيَامُهُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا الدَّوَامُ الْمُطْلَقُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ) زَادَ أَبُو ذَرٍّ فِي رِوَايَةِ: ابْنِ سَلَامٍ، وَكَذَا نَسَبَهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ السَّكَنِ، وَذَكَرَ الْجَيَّانِيُّ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ السَّرَخْسِيِّ: مُحَمَّدُ بْنُ سَالِمٍ بِتَقْدِيمِ الْأَلِفِ عَلَى اللَّامِ، قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ: سَأَلْتُ أَبَا ذَرٍّ، فَقَالَ لِي: أَرَاهُ ابْنُ سَلَامٍ، وَسَهَا فِيهِ أَبُو مُحَمَّدٍ. قُلْتُ: وَلَيْسَ فِي شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ أَحَدٌ يُقَالُ لَهُ: مُحَمَّدُ بْنُ سَالِمٍ.

قَوْلُهُ: (عَنِ الْأَشْعَثِ) يَعْنِي: بِإِسْنَادِهِ الْمَذْكُورِ، وَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى أَشْعَثَ، فَأَخْطَأَ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ هَنَّادِ بْنِ السَّرِيِّ، وَأَبُو دَاوُدَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُوسَى الرَّازِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِلَفْظِ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ لَهَا: أَيُّ حِينٍ كَانَ يُصَلِّي؟ قَالَتْ: إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ قَامَ فَصَلَّى. لَفْظُ إِبْرَاهِيمَ، وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي أَوَّلِهِ: كَانَ يُحِبُّ الدَّائِمَ.

ص: 17

وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ رِوَايَةِ خَلَفِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ بِالْإِسْنَادِ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ: أَيُّ الْعَمَلِ كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتْ: أَدْوَمُهُ. قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: لَمْ يَذْكُرِ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَحْوَصِ بَعْدَ الْأَشْعَثِ أَحَدًا، وَأَفَادَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ مَا كَانَ يَصْنَعُ إِذَا قَامَ؛ وَهُوَ قَوْلُهُ: قَامَ فَصَلَّى بِخِلَافِ رِوَايَةِ شُعْبَةَ، فَإِنَّهَا مُجْمَلَةٌ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى الْمُدَاوَمَةِ عَلَى الْعَمَلِ، وَإِنْ قَلَّ، وَفِيهِ الِاقْتِصَادُ فِي الْعِبَادَةِ، وَتَرْكُ التَّعَمُّقِ فِيهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَنْشَطُ، وَالْقَلْبُ بِهِ أَشَدُّ انْشِرَاحًا. وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ الثَّانِي، فَوَالِدُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ هُوَ سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَعَبَّرَ مُوسَى، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بِقَوْلِهِ: ذَكَرَ أَبِي، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَبِي تَوْبَةَ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ. وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ جُمْعَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِهِ.

قَوْلُهُ: (مَا أَلْفَاهُ) بِالْفَاءِ؛ أَيْ وَجَدَهُ، وَالسَّحَرُ مَرْفُوعٌ بِأَنَّهُ فَاعِلُهُ، وَالْمُرَادُ نَوْمُهُ بَعْدَ الْقِيَامِ الَّذِي مَبْدَؤُهُ عِنْدَ سَمَاعِ الصَّارِخِ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رِوَايَةِ مَسْرُوقٍ الَّتِي قَبْلَهَا.

قَوْلُهُ: (تَعْنِي: النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: مَا أَلْفَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم السَّحَرُ عَلَى فِرَاشِي - أَوْ عِنْدِي - إِلَّا نَائِمًا. وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنْ مَحْمُودٍ الْوَاسِطِيِّ، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ بِلَفْظِ: مَا أَلْفَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عِنْدِي بِالْأَسْحَارِ إِلَّا وَهُوَ نَائِمٌ وَفِي هَذَا التَّصْرِيحُ بِرَفْعِ الْحَدِيثِ.

(تَنْبِيهٌ): قَالَ ابْنُ التِّينِ: قَوْلُهَا: إِلَّا نَائِمًا تَعْنِي: مُضطَجِعًا عَلَى جَنْبِهِ؛ لِأَنَّهَا قَالَتْ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: فَإِنْ كُنْتُ يَقْظَانَةً حَدَّثَنِي، وَإِلَّا اضْطَجَعَ. انْتَهَى. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ رَشِيدٍ بِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ لِحَمْلِ هَذَا التَّأْوِيلِ؛ لِأَنَّ السِّيَاقَ ظَاهِرٌ فِي النَّوْمِ حَقِيقَةً، وَظَاهِرٌ فِي الْمُدَاوَمَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ أَنَّهُ كَانَ رُبَّمَا لَمْ يَنَمْ وَقْتَ السَّحَرِ هَذَا التَّأْوِيلُ، فَدَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ حَمْلِ النَّوْمِ عَلَى مَجَازِ التَّشْبِيهِ، أَوْ حَمْلِ التَّعْمِيمِ عَلَى إِرَادَةِ التَّخْصِيصِ، وَالثَّانِي أَرْجَحُ، وَإِلَيْهِ مَيْلُ الْبُخَارِيِّ؛ لِأَنَّهُ تَرْجَمَ بِقَوْلِهِ: مَنْ نَامَ عِنْدَ السَّحَرِ، ثُمَّ تَرْجَمَ عَقِبَهُ بِقَوْلِهِ: مَنْ تَسَحَّرَ فَلَمْ يَنَمْ، فَأَوْمَأَ إِلَى تَخْصِيصِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِهِ، فَكَأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ أَنَّهُ كَانَ يَنَامُ عِنْدَ السَّحَرِ، إِلَّا فِي رَمَضَانَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَتَشَاغَلُ بِالسَّحُورِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ عَقِبَهُ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: النَّوْمُ وَقْتُ السَّحَرِ كَانَ يَفْعَلُهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الطِّوَالِ وَفِي شَهْرِ رَمَضَانَ، كَذَا قَالَ، وَيُحْتَاجُ فِي إِخْرَاجِ اللَّيَالِي الْقِصَارِ إِلَى دَلِيلٍ.

‌8 - بَاب مَنْ تَسَحَّرَ ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ فَلَمْ يَنَمْ حَتَّى صَلَّى الصُّبْحَ

1134 -

حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رضي الله عنه تَسَحَّرَا، فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ سَحُورِهِمَا قَامَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الصَّلَاةِ فَصَلَّى، فَقُلْنَا لِأَنَسٍ: كَمْ كَانَ بَيْنَ فَرَاغِهِمَا مِنْ سَحُورِهِمَا وَدُخُولِهِمَا فِي الصَّلَاةِ؟ قَالَ: كَقَدْرِ مَا يَقْرَأُ الرَّجُلُ خَمْسِينَ آيَةً.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ تَسَحَّرَ فَلَمْ يَنَمْ حَتَّى صَلَّى الصُّبْحَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْحَمَوِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي: مَنْ تَسَحَّرَ ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هُوَ الدَّوْرَقِيُّ، وَرَوْحٌ هُوَ ابْنُ عُبَادَةَ.

قَوْلُهُ: (فَلَمَّا فَرِغَا مِنْ سَحُورِهِمَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ فَصَلَّى) هُوَ ظَاهِرٌ لِمَا تَرْجَمَ لَهُ. وَالْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ صَلَاةُ الصُّبْحِ، وَقَبْلَهَا صَلَاةُ الْفَجْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ فَوَائِدِ الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ص: 18

‌9 - بَاب طُولِ الْقِيَامِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ

1135 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً، فَلَمْ يَزَلْ قَائِمًا حَتَّى هَمَمْتُ بِأَمْرِ سَوْءٍ، قُلْنَا: وَمَا هَمَمْتَ؟ قَالَ: هَمَمْتُ أَنْ أَقْعُدَ وَأَذَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم.

1136 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَامَ لِلتَّهَجُّدِ مِنْ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ طُولِ الْقِيَامِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْحَمَوِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي طُولُ الصَّلَاةِ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ، وَحَدِيثُ الْبَابِ مُوَافِقٌ لِهَذَا؛ لِأَنَّهُ دَالٌّ عَلَى طُولِ الصَّلَاةِ، لَا عَلَى الْقِيَامِ بِخُصُوصِهِ، إِلَّا أَنَّ طُولَ الصَّلَاةِ يَسْتَلْزِمُ طُولَ الْقِيَامِ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْقِيَامِ - كَالرُّكُوعِ مَثَلًا - لَا يَكُونُ أَطْوَلَ مِنَ الْقِيَامِ كَمَا عُرِفَ بِالِاسْتِقْرَاءِ مِنْ صَنِيعِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ الْكُسُوفِ: فَرَكَعَ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ. وَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ الَّذِي سَأَذْكُرُهُ نَحْوَهُ، وَمَضَى حَدِيثُ عَائِشَةَ قَرِيبًا أَنَّ السَّجْدَةَ تَكُونُ قَرِيبًا مِنْ خَمْسِينَ آيَةً، وَمِنَ الْمَعْلُومِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ بِمَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ.

قَوْلُهُ: (بِأَمْرِ سُوءٍ) بِإِضَافَةِ أَمْرٍ إِلَى سُوءٍ، وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِيَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَطْوِيلَ صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَقَدْ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ قَوِيًّا مُحَافِظًا عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَمَا هَمَّ بِالْقُعُودِ إِلَّا بَعْدَ طُولٍ كَثِيرٍ مَا اعْتَادَهُ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ: أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ. فَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى ذَلِكَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْقُنُوتِ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الْخُشُوعُ، وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى أَنَّ كَثْرَةَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَفْضَلُ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ: أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ كَثْرَةُ السُّجُودِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ مُخَالَفَةَ الْإِمَامِ فِي أَفْعَالِهِ مَعْدُودَةٌ فِي الْعَمَلِ السَّيِّءِ. وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى فَائِدَةِ مَعْرِفَةِ مَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْأَحْوَالِ وَغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ أَصْحَابَ ابْنِ مَسْعُودٍ مَا عَرَفُوا مُرَادَهُ مِنْ قَوْلِهِ: هَمَمْتُ بِأَمْرِ سُوءٍ، حَتَّى اسْتَفْهَمُوهُ عَنْهُ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمُ اسْتِفْهَامَهُمْ عَنْ ذَلِكَ. وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ: أَنَّهُ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً، فَقَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءَ فِي رَكْعَةٍ، وَكَانَ إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، أَوْ سُؤَالٌ سَأَلَ، أَوْ تَعَوُّذٌ تَعَوَّذَ، ثُمَّ رَكَعَ نَحْوًا مِمَّا قَامَ، ثُمَّ قَامَ نَحْوًا مِمَّا رَكَعَ، ثُمَّ سَجَدَ نَحْوًا مِمَّا قَامَ. وَهَذَا إِنَّمَا يَتَأَتَّى فِي نَحْوٍ مِنْ سَاعَتَيْنِ، فَلَعَلَّهُ صلى الله عليه وسلم أَحْيَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ كُلَّهَا.

وَأَمَّا مَا يَقْتَضِيهِ حَالُهُ فِي غَيْرِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ، فَإِنَّ فِي أَخْبَارِ عَائِشَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُومُ قَدْرَ ثُلُثِ اللَّيْلِ، وَفِيهَا أَنَّهُ كَانَ لَا يَزِيدُ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، فَيَقْتَضِي ذَلِكَ تَطْوِيلَ الصَّلَاةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(تَنْبِيهٌ): ذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ حَرْبٍ تَفَرَّدَ بِرِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ شُعْبَةَ، حَكَاهُ عَنْهُ الْبُرْقَانِيُّ، وَهُوَ مِنَ الْأَفْرَادِ الْمُقَيَّدَةِ، فَإِنَّ مُسْلِمًا أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى، عَنِ الْأَعْمَشِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ الْوَاسِطِيُّ، وَحُصَيْنٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْوَاسِطِيُّ أَيْضًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ فِي الطَّهَارَةِ. وَاسْتَشْكَلَ ابْنُ بَطَّالٍ دُخُولَهُ فِي هَذَا الْبَابِ، فَقَالَ: لَا مَدْخَلَ لَهُ هُنَا؛ لِأَنَّ التَّسَوُّكَ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ لَا يَدُلُّ عَلَى طُولِ الصَّلَاةِ. قَالَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ غَلَطِ النَّاسِخِ، فَكَتَبَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، أَوْ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَعْجَلَتْهُ الْمَنِيَّةُ قَبْلَ تَهْذِيبِ كِتَابِهِ، فَإِنَّ فِيهِ مَوَاضِعَ مِثْلَ هَذَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَشَارَ إِلَى أَنَّ اسْتِعْمَالَ السِّوَاكِ يَدُلُّ عَلَى مَا يُنَاسِبُهُ مِنْ إِكْمَالِ الْهَيْئَةِ وَالتَّأَهُّبِ، وَهُوَ دَلِيلُ طُولِ الْقِيَامِ، إِذِ التَّخْفِيفُ لَا يَتَهَيَّأُ لَهُ

ص: 19

هَذَا التَّهَيُّؤَ الْكَامِلَ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: الَّذِي عِنْدِي أَنَّ الْبُخَارِيَّ إِنَّمَا أَدْخَلَهُ لِقَوْلِهِ: إِذَا قَامَ لِلتَّهَجُّدِ، أَيْ إِذَا قَامَ لِعَادَتِهِ، وَقَدْ تَبَيَّنْتُ عَادَتَهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ، وَلَفْظُ التَّهَجُّدِ مَعَ ذَلِكَ مُشْعِرٌ بِالسَّهَرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي التَّسَوُّكِ عَوْنًا عَلَى دَفْعِ النَّوْمِ، فَهُوَ مُشْعِرٌ بِالِاسْتِعْدَادِ لِلْإِطَالَةِ. وَقَالَ الْبَدْرُ بْنُ جَمَاعَةَ: يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَرَادَ بِهَذَا الْحَدِيثِ اسْتِحْضَارَ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، يَعْنِي: الْمُشَارَ إِلَيْهِ قَرِيبًا، قَالَ: وَإِنَّمَا لَمْ يُخْرِجْهُ لِكَوْنِهِ عَلَى غَيْرِ شَرْطِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَشَارَ إِلَى أَنَّ اللَّيْلَةَ وَاحِدَةٌ، أَوْ نَبَّهَ بِأَحَدِ حَدِيثَيْ حُذَيْفَةَ عَلَى الْآخَرِ. وأقربها تَوْجِيهُ ابْنِ رَشِيدٍ.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَيَّضَ التَّرْجَمَةَ لِحَدِيثِ حُذَيْفَةَ، فَضَمَّ الْكَاتِبُ الْحَدِيثَ إِلَى الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَحَذَفَ الْبَيَاضَ.

‌10 - باب كيف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم؟

وكم كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل؟

1137 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: إِنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ صَلَاةُ اللَّيْلِ؟ قَالَ: مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خِفْتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ.

قَوْلُهُ: (بابُ كَيْفَ صَلَاةُ اللَّيلِ، وَكَمْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِاللَّيْلِ)؟

أَوْرَدَ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ:

أَوَّلُهَا: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ أَبْوَابِ الْوِتْرِ، وَأَنَّهُ الْأَفْضَلُ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ لِكَوْنِهِ أَجَابَ بِهِ السَّائِلَ، وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَحَّ عَنْهُ فَعَلُ الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ.

1138 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو جَمْرَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَتْ صَلَاةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، يَعْنِي: بِاللَّيْلِ.

1139 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِاللَّيْلِ، فَقَالَتْ: سَبْعٌ وَتِسْعٌ وَإِحْدَى عَشْرَةَ، سِوَى رَكْعَتِي الْفَجْرِ.

1140 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى قَالَ: أَخْبَرَنَا حَنْظَلَةُ، عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، مِنْهَا الْوِتْرُ وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ.

ثَانِيهَا: حَدِيثُ أَبِي جَمْرَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَتْ صَلَاةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ عَشْرَةَ يَعْنِي: بِاللَّيْلِ. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي أَوَّلِ أَبْوَابِ الْوِتْرِ أَيْضًا، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا بَيَانُ الْجَمْعِ بَيْنَ مُخْتَلَفِ الرِّوَايَاتِ فِي ذَلِكَ.

ثَالِثُهَا: حَدِيثُ عَائِشَةَ مِنْ رِوَايَةِ مَسْرُوقٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: سَبْعٌ، وَتِسْعٌ، وَإِحْدَى عَشْرَةَ، سِوَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ.

رَابِعُهَا: حَدِيثُهَا مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ عَنْهَا: كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، مِنْهَا الْوِتْرُ وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ. وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: كَانَتْ صَلَاتُهُ عَشْرَ رَكَعَاتٍ، وَيُوتِرُ بِسَجْدَةٍ، وَيَرْكَعُ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، فَتِلْكَ ثَلَاثُ عَشْرَةَ. فَأَمَّا مَا أَجَابَتْ بِهِ مَسْرُوقًا فَمُرَادُهَا أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَتَارَةً كَانَ يُصَلِّي سَبْعًا، وَتَارَةً تِسْعًا، وَتَارَةً إِحْدَى عَشْرَةَ. وَأَمَّا حَدِيثُ الْقَاسِمِ عَنْهَا فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ غَالِبَ حَالِهِ، وَسَيَأْتِي

ص: 20

بَعْدَ خَمْسَةِ أَبْوَابٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْهَا، أَنَّ ذَلِكَ كَانَ أَكْثَرَ مَا يُصَلِّيهِ فِي اللَّيْلِ، وَلَفْظُهُ: مَا كَانَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ، وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ الْحَدِيثَ. وَفِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ مِنْ غَيْرِهَا، فَهُوَ مُطَابِقٌ لِرِوَايَةِ الْقَاسِمِ، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْهَا، كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ مَا يَقْرَأُ فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ بِلَفْظِ: كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ يُصَلِّي إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ بِالصُّبْحِ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ فَظَاهِرُهُ يُخَالِفُ مَا تَقَدَّمَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَضَافَتْ إِلَى صَلَاةِ اللَّيْلِ سُنَّةَ الْعِشَاءِ لِكَوْنِهِ كَانَ يُصَلِّيهَا فِي بَيْتِهِ، أَوْ مَا كَانَ يَفْتَتِحُ بِهِ صَلَاةَ اللَّيْلِ، فَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ عَنْهَا أَنَّهُ كَانَ يَفْتَتِحُهَا بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، وَهَذَا أَرْجَحُ فِي نَظَرِي؛ لِأَنَّ رِوَايَةَ أَبِي سَلَمَةَ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى الْحَصْرِ فِي إِحْدَى عَشْرَةَ جَاءَ فِي صِفَتِهَا عِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ: يُصَلِّي أَرْبَعًا، ثُمَّ أَرْبَعًا، ثُمَّ ثَلَاثًا.

فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَتَعَرَّضْ لِلرَّكْعَتَيْنِ الْخَفِيفَتَيْنِ، وَتَعَرَّضَتْ لَهُمَا فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، وَالزِّيَادَةُ مِنَ الْحَافِظِ مَقْبُولَةٌ، وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَحْضِرَ هُنَا مَا تَقَدَّمَ فِي أَبْوَابِ الْوِتْرِ مِنْ ذِكْرِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْوِتْرِ، وَالِاخْتِلَافِ: هَلْ هُمَا الرَّكْعَتَانِ بَعْدَ الْفَجْرِ، أَوْ صَلَاةٌ مُفْرَدَةٌ بَعْدَ الْوِتْرِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَيْسٍ، عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظِ: كَانَ يُوتِرُ بِأَرْبَعٍ وَثَلَاثٍ، وَسِتٍّ وَثَلَاثٍ، وَثَمَانٍ وَثَلَاثٍ، وَعَشْرٍ وَثَلَاثٍ، وَلَمْ يَكُنْ يُوتِرُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَلَا أَنْقَصَ مِنْ سَبْعٍ، وَهَذَا أَصَحُّ مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، وَبِهِ يُجْمَعُ بَيْنَ مَا اخْتَلَفَ عَنْ عَائِشَةَ مِنْ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَشْكَلَتْ رِوَايَاتُ عَائِشَةَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، حَتَّى نَسَبَ بَعْضُهُمْ حَدِيثَهَا إِلَى الِاضْطِرَابِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ كَانَ الرَّاوِي عَنْهَا وَاحِدًا، أَوْ أَخْبَرَتْ عَنْ وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَالصَّوَابُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ ذَكَرَتْهُ مِنْ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى أَوْقَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَأَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ بِحَسَبِ النَّشَاطِ، وَبَيَانِ الْجَوَازِ،، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَظَهَرَ لِي أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي عَدَمِ الزِّيَادَةِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ، أَنَّ التَّهَجُّدَ وَالْوِتْرَ مُخْتَصٌّ بِصَلَاةِ اللَّيْلِ، وَفَرَائِضَ النَّهَارِ - الظُّهْرُ؛ وَهِيَ أَرْبَعٌ، وَالْعَصْرُ؛ وَهِيَ أَرْبَعٌ، وَالْمَغْرِبُ؛ وَهِيَ ثَلَاثٌ وِتْرُ النَّهَارِ - فَنَاسَبَ أَنْ تَكُونَ صَلَاةُ اللَّيْلِ كَصَلَاةِ النَّهَارِ فِي الْعَدَدِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا. وَأَمَّا مُنَاسَبَةُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، فَبِضَمِّ صَلَاةِ الصُّبْحِ لِكَوْنِهَا نَهَارِيَّةً إِلَى مَا بَعْدَهَا.

(تَنْبِيهٌ): إِسْحَاقُ الْمَذْكُورُ فِي أَوَّلِ حَدِيثَيْ عَائِشَةَ هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ كَمَا جَزَمَ بِهِ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ - الْمَذْكُورُ فِي ثَانِي حَدِيثَيْهَا - هُوَ ابْنُ مُوسَى، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْهُ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ الْمُتَوَالِيَيْنِ بِوَاسِطَةٍ، وَبِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ شُيُوخِهِ، وَكَأَنَّ أَوَّلَهُمَا لَمْ يَقَعْ لَهُ سَمَاعُهُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌11 - بَاب قِيَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِاللَّيْلِ مِنْ نَوْمِهِ وَمَا نُسِخَ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا * إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا} وَقَوْلُهُ: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: نَشَأَ: قَامَ بِالْحَبَشِيَّةِ، وِطَاءً قَالَ: مُوَاطَأَةَ الْقُرْآنِ، أَشَدُّ مُوَافَقَةً

ص: 21

لِسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَقَلْبِهِ، {لِيُوَاطِئُوا} لِيُوَافِقُوا

1141 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ حُمَيْدٍ: أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُفْطِرُ مِنْ الشَّهْرِ حَتَّى نَظُنَّ أَنْ لَا يَصُومَ مِنْهُ، وَيَصُومُ حَتَّى نَظُنَّ أَنْ لَا يُفْطِرَ مِنْهُ شَيْئًا، وَكَانَ لَا تَشَاءُ أَنْ تَرَاهُ مِنْ اللَّيْلِ مُصَلِّيًا إِلَّا رَأَيْتَهُ، وَلَا نَائِمًا إِلَّا رَأَيْتَهُ.

تَابَعَهُ سُلَيْمَانُ وَأَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ عَنْ حُمَيْدٍ.

[الحديث 1142 - أطرافه في: 3563، 1973، 1972]

قَوْلُهُ: (بَابُ قِيَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ اللَّيْلِ مِنْ نَوْمِهِ، وَمَا نُسِخَ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ} ؛ كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: إِنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ قِيَامَ اللَّيْلِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ - يَعْنِي: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} - فَقَامَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ حَوْلًا، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ التَّخْفِيفَ، فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعًا بَعْدَ فَرْضِيَّتِهِ، وَاسْتَغْنَى الْبُخَارِيُّ عَنْ إِيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ - لِكَوْنِهِ عَلَى غَيْرِ شَرْطِهِ - بِمَا أَخْرَجَهُ عَنْ أَنَسٍ، فَإِنَّ فِيهِ: وَلَا تَشَاءُ أَنْ تَرَاهُ مِنَ اللَّيْلِ نَائِمًا إِلَّا رَأَيْتَهُ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ رُبَّمَا نَامَ كُلَّ اللَّيْلِ، وَهَذَا سَبِيلُ التَّطَوُّعِ، فَلَوِ اسْتَمَرَّ الْوُجُوبُ لَمَا أَخَلَّ بِالْقِيَامِ. وَبِهَذَا تَظْهَرُ مُطَابَقَةُ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ.

وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ مِنْ طَرِيقِ سِمَاكٍ الْحَنَفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ شَاهِدًا لِحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي أَنَّ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالنَّسْخِ سَنَةً، وَكَذَا أَخْرَجَهُ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، وَالْحَسَنِ، وَعِكْرِمَةَ، وَقَتَادَةَ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ عَنْهُمْ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ النَّسْخَ وَقَعَ بِمَكَّةَ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى فَرْضِ الْخَمْسِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، وَكَانَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ، وَحَكَى الشَّافِعِيُّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ آخِرَ السُّورَةِ نَسَخَ افْتِرَاضَ قِيَامِ اللَّيْلِ، إِلَّا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ؛ لِقَوْلِهِ:{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} ثُمَّ نُسِخَ فَرْضُ ذَلِكَ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. وَاسْتَشْكَلَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَالتَّعَقُّبُ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَتَضَمَّنَ كَلَامُهُ أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي نَسَخَتِ الْوُجُوبَ مَدَنِيَّةٌ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ مِنْ أَنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا مَكِّيَّةٌ. نَعَمْ، ذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ إِلَّا الْآيَةَ الْأَخِيرَةَ، وَقَوَّى مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ هَذَا الْقَوْلَ بِمَا أَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، أَنَّ نَسْخَ قِيَامِ اللَّيْلِ وَقَعَ لَمَّا تَوَجَّهُوا مَعَ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي جَيْشِ الْخَبَطِ، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ.

لَكِنْ فِي إِسْنَادِهِ عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ طَحْلَاءَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتِ: احْتَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَصِيرًا، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ الَّذِي تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ قَبْلَ خَمْسَةِ أَبْوَابٍ، وَفِيهِ: اكْلَفُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ خَيْرَ الْعَمَلِ أَدْوَمُهُ، وَإِنْ قَلَّ. وَنَزَلَتْ عَلَيْهِ:{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} فَكُتِبَ عَلَيْهِمْ قِيَامُ اللَّيْلِ، وَأُنْزِلَتْ مَنْزِلَةَ الْفَرِيضَةِ، حَتَّى إِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ لَيَرْبِطُ الْحَبْلَ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ، فَلَمَّا رَأَى اللَّهُ تَكَلُّفَهُمُ ابْتِغَاءَ رِضَاهُ وَضَعَ ذَلِكَ عَنْهُمْ، فَرَدَّهُمْ إِلَى الْفَرِيضَةِ، وَوَضَعَ عَنْهُمْ قِيَامَ اللَّيْلِ إِلَّا مَا تَطَوَّعُوا بِهِ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا مَدَنِيَّةٌ، لَكِنْ فِيهِ مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، وَهُوَ شَدِيدُ الضَّعْفِ، فَلَا حُجَّةَ فِيمَا تَفَرَّدَ بِهِ، وَلَوْ صَحَّ مَا رَوَاهُ لَاقْتَضَى ذَلِكَ وُقُوعَ مَا خَشِيَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ تَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ بِهِمْ خَشْيَةَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِمْ، وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} أَيِ: الْمُتَلَفِّفُ فِي ثِيَابِهِ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} ؛ أَيْ: يَا مُحَمَّدُ، قَدْ زَمَّلْتَ الْقُرْآنَ. فَكَأَنَّ الْأَصْلَ: يَا أَيُّهَا الْمُتَزَمِّلُ.

قَوْلُهُ: {قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا} أَيْ مِنْهُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي

ص: 22

حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: الْقَلِيلُ مَا دُونَ الْمِعْشَارِ وَالسُّدُسِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا سَيَأْتِي.

قَوْلُهُ: {نِصْفَهُ} يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ {قَلِيلا} ، فَكَأَنَّ فِي الْآيَةِ تَخْيِيرًا بَيْنَ قِيَامِ النِّصْفِ بِتَمَامِهِ، أَوْ قِيَامِ أَنْقَصَ مِنْهُ أَوْ أَزْيَدَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ:{نِصْفَهُ} بَدَلًا مِنَ اللَّيْلِ، وَ {إِلا قَلِيلا} اسْتِثْنَاءٌ مِنَ النِّصْفِ، حَكَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَبِالْأَوَّلِ جَزَمَ الطَّبَرِيُّ، وَأَسْنَدَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مَعْنَاهُ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ.

قَوْلُهُ: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا} أَيِ: اقْرَأْهُ مُتَرَسِّلًا بِتَبْيِينِ الْحُرُوفِ وَإِشْبَاعِ الْحَرَكَاتِ، وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ حَفْصَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُرَتِّلُ السُّورَةَ حَتَّى تَكُونَ أَطْوَلَ مِنْ أَطْوَلَ مِنْهَا.

قَوْلُهُ: {قَوْلا ثَقِيلا} أَيِ: الْقُرْآنُ. وَعَنِ الْحَسَنِ: الْعَمَلُ بِهِ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْهُ، قَالَ: ثَقِيلًا فِي الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَتَأَوَّلَهُ غَيْرُهُ عَلَى ثِقَلِ الْوَحْيِ حِينَ يَنْزِلُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ.

قَوْلُهُ: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَشَأَ قَامَ بِالْحَبَشِيَّةِ)؛ يَعْنِي: فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} أَيْ: قِيَامُ اللَّيْلِ، وَهَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ، قَالَ: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هُوَ كَلَامُ الْحَبَشَةِ، نَشَأَ: قَامَ. وَأَخْرَجَ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ، وَأَبِي مَالِكٍ نَحْوَهُ، وَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَيْسَرَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ شَيْءٌ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، وَقَالُوا: مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ تَوَافُقِ اللُّغَتَيْنِ، وَعَلَى هَذَا فَنَاشِئَةُ اللَّيْلِ مَصْدَرٌ بِوَزْنِ فَاعِلَةٍ، مِنْ نَشَأَ إِذَا قَامَ، أَوِ اسْمُ فَاعِلٍ أَيِ النَّفْسُ النَّاشِئَةُ بِاللَّيْلِ، أَيِ الَّتِي تَنْشَأُ مِنْ مَضْجَعِهَا إِلَى الْعِبَادَةِ، أَيْ تَنْهَضُ. وَحَكَى أَبُو عُبَيْدٍ فِي الْغَرِيبَيْنِ أَنَّ كُلَّ مَا حَدَثَ بِاللَّيْلِ وَبَدَأَ فَهُوَ نَاشِئٌ، وَقَدْ نَشَأَ. وَفِي الْمَجَازِ لِأَبِي عُبَيْدَةَ: نَاشِئَةُ اللَّيْلِ آنَاءَ اللَّيْلِ نَاشِئَةٌ بَعْدَ نَاشِئَةٍ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَالْمَعْنَى أَنَّ السَّاعَاتِ النَّاشِئَةَ مِنَ اللَّيْلِ - أَيِ: الْمُقْبِلَةَ بَعْضُهَا فِي أَثَرِ بَعْضٍ - هِيَ أَشَدُّ.

قَوْلُهُ: (وَطَاءً، قَالَ: مُوَاطَأَةً لِلْقُرْآنِ، أَشَدُّ مُوَافَقَةً لِسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَقَلْبِهِ) وَهَذَا وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، قَالَ: أَشَدُّ وَطَاءً؛ أَيْ يُوَافِقُ سَمْعَكَ وَبَصَرَكَ وَقَلْبَكَ بَعْضُهُ بَعْضًا، قَالَ الطَّبَرِيُّ: هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِكِ: وَاطَأَ اللِّسَانُ الْقَلْبَ مُوَاطَأَةً وَوَطَاءً. قَالَ: وَقَرَأَ الْأَكْثَرُ: وَطْئًا؛ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الطَّاءِ، ثُمَّ حُكِيَ عَنِ الْعَرَبِ: وَطِئْنَا اللَّيْلَ وَطْئًا؛ أَيْ سِرْنَا فِيهِ. وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ: {أَشَدُّ وَطْئًا} ؛ أَثْبَتُ فِي الْخَيْرِ. {وَأَقْوَمُ قِيلا} : أَبْلَغُ فِي الْحِفْظِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: أَشَدُّ وَطْئًا؛ أَيْ قِيَامًا. وَأَصْلُ الْوَطْءِ فِي اللُّغَةِ الثِّقَلُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ.

قَوْلُهُ: (لِيُوَاطِئُوا لِيُوَافِقُوا) هَذِهِ الْكَلِمَةُ مِنْ تَفْسِيرِ (بَرَاءَةً)، وَإِنَّمَا أَوْرَدَهَا هُنَا تَأْيِيدًا لِلتَّفْسِيرِ الْأَوَّل، وَقَدْ وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَكِنْ بِلَفْظِ: لِيُشَابِهُوا.

قَوْلُهُ: {سَبْحًا طَوِيلا} ؛ أَيْ: فَرَاغًا، وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَمُجَاهِدٍ، وَغَيْرِهِمْ، وَعَنِ السُّدِّيِّ: سَبْحًا طَوِيلًا؛ أَيْ: تَطَوُّعًا كَثِيرًا، كَأَنَّهُ جَعَلَهُ مِنَ السُّبْحَةِ؛ وَهِيَ النَّافِلَةُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) أَيِ: ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ الْمَدَنِيُّ، وَحُمَيْدٌ هُوَ الطَّوِيلُ.

قَوْلُهُ: (أَنْ لَا يَصُومَ مِنْهُ) زَادَ أَبُو ذَرٍّ، وَالْأَصِيلِيُّ شَيْئًا.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ لَا تَشَاءُ أَنْ تَرَاهُ مِنَ اللَّيْلِ مُصَلِّيًا إِلَخْ)؛ أَيْ: إِنَّ صَلَاتَهُ وَنَوْمَهُ كَانَ يَخْتَلِفُ بِاللَّيْلِ، وَلَا يُرَتِّبُ وَقْتًا مُعَيَّنًا، بَلْ بِحَسَبِ مَا تَيَسَّرَ لَهُ الْقِيَامُ. وَلَا يُعَارِضُهُ قَوْلُ عَائِشَةَ: كَانَ إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ قَامَ. فَإِنَّ عَائِشَةَ تُخْبِرُ عَمَّا لَهَا عَلَيْهِ اطِّلَاعٌ، وَذَلِكَ أَنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ كَانَتْ تَقَعُ مِنْهُ غَالِبًا فِي الْبَيْتِ، فَخَبَرُ أَنَسٍ مَحْمُولٌ عَلَى مَا وَرَاءَ ذَلِكَ. وَقَدْ مَضَى فِي حَدِيثِهَا فِي أَبْوَابِ الْوِتْرِ: مِنْ كُلِّ اللَّيْلِ قَدْ أَوْتَرَ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَخُصُّ الْوِتْرَ بِوَقْتٍ بِعَيْنِهِ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ سُلَيْمَانُ، وَأَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، عَنْ حُمَيْدٍ)؛ كَذَا ثَبَتَتِ الْوَاوُ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ الَّتِي اتَّصَلَتْ لَنَا، فَعَلَى هَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سُلَيْمَانُ هُوَ ابْنُ بِلَالٍ، كَمَا جَزَمَ بِهِ خَلَفٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ زَائِدَةً مِنَ النَّاسِخِ، فَإِنَّ أَبَا خَالِدٍ الْأَحْمَرَ اسْمُهُ سُلَيْمَانُ، وَحَدِيثُهُ فِي هَذَا سَيَأْتِي مَوْصُولًا فِي كِتَابِ الصِّيَامِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ص: 23

‌12 - باب عَقْدِ الشَّيْطَانِ عَلَى قَافِيَةِ الرَّأْسِ إِذَا لَمْ يُصَلِّ بِاللَّيْلِ

1142 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلَاثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ على مكان كُلَّ عُقْدَةٍ: عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ، فَإِنْ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَانَ.

[الحديث 1142 - طرفه في: 3269]

1143 -

حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَوْفٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَمُرَةُ بْنُ جُنْدَب رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فِي الرُّؤْيَا قَالَ: أَمَّا الَّذِي يُثْلَغُ رَأْسُهُ بِالْحَجَرِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الْقُرْآنَ فَيَرْفِضُهُ وَيَنَامُ عَنْ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ عَقْدِ الشَّيْطَانِ عَلَى قَافِيَةِ الرَّأْسِ إِذَا لَمْ يُصَلِّ بِاللَّيْلِ) قَالَ ابْنُ التِّينِ وَغَيْرُهُ: قَوْلُهُ: إِذَا لَمْ يُصَلِّ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ حَدِيثِ الْبَابِ؛ لِأَنَّهُ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ يَعْقِدُ عَلَى رَأْسِ مَنْ صَلَّى، وَمَنْ لَمْ يُصَلِّ، لَكِنْ مَنْ صَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ تَنْحَلُّ عُقَدُهُ بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يُصَلِّ. وَأَجَابَ ابْنُ رَشِيدٍ بِأَنَّ مُرَادَ الْبُخَارِيِّ: بَابُ بَقَاءِ عُقَدِ الشَّيْطَانِ. . إِلَخْ، وَعَلَى هَذَا فَيَجُوزُ أَنْ يَقْرَأَ قَوْلَهُ: عَقْدِ بِلَفْظِ الْفِعْلِ وَبِلَفْظِ الْجَمْعِ، ثُمَّ رَأَيْتُ الْإِيرَادَ بِعَيْنِهِ لِلْمَازِرِيِّ، ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ يُعْتَذَرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ إِنَّمَا قَصَدَ مَنْ يُسْتَدَامُ الْعَقْدُ عَلَى رَأْسِهِ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ، وَكَأَنَّهُ قَدَّرَ مَنِ انْحَلَّتْ عُقَدُهُ، كَأَنْ لَمْ تُعْقَدْ عَلَيْهِ، انْتَهَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ الْمَنْفِيَّةُ فِي التَّرْجَمَةِ صَلَاةَ الْعِشَاءِ، فَيَكُونَ التَّقْدِيرُ: إِذَا لَمْ يُصَلِّ الْعِشَاءَ، فَكَأَنَّهُ يَرَى أَنَّ الشَّيْطَانَ إِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ بِمَنْ نَامَ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، بِخِلَافِ مَنْ صَلَّاهَا، وَلَا سِيَّمَا فِي الْجَمَاعَةِ، وَكَأَنَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي إِيرَادِهِ لِحَدِيثِ سَمُرَةَ عَقِبِ هَذَا الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِيهِ: وَيَنَامُ عَنِ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ.

وَلَا يُعَكِّرُ عَلَى هَذَا كَوْنُهُ أَوْرَدَ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ فِي تَضَاعِيفِ صَلَاةِ اللَّيْلِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ أَرَادَ دَفْعَ تَوَهُّمِ مَنْ يَحْمِلُ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى صَلَاةِ اللَّيْلِ؛ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ سَمُرَةَ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِالْمَكْتُوبَةِ، وَالْوَعِيدُ عَلَامَةُ الْوُجُوبِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى خَطَأِ مَنِ احْتَجَّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ صَلَاةِ اللَّيْلِ حَمْلًا لِلْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، ثُمَّ وَجَدْتُ مَعْنَى هَذَا الِاحْتِمَالِ لِلشَّيْخِ وَلِيِّ الدِّينِ الْمَلَوِيِّ، وَقَوَّاهُ بِمَا ذَكَرْتُهُ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ، فَحَمِدْتُ اللَّهَ عَلَى التَّوْفِيقِ لِذَلِكَ. وَيُقَوِّيهِ مَا ثَبَتَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ كَمَنْ قَامَ نِصْفَ لَيْلَةٍ؛ لِأَنَّ مُسَمَّى قِيَامِ اللَّيْلِ يَحْصُلُ لِلْمُؤْمِنِ بِقِيَامِ بَعْضِهِ، فَحِينَئِذٍ يَصْدُقُ عَلَى مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ أَنَّهُ قَامَ اللَّيْلَ، وَالْعُقَدُ الْمَذْكُورَةُ تَنْحَلُّ بِقِيَامِ اللَّيْلِ، فَصَارَ مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ كَمَنْ قَامَ اللَّيْلَ فِي حَلِّ عُقَدِ الشَّيْطَانِ. وَخَفِيَتِ الْمُنَاسَبَةُ عَلَى الْإِسْمَاعِيلِيِّ، فَقَالَ: وَرَفْضُ الْقُرْآنِ لَيْسَ هُوَ تَرْكُ الصَّلَاةِ بِاللَّيْلِ. وَيُتَعَجَّبُ مِنْ إِغْفَالِهِ آخِرَ الْحَدِيثِ، حَيْثُ قَالَ فِيهِ: وَيَنَامُ عَنِ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (الشَّيْطَانِ) كَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ، وَفَاعِلُ ذَلِكَ هُوَ الْقَرِينُ أَوْ غَيْرُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ رَأْسُ الشَّيَاطِينِ وَهُوَ إِبْلِيسُ، وَتَجُوزُ نِسْبَةُ ذَلِكَ إِلَيْهِ لِكَوْنِهِ الْآمِرَ بِهِ الدَّاعِيَ إِلَيْهِ، وَلِذَلِكَ أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ صِفَةِ إِبْلِيسَ مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ.

قَوْلُهُ: (قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ) أَيْ مُؤَخَّرُ عُنُقِهِ. وَقَافِيَةُ كُلِّ شَيْءٍ مُؤَخَّرُهُ، وَمِنْهُ قَافِيَةُ الْقَصِيدَةِ، وَفِي النِّهَايَةِ: الْقَافِيَةُ: الْقَفَا، وَقِيلَ: مُؤَخَّرُ الرَّأْسِ، وَقِيلَ: وَسَطُهُ. وَظَاهِرُ

ص: 24

قَوْلِهِ: أَحَدِكُمْ التَّعْمِيمُ فِي الْمُخَاطَبِينَ، وَمَنْ فِي مَعْنَاهُمْ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَخُصَّ مِنْهُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَمَنْ وَرَدَ فِي حَقِّهِ أَنَّهُ يُحْفَظُ مِنَ الشَّيْطَانِ كَالْأَنْبِيَاءِ، وَمَنْ تَنَاوَلَهُ قَوْلُهُ:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} وَكَمَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ عِنْدَ نَوْمِهِ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ يُحْفَظُ مِنَ الشَّيْطَانِ حَتَّى يُصْبِحَ، وَفِيهِ بَحْثٌ سَأَذْكُرُهُ فِي آخِرِ شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (إِذَا هُوَ نَامَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْحَمَوِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي: إِذَا هُوَ نَائِمٌ؛ بِوَزْنِ فَاعِلٍ، وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ، وَهُوَ الَّذِي فِي الْمُوَطَّأِ.

قَوْلُهُ: (يَضْرِبُ عَلَى مَكَانِ كُلِّ عُقْدَةٍ) كَذَا لِلْمُسْتَمْلِي، وَلِبَعْضِهِمْ بِحَذْفِ: عَلَى، ولِلكُشْمِيهَنِيِّ بِلَفْظِ: عِنْدَ مَكَانِ. وَقَوْلُهُ: يَضْرِبُ؛ أَيْ بِيَدِهِ عَلَى الْعُقْدَةِ تَأْكِيدًا وَإِحْكَامًا لَهَا قَائِلًا ذَلِكَ، وَقِيلَ: مَعْنَى يَضْرِبُ: يَحْجُبُ الْحِسَّ عَنِ النَّائِمِ حَتَّى لَا يَسْتَيْقِظَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ} ؛ أَيْ: حَجَبْنَا الْحِسَّ أَنْ يَلِجَ فِي آذَانِهِمْ فَيَنْتَبِهُوا، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: مَا أَحَدٌ يَنَامُ إِلَّا ضُرِبَ عَلَى سِمَاخِهِ بِجَرِيرٍ مَعْقُودٍ. أَخْرَجَهُ الْمُخَلِّصُ فِي فَوَائِدِهِ، وَالسِّمَاخُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَآخِرِهِ مُعْجَمَةٌ، وَيُقَالُ: بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ بَدَلَ السِّينِ، وَعِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: مَا أَصْبَحَ رَجُلٌ عَلَى غَيْرِ وِتْرٍ إِلَّا أَصْبَحَ عَلَى رَأْسِهِ جَرِيرٌ قَدْرَ سَبْعِينَ ذِرَاعًا.

قَوْلُهُ: (عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ) كَذَا فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ عَنِ الْبُخَارِيِّ بِالرَّفْعِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي مُصْعَبٍ فِي الْمُوَطَّأِ، عَنْ مَالِكٍ: عَلَيْكَ لَيْلًا طَوِيلًا. وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، قَالَ عِيَاضٌ: رِوَايَةُ الْأَكْثَرِ عَنْ مُسْلِمٍ بِالنَّصْبِ عَلَى الْإِغْرَاءِ، وَمَنْ رَفَعَ فَعَلَى الِابْتِدَاءِ، أَيْ بَاقٍ عَلَيْكَ، أَوْ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ؛ أَيْ: بَقِيَ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الرَّفْعُ أَوْلَى مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ الْأَمْكَنُ فِي الْغُرُورِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يُخْبِرُهُ عَنْ طُولِ اللَّيْلِ، ثُمَّ يَأْمُرُهُ بِالرُّقَادِ بِقَوْلِهِ: فَارْقُدْ، وَإِذَا نُصِبَ عَلَى الْإِغْرَاءِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِلَّا الْأَمْرُ بِمُلَازَمَةِ طُولِ الرُّقَادِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ قَوْلُهُ: فَارْقُدْ ضَائِعًا، وَمَقْصُودُ الشَّيْطَانِ بِذَلِكَ تَسْوِيفُهُ بِالْقِيَامِ وَالْإِلْبَاسُ عَلَيْهِ.

وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْعُقَدِ، فَقِيلَ: هُوَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَأَنَّهُ كَمَا يَعْقِدُ السَّاحِرُ مَنْ يَسْحَرُهُ، وَأَكْثَرُ مَنْ يَفْعَلُهُ النِّسَاءُ؛ تَأْخُذُ إِحْدَاهُنَّ الْخَيْطَ، فَتَعْقِدُ مِنْهُ عُقْدَةً وَتَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ بِالسِّحْرِ، فَيَتَأَثَّرُ الْمَسْحُورُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} ، وَعَلَى هَذَا، فَالْمَعْقُودُ شَيْءٌ عِنْدَ قَافِيَةِ الرَّأْسِ، لَا قَافِيَةُ الرَّأْسِ نَفْسُهَا، وَهَلِ الْعُقَدُ فِي شَعْرِ الرَّأْسِ أَوْ فِي غَيْرِهِ؟ الْأَقْرَبُ الثَّانِي؛ إِذْ لَيْسَ لِكُلِّ أَحَدٍ شَعْرٌ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَنَّ عَلَى رَأْسِ كُلِّ آدَمِيٍّ حَبْلًا، فَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ، وَمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ حَبْلٌ فِيهِ ثَلَاثُ عُقَدٍ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: إِذَا نَامَ أَحَدُكُمْ عُقِدَ عَلَى رَأْسِهِ بِجَرِيرٍ. وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ، وَابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: مَا مِنْ ذَكَرٍ وَلَا أُنْثَى إِلَّا عَلَى رَأْسِهِ جَرِيرٌ مَعْقُودٌ حِينَ يَرْقُدُ. الْحَدِيثَ، وَفِي الثَّوَابِ لِآدَمَ بْنِ أَبِي إِيَاسٍ مِنْ مُرْسَلِ الْحَسَنِ نَحْوُهُ. وَالْجَرِيرُ بِفَتْحِ الْجِيمِ هُوَ الْحَبْلُ، وَفَهِمَ بَعْضُهُمْ مِنْ هَذَا أَنَّ الْعُقَدَ لَازِمَةٌ، وَيَرُدُّهُ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهَا تَنْحَلُّ بِالصَّلَاةِ، فَيَلْزَمُ إِعَادَةُ عَقْدِهَا، فَأُبْهِمَ فَاعِلُهُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ، وَفُسِّرَ فِي حَدِيثِ غَيْرِهِ. وَقِيلَ هُوَ عَلَى الْمَجَازِ، كَأَنَّهُ شَبَّهَ فِعْلَ الشَّيْطَانِ بِالنَّائِمِ بِفِعْلِ السَّاحِرِ بِالْمَسْحُورِ، فَلَمَّا كَانَ السَّاحِرُ يَمْنَعُ بِعَقْدِهِ ذَلِكَ تَصَرُّفَ مَنْ يُحَاوِلُ عَقْدَهُ، كَانَ هَذَا مِثْلَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ لِلنَّائِمِ.

وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ عَقْدُ الْقَلْبِ وَتَصْمِيمُهُ عَلَى الشَّيْءِ، كَأَنَّهُ يُوَسْوِسُ لَهُ بِأَنَّهُ بَقِيَ مِنَ اللَّيْلَةِ قِطْعَةٌ طَوِيلَةٌ فَيَتَأَخَّرُ عَنِ الْقِيَامِ. وَانْحِلَالُ الْعُقَدِ كِنَايَةٌ عَنْ عِلْمِهِ بِكَذِبِهِ فِيمَا وَسْوَسَ بِهِ. وَقِيلَ: الْعُقَدُ كِنَايَةٌ عَنْ تَثْبِيطِ الشَّيْطَانِ لِلنَّائِمِ بِالْقَوْلِ الْمَذْكُورِ، وَمِنْهُ عَقَدْتُ فُلَانًا عَنِ امْرَأَتِهِ؛ أَيْ: مَنَعْتُهُ عَنْهَا، أَوْ عَنْ تَثْقِيلِهِ عَلَيْهِ النَّوْمَ، كَأَنَّهُ قَدْ شَدَّ عَلَيْهِ شِدَادًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِالْعُقَدِ الثَّلَاثِ: الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالنَّوْمُ؛ لِأَنَّ مَنْ أَكْثَرَ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ كَثُرَ نَوْمُهُ. وَاسْتَبْعَدَهُ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ يَقْتَضِي أَنَّ الْعُقَدَ تَقَعُ عِنْدَ النَّوْمِ. فَهِيَ غَيْرُهُ،

ص: 25

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْحِكْمَةُ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الثَّلَاثِ أَنَّ أَغْلَبَ مَا يَكُونُ انْتِبَاهُ الْإِنْسَانِ فِي السَّحَرِ، فَإِنِ اتَّفَقَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى النَّوْمِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَمْ تَنْقَضِ النَّوْمَةُ الثَّالِثَةُ إِلَّا وَقَدْ ذَهَبَ اللَّيْلُ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: التَّقْيِيدُ بِالثَّلَاثِ إِمَّا لِلتَّأْكِيدِ، أَوْ لِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَقْطَعَهُ عَنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: الذِّكْرِ وَالْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ، فَكَأَنَّهُ مَنَعَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا بِعُقْدَةٍ عَقَدَهَا عَلَى رَأْسِهِ، وَكَأَنَّ تَخْصِيصَ الْقَفَا بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ مَحَلَّ الْوَهْمِ وَمَجَالَ تَصَرُّفِهِ، وَهُوَ أَطَوْعُ الْقُوَى لِلشَّيْطَانِ، وَأَسْرَعُهَا إِجَابَةً لِدَعْوَتِهِ. وَفِي كَلَامِ الشَّيْخِ الْمَلَوِيِّ: أَنَّ الْعَقْدَ يَقَعُ عَلَى خِزَانَةِ الْإِلَهِيَّاتِ مِنَ الْحَافِظَةِ، وَهِيَ الْكَنْزُ الْمُحَصَّلُ مِنَ الْقُوَى، وَمِنْهَا يَتَنَاوَلُ الْقَلْبُ مَا يُرِيدُ التَّذَكُّرَ بِهِ.

قَوْلُهُ: (انْحَلَّ عُقَدُهُ) بِلَفْظِ الْجَمْعِ، بِغَيْرِ اخْتِلَافٍ فِي الْبُخَارِيِّ، وَوَقَعَ لِبَعْضِ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ بِالْإِفْرَادِ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ أَحْمَدَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا قَبْلُ، فَإِنَّ فِيهَا: فَإِنْ ذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ قَامَ فَتَوَضَّأَ أُطْلِقَتِ الثَّانِيَةُ، فَإِنْ صَلَّى أُطْلِقَتِ الثَّالِثَةُ. وَكَأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ، وَهُوَ مَنْ يَنَامُ مُضْطَجِعًا، فَيَحْتَاجُ إِلَى الْوُضُوءِ إِذَا انْتَبَهَ، فَيَكُونُ لِكُلِّ فِعْلٍ عُقْدَةٌ يَحِلُّهَا، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا سَيَأْتِي فِي بَدْءِ الْخَلْقِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِلَفْظِ: عُقَدُهُ كُلُّهَا. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ: انْحَلَّتِ الْعُقَدُ. وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْعُقَدَ تَنْحَلُّ كُلُّهَا بِالصَّلَاةِ خَاصَّةً، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى الطَّهَارَةِ، كَمَنْ نَامَ مُتَمَكِّنًا مَثَلًا

(1)

، ثُمَّ انْتَبَهَ فَصَلَّى مِنْ قَبْلِ أَنْ يَذْكُرَ أَوْ يَتَطَهَّرَ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ تُجْزِئُهُ فِي حَلِّ الْعُقَدِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّهَا تَسْتَلْزِمُ الطَّهَارَةَ وَتَتَضَمَّنُ الذِّكْرَ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَإِذَا صَلَّى انْحَلَّتْ عُقَدُهُ كُلُّهَا؛ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ مَنْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْوُضُوءِ، فَظَاهِرٌ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَالْمَعْنَى انْحَلَّتْ بِكُلِّ عُقْدَةٍ، أَوِ انْحَلَّتْ عُقَدُهُ كُلُّهَا بِانْحِلَالِ الْأَخِيرَةِ الَّتِي بِهَا يَتِمُّ انْحِلَالُ الْعُقَدِ. وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ الْمَذْكُورَةِ قَبْلُ: فَإِنْ قَامَ فَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ وَاحِدَةٌ، فَإِنْ قَامَ فَتَوَضَّأَ أُطْلِقَتِ الثَّانِيَةُ، فَإِنْ صَلَّى أُطْلِقَتِ الثَّالِثَةُ.

وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ، وَهُوَ مَنْ يَنَامُ مُضْطَجِعًا، فَيَحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدِ الطَّهَارَةِ عِنْدَ اسْتِيقَاظِهِ فَيَكُونُ لِكُلِّ فِعْلٍ عُقْدَةٌ يَحِلُّهَا.

قَوْلُهُ: (طَيِّبَ النَّفْسِ) أَيْ: لِسُرُورِهِ بِمَا وَفَّقَهُ اللَّهُ لَهُ مِنَ الطَّاعَةِ، وَبِمَا وَعَدَهُ مِنَ الثَّوَابِ، وَبِمَا زَالَ عَنْهُ مِنْ عُقَدِ الشَّيْطَانِ. كَذَا قِيلَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ سِرًّا فِي طِيبِ النَّفْسِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَحْضِرِ الْمُصَلِّي شَيْئًا مِمَّا ذُكِرَ، وَكَذَا عَكْسُهُ، وَإِلَى ذَلِكَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا} ، وَقَدِ اسْتَنْبَطَ بَعْضُهُمْ مِنْهُ أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مَرَّةً، ثُمَّ عَادَ إِلَى النَّوْمِ لَا يَعُودُ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ بِالْعَقْدِ الْمَذْكُورِ ثَانِيًا، وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ - مِمَّنْ يَقُومُ وَيَذْكُرُ وَيَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي - مَنْ لَمْ يَنْهَهُ ذَلِكَ عَنِ الْفَحْشَاءِ، بَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقْلِعَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ فِيهِ التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مَعَ النَّدَمِ وَالتَّوْبَةِ وَالْعَزْمِ عَلَى الْإِقْلَاعِ، وَبَيْنَ الْمُصِرِّ.

قَوْلُهُ: (وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ)؛ أَيْ: بِتَرْكِهِ مَا كَانَ اعْتَادَهُ أَوْ أَرَادَهُ مِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ، كَذَا قِيلَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ.

وَقَوْلُهُ: (كَسْلَانَ) غَيْرُ مَصْرُوفٍ لِلْوَصْفِ وَلِزِيَادَةِ الْأَلِفِ وَالنُّونِ، وَمُقْتَضَى قَوْلِهِ: وَإِلَّا أَصْبَحَ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَجْمَعِ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ دَخَلَ تَحْتَ مَنْ يُصْبِحُ خَبِيثًا كَسْلَانَ، وَإِنْ أَتَى بِبَعْضِهَا، وَهُوَ كَذَلِكَ، لَكِنْ يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِالْقُوَّةِ وَالْخِفَّةِ، فَمَنْ ذَكَرَ اللَّهَ - مَثَلًا - كَانَ فِي ذَلِكَ أَخَفَّ مِمَّنْ لَمْ يَذْكُرْ أَصْلًا. وَرَوَيْنَا فِي الْجُزْءِ الثَّالِثِ مِنَ الْأَوَّلِ مِنْ حَدِيثِ الْمَخَلِّصِ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الَّذِي تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ: فَإِنْ قَامَ فَصَلَّى انْحَلَّتِ الْعُقَدُ كُلُّهُنَّ، وَإِنِ اسْتَيْقَظَ، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، وَلَمْ يُصَلِّ أَصْبَحَتِ الْعُقَدُ كُلُّهَا كَهَيْئَتِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا الذَّمُّ يَخْتَصُّ بِمَنْ لَمْ يَقُمْ إِلَى صَلَاتِهِ وَضَيَّعَهَا، أَمَّا مَنْ كَانَتْ عَادَتُهُ الْقِيَامَ إِلَى الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ أَوْ إِلَى النَّافِلَةِ بِاللَّيْلِ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنُهُ فَنَامَ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ

(1)

هذا فيه نظر. والصواب أن النوم ينقض الوضوء وإن كان النائم متمكنا لحديث صفوان "لكن من غائط وبول ونوم فتنبه. والله أعلم.

ص: 26

اللَّهَ يَكْتُبُ لَهُ أَجْرَ صَلَاتِهِ، وَنَوْمُهُ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ. وَقَالَ أَيْضًا: زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يُعَارِضُ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم: لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ خَبُثَتْ نَفْسِي؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا وَرَدَ عَنْ إِضَافَةِ الْمَرْءِ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ كَرَاهَةً لِتِلْكَ الْكَلِمَةِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ وَقَعَ ذَمًّا لِفِعْلِهِ، وَلِكُلٍّ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ وَجْهٌ، وَقَالَ الْبَاجِيُّ: لَيْسَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ اخْتِلَافٌ؛ لِأَنَّهُ نَهَى عَنْ إِضَافَةِ ذَلِكَ إِلَى النَّفْسِ - لِكَوْنِ الْخُبْثِ بِمَعْنَى فَسَادِ الدِّينِ - وَوَصْفُ بَعْضِ الْأَفْعَالِ بِذَلِكَ تَحْذِيرًا مِنْهَا وَتَنْفِيرًا.

قُلْتُ: تَقْرِيرُ الْإِشْكَالِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ إِضَافَةِ ذَلِكَ إِلَى النَّفْسِ، فَكُلُّ مَا نُهِيَ الْمُؤْمِنُ أَنْ يُضِيفَهُ إِلَى نَفْسِهِ نُهِيَ أَنْ يُضِيفَهُ إِلَى أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ، وَقَدْ وَصَفَ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْمَرْءَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَيَلْزَمُ جَوَازُ وَصْفِنَا لَهُ بِذَلِكَ لِمَحَلِّ التَّأَسِّي، وَيَحْصُلُ الِانْفِصَالُ فِيمَا يَظْهَرُ بِأَنَّ النَّهْيَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حَامِلٌ عَلَى الْوَصْفِ بِذَلِكَ كَالتَّنْفِيرِ وَالتَّحْذِيرِ.

(تَنْبِيهَاتٌ): الْأَوَّلُ: ذِكْرُ اللَّيْلِ فِي قَوْلِهِ: عَلَيْكَ لَيْلٌ، ظَاهِرُهُ اخْتِصَاصُ ذَلِكَ بِنَوْمِ اللَّيْلِ، وَهُوَ كَذَلِكَ، لَكِنْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَجِيءَ مِثْلُهُ فِي نَوْمِ النَّهَارِ كَالنَّوْمِ حَالَةَ الْإِبْرَادِ مَثَلًا، وَلَاسِيَّمَا عَلَى تَفْسِيرِ الْبُخَارِيِّ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ الصَّلَاةُ الْمَفْرُوضَةُ.

ثَانِيهَا: ادَّعَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَوْمَأَ هُنَا إِلَى وُجُوبِ صَلَاةِ اللَّيْلِ لِقَوْلِهِ: يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ. وَفِيهِ نَظَرٌ، فَقَدْ صَرَّحَ الْبُخَارِيُّ فِي خَامِسِ تَرْجَمَةٍ مِنْ أَبْوَابِ التَّهَجُّدِ بِخِلَافِهِ حَيْثُ قَالَ: مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ. وَأَيْضًا فَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ مِنْ أَنَّهُ حَمْلُ الصَّلَاةِ هُنَا عَلَى الْمَكْتُوبَةِ يَدْفَعُ مَا قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَيْضًا، وَلَمْ أَرَ النَّقْلَ فِي الْقَوْلِ بِإِيجَابِهِ إِلَّا عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: شَذَّ بَعْضُ التَّابِعِينَ، فَأَوْجَبَ قِيَامَ اللَّيْلِ، وَلَوْ قَدْرَ حَلْبِ شَاةٍ، وَالَّذِي عَلَيْهِ جَمَاعَةُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، وَنَقَلَهُ غَيْرُهُ عَنِ الْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالَّذِي وَجَدْنَاهُ عَنِ الْحَسَنِ مَا أَخْرَجَهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ وَغَيْرُهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ اسْتَظْهَرَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ لَا يَقُومُ بِهِ إِنَّمَا يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ؟ فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ هَذَا؟ إِنَّمَا يَتَوَسَّدُ الْقُرْآنَ. فَقِيلَ لَهُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} قَالَ: نَعَمْ، وَلَوْ قَدْرَ خَمْسِينَ آيَةٍ. وَكَانَ هَذَا هُوَ مُسْتَنَدُ مَنْ نَقَلَ عَنِ الْحَسَنِ الْوُجُوبَ. وَنَقَلَ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا قِيَامُ اللَّيْلِ عَلَى أَصْحَابِ الْقُرْآنِ، وَهَذَا يُخَصِّصُ مَا نُقِلَ عَنِ الْحَسَنِ، وَهُوَ أَقْرَبُ، وَلَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِالْوُجُوبِ أَيْضًا.

ثَالِثُهَا: قَدْ يُظَنُّ أَنَّ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَالْحَدِيثِ الْآتِي فِي الْوَكَالَةِ - مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي فِيهِ: إنَّ قَارِئَ آيَةِ الْكُرْسِيِّ عِنْدَ نَوْمِهِ لَا يَقْرَبُهُ الشَّيْطَانُ - مُعَارَضَةً، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ إِنَّمَا حُمِلَ عَلَى الْأَمْرِ الْمَعْنَوِيِّ، وَالْقُرْبَ عَلَى الْأَمْرِ الْحِسِّيِّ، وَكَذَا الْعَكْسُ، فَلَا إِشْكَالَ، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ سِحْرِهِ إِيَّاهُ مَثَلًا أَنْ يَمَاسَّهُ، كَمَا لَا يَلْزَمُ مِنْ مُمَاسَّتِهِ أَنْ يَقْرَب هُ بِسَرِقَةٍ أَوْ أَذًى فِي جَسَدِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَإِنْ حُمِلَا عَلَى الْمَعْنَوِيَّيْنِ، أَوِ الْعَكْسِ، فَيُجَابُ بِادِّعَاءِ الْخُصُوصِ فِي عُمُومِ أَحَدِهِمَا. وَالْأَقْرَبُ أَنَّ الْمَخْصُوصَ حَدِيثُ الْبَابِ كَمَا تَقَدَّمَ تَخْصِيصُهُ عَنِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ بِمَنْ لَمْ يَنْوِ الْقِيَامَ، فَكَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: يَخْتَصُّ بِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ لِطَرْدِ الشَّيْطَانِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

رَابِعُهَا: ذَكَرَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ الْحُسَيْنِ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ السِّرَّ فِي اسْتِفْتَاحِ صَلَاةِ اللَّيْلِ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ الْمُبَادَرَةُ إِلَى حَلِّ عُقَدِ الشَّيْطَانِ، وَبَنَاهُ عَلَى أَنَّ الْحَلَّ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِتَمَامِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ وَاضِحٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ شَرَعَ فِي صَلَاةٍ ثُمَّ أَفْسَدَهَا، لَمْ يُسَاوِ مَنْ أَتَمَّهَا، وَكَذَا الْوُضُوءُ. وَكَأَنَّ الشُّرُوعَ فِي حَلِّ الْعُقَدِ يَحْصُلُ بِالشُّرُوعِ فِي الْعِبَادَةِ وَيَنْتَهِي بِانْتِهَائِهَا. وَقَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِصَلَاةِ الرَّكْعَتَيْنِ الْخَفِيفَتَيْنِ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَانْدَفَعَ إِيرَادُ مَنْ أَوْرَدَ أَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ الْخَفِيفَتَيْنِ إِنَّمَا وَرَدَتَا مِنْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ عُقَدِ الشَّيْطَانِ، حَتَّى وَلَوْ لَمْ يَرِدِ الْأَمْرُ بِذَلِكَ لَأَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ: يُحْمَلُ فِعْلُهُ ذَلِكَ عَلَى تَعْلِيمِ أُمَّتِهِ وَإِرْشَادِهِمْ إِلَى مَا يَحْفَظُهُمْ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: فَحُلُّوا عُقَدَ

ص: 27

الشَّيْطَانِ وَلَوْ بِرَكْعَتَيْنِ.

خَامِسُهَا: إِنَّمَا خَصَّ الْوُضُوءَ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّهُ الْغَالِبُ، وَإِلَّا فَالْجُنُبُ لَا يَحُلُّ عُقْدَتَهُ إِلَّا الِاغْتِسَالُ، وَهَلْ يَقُومُ التَّيَمُّمُ مَقَامَ الْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْلِ لِمَنْ سَاغَ لَهُ ذَلِكَ؟ مَحَلُّ بَحْثٍ. وَالَّذِي يَظْهَرُ إِجْزَاؤُهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي مُعَانَاةِ الْوُضُوءِ عَوْنًا كَبِيرًا عَلَى طَرْدِ النَّوْمِ لَا يَظْهَرُ مِثْلُهُ فِي التَّيَمُّمِ.

سَادِسُهَا: لَا يَتَعَيَّنُ لِلذِّكْرِ شَيْءٌ مَخْصُوصٌ لَا يُجْزِئُ غَيْرُهُ، بَلْ كُلُّ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ ذِكْرُ اللَّهِ أَجْزَأَ، وَيَدْخُلُ فِيهِ تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ، وَقِرَاءَةُ الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ، وَالِاشْتِغَالُ بِالْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ، وَأَوْلَى مَا يُذْكَرُ بِهِ مَا سَيَأْتِي بَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَبْوَابٍ فِي بَابِ فَضْلِ مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ مِنَ الطَّرِيقِ الْمَذْكُورَةِ: فَإِنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ فَذَكَرَ اللَّهَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَوْفٌ) هُوَ الْأَعْرَابِيُّ، (وَأَبُو رَجَاءٍ) هُوَ الْعُطَارِدِيُّ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ، وَسَيَأْتِي حَدِيثُ سَمُرَةَ مُطَوَّلًا فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْجَنَائِزِ. وَقَوْلُهُ هُنَا:(عَنِ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ) الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْعِشَاءُ الْآخِرَةُ، وَهُوَ اللَّائِقُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ مُنَاسَبَةِ الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَقَوْلُهُ:(يُثْلَغُ) بمُثَلَّثَةٍ سَاكِنَةٍ، وَلَامٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ؛ أَيْ: يَشُقُّ أَوْ يَخْدِشُ. وَقَوْلُهُ: (فَيَرْفِضُهُ) بِكَسْرِ الْفَاءِ وَضَمِّهَا.

‌13 - بَاب إِذَا نَامَ وَلَمْ يُصَلِّ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِهِ

1144 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ قَالَ: حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ فَقِيلَ: مَا زَالَ نَائِمًا حَتَّى أَصْبَحَ، مَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ، فَقَالَ: بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِهِ.

[الحديث 1144 - طرفه في 3270]

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا نَامَ وَلَمْ يُصَلِّ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِهِ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ لِلْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ. وَلِلْبَاقِينَ: بَابٌ فَقَطْ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْفَصْلِ مِنَ الْبَابِ، وَتَعَلُّقُهُ بِالَّذِي قَبْلَهُ ظَاهِرٌ لِمَا سَنُوَضِّحُهُ.

قَوْلُهُ: (ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، لَكِنْ أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ النَّخَعِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ هُوَ، وَلَفْظُهُ بَعْدَ سِيَاقِ الْحَدِيثِ بِنَحْوِهِ: وَأَيْمُ اللَّهِ، لَقَدْ بَالَ فِي أُذُنِ صَاحِبِكُمْ لَيْلَةً؛ يَعْنِي نَفْسَهُ.

قَوْلُهُ: (فَقِيلَ: مَا زَالَ نَائِمًا حَتَّى أَصْبَحَ) فِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ: رَجُلٌ نَامَ لَيْلَةً حَتَّى أَصْبَحَ.

قَوْلُهُ: (مَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ) المُرَادُ الْجِنْسُ، وَيُحْتَمَلُ الْعَهْدُ، وَيُرَادُ بِهِ صَلَاةُ اللَّيْلِ أَوِ الْمَكْتُوبَةُ. وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ سُفْيَانَ هَذَا عِنْدَنَا: نَامَ عَنِ الْفَرِيضَةِ، أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ. وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ مُنَاسَبَةُ الْحَدِيثِ لِمَا قَبْلَهُ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الَّذِي قَدَّمْتُ ذِكْرَهُ مِنْ فَوَائِدِ الْمُخَلِّصِ: أَصْبَحَتِ الْعُقَدُ كُلُّهَا كَهَيْئَتِهَا، وَبَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِهِ. فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ وَقْتُ بَوْلِ الشَّيْطَانِ، وَمُنَاسَبَةُ هَذَا الْحَدِيثِ لِلَّذِي قَبْلَهُ.

قَوْلُهُ: (فِي أُذُنِهِ) فِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ: فِي أُذُنَيْهِ؛ بِالتَّثْنِيَةِ. وَاخْتُلِفَ فِي بَوْلِ الشَّيْطَانِ، فَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَقِيقَتِهِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ: لَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ، إِذْ لَا إِحَالَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ، وَيَنْكِحُ، فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَبُولَ. وَقِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ سَدِّ الشَّيْطَانِ أُذُنَ الَّذِي يَنَامُ عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى لَا يَسْمَعَ الذِّكْرَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ الشَّيْطَانَ مَلَأَ سَمْعَهُ بِالْأَبَاطِيلِ، فَحَجَبَ سَمْعَهُ عَنِ الذِّكْرِ. وَقِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ ازْدِرَاءِ الشَّيْطَانِ بِهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ الشَّيْطَانَ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ، وَاسْتَخَفَّ بِهِ، حَتَّى اتَّخَذَهُ كَالْكَنِيفِ الْمُعَدِّ لِلْبَوْلِ؛ إِذْ مِنْ عَادَةِ الْمُسْتَخِفِّ بِالشَّيْءِ أَنْ يَبُولَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: هُوَ مَثَلٌ مَضْرُوبٌ لِلْغَافِلِ عَنِ الْقِيَامِ بِثِقَلِ النَّوْمِ، كَمَنْ وَقَعَ الْبَوْلُ فِي أُذُنِهِ، فَثَقَّلَ أُذُنَهُ، وَأَفْسَدَ حِسَّهُ، وَالْعَرَبُ تُكَنِّي عَنِ

ص: 28

الْفَسَادِ بِالْبَوْلِ؛ قَالَ الرَّاجِزُ:

بَالَ سُهَيْلٌ فِي الْفَضِيخِ فَفَسَدَ

وَكَنَّى بِذَلِكَ عَنْ طُلُوعِهِ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ إِفْسَادِ الْفَضِيخِ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْبَوْلِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ أَحْمَدَ: قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ بَوْلَهُ وَاللَّهِ لَثَقِيلٌ. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ مِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: حَسْبُ الرَّجُلِ مِنَ الْخَيْبَةِ وَالشَّرِّ أَنْ يَنَامَ حَتَّى يُصْبِحَ وَقَدْ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِهِ. وَهُوَ مَوْقُوفٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: خَصَّ الْأُذُنَ بِالذِّكْرِ، وَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ أَنْسَبَ بِالنَّوْمِ إِشَارَةً إِلَى ثِقَلِ النَّوْمِ، فَإِنَّ الْمَسَامِعَ هِيَ مَوَارِدُ الِانْتِبَاهِ، وَخَصَّ الْبَوْلَ لِأَنَّهُ أَسْهَلُ مَدْخَلًا فِي التَّجَاوِيفِ، وَأَسْرَعُ نُفُوذًا فِي الْعُرُوقِ، فَيُورِثُ الْكَسَلَ فِي جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ.

‌14 - بَاب الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ

وَقَالَ اللَّهُ عز وجل: {كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} أَيْ: مَا يَنَامُونَ {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}

1145 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْأَغَرِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَنْزِلُ رَبُّنَا تبارك وتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟.

[الحديث 1145 - طرفاه في: 7494، 6321]

قَوْلُهُ: (بَابُ الدُّعَاءِ وَالصَّلَاةِ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ: الدُّعَاءُ فِي الصَّلَاةِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّهُ عز وجل فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ: وَقَوْلُ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (مَا يَهْجَعُونَ). زَادَ الْأَصِيلِيُّ: أَيْ: يَنَامُونَ. وَقَدْ ذَكَرَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ الْخِلَافَ عَنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ فِي ذَلِكَ، فَنُقِلَ ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ، وَالْأَحْنَفِ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَنُقِلَ عَنْ قَتَادَةَ، وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ مَعْنَاهُ: كَانُوا لَا يَنَامُونَ لَيْلَةً حَتَّى الصَّبَاحِ لَا يَتَهَجَّدُونَ. وَمِنْ طَرِيقِ الْمِنْهَالِ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَعْنَاهُ؛ لَمْ تَكُنْ تَمْضِي عَلَيْهِمْ لَيْلَةٌ إِلَّا يَأْخُذُونَ مِنْهَا وَلَوْ شَيْئًا، ثُمَّ ذَكَرَ أَقْوَالًا أُخَرَ، وَرَجَّحَ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِذَلِكَ مَادِحًا لَهُمْ بِكَثْرَةِ الْعَمَلِ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَعَلَى هَذَا تَكُونُ مَا زَائِدَةً، أَوْ مَصْدَرِيَّةً، وَهُوَ أَبْيَنُ الْأَقْوَالِ، وَأَقْعَدُهَا بِكَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَعَلَى الْآخَرِ تَكُونُ مَا نَافِيَةً، وَقَالَ الْخَلِيلُ: هَجَعَ يَهْجَعُ هُجُوعًا، وَهُوَ النَّوْمُ بِاللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ. ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي النُّزُولِ مِنْ طَرِيقِ الْأَغَرِّ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبِي سَلَمَةَ جَمِيعًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى الزُّهْرِيِّ، فَرَوَاهُ عَنْهُ مَالِكٌ، وَحُفَّاظُ أَصْحَابِهِ كَمَا هُنَا، وَاقْتَصَرَ بَعْضُهُمْ عَنْهُ عَلَى أَحَدِ الرَّجُلَيْنِ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ عَنْهُ: عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ بَدَلَهُمَا. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، فَقَالَ: الْأَعْرَجُ بَدَلَ الْأَغَرِّ، فَصَحَّفَهُ.

وَقِيلَ: عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ بَدَلَ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَهُوَ وَهَمٌ، وَالْأَغَرُّ الْمَذْكُورُ لَقَبٌ، وَاسْمُهُ سَلْمَانُ، وَيُكَنَّى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ مَدَنِيٌّ، وَلَهُمْ رَاوٍ آخَرُ يُقَالُ لَهُ: الْأَغَرُّ أَيْضًا، لَكِنَّهُ اسْمُهُ وَكُنْيَتُهُ أَبُو مُسْلِمٍ، وَهُوَ كُوفِيٌّ. وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طَرِيقِهِ أَيْضًا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ عَنْهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ جَمِيعًا مَرْفُوعًا، وَغَلِطَ مَنْ جَعَلَهُمَا وَاحِدًا. وَرَوَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا سَعِيدُ بْنُ مُرْجَانَةَ، وَأَبُو صَالِحٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَسَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ، وَعَطَاءٌ مَوْلَى أُمِّ صُبْيَةَ بِالْمُهْمَلَةِ مُصَغَّرًا، وَأَبُو جَعْفَرٍ الْمَدَنِيُّ، وَنَافِعُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ كُلُّهُمْ عِنْدَ النَّسَائِيِّ. وَفِي الْبَابِ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، وَعَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ،

ص: 29

وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَرِفَاعَةَ الْجُهَنِيِّ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَأَبِي الْخَطَّابِ غَيْرِ مَنْسُوبٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَجَابِرٍ وَجَدِّ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ سَلَمَةَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ، وَسَأَذْكُرُ مَا فِي رِوَايَاتِهِمْ مِنْ فَائِدَةٍ زَائِدَةٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْأَغَرِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَغَرُّ صَاحِبُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُمَا.

قَوْلُهُ: (يَنْزِلُ رَبُّنَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا) اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ أَثْبَتَ الْجِهَةَ، وَقَالَ: هِيَ جِهَةُ الْعُلُوِّ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْجُمْهُورُ

(1)

؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِذَلِكَ يُفْضِي إِلَى التَّحَيُّزِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى النُّزُولِ عَلَى أَقْوَالٍ: فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَحَقِيقَتِهِ، وَهُمُ الْمُشَبِّهَةُ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ صِحَّةَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ جُمْلَةً، وَهُمُ الْخَوَارِجُ، وَالْمُعْتَزِلَةُ، وَهُوَ مُكَابَرَةٌ، وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ أَوَّلُوا مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَأَنْكَرُوا مَا فِي الْحَدِيثِ، إِمَّا جَهْلًا، وَإِمَّا عِنَادًا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَاهُ عَلَى مَا وَرَدَ مُؤْمِنًا بِهِ عَلَى طَرِيقِ الْإِجْمَالِ مُنَزِّهًا اللَّهَ تَعَالَى عَنِ الْكَيْفِيَّةِ وَالتَّشْبِيهِ، وَهُمْ جُمْهُورُ السَّلَفِ، وَنَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَالسُّفْيَانَيْنِ، وَالْحَمَّادَيْنِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَغَيْرِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَوَّلَهُ عَلَى وَجْهٍ يَلِيقُ، مُسْتَعْمَلٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَفْرَطَ فِي التَّأْوِيلِ، حَتَّى كَادَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى نَوْعٍ مِنَ التَّحْرِيفِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ مَا يَكُونُ تَأْوِيلُهُ قَرِيبًا مُسْتَعْمَلًا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَبَيْنَ مَا يَكُونُ بَعِيدًا مَهْجُورًا، فَأَوَّلَ فِي بَعْضٍ، وَفَوَّضَ فِي بَعْضٍ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ مَالِكٍ، وَجَزَمَ بِهِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَأَسْلَمُهَا الْإِيمَانُ بِلَا كَيْفٍ، وَالسُّكُوتُ عَنِ الْمُرَادِ إِلَّا أَنْ يَرِدَ ذَلِكَ عَنِ الصَّادِقِ، فَيُصَارُ إِلَيْهِ. مِنَ الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى أَنَّ التَّأْوِيلَ الْمُعَيَّنَ غَيْرُ وَاجِبٍ، فَحِينَئِذٍ التَّفْوِيضُ أَسْلَمُ.

وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَسْطٍ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: حُكِيَ عَنِ الْمُبْتَدِعَةِ رَدُّ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، وَعَنِ السَّلَفِ إِمْرَارُهَا، وَعَنْ قَوْمٍ تَأْوِيلُهَا، وَبِهِ أَقُولُ

(2)

، فَأَمَّا قَوْلُهُ: يَنْزِلُ فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى أَفْعَالِهِ لَا إِلَى ذَاتِهِ، بَلْ ذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ مُلْكِهِ الَّذِي يَنْزِلُ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَالنُّزُولُ كَمَا يَكُونُ فِي الْأَجْسَامِ يَكُونُ فِي الْمَعَانِي، فَإِنْ حَمَلْتَهُ فِي الْحَدِيثِ عَلَى الْحِسِّيِّ فَتِلْكَ صِفَةُ الْمَلَكِ الْمَبْعُوثِ بِذَلِكَ، وَإِنْ حَمَلْتَهُ عَلَى الْمَعْنَوِيِّ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ثُمَّ فَعَلَ، فَيُسَمَّى ذَلِكَ نُزُولًا عَنْ مَرْتَبَةٍ إِلَى مَرْتَبَةٍ، فَهِيَ عَرَبِيَّةٌ صَحِيحَةٌ. انْتَهَى. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ تَأَوَّلَهُ بِوَجْهَيْنِ: إِمَّا بِأَنَّ الْمَعْنَى يَنْزِلُ أَمْرُهُ أَوِ الْمَلَكُ بِأَمْرِهِ، وَإِمَّا بِأَنَّهُ اسْتِعَارَةٌ بِمَعْنَى التَّلَطُّفِ بِالدَّاعِينَ وَالْإِجَابَةِ لَهُمْ وَنَحْوِهِ. وَقَدْ حَكَى أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكَ أَنَّ بَعْضَ الْمَشَايِخِ ضَبَطَهُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى حَذْفِ الْمَفْعُولِ، أَيْ: يُنْزِلُ مَلَكًا، وَيُقَوِّيهِ مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْأَغَرِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ بِلَفْظِ: إِنَّ اللَّهَ يُمْهِلُ، حَتَّى يَمْضِيَ شَطْرُ اللَّيْلِ، ثُمَّ يَأْمُرُ مُنَادِيًا يَقُولُ: هَلْ مِنْ دَاعٍ فَيُسْتَجَابُ لَهُ. الْحَدِيثَ. وَفِي حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ: يُنَادِي مُنَادٍ: هَلْ مِنْ دَاعٍ يُسْتَجَابُ لَهُ. الْحَدِيثَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَبِهَذَا يَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ، وَلَا يُعَكِّرُ عَلَيْهِ مَا فِي رِوَايَةِ رِفَاعَةَ الْجُهَنِيِّ: يَنْزِلُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ:

(1)

مراده بالجمهور جمهور أهل الكلام، وأما أهل السنة -وهم الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان- فإنهم يثبتون لله الجهة، وهي جهة العلو، ويؤمنون بأنه سبحانه فوق العرش بلا تمثيل ولا تكييف. والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة أكثر من أن تحصر؛ فتنبه واحذر. والله أعلم.

(2)

هذا خطأ ظاهر مصادم لصريح النصوص الواردة بإثبات النزول، وهكذا ما قاله البيضاوي بعده باطل، والصواب ما قاله السلف الصالح من الإيمان بالنزول وإمرار النصوص كما وردت من إثبات النزول لله سبحانه على الوجه الذي يليق به من غير تكييف ولا تمثيل كسائر صفاته. وهذا هو الطريق الأسلم والأقوم والأعلم والأحكم، فتمسك به، وعض عليه بالنواجذ، واحذر ما خالفه تفز بالسلامة. والله أعلم.

ص: 30

لَا أَسْأَلُ عَنْ عِبَادِي غَيْرِي؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدْفَعُ التَّأْوِيلَ الْمَذْكُورَ.

وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَلَمَّا ثَبَتَ بِالْقَوَاطِعِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْجِسْمِيَّةِ وَالتَّحَيُّزِ امْتَنَعَ عَلَيْهِ النُّزُولُ عَلَى مَعْنَى الِانْتِقَالِ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ أَخْفَضَ مِنْهُ، فَالْمُرَادُ نُورُ رَحْمَتِهِ، أَيْ: يَنْتَقِلُ مِنْ مُقْتَضَى صِفَةِ الْجَلَالِ الَّتِي تَقْتَضِي الْغَضَبَ وَالِانْتِقَامَ إِلَى مُقْتَضَى صِفَةِ الْإِكْرَامِ الَّتِي تَقْتَضِي الرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ.

قَوْلُهُ: (حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ) بِرَفْعِ الْآخِرِ؛ لِأَنَّهُ صِفَةُ الثُّلُثِ، وَلَمْ تَخْتَلِفِ الرِّوَايَاتُ عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي تَعْيِينِ الْوَقْتِ، وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: رِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَصَحُّ الرِّوَايَاتِ فِي ذَلِكَ، وَيُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّ الرِّوَايَاتِ الْمُخَالِفَةَ اخْتُلِفَ فِيهَا عَلَى رُوَاتِهَا، وَسَلَكَ بَعْضُهُمْ طَرِيقَ الْجَمْعِ، وَذَلِكَ أَنَّ الرِّوَايَاتِ انْحَصَرَتْ فِي سِتَّةِ أَشْيَاءَ: أَوَّلُهَا هَذِهِ، ثَانِيهَا: إِذَا مَضَى الثُّلُثُ الْأَوَّلُ، ثَالِثُهَا: الثُّلُثُ الْأَوَّلُ أَوِ النِّصْفُ، رَابِعُهَا: النِّصْفُ، خَامِسُهَا: النِّصْفُ أَوِ الثُّلُثُ الْأَخِيرُ، سَادِسُهَا: الْإِطْلَاقُ. فَأَمَّا الرِّوَايَاتُ الْمُطْلَقَةُ، فَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمُقَيَّدَةِ، وَأَمَّا الَّتِي بِأَوْ، فَإِنْ كَانَتْ أَوْ لِلشَّكِّ فَالْمَجْزُومُ بِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَشْكُوكِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَتْ لِلتَّرَدُّدِ بَيْنَ حَالَيْنِ فَيُجْمَعُ بِذَلِكَ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ، بِأَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، لِكَوْنِ أَوْقَاتِ اللَّيْلِ تَخْتَلِفُ فِي الزَّمَانِ وَفِي الْآفَاقِ بِاخْتِلَافِ تَقَدُّمِ دُخُولِ اللَّيْلِ عِنْدَ قَوْمٍ، وَتَأَخُّرِهِ عِنْدَ قَوْمٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النُّزُولُ يَقَعُ فِي الثُّلُثِ الْأَوَّلِ، وَالْقَوْلُ يَقَعُ فِي النِّصْفِ وَفِي الثُّلُثِ الثَّانِي.

وَقِيلَ: يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي وَرَدَتْ بِهَا الْأَخْبَارُ، وَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُعْلِمَ بِأَحَدِ الْأُمُورِ فِي وَقْتٍ فَأَخْبَرَ بِهِ، ثُمَّ أُعْلِمَ بِهِ فِي وَقْتٍ آخَرَ فَأَخْبَرَ بِهِ، فَنَقَلَ الصَّحَابَةُ ذَلِكَ عَنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (مَنْ يَدْعُونِي. . إِلَخْ) لَمْ تَخْتَلِفِ الرِّوَايَاتُ عَلَى الزُّهْرِيِّ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَهِيَ الدُّعَاءُ وَالسُّؤَالُ وَالِاسْتِغْفَارُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ إِمَّا لِدَفْعِ الْمَضَارِّ أَوْ جَلْبِ الْمَسَارِّ، وَذَلِكَ إِمَّا دِينِيٌّ وَإِمَّا دُنْيَوِيٌّ، فَفِي الِاسْتِغْفَارِ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَوَّلِ، وَفِي السُّؤَالِ إِشَارَةٌ إِلَى الثَّانِي، وَفِي الدُّعَاءِ إِشَارَةٌ إِلَى الثَّالِثِ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: الدُّعَاءُ مَا لَا طَلَبَ فِيهِ؛ نَحْوَ: يَا اللَّهُ. وَالسُّؤَالُ الطَّلَبُ، وَأَنْ يُقَالَ: الْمَقْصُودُ وَاحِدٌ وَإِنِ اخْتَلَفَ اللَّفْظُ. انْتَهَى. وَزَادَ سَعِيدٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَأَتُوبَ عَلَيْهِ. وَزَادَ أَبُو جَعْفَرٍ عَنْهُ: مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَرْزِقُنِي فَأَرْزُقَهُ، مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَكْشِفُ الضُّرَّ فَأَكْشِفَ عَنْهُ. وَزَادَ عَطَاءٌ مَوْلَى أُمِّ صُبْيَةَ عَنْهُ: أَلَا سَقِيمٌ يَسْتَشْفِي فَيُشْفَى وَمَعَانِيهَا دَاخِلَةٌ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَزَادَ سَعِيدُ بْنُ مُرْجَانَةَ عَنْهُ: مَنْ يُقْرِضُ غَيْرَ عَدِيمٍ وَلَا ظَلُومٍ. وَفِيهِ تَحْرِيضٌ عَلَى عَمَلِ الطَّاعَةِ، وَإِشَارَةٌ إِلَى جَزِيلِ الثَّوَابِ عَلَيْهَا. وَزَادَ حَجَّاجُ بْنُ أَبِي مَنِيعٍ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: حَتَّى الْفَجْرِ. وَفِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: حَتَّى يَنْفَجِرَ الْفَجْرُ. وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ: حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ. وَكَذَا اتَّفَقَ مُعْظَمُ الرُّوَاةِ عَلَى ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّ فِي رِوَايَةِ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ: حَتَّى تَرْجَلَ الشَّمْسُ. وَهِيَ شَاذَّةٌ.

وَزَادَ يُونُسُ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي آخِرِهِ أَيْضًا: وَلِذَلِكَ كَانُوا يُفَضِّلُونَ صَلَاةَ آخِرِ اللَّيْلِ عَلَى أَوَّلِهِ أَخْرَجَهَا الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا. وَلَهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ سَمْعَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ مَا يُشِيرُ إِلَى أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ هُوَ الزُّهْرِيُّ. وَبِهَذِهِ الزِّيَادَةِ تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ ذِكْرِ الصَّلَاةِ فِي التَّرْجَمَةِ وَمُنَاسَبَةُ التَّرْجَمَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ لِهَذِهِ.

قَوْلُهُ: (فَأَسْتَجِيبَ) بِالنَّصْبِ عَلَى جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ وَبِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَكَذَا قَوْلُهُ:(فَأُعْطِيَهُ، وَأَغْفِرَ لَهُ) وَقَدْ قُرِئَ بِهِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} الْآيَةَ. وَلَيْسَتِ السِّينُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَأَسْتَجِيبَ) لِلطَّلَبِ، بَلْ أَسْتَجِيبُ بِمَعْنَى أُجِيبُ، وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنَ الْفَوَائِدِ: تَفْضِيلُ صَلَاةِ آخِرِ اللَّيْلِ عَلَى أَوَّلِهِ، وَتَفْضِيلُ تَأْخِيرِ الْوِتْرِ؛ لَكِنْ ذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ طَمِعَ أَنْ يَنْتَبِهَ، وَأَنَّ آخِرَ اللَّيْلِ أَفْضَلُ لِلدُّعَاءِ

ص: 31

وَالِاسْتِغْفَارِ، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} وَأَنَّ الدُّعَاءَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مُجَابٌ، وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَى ذَلِكَ بِتَخَلُّفِهِ عَنْ بَعْضِ الدَّاعِينَ؛ لِأَنَّ سَبَبَ التَّخَلُّفِ وُقُوعُ الْخَلَلِ فِي شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الدُّعَاءِ، كَالِاحْتِرَازِ فِي الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَلْبَسِ، أَوْ لِاسْتِعْجَالِ الدَّاعِي، أَوْ بِأَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ بِإِثْمٍ، أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، أَوْ تَحْصُلَ الْإِجَابَةُ وَيَتَأَخَّرَ وُجُودُ الْمَطْلُوبِ لِمَصْلَحَةِ الْعَبْدِ، أَوْ لِأَمْرٍ يُرِيدُهُ اللَّهُ.

‌15 - باب مَنْ نَامَ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَأَحْيَا آخِرَهُ

وَقَالَ سَلْمَانُ، لِأَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنهما: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ: قُمْ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: صَدَقَ سَلْمَانُ.

1146 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، وَحَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ الْأَسْوَدِ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها: كَيْفَ كَانَتْ صَلَاةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِاللَّيْلِ؟ قَالَتْ: كَانَ يَنَامُ أَوَّلَهُ وَيَقُومُ آخِرَهُ فَيُصَلِّي، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى فِرَاشِهِ، فَإِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ وَثَبَ، فَإِنْ كَانَ بِهِ حَاجَةٌ اغْتَسَلَ وَإِلَّا تَوَضَّأَ وَخَرَجَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ نَامَ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَأَحْيَا آخِرَهُ) تَقَدَّمَ فِي الَّذِي قَبْلَهُ ذِكْرُ مُنَاسَبَتِهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ سَلْمَانُ)؛ أَيِ: الْفَارِسِيُّ (لِأَبِي الدَّرْدَاءِ نَمْ. . إِلَخْ) هُوَ مُخْتَصَرٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ، قَالَ: آخَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ سَلْمَانَ وَبَيْنَ أَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ، أَبَا الدَّرْدَاءِ. فَذَكَرَ الْقِصَّةَ، وَفِي آخِرِهَا: فَقَالَ: إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا. الْحَدِيثَ. وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: صَدَقَ سَلْمَانُ؛ أَيْ: فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرَ، وَفِيهِ مَنْقَبَةٌ ظَاهِرَةٌ لِسَلْمَانَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ: قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ. وَقَدْ وَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنْ أَبِي خَلِيفَةَ، عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ، وَتَبَيَّنَ مِنْ سِيَاقِهِ أَنَّ الْبُخَارِيَّ سَاقَ الْحَدِيثَ عَلَى لَفْظِ سُلَيْمَانَ، وَهُوَ ابْنُ حَرْبٍ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي خَلِيفَةَ: فَإِذَا كَانَ مِنَ السَّحَرِ أَوْتَرَ. وَزَادَ فِيهِ: فَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ إِلَى أَهْلِهِ. وَقَالَ فِيهِ: فَإِنْ كَانَ جُنُبًا أَفَاضَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَاءِ وَإِلَّا تَوَضَّأَ. وَبِمَعْنَاهُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ زُهَيْرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ يَغْلَطُ فِي مَعْنَاهُ الْأَسْوَدُ، وَالْأَخْبَارُ الْجِيَادُ فِيهَا: كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهُوَ جُنُبٌ تَوَضَّأَ. قُلْتُ: لَمْ يُرِدِ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِهَذَا أَنَّ حَدِيثَ الْبَابِ غَلَطٌ، وَإِنَّمَا أَشَارَ إِلَى أَنَّ أَبَا إِسْحَاقَ حَدَّثَ بِهِ عَنِ الْأَسْوَدِ بِلَفْظٍ آخَرَ غَلِطَ فِيهِ، وَالَّذِي أَنْكَرَهُ الْحُفَّاظُ عَلَى أَبِي إِسْحَاقَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ هُوَ مَا رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ عَنْهُ بِلَفْظِ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنَامُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّ مَاءً. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: يَرَوْنَ هَذَا غَلَطًا مِنْ أَبِي إِسْحَاقَ، وَكَذَا قَالَ مُسْلِمٌ فِي التَّمْيِيزِ، وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْعَبْدِ عَنْهُ: لَيْسَ بِصَحِيحٍ. ثُمَّ رُوِيَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ وَهَمٌ. . انْتَهَى.

وَأَظُنُّ أَبَا إِسْحَاقَ اخْتَصَرَهُ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ هَذَا الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ شُعْبَةُ، وَزُهَيْرٌ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِهَا: فَإِذَا كَانَ جُنُبًا أَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ أَنْ لَا يَكُونَ تَوَضَّأَ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَخْبَارُ الْأُخَرُ، فَمِنْ ثَمَّ غَلَّطُوهُ فِي ذَلِكَ، وَيُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ رُبَّمَا نَامَ جُنُبًا قَبْلَ أَنْ يَغْتَسِلَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَاقِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ قَرِيبًا.

وَقَوْلُهُ فِيهِ: فَإِنْ كَانَتْ بِهِ حَاجَةٌ اغْتَسَلَ. يُعَكِّرُ عَلَيْهِ مَا فِي

ص: 32

رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: أَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ. وَمَا قَالَتِ اغْتَسَلَ، وَيُجَابُ بِأَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ ذَكَرَهُ بِالْمَعْنَى، وَحَافَظَ بَعْضُهُمْ عَلَى اللَّفْظِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌16 - بَاب قِيَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِاللَّيْلِ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ

1147 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رضي الله عنها: كَيْفَ كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ؟ فَقَالَتْ: مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلَا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ؟ فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي.

1148 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ هِشَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي شَيْءٍ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ جَالِسًا حَتَّى إِذَا كَبِرَ قَرَأَ جَالِسًا، فَإِذَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ السُّورَةِ ثَلَاثُونَ أَوْ أَرْبَعُونَ آيَةً قَامَ فَقَرَأَهُنَّ، ثُمَّ رَكَعَ.

[الحديث 1147 _ طرفاه في: 3569، 2013]

قَوْلُهُ: (بَابُ قِيَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِاللَّيْلِ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ) سَقَطَ قَوْلُهُ: بِاللَّيْلِ مِنَ الصَّغَانِيِّ. ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي سَلَمَةَ، أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ: كَيْفَ كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي بَابِ كَيْفَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِاللَّيْلِ. وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ صَلَاتَهُ كَانَتْ مُتَسَاوِيَةً فِي جَمِيعِ السَّنَةِ، وَفِيهِ كَرَاهَةُ النَّوْمِ قَبْلَ الْوِتْرِ لِاسْتِفْهَامِ عَائِشَةَ عَنْ ذَلِكَ، كَأَنَّهُ تَقَرَّرَ عِنْدَهَا مَنْعُ ذَلِكَ، فَأَجَابَهَا بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ فِي ذَلِكَ كَغَيْرِهِ، وَسَيَأْتِي هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ فِي أَوَاخِرِ الصِّيَامِ أَيْضًا، وَنَذْكُرُ فِيهِ -، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - مَا بَقِيَ مِنْ فَوَائِدِهِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ هِشَامٍ) هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى إِذَا كَبِرَ) بَيَّنَتْ حَفْصَةُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِعَامٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ مَعَ كَثِيرٍ مِنْ فَوَائِدِهِ فِي آخِرِ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ التَّقْصِيرِ.

قَوْلُهُ: (فَإِذَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنَ السُّورَةِ ثَلَاثِونَ أَوْ أَرْبَعُونَ آيَةً قَامَ فَقَرَأَهُنَّ ثُمَّ رَكَعَ) فِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنِ اشْتَرَطَ عَلَى مَنِ افْتَتَحَ النَّافِلَةَ قَاعِدًا أَنْ يَرْكَعَ قَاعِدًا، أَوْ قَائِمًا أَنْ يَرْكَعَ قَائِمًا، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَشْهَبَ وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْحُجَّةُ فِيهِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ عَائِشَةَ فِي سُؤَالِهِ لَهَا عَنْ صَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَفِيهِ: كَانَ إِذَا قَرَأَ قَائِمًا رَكَعَ قَائِمًا، وَإِذَا قَرَأَ قَاعِدًا رَكَعَ قَاعِدًا، وَهَذَا صَحِيحٌ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ مَنْعُ مَا رَوَاهُ عُرْوَةُ عَنْهَا، فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ كُلًّا مِنْ ذَلِكَ بِحَسَبِ النَّشَاطِ وَعَدَمِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ أَنْكَرَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ هَذِهِ الرِّوَايَةَ، وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ عَنْ أَبِيهِ، أَخْرَجَ ذَلِكَ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَا مُخَالَفَةَ عِنْدِي بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ؛ لِأَنَّ رِوَايَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا إِذَا قَرَأَ جَمِيعَ الْقِرَاءَةِ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا، وَرِوَايَةَ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا إِذَا قَرَأَ بَعْضَهَا جَالِسًا وَبَعْضَهَا قَائِمًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌17 - بَاب فَضْلِ الطُّهُورِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَفَضْلِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْوُضُوءِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ

ص: 33

1149 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ أَبِي حَيَّانَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِبِلَالٍ عِنْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ: يَا بِلَالُ، حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ: مَا عَمِلْتُ عَمَلًا أَرْجَى عِنْدِي أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ طَهُورًا فِي سَاعَةِ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ إِلَّا صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لِي أَنْ أُصَلِّيَ. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: دَفَّ نَعْلَيْكَ: يَعْنِي: تَحْرِيكَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ الطُّهُورِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَفَضْلِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الطُّهُورِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) كَذَا ثَبَتَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَلِغَيْرِهِ: بَعْدَ الْوُضُوءِ. وَاقْتَصَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى الشِّقِّ الثَّانِي مِنَ التَّرْجَمَةِ، وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَأَكْثَرُ الشُّرَّاحِ، وَالشِّقُّ الْأَوَّلُ لَيْسَ بِظَاهِرٍ فِي حَدِيثِ الْبَابِ إِلَّا إِنْ حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي حَيَّانَ) هُوَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ التَّيْمِيُّ وَصَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَأَبُو زُرْعَةَ هُوَ ابْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجْلِيُّ.

قَوْلُهُ: (قَالَ لِبِلَالٍ)؛ أَيِ: ابْنِ رَبَاحٍ الْمُؤَذِّنِ، وَقَوْلُهُ: عِنْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ فِي الْمَنَامِ؛ لِأَنَّ عَادَتَهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَقُصُّ مَا رَآهُ وَيَعْبُرُ مَا رَآهُ أَصْحَابُهُ، كَمَا سَيَأْتِي فِي كِتَابِ التَّعْبِيرِ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ.

قَوْلُهُ: (بِأَرْجَى عَمَلٍ) بِلَفْظِ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ الْمَبْنِيِّ مِنَ الْمَفْعُولِ، وَإِضَافَةُ الْعَمَلِ إِلَى الرَّجَاءِ؛ لِأَنَّهُ السَّبَبُ الدَّاعِي إِلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (فِي الْإِسْلَامِ) زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ: مَنْفَعَةً عِنْدَكَ.

قَوْلُهُ: (أَنِّي) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَمِنْ مُقَدَّرَةٌ قَبْلَهَا صِلَةٌ لِأَفْعَلِ التَّفْضِيلِ، وَثَبَتَتْ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَنْ بِنُونٍ خَفِيفَةٍ بَدَلَ: أَنِّي.

قَوْلُهُ: (فَإِنِّي سَمِعْتُ) زَادَ مُسْلِمٌ: اللَّيْلَةَ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ فِي الْمَنَامِ.

قَوْلُهُ: (دَفَّ نَعْلَيْكَ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ، وَضَبَطَهَا الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ بِالْإِعْجَامِ وَالْفَاءُ مُثَقَّلَةٌ، وَقَدْ فَسَّرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ بِالتَّحْرِيكِ، وَقَالَ الْخَلِيلُ: دَفَّ الطَّائِرُ إِذَا حَرَّكَ جَنَاحَيْهِ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى رِجْلَيْهِ، وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ: الدَّفُّ الْحَرَكَةُ الْخَفِيفَةُ وَالسَّيْرُ اللَّيِّنُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: خَشْفَ بِفَتْحِ الْخَاءِ، وَسُكُونِ الشِّينِ الْمُعْجَمَتَيْنِ، وَتَخْفِيفِ الْفَاءِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ: الْخَشْفُ الْحَرَكَةُ الْخَفِيفَةُ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا سَيَأْتِي فِي أَوَّلِ مَنَاقِبِ عُمَرَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ: سَمِعْتُ خَشْفَةً. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِمَا: خَشْخَشَةَ بِمُعْجَمَتَيْنِ مُكَرَّرَتَيْنِ وَهُوَ بِمَعْنَى الْحَرَكَةِ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (طَهُورًا) زَادَ مُسْلِمٌ تَامًّا، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا مَفْهُومَ لَهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَخْرُجَ بِذَلِكَ الْوُضُوءُ اللُّغَوِيُّ، فَقَدْ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِطَرْدِ النَّوْمِ مَثَلًا.

قَوْلُهُ: (فِي سَاعَةٍ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ) بِتَنْوِينِ سَاعَةٍ وَخَفْضِ لَيْلٍ عَلَى الْبَدَلِ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: فِي سَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ.

قَوْلُهُ: (إِلَّا صَلَّيْتُ) زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: لِرَبِّي.

قَوْلُهُ: (مَا كُتِبَ لِي) أَيْ قُدِّرَ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْفَرِيضَةِ وَالنَّافِلَةِ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: إِنَّمَا اعْتَقَدَ بِلَالٌ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ، وَأَنَّ عَمَلَ السِّرِّ أَفْضَلُ مِنْ عَمَلِ الْجَهْرِ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَنْدَفِعُ إِيرَادُ مَنْ أَوْرَدَ عَلَيْهِ غَيْرَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَعْمَالِ الَّتِي سَأَلَهُ عَنْ إِرْجَائِهَا: الْأَعْمَالُ الْمُتَطَوَّعُ بِهَا، وَإِلَّا فَالْمَفْرُوضَةُ أَفْضَلُ قَطْعًا. وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ جَوَازُ الِاجْتِهَادِ فِي تَوْقِيتِ الْعِبَادَةِ؛ لِأَنَّ بِلَالًا تَوَصَّلَ إِلَى مَا ذَكَرْنَا بِالِاسْتِنْبَاطِ، فَصَوَّبَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فِيهِ الْحَثُّ عَلَى الصَّلَاةِ عَقِبَ الْوُضُوءِ لِئَلَّا يَبْقَى الْوُضُوءُ خَالِيًا عَنْ مَقْصُودِهِ. وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: فِيهِ أَنَّ اللَّهَ يُعَظِّمُ الْمُجَازَاةَ عَلَى مَا يَسُرُّهُ الْعَبْدُ مِنْ عَمَلِهِ. وَفِيهِ سُؤَالُ الصَّالِحِينَ عَمَّا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لِيَقْتَدِيَ بِهَا غَيْرُهُمْ فِي ذَلِكَ. وَفِيهِ أَيْضًا سُؤَالُ الشَّيْخِ عَنْ عَمَلِ تِلْمِيذِهِ لِيَحُضَّهُ عَلَيْهِ، وَيُرَغِّبَهُ فِيهِ إِنْ كَانَ حَسَنًا، وَإِلَّا فَيَنْهَاهُ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ

ص: 34

هَذِهِ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: فِي كُلِّ سَاعَةٍ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْأَخْذَ بِعُمُومِهِ لَيْسَ بِأَوْلَى مِنَ الْأَخْذِ بِعُمُومِ النَّهْيِ.

وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي الْفَوْرِيَّةَ، فَيُحْمَلُ عَلَى تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ قَلِيلًا لِيَخْرُجَ وَقْتُ الْكَرَاهَةِ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ يُؤَخِّرُ الطُّهُورَ إِلَى آخِرِ وَقْتِ الْكَرَاهَةِ لِتَقَعَ صَلَاتُهُ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْكَرَاهَةِ، لَكِنْ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ فِي نَحْوِ هَذِهِ الْقِصَّةِ: مَا أَصَابَنِي حَدَثٌ قَطُّ إِلَّا تَوَضَّأْتُ عِنْدَهَا. وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِهِ: مَا أَحْدَثْتُ إِلَّا تَوَضَّأْتُ وَصَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُعْقِبُ الْحَدَثَ بِالْوُضُوءِ، وَالْوُضُوءُ بِالصَّلَاةِ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ السَّمَاعَ الْمَذْكُورَ وَقَعَ فِي النَّوْمِ؛ لِأَنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ إِلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْيَقِظَةِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَهَا لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ. وَأَمَّا بِلَالٌ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّهُ دَخَلَهَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فِي الْجَنَّةِ ظَرْفٌ لِلسَّمَاعِ، وَيَكُونُ الدَّفُّ بَيْنَ يَدَيْهِ خَارِجًا عَنْهَا. انْتَهَى.

وَلَا يَخْفَى بُعْدُ هَذَا الِاحْتِمَالِ؛ لِأَنَّ السِّيَاقَ مُشْعِرٌ بِإِثْبَاتِ فَضِيلَةِ بِلَالٍ، لِكَوْنِهِ جَعَلَ السَّبَبَ الَّذِي بَلَغَهُ إِلَى ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ مُلَازَمَةِ التَّطَهُّرِ وَالصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَتْ لَهُ الْفَضِيلَةُ بِأَنْ يَكُونَ رُئِيَ دَاخِلَ الْجَنَّةِ لَا خَارِجًا عَنْهَا، وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ الْمَذْكُورِ: يَا بِلَالُ، بِمَ سَبَقْتَنِي إِلَى الْجَنَّةِ؟ وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي كَوْنِهِ رَآهُ دَاخِلَ الْجَنَّةِ، وَيُؤَيِّدُ كَوْنَهُ وَقَعَ فِي الْمَنَامِ مَا سَيَأْتِي فِي أَوَّلِ مَنَاقِبِ عُمَرَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: رَأَيْتُنِي دَخَلْتُ الْجَنَّةَ، فَسَمِعْتُ خَشَفَةً، فَقِيلَ: هَذَا بِلَالٌ، وَرَأَيْتُ قَصْرًا بِفِنَائِهِ جَارِيَةٌ، فَقِيلَ: هَذَا لِعُمَرَ. الْحَدِيثَ، وَبَعْدَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي فِي الْجَنَّةِ، فَإِذَا امْرَأَةٌ تَتَوَضَّأُ إِلَى جَانِبِ قَصْرٍ، فَقِيلَ: هَذَا لِعُمَرَ. الْحَدِيثَ، فَعُرِفَ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ فِي الْمَنَامِ، وَثَبَتَتِ الْفَضِيلَةُ بِذَلِكَ لِبِلَالٍ؛ لِأَنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ، وَلِذَلِكَ جَزَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَهُ بِذَلِكَ. وَمَشْيُهُ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ مِنْ عَادَتِهِ فِي الْيَقِظَةِ، فَاتَّفَقَ مِثْلُهُ فِي الْمَنَامِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ دُخُولُ بِلَالٍ الْجَنَّةَ قَبْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّهُ فِي مَقَامِ التَّابِعِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ صلى الله عليه وسلم إِلَى بَقَاءِ بِلَالٍ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، وَاسْتِمْرَارِهِ عَلَى قُرْبِ مَنْزِلَتِهِ، وَفِيهِ مَنْقَبَةٌ عَظِيمَةٌ لِبِلَالٍ.

وَفِي الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُ إِدَامَةِ الطَّهَارَةِ، وَمُنَاسَبَةُ الْمُجَازَاةِ عَلَى ذَلِكَ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ؛ لِأَنَّ مِنْ لَازِمِ الدَّوَامِ عَلَى الطَّهَارَةِ أَنْ يَبِيتَ الْمَرْءُ طَاهِرًا، وَمَنْ بَاتَ طَاهِرًا عَرَجَتْ رُوحُهُ فَسَجَدَتْ تَحْتَ الْعَرْشِ، كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَالْعَرْشُ سَقْفُ الْجَنَّةِ كَمَا سَيَأْتِي فِي هَذَا الْكِتَابِ. وَزَادَ بُرَيْدَةُ فِي آخِرِ حَدِيثِهِ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا. وَظَاهِرُهُ أَنَّ هَذَا الثَّوَابَ وَقَعَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: لَا يُدْخِلُ أَحَدَكُمُ الْجَنَّةَ عَمَلُهُ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْأَجْوِبَةِ الْمَشْهُورَةِ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أَنَّ أَصْلَ الدُّخُولِ إِنَّمَا يَقَعُ بِرَحْمَةِ اللَّهِ، وَاقْتِسَامِ الدَّرَجَاتِ بِحَسَبِ الْأَعْمَالِ، فَيَأْتِي مِثْلُهُ فِي هَذَا

(1)

. وَفِيهِ: أَنَّ الْجَنَّةَ مَوْجُودَةٌ الْآنَ خِلَافًا لِمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ.

(تَنْبِيهٌ): قَوْلُ الْكِرْمَانِيُّ: لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ الْجَنَّةَ إِلَّا بَعْدَ مَوْتِهِ، مَعَ قَوْلِهِ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَهَا لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ، وَكَانَ الْمِعْرَاجُ فِي الْيَقِظَةِ عَلَى الصَّحِيحِ، ظَاهِرُهُمَا التَّنَاقُضُ، وَيُمْكِنُ حَمْلُ النَّفْيِ إِنْ كَانَ ثَابِتًا عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ يُخَصُّ فِي الدُّنْيَا بِمَنْ خَرَجَ عَنْ عَالَمِ الدُّنْيَا، وَدَخَلَ فِي عَالَمَ الْمَلَكُوتِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا أَجَابَ بِهِ السُّهَيْلِيُّ عَنِ اسْتِعْمَالِ طَسْتِ الذَّهَبِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ.

(1)

وأحسن من هذا الجواب أن الأعمال الصالحة هي سبب دخول الجنة، ودخولها يكون برحمة الله وفضله، لا بمجرد العمل كما في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لن يدخل الجنة أحد منكم بعمله، قالوا: ولا أنت يارسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل" انتهى.

ص: 35

‌18 - بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ التَّشْدِيدِ فِي الْعِبَادَةِ

1150 -

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ، فَقَالَ: مَا هَذَا الْحَبْلُ؟ قَالُوا: هَذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ، فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا، حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ.

1151 -

قال: وقال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ كَانَتْ عِنْدِي امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "مَنْ هَذِهِ قُلْتُ فُلَانَةُ لَا تَنَامُ بِاللَّيْلِ فَذُكِرَ مِنْ صَلَاتِهَا فَقَالَ مَهْ عَلَيْكُمْ مَا تُطِيقُونَ مِنْ الأَعْمَالِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا"

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّشْدِيدِ فِي الْعِبَادَةِ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِنَّمَا يُكْرَهُ ذَلِكَ خَشْيَةَ الْمَلَالِ الْمُفْضِي إِلَى تَرْكِ الْعِبَادَةِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ الْمَسْجِدَ.

قَوْلُهُ: (بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ) أَيِ اللَّتَيْنِ فِي جَانِبِ الْمَسْجِدِ، وَكَأَنَّهُمَا كَانَتَا مَعْهُودَتَيْنِ لِلْمُخَاطَبِ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: بَيْنَ سَارِيَتَيْنِ؛ بِالتَّنْكِيرِ.

قَوْلُهُ: (قَالُوا: هَذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ) جَزَمَ كَثِيرٌ مِنَ الشُّرَّاحِ تَبَعًا لِلْخَطِيبِ فِي مُبْهَمَاتِهِ بِأَنَّهَا بِنْتُ جَحْشٍ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَمْ أَرَ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ صَرِيحًا. وَوَقَعَ فِي شَرْحِ الشَّيْخِ سِرَاجِ الدِّينِ بْنِ الْمُلَقِّنِ أَنَّ ابْنَ أَبِي شَيْبَةَ رَوَاهُ كَذَلِكَ، لَكِنِّي لَمْ أَرَ فِي مُسْنَدِهِ وَمُصَنَّفِهِ زِيَادَةً عَلَى قَوْلِهِ: قَالُوا لِزَيْنَبَ. أَخْرَجَهُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْهُ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِهِ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ شَيْخَيْنِ لَهُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، فَقَالَ عَنْ أَحَدِهِمَا: زَيْنَبُ، وَلَمْ يَنْسُبْهَا، وَقَالَ عَنْ آخَرَ: حَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ، فَهَذِهِ قَرِينَةٌ فِي كَوْنِ زَيْنَبَ هِيَ بِنْتَ جَحْشٍ. وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّهَا حَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ أَيْضًا، فَلَعَلَّ نِسْبَةَ الْحَبْلِ إِلَيْهِمَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِلْكٌ لِإِحْدَاهُمَا وَالْأُخْرَى الْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ أَنَّ بَنَاتِ جَحْشٍ كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ تُدْعَى زَيْنَبُ فِيمَا قِيلَ، فَعَلَى هَذَا فَالْحَبْلُ لِحَمْنَةَ، وَأُطْلِقَ عَلَيْهَا زَيْنَبُ بِاعْتِبَارِ اسْمِهَا الْآخَرِ. وَوَقَعَ فِي صَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ: فَقَالُوا: لِمَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ تَعَدُّدُ الْقِصَّةِ، وَوَهِمَ مَنْ فَسَّرَهَا بِجُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ، فَإِنَّ لِتِلْكَ قِصَّةً أُخْرَى تَقَدَّمَتْ فِي أَوَائِلِ الْكِتَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَزَادَ مُسْلِمٌ: فَقَالُوا: لِزَيْنَبَ تُصَلِّي.

قَوْلُهُ: (فَإِذَا فَتَرَتْ) بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ أَيْ: كَسِلَتْ عَنِ الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِالشَّكِّ: فَإِذَا فَتَرَتْ أَوْ كَسِلَتْ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: لَا) يَحْتَمِلُ النَّفْيَ؛ أَيْ: لَا يَكُونُ هَذَا الْحَبْلُ، أَوْ لَا يُحْمَدُ، وَيَحْتَمِلُ النَّهْيَ؛ أَيْ: لَا تَفْعَلُوهُ، وَسَقَطَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ.

قَوْلُهُ: (نَشَاطُهُ) بِفَتْحِ النُّونِ؛ أَيْ: مُدَّةَ نَشَاطِهِ.

قَوْلُهُ: (فَلْيَقْعُدْ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَمَرًا بِالْقُعُودِ عَنِ الْقِيَامِ، فَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى جَوَازِ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ قَائِمًا وَالْقُعُودِ فِي أَثْنَائِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَقْلُ الْخِلَافِ فِيهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا بِالْقُعُودِ عَنِ الصَّلَاةِ؛ أَيْ: بِتَرْكِ مَا كَانَ عَزَمَ عَلَيْهِ مِنَ التَّنَفُّلِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ قَطْعِ النَّافِلَةِ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْوُضُوءِ مِنَ النَّوْمِ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ حَدِيثُ: إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَنَمْ حَتَّى يَعْلَمَ مَا يَقْرَأُ، وَهُوَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَيْضًا، وَلَعَلَّهُ طَرَفٌ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ. وَفِيهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ أَيْضًا: إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُصَلِّي

ص: 36

فَلْيَرْقُدْ، حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ وَفِيهِ: لِئَلَّا يَسْتَغْفِرَ فَيَسُبَّ نَفْسَهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ هَذَا أَوْ مَعْنَاهُ، وَيَجِيءُ مِنَ الِاحْتِمَالِ مَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ. وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى الِاقْتِصَادِ فِي الْعِبَادَةِ، وَالنَّهْيُ عَنِ التَّعَمُّقِ فِيهَا، وَالْأَمْرُ بِالْإِقْبَالِ عَلَيْهَا بِنَشَاطٍ، وَفِيهِ إِزَالَةُ الْمُنْكَرِ بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ، وَجَوَازُ تَنَفُّلِ النِّسَاءِ فِي الْمَسْجِدِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى كَرَاهَةِ التَّعَلُّقِ فِي الْحَبْلِ فِي الصَّلَاةِ، وَسَيَأْتِي مَا فِيهِ فِي بَابِ اسْتِعَانَةِ الْيَدِ فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ أَبْوَابِ التَّطَوُّعِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ) يَعْنِي: الْقَعْنَبِيَّ، كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَكَذَا رُوِّينَاهُ فِي الْمُوَطَّأِ رِوَايَةِ الْقَعْنَبِيِّ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: تَفَرَّدَ الْقَعْنَبِيُّ بِرِوَايَتِهِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ دُونَ بَقِيَّةِ رُوَاتِهِ، فَإِنَّهُمُ اقْتَصَرُوا مِنْهُ عَلَى طَرَفٍ مُخْتَصَرٍ.

قَوْلُهُ: (تَذْكُرُ) لِلْمُسْتَمْلِي بِفَتْحِ أَوَّلِهِ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ الْمُؤَنَّثِ، وَلِلْحَمَوِيِّ بِضَمِّهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ بِالتَّذْكِيرِ، ولِلكُشْمِيهَنِيِّ: فَذُكِرَ بِفَاءٍ، وَضَمِّ الْمُعْجَمَةِ، وَكَسْرِ الْكَافِ، وَلِكُلٍّ وَجْهٌ. وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ ذَلِكَ قَوْلُ عُرْوَةَ، أَوْ مَنْ دُونَهُ، وَعَلَى الثَّانِي وَالثَّالِثِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ عَائِشَةَ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ حَالٍ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهَا: لَا تَنَامُ اللَّيْلَ، وَوَصْفُهَا بِذَلِكَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، وَسُئِلَ الشَّافِعِيُّ عَنْ قِيَامِ جَمِيعِ اللَّيْلِ فَقَالَ: لَا أَكْرَهُهُ، إِلَّا لِمَنْ خَشِيَ أَنْ يَضُرَّ بِصَلَاةِ الصُّبْحِ. وَفِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي جَوَابِ ذَلِكَ: مَهْ إِشَارَةٌ إِلَى كَرَاهَةِ ذَلِكَ خَشْيَةَ الْفُتُورِ وَالْمَلَالِ عَلَى فَاعِلِهِ؛ لِئَلَّا يَنْقَطِعَ عَنْ عِبَادَةٍ الْتَزَمَهَا، فَيَكُونُ رُجُوعًا عَمَّا بَذَلَ لِرَبِّهِ مِنْ نَفْسِهِ.

وَقَوْلُهُ: (عَلَيْكُمْ مَا تُطِيقُونَ مِنَ الْأَعْمَالِ) هُوَ عَامٌّ فِي الصَّلَاةِ وَفِي غَيْرِهَا. وَوَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي الْإِيمَانِ بِدُونِ قَوْلِهِ: مِنَ الْأَعْمَالِ، فَحَمَلَهُ الْبَاجِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى الصَّلَاةِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ فِيهَا، وَحَمْلُهُ عَلَى جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ أَوْلَى، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ بَقِيَّةُ فَوَائِدِ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَالْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا فِي بَابِ: أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهُ مِنْ كِتَابِ الْإِيمَانِ. وَمِمَّا يَلْحَقُ هُنَا أَنِّي وَجَدْتُ بَعْضَ مَا ذُكِرَ هُنَاكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ احْتِمَالًا فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ مِنَ الثَّوَابِ حَتَّى تَمَلُّوا مِنَ الْعَمَلِ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ، وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُدْرَجٌ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ رُوَاةِ الْحَدِيثِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌19 - بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ تَرْكِ قِيَامِ اللَّيْلِ لِمَنْ كَانَ يَقُومُهُ

1152 -

حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ الْحُسَيْنِ قال:، حَدَّثَنَا مُبَشِّرُ، عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ - وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قال:، أَخْبَرَنَا الْأَوْزَاعِيُّ - قَالَ: حَدَّثَنا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا عَبْدَ اللَّهِ، لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ، كَانَ يَقُومُ من اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ. وَقَالَ هِشَامٌ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الْعِشْرِينَ قال: حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنا يَحْيَى، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ ثَوْبَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بهذا، مِثْلَهُ. وَتَابَعَهُ عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنْ تَرْكِ قِيَامِ اللَّيْلِ لِمَنْ كَانَ يَقُومُهُ) أَيْ: إِذَا أَشْعَرَ ذَلِكَ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْعِبَادَةِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ حُسَيْنٍ) هُوَ بِمُوَحَّدَةٍ وَمُهْمَلَةٍ، بَغْدَادِيٌّ، يُقَالُ لَهُ: الْقَنْطَرِيُّ، أَخْرَجَهُ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ هُنَا وَفِي الْجِهَادِ فَقَطْ. وَمُبَشِّرٌ بِوَزْنِ مُؤَذِّنٌ مِنَ الْبِشَارَةِ، وَعَبْدُ اللَّهِ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ الثَّانِي هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي سِيَاقِهِ بِالتَّحْدِيثِ فِي جَمِيعِ الْإِسْنَادِ، فَأُمِنَ تَدْلِيسُ الْأَوْزَاعِيِّ وَشَيْخِهِ.

قَوْلُهُ: (مِثْلَ فُلَانٍ) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَتِهِ فِي شَيْءٍ مِنَ

ص: 37

الطُّرُقِ، وَكَأَنَّ إِبْهَامَ مِثْلِ هَذَا لِقَصْدِ السُّتْرَةِ عَلَيْهِ، كَالَّذِي تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي الَّذِي نَامَ حَتَّى أَصْبَحَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقْصِدْ شَخْصًا مُعَيَّنًا، وَإِنَّمَا أَرَادَ تَنْفِيرَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مِنَ الصَّنِيعِ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ: (مِنَ اللَّيْلِ) أَيْ: بَعْضُ اللَّيْلِ، وَسَقَطَ لَفْظُ: مِنْ مِنْ رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ، وَهِيَ مُرَادَةٌ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، إِذْ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمْ يُكْتَفَ لِتَارِكِهِ بِهَذَا الْقَدْرِ؛ بَلْ كَانَ يَذُمُّهُ أَبْلَغَ الذَّمِّ، وَقَالَ ابْنُ حَيَّانَ: فِيهِ جَوَازُ ذِكْرِ الشَّخْصِ بِمَا فِيهِ مِنْ عَيْبٍ إِذَا قَصَدَ بِذَلِكَ التَّحْذِيرَ مِنْ صَنِيعِهِ، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الدَّوَامِ عَلَى مَا اعْتَادَهُ الْمَرْءُ مِنَ الْخَيْرِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ، وَيُسْتَنْبَطُ مِنْهُ كَرَاهَةُ قَطْعِ الْعِبَادَةِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً، وَمَا أَحْسَنَ مَا عَقَّبَ الْمُصَنِّفُ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ بِالَّتِي قَبْلَهَا؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ مِنْهُمَا التَّرْغِيبُ فِي مُلَازَمَةِ الْعِبَادَةِ، وَالطَّرِيقُ الْمُوصِلِ إِلَى ذَلِكَ الِاقْتِصَادِ فِيهَا؛ لِأَنَّ التَّشْدِيدَ فِيهَا قَدْ يُؤَدِّي إِلَى تَرْكِهَا، وَهُوَ مَذْمُومٌ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ هِشَامٌ) هُوَ ابْنُ عَمَّارٍ، وَابْنُ أَبِي الْعِشْرِينَ بِلَفْظِ الْعَدَدِ، وَهُوَ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ حَبِيبٍ كَاتِبُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَأَرَادَ الْمُصَنِّفُ بِإِيرَادِ هَذَا التَّعْلِيقِ التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّ زيادةَ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ، أَيِ: ابْنِ ثَوْبَانَ بَيْنَ يَحْيَى وَأَبِي سَلَمَةَ مِنَ الْمَزِيدِ فِي مُتَّصِلِ الْأَسَانِيدِ؛ لِأَنَّ يَحْيَى قَدْ صَرَّحَ بِسَمَاعِهِ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةٌ لَمْ يُصَرِّحْ بِالتَّحْدِيثِ، وَرِوَايَةُ هِشَامٍ الْمَذْكُورَةُ وَصَلَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَغَيْرُهُ.

قَوْلُهُ: (بِهَذَا) فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَالْأَصِيلِيُّ مِثْلَهُ.

قَوْلُهُ: (وَتَابَعَهُ عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ) أَيْ: تَابَعَ ابْنَ أَبِي الْعِشْرِينَ عَلَى زِيَادَةِ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ، وَرِوَايَةُ عُمَرَ الْمَذْكُورَةُ وَصَلَهَا مُسْلِمٌ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ عَنْهُ، وَظَاهِرُ صَنِيعِ الْبُخَارِيِّ تَرْجِيحُ رِوَايَةِ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَظَاهِرُ صَنِيعِ مُسْلِمٍ يُخَالِفُهُ؛ لِأَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى الرِّوَايَةِ الزَّائِدَةِ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ أَبِي حَاتِمٍ، وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَغَيْرِهِمَا صَنِيعُ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ تَابَعَ كُلًّا مِنَ الرِّوَايَتَيْنِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الْأَوْزَاعِيِّ، فَالِاخْتِلَافُ مِنْهُ، وَكَأَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ بِهِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ يَحْيَى حَمَلَهُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بِوَاسِطَةٍ، ثُمَّ لَقِيَهُ، فَحَدَّثَهُ بِهِ، فَكَانَ يَرْوِيهِ عَنْهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌20 - باب

1153 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قال:، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: قال لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ؟ قُلْتُ: إِنِّي أَفْعَلُ ذَلِكَ، قَالَ: فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ هَجَمَتْ عَيْنُكَ وَنَفِهَتْ نَفْسُكَ، وَإِنَّ لِنَفْسِكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ حَقًّا، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ.

قَوْلُهُ: (بَابٌ) كَذَا فِي الْأَصْلِ بِغَيْرِ تَرْجَمَةٍ، وَهُوَ كَالْفَصْلِ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَتَعَلُّقُهُ بِهِ ظَاهِرٌ، وَكَأَنَّهُ أَوْمَأَ إِلَى أَنَّ الْمَتْنَ الَّذِي قَبْلَهُ طَرَفٌ مِنْ قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِي مُرَاجَعَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ وَصِيَامِ النَّهَارِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ) فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ فِي مُسْنَدِهِ، عَنْ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ. وَعَمْرٌو هُوَ ابْنُ دِينَارٍ، وَأَبُو الْعَبَّاسِ هُوَ السَّائِبُ بْنُ فَرُّوخَ وَيُعْرَفُ بِالشَّاعِرِ.

قَوْلُهُ: (أَلَمْ أُخْبَرْ) فِيهِ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَنْبَغِي إِلَّا بَعْدَ التَّثَبُّتِ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكْتَفِ بِمَا نُقِلَ لَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ حَتَّى لَقِيَهُ وَاسْتَثْبَتَهُ فِيهِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ قَالَ ذَلِكَ بِغَيْرِ عَزْمٍ، أَوْ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ الِنَاقِلُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (هَجَمَتْ عَيْنُكَ) بِفَتْحِ الْجِيمِ؛ أَيْ: غَارَتْ، أَوْ ضَعُفَتْ لِكَثْرَةِ السَّهَرِ.

قَوْلُهُ: (نَفِهَتْ) بِنُونٍ، ثُمَّ فَاءٍ مَكْسُورَةٍ؛ أَيْ: كَلَّتْ. وَحَكَى الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَنَّ أَبَا يَعْلَى رَوَاهُ لَهُ: تَفِهَتْ؛ بِالتَّاءِ بَدَلَ النُّونِ، وَاسْتَضْعَفَهُ.

قَوْلُهُ: (وَإِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا) أَيْ: تُعْطِيهَا مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ ضَرُورَةُ الْبَشَرِيَّةِ مِمَّا أَبَاحَهُ اللَّهُ لِلْإِنْسَانِ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالرَّاحَةِ الَّتِي يَقُومُ بِهَا بَدَنُهُ، لِيَكُونَ أَعْوَنَ عَلَى عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَمِنْ حُقُوقِ النَّفْسِ قَطْعُهَا عَمَّا سِوَى

ص: 38

اللَّهِ تَعَالَى، لَكِنَّ ذَلِكَ يَخْتَصُّ بِالتَّعَلُّقَاتِ الْقَلْبِيَّةِ.

قَوْلُهُ: (وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا) أَيْ: تَنْظُرُ لَهُمْ فِيمَا لَابُدَّ لَهُمْ مِنْهُ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَهْلِ الزَّوْجَةُ، أَوْ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ مِمَّنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ سَبَبِ ذِكْرِ ذَلِكَ لَهُ فِي الصِّيَامِ.

(تَنْبِيهٌ): قَوْلُهُ حَقًّا فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلْأَكْثَرِ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ إِنَّ، وَفِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ بِالرَّفْعِ فِيهِمَا عَلَى أَنَّهُ الْخَبَرُ وَالِاسْمُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ.

قَوْلُهُ: (فَصُمْ) أَيْ: فَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَصُمْ تَارَةً (وَأَفْطِرْ) تَارَةً لِتَجْمَعَ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ أَبْوَابِ التَّهَجُّدِ، أَنَّهُ ذَكَرَ لَهُ صَوْمَ دَاوُدَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: قُمْ وَنَمْ، وَسَيَأْتِي فِي الصِّيَامِ فِيهِ زِيَادَةٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ نَحْوِ قَوْلِهِ: وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَفِي رِوَايَةٍ: فَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا؛ أَيْ: لِلضَّيْفِ.

وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ تَحَدُّثِ الْمَرْءِ بِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ مِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ، وَتَفَقُّدِ الْإِمَامِ لِأُمُورِ رَعِيَّتِهِ كُلِّيَّاتِهَا وَجُزْئِيَّاتِهَا، وَتَعْلِيمِهِمْ مَا يُصْلِحُهُمْ، وَفِيهِ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ لِمَنْ فِيهِ أَهْلِيَّةُ ذَلِكَ، وَأَنَّ الْأَوْلَى فِي الْعِبَادَةِ تَقْدِيمُ الْوَاجِبَاتِ عَلَى الْمَنْدُوبَاتِ، وَأَنَّ مَنْ تَكَلَّفَ الزِّيَادَةَ عَلَى مَا طُبِعَ عَلَيْهِ يَقَعُ لَهُ الْخَلَلُ فِي الْغَالِبِ، وَفِيهِ الْحَضُّ عَلَى مُلَازَمَةِ الْعِبَادَةِ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَعَ كَرَاهَتِهِ لَهُ التَّشْدِيدَ عَلَى نَفْسِهِ حَضَّهُ عَلَى الِاقْتِصَادِ، كَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: وَلَا يَمْنَعُكَ اشْتِغَالُكَ بِحُقُوقِ مَنْ ذُكِرَ أَنْ تُضَيِّعَ حَقَّ الْعِبَادَةِ، وَتَتْرُكَ الْمَنْدُوبَ جُمْلَةً، وَلَكِنِ اجْمَعْ بَيْنَهُمَا.

‌21 - بَاب فَضْلِ مَنْ تَعَارَّ مِنْ اللَّيْلِ فَصَلَّى

1154 -

حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ، أَخْبَرَنَا الْوَلِيدُ، عن الْأَوْزَاعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَيْرُ بْنُ هَانِئٍ قَالَ: حَدَّثَنِي جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، حَدَّثَنِي عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ تَعَارَّ مِنْ اللَّيْلِ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي - أَوْ دَعَا - اسْتُجِيبَ لَهُ، فَإِنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى قُبِلَتْ صَلَاتُهُ.

1155 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي الْهَيْثَمُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه وَهُوَ يَقُصُّ فِي قَصَصِهِ وَهُوَ يَذْكُرُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ أَخًا لَكُمْ لَا يَقُولُ الرَّفَثَ يَعْنِي بِذَلِكَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ:

وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ يَتْلُو كِتَابَهُ

إِذَا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ مِنْ الْفَجْرِ سَاطِعُ

أَرَانَا الْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى فَقُلُوبُنَا

بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعُ

يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ

إِذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالْمُشْرِكِينَ الْمَضَاجِعُ

تَابَعَهُ عُقَيْلٌ وَقَالَ الزُّبَيْدِيُّ أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدٍ وَالأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه

[الحديث 1155 - طرفه في 6151]

1156 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: "رَأَيْتُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَأَنَّ بِيَدِي قِطْعَةَ إِسْتَبْرَقٍ فَكَأَنِّي لَا أُرِيدُ مَكَانًا مِنْ الْجَنَّةِ إِلاَّ طَارَتْ إِلَيْهِ

ص: 39

وَرَأَيْتُ كَأَنَّ اثْنَيْنِ أَتَيَانِي أَرَادَا أَنْ يَذْهَبَا بِي إِلَى النَّارِ فَتَلَقَّاهُمَا مَلَكٌ فَقَالَ لَمْ تُرَعْ خَلِّيَا عَنْهُ"

1157 -

فَقَصَّتْ حَفْصَةُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِحْدَى رُؤْيَايَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ" فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ رضي الله عنه يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ

1158 -

"وَكَانُوا لَا يَزَالُونَ يَقُصُّونَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الرُّؤْيَا أَنَّهَا فِي اللَّيْلَةِ السَّابِعَةِ مِنْ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا مِنْ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ"

[الحديث 1158 - طرافاه في 6991، 2015]

قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى) تعَارَّ بِمُهْمَلَةٍ وَرَاءٍ مُشَدَّدَةٍ. قَالَ فِي الْمُحْكَمِ: تَعَارَّ الظَّلِيمُ مُعَارَّةً: صَاحَ، وَالتَّعَارُّ أَيْضًا: السَّهَرُ وَالتَّمَطِّي، وَالتَّقَلُّبُ عَلَى الْفِرَاشِ لَيْلًا مَعَ كَلَامٍ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: اخْتُلِفَ فِي: تَعَارَّ، فَقِيلَ: انْتَبَهَ، وَقِيلَ: تَكَلَّمَ، وَقِيلَ: عَلِمَ، وَقِيلَ: تَمَطَّى وَأَنَّ. انْتَهَى. وَقَالَ الْأَكْثَرُ: التَّعَارُّ الْيَقَظَةُ مَعَ صَوْتٍ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ مَعْنَى تَعَارَّ اسْتَيْقَظَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: مَنْ تَعَارَّ، فَقَالَ، فَعَطَفَ الْقَوْلَ عَلَى التَّعَارِّ. انْتَهَى.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ تَفْسِيرِيَّةً لِمَا صَوَّتَ بِهِ الْمُسْتَيْقِظُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُصَوِّتُ بِغَيْرِ ذِكْرٍ، فَخَصَّ الْفَضْلَ الْمَذْكُورَ بِمَنْ صَوَّتَ بِمَا ذُكِرَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا هُوَ السِّرُّ فِي اخْتِيَارِ لَفْظِ تَعَارَّ دُونَ اسْتَيْقَظَ أَوِ انْتَبَهَ، وَإِنَّمَا يَتَّفِقُ ذَلِكَ لِمَنْ تَعَوَّدَ الذِّكْرَ وَاسْتَأْنَسَ بِهِ، وَغَلَبَ عَلَيْهِ حَتَّى صَارَ حَدِيثَ نَفْسِهِ فِي نَوْمِهِ وَيَقَظَتِهِ، فَأَكْرَمَ مَنِ اتَّصَفَ بِذَلِكَ بِإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ وَقَبُولِ صَلَاتِهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا صَدَقَةُ) هُوَ ابْنُ الْفَضْلِ الْمَرْوَزِيُّ، وَجَمِيعُ الْإِسْنَادِ كُلُّهُ شَامِيُّونَ، وَجُنَادَةُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ مُخْتَلَفٌ فِي صُحْبَتِهِ.

قَوْلُهُ: (عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَيْرُ بْنُ هَانِئٍ) كَذَا لِمُعْظَمِ الرُّوَاةِ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الدُّعَاءِ مِنْ رِوَايَةِ صَفْوَانَ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ الْوَلِيدِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ ثَوْبَانَ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ هَانِئٍ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِيهِ أَيْضًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الدِّمَشْقِيِّ - وَهُوَ الْحَافِظُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: دُحَيْمٌ - عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْوَلِيدِ مَقْرُونًا بِرِوَايَةِ صَفْوَانَ بْنِ صَالِحٍ، وَمَا أَظُنّهُ إِلَّا وَهْمًا، فَإِنَّهُ أَخْرَجَهُ فِي الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْوَلِيدِ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ كَالْجَادَّةِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَجَعْفَرٌ الْفِرْيَابِيُّ فِي الذِّكْرِ عَنْ دُحَيْمٍ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ دُحَيْمٍ، وَرِوَايَةُ صَفْوَانَ شَاذَّةٌ، فَإِنْ كَانَ حَفِظَهَا عَنِ الْوَلِيدِ احْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْوَلِيدِ فِيهِ شَيْخَانِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي آخِرِ الْحَدِيثِ مِنَ اخْتِلَافِ اللَّفْظِ حَيْثُ جَاءَ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي. . إِلَخْ وَوَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: كَانَ مِنْ خَطَايَاهُ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ: رَبِّ اغْفِرْ لِي، وَلَا دُعَاءً، وَقَالَ فِي أَوَّلِهِ: مَا مِنْ عَبْدٍ يَتَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ. بَدَلَ قَوْلِهِ: مَنْ تَعَارَّ، لَكِنَّ تَخَالُفَ اللَّفْظِ فِي هَذِهِ أَخَفُّ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا.

قَوْلُهُ: (لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ) زَادَ عَلِيُّ ابْنُ الْمَدِينِيِّ، عَنِ الْوَلِيدِ: يُحْيِي وَيُمِيتُ، أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي تَرْجَمَةِ عُمَيْرِ بْنِ هَانِئٍ مِنَ الْحِلْيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُبْحَانَ اللَّهِ) زَادَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ: وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَكَذَا عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ، وَأَبِي نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَلَمْ تَخْتَلِفِ الرِّوَايَاتُ فِي الْبُخَارِيِّ عَلَى تَقْدِيمِ الْحَمْدِ عَلَى التَّسْبِيحِ، لَكِنْ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ بِالْعَكْسِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لَا تَسْتَلْزِمُ التَّرْتِيبَ.

ص: 40

قَوْلُهُ: (وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) زَادَ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ السُّنِّيِّ: الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، أَوْ دَعَا) كَذَا فِيهِ بِالشَّكِّ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّنْوِيعِ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ بِلَفْظِ: ثُمَّ قَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي، غُفِرَ لَهُ، أَوْ قَالَ: فَدَعَا اسْتُجِيبَ لَهُ، شَكَّ الْوَلِيدُ، وَكَذَا عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَابْنِ مَاجَهْ بِلَفْظِ: غُفِرَ لَهُ، قَالَ الْوَلِيدُ: أَوْ قَالَ: دَعَا اسْتُجِيبَ لَهُ، وَفِي رِوَايَةِ عَلِيِّ ابْنِ الْمَدِينِيِّ: ثُمَّ قَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي، أَوْ قَالَ: ثُمَّ دَعَا، وَاقْتَصَرَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ عَلَى الشِّقِّ الْأَوَّلِ.

قَوْلُهُ: (اسْتُجِيبَ) زَادَ الْأَصِيلِيُّ لَهُ وَكَذَا فِي الرِّوَايَاتِ الْأُخْرَى.

قَوْلُهُ: (فَإِنْ تَوَضَّأَ قُبِلَتْ) أَيْ إِنْ صَلَّى. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَأَبِي الْوَقْتِ: فَإِنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى، وَكَذَا عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَزَادَ فِي أَوَّلِهِ: فَإِنْ هُوَ عَزَمَ فَقَامَ وَتَوَضَّأَ وَصَلَّى، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ ابْنِ الْمَدِينِيِّ. قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وَعَدَ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ أَنَّ مَنِ اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ لَهِجًا لِسَانُهُ بِتَوْحِيدِ رَبِّهِ، وَالْإِذْعَانِ لَهُ بِالْمُلْكِ، وَالِاعْتِرَافِ بِنِعَمَهِ، يَحْمَدُهُ عَلَيْهَا وَيُنَزِّهُهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، بتَسْبِيحِهِ وَالْخُضُوعِ لَهُ بِالتَّكْبِيرِ، وَالتَّسْلِيمِ لَهُ بِالْعَجْزِ عَنِ الْقُدْرَةِ إِلَّا بِعَوْنِهِ، أَنَّهُ إِذَا دَعَاهُ أَجَابَهُ، وَإِذَا صَلَّى قُبِلَتْ صَلَاتُهُ، فَيَنْبَغِي لِمَنْ بَلَغَهُ هَذَا الْحَدِيثُ أَنْ يَغْتَنِمَ الْعَمَلَ بِهِ، وَيُخْلِصَ نِيَّتَهُ لِرَبِّهِ سبحانه وتعالى.

قَوْلُهُ: (قُبِلَتْ صَلَاتُهُ) قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: وَجْهُ تَرْجَمَةِ الْبُخَارِيِّ بِفَضْلِ الصَّلَاةِ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ إِلَّا الْقَبُولُ، وَهُوَ مِنْ لَوَازِمِ الصِّحَّةِ، سَوَاءً كَانَتْ فَاضِلَةً أَمْ مَفْضُولَةً؛ لِأَنَّ الْقَبُولَ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ أَرْجَى مِنْهُ فِي غَيْرِهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي الْكَلَامِ فَائِدَةٌ، فَلِأَجْلِ قُرْبِ الرَّجَاءِ فِيهِ مِنَ الْيَقِينِ تَمَيَّزَ عَلَى غَيْرِهِ وَثَبَتَ لَهُ الْفَضْلُ. انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَبُولِ هُنَا قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى الصِّحَّةِ، وَمِنْ ثَمَّ، قَالَ الدَّاوُدِيُّ مَا مُحَصِّلُهُ: مَنْ قَبِلَ اللَّهُ لَهُ حَسَنَةً لَمْ يُعَذِّبْهُ

(1)

؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ عَوَاقِبَ الْأُمُورِ، فَلَا يَقْبَلُ شَيْئًا ثُمَّ يُحْبِطُهُ، وَإِذَا أُمِنَ الْإِحْبَاطُ أُمِنَ التَّعْذِيبُ، وَلِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ: وَدِدْتُ أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ قَبِلَ لِي سَجْدَةً وَاحِدَةً.

(فَائِدَةٌ): قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْفَرَبْرِيُّ الرَّاوِي عَنِ الْبُخَارِيِّ: أَجْرَيْتُ هَذَا الذِّكْرَ عَلَى لِسَانِي عِنْدَ انْتِبَاهِي، ثُمَّ نِمْتُ فَأَتَانِي آتٍ، فَقَرَأَ:{وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} الْآيَةَ.

قَوْلُهُ: (الْهَيْثَمُ) بِفَتْحِ الْهَاءِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ مَفْتُوحَةٌ، وَسِنَانُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَنُونَيْنِ، الْأُولَى خَفِيفَةٌ.

قَوْلُهُ: (أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ وَهُوَ يَقُصُّ فِي قَصَصِهِ) أَيْ: مَوَاعِظَهُ الَّتِي كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُذَكِّرُ أَصْحَابَهُ بِهَا.

قَوْلُهُ: (وَهُوَ يَذْكُرُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أَخًا لَكُمْ) مَعْنَاهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ ذَكَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَطْرَدَ إِلَى حِكَايَةِ مَا قِيلَ فِي وَصْفِهِ، فَذَكَرَ كَلَامَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ بِمَا وُصِفَ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ أَخًا لَكُمْ) هُوَ الْمَسْمُوعُ لِلْهَيْثَمِ، وَالرَّفَثُ: الْبَاطِلُ، أَوِ الْفُحْشُ مِنَ الْقَوْلِ، وَالْقَائِلُ؛ يَعْنِي: هُوَ الْهَيْثَمُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الزُّهْرِيَّ.

قَوْلُهُ: (إِذَا انْشَقَّ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْوَقْتِ: كَمَا انْشَقَّ، وَالْمَعْنَى مُخْتَلِفٌ وَكِلَاهُمَا وَاضِحٌ.

قَوْلُهُ: (مِنَ الْفَجْرِ) بَيَانٌ لِلْمَعْرُوفِ السَّاطِعِ، يُقَالُ: سطع إِذَا ارْتَفَعَ.

قَوْلُهُ: (الْعَمَى) أَيِ: الضَّلَالَةُ.

قَوْلُهُ: (يُجَافِي جَنْبَهُ) أَيْ: يَرْفَعَهُ عَنِ الْفِرَاشِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ صَلَاتِهِ بِاللَّيْلِ، وَفِي هَذَا الْبَيْتِ الْأَخِيرِ مَعْنَى التَّرْجَمَةِ؛ لِأَنَّ التَّعَارَّ هُوَ السَّهَرُ وَالتَّقَلُّبُ عَلَى الْفِرَاشِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَأَنَّ الشَّاعِرَ أَشَارَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} الْآيَةَ.

(فَائِدَةٌ): وَقَعَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ فِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ قِصَّةٌ أَخْرَجَهَا الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَلَمَةَ بْنِ وَهْرَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ مُضْطَجِعًا إِلَى جَنْبِ امْرَأَتِهِ، فَقَامَ إِلَى جَارِيَتِهِ، فَذَكَرَ الْقِصَّةَ فِي رُؤْيَتِهَا إِيَّاهُ عَلَى الْجَارِيَةِ، وَجَحْدَهُ ذَلِكَ، وَالْتِمَاسَهَا مِنْهُ الْقِرَاءَةَ؛ لِأَنَّ الْجُنُبَ

(1)

فيما قاله الداودي نظر، وظاهر النصوص يخالفه، ولا يلزم من قبول بعض الأعمال عدم التعذيب على أعمال أخرى من السيئات مات العبد مصرا عليها، فتنبه. والله أعلم.

ص: 41

لَا يَقْرَأُ، فَقَالَ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ، فَقَالَتْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ، وَكَذَّبْتُ بَصَرِي، فَأُعْلِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ. قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: إِنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أَخًا لَكُمْ لَا يَقُولُ الرَّفَثَ فِيهِ أَنَّ حُسْنَ الشِّعْرِ مَحْمُودٌ كَحُسْنِ الْكَلَامِ. انْتَهَى. وَلَيْسَ فِي سِيَاقِ الْحَدِيثِ مَا يُفْصِحُ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم، بَلْ هُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَبَيَانُ ذَلِكَ سَيَأْتِي فِي سِيَاقِ رِوَايَةِ الزُّبَيْدِيِّ الْمُعَلَّقَةِ. وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالشِّعْرِ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ عُقَيْلٌ) أَيْ: عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، فَالضَّمِيرُ لِيُونُسَ، وَرِوَايَةُ عُقَيْلٍ هَذِهِ أَخْرَجَهَا الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ مِنْ طَرِيقِ سَلَامَةَ بْنِ رَوْحٍ عَنْ عَمِّهِ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، فَذَكَرَ مِثْلَ رِوَايَةِ يُونُسَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الزُّبَيْدِيُّ. . إِلَخْ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ اخْتُلِفَ عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ، فَاتَّفَقَ يُونُسُ، وَعُقَيْلٌ عَلَى أَنَّ شَيْخَهُ فِيهِ الْهَيْثَمُ، وَخَالَفَهُمَا الزُّبَيْدِيُّ فَأَبْدَلَهُ بِسَعِيدٍ؛ أَيِ: ابْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالْأَعْرَجِ؛ أَيْ: عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ، وَلَا يَبْعُدَ أَنْ يَكُونَ الطَّرِيقَانِ صَحِيحَيْنِ، فَإِنَّهُمْ حُفَّاظٌ أَثْبَاتٌ، وَالزُّهْرِيُّ صَاحِبُ حَدِيثٍ مُكْثِرٌ، وَلَكِنَّ ظَاهِرَ صَنِيعِ الْبُخَارِيِّ تَرْجِيحُ رِوَايَةِ يُونُسَ لِمُتَابَعَةِ عُقَيْلٍ لَهُ، بِخِلَافِ الزُّبَيْدِيِّ، وَرِوَايَةُ الزُّبَيْدِيِّ هَذِهِ الْمُعَلَّقَةُ وَصَلَهَا الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ الصَّغِيرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَالِمٍ الْحِمَّصِيِّ عَنْهُ، وَلَفْظُهُ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَقُولُ فِي قَصَصِهِ: إِنَّ أَخًا لَكُمْ كَانَ يَقُولُ شِعْرًا لَيْسَ بِالرَّفَثِ، وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَذَكَرَ الْأَبْيَاتِ، وَهُوَ يُبَيِّنُ أَنَّ قَوْلَهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى مِنْ كَلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْقُوفًا، بِخِلَافِ مَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ بَطَّالٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ) هُوَ السُّدُوسِيُّ.

قَوْلُهُ: (إِلَّا طَارَتْ إِلَيْهِ) سَيَأْتِي فِي التَّعْبِيرِ بِلَفْظِ: إِلَّا طَارَتْ بِي إِلَيْهِ. وَيَأْتِي بَقِيَّةُ فَوَائِدِهِ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ أَبْوَابِ التَّهَجُّدِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ دُونَ الْقِصَّةِ الْأُولَى.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ) أَيِ: ابْنُ عُمَرَ (يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ) هُوَ كَلَامُ نَافِعٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَحْوُهُ عَنْ سَالِمٍ.

قَوْلُهُ: (وَكَانُوا) أَيِ: الصَّحَابَةُ، وَقَوْلُهُ:(أَنَّهَا) أَيْ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ.

قَوْلُهُ: (فَلْيَتَحَرَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ) كَذَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ، وَلِغَيْرِهِ: مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي أَوَاخِرِ الصِّيَامِ.

(تَنْبِيهٌ): أَغْفَلَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ هَذَا الْحَدِيثَ الْمُتَعَلِّقَ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي تَرْجَمَةِ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ وَارِدٌ عَلَيْهِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

‌22 - بَاب الْمُدَاوَمَةِ عَلَى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ

1159 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ هُوَ ابْنُ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْعِشَاءَ، ثُمَّ صَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ، وَرَكْعَتَيْنِ جَالِسًا، وَرَكْعَتَيْنِ بَيْنَ النِّدَاءَيْنِ، وَلَمْ يَكُنْ يَدَعْهُمَا أَبَدًا.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ) أَيْ: سَفَرًا وَحَضَرًا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ) هُوَ الْمُقْرِي.

قَوْلُهُ: (عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) خَالَفَهُ اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ فَرَوَاهُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ لَمْ يَذْكُرْ بَيْنَهُمَا أَحَدًا. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَكَأَنَّ جَعْفَرًا أَخَذَهُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بِوَاسِطَةٍ، ثُمَّ حَمَلَهُ عَنْهُ. وَلِيَزِيدَ فِيهِ إِسْنَادٌ آخَرُ رَوَاهُ عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَكَأَنَّ لِعِرَاكٍ فِيهِ شَيْخَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَصَلَّى) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: ثُمَّ صَلَّى. وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْوِتْرِ، وَهُوَ فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ وَلَفْظُهُ: كَانَ يُصَلِّي

ص: 42

بِثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً: تِسْعًا قَائِمًا، وَرَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ.

قَوْلُهُ: (وَرَكْعَتَيْنِ بَيْنَ النِّدَاءَيْنِ) أَيْ: بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَفِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ: ثُمَّ يُمْهِلُ حَتَّى يُؤَذَّنَ بِالْأُولَى مِنَ الصُّبْحِ فَيَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ: يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ بَيْنَ النِّدَاءِ وَالْإِقَامَةِ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ.

قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَكُنْ يَدَعُهُمَا أَبَدًا) اسْتُدِلَّ بِهِ لِمَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ بِلَفْظِ: كَانَ الْحَسَنُ يَرَى الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ وَاجِبَتَيْنِ. وَالْمُرَادُ بِالْفَجْرِ هُنَا: صَلَاةُ الصُّبْحِ. وَنَقَلَ الْمَرْغِينَانِيُّ مِثْلَهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَفِي جَامِعِ الْمَحْبُوبِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: لَوْ صَلَّاهُمَا قَاعِدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَمْ يَجُزْ. وَاسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ لِلْقَدِيمِ فِي أَنَّ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ أَفْضَلُ التَّطَوُّعَاتِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ: أَفْضَلُهَا الْوِتْرُ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: أَفْضَلُهَا صَلَاةُ اللَّيْلِ، لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي أَوَّلِ أَبْوَابِ التَّهَجُّدِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ.

(تَنْبِيهٌ): قَوْلُهُ أَبَدًا تَقَرَّرَ فِي كُتُبِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ لِلْمُسْتَقْبَلِ، وَأَمَّا الْمَاضِي فَيُؤَكَّدُ بِقَطُّ، وَيُجَابُ عَنِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ بِأَنَّهَا ذُكِرَتْ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ إِجْرَاءً لِلْمَاضِي مَجْرَى الْمُسْتَقْبَلِ، كَأَنَّ ذَلِكَ دَأْبُهُ لَا يَتْرُكُهُ.

‌23 - بَاب الضِّجْعَةِ عَلَى الشِّقِّ الْأَيْمَنِ بَعْدَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ

1160 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الضِّجْعَةِ) بِكَسْرِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ الْهَيْئَةُ، وَبِفَتْحِهَا عَلَى إِرَادَةِ الْمَرَّةِ.

قَوْلُهُ: (أَبُو الْأَسْوَدِ) هُوَ النَّوْفَلِيُّ يَتِيمُ عُرْوَةَ.

قَوْلُهُ: (عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ) قِيلَ: الْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ الْقَلْبَ فِي وَجْهِهِ الْيَسَارُ، فَلَوِ اضْطَجَعَ عَلَيْهِ لَاسْتَغْرَقَ نَوْمًا، لِكَوْنِهِ أَبْلَغَ فِي الرَّاحَةِ، بِخِلَافِ الْيَمِينِ، فَيَكُونُ الْقَلْبُ مُعَلَّقًا فَلَا يَسْتَغْرِقُ، وَفِيهِ أَنَّ الِاضْطِجَاعَ إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا كَانَ عَلَى الشِّقِّ الْأَيْمَنِ، وَأَمَّا إِنْكَارُ ابْنِ مَسْعُودٍ الِاضْطِجَاعَ، وَقَوْلُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: هِيَ ضِجْعَةُ الشَّيْطَانِ، كَمَا أَخْرَجَهُمَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُمَا الْأَمْرُ بِفِعْلِهِ، وَكَلَامُ ابْنِ مَسْعُودٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا أَنْكَرَ تَحَتُّمَهُ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ: إِذَا سَلَّمَ فَقَدْ فَصَلَ. وَكَذَا مَا حُكِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ بِدْعَةٌ، فَإِنَّهُ شَذَّ بِذَلِكَ، حَتَّى رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِحَصْبِ مَنِ اضْطَجَعَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ لَا يُعْجِبُهُ الِاضْطِجَاعُ، وَأَرْجَحُ الْأَقْوَالِ مَشْرُوعِيَّتُهُ لِلْفَصْلِ، لَكِنْ لَا بِعَيْنِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌24 - بَاب مَنْ تَحَدَّثَ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ وَلَمْ يَضْطَجِعْ

1161 -

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْحَكَمِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي سَالِمٌ أَبُو النَّضْرِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا صَلَّى سنة الفجر، فَإِنْ كُنْتُ مُسْتَيْقِظَةً حَدَّثَنِي، وَإِلَّا اضْطَجَعَ حَتَّى يُؤْذَنَ بِالصَّلَاةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ تَحَدَّثَ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ، وَلَمْ يَضْطَجِعَ) أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يُدَاوِمُ عَلَيْهَا، وَبِذَلِكَ احْتَجَّ الْأَئِمَّةُ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ، وَحَمَلُوا الْأَمْرَ الْوَارِدَ بِذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَفَائِدَةُ ذَلِكَ الرَّاحَةُ وَالنَّشَاطُ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ إِلَّا لِلمتَّهَجُّدِ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَقُولُ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَضْطَجِعَ لِسُنَّةٍ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَدْأَبُ

ص: 43

لَيْلَتَهُ فَيَسْتَرِيحُ. فِي إِسْنَادِهِ رَاوٍ لَمْ يُسَمَّ.

وَقِيلَ: إِنَّ فَائِدَتَهَا الْفَصْلُ بَيْنَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الصُّبْحِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا اخْتِصَاصَ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ: تَتَأَدَّى السُّنَّةُ بِكُلِّ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْفَصْلُ مِنْ مَشْيٍ وَكَلَامٍ وَغَيْرِهِ، حَكَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُخْتَارُ أَنَّهُ سُنَّةٌ لِظَاهِرِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَاوِي الْحَدِيثِ: إِنَّ الْفَصْلَ بِالْمَشْيِ إِلَى الْمَسْجِدِ لَا يَكْفِي، وَأَفْرَطَ ابْنُ حَزْمٍ فَقَالَ: يَجِبُ عَنْ كُلِّ أَحَدٍ، وَجَعَلَهُ شَرْطًا لِصِحَّةِ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَرَدَّهُ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ بَعْدَهُ حَتَّى طَعَنَ ابْنُ تَيْمِيَةَ وَمَنْ تَبِعَهُ فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ لِتَفَرُّدِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ بِهِ، وَفِي حِفْظِهِ مَقَالٌ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْفَصْلُ لَا يَتَقَيَّدُ بِالْأَيْمَنِ، وَمَنْ أَطْلَقَ قَالَ: يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالْقَادِرِ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَهَلْ يَسْقُطُ الطَّلَبُ أَوْ يُومِئُ بِالِاضْطِجَاعِ أَوْ يَضْطَجِعُ عَلَى الْأَيْسَرِ؟ لَمْ أَقِفْ فِيهِ عَلَى نَقْلٍ، إِلَّا أَنَّ ابْنَ حَزْمٍ قَالَ: يُومِئُ وَلَا يَضْطَجِعُ عَلَى الْأَيْسَرِ أَصْلًا، وَيُحْمَلُ الْأَمْرُ بِهِ عَلَى النَّدْبِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَذَهَبَ بَعْضُ السَّلَفِ إِلَى اسْتِحْبَابِهَا فِي الْبَيْتِ دُونَ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَوَّاهُ بَعْضُ شُيُوخِنَا بِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ فَعَلَهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَصَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَحْصِبُ مَنْ يَفْعَلُهُ فِي الْمَسْجِدِ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ.

قَوْلُهُ: (كَانَ إِذَا صَلَّى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ) وَسَنَذْكُرُ مُسْتَنَدَ ذَلِكَ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي وَإِلَّا اضْطَجَعَ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ كَانَ يَضْطَجِعُ إِذَا لَمْ يُحَدِّثْهَا، وَإِذَا حَدَّثَهَا لَمْ يَضْطَجِعْ، وَإِلَى هَذَا جَنَحَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّرْجَمَةِ، وَكَذَا تَرْجَمَ لَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ: الرُّخْصَةُ فِي تَرْكِ الِاضْطِجَاعِ بَعْدَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ. وَيُعَكِّرُ عَلَى ذَلِكَ مَا وَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ اضْطَجَعَ، فَإِنْ كُنْتُ يَقْظَى تَحَدَّثَ مَعِي، وَإِنْ كُنْتُ نَائِمَةً نَامَ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمُؤَذِّنُ، فَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ يَضْطَجِعُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَإِمَّا أَنْ يُحَدِّثَهَا، وإِمَّا أَنْ يَنَامَ، لَكِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهَا نَامَ: أَيِ اضْطَجَعَ، وَبَيَّنَهُ مَا أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ قَبْلَ أَبْوَابِ التَّهَجُّدِ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ جَمِيعًا، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بِلَفْظِ: فَإِنْ كُنْتُ يَقْظَى تَحَدَّثَ مَعِي، وَإِنْ كُنْتُ نَائِمَةً اضْطَجَعَ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى يُؤَذَّنَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ الثَّقِيلَةِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: حَتَّى نُودِيَ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى عَدَمِ اسْتِحْبَابِ الضِّجْعَةِ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ رُبَّمَا تَرَكَهَا عَدَمُ الِاسْتِحْبَابِ، بَلْ تَرْكُهُ لَهَا أَحْيَانًا عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ كَمَا تَقَدَّمَ أَوَّلَ الْبَابِ.

(تَنْبِيهٌ) تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ أَبْوَابِ الْوِتْرِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ اضْطِجَاعَهُ صلى الله عليه وسلم وَقَعَ بَعْدَ الْوِتْرِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ حَدِيثَ عَائِشَةَ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ نَوْمُهُ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ صَلَاةِ اللَّيْلِ وَصَلَاةِ الْفَجْرِ، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ لَمْ يَضْطَجِعْ بَيْنَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الصُّبْحِ، فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ عَدَمُ الْوُجُوبِ أَيْضًا، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اضْطَجَعَ بَعْدَ الْوِتْرِ، فَقَدْ خَالَفَهُ أَصْحَابُ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، فَذَكَرُوا الِاضْطِجَاعَ بَعْدَ الْفَجْرِ، وَهُوَ الْمَحْفُوظُ، وَلَمْ يُصِبْ مَنِ احْتَجَّ بِهِ عَلَى تَرْكِ اسْتِحْبَابِ الِاضْطِجَاعِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌25

(1)

- بَاب الْحَدِيثِ بَعْدَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ

1168 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: أَبُو النَّضْرِ حَدَّثَنِي عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، فَإِنْ كُنْتُ مُسْتَيْقِظَةً حَدَّثَنِي، وَإِلَّا اضْطَجَعَ قُلْتُ لِسُفْيَانَ: فَإِنَّ

(1)

الباب رقم 25 وأحاديثه الستة بأرقام 1167، 1166، 1165، 1164، 1163، 1162 تأتي في ص 48 - 49 بعد الانتهاء من شرح الحديث رقم 1171 وسينبه الشارح على ذلك هناك.

ص: 44

بَعْضَهُمْ يَرْوِيهِ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، قَالَ سُفْيَانُ: هُوَ ذَاكَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْحَدِيثِ بَعْدَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ) أَعَادَ فِيهِ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ، وَلَفْظُهُ: كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَفِي آخِرِهِ: قُلْتُ لِسُفْيَانَ: فَإِنَّ بَعْضَهُمْ يَرْوِيهِ: رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ. قَالَ سُفْيَانُ: هُوَ ذَاكَ. وَالْقَائِلُ: قُلْتُ لِسُفْيَانَ هُوَ عَلِيُّ ابْنُ الْمَدِينِيِّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، وَمُرَادُهُ بِقَوْلِهِ: بَعْضُهُمْ: مَالِكٌ. كَذَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنِ الرَّجُلِ يَتَكَلَّمُ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَحَدَّثَنِي عَنْ سَالِمٍ فَذَكَرَهُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيِّ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِلَفْظِ: كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ الْكَلَامِ بَيْنَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الصُّبْحِ خِلَافًا لِمَنْ كَرِهَ ذَلِكَ، وَقَدْ نَقَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَلَا يَثْبُتُ عَنْهُ، وَأَخْرَجَهُ صَحِيحًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ، وَأَبِي الشَّعْثَاءِ وَغَيْرِهِمَا.

(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ هُنَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ عَنْ سُفْيَانَ: قَالَ سَالِمٌ أَبُو النَّضْرِ: حَدَّثَنِي أَبِي. وَقَوْلُهُ: أَبِي زِيَادَةٌ لَا أَصْلَ لَهَا، بَلْ هِيَ غَلَطٌ مَحْضٌ حُمِلَ عَلَيْهَا تَقْدِيمُ الِاسْمِ عَلَى الصِّفَةِ، فَظَنَّ بَعْضُ مَنْ لَا خِبْرَةَ لَهُ أَنَّ فَاعِلَ حَدَّثَنِي رَاوٍ غَيْرُ سَالِمٍ، فَزَادَ فِي السَّنَدِ لَفْظُ أَبِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ بِهَذَا السَّنَدِ قَرِيبًا عَنْ بِشْرِ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ لَيْسَ بَيْنَهُمَا أَحَدٌ، وَكَذَا فِي الَّذِي قَبْلَهُ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ سُفْيَانَ:، حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَلَيْسَ لِوَالِدِ أَبِي النَّضْرِ مَعَ ذَلِكَ رِوَايَةٌ أَصْلًا، لَا فِي الصَّحِيحِ، وَلَا فِي غَيْرِهِ، فَمَنْ زَادَهَا فَقَدْ أَخْطَأَ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

‌26 - بَاب تَعَاهُدِ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَمَنْ سَمَّاهُمَا تَطَوُّعًا

1169 -

حَدَّثَنَا بَيَانُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى شَيْءٍ مِنْ النَّوَافِلِ أَشَدَّ مِنْهُ تَعَاهُدًا عَلَى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ تَعَاهُدِ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ وَمَنْ سَمَّاهُمَا) فِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي: وَمَنْ سَمَّاهَا؛ أَيْ: سُنَّةُ الْفَجْرِ.

قَوْلُهُ: (تَطَوُّعًا) أُورِدَ فِي الْبَابِ بِلَفْظِ النَّوَافِلِ، وَأَشَارَ بِلَفْظِ التَّطَوُّعِ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ، فَفِي رِوَايَةِ أَبِي عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَوَاجِبَةٌ رَكْعَتَا الْفَجْرِ، أَوْ هِيَ مِنَ التَّطَوُّعِ؟ فَقَالَ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَجَاءَ عَنْ عَائِشَةَ أَيْضًا تَسْمِيَتُهَا تَطَوُّعًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ تَطَوُّعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: وَكَانَ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ.

قَوْلُهُ: (بَيَانُ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَالتَّحْتَانِيَّةِ الْخَفِيفَةِ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ هُوَ الْقَطَّانُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَطَاءٍ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ يَحْيَى، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: حَدَّثَنِي عَطَاءٌ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ خُزَيْمَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ بِسَنَدِهِ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ.

قَوْلُهُ: (أَشَدَّ تَعَاهُدًا) فِي رِوَايَةِ ابْنِ خُزَيْمَةَ: أَشَدُّ مُعَاهَدَةً، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ حَفْصٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: مَا رَأَيْتُهُ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْخَيْرِ أَسْرَعَ إِلَى الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ. زَادَ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: وَلَا إِلَى غَنِيمَةٍ.

‌27 - بَاب مَا يُقْرَأُ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ

1170 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ

ص: 45

عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِاللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ يُصَلِّي إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ بِالصُّبْحِ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ.

1171 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَمَّتِهِ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. ح وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُخَفِّفُ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى إِنِّي لَأَقُولُ: هَلْ قَرَأَ بِأُمِّ الْكِتَابِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُقْرَأُ فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ) هُوَ بِضَمِّ يُقْرَأُ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ.

قَوْلُهُ: (ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً) مُخَالِفٌ لِمَا مَضَى قَرِيبًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: لَمْ يَكُنْ يَزِيدُ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ طَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا هُنَاكَ.

قَوْلُهُ: (خَفِيفَتَيْنِ) قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: كَانَ حَقُّ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ أَنْ تَكُونَ تَخْفِيفَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ. قُلْتُ: وَلِمَا تَرْجَمَ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَجْهٌ وَجِيهٌ، وَهُوَ أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى خِلَافِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا يَقْرَأُ فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ أَصْلًا، وَهُوَ قَوْلٌ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ عُلَيَّةَ، فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّهُ لَابُدَّ مِنَ الْقِرَاءَةِ، وَلَوْ وُصِفَتِ الصَّلَاةُ بِكَوْنِهَا خَفِيفَةً، فَكَأَنَّهَا أَرَادَتْ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ فَقَطْ مُسْرِعًا، أَوْ قَرَأَهَا مَعَ شَيْءٍ يَسِيرٍ غَيْرِهَا، وَاقْتَصَرَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ عَلَى شَرْطِهِ تَعْيِينُ مَا يَقْرَأُ بِهِ فِيهِمَا، وَسَنَذْكُرُ مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ بَعْدُ. وَاخْتُلِفَ فِي حِكْمَةِ تَخْفِيفِهِمَا فَقِيلَ: لِيُبَادِرَ إِلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَبِهِ جَزَمَ الْقُرْطُبِيُّ، وَقِيلَ: لِيَسْتَفْتِحَ صَلَاةَ النَّهَارِ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ لِيَدْخُلَ فِي الْفَرْضِ، أَوْ مَا شَابَهَهُ فِي الْفَضْلِ بِنَشَاطٍ وَاسْتِعْدَادٍ تَامٍّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) أَيِ: ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ، وَيُقَالُ: اسْمُ جَدِّهِ عَبْدُ اللَّهِ.

وَقَوْلُهُ: (عَنْ عَمَّتِهِ عَمْرَةَ) هِيَ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ، وَعَلَى هَذَا فَهِيَ عَمَّةُ أَبِيهِ. وَزَعَمَ أَبُو مَسْعُودٍ وَتَبِعَهُ الْحُمَيْدِيُّ أَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ الْأَنْصَارِيُّ أَبُو الرِّجَالِ، وَوَهِمَهُ الْخَطِيبُ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ: إِنَّ شُعْبَةَ لَمْ يَرْوِ عَنْ أَبِي الرِّجَالِ شَيْئًا، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ عَمْرَةَ أُمَّ أَبِي الرِّجَالِ لَا عَمَّتُهُ، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، عَنْ شُعْبَةَ، فَقَالَ: عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ عَمْرَةَ، وَوَهِمُوهُ فِيهِ أَيْضًا. وَيُحْتَمَلُ إِنْ كَانَ حَفِظَهُ أَنْ يَكُونَ لِشُعْبَةَ فِيهِ شَيْخَانِ.

قَوْلُهُ: (ح وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ: قَالَ: وَحَدَّثَنَا وَفَاعِلُ قَالَ هُوَ الْمُصَنِّفُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيُّ، وَزُهَيْرٌ هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ الْجُعْفِيُّ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ كَذَا فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ الْأَنْصَارِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) كَذَا فِي الْأَصْلِ غَيْرَ مَنْسُوبٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَبْلَهُ وَهُوَ ابْنُ أَخِي عَمْرَةَ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَتَابَعَهُ آخَرُونَ عَنْ يَحْيَى. وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ بِلَالٍ رَوَاهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الرِّجَالِ، وَكَذَا رَوَاهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرَةَ، وَهُوَ أَبُو الرِّجَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِيَحْيَى فِيهِ شَيْخَانِ، لَكِنْ رَجَّحَ الدَّارَقُطْنِيُّ الْأَوَّلَ، وَحَكَى فِيهِ اخْتِلَافَاتٍ أُخْرَى عَنْ يَحْيَى مُوهِمَةً

(1)

، وَقَدْ رَوَاهُ مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، فَأُسْقِطَ مِنَ الْإِسْنَادِ اثْنَيْنِ.

(1)

في نسخة: موههومة.

ص: 46

قَوْلُهُ: (هَلْ قَرَأَ بِأُمِّ الْكِتَابِ) فِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ: بِأُمِّ الْقُرْآنِ زَادَ مَالِكٌ فِي الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ: أَمْ لَا؟

(تَنْبِيهٌ): سَاقَ الْبُخَارِيُّ الْمَتْنَ عَلَى لَفْظِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَأَمَّا لَفْظُ شُعْبَةَ فَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ بِلَفْظِ: إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، أَوْ لَمْ يُصَلِّ إِلَّا رَكْعَتَيْنِ، أَقُولُ: لَمْ يَقْرَأْ فِيهِمَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ. وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مُعَاذٍ، عَنْ شُعْبَةَ لَكِنْ لَمْ يَقُلْ: أَوْ لَمْ يُصَلِّ إِلَّا رَكْعَتَيْنِ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ: كَانَ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ لَمْ يُصَلِّ إِلَّا رَكْعَتَيْنِ، فَأَقُولُ: هَلْ قَرَأَ فِيهِمَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ. وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا قِرَاءَةَ فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ أَصْلًا، وَتُعُقِّبَ بِمَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الْآتِيَةِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَيْسَ مَعْنَى هَذَا أَنَّهَا شَكَّتْ فِي قِرَاءَتِهِ صلى الله عليه وسلم الْفَاتِحَةَ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ يُطِيلُ فِي النَّوَافِلِ، فَلَمَّا خَفَّفَ فِي قِرَاءَةِ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ صَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ. قُلْتُ: وَفِي تَخْصِيصِهَا أُمَّ الْقُرْآنِ بِالذِّكْرِ إِشَارَةٌ إِلَى مُوَاظَبَتِهِ لِقِرَاءَتِهَا فِي غَيْرِهَا مِنْ صَلَاتِهِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ وَكَانَ يَقُولُ: نِعْمَ السُّورَتَانِ يُقْرَأُ بِهِمَا فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَائِشَةَ: كَانَ يَقْرَأُ فِيهِمَا بِهِمَا.

وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ فِيهِمَا بِهِمَا. وَلِلتِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: رَمَقْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم شَهْرًا، فَكَانَ يَقْرَأُ فِيهِمَا بِهِمَا. وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ بِغَيْرِ تَقْيِيدٍ، وَكَذَا لِلْبَزَّارِ، عَنْ أَنَسٍ، وَلِابْنِ حِبَّانَ، عَنْ جَابِرٍ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّرْغِيبِ فِي قِرَاءَتِهِمَا فِيهِمَا، وَاسْتُدِلَّ بِحَدِيثِ الْبَابِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَزِيدُ فِيهِمَا عَلَى أُمِّ الْقُرْآنِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَفِي الْبُوَيْطِيِّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ اسْتِحْبَابُ قِرَاءَةِ السُّورَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِيهِمَا مَعَ الْفَاتِحَةِ عَمَلًا بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَبِذَلِكَ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَقَالُوا: مَعْنَى قَوْلِ عَائِشَةَ: هَلْ قَرَأَ فِيهِمَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ. أَيْ: مُقْتَصِرًا عَلَيْهَا، أَوْ ضَمَّ إِلَيْهَا غَيْرَهَا، وَذَلِكَ لِإِسْرَاعِهِ بِقِرَاءَتِهَا، وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يُرَتِّلَ السُّورَةَ حَتَّى تَكُونَ أَطْوَلَ مِنْ أَطْوَلَ مِنْهَا كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى إِطَالَةِ الْقِرَاءَةِ فِيهِمَا، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ، وَنُقِلَ عَنِ النَّخَعِيِّ، وَأَوْرَدَ الْبَيْهَقِيُّ فِيهِ حَدِيثًا مَرْفُوعًا مِنْ مُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَفِي سَنَدِهِ رَاوٍ لَمْ يُسَمَّ، وَخَصَّ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ بِمَنْ فَاتَهُ شَيْءٌ مِنْ قِرَاءَتِهِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ فَيَسْتَدْرِكُهَا فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عُرِفَ بِقِرَاءَتِهِ بَعْضَ السُّورَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ مِنْ حَدِيثِ أَبَي قَتَادَةَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ: يُسْمِعُنَا الْآيَةَ أَحْيَانًا. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ فِي رِوَايَةِ ابْنِ سِيرِينَ الْمَذْكُورَةِ: يُسِرُّ فِيهِمَا الْقِرَاءَةَ. وَقَدْ صَحَّحَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَاسْتُدِلَّ بِالْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهَا مَعَ سُورَتَيِ الْإِخْلَاصِ. وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ:{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ، وَفِي الْأُخْرَى الَّتِي فِي آلِ عِمْرَانَ

(1)

وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ تَرَكَ ذِكْرَ الْفَاتِحَةِ لِوُضُوحِ الْأَمْرِ فِيهَا. وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ قَوْلَ عَائِشَةَ: لَا أَدْرِي أَقْرَأَ الْفَاتِحَةَ أَمْ لَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَاتِحَةَ كَانَ مُقَرَّرًا عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَابُدَّ مِنْ قِرَاءَتِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (تَنْبِيهٌ): هَذِهِ الْأَبْوَابُ السِّتَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ وَقَعَ فِي أَكْثَرِ الْأُصُولِ الْفَصَلُ بَيَّنَهَا بِالْبَابِ الْآتِي بَعْدُ، وَهُوَ: بَابُ مَا جَاءَ فِي التَّطَوُّعِ مَثْنَى مَثْنَى.

وَالصَّوَابُ مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الْأُصُولِ مِنْ تَأْخِيرِهِ عَنْهَا، وَإِيرَادِهَا يَتْلُو بَعْضُهَا

(1)

هي قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الآية، كما جاء ذلك صريحا في إحدى روايتي مسلم.

ص: 47

بَعْضًا، قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: الظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ عِنْدَ ضَمِّ بعضِ الْأَبْوَابِ إِلَى بَعْضٍ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ أَتْبَعَ هَذَا الْبَابَ بِقَوْلِهِ: بَابُ الْحَدِيثِ بَعْدَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ؛ كَالْمُبَيِّنِ لِلْحَدِيثِ الَّذِي أُدْخِلَ تَحْتَ قَوْلِهِ: بَابُ مَنْ تَحَدَّثَ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ، إِذِ الْمُرَادُ بِهِمَا رَكْعَتَا الْفَجْرِ، وَبِهَذَا تَتَبَيَّنُ فَائِدَةُ إِعَادَةِ الْحَدِيثِ. انْتَهَى. وَإِنَّمَا ضَمَّ الْمُصَنِّفُ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ إِلَى التَّهَجُّدِ لِقُرْبِهِمَا مِنْهُ، كَمَا وَرَدَ أَنَّ الْمَغْرِبَ وِتْرُ النَّهَارِ، وَإِنَّمَا الْمَغْرِبُ فِي التَّحْقِيقِ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ، كَمَا أَنَّ الْفَجْرَ فِي الشَّرْعِ مِنْ صَلَاةِ النَّهَارِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌28 - بَاب مَا جَاءَ فِي التَّطَوُّعِ مَثْنَى مَثْنَى

وَيُذْكَرُ ذَلِكَ عَنْ عَمَّارٍ، وَأَبِي ذَرٍّ، وَأَنَسٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَعِكْرِمَةَ وَالزُّهْرِيِّ رضي الله عنهم، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ: مَا أَدْرَكْتُ فُقَهَاءَ أَرْضِنَا إِلَّا يُسَلِّمُونَ فِي كُلِّ اثْنَتَيْنِ مِنْ النَّهَارِ

1162 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الْمَوَالِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ يَقُولُ: إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي - أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ - فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي - أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ - فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ أَرْضِنِي به، قَالَ: وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ.

[الحديث 1162 طرفاه في 7390، 6382]

1163 -

حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ سَمِعَ أَبَا قَتَادَةَ بْنَ رِبْعِيٍّ الْأنْصَارِيَّ رضي الله عنه قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ"

1164 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أبِي طَلْحَةَ عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: "صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفَ".

1165 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: "صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ"

ص: 48

1166 -

حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَخْطُبُ: إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ - أَوْ قَدْ خَرَجَ - فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ.

1167 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَيْفُ بْنُ سُلَيْمَانَ المكي: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ: أُتِيَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما فِي مَنْزِلِهِ فَقِيلَ لَهُ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ دَخَلَ الْكَعْبَةَ، قَالَ: فَأَقْبَلْتُ فَأَجِدُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ خَرَجَ، وَأَجِدُ بِلَالًا عِنْدَ الْبَابِ قَائِمًا، فَقُلْتُ: يَا بِلَالُ، صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْكَعْبَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَأَيْنَ؟ قَالَ: بَيْنَ هَاتَيْنِ الْأُسْطُوَانَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فِي وَجْهِ الْكَعْبَةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا جَاءَ فِي التَّطَوُّعِ مَثْنَى مَثْنَى) أَيْ: فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: مَقْصُودُهُ أَنْ يُبَيِّنَ بِالْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ الَّتِي أَوْرَدَهَا أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: مَثْنَى مَثْنَى أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ كُلِّ ثِنْتَيْنِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ مُحَمَّدٌ) هُوَ الْمُصَنِّفُ.

قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ ذَلِكَ عَنْ عَمَّارٍ، وَأَبِي ذَرٍّ، وَأَنَسٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالزُّهْرِيِّ). أَمَّا عَمَّارٌ: فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ: أَنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ. إِسْنَادُهُ حَسَنٌ. وَأَمَّا أَبُو ذَرٍّ: فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ: أَنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَأَتَى سَارِيَةً، وَصَلَّى عِنْدَهَا رَكْعَتَيْنِ. وَأَمَّا أَنَسٌ: فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى حَدِيثِهِ الْمَشْهُورِ فِي صَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهِمْ فِي بَيْتِهِمْ رَكْعَتَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصُّفُوفِ، وَذَكَرَهُ فِي الْبَابِ مُخْتَصَرًا. وَأَمَّا جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَهُوَ أَبُو الشَّعْثَاءِ الْبَصْرِيُّ: فَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ بَعْدُ، وَأَمَّا عِكْرِمَةُ: فَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ حَرَمِيِّ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي خَلْدَةَ، قَالَ: رَأَيْتُ عِكْرِمَةَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ. وَأَمَّا الزُّهْرِيُّ: فَلَمْ أَقِفْ ذَلِكَ عَنْهُ مَوْصُولًا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ إِلَخْ) لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ مَوْصُولًا أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (فُقَهَاءَ أَرْضِنَا) أَيِ: الْمَدِينَةُ، وَقَدْ أَدْرَكَ كِبَارَ التَّابِعِينَ بِهَا، كَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَلَحِقَ قَلِيلًا مِنْ صِغَارِ الصَّحَابَةِ كَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ ثَمَانِيَةَ أَحَادِيثَ مَرْفُوعَةً؛ سِتَّةٌ مِنْهَا مَوْصُولَةٌ، وَاثْنَانِ مُعَلَّقَانِ، أَوَّلُهَا: حَدِيثُ جَابِرٍ فِي صَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ، وسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الدَّعَوَاتِ.

ثَانِيهَا: حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ فِي تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ.

ثَالِثُهَا: حَدِيثُ أَنَسٍ فِي صَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِ أُمِّ سُلَيْمٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصُّفُوفِ.

رَابِعُهَا: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي رَوَاتِبِ الْفَرَائِضِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ.

خَامِسُهَا: حَدِيثُ جَابِرٍ فِي صَلَاةِ التَّحِيَّةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، وَسَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ.

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَوْصَانِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرَكْعَتَيْ الضُّحَى، وَقَالَ عِتْبَانُ: غَدَا عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه بَعْدَمَا امْتَدَّ النَّهَارُ وَصَفَفْنَا وَرَاءَهُ، فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ.

سَادِسُهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ بِلَالٍ فِي صَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْكَعْبَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَبْوَابِ الْقِبْلَةِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْحَجِّ، سَابِعُهَا قَوْلُهُ: وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَوْصَانِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرَكْعَتَيِ الضُّحَى. هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ سَيَأْتِي فِي كِتَابِ الصِّيَامِ بِتَمَامِهِ، ثَامِنُهَا قَوْلُهُ: وَقَالَ عِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ. هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ تَقَدَّمَ فِي مَوَاضِعَ مُطَوَّلًا وَمُخْتَصَرًا، مِنْهَا فِي بَابِ الْمَسَاجِدِ فِي الْبُيُوتِ، وَسَيَأْتِي قَرِيبًا فِي بَابِ صَلَاةِ النَّوَافِلِ جَمَاعَةً. وَمُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ التَّطَوُّعَ فِي النَّهَارِ يَكُونُ أَرْبَعًا مَوْصُولَةً، وَاخْتَارَ الْجُمْهُورُ التَّسْلِيمَ مَنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ

ص: 49

وَالنَّهَارِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ: يُخَيَّرُ فِي صَلَاةِ النَّهَارِ بَيْنَ الثِّنْتَيْنِ وَالْأَرْبَعِ، وَكَرِهُوا الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ أَبْوَابِ الْوِتْرِ حِكَايَةُ اسْتِدْلَالِ مَنِ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى عَلَى أَنَّ صَلَاةَ النَّهَارِ بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: إِنَّمَا خَصَّ اللَّيْلَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِيهِ الْوِتْرَ، فَلَا يُقَاسُ عَلَى الْوِتْرِ غَيْرُهُ، فَيَتَنَفَّلُ الْمُصَلِّي بِاللَّيْلِ أَوْتَارًا، فَبَيَّنَ أَنَّ الْوِتْرَ لَا يُعَادُ، وَأَنَّ بَقِيَّةَ صَلَاةِ اللَّيْلِ مَثْنَى، وَإِذَا ظَهَرَتْ فَائِدَةُ تَخْصِيصِ اللَّيْلِ صَارَ حَاصِلُ الْكَلَامِ صَلَاةَ النَّافِلَةِ سِوَى الْوِتْرِ مَثْنَى، فَيَعُمُّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَتْ أَبْوَابُ التَّهَجُّدِ وَمَا انْضَمَّ إِلَيْهَا عَلَى سِتَّةٍ وَسِتِّينَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ اثْنَا عَشَرَ حَدِيثًا، وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى ثَلَاثَةٌ وَأَرْبَعُونَ حَدِيثًا، وَالْخَالِصُ ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ سَبْعٍ وَتِسْعٍ وَإِحْدَى عَشْرَةَ، وَحَدِيثِ أَنَسٍ: كَانَ يُفْطِرُ حَتَّى تظُنَّ أَنْ لَا يَصُومَ، وَحَدِيثِ سَمُرَةَ فِي الرُّؤْيَا، وَحَدِيثِ سَلْمَانَ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَحَدِيثِ عُبَادَةَ: مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي شِعْرِ ابْنِ رَوَاحَةَ، وَحَدِيثِ جَابِرٍ فِي الِاسْتِخَارَةِ. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ عَشَرَةُ آثَارٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌29 - بَاب التَّطَوُّعِ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ

1172 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ، فَأَمَّا الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ فَفِي بَيْتِهِ. (أَبْوَابُ التَّطَوُّعِ) لَمْ يُفْرِدِ الْمُصَنِّفُ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ فِيمَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْأُصُولِ.

1173 -

وَحَدَّثَتْنِي أُخْتِي حَفْصَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ بَعْدَ مَا يَطْلُعُ الْفَجْرُ وَكَانَتْ سَاعَةً لَا أَدْخُلُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ "بَعْدَ الْعِشَاءِ فِي أَهْلِهِ"

قَوْلُهُ: (بَابُ التَّطَوُّعِ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ) تَرْجَمَ أَوَّلًا بِمَا بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ، ثُمَّ تَرْجَمَ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا قَبْلَ الْمَكْتُوبَةِ.

قَوْلُهُ: (صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَجْدَتَيْنِ) أَيْ: رَكْعَتَيْنِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مَعَ التَّبَعِيَّةُ؛ أَيْ أَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا صَلَاةً إِلَّا التَّجْمِيعَ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِمَنْ قَالَ: يَجْمَعُ فِي رَوَاتِبِ الْفَرَائِضِ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ مِنْ رِوَايَةِ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: حَفِظْتُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ رَكَعَاتٍ. فَذَكَرَهَا.

قَوْلُهُ: (قَبْلَ الظُّهْرِ) سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ.

قَوْلُهُ: (فَأَمَّا الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ فَفِي بَيْتِهِ) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ فِعْلَ النَّوَافِلِ اللَّيْلِيَّةِ فِي الْبُيُوتِ أَفْضَلُ مِنَ الْمَسْجِدِ بِخِلَافِ رَوَاتِبِ النَّهَارِ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ لِذَلِكَ نَظَرٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ عَنْ عَمْدٍ، وَإِنَّمَا كَانَ صلى الله عليه وسلم يَتَشَاغَلُ بِالنَّاسِ فِي النَّهَارِ غَالِبًا، وَبِاللَّيْلِ يَكُونُ فِي بَيْتِهِ غَالِبًا، وَتَقَدَّمَ فِي الْجُمُعَةِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ: وَكَانَ لَا يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ حَتَّى يَنْصَرِفَ. وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يُبَادِرُ إِلَى الْجُمُعَةِ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ إِلَى الْقَائِلَةِ،

ص: 50

بِخِلَافِ الظُّهْرِ، فَإِنَّهُ كَانَ يُبْرِدُ بِهَا، وَكَانَ يَقِيلُ قَبْلَهَا، وَأَغْرَبَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى فَقَالَ: لَا تُجْزِئُ سُنَّةُ الْمَغْرِبِ فِي الْمَسْجِدِ، حَكَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ عَنْهُ عَقِبَ رِوَايَتِهِ لِحَدِيثِ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، رَفَعَهُ: إِنَّ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ مِنْ صَلَاةِ الْبُيُوتِ. وَقَالَ: إِنَّهُ حَكَى ذَلِكَ لِأَبِيهِ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فَاسْتَحْسَنَهُ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ: عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ: بَعْدَ الْعِشَاءِ فِي أَهْلِهِ. تَابَعَهُ كَثِيرُ بْنُ فَرْقَدٍ وَأَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ.

قَوْلُهُ: (وَحَدَّثَتْنِي أُخْتِي حَفْصَةُ) أَيْ: بِنْتُ عُمَرَ، وَقَائِلُ ذَلِكَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (سَجْدَتَيْنِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: رَكْعَتَيْنِ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَتْ سَاعَةً) قَائِلُ ذَلِكَ هُوَ ابْنُ عُمَرَ، وَسَيَأْتِي مِنْ رِوَايَةِ أَيُّوبَ بِلَفْظِ: رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَكَانَتْ سَاعَةً لَا أَدْخُلُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا، وَحَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ، وَطَلَعَ الْفَجْرُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا أَخَذَ عَنْ حَفْصَةَ وَقْتَ إِيقَاعِ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الصُّبْحِ لَا أَصْلَ مَشْرُوعِيَّتِهِمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ الْجُمُعَةِ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ الصُّبْحِ أَصْلًا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ) أَيْ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ (بَعْدَ الْعِشَاءِ فِي أَهْلِهِ)؛ أَيْ بَدَلَ قَوْلِهِ فِي بَيْتِهِ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ كَثِيرُ بْنُ فَرْقَدٍ، وَأَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ) أَمَّا رِوَايَةُ كَثِيرٍ فَلَمْ تَقَعْ لِي مَوْصُولَةً، وَأَمَّا رِوَايَةُ أَيُّوبَ فَتَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا قَرِيبًا، وَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ لِلْفَرَائِضِ رَوَاتِبَ تُسْتَحَبُّ الْمُوَاظَبَةُ عَلَيْهَا، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَذَهَبَ مَالِكٌ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ إِلَى أَنَّهُ لَا تَوْقِيتَ فِي ذَلِكَ حِمَايَةً لِلْفَرَائِضِ، لَكِنْ لَا يَمْنَعُ مِنْ تَطَوُّعٍ بِمَا شَاءَ إِذَا أُمِنَ ذَلِكَ، وَذَهَبَ الْعِرَاقِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى مُوَافَقَةِ الْجُمْهُورِ.

‌30 - بَاب مَنْ لَمْ يَتَطَوَّعْ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ

1174 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو قَالَ: سَمِعْتُ أبَا الشَّعْثَاءِ جَابِرًا قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَمَانِيًا جَمِيعًا وَسَبْعًا جَمِيعًا قُلْتُ: يَا أَبَا الشَّعْثَاءِ أَظُنُّهُ أَخَّرَ الظُّهْرَ وَعَجَّلَ الْعَصْرَ، وَعَجَّلَ الْعِشَاءَ وَأَخَّرَ الْمَغْرِبَ، قَالَ: وَأَنَا أَظُنُّهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ لَمْ يَتَطَوَّعْ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْمَوَاقِيتِ، وَمُطَابَقَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ أَنَّ الْجَمْعَ يَقْتَضِي عَدَمَ التَّخَلُّلِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِصَلَاةٍ رَاتِبَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، فَيَدُلُّ عَلَى تَرْكِ التَّطَوُّعِ بَعْدَ الْأُولَى، وَهُوَ الْمُرَادُ، وَأَمَّا التَّطَوُّعُ بَعْدَ الثَّانِيَةِ فَمَسْكُوتٌ عَنْهُ، وَكَذَا التَّطَوُّعُ قَبْلَ الْأُولَى مُحْتَمَلٌ.

‌31 - بَاب صَلَاةِ الضُّحَى فِي السَّفَرِ

1175 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ تَوْبَةَ، عَنْ مُوَرِّقٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَتُصَلِّي الضُّحَى؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَعُمَرُ؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَأَبُو بَكْرٍ؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: لَا إِخَالُهُ.

1176 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ: مَا حَدَّثَنَا أَحَدٌ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الضُّحَى غَيْرُ أُمِّ هَانِئٍ، فَإِنَّهَا قَالَتْ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ بَيْتَهَا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَاغْتَسَلَ وَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ، فَلَمْ أَرَ صَلَاةً قَطُّ أَخَفَّ مِنْهَا، غَيْرَ أَنَّهُ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ.

ص: 51

قَوْلُهُ: (بَابُ صَلَاةِ الضُّحَى فِي السَّفَرِ) ذُكِرَ فِيهِ حَدِيثُ مُوَرِّقٍ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ أَتُصَلِّي الضُّحَى؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَعُمَرُ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَأَبُو بَكْرٍ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: لَا إِخَالُهُ. وَحَدِيثُ أُمِّ هَانِئٍ فِي صَلَاةِ الضُّحَى يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ. وَقَدْ أَشْكَلَ دُخُولُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ، وَقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: لَيْسَ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَإِنَّمَا يَصْلُحُ فِي بَابِ مَنْ لَمْ يُصَلِّ الضُّحَى، وَأَظُنُّهُ مِنْ غَلَطِ النَّاسِخِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْبُخَار يَّ لَمَّا تَعَارَضَتْ عِنْدَهُ الْأَحَادِيثُ نَفْيًا كَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ هَذَا، وَإِثْبَاتًا كَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْوَصِيَّةِ لَهُ أَنَّهُ يُصَلِّي الضُّحَى، نَزَلَ حَدِيثُ النَّفْيِ عَلَى السَّفَرِ، وَحَدِيثُ الْإِثْبَاتِ عَلَى الْحَضَرِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُ تَرْجَمَ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: صَلَاةُ الضُّحَى فِي الْحَضَرِ، وَتَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَوْ كُنْتُ مُسَبِّحًا لَأَتْمَمْتُ فِي السَّفَرِ. وَأَمَّا حَدِيثُ أُمِّ هَانِئٍ فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا تُصَلَّي فِي السَّفَرِ بِحَسَبَ السُّهُولَةِ لِفِعْلِهَا، وَقَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: لَيْسَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ التَّصْرِيحُ بِالْحَضَرِ، لَكِنْ اسْتَنَدَ ابْنُ الْمُنِيرِ إِلَى قَوْلِهِ فِيهِ: وَنَمْ عَلَى وِتْرٍ، فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ كَوْنُ ذَلِكَ فِي الْحَضَرِ، لِأَنَّ الْمُسَافِرَ غَالِبُ حَالِهِ الِاسْتِيفَازُ وَسَهَرُ اللَّيْلِ، فَلَا يَفْتَقِرُ لِإِيصَاءٍ أَنْ لَا يَنَامَ إِلَّا عَلَى وِتْرٍ، وَكَذَا التَّرْغِيبُ فِي صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.

قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْمُرَادَ بَابُ صَلَاةِ الضُّحَى فِي السَّفَرِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ ظَاهِرُهُ نَفْيُ ذَلِكَ حَضَرًا وَسَفَرًا، وَأَقَلُّ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ نَفْيُ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ لِمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ مَنْ لَمْ يَتَطَوَّعْ فِي السَّفَرِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: صَحِبْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَكَانَ لَا يَزِيدُ عَلَى رَكْعَتَيْنِ. قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: لَمَّا نَفَى صَلَاتَهَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِحَضَرٍ وَلَا سَفَرٍ - وَأَقَلُّ مَا يَتَحَقَّقُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ السَّفَرُ، وَيَبْعُدُ حَمْلُهُ عَلَى الْحَضَرِ دُونَ السَّفَرِ - فَحُمِلَ عَلَى السَّفَرِ لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِلتَّخْفِيفِ، لِمَا عُرِفَ مِنْ عَادَةِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَتَنَفَّلُ فِي السَّفَرِ نَهَارًا. قَالَ: وَأَوْرَدَ حَدِيثَ أُمِّ هَانِئٍ لِيُبَيِّنَ أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ فِي السَّفَرِ حَالُ طُمَأْنِينَةٍ تُشْبِهُ حَالَةَ الْحَضَرِ كَالْحُلُولِ بِالْبَلَدِ شُرِعَتِ الضُّحَى، وَإِلَّا فَلَا. قُلْتُ: وَيَظْهَرُ لِي أَيْضًا أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ بِالتَّرْجَمَةِ الْمَذْكُورَةِ إِلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِي السَّفَرِ سُبْحَةَ الضُّحَى ثَمَانِ رَكَعَاتٍ. فَأَرَادَ أَنَّ تَرَدُّدَ ابْنِ عُمَرَ فِي كَوْنِهِ صَلَّاهَا أَوْ لَا، لَا يَقْتَضِي رَدَّ مَا جَزَمَ بِهِ أَنَسٌ، بَلْ يُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أُمِّ هَانِئٍ فِي ذَلِكَ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ الْمَذْكُورُ صَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ تَوْبَةَ) بِمُثَنَّاةٍ مَفْتُوحَةٍ، وَوَاوٍ سَاكِنَةٍ، ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ، وهُوَ ابْنُ كَيْسَانَ الْعَنْبَرِيُّ الْبَصْرِيُّ، تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ مَا لَهُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ وَحَدِيثٍ آخَرَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ مُوَرِّقٍ) بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَكَسْرِ الرَّاءِ الثَّقِيلَةِ، وَفِي رِوَايَةِ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: سَمِعْتُ مُوَرِّقًا الْعِجْلِيَّ، وَهُوَ بَصْرِيٌّ ثِقَةٌ، وَكَذَا مَنْ دُونَهُ فِي الْإِسْنَادِ، وَلَيْسَ لِمُوَرِّقٍ فِي الْبُخَارِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ.

قَوْلُهُ: (لَا إِخَالُهُ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَتُفْتَحُ أَيْضًا، وَالْخَاءُ مُعْجَمَةٌ أَيْ: لَا أَظُنُّهُ. وَكَأَنَّ سَبَبَ تَوَقُّفِ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ غَيْرِهِ أَنَّهُ صَلَّاهَا، وَلَمْ يَثِقْ بِذَلِكَ عَمَّنْ ذَكَرَهُ، وَقَدْ جَاءَ عَنْهُ الْجَزْمُ بِكَوْنِهَا مُحْدَثَةً، فَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهَا مُحْدَثَةٌ، وَإِنَّهَا لَمِنْ أَحْسِنِ مَا أَحْدَثُوا. وَسَيَأْتِي فِي أَوَّلِ أَبْوَابِ الْعُمْرَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ جَالِسٌ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ، وَإِذَا نَاسٌ يُصَلُّونَ الضُّحَى، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ صَلَاتِهِمْ، فَقَالَ: بِدْعَةٌ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ الْأَعْرَجِ، عَنِ الْأَعْرَجِ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنْ صَلَاةِ الضُّحَى، فَقَالَ: بِدْعَةٌ، وَنِعْمَتِ الْبِدْعَةُ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَقَدْ قُتِلَ عُثْمَانُ، وَمَا أَحَدٌ يُسَبِّحُهَا، وَمَا أَحْدَثَ النَّاسُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْهَا. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:

ص: 52

مَا صَلَّيْتُ الضُّحَى مُنْذُ أَسْلَمْتُ، إِلَّا أَنْ أَطُوفَ بِالْبَيْتِ. أَيْ: فَأُصَلِّي فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا عَلَى نِيَّةِ صَلَاةِ الضُّحَى، بَلْ عَلَى نِيَّةِ الطَّوَافِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ يَنْوِيهِمَا مَعًا.

وَقَدْ جَاءَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ خَاصٍّ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ مِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يُصَلِّي الضُّحَى إِلَّا يَوْمَ يَقْدُمُ مَكَّةَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَقْدُمُهَا ضُحًى فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَيَوْمَ يَأْتِي مَسْجِدَ قُبَاءٍ. وَرَوَى ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يُصَلِّي الضُّحَى إِلَّا أَنْ يَقْدُمَ مِنْ غَيْبَةٍ، فَأَمَّا مَسْجِدُ قُبَاءٍ، فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يُصَلِّي الضُّحَى إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ قُبَاءً. وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنْ يُرِيدَ بِهِ صَلَاةَ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ فِي وَقْتِ الضُّحَى لَا صَلَاةَ الضُّحَى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ يَنْوِيهِمَا مَعًا كَمَا قُلْنَاهُ فِي الطَّوَافِ. وَفِي الْجُمْلَةِ لَيْسَ فِي أَحَادِيثِ ابْنِ عُمَرَ هَذِهِ مَا يَدْفَعُ مَشْرُوعِيَّةَ صَلَاةِ الضُّحَى؛ لِأَنَّ نَفْيَهُ مَحْمُولٌ عَلَى عَدَمِ رُؤْيَتِهِ، لَا عَلَى عَدَمِ الْوُقُوعِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، أَوِ الَّذِي نَفَاهُ صِفَةٌ مَخْصُوصَةٌ كَمَا سَيَأْتِي نَحْوُهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ. قَالَ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ: إِنَّمَا أَنْكَرَ ابْنُ عُمَرَ مُلَازَمَتَهَا وَإِظْهَارَهَا فِي الْمَسَاجِدِ وَصَلَاتَهَا جَمَاعَةً، لَا أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِلسُّنَّةِ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ رَأَى قَوْمًا يُصَلُّونَهَا فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ: إِنْ كَانَ وَلَابُدَّ فَفِي بُيُوتِكُمْ.

قَوْلُهُ: (مَا حَدَّثَنَا أَحَدٌ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى: أَدْرَكْتُ النَّاسَ وَهُمْ مُتَوَافِرُونَ، فَلَمْ يُخْبِرْنِي أَحَدٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الضُّحَى، إِلَّا أُمُّ هَانِئٍ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ الْهَاشِمِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ وَحَرَصْتُ عَلَى أَنْ أَجِدَ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ يُخْبِرُنِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَبَّحَ سُبْحَةَ الضُّحَى، فَلَمْ أَجِدْ غَيْرَ أُمِّ هَانِئِ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ حَدَّثَتْنِي، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ هَذَا هُوَ ابْنُ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مَذْكُورٌ فِي الصَّحَابَةِ لِكَوْنِهِ وُلِدَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَبَيَّنَ ابْنُ مَاجَهْ فِي رِوَايَتِهِ وَقْتَ سُؤَالِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ ذَلِكَ، وَلَفْظُهُ: سَأَلْتُ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ وَالنَّاسُ مُتَوَافِرُونَ.

قَوْلُهُ: (غَيْرُ) بِالرَّفْعِ لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: أَحَدٌ.

قَوْلُهُ: (أُمِّ هَانِئٍ) هِيَ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ أُخْتُ عَلِيٍّ شَقِيقَتُهُ، وَلَيْسَ لَهَا فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا، وَحَدِيثٍ آخَرَ تَقَدَّمَ فِي الطَّهَارَةِ.

قَوْلُهُ: (دَخَلَ بَيْتَهَا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَاغْتَسَلَ وَصَلَّى) ظَاهِرُهُ أَنَّ الِاغْتِسَالَ وَقَعَ فِي بَيْتِهَا، وَوَقَعَ فِي الْمُوَطَّأِ وَمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُرَّةَ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ أَنَّهَا ذَهَبَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّةَ فَوَجَدَتْهُ يَغْتَسِلُ، وَجُمِعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ ذَلِكَ تَكَرَّرَ مِنْهُ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ، وَفِيهِ: أَنَّ أَبَا ذَرٍّ سَتَرَهُ لَمَّا اغْتَسَلَ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي مُرَّةَ عَنْهَا أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَهُ هِيَ الَّتِي سَتَرَتْهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ فِي بَيْتِهَا بِأَعْلَى مَكَّةَ، وَكَانَتْ هِيَ فِي بَيْتٍ آخَرَ بِمَكَّةَ فَجَاءَتْ إِلَيْهِ فَوَجَدَتْهُ يَغْتَسِلُ، فَيَصِحُّ الْقَوْلَانِ، وَأَمَّا السَّتْرُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا سَتَرَهُ فِي ابْتِدَاءِ الْغُسْلِ، وَالْآخَرُ فِي أَثْنَائِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (ثَمَانَ رَكَعَاتٍ) زَادَ كُرَيْبٌ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ: فَسَلَّمَ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ. أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ. وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ تَمَسَّكَ بِهِ فِي صَلَاتِهَا مَوْصُولَةً سَوَاءٌ صَلَّى ثَمَانَ رَكَعَاتٍ أَوْ أَقَلَّ. وَفِي الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى أَنَّهُ صَلَّى الضُّحَى رَكْعَتَيْنِ، فَسَأَلَتْهُ امْرَأَتُهُ، فَقَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صلى يَوْمَ الْفَتْحِ رَكْعَتَيْنِ. وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ رَأَى مِنْ صَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ، وَرَأَتْ أُمُّ هَانِئٍ بَقِيَّةَ الثَّمَانِ، وَهَذَا يُقَوِّي أَنَّهُ صَلَّاهَا مَفْصُولَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (فَلَمْ أَرَ صَلَاةً قَطُّ أَخَفَّ مِنْهَا) يَعْنِي: مِنْ صَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ أَبْوَابِ التَّقْصِيرِ بِلَفْظِ: فَمَا رَأَيْتُهُ صَلَّى صَلَاةً قَطُّ أَخَفَّ مِنْهَا. وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ الْمَذْكُورَةِ: لَا أَدْرِي أَقِيَامُهُ فِيهَا أَطْوَلُ أَمْ رُكُوعُهُ أَمْ سُجُودُهُ، كُلُّ ذَلِكَ مُتَقَارِبٌ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَخْفِيفِ صَلَاةِ الضُّحَى، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ فِيهِ التَّفَرُّغَ لِمُهِمَّاتِ الْفَتْحِ لِكَثْرَةِ شُغْلِهِ بِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ مِنْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ

ص: 53

صَلَّى الضُّحَى، فَطَوَّلَ فِيهَا. أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ. وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى إِثْبَاتِ سُنَّةِ الضُّحَى، وَحَكَى عِيَاضٌ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُ لَيْسَ فِي حَدِيثِ أُمِّ هَانِئٍ دَلَالَةٌ عَلَى ذَلِكَ، قَالُوا: وَإِنَّمَا هِيَ سُنَّةُ الْفَتْحِ، وَقَدْ صَلَّاهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي بَعْضِ فُتُوحِهِ كَذَلِكَ.

وَقَالَ عِيَاضٌ أَيْضًا: لَيْسَ حَدِيثُ أُمِّ هَانِئٍ بِظَاهِرٍ فِي أَنَّهُ قَصَدَ صلى الله عليه وسلم بِهَا سُنَّةَ الضُّحَى، وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهَا أَخْبَرَتْ عَنْ وَقْتِ صَلَاتِهِ فَقَطْ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ قَضَاءً عَمَّا شُغِلَ عَنْهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ مِنْ حِزْبِهِ فِيهِ. وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ الصَّوَابَ صِحَّةُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ، لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ كُرَيْبٍ، عَنْ أُمِّ هَانِئٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى سُبْحَةَ الضُّحَى، وَلِمُسْلِمٍ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُرَّةَ، عَنْ أُمِّ هَانِئٍ فِي قِصَّةِ اغْتِسَالِهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفَتْحِ: ثُمَّ صَلَّى ثَمَانَ رَكَعَاتٍ سُبْحَةَ الضُّحَى.

وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أُمِّ هَانِئٍ قَالَتْ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ، فَصَلَّى ثَمَانَ رَكَعَاتٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ؟ قَالَ: هَذِهِ صَلَاةُ الضُّحَى، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ صَلَاةِ الضُّحَى ثَمَانِ رَكَعَاتٍ. وَاسْتَبْعَدَهُ السُّبْكِيُّ، وَوُجِّهَ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعِبَادَةِ التَّوَقُّفُ، وَهَذَا أَكْثَرُ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ وَرَدَ مِنْ فِعْلِهِ دُونَ ذَلِكَ، كَحَدِيثِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الضُّحَى رَكْعَتَيْنِ. أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ، وَسَيَأْتِي مِنْ حَدِيثِ عِتْبَانَ قَرِيبًا مِثْلُهُ.

وَحَدِيثُ عَائِشَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: كَانَ يُصَلِّي الضُّحَى أَرْبَعًا. حَدِيثُ جَابِرٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ، أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الضُّحَى سِتَّ رَكَعَاتٍ، وَأَمَّا مَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فَفِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ كَحَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: مَنْ صَلَّى الضُّحَى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً بَنَى اللَّهُ لَهُ قَصْرًا فِي الْجَنَّةِ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَاسْتَغْرَبَهُ. وَلَيْسَ فِي إِسْنَادِهِ مَنْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ الضَّعْفُ.

وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا: مَنْ صَلَّى الضُّحَى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ، وَمَنْ صَلَّى أَرْبَعًا كُتِبَ مِنَ التَّائِبِينَ

(1)

، وَمَنْ صَلَّى سِتًّا كُفِيَ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَمَنْ صَلَّى ثَمَانِيًا كُتِبَ مِنَ الْعَابِدِينَ، وَمَنْ صَلَّى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ. وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ أَيْضًا، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رَوَاهُ الْبَزَّارُ، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ أَيْضًا، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الرُّويَانِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ: أَكْثَرُهَا ثِنْتَا عَشْرَةَ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: فِيهِ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى حَدِيثِ أَنَسٍ، لَكِنْ إِذَا ضُمَّ إِلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ قَوِيَ وَصَلُحَ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ. وَنَقَلَ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّ أَصَحَّ شَيْءٍ وَرَدَ فِي الْبَابِ حَدِيثُ أُمِّ هَانِئٍ. وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَلِهَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ: أَفْضَلُهَا ثَمَانٍ وَأَكْثَرُهَا ثِنْتَا عَشْرَةَ، فَفَرَّقَ بَيْنَ الْأَكْثَرِ وَالْأَفْضَلِ. وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ إِلَّا فِيمَنْ صَلَّى الِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنَّهَا تَقَعُ نَفْلًا مُطْلَقًا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ أَكْثَرَ سُنَّةِ الضُّحَى ثَمَانِ رَكَعَاتٍ، فَأَمَّا مَنْ فَصَّلَ فَإِنَّهُ يَكُونُ صَلَّى الضُّحَى، وَمَا زَادَ عَلَى الثَّمَانِ يَكُونُ لَهُ نَفْلًا مُطْلَقًا، فَتَكُونُ صَلَاتُهُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فِي حَقِّهِ أَفْضَلُ مِنْ ثَمَانٍ، لِكَوْنِهِ أَتَى بِالْأَفْضَلِ وَزَادَ، وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ، مِنْهُمْ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ وَبِهِ جَزَمَ الْحَلِيمِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ لِأَكْثَرِهَا.

وَرَوَى مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ الْأَسْوَدَ بْنَ يَزِيدَ: كَمْ أُصَلِّي الضُّحَى؟ قَالَ: كَمْ شِئْتَ. وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: كَانَ يُصَلِّي الضُّحَى أَرْبَعًا، وَيَزِيدُ مَا شَاءَ اللَّهُ. وَهَذَا الْإِطْلَاقُ قَدْ يُحْمَلُ عَلَى التَّنفيذ، فَيُؤَكِّدُ أَنَّ أَكْثَرَهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ أَفْضَلَهَا أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ، فَحَكَى الْحَاكِمُ فِي كِتَابِهِ الْمُفْرَدِ فِي صَلَاةِ الضُّحَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَخْتَارُونَ أَنْ تُصَلَّى الضُّحَى أَرْبَعًا لِكَثْرَةِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ كَحَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَأَبِي ذَرٍّ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مَرْفُوعًا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى: ابْنَ آدَمَ، ارْكَعْ لِي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ أَكْفِكَ آخِرَهُ. وَحَدِيثِ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَحَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ

(1)

في مخطوطة الرياض "من القانتين"

ص: 54

بْنِ عَمْرٍو، وَالنَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ كُلِّهِمْ بِنَحْوِهِ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَأَبِي مُرَّةَ الطَّائِفِيِّ كِلَاهُمَا عِنْدَ أَحْمَدَ بِنَحْوِهِ، وَحَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَحَدِيثِ أَبِي مُوسَى، رَفَعَهُ: مَنْ صَلَّى الضُّحَى أَرْبَعًا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَحَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا: أَتَدْرُونَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} قَالَ: وَفى عَمَلِ يَوْمِهِ بِأَرْبَعِ رَكَعَاتِ الضُّحَى.

أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَجَمَعَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ الْأَقْوَالَ فِي صَلَاةِ الضُّحَى، فَبَلَغَتْ سِتَّةً: الْأَوَّلُ مُسْتَحَبَّةٌ، وَاخْتُلِفَ فِي عَدَدِهَا، فَقِيلَ: أَقَلُّهَا رَكْعَتَانِ، وَأَكْثَرُهَا اثْنَتَا عَشْرَةً، وَقِيلَ: أَكْثَرُهَا ثَمَانٍ، وَقِيلَ: كَالْأَوَّلِ لَكِنْ لَا تُشْرَعُ سِتًّا وَلَا عَشَرَةً، وَقِيلَ: كَالثَّانِي، لَكِنْ لَا تُشْرَعُ سِتًّا، وَقِيلَ: رَكْعَتَانِ فَقَطْ، وَقِيلَ: أَرْبَعًا فَقَطْ، وَقِيلَ: لَا حَدَّ لِأَكْثَرِهَا. الْقَوْلُ الثَّانِي: لَا تُشْرَعُ إِلَّا لِسَبَبٍ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَفْعَلْهَا إِلَّا بِسَبَبٍ، وَاتَّفَقَ وُقُوعُهَا وَقْتَ الضُّحَى، وَتَعَدَّدَتِ الْأَسْبَابُ: فَحَدِيثُ أُمِّ هَانِئٍ فِي صَلَاتِهِ يَوْمَ الْفَتْحِ كَانَ بِسَبَبِ الْفَتْحِ، وَأَنَّ سُنَّةَ الْفَتْحِ أَنْ يُصَلِّيَ ثَمَانِ رَكَعَاتٍ، وَنَقَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ فِعْلِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ لَمَّا فَتَحَ الْحِيرَةَ، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الضُّحَى حِينَ بُشِّرَ بِرَأْسِ أَبِي جَهْلٍ، وَهَذِهِ صَلَاةُ شُكْرٍ كَصَلَاتِهِ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَصَلَاتِهِ فِي بَيْتِ عِتْبَانَ إِجَابَةً لِسُؤَالِهِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ مَكَانًا يَتَّخِذُهُ مُصَلًّى، فَاتَّفَقَ أَنَّهُ جَاءَهُ وَقْتَ الضُّحَى، فَاخْتَصَرَهُ الرَّاوِي، فَقَالَ: صَلَّى فِي بَيْتِهِ الضُّحَى.

وَكَذَلِكَ حَدِيثٌ بِنَحْوِ قِصَّةِ عِتْبَانَ مُخْتَصَرًا، قَالَ أَنَسٌ: مَا رَأَيْتُهُ صَلَّى الضُّحَى إِلَّا يَوْمَئِذٍ. وَحَدِيثُ عَائِشَةَ: لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي الضُّحَى إِلَّا أَنْ يَجِيءَ مِنْ مَغِيبِة؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَنْهَى عَنِ الطُّرُوقِ لَيْلًا، فَيَقْدُمُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، فَيَبْدَأُ بِالْمَسْجِدِ، فَيُصَلِّي وَقْتَ الضُّحَى.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: لَا تُسْتَحَبُّ أَصْلًا، وَصَحَّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّهَا، وَكَذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ.

الْقَوْلُ الرَّابِعُ: يُسْتَحَبُّ فِعْلُهَا تَارَةً وَتَرْكُهَا تَارَةً، بِحَيْثُ لَا يُوَاظَبُ عَلَيْهَا، وَهَذِهِ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ. وَالْحُجَّةُ فِيهِ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الضُّحَى، حَتَّى نَقُولَ: لَا يَدَعُهَا، وَيَدَعُهَا حَتَّى نَقُولَ: لَا يُصَلِّيهَا. أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُصَلِّيهَا عَشْرًا، وَيَدَعُهَا عَشْرًا. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُحَافِظُوا عَلَيْهَا كَالْمَكْتُوبَةِ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: إِنِّي لَأَدَعُهَا وَأَنَا أُحِبُّهَا مَخَافَةَ أَنْ أَرَاهَا حَتْمًا عَلَيَّ.

الْخَامِسُ: تُسْتَحَبُّ صَلَاتُهَا وَالْمُوَاظَبَةُ عَلَيْهَا فِي الْبُيُوتِ، أَيْ لِلْأَمْنِ مِنَ الْخَشْيَةِ الْمَذْكُورَةِ.

السَّادِسُ: أَنَّهَا بِدْعَةٌ، صَحَّ ذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ عُرْوَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَسُئِلَ أَنَسٌ عَنْ صَلَاةِ الضُّحَى فَقَالَ: الصَّلَوَاتُ خَمْسٌ. وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ رَأَى نَاسًا يُصَلُّونَ الضُّحَى، فَقَالَ: مَا صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا عَامَّةُ أَصْحَابِهِ. وَقَدْ جَمَعَ الْحَاكِمُ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي صَلَاةِ الضُّحَى فِي جُزْءٍ مُفْرَدٍ، وَذَكَرَ لِغَالِبِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مُسْتَنَدًا، وَبَلغَ عَدَدُ رُوَاةِ الْحَدِيثِ فِي إِثْبَاتِهَا نَحْوَ الْعِشْرِينَ نَفْسًا مِنَ الصَّحَابَةِ.

(لَطِيفَةٌ): رَوَى الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نُصَلِّيَ الضُّحَى بِسُورٍ؛ مِنْهَا: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَالضُّحَى. انْتَهَى. وَمُنَاسَبَةُ ذَلِكَ ظَاهِرَةٌ جِدًّا.

‌32 - بَاب مَنْ لَمْ يُصَلِّ الضُّحَى وَرَآهُ وَاسِعًا

1177 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبَّحَ سُبْحَةَ الضُّحَى وَإِنِّي لَأُسَبِّحُهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ لَمْ يُصَلِّ الضُّحَى وَرَآهُ) أَيِ التَّرْكَ (وَاسِعًا) أَيْ مُبَاحًا.

قَوْلُهُ: (مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبَّحَ سُبْحَةَ الضُّحَى) تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: السُّبْحَةَ - النَّافِلَةُ، وَأَصْلُهَا مِنَ التَّسْبِيحِ، وَخُصَّتِ النَّافِلَةُ بِذَلِكَ لِأَنَّ التَّسْبِيحَ الَّذِي

ص: 55

فِي الْفَرِيضَةِ نَافِلَةٌ فَقِيلَ لِصَلَاةِ النَّافِلَةِ سُبْحَةٌ، لِأَنَّهَا كَالتَّسْبِيحِ فِي الْفَرِيضَةِ.

قَوْلُهُ: (وَإِنِّي لِأُسَبِّحُهَا) كَذَا هُنَا مِنَ السُّبْحَةِ، وَتَقَدَّمَ فِي بَابِ التَّحْرِيضِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ بِلَفْظِ: وَإِنِّي لَأَسْتَحِبُّهَا مِنَ الِاسْتِحْبَابِ، وَهي مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا وَجْهٌ، لَكِنَّ الْأَوَّلَ يَقْتَضِي الْفِعْلَ، وَالثَّانِي لَا يَسْتَلْزِمُهُ، وَجَاءَ عَنْ عَائِشَةَ فِي ذَلِكَ أَشْيَاءٌ مُخْتَلِفَةٌ أَوْرَدَهَا مُسْلِمٌ: فَعِنْدَهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الضُّحَى؟ قَالَتْ: لَا، إِلَّا أَنْ يَجِيءَ مِنْ مَغِيبِهِ. وَعِنْدَهُ مِنْ طَرِيقِ مُعَاذَةَ عَنْهَا: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الضُّحَى أَرْبَعًا، وَيَزِيدُ مَا شَاءَ اللَّهُ. فَفِي الْأَوَّلِ نَفْيُ رُؤْيَتِهَا لِذَلِكَ مُطْلَقًا، وَفِي الثَّانِي تَقْيِيدُ النَّفْيِ بِغَيْرِ الْمَجِيءِ مِنْ مَغِيبِهِ، وَفِي الثَّالِثِ الْإِثْبَاتُ مُطْلَقًا. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ: فَذَهَبَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَجَمَاعَةٌ إِلَى تَرْجِيحِ مَا اتَّفَقَ الشَّيْخَانِ عَلَيْهِ دُونَ مَا انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ، وَقَالُوا: إِنَّ عَدَمَ رُؤْيَتِهَا لِذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْوُقُوعِ، فَيُقَدَّمُ مَنْ روي عَنْهُ مِنَ الصَّحَابَةِ الْأَثْبَاتِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: عِنْدِي أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهَا: مَا رَأَيْتُهُ سَبَّحَهَا؛ أَيْ دَاوَمَ عَلَيْهَا. وَقَوْلُهَا وَإِنِّي لَأُسَبِّحُهَا؛ أَيْ أُدَاوِمُ عَلَيْهَا، وَكَذَا قَوْلُهَا: وَمَا أَحْدَثَ النَّاسُ شَيْئًا: تَعْنِي الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهَا. قَالَ: وَفِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ - أَيِ الَّذِي تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ - إِشَارَةٌ إِلَى ذَلِكَ حَيْثُ قَالَتْ: وَإِنْ كَانَ لَيَدَعُ الْعَمَلَ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ.

انْتَهَى.

وَحَكَى الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ أَنَّهُ جُمِعَ بَيْنَ قَوْلِهَا: مَا كَانَ يُصَلِّي إِلَّا أَنْ يَجِيءَ مِنْ مَغِيبِهِ.، وَقَوْلِهَا: كَانَ يُصَلِّي أَرْبَعًا، وَيَزِيدُ مَا شَاءَ اللَّهُ. بِأَنَّ الْأَوَّلَ مَحْمُولٌ عَلَى صَلَاتِهِ إِيَّاهَا فِي الْمَسْجِدِ، وَالثَّانِي عَلَى الْبَيْتِ. قَالَ: وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ حَدِيثُهَا الثَّالِثُ - يَعْنِي حَدِيثَ الْبَابِ - وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَنْفِيَّ صِفَةٌ مَخْصُوصَةٌ، وَأُخِذَ الْجَمْعُ الْمَذْكُورُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ حِبَّانَ.

وَقَالَ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ: قَوْلُهُ: مَا صَلَّاهَا؛ مَعْنَاهَ: مَا رَأَيْتُهُ يُصَلِّيهَا، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهَا: كَانَ يُصَلِّيهَا، أَنَّهَا أَخْبَرَتْ فِي الْإِنْكَارِ عَنْ مُشَاهَدَتِهَا، وَفِي الْإِثْبَاتِ عَنْ غَيْرِهَا. وَقِيلَ فِي الْجَمْعِ أَيْضًا: يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ نَفَتْ صَلَاةَ الضُّحَى الْمَعْهُودَةَ حِينَئِذٍ مِنْ هَيْئَةٍ مَخْصُوصَةٍ بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ، وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا كَانَ يُصَلِّيهَا إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ لَا بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ، وَلَا بِغَيْرِهِ كَمَا قَالَتْ: يُصَلِّي أَرْبَعًا، وَيَزِيدُ مَا شَاءَ اللَّهُ.

(تَنْبِيهٌ): حَدِيثُ عَائِشَةَ يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ صَلَاةَ الضُّحَى كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهِ، وَعَدَّهَا لِذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ خَصَائِصِهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ فِي خَبَرٍ صَحِيحٍ. وَقَوْلُ الْمَاوَرْدِيِّ فِي الْحَاوِي: إِنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَاظَبَ عَلَيْهَا بَعْدَ يَوْمِ الْفَتْحِ إِلَى أَنْ مَاتَ، يُعَكِّرُ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ هَانِئٍ: أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّهَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ. وَلَا يُقَالُ: إِنَّ نَفْيَ أُمِّ هَانِئٍ لِذَلِكَ يَلْزَمُ

(1)

مِنْهُ الْعَدَمُ، لِأَنَّا نَقُولُ: يَحْتَاجُ مَنْ أَثْبَتَهُ إِلَى دَلِيلٍ، وَلَوْ وُجِدَ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً، لِأَنَّ عَائِشَةَ ذَكَرَتْ أَنَّهُ كَانَ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ، فَلَا تَسْتَل زِمُ الْمُوَاظَبَةُ عَلَى هَذَا الْوُجُوبَ عَلَيْهِ.

‌33 - بَاب صَلَاةِ الضُّحَى فِي الْحَضَرِ،

قَالَهُ عِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

1178 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبَّاسٌ الْجُرَيْرِيُّ هُوَ ابْنُ فَرُّوخَ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلَاثٍ لَا أَدَعُهُنَّ حَتَّى أَمُوتَ: صَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَصَلَاةِ الضُّحَى وَنَوْمٍ عَلَى وِتْرٍ.

[الحديث 1178 - طرفه في: 1981]

(1)

كذا في النسخ، ولعله "لا يلزم"

ص: 56

1179 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ الأَنْصَارِيَّ قَالَ قَالَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ وَكَانَ ضَخْمًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ الصَّلَاةَ مَعَكَ فَصَنَعَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا فَدَعَاهُ إِلَى بَيْتِهِ وَنَضَحَ لَهُ طَرَفَ حَصِيرٍ بِمَاءٍ فَصَلَّى عَلَيْهِ رَكْعَتَيْنِ وَقَالَ فُلَانُ بْنُ فُلَانِ بْنِ جَارُودٍ لِأَنَسٍ رضي الله عنه أَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الضُّحَى فَقَالَ مَا رَأَيْتُهُ صَلَّى غَيْرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ"

قَوْلُهُ: (بَابُ صَلَاةِ الضُّحَى فِي الْحَضَرِ، قَالَهُ عِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِي بَيْتِهِ سُبْحَةَ الضُّحَى، فَقَامُوا وَرَاءَهُ فَصَلَّوْا بِصَلَاتِهِ. أَخْرَجَهُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ، عَنْ يُونُسَ عَنْهُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ مُطَوَّلًا، لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ السُّبْحَةِ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ مُطَوَّلًا وَمُخْتَصَرًا فِي مَوَاضِعَ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ بَابَيْنِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبَّاسٌ) بِالْمُوَحَّدَةِ وَالْمُهْمَلَةِ، وَالْجُرَيْرِيُّ بِضَمِّ الْجِيمِ.

قَوْلُهُ: (أَوْصَانِي خَلِيلِي) الْخَلِيلُ: الصَّدِيقُ الْخَالِصُ الَّذِي تَخَلَّلَتْ مَحَبَّتُهُ الْقَلْبَ، فَصَارَتْ فِي خِلَالِهِ؛ أَيْ فِي بَاطِنِهِ، وَاخْتُلِفَ: هَلِ الْخُلَّةُ أَرْفَعُ مِنَ الْمَحَبَّةِ، أَوِ الْعَكْسُ، وَقَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا لَا يُعَارِضُهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ.؛ لِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ أَنْ يَتَّخِذَ هُوَ صلى الله عليه وسلم غَيْرَهُ خَلِيلًا لَا الْعَكْسُ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّ الْمُخَالَلَةَ لَا تَتِمُّ حَتَّى تَكُونَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّمَا نَظَرَ الصَّحَابِيُّ إِلَى أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، فَأَطْلَقَ ذَلِكَ، أَوْ لَعَلَّهُ أَرَادَ مُجَرَّدَ الصُّحْبَةِ أَوِ الْمَحَبَّةِ.

قَوْلُهُ: (بِثَلَاثٍ لَا أَدَعُهُنَّ حَتَّى أَمُوتَ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: لَا أَدَعُهُنَّ إِلَخْ مِنْ جُمْلَةِ الْوَصِيَّةِ، أَيْ أَوْصَانِي أَنْ لَا أَدْعَهُنَّ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ إِخْبَارِ الصَّحَابِيِّ بِذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ.

قَوْلُهُ: (صَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ) بِالْخَفْضِ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: بِثَلَاثٍ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ.

قَوْلُهُ: (مِنْ كُلِّ شَهْرِ) الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْبِيْضُ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهَا فِي كِتَابِ الصَّوْمِ.

قَوْلُهُ: (وَصَلَاةِ الضُّحَى) زَادَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَتِهِ: كُلَّ يَوْمٍ. وَسَيَأْتِي فِي الصِّيَامِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ بِلَفْظِ: وَرَكْعَتَيِ الضُّحَى. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَعَلَّهُ ذَكَرَ الْأَقَلَّ الَّذِي يُوجَدُ التَّأْكِيدُ بِفِعْلِهِ، فِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ صَلَاةِ الضُّحَى، وَأَنَّ أَقَلَّهَا رَكْعَتَانِ، وَعَدَمُ مُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى فِعْلِهَا لَا يُنَافِي اسْتِحْبَابَهَا، لِأَنَّهُ حَاصِلٌ بِدَلَالَةِ الْقَوْلِ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْحُكْمِ أَنْ تَتَضَافَرَ عَلَيْهِ أَدِلَّةُ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، لَكِنْ مَا وَاظَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى فِعْلِهِ مُرَجَّحٌ مَا لَمْ يُوَاظِبْ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (وَنَوْمٍ عَلَى وِتْرٍ) فِي رِوَايَةِ أَبِي التَّيَّاحِ: وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ تَقْدِيمِ الْوِتْرِ عَلَى النَّوْمِ، وَذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَثِقْ بِالِاسْتِيقَاظِ، وَيَتَنَاوَلُ مَنْ يُصَلِّي بَيْنَ النَّوْمَيْنِ. وَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ وَرَدَ مَثَلُهَا لِأَبِي الدَّرْدَاءِ فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَلِأَبِي ذَرٍّ فِيمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. وَالْحِكْمَةُ فِي الْوَصِيَّةِ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى ذَلِكَ تَمْرِينُ النَّفْسِ عَلَى جِنْسِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ لِيَدْخُلَ فِي الْوَاجِبِ مِنْهُمَا بِانْشِرَاحٍ، وَلِيَنْجَبِرَ مَا لَعَلَّهُ يَقَعُ فِيهِ مِنْ نَقْصٍ.

وَمِنْ فَوَائِدِ رَكْعَتَيِ الضُّحَى أَنَّهَا تُجْزِئُ عَنِ الصَّدَقَةِ الَّتِي تُصْبِحُ عَلَى مَفَاصِلِ الْإِنْسَانِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَهِيَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ مِفْصَلًا كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ، وَقَالَ فِيهِ: وَيُجْزِئُ عَنْ ذَلِكَ رَكْعَتَا الضُّحَى. وَحَكَى شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ الْحُسَيْنِ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ أَنَّهُ اشْتَهَرَ بَيْنَ الْعَوَامِّ أَنَّ مَنْ صَلَّى الضُّحَى ثُمَّ قَطَعَهَا يَعْمَى، فَصَارَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَتْرُكُونَهَا أَصْلًا لِذَلِكَ، وَلَيْسَ لِمَا قَالُوهُ أَصْلٌ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِمَّا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعَوَامِّ لِيَحْرِمَهُمُ الْخَيْرَ الْكَثِيرَ لَا سِيَّمَا مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ.

(تَنْبِيهَانِ): (الْأَوَّلُ): اقْتَصَرَ فِي الْوَصِيَّةِ لِلثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورِينَ عَلَى الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ أَشْرَفُ الْعِبَادَاتِ

ص: 57

الْبَدَنِيَّةِ، وَلَمْ يَكُنِ الْمذكرُونَ مِنْ أَصْحَابِ الْأَمْوَالِ. وَخُصَّتِ الصَّلَاةُ بِشَيْئَيْنِ، لِأَنَّهَا تَقَعُ لَيْلًا وَنَهَارًا بِخِلَافِ الصِّيَامِ. (الثَّانِي): لَيْسَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ تَقْيِيدٌ بِسَفَرٍ وَلَا حَضَرٍ. وَالتَّرْجَمَةُ مُخْتَصَّةٌ بِالْحَضَرِ، لَكِنَّ الْحَدِيثَ يَتَضَمَّنُ الْحَضَرَ، لِأَنَّ إِرَادَةَ الْحَضَرِ فِيهِ ظَاهِرَةٌ، وَحَمْلُهُ عَلَى الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ مُمْكِنٌ، وَأَمَّا حَمْلُهُ عَلَى السَّفَرِ دُونَ الْحَضَرِ فَبَعِيدٌ، لِأَنَّ السَّفَرَ مَظِنَّةُ التَّخْفِيفِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ) قِيلَ: هُوَ عِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ، لِأَنَّ فِي قِصَّتِهِ شَبَهًا بِقِصَّتِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ آدَمَ، عَنْ شُعْبَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ فِي بَابِ هَلْ يُصَلِّي الْإِمَامُ بِمَنْ حَضَرَ، مِنْ أَبْوَابِ الْإِمَامَةِ مَعَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (يُصَلِّي الضُّحَى) قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ كَالْمُتَعَارَفِ عِنْدَهُمْ، وَإِلَّا فَصَلَاتُهُ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِ الْأَنْصَارِيِّ - وَإِنْ كَانَتْ فِي وَقْتِ صَلَاةِ الضُّحَى - لَا يَلْزَمُ نِسْبَتُهَا لِصَلَاةِ الضُّحَى. قُلْتُ: إِلَّا أَنَّا قَدَّمْنَا أَنَّ الْقِصَّةَ لِعِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ الْبَابِ أَنَّ عِتْبَانَ سَمَّاهَا صَلَاةَ الضُّحَى، فَاسْتَقَامَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ، وَتَقْيِيدُهُ ذَلِكَ بِالْحَضَرِ ظَاهِرٌ لِكَوْنِهِ صَلَّى فِي بَيْتِهِ.

قَوْلُهُ: (مَا رَأَيْتُهُ صَلَّى) فِي الرِّوَايَةِ الْمَاضِيَةِ: يُصَلِّي الضُّحَى.

قَوْلُهُ: (إِلَّا ذَلِكَ الْيَوْمَ) يَأْتِي فِيهِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ مِنَ الْجَمْعِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌34 - بَاب الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ

1180 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ رَكَعَاتٍ: رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فِي بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ فِي بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَكَانَتْ سَاعَةً لَا يُدْخَلُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا.

1181 -

حَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ وَطَلَعَ الْفَجْرُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ.

1182 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَدَعُ أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْغَدَاةِ، تَابَعَهُ ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ وَعَمْرٌو عَنْ شُعْبَةَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ) تَرْجَمَ أَوَّلًا بِالرَّوَاتِبِ الَّتِي بَعْدَ الْمَكْتُوبَاتِ، ثُمَّ أَوْرَدَ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَا قَبْلَهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، وَالْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ، وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَقَوْلُهُ فِيهِ: إِنَّهُ كَانَ لَا يَدَعُ أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ. لَا يُطَابِقُ التَّرْجَمَةَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: مُرَادُهُ بَيَانُ أَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ لَيْسَتَا حَتْمًا بِحَيْثُ يَمْتَنِعُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِمَا، قَالَ الدَّاوُدِيُّ: وَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ قَبْلَ الظُّهْرِ رَكْعَتَيْنِ. وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: أَرْبَعًا. وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَصَفَ مَا رَأَى، قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَسِيَ ابْنُ عُمَرَ رَكْعَتَيْنِ مِنَ الْأَرْبَعِ. قُلْتُ: هَذَا الِاحْتِمَالُ بَعِيدٌ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى حَالَيْنِ: فَكَانَ تَارَةً يُصَلِّي ثِنْتَيْنِ، وَتَارَةً يُصَلِّي أَرْبَعًا، وَقِيلَ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ يَقْتَصِرُ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَفِي بَيْتِهِ يُصَلِّي أَرْبَعًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي إِذَا كَانَ فِي بَيْتِهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، فَرَأَى ابْنُ عُمَرَ مَا فِي الْمَسْجِدِ دُونَ مَا فِي بَيْتِهِ، وَاطَّلَعَتْ عَائِشَةُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ، وَيُقَوِّي الْأَوَّلَ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: كَانَ يُصَلِّي فِي بَيْتِهِ قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا ثُمَّ يَخْرُجُ.

ص: 58

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ: الْأَرْبَعُ كَانَتْ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَحْوَالِهِ، وَالرَّكْعَتَانِ فِي قَلِيلِهَا.

قَوْلُهُ: (عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ) بِمِيمٍ مَضْمُومَةٍ وَنُونٍ سَاكِنَةٍ وَمُثَنَّاةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَهَا شِينٌ مُعْجَمَةٌ مَكْسُورَةٌ، ثُمَّ رَاءٌ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ) فِي رِوَايَةِ وَكِيعٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ. أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَحَكَى عَنْ شَيْخِهِ أَبِي الْقَاسِمِ الْبَغَوِيِّ أَنَّهُ حَدَّثَهُ بِهِ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ، عَنْ شُعْبَةَ فَأَدْخَلَ بَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ، وَعَائِشَةَ، مَسْرُوقًا، وَأَخْبَرَهُ أَنَّ حَدِيثَ وَكِيعٍ وَهَمٌ، وَرَدَّ ذَلِكَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جَعْفَرٍ قَدْ وَافَقَ وَكِيعًا عَلَى التَّصْرِيحِ بِسَمَاعِ مُحَمَّدٍ مِنْ عَائِشَةَ، ثُمَّ سَاقَهُ بِسَنَدِهِ إِلَى شُعْبَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ، أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: وَلَمْ يَكُنْ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ - يَعْنِي الْقَطَّانَ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ - لِيَحْمِلَهُ مُدَلِّسًا، قَالَ: وَالْوَهْمُ عِنْدِي فِيهِ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ. انْتَهَى. وَبِذَلِكَ جَزَمَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ وَأَوْضَحَ أَنَّ رِوَايَةَ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ مِنَ الْمَزِيدِ فِي مُتَّصِلِ الْأَسَانِيدِ، لَكِنْ أَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ مَسْرُوقًا. فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ سَقَطَ عَلَيْهِ، أَوْ عَلَى مَنْ بَعْدَهُ، أَوْ يَكُونَ الْوَهْمُ فِي زِيَادَتِهِ مِمَّنْ دُونَ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَمُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ، وَوَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، كُلُّهُمْ عَنْ شُعْبَةَ بِسَنَدِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَسْرُوقٌ.

قَوْلُهُ: (وَعَمْرٌو، عَنْ شُعْبَةَ) يَعْنِي عَمْرَو بْنَ مَرْزُوقٍ، وَقَدْ وَصَلَ حَدِيثَهُ الْبَرْقَانِيُّ فِي الْمُصَافَحَةِ.

‌35 - بَاب الصَّلَاةِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ

1183 -

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ الْحُسَيْنِ، عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: صَلُّوا قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ لِمَنْ شَاءَ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً.

[الحديث 1183 - طرفه في: 7368]

1184 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ هُوَ الْمُقْرِئُ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ قَالَ سَمِعْتُ مَرْثَدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْيَزَنِيَّ قَالَ "أَتَيْتُ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ الْجُهَنِيَّ فَقُلْتُ أَلَا أُعْجِبُكَ مِنْ أَبِي تَمِيمٍ يَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ فَقَالَ عُقْبَةُ إِنَّا كُنَّا نَفْعَلُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُلْتُ فَمَا يَمْنَعُكَ الآنَ قَالَ الشُّغْلُ"

قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّلَاةِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ) لَمْ يَذْكُرِ الْمُصَنِّفُ الصَّلَاةَ قَبْلَ الْعَصْرِ، وَقَدْ وَرَدَ فِيهَا حَدِيثٌ لِأَبِي هُرَيْرَةَ

(1)

مَرْفُوعٍ، لَفْظُهُ: رَحِمَ اللَّهُ امْرَءًا صَلَّى قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعًا. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَوَرَدَ مِنْ فِعْلِهِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَفِيهِ: أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعًا. وَلَيْسَا عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ.

قَوْلُهُ: (عَنِ الْحُسَيْنِ) هُوَ ابْنُ ذَكْوَانَ الْمُعَلِّمُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ) هُوَ ابْنُ مُغَفَّلٍ بِالْمُعْجَمَةِ وَالْفَاءِ الْمُشَدَّدَةِ.

قَوْلُهُ: (صَلُّوا قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ) زَادَ أَبُو دَاوُدَ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ الْفَرَبْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ: صَلُّوا قَبْلَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ. ثُمَّ قَالَ: صَلُّوا قَبْلَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ. وَأَعَادَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ

(1)

هذا وهم، والصواب "لابن عمر" كما يعلم ذلك من الأصول التي عزاه إليها الشارح، وقد نسبه في بلوغ المرام لابن عمر فأصاب. والله أعلم.

ص: 59

ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ: قَالَ فِي الثَّالِثَةِ لِمَنْ شَاءَ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ: صَلُّوا قَبْلَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ، قَالَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: لِمَنْ شَاءَ.

قَوْلُهُ: (كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً) قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: لَمْ يُرِدْ نَفْيَ اسْتِحْبَابِهَا، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَأْمُرَ بِمَا لَا يُسْتَحَبُّ، بَلْ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى اسْتِحْبَابِهَا، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: سُنَّةً؛ أَيْ شَرِيعَةً وَطَرِيقَةً لَازِمَةً، وَكَأَنَّ الْمُرَادَ انْحِطَاطُ مَرْتَبَتِهَا عَنْ رَوَاتِبِ الْفَرَائِضِ، وَلِهَذَا لَمْ يَعُدَّهَا أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ فِي الرَّوَاتِبِ، وَاسْتَدْرَكَهَا بَعْضُهُمْ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَاظَبَ عَلَيْهَا، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي بَابِ كَمْ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ مِنْ أَبْوَابِ الْأَذَانِ.

قَوْلُهُ: (الْيَزَنِيَّ) بِفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ وَالزَّايِ، بَعْدَهَا نُونٌ، وَهُوَ مِصْرِيٌّ، وَكَذَا بَقِيَّةُ رِجَالِ الْإِسْنَادِ سِوَى شَيْخِ الْبُخَارِيِّ وَقَدْ دَخَلَهَا.

قَوْلُه: (أَلَا أُعَجِّبُكَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ مِنَ التَّعَجُّبِ.

قَوْلُهُ: (مِنْ أَبِي تَمِيمٍ)؛ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَالِكٍ الْجَيْشَانِيُّ، بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ، بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ، تَابِعِيٌّ كَبِيرٌ مُخَضْرَمٌ، أَسْلَمَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، ثُمَّ قَدِمَ فِي زَمَنِ عُمَرَ، فَشَهِدَ فَتْحَ مِصْرَ وَسَكَنَهَا، قَالَ ابْنُ يُونُسَ: وَقَدْ عَدَّهُ جَمَاعَةٌ فِي الصَّحَابَةِ لِهَذَا الْإِدْرَاكِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمِزِّيُّ فِي التَّهْذِيبِ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَ لَهُ، وَهُوَ عَلَى شَرْطِهِ، فَيُرَدُّ عَلَيْهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ

(1)

.

قَوْلُهُ: (يَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ) زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: حِينَ يَسْمَعُ أَذَانَ الْمَغْرِبِ. وَفِيهِ: فَقُلْتُ لِعُقْبَةَ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَغْمِصَهُ، وَهُوَ بِمُعْجَمَةٍ، ثُمَّ مُهْمَلَةٍ؛ أَيْ أَعِيبُهُ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ عُقْبَةُ إِلَخْ) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى امْتِدَادِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْبَابِ السَّابِقِ، وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّمَا تُسْتَحَبُّ الرَّكْعَتَانِ الْمَذْكُورَتَانِ لِمَنْ كَانَ مُتَأَهِّبًا بِالطُّهْرِ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، لِئَلَّا يُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ عَنْ أَوَّلِ وَقْتِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ إِيقَاعَهَا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ أَوْلَى، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحَلَّ اسْتِحْبَابِهِمَا مَا لَمْ تُقَمِ الصَّلَاةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ فَوَائِدِهِ فِي الْبَابِ السَّابِقِ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى قَوْلِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ: لَمْ يَفْعَلْهُمَا أَحَدٌ بَعْدَ الصَّحَابَةِ، لِأَنَّ أَبَا تَمِيمٍ تَابِعِيٌّ، وَقَدْ فَعَلَهُمَا. وَذَكَرَ الْأَثْرَمُ، عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: مَا فَعَلْتُهُمَا إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً حِينَ سَمِعْتُ الْحَدِيثَ.

وَفِيهِ أَحَادِيثُ جِيَادٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: لِمَنْ شَاءَ فَمَنْ شَاءَ صَلَّى.

‌36 - بَاب صَلَاةِ النَّوَافِلِ جَمَاعَةً

ذَكَرَهُ أَنَسٌ، وَعَائِشَةُ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

1185 -

حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيُّ أَنَّهُ عَقَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَقَلَ مَجَّةً مَجَّهَا فِي وَجْهِهِ مِنْ بِئْرٍ كَانَتْ فِي دَارِهِمْ.

1186 -

فَزَعَمَ مَحْمُودٌ أَنَّهُ سَمِعَ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ الْأَنْصارِيَّ رضي الله عنه، وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: كُنْتُ أُصَلِّي لِقَوْمِي بِبَنِي سَالِمٍ وَكَانَ يَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ وَادٍ إِذَا جَاءَتْ الْأَمْطَارُ فَيَشُقُّ عَلَيَّ اجْتِيَازُهُ قِبَلَ مَسْجِدِهِمْ، فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي أَنْكَرْتُ بَصَرِي وَإِنَّ الْوَادِيَ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَ قَوْمِي يَسِيلُ إِذَا جَاءَتْ الْأَمْطَارُ فَيَشُقُّ عَلَيَّ اجْتِيَازُهُ فَوَدِدْتُ أَنَّكَ تَأْتِي فَتُصَلِّي مِنْ بَيْتِي مَكَانًا

(1)

ليس الرد عليه بظاهر، لأن البخاري رحمه الله لم يخرج عن تميم هنا خبرا مرفوعا ولا موقوفا، وإنما وقع ذكره في أثناء الرواية من غير احتجاج به. والله أعلم.

ص: 60

أَتَّخِذُهُ مُصَلًّى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَأَفْعَلُ فَغَدَا عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه بَعْدَمَا اشْتَدَّ النَّهَارُ، فَاسْتَأْذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَذِنْتُ لَهُ فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى قَالَ: أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ؟ فَأَشَرْتُ لَهُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ فِيهِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَبَّرَ وَصَفَفْنَا وَرَاءَهُ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ وَسَلَّمْنَا حِينَ سَلَّمَ، فَحَبَسْتُهُ عَلَى خَريز يُصْنَعُ لَهُ، فَسَمِعَ أَهْلُ الدَّارِ أن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِي فَثَابَ رِجَالٌ مِنْهُمْ حَتَّى كَثُرَ الرِّجَالُ فِي الْبَيْتِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ مَا فَعَلَ مَالِكٌ لَا أَرَاهُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: ذَاكَ مُنَافِقٌ لَا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَقُلْ ذَاكَ، أَلَا تَرَاهُ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ، فَقَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، أَمَّا نَحْنُ فَوَاللَّهِ ما

نَرَى وُدَّهُ وَلَا حَدِيثَهُ إِلَّا إِلَى الْمُنَافِقِينَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ، قَالَ مَحْمُودُ: فَحَدَّثْتُهَا قَوْمًا فِيهِمْ أَبُو أَيُّوبَ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَتِهِ الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا وَيَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ عَلَيْهِمْ بِأَرْضِ الرُّومِ، فَأَنْكَرَهَا عَلَيَّ أَبُو أَيُّوبَ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَظُنُّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَا قُلْتَ قَطُّ، فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَيَّ، فَجَعَلْتُ لِلَّهِ عَلَيَّ إِنْ سَلَّمَنِي حَتَّى أَقْفُلَ مِنْ غَزْوَتِي أَنْ أَسْأَلَ عَنْهَا عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه إِنْ وَجَدْتُهُ حَيًّا فِي مَسْجِدِ قَوْمِهِ، فَقَفَلْتُ فَأَهْلَلْتُ بِحَجَّةٍ أَوْ بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ سِرْتُ حَتَّى قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ، فَأَتَيْتُ بَنِي سَالِمٍ، فَإِذَا عِتْبَانُ شَيْخٌ أَعْمَى يُصَلِّي لِقَوْمِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ مِنْ الصَّلَاةِ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَأَخْبَرْتُهُ مَنْ أَنَا، ثُمَّ سَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ الْحَدِيثِ، فَحَدَّثَنِيهِ كَمَا حَدَّثَنِيهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ

قَوْلُهُ: (بَابُ صَلَاةِ النَّوَافِلِ جَمَاعَةً) قِيلَ: مُرَادُهُ النَّفْلُ الْمُطْلَقُ، وَيَحْتَمِلُ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (ذَكَرَهُ أَنَسٌ، وَعَائِشَةُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ، فَأَشَارَ بِهِ إِلَى حَدِيثِهِ فِي صَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِ أُمِّ سُلَيْمٍ، وَفِيهِ: فَصَفَفْتُ أَنَا وَالْيَتِيمُ وَرَاءَهُ. الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصُّفُوفِ وَغَيْرِهَا. وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ، فَأَشَارَ بِهِ إِلَى حَدِيثِهَا فِي صَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ بِاللَّيْلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابِ التَّحْرِيضِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ) قِيلَ: هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ، فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَقَعَ فِي مُسْنَدِهِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، لَكِنْ فِي لَفْظِهِ مُخَالَفَةٌ يَسِيرَةٌ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إِسْحَاقُ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ هُوَ ابْنُ مَنْصُورٍ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ) التَّعْبِيرُ بِالْإِخْبَارِ قَرِينَةٌ فِي كَوْنِ إِسْحَاقَ هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يُعَبِّرُ عَنْ شُيُوخِهِ إِلَّا بِذَلِكَ، لَكِنْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَأَبِي الْوَقْتِ وَغَيْرِهِمَا بِلَفْظِ التَّحْدِيثِ، وَيَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَذْكُورُ هُوَ ابْنُ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الزُّهْرِيُّ.

قَوْلُهُ: (وَعَقَلَ مَجَّةً) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ.

قَوْلُهُ: (كَانَ فِي دَارِهِمْ)؛ أَيِ الدَّلْوُ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ كَانَتْ أَيِ الْبِئْرُ.

قَوْلُهُ: (فَزَعَمَ مَحْمُودٌ)؛ أَيْ أَخْبَرَ، وَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الزَّعْمِ عَلَى الْقَوْلِ.

قَوْلُهُ: (فَيَشُقُّ عَلَيَّ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فَشَقَّ بِصِيغَةِ الْمَاضِي.

قَوْلُهُ: (أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ نُصَلِّيَ) بِصِيغَةِ الْجَمْعِ كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِالْإِفْرَادِ.

قَوْلُهُ: (مَا فَعَلَ مَالِكٌ؟) هُوَ ابْنُ الدَّخْشَنِ.

قَوْلُهُ: (لَا أَرَاهُ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مِنَ الرُّؤْيَةِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ) أَيْ بِالْإِسْنَادِ الْمَاضِي (فَحَدَّثْتُهَا قَوْمًا)؛ أَيْ رِجَالًا (فِيهِمْ أَبُو أَيُّوبَ)؛ هُوَ خَالِدُ بْنُ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ الَّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ

ص: 61

رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ.

قَوْلُهُ: (الَّتِي تُوَفِّيَ فِيهَا) ذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ أَوْصَى أَنْ يُدْفَنَ تَحْتَ أَقْدَامِ الْخَيْلِ، وَيُغَيَّبَ مَوْضِعُ قَبْرِهِ، فَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ جِدَارِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ.

قَوْلُهُ: (وَيَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ) ابْنُ أَبِي سُفْيَانَ.

قَوْلُهُ: (عَلَيْهِمْ) أَيْ كَانَ أَمِيرًا، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ خَمْسِينَ، وَقِيلَ: بَعْدَهَا فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ، وَوَصَلُوا فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ حَتَّى حَاصَرُوا الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ.

قَوْلُهُ: (فَأَنْكَرَهَا عَلَيَّ) قَدْ بَيَّنَ أَبُو أَيُّوبَ وَجْهَ الْإِنْكَارِ، وَهُوَ مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ مِنْ نَفْيِ الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ، وَأمَا الْبَاعِثُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَقِيلَ: إِنَّهُ اسْتَشْكَلَ قَوْلَهُ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ النَّارَ عَلَى مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. لِأَنَّ ظَاهِرَهُ لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ مِنْ عُصَاةِ الْمُوَحِّدِينَ النَّارَ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِآيَاتٍ كَثِيرَةٍ وَأَحَادِيثَ شَهِيرَةٍ مِنْهَا أَحَادِيثُ الشَّفَاعَةِ، لَكِنَّ الْجَمْعَ يُمْكِنُ بِأَنْ يُحْمَلَ التَّحْرِيمُ عَلَى الْخُلُودِ، وَقَدْ وَافَقَ مَحْمُودًا عَلَى رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ عِتْبَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِهِ، وَهُوَ مُتَابِعٌ قَوِيٌّ جِدًّا، وَكَأَنَّ الْحَامِلَ لِمَحْمُودٍ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى عِتْبَانَ لِيَسْمَعَ الْحَدِيثَ مِنْهُ ثَانِي مَرَّةٍ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ لَمَّا أَنْكَرَ عَلَيْهِ اتَّهَمَ نَفْسَهُ بِأَنْ يَكُونَ مَا ضَبَطَ الْقَدْرَ الَّذِي أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا قَنِعَ بِسَمَاعِهِ عَنْ عِتْبَانَ ثَانِي مَرَّةٍ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى أَقْفِلَ) بِقَافٍ وَفَاءٍ؛ أَيْ أَرْجِعَ، وَزْنًا وَمَعْنًى.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ تَقَدَّمَتْ مَبْسُوطَةً فِي بَابِ الْمَسَاجِدِ فِي الْبُيُوتِ، وَفِيهِ مَا تَرْجَمَ لَهُ هُنَا، وَهُوَ صَلَاةُ النَّوَافِلِ جَمَاعَةً، وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَؤُمَّ النَّفَرَ فِي النَّافِلَةِ، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ مُشْتَهِرًا، وَيُجْمَعَ لَهُ النَّاسُ فَلَا، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى قَاعِدَتِهِ فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ لِمَا يَخْشَى مِنْ أَنْ يَظُنَّ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ أَنَّ ذَلِكَ فَرِيضَةٌ، وَاسْتَثْنَى ابْنُ حَبِيبٍ مِنْ أَصْحَابِهِ قِيَامَ رَمَضَانَ لِاشْتِهَارِ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الصَّحَابَةِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ رضي الله عنهم، وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ مَا تَقَدَّمَ بَعْضُهُ مَبْسُوطًا، وَمُلَاطَفَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْأَطْفَالِ، وَذِكْرُ الْمَرْءِ مَا فِيهِ مِنَ الْعِلَّةِ مُعْتَذِرًا، وَطَلَبُ عَيْنِ الْقِبْلَةِ، وَأَنَّ الْمَكَانَ الْمُتَّخَذَ مَسْجِدًا مِنَ الْبَيْتِ لَا يَخْرُجُ عَنْ مالكِ صَاحِبِهِ، وَأَنَّ النَّهْيَ عَنِ اسْتِيطَانِ الرَّجُلِ مَكَانًا إِنَّمَا هُوَ فِي الْمَسْجِدِ الْعَامِّ، وَفِيهِ عَيْبُ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْ حُضُورِ مَجْلِسِ الْكَبِيرِ، وَأَنَّ مَنْ عِيبَ بِمَا يَظْهَرُ مِنْهُ لَا يُعَدُّ غِيبَةً، وَأَنَّ ذِكْرَ الْإِنْسَانِ بِمَا فِيهِ عَلَى جِهَةِ التَّعْرِيفِ جَائِزٌ، وَأَنَّ التَّلَفُّظَ بِالشَّهَادَتَيْنِ كَافٍ فِي إِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِيهِ اسْتِثْبَاتُ طَالِبِ الْحَدِيثِ شَيْخَهُ عَمَّا حَدَّثَهُ بِهِ إِذَا خَشِيَ مِنْ نِسْيَانِهِ، وَإِعَادَةُ الشَّيْخِ الْحَدِيثَ، وَالرِّحْلَةُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَغَيْرُ ذَلِكَ.

وَقَدْ تَرْجَمَ الْمُصَنِّفُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

‌37 - بَاب التَّطَوُّعِ فِي الْبَيْتِ

1187 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ أَيُّوبَ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اجْعَلُوا فِي بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلَاتِكُمْ وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا. تَابَعَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَيُّوبَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ التَّطَوُّعِ فِي الْبَيْتِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ: اجْعَلُوا فِي بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلَاتِكُمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بِلَفْظِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ نَافِعٍ فِي بَابِ كَرَاهِيَةِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقَابِرِ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ مَعَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ) يَعْنِي الثَّقَفِيَّ، عَنْ أَيُّوبَ، وَهَذِهِ الْمُتَابَعَةُ وَصَلَهَا مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى عَنْهُ بِلَفْظِ: صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا.

ص: 62

بسم الله الرحمن الرحيم

‌20 - كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة

‌1 - بَاب فَضْلِ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ

1188 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ، عَنْ قَزَعَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ رضي الله عنه أَرْبَعًا قَالَ: سَمِعْتُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ غَزَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثِنْتَيْ عَشْرَةَ غَزْوَةً.

1189 -

حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَمَسْجِدِ الأَقْصَى"

1190 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ رَبَاحٍ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الأَغَرِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الأَغَرِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ"

قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ) ثَبَتَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ الْبَسْمَلَةُ قَبْلَ الْبَابِ، قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: لَمْ يَقُلْ فِي التَّرْجَمَةِ: وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَإِنْ كَانَ مَجْمُوعًا إِلَيْهِمَا فِي الْحَدِيثِ لِكَوْنِهِ أَفْرَدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِتَرْجَمَةٍ، قَالَ: وَتَرْجَمَ بِفَضْلِ الصَّلَاةِ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ الصَّلَاةِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرِّحْلَةِ إِلَى الْمَسَاجِدِ قَصْدُ الصَّلَاةِ فِيهَا، لِأَنَّ لَفْظَ الْمَسَاجِدِ مُشْعِرٌ بِالصَّلَاةِ. . انْتَهَى.

وَظَاهِرُ إِيرَادِ الْمُصَنِّفِ لِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ فِي أَبْوَابِ التَّطَوُّعِ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ فِي التَّرْجَمَةِ صَلَاةُ النَّافِلَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ فَيَدْخُلُ النَّافِلَةُ، وَهَذَا أَوْجَهُ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ، وَذَهَبَ الطَّحَاوِيُّ إِلَى أَنَّ التَّفْضِيلَ مُخْتَصٌّ بِصَلَاةِ الْفَرِيضَةِ كَمَا سَيَأْتِي.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ) هُوَ ابْنُ عُمَيْرٍ كَمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَالْأَصِيل.

قَوْلُهُ: (عَنْ قَزَعَةَ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَذَا الزَّايِ، وَحَكَى ابْنُ الْأَثِيرِ سُكُونَهَا بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ، هُوَ ابْنُ يَحْيَى، وَيُقَالُ: ابْنُ الْأَسْوَدِ، وَسَيَأْتِي بعْدَ خَمْسَةِ أَبْوَابٍ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ: سَمِعْتُ قَزَعَةَ مَوْلَى زِيَادٍ، وَهُوَ هَذَا، وَزِيَادٌ مَوْلَاهُ هُوَ ابْنُ أَبِي سُفْيَانَ الْأَمِيرُ الْمَشْهُورُ، وَرِوَايَةُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْهُ مِنْ رِوَايَةِ الْأَقْرَانِ، لِأَنَّهُمَا مِنْ طَبَقَةٍ وَاحِدَةٍ.

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ أَرْبَعًا) أَيْ يَذْكُرُ أَرْبَعًا، أَوْ سَمِعْتُ مِنْهُ أَرْبَعًا أَيْ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ غَزَا) الْقَائِلُ ذَلِكَ هُوَ قَزَعَةُ، وَالْمَقُولُ عَنْهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ.

قَوْلُهُ: (ثِنْتَيْ عَشْرَةَ غَزْوَةً) كَذَا اقْتَصَرَ الْمُؤَلِّفُ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مِنَ الْمَتْنِ شَيْئًا، وَذَكَرَ بَعْدَهُ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي شَدِّ الرِّحَالِ، فَظَنَّ الدَّاوُدِيُّ الشَّارِحُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ سَاقَ الْإِسْنَادَيْنِ لِهَذَا الْمَتْنِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ كَمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مُقْتَصِرٌ عَلَى شَدِّ الرِّحَالِ فَقَطْ، لَكِنْ لَا يُمْنَعُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ الْبُخَارِيِّ فِي إِجَازَةِ اخْتِصَارِ الْحَدِيثِ، وَقَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: لَمَّا كَانَ أَحَدُ الْأَرْبَعِ هُوَ قَوْلَهُ: لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ ذَكَرَ صَدْرَ الْحَدِيثِ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي

ص: 63

يَتَلَاقَى فِيهِ افْتِتَاحُ أَبِي هُرَيْرَةَ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، فَاقْتَطَفَ الْحَدِيثَ، وَكَأَنَّهُ قَصَدَ بِذَلِكَ الْإِغْمَاضَ لِيُنَبِّهَ غَيْرَ الْحَافِظِ عَلَى فَائِدَةِ الْحِفْظِ، عَلَى أَنَّهُ مَا أَخْلَاهُ عَنِ الْإِيضَاحِ عَنْ قُرْبٍ، فَإِنَّهُ سَاقَهُ بِتَمَامِهِ خَامِسَ تَرْجَمَةٍ.

قَوْلُهُ: (وَحَدَّثَنَا عَلِيٌّ) هُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ، وَسُفْيَانُ هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَسَعِيدٌ هُوَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ وَجْهٌ آخَرُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِهِ سُفْيَانُ مَرَّةً بِهَذَا اللَّفْظِ، وَكَانَ أَكْثَرَ مَا يُحَدِّثُ بِهِ بِلَفْظِ: تُشَدُّ الرِّحَالُ.

قَوْلُهُ: (لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ بِلَفْظِ النَّفْيِ، وَالْمُرَادُ النَّهْيُ عَنِ السَّفَرِ إِلَى غَيْرِهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ أَبْلَغُ مِنْ صَرِيحِ النَّهْيِ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يُقْصَدَ بِالزِّيَارَةِ إِلَّا هَذِهِ الْبِقَاعُ لِاخْتِصَاصِهَا بِمَا اخْتَصَّتْ بِهِ، وَالرِّحَالُ بِالْمُهْمَلَةِ جَمْعُ رَحْلٍ، وَهُوَ لِلْبَعِيرِ كَالسَّرْجِ لِلْفَرَسِ، وَكَنَّى بِشَدِّ الرِّحَالِ عَنِ السَّفَرِ، لِأَنَّهُ لَازِمُهُ، وَخَرَجَ ذِكْرُهَا مَخْرَجَ الْغَالِبِ فِي رُكُوبِ الْمُسَافِرِ، وَإِلَّا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ رُكُوبِ الرَّوَاحِلِ وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالْمَشْيِ فِي الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ: إِنَّمَا يُسَافِرُ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ الْأَغَرِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

قَوْلُهُ: (إِلَّا) الِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ، وَالتَّقْدِيرُ لَا تُشَدُّ الرِّحَالِ إِلَى مَوْضِعٍ، وَلَازَمَهُ مَنْعُ السَّفَرِ إِلَى كُلِّ مَوْضِعٍ غَيْرِهَا، لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فِي الْمُفَرَّغِ مُقَدَّرٌ بِأَعَمِّ الْعَامِّ، لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْعُمُومِ هُنَا الْمَوْضِعُ الْمَخْصُوصُ، وَهُوَ الْمَسْجِدُ كَمَا سَيَأْتِي.

قَوْلُهُ: (الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)؛ أَيِ الْمُحَرَّمُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِمَ: الْكِتَابُ، بِمَعْنَى الْمَكْتُوبِ، وَالْمَسْجِدُ بِالْخَفْضِ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَالْمُرَادُ بِهِ جَمِيعُ الْحَرَمِ، وَقِيلَ: يَخْتَصُّ بِالْمَوْضِعِ الَّذِي يُصَلَّى فِيهِ دُونَ الْبُيُوتِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَجْزَاءِ الْحَرَمِ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَيَتَأَيَّدُ بِقَوْلِهِ: مَسْجِدِي هَذَا. لِأَنَّ الْإِشَارَةَ فِيهِ إِلَى مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى كَذَلِكَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْكَعْبَةُ. حَكَاهُ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ، وَذَكَرَ أَنَّهُ يَتَأَيَّدُ بِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِلَفْظِ: إِلَّا الْكَعْبَةَ. وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الَّذِي عِنْدَ النَّسَائِيِّ: إِلَّا مَسْجِدَ الْكَعْبَةِ، حَتَّى وَلَوْ سَقَطَتْ لَفْظَةُ مَسْجِدٍ لَكَانَتْ مُرَادَةً، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا رَوَاهُ الطَّيَالِسِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ، أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: هَذَا الْفَضْلُ فِي الْمَسْجِدِ وَحْدَهُ أَوْ فِي الْحَرَمِ؟ قَالَ: بَلْ فِي الْحَرَمِ، لِأَنَّهُ كُلُّهُ مَسْجِدٌ.

قَوْلُهُ: (وَمَسْجِدُ الرَّسُولِ) أَيْ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، وَفِي الْعُدُولِ عَنْ مَسْجِدِي إِشَارَةٌ إِلَى التَّعْظِيمِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْآتِي قَرِيبًا: وَمَسْجِدِي.

قَوْلُهُ: (وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى) أَيْ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ، وَقَدْ جَوَّزَهُ الْكُوفِيُّونَ، وَاسْتَشْهَدُوا لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} وَالْبَصْرِيُّونَ يُؤَوِّلُونَهُ بِإِضْمَارِ الْمَكَانِ، أَيِ الَّذِي بِجَانِبِ الْمَكَانِ الْغَرْبِيِّ، وَمَسْجِدِ الْمَكَانِ الْأَقْصَى، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَسُمِّيَ الْأَقْصَى لِبُعْدِهِ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي الْمَسَافَةِ، وَقِيلَ: فِي الزَّمَانِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ بَيْنَهُمَا أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَسَيَأْتِي فِي تَرْجَمَةِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَبَيَانُ مَا فِيهِ مِنَ الْإِشْكَالِ وَالْجَوَابُ عَنْهُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سُمِّيَ الْأَقْصَى لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ وَرَاءَهُ مَسْجِدٌ، وَقِيلَ: لِبُعْدِهِ عَنِ الْأَقْذَارِ وَالْخَبَثِ، وَقِيلَ: هُوَ أَقْصَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، لِأَنَّهُ بَعِيدٌ مِنْ مَكَّةَ، وَبَيْتُ الْمَقْدِسِ أَبْعَدُ مِنْهُ. وَلِبَيْتِ الْمَقْدِسِ عِدَّةُ أَسْمَاءَ تَقْرُبُ مِنَ الْعِشْرِينَ مِنْهَا: إِيلِيَاءُ بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ، وَبِحَذْفِ الْيَاءِ الْأُولَى، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِدْخَالُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ عَلَى هَذَا الثَّالِثِ، وَبَيْتُ الْمَقْدِسِ بِسُكُونِ الْقَافِ وَبِفَتْحِهَا مَعَ التَّشْدِيدِ، وَالْقُدْسُ بِغَيْرِ مِيمٍ مَعَ ضَمِّ الْقَافِ، وَسُكُونِ الدَّالِ، وَبِضَمِّهَا أَيْضًا، وَشَلَّمُ بِالْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ وَبِالْمُهْمَلَةِ، وَشَلَامُ بِمُعْجَمَةٍ، وَسَلِمُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ الْخَفِيفَةِ، وَأُورِي سَلِمَ بِسُكُونِ الْوَاوِ، وَبكَسْرِ الرَّاءِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ، قَالَ الْأَعْشَى:

ص: 64

وَقَدْ طُفْتُ لِلْمَالِ آفَاقَهُ

دِمَشْقَ فَحِمْصَ فَأُورِي سَلِمَ

وَمِنْ أَسْمَائِهِ: كُورَةُ، وَبَيْتُ إيلٍ، وَصِهْيُونُ، وَمِصْرُوثُ آخِرُهُ مُثَلَّثَةٌ وَكُورْشِيلَا وَبَابُوسُ بِمُوَحَّدَتَيْنِ وَمُعْجَمَةُ، وَقَدْ تَتَبَّعَ أَكْثَرُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْحُسَيْنُ بْنُ خَالَوَيْهِ اللُّغَوِيُّ فِي كِتَابِ لَيْسَ، وَسَيَأْتِي مَا يَتَعَلَّقُ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ فَضِيلَةُ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ وَمَزِيَّتُهَا عَلَى غَيْرِهَا لِكَوْنِهَا مَسَاجِدَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلِأَنَّ الْأَوَّلَ قِبْلَةُ النَّاسِ وَإِلَيْهِ حَجُّهُمْ، وَالثَّانِي كَانَ قِبْلَةَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، وَالثَّالِثَ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى. وَاخْتُلِفَ فِي شَدِّ الرِّحَالِ إِلَى غَيْرِهَا، كَالذَّهَابِ إِلَى زِيَارَةِ الصَّالِحِينَ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، وَإِلَى الْمَوَاضِعِ الْفَاضِلَةِ لِقَصْدِ التَّبَرُّكِ بِهَا وَالصَّلَاةِ فِيهَا، فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ: يَحْرُمُ شَدُّ الرِّحَالِ إِلَى غَيْرِهَا عَمَلًا بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَأَشَارَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ إِلَى اخْتِيَارِهِ، وَبِهِ قَالَ عِيَاضٌ وَطَائِفَةٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ إِنْكَارِ بَصْرَةَ الْغِفَارِيِّ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ خُرُوجَهُ إِلَى الطُّورِ، وَقَالَ لَهُ: لَوْ أَدْرَكْتُكَ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مَا خَرَجْتُ. وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَرَى حَمْلَ الْحَدِيثِ عَلَى عُمُومِهِ، وَوَافَقَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ. وَالصَّحِيحُ عِنْدَ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرِهِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ، وَأَجَابُوا عَنِ الْحَدِيثِ بِأَجْوِبَةٍ؛ مِنْهَا أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْفَضِيلَةَ التَّامَّةَ إِنَّمَا هِيَ فِي شَدِّ الرِّحَالِ إِلَى هَذِهِ الْمَسَاجِدِ بِخِلَافِ غَيْرِهَا، فَإِنَّهُ جَائِزٌ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ - سَيَأْتِي ذِكْرُهَا - بِلَفْظِ: لَا يَنْبَغِي لِلْمَطِيِّ أَنْ تَعْمَلَ.

وَهُوَ لَفْظٌ ظَاهِرٌ فِي غَيْرِ التَّحْرِيمِ

(1)

وَمِنْهَا أَنَّ النَّهْيَ مَخْصُوصٌ بِمَنْ نَذَرَ عَلَى نَفْسِهِ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدٍ مِنْ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ غَيْرِ الثَّلَاثَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ قَالَهُ ابْنُ بَطَّالٍ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: اللَّفْظُ لَفْظُ الْخَبَرِ، وَمَعْنَاهُ الْإِيجَابُ فِيمَا يَنْذِرُهُ الْإِنْسَانُ مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْبِقَاعِ الَّتِي يُتَبَرَّكُ بِهَا، أَيْ لَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ غَيْرَ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ، وَمِنْهَا أَنَّ الْمُرَادَ حُكْمُ الْمَسَاجِدِ فَقَطْ، وَأَنَّهُ لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَى مَسْجِدٍ مِنَ الْمَسَاجِدِ لِلصَّلَاةِ فِيهِ غَيْرَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَأَمَّا قَصْدُ غَيْرِ الْمَسَاجِدِ لِزِيَارَةِ صَالِحٍ، أَوْ قَرِيبٍ، أَوْ صَاحِبٍ، أَوْ طَلَبِ عِلْمٍ، أَوْ تِجَارَةٍ، أَوْ نُزْهَةٍ فَلَا يَدْخُلُ فِي النَّهْيِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَى أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ وَذُكِرَتْ عِنْدَهُ الصَّلَاةُ فِي الطُّورِ، فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا يَنْبَغِي لِلْمُصَلِّي أَنْ يَشُدَّ رِحَالَهُ إِلَى مَسْجِدٍ تُبْتَغَى فِيهِ الصَّلَاةُ غَيْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِي. وَشَهْرٌ حَسَنُ الْحَدِيثِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ بَعْضُ الضَّعْفِ.

وَمِنْهَا أَنَّ الْمُرَادَ قَصْدُهَا بِالِاعْتِكَافِ فِيمَا حَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ، عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ، أَنَّهُ قَالَ: لَا يُعْتَكَفُ فِي غَيْرِهَا، وَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَلَمْ أَرَ عَلَيْهِ دَلِيلًا، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ إِتْيَانَ أَحَدِ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ لَزِمَهُ ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْبُوَيْطِيُّ، وَاخْتَارَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجِبُ مُطْلَقًا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: يَجِبُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِتَعَلُّقِ النُّسُكِ بِهِ بِخِلَافِ الْمَسْجِدَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ، وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُورُ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: يَجِبُ إِلَى الْحَرَمَيْنِ، وَأَمَّا الْأَقْصَى فَلَا، وَاسْتَأْنَسَ بِحَدِيثِ جَابِرٍ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي نَذَرْتُ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ مَكَّةَ أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالَ: صَلِّ هَاهُنَا. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: الْحُجَّةُ عَلَى الشَّافِعِيِّ أَنَّ إعْمَالَ الْمَطِيِّ إِلَى مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَالصَّلَاةِ فِيهِمَا قُرْبَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يُلْزَمَ بِالنَّذْرِ كَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. انْتَهَى.

وَفِيمَا يَلْزَمُ مَنْ نَذَرَ إِتْيَانَ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ يَطُولُ ذِكْرُهُ، مَحَلُّهُ كُتُبُ الْفُرُوعِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ إِتْيَانَ غَيْرِ هَذِهِ

(1)

ليس الأمر كما قال، بل هو ظاهر في التحريم والمنع، وهذه اللفظة في عرف الشارع شأنها عظيم كما في قوله تعالى:{وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} وقوله تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} الآية

ص: 65

الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ لِصَلَاةٍ أَوْ غَيْرِهَا لَمْ يَلْزَمْهُ غَيْرُهَا، لِأَنَّهَا لَا فَضْلَ لِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، فَتَكْفِي صَلَاتُهُ فِي أَيِّ مَسْجِدٍ كَانَ، قَالَ النَّوَوِيُّ: لَا اخْتِلَافَ فِي ذَلِكَ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ اللَّيْثِ أَنَّهُ قَالَ: يَجِبُ الْوَفَاءُ بهِ، وَعَنِ الْحَنَابِلَةِ رِوَايَةً: يَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَلَا يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ، وَعَنِ الْمَالِكِيَّةِ رِوَايَةً: إِنْ تَعَلَّقَتْ بِهِ عِبَادَةٌ تَخْتَصُّ بِهِ كَرِبَاطٍ لَزِمَ، وَإِلَّا فَلَا، وَذُكِرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ الْمَالِكِيِّ أَنَّهُ يَلْزَمُ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْتِيهِ كُلَّ سَبْتٍ كَمَا سَيَأْتِي، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَقَعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي عَصْرِنَا فِي الْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ مُنَاظَرَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَصُنِّفَ فِيهَا رَسَائِلُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، قُلْتُ: يُشِيرُ إِلَى مَا رَدَّ بِهِ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَةَ، وَمَا انْتَصَرَ بِهِ الْحَافِظُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ الْهَادِي وَغَيْرُهُ لِابْنِ تَيْمِيَةَ، وَهِيَ مَشْهُورَةٌ فِي بِلَادِنَا، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمُ أَلْزَمُوا ابْنَ تَيْمِيَةَ بِتَحْرِيمِ شَدِّ الرَّحْلِ

(1)

إِلَى زِيَارَةِ قَبْرِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنْكَرْنَا صُورَةَ ذَلِكَ، وَفِي شَرْحِ ذَلِكَ مِنَ الطَّرَفَيْنِ طُولٌ، وَهِيَ مِنْ أَبْشَعِ الْمَسَائِلِ الْمَنْقُولَةِ عَنِ ابْنِ تَيْمِيَةَ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى دَفْعِ مَا ادَّعَاهُ غَيْرُهُ مِنَ الْإِجْمَاعِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ مَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَقُولَ: زُرْتُ قَبْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ بِأَنَّهُ كَرِهَ اللَّفْظَ أَدَبًا لَا أَصْلَ الزِّيَارَةِ، فَإِنَّهَا مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ وَأَجَلِّ الْقُرُبَاتِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى ذِي الْجَلَالِ، وَأنَّ مَشْرُوعِيَّتَهَا مَحَلُّ إِجْمَاعٍ بِلَا نِزَاعٍ، وَاللَّهُ الْهَادِي إِلَى الصَّوَابِ.

قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: قَوْلُهُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مَحْذُوفٌ، فَإِمَّا أَنْ يُقَدِّرَ عَامًّا فَيَصِيرَ: لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَى مَكَانٍ فِي أَيِّ أَمْرٍ كَانَ إِلَّا إِلَى الثَّلَاثَةِ، أَوْ أَخَصَّ مِنْ ذَلِكَ. لَا سَبِيلَ إِلَى الْأَوَّلِ لِإِفْضَائِهِ إِلَى سَدِّ بَابِ السَّفَرِ لِلتِّجَارَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَطَلَبِ الْعِلْمِ وَغَيْرِهَا، فَتَعَيَّنَ الثَّانِي، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَدَّرَ مَا هُوَ أَكْثَرُ مُنَاسَبَةً، وَهُوَ: لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَى مَسْجِدٍ لِلصَّلَاةِ فِيهِ إِلَّا إِلَى الثَّلَاثَةِ، فَيَبْطُلُ بِذَلِكَ قَوْلُ مَنْ مَنَعَ شَدَّ الرِّحَالِ إِلَى زِيَارَةِ الْقَبْرِ الشَّرِيفِ وَغَيْرِهِ مِنْ قُبُورِ الصَّالِحِينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ السُّبْكِيُّ الْكَبِيرُ: لَيْسَ فِي الْأَرْضِ بُقْعَةٌ لَهَا فَضْلٌ لِذَاتِهَا حَتَّى تُشَدَّ الرِّحَالُ إِلَيْهَا غَيْرَ الْبِلَادِ الثَّلَاثَةِ، وَمُرَادِي بِالْفَضْلِ مَا شَهِدَ الشَّرْعُ بِاعْتِبَارِهِ، وَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمًا شَرْعِيًّا، وَأَمَّا غَيْرُهَا مِنَ الْبِلَادِ فَلَا تُشَدُّ إِلَيْهَا لِذَاتِهَا، بَلْ لِزِيَارَةٍ أَوْ جِهَادٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمَنْدُوبَاتِ أَوِ الْمُبَاحَاتِ، قَالَ: وَقَدِ الْتَبَسَ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِهِمْ، فَزَعَمَ أَنَّ شَدَّ الرِّحَالِ إِلَى الزِّيَارَةِ لِمَنْ فِي غَيْرِ الثَّلَاثَةِ دَاخِلٌ فِي الْمَنْعِ، وَهُوَ خَطَأٌ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَمَعْنَى الْحَدِيثِ: لَا تُشَدُّ الرِّحَالِ إِلَى مَسْجِدٍ مِنَ الْمَسَاجِدِ، أَوْ إِلَى مَكَانٍ مِنَ الْأَمْكِنَةِ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْمَكَانِ إِلَّا إِلَى الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَشَدُّ الرِّحَالِ إِلَى زِيَارَةٍ أَوْ طَلَبِ عِلْمٍ لَيْسَ إِلَى الْمَكَانِ بَلْ إِلَى مَنْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (زَيْدِ بْنِ رَبَاحٍ) بِالْمُوَحَّدَةِ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بِالتَّصْغِيرِ، وَالْأَغَرُّ هُوَ سَلْمَانُ شَيْخُ الزُّهْرِيِّ الْمُتَقَدِّمُ.

قَوْلُهُ: (صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا) قَالَ النَّوَوِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يَحْرِصَ الْمُصَلِّي عَلَى الصَّلَاةِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ فِي زَمَانِهِ صلى الله عليه وسلم دُونَ مَا زِيدَ فِيهِ بَعْدَهُ، لِأَنَّ التَّضْعِيفَ إِنَّمَا وَرَدَ فِي مَسْجِدِهِ، وَقَدْ أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ هَذَا، بِخِلَافِ مَسْجِدِ مَكَّةَ، فَإِنَّهُ يَشْمَلُ جَمِيعَ مَكَّةَ،

(1)

هذا اللازم لا بأس به، وقد التزمه الشيخ، وليس في ذلك بشاعة بحمد الله عند من عرف السنة، مواردها ومصادرها، والأحاديث المروية في فضل زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم كلها ضعيفة بل موضوعة كما حقق ذلك أبو العباس، في منسكه وغيره، ولو صحت لم يكن فيها حجة على جواز شد الرحال إلى زيارة قبره عليه الصلاة والسلام من دون قصد المسجد بل تكون عامة مطلقة، وأحاديث النهي عن شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة يخصها ويقيدها، والشيخ لم ينكر زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم من دون شد الرحال، وإنما أنكر شد الرحل من أجلها مجردا عن قصد المسجد. فتنبه وأفهم. والله أعلم.

ص: 66

بَلْ صَحَّحَ النَّوَوِيُّ أَنَّهُ يَعُمُّ جَمِيعَ الْحَرَمِ.

قَوْلُهُ: (إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ) قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: يَجُوزُ فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ، فَإِنَّهُ مُسَاوٍ لِمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، أوْ فَاضِلًا، أَوْ مَفْضُولًا. وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فَاضِلًا أَوْ مَفْضُولًا لَمْ يُعْلَمْ مِقْدَارُ ذَلِكَ إِلَّا بِدَلِيلٍ، بِخِلَافِ الْمُسَاوَاةِ. انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ لَمْ يَقِفْ عَلَى دَلِيلِ الثَّانِي، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنَ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ صَلَاةٍ فِي هَذَا، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ: وَصَلَاةٌ فِي ذَلِكَ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: اخْتُلِفَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ، وَمَنْ رَفَعَهُ أَحْفَظُ وَأَثْبَتُ، وَمَثَلُهُ لَا يُقَالُ بِالرَّأْيِ.

وَفِي ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي أَفْضَلُ مِنَ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: مِنْ مِائَةِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ. فَعَلَى الْأَوَّلِ مَعْنَاهُ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ، وَعَلَى الثَّانِي مَعْنَاهُ مِنْ مِائَةِ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، وَرِجَالُ إِسْنَادِهِ ثِقَاتٌ، لَكِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ عَطَاءٍ فِي ذَلِكَ عَنْهُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ عَطَاءٍ فِي ذَلِكَ عَنْهُمَا، وَعَلَى ذَلِكَ يَحْمِلُهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ عَطَاءً إِمَامٌ وَاسِعُ الرِّوَايَةِ مَعْرُوفٌ بِالرِّوَايَةِ عَنْ جَابِرٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَرَوَى الْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ، رَفَعَهُ: الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ، وَالصَّلَاةُ فِي مَسْجِدِي بِأَلْفِ صَلَاةٍ، وَالصَّلَاةُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِخَمْسِمِائَةِ صَلَاةٍ. قَالَ الْبَزَّارُ: إِسْنَادُهُ حَسَنٌ. فَوَضَّحَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْتِثْنَاءِ تَفْضِيلُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَهُوَ يَرُدُّ عَلَى تَأْوِيلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ وَغَيْرِهِ، وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى اللَّيْثِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ نَافِعٍ عَنْ تَأْوِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ: مَعْنَاهُ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِي أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ بِدُونِ أَلْفِ صَلَاةٍ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَفْظُ دُونِ يَشْمَلُ الْوَاحِدَ، فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ أَفْضَلَ مِنَ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ مَكَّةَ بِتِسْعِمِائَةٍ وَتِسْعٍ وَتِسْعِينَ صَلَاةً، وَحَسْبُكَ بِقَوْلٍ يُئَوَّلُ إِلَى هَذَا ضَعْفًا.

قَالَ: وَزَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ مَكَّةَ بِمِائَةِ صَلَاةٍ، وَاحْتَجَّ بِرِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَتِيقٍ، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُمَرَ، قَالَ: صَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ خَيْرٌ مِنْ مِائَةِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْمَحْفُوظَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِلَفْظِ: صَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إِلَّا مَسْجِدَ الرَّسُولِ، فَإِنَّمَا فَضَّلَهُ عَلَيْهِ بِمِائَةِ صَلَاةٍ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ عَتِيقٍ، وَعَطَاءٌ، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُمَا سَمِعَاهُ يَقُولُ: صَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ خَيْرٌ مِنْ مِائَةِ صَلَاةٍ فِيهِ. وَيُشِيرُ إِلَى مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ.

وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ رِوَايَةِ مُوسَى الْجُهَنِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا، وَلَفْظُهُ كَلَفْظِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي آخِرِهِ: إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ بِمِائَةِ صَلَاةٍ. وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى تَفْضِيلِ مَكَّةَ عَلَى الْمَدِينَةِ لِأَنَّ الْأَمْكِنَةَ تُشَرَّفُ بِفَضْلِ الْعِبَادَةِ فِيهَا عَلَى غَيْرِهَا مِمَّا تَكُونُ الْعِبَادَةُ فِيهِ مَرْجُوحَةً، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ، وَمُطَرِّفٌ، وَابْنُ حَبِيبٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، لَكِنَّ الْمَشْهُورَ عَنْ مَالِكٍ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ تَفْضِيلُ الْمَدِينَةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: مَا بَيْنَ قَبْرِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ مَعَ قَوْلِهِ: مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِالْخَبَرِ فِي غَيْرِ مَا وَرَدَ فِيهِ، وَلَا يُقَاوِمُ النَّصُّ الْوَارِدُ فِي فَضْلِ مَكَّةَ، ثُمَّ سَاقَ حَدِيثَ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْحَمْرَاءِ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاقِفًا عَلَى الْحَزْوَرَةِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ. وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ

ص: 67

التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُمْ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا نَصٌّ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ، فَلَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ رَجَعَ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، لَكِنِ اسْتَثْنَى عِيَاضٌ الْبُقْعَةَ الَّتِي دُفِنَ فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَحَكَى الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّهَا أَفْضَلُ الْبِقَاعِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ هَذَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَحْثِ الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْفَضْلُ لِلْعَابِدِ. وَأَجَابَ الْقَرَافِيُّ بِأَنَّ سَبَبَ التَّفْضِيلِ لَا يَنْحَصِرُ فِي كَثْرَةِ الثَّوَابِ عَلَى الْعَمَلِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ لِغَيْرِهَا كَتَفْضِيلِ جِلْدِ الْمُصْحَفِ عَلَى سَائِرِ الْجُلُودِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: لَمْ أَرَ لِأَصْحَابِنَا نَقْلًا فِي ذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنَّمَا يُحْتَجُّ بِقَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَنْ أَنْكَرَ فَضْلَهَا، أَمَّا مَنْ أَقَرَّ بِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ أَفْضَلَ بَعْدَ مَكَّةَ مِنْهَا، فَقَدْ أَنْزَلَهَا مَنْزِلَتَهَا.

وَقَالَ غَيْرُهُ: سَبَبُ تَفْضِيلِ الْبُقْعَةِ الَّتِي ضَمَّتْ أَعْضَاءَهُ الشَّرِيفَةَ أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ الْمَرْءَ يُدْفَنُ فِي الْبُقْعَةِ الَّتِي أُخِذَ مِنْهَا تُرَابُهُ عِنْدَمَا يُخْلَقُ. رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي أَوَاخِرِ تَمْهِيدِهِ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ مَوْقُوفًا، وَعَلَى هَذَا فَقَدَ رَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ أَنَّ جِبْرِيلَ أَخَذَ التُّرَابَ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ تُرَابِ الْكَعْبَةِ، فَعَلَى هَذَا، فَالْبُقْعَةُ الَّتِي ضَمَّتْ أَعْضَاءَهُ مِنْ تُرَابِ الْكَعْبَةِ، فَيَرْجِعُ الْفَضْلُ الْمَذْكُورُ إِلَى مَكَّةَ إِنْ صَحَّ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَضْعِيفِ الصَّلَاةِ مُطْلَقًا فِي الْمَسْجِدَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ النَّقْلُ عَنِ الطَّحَاوِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالْفَرَائِضِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: أَفْضَلُ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَا مَانِعَ مِنْ إِبْقَاءِ الْحَدِيثِ عَلَى عُمُومِهِ، فَتَكُونُ صَلَاةُ النَّافِلَةِ فِي بَيْتٍ بِالْمَدِينَةِ أَوْ مَكَّةَ تُضَاعَفُ عَلَى صَلَاتِهَا فِي الْبَيْتِ بِغَيْرِهِمَا، وَكَذَا فِي الْمَسْجِدَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْبُيُوتِ أَفْضَلَ مُطْلَقًا. ثُمَّ إِنَّ التَّضْعِيفَ الْمَذْكُورَ يَرْجِعُ إِلَى الثَّوَابِ، وَلَا يَتَعَدَّى إِلَى الْإِجْزَاءِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ كَمَا نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ، فَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ صَلَاتَانِ فَصَلَّى فِي أَحَدِ الْمَسْجِدَيْنِ صَلَاةً لَمْ تُجْزِهِ إِلَّا عَنْ وَاحِدَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ أَوْهَمَ كَلَامُ الْمُقْرِي أَبِي بَكْرٍ النَّقَّاشِ فِي تَفْسِيرِهِ خِلَافَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: حَسَبْتُ الصَّلَاةَ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَبَلَغَتْ صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عُمُرَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً. انْتَهَى. وَهَذَا مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ التَّضْعِيفِ بِالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّهَا تَزِيدُ سَبْعًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَبْوَابِ الْجَمَاعَةِ، لَكِنْ هَلْ يَجْتَمِعُ التَّضْعِيفَانِ أَوْ لَا؟ مَحَلُّ بَحْثٍ.

‌2 - بَاب مَسْجِدِ قُبَاءٍ

1191 -

حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما كَانَ لَا يُصَلِّي مِنْ الضُّحَى إِلَّا فِي يَوْمَيْنِ: يَوْمَ يَقْدَمُ بِمَكَّةَ فَإِنَّهُ كَانَ يَقْدَمُهَا ضُحًى فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَلْفَ الْمَقَامِ، وَيَوْمَ يَأْتِي مَسْجِدَ قُبَاءٍ، فَإِنَّهُ كَانَ يَأْتِيهِ كُلَّ سَبْتٍ، فَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ كَرِهَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ حَتَّى يُصَلِّيَ فِيهِ. قَالَ: وَكَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَزُورُهُ رَاكِبًا وَمَاشِيًا.

[الحديث 1191 - أطرافه في: 7326، 1194، 1193]

1192 -

قَالَ: وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّمَا أَصْنَعُ كَمَا رَأَيْتُ أَصْحَابِي يَصْنَعُونَ، وَلَا أَمْنَعُ أَحَدًا أَنْ يُصَلِّيَ فِي أَيِّ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، غَيْرَ أَنْ لَا تَتَحَرَّوْا طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلَا غُرُوبَهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَسْجِدِ قُبَاءٍ) أَيْ فَضْلُهُ، وَقُبَاءٌ بِضَمِّ الْقَافِ، ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ مَمْدُودَةٍ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَأَنْكَرَ السُّكَّرِيُّ قَصْرَهُ، لَكِنْ حَكَاهُ صَاحِبُ الْعَيْنِ، قَالَ الْبَكْرِيُّ: مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يُذَكِّرُهُ فَيَصْرِفُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤَنِّثُهُ فَلَا

ص: 68

يَصْرِفُهُ. وَفِي الْمَطَالِعِ: هُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ. وَقَالَ يَاقُوتُ: عَلَى مِيلَيْنِ عَلَى يَسَارِ قَاصِدِ مَكَّةَ، وَهُوَ مِنْ عَوَالِي الْمَدِينَةِ. وَسُمِّيَ بِاسْمِ بِئْرٍ هُنَاكَ. وَالْمَسْجِدُ الْمَذْكُورُ هُوَ مَسْجِدُ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَهُوَ أَوَّلُ مَسْجِدٍ أَسَّسَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي كَوْنِهِ الْمَسْجِدَ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى فِي بَابِ الْهِجْرَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ: هُوَ الدَّوْرَقِيُّ.

قَوْلُهُ: (كَانَ لَا يُصَلِّي الضُّحَى) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ قَرِيبًا.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ) أَيِ ابْنُ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (يَزُورُهُ) أَيْ يَزُورُ مَسْجِدَ قُبَاءٍ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ يَقُولُ) أَيِ ابْنُ عُمَرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ الْمَوَاقِيتِ. وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى فَضْلِ قُبَاءٍ، وَفَضْلِ الْمَسْجِدِ الَّذِي بِهَا، وَفَضْلِ الصَّلَاةِ فِيهِ، لَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ فِي ذَلِكَ تَضْعِيفٌ بِخِلَافِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ.

‌3 - بَاب مَنْ أَتَى مَسْجِدَ قُبَاءٍ كُلَّ سَبْتٍ

1193 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَأْتِي مَسْجِدَ قُبَاءٍ كُلَّ سَبْتٍ مَاشِيًا وَرَاكِبًا، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنه يَفْعَلُهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أَتَى مَسْجِدَ قُبَاءٍ كُلَّ سَبْتٍ) أَرَادَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ بَيَانَ تَقْيِيدِ مَا أُطْلِقَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، لِأَنَّهُ قَيَّدَ فِيهَا فِي الْمَوْقُوفِ بِخِلَافِ الْمَرْفُوعِ فَأَطْلَقَ، وَمِنْ فَضَائِلِ مَسْجِدِ قُبَاءٍ مَا رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: لَأَنْ أُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ رَكْعَتَيْنِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ آتِيَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ مَرَّتَيْنِ، لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي قُبَاءٍ لَضَرَبُوا إِلَيْهِ أَكْبَادَ الْإِبِلِ.

قَوْلُهُ: (مَاشِيًا وَرَاكِبًا) أَيْ بِحَسْبِ مَا تَيَسَّرَ، وَالْوَاوُ بِمَعْنَى أَوْ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ) أَيِ ابْنُ عُمَرَ كَمَا ثَبَتَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَالْأَصِيلِيِّ.

‌4 - بَاب إِتْيَانِ مَسْجِدِ قُبَاءٍ مَاشِيًا وَرَاكِبًا

1194 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَأْتِي قُبَاءٍ رَاكِبًا وَمَاشِيًا. زَادَ ابْنُ نُمَيْرٍ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ: فَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِتْيَانِ مَسْجِدِ قُبَاءٍ مَاشِيًا وَرَاكِبًا) أَفْرَدَ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ لِاشْتِمَالِ الْحَدِيثِ عَلَى حُكْمٍ آخَرَ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) زَادَ الْأَصِيلِيُّ: ابْنُ سَعِيدٍ وَهُوَ الْقَطَّانُ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بِالتَّصْغِيرِ، هُوَ ابْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ.

قَوْلُهُ: (زَادَ ابْنُ نُمَيْرٍ)؛ أَيْ عَبْدُ اللَّهِ (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) أَيِ ابْنُ عُمَرَ. وَطَرِيقُ ابْنِ نُمَيْرٍ وَصَلَهَا مُسْلِمٌ، وَأَبُو يَعْلَى قَالَا: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، أَخْبَرَنَا أَبِي بِهِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، وَأَبُو أُسَامَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ. فَذَكَرَهُ بِالزِّيَادَةِ، وَادَّعَى الطَّحَاوِيُّ أَنَّهَا مُدْرَجَةٌ، وَأَنَّ أَحَدَ الرُّوَاةِ قَالَهُ مِنْ عِنْدِهِ لِعِلْمِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ لَا يَجْلِسَ حَتَّى يُصَلِّيَ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى اخْتِلَافِ طُرُقِهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ تَخْصِيصِ بَعْضِ الْأَيَّامِ بِبَعْضِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَفِيهِ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ شَدِّ الرِّحَالِ لِغَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ لَيْسَ عَلَى التَّحْرِيمِ

(1)

لِكَوْنِ

(1)

هذا فيه نظر. والصواب أنه للتحريم كما هو الأصل في نهيه صلى الله عليه وسلم. والجواب عن حديث قباء أن المراد بشد الرحل في أحاديث النهي الكناية عن السفر لا مجرد شد الرحل، وعليه فلا إشكال في ركوب النبي صلى الله عليه وسلم إلى مسجد قباء، وقد سبق للشارح، يرشد إلى هذا في كلامه على أحاديث النهي عن شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة، فتنبه. والله الموفق.

ص: 69

النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْتِي مَسْجِدَ قُبَاءٍ رَاكِبًا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ مَجِيئَهُ صلى الله عليه وسلم إِلَى قُبَاءٍ إِنَّمَا كَانَ لِمُوَاصَلَةِ الْأَنْصَارِ وَتَفَقُّدِ حَالِهِمْ، وَحَالِ مَنْ تَأَخَّرَ مِنْهُمْ عَنْ حُضُورِ الْجُمُعَةِ مَعَهُ، وَهَذَا هُوَ السِّرُّ فِي تَخْصِيصِ ذَلِكَ بِالسَّبْتِ.

‌5 - بَاب فَضْلِ مَا بَيْنَ الْقَبْرِ وَالْمِنْبَرِ

1195 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْمَازِنِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ.

1196 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ الله قَالَ: حَدَّثَنِي خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي.

[الحديث 1196 - أطرافه في: 7335، 6588، 1888]

قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ مَا بَيْنَ الْقَبْرِ وَالْمِنْبَرِ) لَمَّا ذَكَرَ فَضْلَ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ أَرَادَ أَنْ يُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ بَعْضَ بِقَاعِ الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ، وَتَرْجَمَ بِذِكْرِ الْقَبْرِ، وَأَوْرَدَ الْحَدِيثَيْنِ بِلَفْظِ الْبَيْتِ، لِأَنَّ الْقَبْرَ صَارَ فِي الْبَيْتِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ بِلَفْظِ الْقَبْرِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ: بَيْتِي، وَيُرْوَى قَبْرِي، وَكَأَنَّهُ بِالْمَعْنَى، لِأَنَّهُ دُفِنَ فِي بَيْتِ سُكْنَاهُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ) أَيِ ابْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ، وَثَبَتَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَالْأَصِيلِيِّ.

قَوْلُهُ: (وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي) سَقَطَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَسَيَأْتِي هَذَا الْحَدِيثُ بِسَنَدِهِ وَمَتْنِهِ كَامِلًا فِي أَوَاخِرِ فَضْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ أَوَاخِرِ كِتَابِ الْحَجِّ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْمَتْنِ هُنَاكَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مُسْتَوْفًى.

‌6 - بَاب مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ

1197 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، سَمِعْتُ قَزَعَةَ مَوْلَى زِيَادٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رضي الله عنه يُحَدِّثُ بِأَرْبَعٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَعْجَبْنَنِي وَآنَقْنَنِي قَالَ: لَا تُسَافِرْ الْمَرْأَةُ يَوْمَيْنِ إِلَّا ومَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو مَحْرَمٍ، وَلَا صَوْمَ فِي يَوْمَيْنِ: الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاتَيْنِ: بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ. وَلَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَمَسْجِدِي.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ) أَيْ فَضْلُهُ.

قَوْلُهُ: (وَآنَقْنَنِي) بِالْمَدِّ، ثُمَّ نُونٍ مَفْتُوحَةٍ، ثُمَّ قَافٍ سَاكِنَةٍ، بَعْدَهَا نُونَانِ، يُقَالُ: آنَقَهُ كَذَا إِذَا أَعْجَبَهُ، وَشَيْءٌ مُونِقٌ؛ أَيْ مُعْجِبٌ، وَقَوْلُهُ: وَأَعْجَبْنَنِي؛ مِنَ التَّأْكِيدِ بِغَيْرِ اللَّفْظِيِّ، وَحَكَى ابْنُ الْأَثِيرِ أَنَّهُ رُوِيَ أَيْنَقْنَنِي بِتَحْتَانِيَّةٍ بَدَلَ الْأَلِفِ، قَالَ: وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَضَبَطَهُ الْأَصِيلِيُّ: أَتَقْنَنِي بِمُثَنَّاةٍ فَوْقَانِيَّةٍ مِنَ التَّوْقِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: مِنْهُ تَوِّقْنِي؛ كَشَوِّقْنِي.

قَوْلُهُ: (لَا تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ) سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْحَجِّ.

قَوْلُهُ: (وَلَا صَوْمَ) سَيَأْتِي فِي الصَّوْمِ، وَقَوْلُهُ فِي الصَّلَاةِ تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ الْمَوَاقِيتِ، وَقَوْلُهُ (وَلَا تُشَدُّ الرِّحَالُ) تَقَدَّمَ قَرِيبًا.

ص: 70

(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَتْ أَبْوَابُ التَّطَوُّعِ وَمَا مَعَهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَثَلَاثِينَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْهَا عَشَرَةُ أَحَادِيثَ، وَسَائِرُهَا مَوْصُولَةٌ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا - فِيهَا وَفِيمَا مَضَى - اثْنَانِ وَعِشْرُونَ حَدِيثًا، وَالْخَالِصُ اثْنَا عَشَرَ. وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي صَلَاةِ الضُّحَى، وَحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ فِي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ، وَحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ فِيهِ، وَفِيهَا مِنَ الْآثَارِ الْمَوْقُوفَةِ عَلَى الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ أَحَدَ عَشَرَ أَثَرًا، وَهِيَ السِّتَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ، وَأَثَرُ ابْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ وَأَبِي بَكْرٍ وَنَفْسِهِ فِي تَرْكِ صَلَاةِ الضُّحَى، وَأَثَرُ أَبِي تَمِيمٍ فِي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ، وَأَثَرُ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، وَكُلُّهَا مَوْصُولَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌21 - كتاب العمل في الصلاة

‌1 - بَاب اسْتِعَانَةِ الْيَدِ فِي الصَّلَاةِ إِذَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الصَّلَاةِ

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: يَسْتَعِينُ الرَّجُلُ فِي صَلَاتِهِ مِنْ جَسَدِهِ بِمَا شَاءَ

وَوَضَعَ أَبُو إِسْحَاقَ قَلَنْسُوَتَهُ فِي الصَّلَاةِ وَرَفَعَهَا. وَوَضَعَ عَلِيٌّ رضي الله عنه كَفَّهُ عَلَى رُسْغِهِ الْأَيْسَرِ إِلَّا أَنْ يَحُكَّ جِلْدًا أَوْ يُصْلِحَ ثَوْبًا

1198 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَ مَيْمُونَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها وَهِيَ خَالَتُهُ، قَالَ: فَاضْطَجَعْتُ عَلَى عَرْضِ الْوِسَادَةِ، وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَهْلُهُ فِي طُولِهَا، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى انْتَصَفَ اللَّيْلُ أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَلَسَ فَمَسَحَ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ آيَاتٍ خَوَاتِيمَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقَةٍ فَتَوَضَّأَ مِنْهَا فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: فَقُمْتُ فَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا صَنَعَ، ثُمَّ ذَهَبْتُ فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رَأْسِي، وَأَخَذَ بِأُذُنِي الْيُمْنَى يَفْتِلُهَا بِيَدِهِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَوْتَرَ ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى جَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ (أَبْوَابُ الْعَمَلِ فِي الصَّلَاةِ) ثَبَتَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ هُنَا بَسْمَلَةٌ.

(بَابُ) فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ أَبْوَابُ.

قَوْلُهُ: (اسْتِعَانَةِ الْيَدِ فِي الصَّلَاةِ إِذَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الصَّلَاةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَسْتَعِينُ الرَّجُلُ فِي صَلَاتِهِ مِنْ جَسَدِهِ بِمَا شَاءَ. وَوَضَعَ أَبُو إِسْحَاقَ - يَعْنِي السَّبِيعِيَّ - قَلَنْسُوَتَهُ فِي الصَّلَاةِ وَرَفَعَهَا. وَوَضَعَ عَلِيٌّ كَفَّهُ عَلَى رُصْغِهِ الْأَيْسَرِ، إِلَّا أَنْ يَحُكَّ جِلْدًا، أَوْ يُصْلِحَ ثَوْبًا) هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ بَقِيَّةِ أَثَرِ عَلِيٍّ عَلَى مَا سَأُوَضِّحُهُ، وَظَنَّ قَوْمٌ أَنَّهُ مِنْ تَتِمَّةِ التَّرْجَمَةِ، فَقَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: قَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَحُكَّ جِلْدًا أَوْ يُصْلِحَ ثَوْبًا؛ أوَ مُسْتَثْنًى مِنْ قَوْلِهِ: إِذَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الصَّلَاةِ. فَاسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ جَوَازَ مَا تَدْعُو الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ مِنْ حَالِ الْمَرْءِ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ

ص: 71

دَفْعِ التَّشْوِيشِ عَنِ النَّفْسِ، قَالَ: وَكَانَ الْأَوْلَى فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّمًا قَبْلَ قَوْلِهِ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ. انْتَهَى.

وَسَبَقَهُ إِلَى دَعْوَاهُ - أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ التَّرْجَمَةِ - الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي مُسْتَخْرَجِهِ، فَقَالَ: قَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَحُكَّ جَلْدًا؛ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ صِلَةِ الْبَابِ عِنْدَ قَوْلِهِ إِذَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الصَّلَاةِ، وَصَرَّحَ بِكَوْنِهِ مِنْ كَلَامِ الْبُخَارِيِّ لَا مِنْ كَلَامِ عَلِيٍّ الْعَلَامَةِ عَلَاءِ الدِّينِ مُغَلْطَايْ فِي شَرْحِهِ، وَتَبِعَهُ مَنْ أَخَذَ ذَلِكَ عَنْهُ مِمَّنْ أَدْرَكْنَاهُ، وَهُوَ وَهَمٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بَقِيَّةُ أَثَرِ عَلِيٍّ، كَذَلِكَ رَوَاهُ مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَحَدُ مَشَايِخِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ غَزْوَانَ بْنِ جَرِيرٍ الضَّبِّيِّ عَنْ أَبِيهِ - وَكَانَ شَدِيدَ اللُّزُومِ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ عَلِيٌّ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ فَكَبَّرَ ضَرَبَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى عَلَى رُصْغِهِ الْأَيْسَرِ، فَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَرْكَعَ، إِلَّا أَنْ يَحُكَّ جِلْدًا أَوْ يُصْلِحَ ثَوْبًا. هَكَذَا رُوِّينَاهُ فِي السُّفَيْنةِ الْجَرَائِدِيَّةِ مِنْ طَرِيقِ السِّلَفِيِّ بِسَنَدِهِ إِلَى مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ: إِلَّا أَنْ يُصْلِحَ ثَوْبَهُ أَوْ يَحُكَّ جَسَدَهُ. وَهَذَا هُوَ الْمُوَافِقُ لِلتَّرْجَمَةِ، وَلَوْ كَانَ أَثَرُ عَلِيٍّ انْتَهَى عِنْدَ قَوْلِهِ: الْأَيْسَرِ لَمَا كَانَ فِيهِ تَعَلُّقٌ بِالتَّرْجَمَةِ إِلَّا بِبُعْدٍ، وَهَذَا مِنْ فَوَائِدِ تَخْرِيجِ التَّعْلِيقَاتِ.

وَالرُّصْغُ بِسُكُونِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ، بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ، قَالَ صَاحِبُ الْعَيْنِ: هُوَ لُغَةٌ فِي الرُّسْغِ، وَهُوَ مَفْصِلُ مَا بَيْنَ الْكَفِّ وَالسَّاعِدِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ: الرُّصْغُ مُجْتَمِعُ السَّاقَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ. ثُمَّ إِنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآثَارِ يُخَالِفُ التَّرْجَمَةَ، لِأَنَّهَا مُقَيَّدَةٌ بِمَا إِذَا كَانَ الْعَمَلُ مِنْ أَمْرِ الصَّلَاةِ وَهِيَ مُطْلَقَةٌ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ إِلَى أَنَّ إِطْلَاقَهَا مُقَيَّدٌ بِمَا ذُكِرَ لِيَخْرُجَ الْعَبَثُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَهَا تَعَلُّقٌ بِالصَّلَاةِ، لِأَنَّ دَفْعَ مَا يُؤْذِي الْمُصَلِّي يُعِينُ عَلَى دَوَامِ خُشُوعِهِ الْمَطْلُوبِ فِي الصَّلَاةِ، وَيَدْخُلُ فِي الِاسْتِعَانَةِ التَّعَلُّقُ بِالْحَبْلِ عِنْدَ التَّعَبِ، وَالِاعْتِمَادُ عَلَى الْعَصَا وَنَحْوُهُمَا، وَقَدْ رَخَّصَ فِيهِ بَعْضُ السَّلَفِ، وَقَدْ مَرَّ الْأَمْرُ بِحَلِّ الْحَبْلِ فِي أَبْوَابِ قِيَامِ اللَّيْلِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ الِاخْتِصَاص بَعْدَ أَبْوَابٍ.

قَوْلُهُ: (وَأَخَذَ بِأُذُنِي الْيُمْنَى يَفْتِلُهَا) هُوَ شَاهِدُ التَّرْجَمَةِ، لِأَنَّهُ أَخَذَ بِأُذُنِهِ أَوَّلًا لِإِدَارَتِهِ مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ إِلَى الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ، وَذَلِكَ مِنْ مَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ. ثُمَّ أَخَذَ بِهَا أَيْضًا لِتَأْنِيسِهِ، لِكَوْنِ ذَلِكَ لَيْلًا كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي أَبْوَابِ الصُّفُوفِ. قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: اسْتَنْبَطَ الْبُخَارِيُّ مِنْهُ أَنَّهُ لَمَّا جَازَ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَسْتَعِينَ بِيَدِهِ فِي صَلَاتِهِ فِيمَا يَخْتَصُّ بِغَيْرِهِ، كَانَتِ اسْتِعَانَتُهُ فِي أَمْرِ نَفْسِهِ لِيَتَقَوَّى بِذَلِكَ عَلَى صَلَاتِهِ، وَيَنْشَطَ لَهَا إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ أَوْلَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ فَوَائِدِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَبْوَابِ الْوِتْرِ.

‌2 - بَاب مَا يُنْهَى مِنْ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ

1199 -

حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، قال: حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَيَرُدُّ عَلَيْنَا، فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ سَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْنَا، وَقَالَ: إِنَّ فِي الصَّلَاةِ شُغْلًا.

[الحديث 1199 - طرفاه في: 3875، 1216]

حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُرَيْمُ بْنُ سُفْيَانَ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ.

1200 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا عِيسَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ شُبَيْلٍ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ،

ص: 72

قَالَ: قَالَ لِي زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ: إِنْ كُنَّا لَنَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُكَلِّمُ أَحَدُنَا صَاحِبَهُ بِحَاجَتِهِ، حَتَّى نَزَلَتْ:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} الآية فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ.

[الحديث 1200 - طرفه في: 4534]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُنْهَى مِنَ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ) فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ: مَا يُنْهَى عَنْهُ، وَفِي التَّرْجَمَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ بَعْضَ الْكَلَامِ لَا يُنْهَى عَنْهُ كَمَا سَيَأْتِي حِكَايَةُ الْخِلَافِ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، نُسِبَ إِلَى جَدِّهِ، وَلَمْ يُدْرِكِ الْبُخَارِيُّ، عَبْدَ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي وَائِلٍ: كُنَّا نُسَلِّمُ فِي الصَّلَاةِ وَنَأْمُرُ بِحَاجَتِنَا. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَحْوَصِ: خَرَجْتُ فِي حَاجَةٍ وَنَحْنُ يُسَلِّمُ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فِي الصَّلَاةِ. وَسَيَأْتِي لِلْمُصَنِّفِ بَعْدَ بَابٍ نَحْوُهُ فِي حَدِيثِ التَّشَهُّدِ.

قَوْلُهُ: (النَّجَاشِيِّ) بِفَتْحِ النُّونِ، وَحُكِيَ كَسْرُهَا، وَسَيَأْتِي تَسْمِيَتُهُ وَالْإِشَارَةُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(فَائِدَةٌ) رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ مُرْسَلِ ابْنِ سِيرِينَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَدَّ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ السَّلَامَ بِالْإِشَارَةِ، وَقَدْ بَوَّبَ الْمُصَنِّفُ لِمَسْأَلَةِ الْإِشَارَةِ فِي الصَّلَاةِ بِتَرْجَمَةٍ مُفْرَدَةٍ، وَسَتَأْتِي فِي أَوَاخِرِ سُجُودِ السَّهْوِ قَرِيبًا.

قَوْلُهُ: (فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْنَا) زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ فُضَيْلٍ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَيْكَ فِي الصَّلَاةِ فَتَرُدُّ عَلَيْنَا. وَكَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ الَّتِي فِي الْهِجْرَةِ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ فِي الصَّلَاةِ شُغْلًا) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنِ ابْنِ فُضَيْلٍ: لَشُغْلًا بِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ، وَالتَّنْكِيرُ فِيهِ لِلتَّنْوِيعِ، أَيْ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ، أَوْ لِلتَّعْظِيمِ؛ أَيْ شُغْلًا وَأَيُّ لِأَنَّهَا مُنَاجَاةٌ مَعَ اللَّهِ تَسْتَدْعِي الِاسْتِغْرَاقَ بِخِدْمَتِهِ، فَلَا يَصْلُحُ فِيهَا الِاشْتِغَالُ بِغَيْرِهِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّ وَظِيفَةَ الْمُصَلِّي الِاشْتِغَالُ بِصَلَاتِهِ، وَتَدَبُّرُ مَا يَقُولُهُ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَرَّجَ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ رَدِّ السَّلَامِ وَنَحْوِهِ، زَادَ فِي رِوَايَةِ أَبِي وَائِلٍ: إِنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ. وَزَادَ فِي رِوَايَةِ كُلْثُومٍ الْخُزَاعِيِّ: إِلَّا بِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا يَنْبَغِي لَكُمْ فَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ. فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ.

قَوْلُهُ: (هُرَيْمُ) بِهَاءٍ وَرَاءٍ مُصَغَّرًا، وَالسَّلُولِيُّ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَلَامَيْنِ، الْأُولَى خَفِيفَةٌ مَضْمُومَةٌ، وَرِجَالُ الْإِسْنَادَيْنِ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ كُلُّهُمْ كُوفِيُّونَ، وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَرِوَايَةُ الْأَعْمَشِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِمَّا عُدَّ مِنْ أَصَحِّ الْأَسَانِيدِ.

قَوْلُهُ: (نَحْوَهُ) ظَاهِرٌ فِي أَنَّ لَفْظَ رِوَايَةِ هُرَيْمٍ غَيْرُ مُتَّحِدٍ مَعَ لَفْظِ رِوَايَةِ ابْنِ فُضَيْلٍ وَأَنَّ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَكَذَا أَخْرَجَ مُسْلِمٌ الْحَدِيثَ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ هُرَيْمٍ أَيْضًا: نَحْوَهُ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى سِيَاقِ لَفْظِ هُرَيْمٍ إِلَّا عِنْدَ الْجَوْزَقِيِّ، فَإِنَّهُ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ الزُّهْرِيِّ عَنْهُ، وَلَمْ أَرَ بَيْنَهُمَا مُغَايَرَةً، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: قَدِمْنَا بَدَلَ رَجَعْنَا، وَزَادَ: فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالْبَاقِي سَوَاءٌ، وَسَيَأْتِي فِي الْهِجْرَةِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَوَانَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ أَوْضَحَ مِنْ هَذَا، وَلِلْحَدِيثِ طُرُقٌ أُخْرَى، مِنْهَا عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ كُلْثُومٍ الْخُز اعِيِّ عَنْهُ، وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، وَالطَّحَاوِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْهُ، وَسَيَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} مِنْ أَوَاخِرِ كِتَابِ التَّوْحِيدِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ إِسْمَاعِيلَ) هُوَ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ شُبَيْلٍ لَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَأَبُوهُ بِمُعْجَمَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ، وَآخِرُهُ لَامٌ مُصَغَّرًا، وَلَيْسَ لِأَبِي عُمَرَ، وَسَعْدِ بْنِ إِيَاسٍ الشَّيْبَانِيِّ شَيْخِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ غَيْرُهُ.

قَوْلُهُ: (إِنْ كُنَّا لَنَتَكَلَّمُ) بِتَخْفِيفِ النُّونِ، وَهَذَا حُكْمُهُ الرَّفْعُ، وَكَذَا قَوْلُهُ: أُمِرْنَا لِقَوْلِهِ فِيهِ: عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى وَلَوْ لَمْ يُقَيِّدْ بِذَلِكَ لَكَانَ ذِكْرُ نُزُولِ الْآيَةِ كَافِيًا فِي كَوْنِهِ مَرْفُوعًا.

ص: 73

قَوْلُهُ: (يُكَلِّمُ أَحَدُنَا صَاحِبَهُ بِحَاجَتِهِ) تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: نَتَكَلَّمُ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَتَكَلَّمُونَ فِيهَا بِكُلِّ شَيْءٍ، وَإِنَّمَا يَقْتَصِرُونَ عَلَى الْحَاجَةِ مِنْ رَدِّ السَّلَامِ وَنَحْوِهِ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى نَزَلَتْ) ظَاهِرٌ فِي أَنَّ نَسْخَ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ وَقَعَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَيَقْتَضِي أَنَّ النَّسْخَ وَقَعَ بِالْمَدِينَةِ لِأَنَّ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ بِاتِّفَاقٍ، فَيُشْكِلُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِنَّ ذَلِكَ وَقَعَ لَمَّا رَجَعُوا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ، وَكَانَ رُجُوعُهُمْ مِنْ عِنْدِهِ إِلَى مَكَّةَ، وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ، ثُمَّ بَلَغَهُمْ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَسْلَمُوا، فَرَجَعُوا إِلَى مَكَّةَ، فَوَجَدُوا الْأَمْرَ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَاشْتَدَّ الْأَذَى عَلَيْهِمْ، فَخَرَجُوا إِلَيْهَا أَيْضًا، فَكَانُوا فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ أَضْعَافَ الْأُولَى، وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ مَعَ الْفَرِيقَيْنِ، وَاخْتُلِفَ فِي مُرَادِهِ بِقَوْلِهِ: فَلَمَّا رَجَعْنَا، هَلْ أَرَادَ الرُّجُوعَ الْأَوَّلَ أَوِ الثَّانِي، فَجَنَحَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ وَآخَرُونَ إِلَى الْأَوَّلِ، وَقَالُوا: كَانَ تَحْرِيمُ الْكَلَامِ بِمَكَّةَ، وَحَمَلُوا حَدِيثَ زَيْدٍ عَلَى أَنَّهُ وَقَوْمَهُ لَمْ يَبْلُغْهُمُ النَّسْخُ، وَقَالُوا: لَا مَانِعَ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْحُكْمُ، ثُمَّ تَنْزِلَ الْآيَةُ بِوَفْقِهِ. وَجَنَحَ آخَرُونَ إِلَى التَّرْجِيحِ، فَقَالُوا: يَتَرَجَّحُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ بِأَنَّهُ حَكَى لَفْظَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، بِخِلَافِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، فَلَمْ يَحْكِهِ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا أَرَادَ ابْنُ مَسْعُودٍ رُجُوعَهُ الثَّانِي، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَجَهَّزُ إِلَى بَدْرٍ، وَفِي مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى النَّجَاشِيِّ ثَمَانِينَ رَجُلًا.

فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَفِي آخِرِهِ: فَتَعَجَّلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فَشَهِدَ بَدْرًا.

وَفِي السِّيَرِ لِابْنِ إِسْحَاقَ: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ بِالْحَبَشَةِ لَمَّا بَلَغَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ رَجَعَ مِنْهُمْ إِلَى مَكَّةَ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ رَجُلًا، فَمَاتَ مِنْهُمْ رَجُلَانِ بِمَكَّةَ وَحُبِسَ مِنْهُمْ سَبْعَةٌ، وَتَوَجَّهَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ رَجُلًا، فَشَهِدُوا بَدْرًا. فَعَلَى هَذَا كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ مِنْ هَؤُلَاءِ، فَظَهَرَ أَنَّ اجْتِمَاعَهُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ رُجُوعِهِ كَانَ بِالْمَدِينَةِ، وَإِلَى هَذَا الْجَمْعِ نَحَا الْخَطَّابِيُّ وَلَمْ يَقِفْ مَنْ تَعَقَّبَ كَلَامَهُ عَلَى مُسْتَنَدِهِ، وَيُقَوِّي هَذَا الْجَمْعَ رِوَايَةُ كُلْثُومٍ الْمُتَقَدِّمَةُ، فَإِنَّهَا ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ كُلًّا مِنَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ حَكَى أَنَّ النَّاسِخَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حِبَّانَ: كَانَ نَسْخُ الْكَلَامِ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ، قَالَ: وَمَعْنَى قَوْلِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: كُنَّا نَتَكَلَّمُ؛ أَيْ كَانَ قَوْمِي يَتَكَلَّمُونَ، لِأَنَّ قَوْمَهُ كَانُوا يُصَلُّونَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ مَعَ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ الَّذِي كَانَ يُعَلِّمُهُمُ الْقُرْآنَ، فَلَمَّا نُسِخَ تَحْرِيمُ الْكَلَامِ بِمَكَّةَ بَلَغَ ذَلِكَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَتَرَكُوهُ، فَهُوَ مُتَعَقَّبٌ بِأَنَّ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ بِاتِّفَاقٍ، وَبِأَنَّ إِسْلَامَ الْأَنْصَارِ وَتَوَجُّهَ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ إِلَيْهِمْ إِنَّمَا كَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ، وَبِأَنَّ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: كُنَّا نَتَكَلَّمُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

كَذَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، فَانْتَفَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْأَنْصَارَ الَّذِينَ كَانُوا يُصَلُّونَ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ هِجْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ.

وَأَجَابَ ابْنُ حِبَّانَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِأَنَّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: كُنَّا نَتَكَلَّمُ مَنْ كَانَ يُصَلِّي خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ مُتَعَقَّبٌ أَيْضًا بِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا بِمَكَّةَ يَجْتَمِعُونَ إِلَّا نَادِرًا، وَبِمَا رَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَوَجَدَهُمْ يُصَلُّونَ سَأَلَ الَّذِي إِلَى جَنْبِهِ، فَيُخْبِرُهُ بِمَا فَاتَهُ، فَيَقْتضِي، ثُمَّ يَدْخُلُ مَعَهُمْ، حَتَّى جَاءَ مُعَاذٌ يَوْمًا، فَدَخَلَ فِي الصَّلَاةِ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَهَذَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ قَطْعًا، لِأَنَّ أَبَا أُمَامَةَ، وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِنَّمَا أَسْلَمَا بِهَا.

قَوْلُهُ: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ. . . الْآيَةَ) كَذَا فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ، وَسَاقَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَأَبِي الْوَقْتِ الْآيَةَ إِلَى آخِرِهَا، وَانْتَهَتْ رِوَايَةُ الْأَصِيلِيِّ إِلَى قَوْلِهِ:(الْوُسْطَى) وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْمُرَادِ بِالْوُسْطَى وَبِالْقُنُوتِ فِي تَفْسِيرِ الْبَقَرَةِ، وَحَدِيثُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقُنُوتِ السُّكُوتُ.

قَوْلُهُ: (فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ)؛ أَيْ عَنِ الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ لَا مُطْلَقًا، فَإِنَّ الصَّلَاةَ لَيْسَ فِيهَا حَالُ سُكُوتٍ حَقِيقِةً. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَيَتَرَجَّحُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ حَتَّى الَّتِي لِلْغَايَةِ وَالْفَاءُ الَّتِي تُشْعِرُ بِتَعْلِيلِ مَا سَبَقَ عَلَيْهَا، لِمَا يَأْتِي بَعْدَهَا.

ص: 74

(تَنْبِيهٌ): زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ: وَنُهِينَا عَنِ الْكَلَامِ، وَلَمْ يَقَعْ فِي الْبُخَارِيِّ، وَذَكَرَهَا صَاحِبُ الْعُمْدَةِ، وَلَمْ يُنَبِّهْ أَحَدٌ مِنْ شُرَّاحِهَا عَلَيْهَا، وَاسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ لَيْسَ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى قَوْلِهِ: وَنُهِينَا عَنِ الْكَلَامِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى ضِدِّهِ دَلَالَةُ الْتِزَامٍ، وَمِنْ ثَمَّ وَقَعَ الْخِلَافُ، فَلَعَلَّهُ ذُكِرَ لِكَوْنِهِ أَصْرَحَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: هَذَا اللَّفْظُ أَحَدُ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى النَّسْخِ، وَهُوَ تَقَدُّمُ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَلَيْسَ كَقَوْلِ الرَّاوِي: هَذَا مَنْسُوخٌ، لِأَنَّهُ يَطْرُقُهُ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ عَنِ اجْتِهَادٍ، وَقِيلَ: لَيْسَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ نَسْخٌ، لِأَنَّ إِبَاحَةَ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ كَانَ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَالْحُكْمُ الْمُزِيلُ لَهَا لَيْسَ نَسْخًا. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الَّذِي يَقَعُ فِي الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا مَما يُمْنَعُ أَوْ يُبَاحُ إِذَا قَرَّرَهُ الشَّارِعُ كَانَ حُكْمًا شَرْعِيًّا، فَإِذَا وَرَدَ مَا يُخَالِفُهُ كَانَ نَاسِخًا، وَهُوَ كَذَلِكَ هُنَا. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَقَوْلُهُ: وَنُهِينَا عَنِ الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يُسَمَّى كَلَامًا، فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ حَمْلًا لِلَّفْظِ عَلَى عُمُومِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لِلْعَهْدِ الرَّاجِح إِلَى قَوْلِهِ: يُكَلِّمُ الرَّجُلُ مِنَّا صَاحِبَهُ بِحَاجَتِهِ، وَقَوْلِهِ: فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ؛ أَيْ عَمَّا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنْ ذَلِكَ.

(تَكْمِيلٌ): أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي الصَّلَاةِ - مِنْ عَالِمٍ بِالتَّحْرِيمِ عَامِدٍ لِغَيْرِ مَصْلَحَتِهَا، أَوْ إِنْقَاذِ مُسْلِمٍ - مُبْطِلٌ لَهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي السَّاهِي وَالْجَاهِلِ، فَلَا يُبْطِلُهَا الْقَلِيلُ مِنْهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَأَبْطَلَهَا الْحَنَفِيَّةُ مُطْلَقًا كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ فِي السَّهْوِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَشْيَاءَ أَيْضًا، كَمَنْ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ بِغَيْرِ قَصْدٍ أَوْ تَعَمَّدَ إِصْلَاحَ الصَّلَاةِ لِسَهْوٍ دَخَلَ عَلَى إِمَامِهِ، أَوْ لِإِنْقَاذِ مُسْلِمٍ لِئَلَّا يَقَعَ فِي مَهْلَكَةٍ، أَوْ فَتْحٍ عَلَى إِمَامِهِ، أَوْ سَبَّحَ لِمَنْ مَرَّ بِهِ، أَوْ رَدَّ السَّلَامَ، أَوْ أَجَابَ دَعْوَةَ أَحَدِ وَالِدَيْهِ، أَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْكَلَامِ، أَوْ تَقَرَّبَ بِقُرْبَةٍ كَأَعْتَقْتُ عَبْدِي لِلَّهِ، فَفِي جَمِيعِ ذَلِكَ خِلَافٌ مَحَلُّ بَسْطِهِ كُتُبُ الْفِقْهِ، وَسَتَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَى بَعْضِهِ حَيْثُ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: الْفَرْقُ بَيْنَ قَلِيلِ الْفِعْلِ لِلْعَامِدِ فَلَا يُبْطِلُ، وَبَيْنَ قَلِيلِ الْكَلَامِ أَنَّ الْفِعْلَ لَا تَخْلُو مِنْهُ الصَّلَاةُ غَالِبًا لِمَصْلَحَتِهَا، وَتَخْلُو مِنَ الْكَلَامِ الْأَجْنَبِيِّ غَالِبًا مُطَّرِدًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌3 - بَاب مَا يَجُوزُ مِنْ التَّسْبِيحِ وَالْحَمْدِ فِي الصَّلَاةِ لِلرِّجَالِ

1201 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَهْلِ رضي الله عنه، قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصْلِحُ بَيْنَ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفِ وَحَانَتْ الصَّلَاةُ، فَجَاءَ بِلَالٌ، أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنهما فَقَالَ: حُبِسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَتَؤُمُّ النَّاسَ، قَالَ: نَعَمْ إِنْ شِئْتُمْ، فَأَقَامَ بِلَالٌ الصَّلَاةَ، فَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فَصَلَّى، فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَمْشِي فِي الصُّفُوفِ يَشُقُّهَا شَقًّا حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ، فَأَخَذَ النَّاسُ بِالتَّصْفِيحِ، قَالَ سَهْلٌ: هَلْ تَدْرُونَ مَا التَّصْفِيحُ؟ هُوَ التَّصْفِيقُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه لَا يَلْتَفِتُ فِي صَلَاتِهِ، فَلَمَّا أَكْثَرُوا الْتَفَتَ فَإِذَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّفِّ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ مَكَانَكَ، فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى وَرَاءَهُ، وَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يَجُوزُ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالْحَمْدِ فِي الصَّلَاةِ) قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: أَرَادَ إِلْحَاقَ التَّسْبِيحِ بِالْحَمْدِ بِجَامِعِ الذِّكْرِ لِأَنَّ الَّذِي فِي الْحَدِيثِ الَّذِي سَاقَهُ ذِكْرُ التَّحْمِيدِ دُونَ التَّسْبِيحِ. قُلْتُ: بَلِ الْحَدِيثُ مُشْتَمِلٌ عَلَيْهِمَا، لَكِنَّهُ سَاقَهُ هُنَا مُخْتَصَرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ مَنْ دَخَلَ لِيَؤُمَّ النَّاسَ مِنْ أَبْوَابِ الْإِمَامَةِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ وَفِيهِ: فَرَفَعَ

ص: 75

أَبُو بَكْرٍ يَدَيْهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى. وَفِي آخِرِهِ: مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاته، فَلْيُسَبِّحْ. وَسَيَأْتِي فِي أَوَاخِرِ أَبْوَابِ السَّهْوِ عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، وَفِيهِ هَذَا.

قَوْلُهُ: (لِلرِّجَالِ): قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: قَيَّدَهُ بِالرِّجَالِ، لِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُ لَا يُشْرَعُ لِلنِّسَاءِ. وَقَدْ أَشْعَرَ بِذَلِكَ تَبْوِيبُهُ بَعْدُ، حَيْثُ قَالَ: بَابُ التَّصْفِيقِ لِلنِّسَاءِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ دَلَالَةَ الْعُمُومِ لَفْظِيَّةٌ وَضْعِيَّةٌ، وَدَلَالَةَ الْمَفْهُومِ مِنْ لَوَازِمِ اللَّفْظِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وَقَدْ قَالَ فِي الْحَدِيثِ: التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ. فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَسْبِيحَ إِلَّا لِلرِّجَالِ، وَلَا تَصْفِيقَ إِلَّا لِلنِّسَاءِ، وَكَأَنَّهُ قَدَّمَ الْمَفْهُومَ عَلَى الْعُمُومِ لِلْعَمَلِ بِالدَّلِيلَيْنِ، لِأَنَّ فِي إعْمَالِ الْعُمُومِ إِبْطَالًا لِلْمَفْهُومِ. وَلَا يُقَالُ: إِنَّ قَوْلَهُ: لِلرِّجَالِ مِنْ بَابِ اللَّقَبِ، لِأَنَّا نَقُولُ: بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الصِّفَةِ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الذُّكُورِ الْبَالِغِينَ. انْتَهَى.

وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ. وَفِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ مِمَّا تَقَدَّمَ بَعْضُهَا مَبْسُوطًا: جَوَازُ تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَأَنَّ الْمُبَادَرَةَ إِلَيْهَا أَوْلَى مِنَ انْتِظَارِ الْإِمَامِ الرَّاتِبِ، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي التَّقَدُّمُ عَلَى الْجَمَاعَةِ إِلَّا بِرِضًا مِنْهُمْ، يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ إِنْ شِئْتُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ أَفْضَلُ الْحَاضِرِينَ. وَأَنَّ الِالْتِفَاتَ فِي الصَّلَاةِ لَا يَقْطَعُهَا. وَأَنَّ مَنْ سَبَّحَ أَوْ حَمِدَ لِأَمْرٍ يَنُوبُهُ لَا يَقْطَعُ صَلَاتَهُ، وَلَوْ قَصَدَ بِذَلِكَ تَنْبِيهَ غَيْرِهِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ بِالْبُطْلَانِ. وَقَوْلُهُ فِيهِ: فَقَالَ سَهْلٌ أَيِ ابْنُ سَعْدٍ رَاوِي الْحَدِيثِ: هَلْ تَدْرُونَ مَا التَّصْفِيحُ؟ هُوَ التَّصْفِيقُ. وَهَذِهِ حُجَّةٌ لِمَنْ قَالَ: إِنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَبِهِ صَرَّحَ الْخَطَّابِيُّ، وَأَبُو عَلِيٍّ الْقَالِي، وَالْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَادَّعَى ابْنُ حَزْمٍ نَفْيَ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ، وَتُعُقِّبَ بِمَا حَكَاهُ عِيَاضٌ فِي الْإِكْمَالِ أَنَّهُ بِالْحَاءِ: الضَّرْبُ بِظَاهِرِ إِحْدَى الْيَدَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى، وَبِالْقَافِ: بِبَاطِنِهَا عَلَى بَاطِنِ الْأُخْرَى، وَقِيلَ: بِالْحَاءِ: الضَّرْبُ بِأُصْبُعَيْنِ لِلْإِنْذَارِ وَالتَّنْبِيهِ، وَبِالْقَافِ: بِجَمِيعِهَا لِلَّهْوِ وَاللَّعِبِ، وَأَغْرَبَ الدَّاوُدِيُّ، فَزَعَمَ أَنَّ الصَّحَابَةَ ضَرَبُوا بِأَكُفِّهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، قَالَ عِيَاضٌ: كَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، فَفِيهِ: فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ.

‌4 - بَاب مَنْ سَمَّى قَوْمًا أَوْ سَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِهِ مُوَاجَهَةً وَهُوَ لَا يَعْلَمُ

1202 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الصَّمَدِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا نَقُولُ التَّحِيَّةُ فِي الصَّلَاةِ وَنُسَمِّي وَيُسَلِّمُ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ، فَسَمِعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: قُولُوا التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَإِنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ فَقَدْ سَلَّمْتُمْ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ سَمَّى قَوْمًا أَوْ سَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ بَعْدُ عَلَى غَيْرِهِ: مُوَاجَهَةً، وَحَكَى ابْنُ رَشِيدٍ أَنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْحَمَوِيِّ إِسْقَاطَ الْهَاءِ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِضَافَةَ: مُوَاجَهَةً، قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِتَنْوِينِ: غَيْرِ، وَفَتْحِ الْجِيمِ مِنْ: مُوَاجَهَةً، وَبِالنَّصْبِ، فَيُوَافِقُ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: لَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ إِذَا سَلَّمَ عَلَى غَيْرِ مُوَاجَهَةٍ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مُوَاجَهه تَبْطُلُ، قَالَ: وَكَأَنَّ مَقْصُودَ الْبُخَارِيِّ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ أَنَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ، وَإِنَّمَا عَلَّمَهُمْ مَا يَسْتَقْبِلُونَ، لَكِنْ يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَسْتَوِي حَالُ الْجَاهِلِ قَبْلَ وُجُودِ الْحُكْمِ مَعَ حَالِهِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ

ص: 76

الَّذِينَ صَدَرَ مِنْهُمُ الْفِعْلُ كَانَ عنْ غَيْرِ عِلْمٍ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عِنْدَهُمْ شَرْعًا مُقَرَّرًا، فَوَرَدَ النَّسْخُ عَلَيْهِ، فَيَقَعُ الْفَرْقُ. انْتَهَى.

وَلَيْسَ فِي التَّرْجَمَةِ تَصْرِيحٌ بِجَوَازٍ وَلَا بُطْلَانٍ. وَكَأَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ لِاشْتِبَاهِ الْأَمْرِ فِيهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى فَوَائِدِ حَدِيثِ الْبَابِ فِي أَوَاخِرِ صِفَةِ الصَّلَاةِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذَا السِّيَاقِ: وَسَمَّى نَاسًا بِأَعْيَانِهِمْ، يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ فِي السِّيَاقِ الْمُتَقَدِّمِ: السَّلَامُ عَلَى جِبْرِيلَ، السَّلَامُ عَلَى مِيكَائِيلَ إِلَخْ. وَقَوْلُهُ: يُسَلِّمُ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ، ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

‌5 - بَاب التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ

1203 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ، وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ.

1204 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: التَّسْبِيحُ للرِّجَالِ وَالتَّصْفِيق لِلنِّسَاءِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ التَّصْفِيقِ لِلنِّسَاءِ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ قَبْلَ بَابٍ. وَسُفْيَانُ فِي الْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَفِي الثَّانِي هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَيَحْيَى شَيْخُ الْبُخَارِيِّ هُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ، وَكَأَنَّ مَنْعَ النِّسَاءِ مِنَ التَّسْبِيحِ، لِأَنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِخَفْضِ صَوْتِهَا فِي الصَّلَاةِ مُطْلَقًا لِمَا يُخْشَى مِنَ الِافْتِتَانِ. وَمُنِعَ الرِّجَالُ مِنَ التَّصْفِيقِ لِأَنَّهُ مِنْ شَأْنِ النِّسَاءِ، وَعَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ فِي قَوْلِهِ: التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ؛ أَيْ هُوَ مِنْ شَأْنِهِنَّ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ عَلَى جِهَةِ الذَّمِّ لَهُ، وَلَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ فِي الصَّلَاةِ لِرَجُلٍ وَلَا امْرَأَةٍ، وَتُعُقِّبَ بِرِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ فِي الْأَحْكَامِ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ: فَلْيُسَبِّحِ الرِّجَالُ وَلْيُصَفِّقِ النِّسَاءُ. فَهَذَا نَصٌّ يَدْفَعُ مَا تَأَوَّلَهُ أَهْلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْقَوْلُ بِمَشْرُوعِيَّةِ التَّصْفِيقِ لِلنِّسَاءِ هُوَ الصَّحِيحُ خَبَرًا وَنَظَرًا.

‌6 - بَاب مَنْ رَجَعَ الْقَهْقَرَى فِي صَلَاتِهِ أَوْ تَقَدَّمَ بِأَمْرٍ يَنْزِلُ بِهِ

رَوَاهُ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

1205 -

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ يُونُسُ: قَالَ الزُّهْرِيُّ:، أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ بَيْنَا هُمْ فِي الْفَجْرِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَأَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه يُصَلِّي بِهِمْ فَفَجأهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ كَشَفَ سِتْرَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ رضي الله عنها، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ صُفُوفٌ فَتَبَسَّمَ يَضْحَكُ فَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه عَلَى عَقِبَيْهِ، وَظَنَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الصَّلَاةِ وَهَمَّ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَفْتَتِنُوا فِي صَلَاتِهِمْ فَرَحًا بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ رَأَوْهُ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنْ أَتِمُّوا، ثُمَّ دَخَلَ الْحُجْرَةَ وَأَرْخَى السِّتْرَ وَتُوُفِّيَ ذَلِكَ الْيَوْمَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ رَجَعَ الْقَهْقَرَى فِي الصَّلَاةِ، أَوْ تَقَدَّمَ بِأَمْرٍ يَنْزِلُ بِهِ، رَوَاهُ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى حَدِيثِهِ الْمَاضِي قَرِيبًا فَفِيهِ: فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَيْهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ، ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَوْ تَقَدَّمَ، فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْحَدِيثِ أَيْضًا، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ عَلَى إِرَادَةِ الِائْتِمَامِ بِهِ، فَامْتَنَعَ

ص: 77

أَبُو بَكْرٍ مِنْ ذَلِكَ، فَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَرَجَعَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ مَوْقِفِ الْإِمَامِ إِلَى مَوْقِفِ الْمَأْمُومِ.

وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِحَدِيثِ سَهْلٍ مَا تَقَدَّمَ فِي الْجُمُعَةِ مِنْ صَلَاتِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ، وَنُزُولِهِ الْقَهْقَرَى حَتَّى سَجَدَ فِي أَصْلِ الْمِنْبَرِ، ثُمَّ تَقَدَّمَ حَتَّى عَادَ إِلَى مَقَامِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ فِي الصَّلَاةِ إِذَا كَانَ يَسِيرًا وَلَمْ يَحْصُلْ فِيهِ التَّوَالِي.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ) هُوَ الْمَرْوَزِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَيُونُسُ هُوَ ابْنُ يزَيْدَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ يُونُسُ، قَالَ الزُّهْرِيُّ)؛ أَيْ قَالَ: قَالَ يُونُسُ، وَهِيَ تُحْذَفُ خَطًّا فِي الِاصْطِلَاحِ لَا نُطْقًا.

قَوْلُهُ: (فَفَجَأَهُمْ) قَالَ ابْنُ التِّينِ: كَذَا وَقَعَ فِي الْأَصْلِ بِالْأَلِفِ، وَحَقُّهُ أَنْ يُكْتَبَ بِالْيَاءِ، لِأَنَّ عَيْنَهُ مَكْسُورَةٌ كَوَطِئَهُمْ. انْتَهَى. وَبَقِيَّةُ فَوَائِدِ الْمَتْنِ تَقَدَّمَتْ فِي بَابِ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ أَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ مِنْ أَبْوَابِ الْإِمَامَةِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌7 - بَاب إِذَا دَعَتْ الْأُمُّ وَلَدَهَا فِي الصَّلَاةِ

1206 -

قَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ، قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: نَادَتْ امْرَأَةٌ ابْنَهَا وَهُوَ فِي صَوْمَعَته قَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، قَالَ: اللَّهُمَّ أُمِّي وَصَلَاتِي، قَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، قَالَ: اللَّهُمَّ أُمِّي وَصَلَاتِي، قَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، قَالَ: اللَّهُمَّ أُمِّي وَصَلَاتِي، قَالَتْ: اللَّهُمَّ لَا يَمُوتُ جُرَيْجٌ حَتَّى يَنْظُرَ فِي وجهِ الْمَيَامِيسِ، وَكَانَتْ تَأْوِي إِلَى صَوْمَعَتِهِ رَاعِيَةٌ تَرْعَى الْغَنَمَ، فَوَلَدَتْ، فَقِيلَ لَهَا: مِمَّنْ هَذَا الْوَلَدُ؟ قَالَتْ: مِنْ جُرَيْجٍ نَزَلَ مِنْ صَوْمَعَتِهِ، قَالَ جُرَيْجٌ: أَيْنَ هَذِهِ الَّتِي تَزْعُمُ أَنَّ وَلَدَهَا لِي؟ قَالَ: يَا بَابُوسُ مَنْ أَبُوكَ؟ قَالَ: رَاعِي الْغَنَمِ.

[الحديث 1206 - أطرافه في: 2482، 3436، 3466]

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا دَعَتِ الْأُمُّ وَلَدَهَا فِي الصَّلَاةِ)؛ أَيْ هَلْ يَجِبُ إِجَابَتُهَا أَمْ لَا؟ وإِذَا وَجَبَتْ، هَلْ تَبْطُلُ الصَّلَاةُ أَوْ لَا؟ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ خِلَافٌ، وَلِذَلِكَ حَذَفَ الْمُصَنِّفُ جَوَابَ الشَّرْطِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّيْثُ) وَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ بْنِ عَلِيٍّ أَحَدِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، عَنِ اللَّيْثِ مُطَوَّلًا، وَجَعْفَرٌ هُوَ ابْنُ رَبِيعَةَ الْمِصْرِيُّ، وَجُرَيْجٌ بِجِيمَيْنِ مُصَغَّر.

وَقَوْلُهُ: (فِي وَجْهِ الْمَيَامِيسِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ: وُجُوهِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَالْمَيَامِيسُ جُمَعُ مُومِسَةٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَهِيَ الزَّانِيَةُ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: إِثْبَاتُ الْيَاءِ فِيهِ غَلَطٌ، وَالصَّوَابُ حَذْفُهَا، وَخَرَجَ عَلَى إِشْبَاعِ الْكَسْرَةِ، وَحَكَى غَيْرُهُ جَوَازَهُ، قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: سَبَبُ دُعَاءِ أُمِّ جُرَيْجٍ عَلَى وَلَدِهَا أَنَّ الْكَلَامَ فِي الصَّلَاةِ كَانَ فِي شَرْعِهِمْ مُبَاحًا، فَلَمَّا آثَرَ اسْتِمْرَارَهُ فِي صَلَاتِهِ، وَمُنَاجَاتَهِ عَلَى إِجَابَتِهَا دَعَتْ عَلَيْهِ لِتَأْخِيرِهِ حَقَّهَا. انْتَهَى.

وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ تَرْدِيدِهِ فِي قَوْلِهِ: أُمِّي وَصَلَاتِي أَنَّ الْكَلَامَ عِنْدَهُ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُجِبْهَا، وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَوْ كَانَ جُرَيْجٌ عَالِمًا، لَعَلِمَ أَنَّ إِجَابَتَهُ أُمَّهُ أَوْلَى مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ. وَيَزِيدُ هَذَا مَجْهُولٌ، وحَوْشَبٌ بِمُهْمَلَةٍ، ثُمَّ مُعْجَمَةٍ؛ وَزْنُ جَعْفَرٍ، وَوَهَمَ الدِّمْيَاطِيُّ، فَزَعَمَ أَنَّهُ ذُو ظُلَيْمٍ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ غَيْرُهُ، لِأَنَّ ذَا ظُلَيْمٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهَذَا وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِسَمَاعِهِ.

وَقَوْلُهُ فِيهِ: يَا بَابُوسُ بِمُوَحَّدَتَيْنِ بَيْنَهُمَا أَلِفٌ سَاكِنَةٌ، وَالثَّانِيَةُ مَضْمُومَةٌ، وَآخِرُهُ مُهْمَلَةٌ، قَالَ الْقَزَّازُ: هُوَ الصَّغِيرُ، وَقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: الرَّضِيعُ، وَهُوَ بِوَزْنِ جَاسُوسٍ. وَاخْتُلِفَ: هَلْ هُوَ عَرَبِيٌّ أَوْ مُعَرَّبٌ؟ وَأَغْرَبَ الدَّاوُدِيُّ الشَّارِحُ، فَقَالَ: هُوَ اسْمُ ذَلِكَ الْوَلَدِ بِعَيْنِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ:

ص: 78

حَنَّتْ قَلُوصِي إِلَى بَابُوسِهَا جَزَعًا.

وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: إِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ بِتَنْوِينِ السِّينِ تَكُونُ كُنْيَةً لَهُ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ: يَا أَبَا الشِّدَّةِ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي ذِكْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ.

‌8 - بَاب مَسْحِ الْحَصَا فِي الصَّلَاةِ

1207 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَيْقِيبٌ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي الرَّجُلِ يُسَوِّي التُّرَابَ حَيْثُ يَسْجُدُ قَالَ: إِنْ كُنْتَ فَاعِلًا فَوَاحِدَةً.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَسْحِ الْحَصَى فِي الصَّلَاةِ) قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: تَرْجَمَ بِالْحَصَى وَالْمَتْنِ الَّذِي أَوْرَدَهُ فِي التُّرَابِ، لِيُنَبِّهَ عَلَى إِلْحَاقِ الْحَصَى بِالتُّرَابِ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى التَّسْوِيَةِ مَرَّةً، وَأَشَارَ بِذَلِكَ أَيْضًا إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ بِلَفْظِ الْحَصَى كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ بِلَفْظِ: الْمَسْحُ فِي الْمَسْجِدِ يَعْنِي الْحَصَى. قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: لَمَّا كَانَ فِي الْحَدِيثِ: يَعْنِي، وَلَا يُدْرَى أَهِيَ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ أَوْ غَيْرِهِ عَدَلَ عَنْهَا الْبُخَارِيُّ إِلَى ذِكْرِ الرِّوَايَةِ الَّتِي فِيهَا التُّرَابُ.

وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: تَرْجَمَ بِالْحَصَى، لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ يُوجَدُ فِي التُّرَابِ، فَيَلْزَمُ مِنْ تَسْوِيَتِهِ مَسْحُ الْحَصَى. قُلْتُ: قَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هِشَامٍ بِلَفْظِ: فَإِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلًا، فَوَاحِدَةً تَسْوِيَةَ الْحَصَى. وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بِلَفْظِ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ مَسْحِ الْحَصَى فِي الصَّلَاةِ. فَلَعَلَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ إِلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، أَوْ إِلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى عَنْ مَسْحِ الْحَصَى، فَقَالَ: وَاحِدَةً أَوْ دَعْ. وَرَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ بِلَفْظِ: إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلَاةِ، فَإِنَّ الرَّحْمَةَ تُوَاجِهُهُ، فَلَا يَمْسَحِ الْحَصَى.

وَقَوْلُهُ: إِذَا قَامَ؛ الْمُرَادُ بِهِ الدُّخُولُ فِي الصَّلَاةِ، لِيُوَافِقَ حَدِيثَ الْبَابِ، فَلَا يَكُونُ مَنْهِيًّا عَنِ الْمَسْحِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِيهَا، بَلِ الْأَوْلَى أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ حَتَّى لَا يَشْتَغِلَ بَالُهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ بِهِ.

(تَنْبِيهٌ): التَّقْيِيدُ بِالْحَصَى وَبِالتُّرَابِ خَرَجَ لِلْغَالِبِ لِكَوْنِهِ كَانَ الْمَوْجُودَ فِي فَرْشِ الْمَسَاجِدِ إِذْ ذَاكَ، فَلَا يَدُلُّ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِهِ عَلَى نَفْيِهِ عَن غَيْرِهِ مِمَّا يُصَلَّى عَلَيْهِ مِنَ الرَّمْلِ وَالْقَذَى وَغَيْرِ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَيَحْيَى هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ. وَمُعَيْقِيبٌ بِالْمُهْمَلَةِ وَبِالْقَافِ وَآخِرُهُ مُوَحَّدَةٌ مُصَغَّرًا هُوَ ابْنُ أَبِي فَاطِمَةَ الدَّوْسِيُّ حَلِيفُ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، كَانَ مِنَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثُ الْوَاحِدُ.

قَوْلُهُ: (فِي الرَّجُلِ) أَيْ حُكْمُ الرَّجُلِ، وَذُكِرَ لِلْغَالِبِ وَإِلَّا فَالْحُكْمُ جَارٍ فِي جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ. وَحَكَى النَّوَوِيُّ اتِّفَاقَ الْعُلَمَاءِ عَلَى كَرَاهَةِ مَسْحِ الْحَصَى وَغَيْرِهِ فِي الصَّلَاةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَقَدْ حَكَى الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ، عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا، وَكَانَ يَفْعَلُهُ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ الْخَبَرُ، وَأَفْرَطَ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ، فَقَالَ: إِنَّهُ حَرَامٌ إِذَا زَادَ عَلَى وَاحِدَةٍ لِظَاهِرِ النَّهْيِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَا إِذَا تَوَالَى أَوْ لَا، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِوُجُوبِ الْخُشُوعِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ عِلَّةَ كَرَاهِيَتِهِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْخُشُوعِ، أَوْ لِئَلَّا يَكْثُرَ الْعَمَلُ فِي الصَّلَاةِ، لَكِنَّ حَدِيثَ أَبِي ذَرٍّ الْمُتَقَدِّمَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِ أَنْ لَا يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّحْمَةِ الَّتِي تُوَاجِهُهُ حَائِلًا. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ قَالَ: إِذَا سَجَدْتَ فَلَا تَمْسَحِ الْحَصَى، فَإِنَّ كُلَّ حَصَاةٍ تُحِبُّ أَنْ يُسْجَدَ عَلَيْهَا. فَهَذَا تَعْلِيلٌ آخَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (حَيْثُ يَسْجُدُ) أَيْ مَكَانَ السُّجُودِ، وَهَلْ يَتَنَاوَلُ الْعُضْوَ السَّاجِدَ؟ لَا يَبْعُدُ ذَلِكَ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي حُمْرَ النَّعَمِ، وَأَنِّي مَسَحْتُ مَكَانَ جَبِينِي مِنَ الْحَصَى. وَقَالَ

ص: 79

عِيَاضٌ: كَرِهَ السَّلَفُ مَسْحَ الْجَبْهَةِ فِي الصَّلَاةِ قَبْلَ الِانْصِرَافِ. قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ صِفَةِ الصَّلَاةِ حِكَايَةُ اسْتِدْلَالِ الْحُمَيْدِيِّ لِذَلِكَ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي رُؤْيَتِهِ الْمَاءَ وَالطِّينَ فِي جَبْهَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ أَنِ انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ.

قَوْلُهُ: (فَوَاحِدَةً) بِالنَّصْبِ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ؛ أَيْ فَامْسَحْ وَاحِدَةً، أَوْ عَلَى النَّعْتِ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى إِضْمَارِ الْخَبَرِ، أَيْ فَوَاحِدَةٌ تَكْفِي، أَوْ إِضْمَارِ الْمُبْتَدَأِ؛ أَيْ فَالْمَشْرُوعُ وَاحِدَةٌ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ: إِنْ كُنْتَ فَاعِلًا فَمَرَّةً وَاحِدَةً.

‌9 - بَاب بَسْطِ الثَّوْبِ فِي الصَّلَاةِ لِلسُّجُودِ

1208 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا بِشْرٌ، حَدَّثَنَا غَالِبٌ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُنَا أَنْ يُمَكِّنَ وَجْهَهُ مِنْ الْأَرْضِ بَسَطَ ثَوْبَهُ فَسَجَدَ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ بَسْطِ الثَّوْبِ فِي الصَّلَاةِ لِلسُّجُودِ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ مِنْ جُمْلَةِ الْعَمَلِ الْيَسِيرِ فِي الصَّلَاةِ أَيْضًا، وَهُوَ أَنْ يَتَعَمَّدَ إِلْقَاءَ الثَّوْبِ عَلَى الْأَرْضِ لِيَسْجُدَ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ، وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ وَتَفْرِقَةِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الثَّوْبِ الَّذِي هُوَ لَابِسُهُ أَوْ غَيْرُ لَابِسِهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا بِشْرٌ) هُوَ ابْنُ الْمُفَضَّلِ، وَغَالِبٌ هُوَ الْقَطَّانُ، كَمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ.

‌10 - بَاب مَا يَجُوزُ مِنْ الْعَمَلِ فِي الصَّلَاةِ

1209 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كُنْتُ أَمُدُّ رِجْلِي فِي قِبْلَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَلِّي، فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي، فَرَفَعْتُهَا، فَإِذَا قَامَ مَدَدْتُهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يَجُوزُ مِنَ الْعَمَلِ فِي الصَّلَاةِ) أَيْ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ، أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي نَوْمِهَا فِي قِبْلَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَغَمْزِهِ لَهَا إِذَا سَجَدَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابِ الصَّلَاةِ عَلَى الْفِرَاشِ فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ.

1210 -

حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ صَلَّى صَلَاةً قَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ عَرَضَ لِي فَشَدَّ عَلَيَّ لِيَقْطَعَ الصَّلَاةَ عَلَيَّ، فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ فَذَعَتُّهُ، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أُوثِقَهُ إِلَى سَارِيَةٍ حَتَّى تُصْبِحُوا فَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ سُلَيْمَانَ عليه السلام:{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} فَرَدَّهُ اللَّهُ خَاسِئا، ثُمَّ قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: فَذَعَتُّهُ بِالذَّالِ، أَيْ خَنَقْتُهُ. وَفَدَعَّتُّهُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ:{يَوْمَ يُدَعُّونَ} أَيْ يُدْفَعُونَ. وَالصَّوَابُ فَدَعَتُّهُ، إِلَّا أَنَّهُ كَذَا قَالَ بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ وَالتَّاءِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ) هُوَ ابْنُ غَيْلَانَ، وَشَبَابَةُ بِمُعْجَمَةٍ وَمُوَحَّدَتَيْنِ الْأُولَى خَفِيفَةٌ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ الشَّيْطَانَ عَرَضَ) تَقَدَّمَ فِي بَابِ رَبْطِ الْغَرِيمِ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ: إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ تَفَلَّتَ عَلَيَّ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّيْطَانِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ غَيْرُ إِبْلِيسَ كَبِيرِ الشَّيَاطِينِ.

قَوْلُهُ: (فَشَدَّ عَلَيَّ) بِالْمُعْجَمَةِ أَيْ حَمَلَ.

قَوْلُهُ: (لِيَقْطَعَ) فِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي بِحَذْفِ اللَّامِ.

قَوْلُهُ: (فَذَعَتُّهُ) يَأْتِي ضَبْطُهُ بَعْدُ.

قَوْلُهُ: (فَتَنْظُرُوا) فِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ،

ص: 80

وَالْمُسْتَمْلِي: أَوْ تَنْظُرُوا إِلَيْهِ بِالشَّكِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّتِهِ فِي أَوَّلِ بَدْءِ الْخَلْقِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ فَذَعَتُّهُ بِالذَّالِ) يَعْنِي الْمُعْجَمَةَ، وَتَخْفِيفِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ؛ أَيْ خَنَقْتُهُ، وَأَمَّا فَدَعَّتُّهُ بِالْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْعَيْنِ، فَمِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ} ؛ أَيْ يُدْفَعُونَ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ، إِلَّا أَنَّهُ - يَعْنِي شُعْبَةَ - كَذَا قَالَهُ بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ. انْتَهَى. وَهَذَا الْكَلَامُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَهِيَ فِي كِتَابِ: غَرِيبِ الْحَدِيثِ لِلنَّضْرِ، وَهُوَ فِي مَرْوِيَّاتِنَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُدَ الْمَصَاحِفِيِّ، عَنِ النَّضْرِ كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي تَعْلِيقِ التَّعْلِيقِ.

‌11 - بَاب إِذَا انْفَلَتَتْ الدَّابَّةُ فِي الصَّلَاةِ

وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنْ أُخِذَ ثَوْبُهُ يَتْبَعُ السَّارِقَ وَيَدَعُ الصَّلَاةَ

1211 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا الْأَزْرَقُ بْنُ قَيْسٍ قَالَ: كُنَّا بِالْأَهْوَازِ نُقَاتِلُ الْحَرُورِيَّةَ، فَبَيْنَا أَنَا عَلَى جُرُفِ نَهَرٍ إِذَا رَجُلٌ يُصَلِّي، وَإِذَا لِجَامُ دَابَّتِهِ بِيَدِهِ، فَجَعَلَتْ الدَّابَّةُ تُنَازِعُهُ، وَجَعَلَ يَتْبَعُهَا، قَالَ شُعْبَةُ: هُوَ أَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ، فَجَعَلَ رَجُلٌ مِنْ الْخَوَارِجِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ افْعَلْ بِهَذَا الشَّيْخِ. فَلَمَّا انْصَرَفَ الشَّيْخُ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ قَوْلَكُمْ، وَإِنِّي غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سِتَّ غَزَوَاتٍ أَوْ سَبْعَ غَزَوَاتٍ وَثَمَانِيا، وَشَهِدْتُ تَيْسِيرَهُ، وَإِنِّي إِنْ كُنْتُ أَنْ أُرَاجِعَ مَعَ دَابَّتِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَدَعَهَا تَرْجِعُ إِلَى مَأْلَفِهَا فَيَشُقُّ عَلَيَّ.

[الحديث 1211 - طرفه في: 6127]

1212 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: خَسَفَتْ الشَّمْسُ فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَ سُورَةً طَوِيلَةً، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ اسْتَفْتَحَ بِسُورَةٍ أُخْرَى، ثُمَّ رَكَعَ حَتَّى قَضَاهَا وَسَجَدَ، ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ فِي الثَّانِيَةِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَصَلُّوا حَتَّى يُفْرَجَ عَنْكُمْ، لَقَدْ رَأَيْتُ فِي مَقَامِي هَذَا كُلَّ شَيْءٍ وُعِدْتُهُ، حَتَّى لَقَدْ رَأَيْتُني أُرِيدُ أَنْ آخُذَ قِطْفًا مِنْ الْجَنَّةِ حِينَ رَأَيْتُمُونِي جَعَلْتُ أَتَقَدَّمُ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ جَهَنَّمَ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ، وَرَأَيْتُ فِيهَا عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ، وَهُوَ الَّذِي سَيَّبَ السَّوَائِبَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا انْفَلَتَتِ الدَّابَّةُ فِي الصَّلَاةِ) أَيْ مَاذَا يَصْنَعُ؟

قَوْلُهُ: (وَقَالَ قَتَادَةُ إِلَخْ) وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْهُ بِمَعْنَاهُ، وَزَادَ: فَيَرَى صَبِيًّا عَلَى بِئْرٍ فَيَتَخَوَّفُ أَنْ يَسْقُطَ فِيهَا، قَالَ: يَنْصَرِفُ لَهُ.

قَوْلُهُ: (كُنَّا بِالْأَهْوَازِ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْهَاءِ؛ هِيَ بَلْدَةٌ مَعْرُوفَةٌ بَيْنَ الْبَصْرَةِ وَفَارِسَ، فُتِحَتْ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ، قَالَ فِي الْمُحْكَمِ: لَيْسَ لَهُ وَاحِدٌ مِنْ لَفْظِهِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْبَكْرِيُّ: هِيَ بَلَدٌ يَجْمَعُهَا سَبْعُ كُوَرٍ فَذَكَرَهَا. قَالَ ابْنُ خُرْدَاذْبُهْ: هِيَ بِلَادٌ وَاسِعَةٌ مُتَّصِلَةٌ بِالْجَبَلِ وَأَصْبَهَانَ.

قَوْلُهُ: (الْحَرُورِيَّةَ) بِمُهْمَلَاتٍ؛ أَيِ الْخَوَارِجَ، وَكَانَ الَّذِي يُقَاتِلُهُمْ إِذْ ذَاكَ الْمُهَلَّبُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ كَمَا فِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ مَرْزُوقٍ، عَنْ شُعْبَةَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ قَدَامَةَ الْجَوْهَرِيُّ فِي كِتَابِهِ: أَخْبَارُ الْخَوَارِجِ،

ص: 81

أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّينَ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَكَانَ الْخَوَارِجُ قَدْ حَاصَرُوا أَهْلَ الْبَصْرَةِ مَعَ نَافِعِ بْنِ الْأَزْرَقِ حَتَّى قُتِلَ وَقُتِلَ مِنْ أُمَرَاءِ الْبَصْرَةِ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنْ وَلَّى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، الْحَارِثَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيَّ عَلَى الْبَصْرَةِ، وَوَلَّى الْمُهَلَّبَ بْنَ أَبِي صُفْرَةَ عَلَى قِتَالِ الْخَوَارِجِ، وَكَذَا ذَكَرَ الْمُبَرِّدُ فِي الْكَامِلِ نَحْوَهُ. وَهُوَ يُعَكِّرُ عَلَى مَنْ أَرَّخَ وَفَاةَ أَبِي بَرْزَةَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ أَوْ قَبْلَهَا.

قَوْلُهُ: (عَلَى جُرُفِ نَهْرٍ) هُوَ بِضَمِّ الْجِيمِ وَالرَّاءِ بَعْدَهَا فَاءٌ، وَقَدْ تَسْكُنُ الرَّاءُ، وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي أَكَلَهُ السَّيْلُ. وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ؛ أَيْ جَانِبِهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ الْأَزْرَقِ فِي الْأَدَبِ: كُنَّا عَلَى شَاطِئِ نَهْرٍ قَدْ نَضَبَ عَنْهُ الْمَاءُ؛ أَيْ زَالَ، وَهُوَ يُقَوِّي رِوَايَةَ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ مَهْدِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنِ الْأَزْرَقِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قُدَامَةَ: كُنْتُ فِي ظِلِّ قَصْرِ مِهْرَانَ بِالْأَهْوَازِ عَلَى شَاطِئِ دُجَيْلٍ. وَعُرِفَ بِهَذَا تَسْمِيَةُ النَّهْرِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ بِالْجِيمِ مُصَغَّر.

قَوْلُهُ: (إِذَا رَجُلٌ) فِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ: إِذْ جَاءَ رَجُلٌ.

قَوْلُهُ: (قَالَ شُعْبَةُ هُوَ أَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ) أَيِ الرَّجُلُ الْمُصَلِّي، وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْأَزْرَقَ لَمْ يُسَمِّهِ لِشُعْبَةَ، وَلَكِنْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ شُعْبَةَ، فَقَالَ فِي آخِرِهِ: فَإِذَا هُوَ أَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ. وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ مَرْزُوقٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ:. فَجَاءَ أَبُو بَرْزَةَ. وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ فِي الْأَدَبِ: فَجَاءَ أَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ عَلَى فَرَسٍ، فَصَلَّى وَخَلَّاهَا، فَانْطَلَقَتْ فَاتَّبَعَهَا. وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْأَزْرَقِ بْنِ قَيْسٍ: إِنَّ أَبَا بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيَّ مَشَى إِلَى دَابَّتِهِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، الْحَدِيثَ. وَبَيَّنَ مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ فِي رِوَايَتِهِ أَنَّ تِلْكَ الصَّلَاةَ كَانَتْ صَلَاةَ الْعَصْرِ، وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ مَرْزُوقٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فَمَضَتِ الدَّابَّةُ فِي قِبْلَتِهِ، فَانْطَلَقَ فَأَخَذَهَا، ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى.

قَوْلُهُ: (فَجَعَلَ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ افْعَلْ بِهَذَا الشَّيْخِ) فِي رِوَايَةِ الطَّيَالِسِيِّ: فَإِذَا بِشَيْخٍ يُصَلِّي قَدْ عَمَدَ إِلَى عِنَانِ دَابَّتِهِ، فَجَعَلَهُ فِي يَدِهِ، فَنَكَصَتِ الدَّابَّةُ، فَنَكَصَ مَعَهَا، وَمَعَنَا رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ فَجَعَلَ يَسُبُّهُ. وَفِي رِوَايَةِ مَهْدِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: أَلَا تَرَى إِلَى هَذَا الْحِمَارِ، وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ: فَقَالَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ، تَرَكَ صَلَاتَهُ مِنْ أَجْلِ فَرَسٍ.

قَوْلُهُ: (أَوْ ثَمَانِيًا) كَذَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ: أَوْ ثَمَانِيَ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَلَا تَنْوِينٍ، وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ: الْأَصْلُ أَوْ ثَمَانِيَ غَزَوَاتٍ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ، وَأَبْقَى الْمُضَافَ إِلَيْهِ عَلَى حَالِهِ، وَقَدْ رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ مَرْزُوقٍ بِلَفْظِ: سَبْعَ غَزَوَاتٍ بِغَيْرِ شَكٍّ.

قَوْلُهُ: (وَشَهِدْتُ تَيْسِيرَهُ) كَذَا فِي جَمِيعِ الْأُصُولِ وَفِي جَمِيعِ الطُّرُقِ: مِنَ التَّيْسِيرِ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ أَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَهُ: وَشَهِدْتُ تُسْتَرَ بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ، وَقَالَ: مَعْنَى شَهِدْتُ تُسْتَرَ؛ أَيْ فَتْحَهَا، وَكَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ. انْتَهَى. وَلَمْ أَرَ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأُصُولِ، وَمُقْتَضَاهُ، أَنْ لَا يَبْقَى فِي الْقِصَّةِ شَائِبَةُ رَفْعٍ، بِخِلَافِ الرِّوَايَةِ الْمَحْفُوظَةِ، فَإِنَّ فِيهَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ شَأْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَجْوِيزُ مِثْلِهِ، وَزَادَ عَمْرُو بْنُ مَرْزُوقٍ فِي آخِرِهِ: قَالَ: فَقُلْتُ لِلرَّجُلِ: مَا أَرَى اللَّهَ إِلَّا مُخْزِيكَ، شَتَمْتَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَفِي رِوَايَةِ مَهْدِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ: فَقُلْتُ: اسْكُتْ، فَعَلَ اللَّهُ بِكَ، هَلْ تَدْرِي مَنْ هَذَا؟ هُوَ أَبُو بَرْزَةَ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَلَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنَ الطَّرْقِ عَلَى تَسْمِيَةِ الرَّجُلِ الْمَذْكُورِ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ جَوَازُ حِكَايَةِ الرَّجُلِ مَنَاقِبَهُ إِذَا احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ فِي سِيَاقِ الْفَخْرِ، وَأَشَارَ أَبُو بَرْزَةَ بِقَوْلِهِ: وَرَأَيْتُ تَيْسِيرَهُ. إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ شَدَّدَ عَلَيْهِ فِي أَنْ يَتْرُكَ دَابَّتَهُ تَذْهَبُ، وَلَا يَقْطَعُ صَلَاتَهُ، وَفِيهِ حُجَّةٌ لِلْفُقَهَاءِ فِي قَوْلِهِمْ: إنَّ كُلَّ شَيْءٍ يُخْشَى إِتْلَافُهُ مِنْ مَتَاعٍ وَغَيْرِهِ يَجُوزُ قَطْعُ الصَّلَاةِ لِأَجْلِهِ.

وَقَوْلُهُ: مَأْلَفِهَا يَعْنِي الْمَوْضِعَ الَّذِي أَلِفَتْهُ وَاعْتَادَتْهُ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى غَالِبِ أَمْرِهَا، وَمِنَ الْجَائِزِ أَنْ لَا تَرْجِعَ إِلَى مَأْلَفِهَا، بَلْ تَتَوَجَّهُ إِلَى حَيْثُ لَا يَدْرِي بِمَكَانِهَا، فَيَكُونُ فِيهِ تَضْيِيعُ الْمَالِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.

(تَنْبِيهٌ): ظَاهِرُ سِيَاقِ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ أَبَا

ص: 82

بَرْزَةَ لَمْ يَقْطَعْ صَلَاتَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ مَرْزُوقٍ: فَأَخَذَهَا، ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى. فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ قَطَعَهَا مَا بَالَى أَنْ يَرْجِعَ مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ، وَفِي رُجُوعِهِ الْقَهْقَرَى مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ مَشْيَهُ إِلَى قَصْدِهَا مَا كَانَ كَثِيرًا، وَهُوَ مُطَابِقٌ لِثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَأَخَّرَ فِي صَلَاتِهِ وَتَقَدَّمَ وَلَمْ يَقْطَعْهَا، فَهُوَ عَمَلٌ يَسِيرٌ، وَمَشْيٌ قَلِيلٌ، فَلَيْسَ فِيهِ اسْتِدْبَارُ الْقِبْلَةِ فَلَا يَضُرُّ. وَفِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ سُئِلَ الْحَسَنُ عَنْ رَجُلٍ صَلَّى، فَأَشْفَقَ أَنْ تَذْهَبَ دَابَّتُهُ، قَالَ: يَنْصَرِفُ. قِيلَ لَهُ أَفَيُتِمُّ؟ قَالَ: إِذَا وَلَّى ظَهْرَهُ الْقِبْلَةَ اسْتَأْنَفَ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَشْيَ الْكَثِيرَ فِي الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ يُبْطِلُهَا، فَيُحْمَلُ حَدِيثُ أَبِي بَرْزَةَ عَلَى الْقَلِيلِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَنَّ الصَّلَاةَ الْمَذْكُورَةَ كَانَتِ الْعَصْرَ.

قَوْلُهُ: (وَإِنِّي إِنْ كُنْتُ أَنْ أَرْجِعَ مَعَ دَابَّتِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَدَعَهَا). قَالَ السُّهَيْلِيُّ: إِنِّي وَمَا بَعْدَهَا: اسْمُ مُبْتَدَأٍ، وَأَنْ أَرْجِعَ: اسْمُ مُبْدَلٍ مِنَ الِاسْمِ الْأَوَّلِ، وَأَحَبُّ: خَبَرٌ عَنِ الثَّانِي، وَخَبَرُ كَانَ مَحْذُوفٌ، أَيْ: إِنِّي إِنْ كُنْتُ رَاجِعًا أَحَبُّ إِلَيَّ. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَنْ كُنْتُ؛ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَحُذِفَتِ اللَّامُ، وَهِيَ مَعَ كُنْتُ بِتَقْدِيرِ كَوْنِي، وَفِي مَوْضِعِ الْبَدَلِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي: إِنِّي، وَأَنَّ الثَّانِيَةَ بِالْفَتْحِ أَيْضًا مَصْدَرِيَّةٌ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ: فَقَالَ: إِنَّ مَنْزِلِي مُتَرَاخٍ - أَيْ مُتَبَاعِدٌ - فَلَوْ صَلَّيْتُ وَتَرَكْتُهُ - أَيِ الْفَرَسَ - لَمْ آتِ أَهْلِي إِلَى اللَّيْلِ؛ أَيْ لِبُعْدِ الْمَكَانِ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَيُونُسُ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْكُسُوفِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ عُقِيلٍ وَغَيْرِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ مُسْتَوْفًى. وَقَوْلُهُ فَلَمَّا قَضَى؛ أَيْ فَرَغَ، وَلَمْ يُرِدِ الْقَضَاءَ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْأَدَاءِ.

قَوْلُهُ: (لَقَدْ رَأَيْتُ فِي مَقَامِي هَذَا كُلَّ شَيْءٍ وُعِدْتُهُ). فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: وُعِدْتُمْ. وَلَهُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ عُرِضَ عَلَيَّ كُلُّ شَيْءٍ تُولِجُونَهُ.

قَوْلُهُ: (لَقَدْ رَأَيْتُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَلِلْحَمَوِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي لَقَدْ رَأَيْتُهُ وَلِمُسْلِمٍ: حَتَّى لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَهُوَ أَوْجَهُ.

قَوْلُهُ: (أُرِيدُ أَنْ آخُذَ قِطَفًا) فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: حَتَّى تَنَاوَلْتُ مِنْهَا قِطَفًا فَقَصُرَتْ يَدِي عَنْهُ. وَالْقِطَفُ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ. وَذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ أَنَّ كَثِيرًا يَرْوُونَهُ بِالْفَتْحِ، وَالْكَسْرُ هُوَ الصَّوَابُ.

قَوْلُهُ: (قِطَفًا مِنَ الْجَنَّةِ) يَعْنِي: عُنْقُودَ عِنَبٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْكُسُوفِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

قَوْلُهُ: (حِينَ رَأَيْتُمُونِي جَعَلْتُ أَتَقَدَّمُ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: قَالَ فِي جَهَنَّمَ حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ، لِأَنَّ التَّقَدُّمَ كَادَ أَنْ يَقَعَ بِخِلَافِ التَّأَخُّرِ، فَإِنَّهُ قَدْ وَقَعَ، كَذَا قَالَ. وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِوُقُوعِ التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ جَمِيعًا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَلَفْظُهُ: لَقَدْ جِيءَ بِالنَّارِ، وَذَلِكُمْ حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ مَخَافَةَ أَنْ يُصِيبَنِي مِنْ لَفْحِهَا. وَفِيهِ: ثُمَّ جِيءَ بِالْجَنَّةِ، وَذَلِكُمْ حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَقَدَّمْتُ حَتَّى قُمْتُ فِي مَقَامِي. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي أَبْوَابِ الْكُسُوفِ.

قَوْلُهُ: (وَرَأَيْتُ فِيهَا عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ) بِاللَّامِ وَالْمُهْمَلَةِ مُصَغَّر، وَسَيَأْتِي شَرْحُ حَالِهِ فِي أَخْبَارِ الْجَاهِلِيَّةِ.

قَوْلُهُ: (وَهُوَ الَّذِي سَيَّبَ السَّوَائِبَ) جَمْعُ سَائِبَةٍ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَشْيَ الْقَلِيلَ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَكَذَا الْعَمَلُ الْيَسِيرُ، وَأَنَّ النَّارَ وَالْجَنَّةَ مَخْلُوقَتَانِ مَوْجُودَتَانِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ فَوَائِدِهِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ مُسْتَقْصَاةً فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ.

وَوَجْهُ تَعَلُّقِ الْحَدِيثِ بِالتَّرْجَمَةِ ظَاهِرٌ مِنْ جِهَةِ جَوَازِ التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ الْيَسِيرِ، لِأَنَّ الَّذِي تَنْفَلِتُ دَابَّتُهُ يَحْتَاجُ فِي حَالِ إِمْسَاكِهَا إِلَى التَّقَدُّمِ أَوِ التَّأَخُّرِ كَمَا وَقَعَ لِأَبِي بَرْزَةَ، وَقَدْ أَشَرْتُ إِلَى ذَلِكَ فِي آخِرِ حَدِيثِهِ. وَأَغْرَبَ الْكِرْمَانِيُّ، فَقَالَ: وَجْهُ تَعَلُّقِهِ بِهَا أَنَّ فِيهِ مَذَمَّةَ تَسْيِيبِ الدَّوَابِّ مُطْلَقًا سَوَاءً كَانَ فِي الصَّلَاةِ أَمْ لَا.

‌12 - بَاب مَا يَجُوزُ مِنْ الْبُصَاقِ وَالنَّفْخِ فِي الصَّلَاةِ

وَيُذْكَرُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: نَفَخَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي سُجُودِهِ فِي كُسُوفٍ

ص: 83

1213 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ، فَتَغَيَّظَ عَلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قِبَلَ أَحَدِكُمْ، فَإِذَا كَانَ فِي صَلَاتِهِ فَلَا يَبْزُقَنَّ - أَوْ قَالَ: لَا يَتَنَخَّمَنَّ - ثُمَّ نَزَلَ فَحَتَّهَا بِيَدِهِ.

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: إِذَا بَزَقَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْزُقْ عَلَى يَسَارِهِ.

1214 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ رضي الله عنه. عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ فَلَا يَبْزُقَنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَا عَنْ يَمِينِهِ وَلَكِنْ عَنْ شِمَالِهِ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يَجُوزُ مِنَ الْبُصَاقِ وَالنَّفْخِ فِي الصَّلَاةِ) وَجْهُ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ رُبَّمَا ظَهَرَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا حَرْفَانِ، وَهُمَا أَقَلُّ مَا يَتَأَلَّفُ مِنْهُ الْكَلَامُ، وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إِلَى أَنَّ بَعْضَ ذَلِكَ يَجُوزُ وَبَعْضُهُ لَا يَجُوزُ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ يَرَى التَّفْرِقَةَ بَيْنَ مَا إِذَا حَصَلَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا كَلَامٌ مَفْهُومٌ أَمْ لَا، أَوِ الْفَرْقُ مَا إِذَا كَانَ حُصُولُ ذَلِكَ مُحَقَّقًا فَفِعْلُهُ يَضُرُّ وَإِلَّا فَلَا.

قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) أَيِ ابْنِ الْعَاصِ (نَفَخَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي سُجُودِهِ فِي كُسُوفٍ) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالطَّبَرِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ وَقُمْنَا مَعَهُ. . الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. وَفِيهِ؛ وَجَعَلَ يَنْفُخُ فِي الْأَرْضِ وَيَبْكِي وَهُوَ سَاجِدٌ. وَذَلِكَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ، لِأَنَّ عَطَاءَ بْنَ السَّائِبِ مُخْتَلَفٌ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ، وَقَدِ اخْتَلَطَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، لَكِنْ أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْهُ، وَهُوَ مِمَّنْ سَمِعَ مِنْهُ قَبْلَ اخْتِلَاطِهِ، وَأَبُوهُ وَثَّقَهُ الْعِجْلِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، ثُمَّ أَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ فِي الْبَابِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ، وَحَدِيثَ أَنَسٍ فِي النَّهْيِ عَنِ الْبُزَاقِ فِي الْقِبْلَةِ، فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، فَقَوْلُهُ فِيهِ: إِنَّ اللَّهَ قِبَلَ أَحَدِكُمْ. بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ؛ أَيْ مُوَاجِهُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ حَكِّ الْبُزَاقِ بِالْيَدِ مِنَ الْمَسْجِدِ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ مَعَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَزَادَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: فَتَغَيَّظَ عَلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ. فَفِيهِ جَوَازُ مُعَاتَبَةِ الْمَجْمُوعِ عَلَى الْأَمْرِ الَّذِي يُنْكَرُ، وَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ صَدَرَ مِنْ بَعْضِهِمْ لِأَجْلِ التَّحْذِيرِ مِنْ مُعَاوَدَةِ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (فَلَا يَبْزُقَنَّ، أَوْ قَالَ: لَا يَتَنَخَّمَنَّ). فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: لَا يَبْزُقَنَّ أَحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ.

قَوْلُهُ فِيهِ: (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: إِذَا بَزَقَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْزُقْ عَلَى يَسَارِهِ). فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: عَنْ يَسَارِهِ. هَكَذَا ذَكَرَهُ مَوْقُوفًا، وَلَمْ تَتَقَدَّمْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، لَكِنْ وَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي إِسْرَائِيلَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ بِلَفْظِ: لَا يَبْزُقَنَّ أَحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَكِنْ لِيَبْزُقْ خَلْفَهُ، أَوْ عَنْ شِمَالِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ. فَسَاقَهُ كُلَّهُ مَعْطُوفًا بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، وَقَدْ بَيَّنَتْ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ أَنَّ الْمَرْفُوعَ مِنْهُ انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ: فَلَا يَبْزُقَنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالْبَاقِي مَوْقُوفٌ. وَقَدِ اقْتَصَرَ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُمَا عَلَى الْمَرْفُوعِ مِنْهُ مَعَ أَنَّ هَذَا الْمَوْقُوفَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَدْ ثَبَتَ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا.

وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى فَوَائِدِ الْحَدِيثِ فِي الْبَابِ الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ قَبْلُ، وَفِيمَا بَعْدَهُ، قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ كَرَاهَةُ النَّفْخِ فِي الصَّلَاةِ، وَلَا يَقْطَعُهَا كَمَا يَقْطَعُهَا الْكَلَامُ، وهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَأَشْهَبَ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ. وَفِي الْمُدَوَّنَةِ: النَّفْخُ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ.

ص: 84

وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ: إِنْ كَانَ يُسْمَعُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ، وَإِلَّا فَلَا، قَالَ: وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، وَلَيْسَ فِي النَّفْخِ مِنَ النُّطْقِ بِالْهَمْزَةِ وَالْفَاءِ أَكْثَرُ مِمَّا فِي الْبُصَاقِ مِنَ النُّطْقِ بِالتَّاءِ وَالْفَاءِ. قَالَ: وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ الْبُصَاقِ فِي الصَّلَاةِ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ النَّفْخِ فِيهَا، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَلِذَلِكَ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ مَعَهُ فِي التَّرْجَمَةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ الشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ، وَالْمُصَحَّحُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ إِنْ ظَهَرَ مِنَ النَّفْخِ، أَوِ التَّنَخُّمِ، أَوِ الْبُكَاءِ، أَوِ الْأَنِينِ، أَوِ التَّأَوُّهِ، أَوِ التَّنَفُّسِ، أَوِ الضَّحِكِ، أَوِ التَّنَحْنُحِ حَرْفَانِ بَطَلَتِ الصَّلَاةُ، وَإِلَّا فَلَا، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْحَرْفَيْنِ يَتَأَلَّفُ مِنْهُمَا الْكَلَامُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ حَرْفَيْنِ كَلَامًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَالْإِبْطَالُ بِهِ لَا يَكُونُ بِالنَّصِّ، بَلْ بِالْقِيَاسِ، فَلْيُرَاعَ شَرْطُهُ فِي مُسَاوَاةِ الْفَرْعِ لِلْأَصْلِ، قَالَ: وَالْأَقْرَبُ أَنْ يُنْظُرَ إِلَى مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ وَالْخِلَافِ، حَيْثُ لَا يُسَمَّى الْمَلْفُوظُ بِهِ كَلَامًا، فَمَا أُجْمِعَ عَلَى إِلْحَاقِهِ بِالْكَلَامِ أُلْحِقَ بِهِ، وَمَا لَا فَلَا.

قَالَ: وَمِنْ ضَعِيفِ التَّعْلِيلِ قَوْلُهُمْ: إِبْطَالُ الصَّلَاةِ بِالنَّفْخِ بِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْكَلَامَ، فَإِنَّهُ مَرْدُودٌ لِثُبُوتِ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَفَخَ فِي الْكُسُوفِ. انْتَهَى.

وَأُجِيبَ بِأَنَّ نَفْخَهُ صلى الله عليه وسلم مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ شَيْءٌ مِنَ الْحُرُوفِ، وَرُدَّ بِمَا ثَبَتَ فِي أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَإِنَّ فِيهِ: ثُمَّ نَفَخَ فِي آخِرِ سُجُودِهِ، فَقَالَ: أُفْ أُفْ. فَصَرَّحَ بِظُهُورِ الْحَرْفَيْنِ. وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَعُرِضَتْ عَلَيَّ النَّارُ، فَجَعَلْتُ أَنْفُخُ خَشْيَةَ أَنْ يَغْشَاكُمْ حَرُّهَا. وَالنَّفْخُ لِهَذَا الْغَرَضِ لَا يَقَعُ إِلَّا بِالْقَصْدِ إِلَيْهِ، فَانْتَفَى قَوْلُ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْغَلَبَةِ، وَالزِّيَادَةُ الْمَذْكُورَةُ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، وَقَدْ سُمِعَ مِنْهُ قَبْلَ الِاخْتِلَاطِ فِي قَوْلِ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالطَّحَاوِيِّ وَغَيْرِهِمْ. وَأَجَابَ الْخَطَّابِيُّ بأَنَّ أُفْ لَا تَكُونُ كَلَامًا حَتَّى يُشَدَّدَ الْفَاءُ، قَالَ: وَالنَّافِخُ فِي نَفْخِةٍ لَا يُخْرِجُ الْفَاءَ صَادِقَةً مِنْ مَخْرَجِهَا، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ بِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْحَرْفَيْنِ كَلَامٌ مُبْطِلٌ، أَفْهَمَا أَوْ لَمْ يُفْهِمَا، وَأَشَارَ الْبَيْهَقِيُّ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَرُدَّ بِأَنَّ الْخَصَائِصَ لَا تَثْبُتُ إِلَّا بِدَلِيلٍ.

(تَنْبِيهَانِ): (الْأَوَّلُ): نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الضَّحِكَ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِحَرْفٍ وَلَا حَرْفَيْنِ، وَكَأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الضَّحِكِ وَالْبُكَاءِ أَنَّ الضَّحِكَ يَهْتِكُ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ الْبُكَاءِ وَنَحْوِهِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ: إِنْ كَانَ الْبُكَاءُ مِنْ أَجْلِ الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ مُطْلَقًا. (الثَّانِي) وَرَدَ فِي كَرَاهَةِ النَّفْخِ فِي الصَّلَاةِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: رَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم غُلَامًا لَنَا - يُقَالُ لَهُ: أَفْلَحُ - إِذَا سَجَدَ نَفَخَ، فَقَالَ: يَا أَفْلَحُ، تَرِّبْ وَجْهَكَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: ضَعِيفُ الْإِسْنَادِ. قُلْتُ: وَلَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى إِبْطَالِ الصَّلَاةِ بِالنَّفْخِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ، وإِنَّمَا يُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ: تَرِّبْ وَجْهَكَ؛ اسْتِحْبَابُ السُّجُودِ عَلَى الْأَرْضِ، فَهُوَ نَحْوُ النَّهْيِ عَنْ مَسْحِ الْحَصَى.

وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْأَوْسَطِ لِلطَّبَرَانِيِّ وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ وَعَنْ أَنَسٍ، وَبُرَيْدَةَ عِنْدَ الْبَزَّارِ، وَأَسَانِيدُ الْجَمِيعِ ضَعِيفَةٌ جِدًّا، وَثَبَتَ كَرَاهَةُ النَّفْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالرُّخْصَةُ فِيهِ عَنْ قُدَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ.

‌13 - بَاب مَنْ صَفَّقَ جَاهِلًا مِنْ الرِّجَالِ فِي صَلَاتِهِ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ

فِيهِ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ صَفَّقَ جَاهِلًا مِنَ الرِّجَالِ فِي صَلَاتِهِ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ، فِيهِ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى حَدِيثِهِ الْآتِي بَعْدَ بَابَيْنِ، لَكِنَّهُ بِلَفْظِ: مَا لَكُمْ حِينَ نَابَكُمْ شَيْءٌ فِي الصَّلَاةِ أَخَذْتُمْ بِالتَّصْفِيحِ. وَسَيَأْتِي فِي آخِرِ بَابٍ

ص: 85

مِنْ أَبْوَابِ السَّهْوِ، بِلَفْظِ: التَّصْفِيقِ، وَمُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ.

‌14 - بَاب إِذَا قِيلَ لِلْمُصَلِّي تَقَدَّمْ أَوْ انْتَظِرْ فَانْتَظَرَ فَلَا بَأْسَ

1215 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّاسُ يُصَلُّونَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ عَاقِدُو أُزْرِهِمْ مِنْ الصِّغَرِ عَلَى رِقَابِهِمْ. فَقِيلَ لِلنِّسَاءِ: لَا تَرْفَعْنَ رُءُوسَكُنَّ حَتَّى يَسْتَوِيَ الرِّجَالُ جُلُوسًا.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا قِيلَ لِلْمُصَلِّي: تَقَدَّمْ أَوِ انْتَظِرْ فَانْتَظَرَ فَلَا بَأْسَ) قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: كَأَنَّهُ ظَنَّ الْمُخَاطَبَةَ لِلنِّسَاءِ وَقَعَتْ بِذَلِكَ وَهُنَّ فِي الصَّلَاةِ، وَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ، بَلْ هُوَ شَيْءٌ قِيلَ لَهُنَّ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلْنَ فِي الصَّلَاةِ. انْتَهَى. وَالْجَوَابُ عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِكَوْنِ ذَلِكَ قِيلَ لَهُنَّ وَهُنَّ دَاخِلَ الصَّلَاةِ، بَلْ مَقْصُودُهُ يَحْصُلُ بِقَوْلِ ذَلِكَ لَهُنَّ دَاخِلَ الصَّلَاةِ، أَوْ خَارِجَهَا. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَصَّاهُنَّ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِغَيْرِهِ بِالِانْتِظَارِ الْمَذْكُورِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلْنَ فِي الصَّلَاةِ لِيَدْخُلْنَ فِيهَا عَلَى عِلْمٍ، وَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْ حَيْثُ انْتِظَارِهِنَّ الَّذِي أُمِرْنَ بِهِ، فَإِنَّ فِيهِ انْتِظَارَهُنَّ لِلرِّجَالِ، وَمِنْ لَازِمِهِ تَقَدُّمُ الرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ، وَمُحَصِّلُ مُرَادِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ الِانْتِظَارَ إِنْ كَانَ شَرْعِيًّا جَازَ وَإِلَّا فَلَا.

قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: قَوْلُهُ تَقَدَّمْ؛ أَيْ قَبْلَ رَفِيقِكَ، وَقَوْلُهُ: انْتَظِرْ؛ أَيْ تَأَخَّرْ عَنْهُ. واسْتَنْبَطَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ لِلنِّسَاءِ: لَا تَرْفَعْنَ رُءُوسَكُنَّ حَتَّى يَسْتَوِيَ الرِّجَالُ جُلُوسًا. فَيَقْتَضِي امْتِثَالُ ذَلِكَ تَقَدُّمُ الرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ وَتَأَخُّرُهُنَّ عَنْهُمْ.

وَفِيهِ مِنَ الْفِقْهِ جَوَازُ وُقُوعِ فِعْلِ الْمَأْمُومِ بَعْدَ الْإِمَامِ، وَجَوَازُ سَبْقِ الْمَأْمُومِينَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الْأَفْعَالِ، وَجَوَازُ التَّرَبُّصِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ لِحَقِّ الْغَيْرِ، وَلِغَيْرِ مَقْصُودِ الصَّلَاةِ. وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ جَوَازُ انْتِظَارِ الْإِمَامِ فِي الرُّكُوعِ لِمَنْ يُدْرِكُ الرَّكْعَةَ، وَفِي التَّشَهُّدِ لِمَنْ يُدْرِكُ الْجَمَاعَةَ. وَفَرَّعَ ابْنُ الْمُنِيرِ عَلَى أَنَّهُ قِيلَ ذَلِكَ لِلنِّسَاءِ دَاخِلَ الصَّلَاةِ، فَقَالَ: فِيهِ جَوَازُ إِصْغَاءِ الْمُصَلِّي فِي الصَّلَاةِ لِمَنْ يُخَاطِبُهُ الْمُخَاطَبَةَ الْخَفِيفَةَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ) هُوَ الْعَبْدِيُّ الْبَصْرِيُّ، وَلَمْ يُخَرِّجِ الْبُخَارِيُّ لِلْكُوفِيِّ وَلَا لِلشَّامِيِّ وَلَا لِلصَّغَانِيِّ شَيْئًا. وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْمَتْنِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ.

‌15 - بَاب لَا يَرُدُّ السَّلَامَ فِي الصَّلَاةِ

1216 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كُنْتُ أُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَيَرُدُّ عَلَيَّ، فَلَمَّا رَجَعْنَا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ، وَقَالَ: إِنَّ فِي الصَّلَاةِ شُغْلًا.

1217 -

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ شِنْظِيرٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَاجَةٍ لَهُ فَانْطَلَقْتُ ثُمَّ رَجَعْتُ وَقَدْ قَضَيْتُهَا، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ فَوَقَعَ فِي قَلْبِي مَا اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لَعَلَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَدَ عَلَيَّ أَنِّي أَبْطَأْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ فَوَقَعَ فِي قَلْبِي أَشَدُّ مِنْ الْمَرَّةِ الْأُولَى، ثُمَّ سَلَّمْتُ

ص: 86

عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيَّ فَقَالَ: إِنَّمَا مَنَعَنِي أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ أَنِّي كُنْتُ أُصَلِّي، وَكَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ مُتَوَجِّهًا إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ لَا يُرَدُّ السَّلَامُ فِي الصَّلَاةِ)؛ أَيْ بِاللَّفْظِ الْمُتَعَارَفِ، لِأَنَّهُ خِطَابُ آدَمِيٍّ. وَاخْتُلِفَ فِيمَا إِذَا رَدَّهُ بِلَفْظِ الدُّعَاءِ، كَأَنْ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَلَى مَنْ سَلَّمَ عَلَيَّ السَّلَامَ. ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي بَابِ مَا يُنْهَى عَنْهُ مِنَ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ.

ثُمَّ أَوْرَدَ حَدِيثَ جَابِرٍ، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْمُمْتَنِعَ الرَّدُّ بِاللَّفْظِ.

قَوْلُهُ: (شِنْظِيرٍ) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ النُّونِ بَعْدَهَا ظَاءٌ مُعْجَمَةٌ مَكْسُورَةٌ، وَهُوَ عَلَمٌ عَلَى وَالِدِ كَثِيرٍ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ السَّيِّئُ الْخُلُقِ.

قَوْلُهُ: (بَعَثَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَاجَةٍ) بَيَّنَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ.

قَوْلُهُ: (فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ الْمَذْكُورَةِ: فَقَالَ لِي بِيَدِهِ هَكَذَا. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أُخْرَى: فَأَشَارَ إِلَيَّ، فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ: فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ؛ أَيْ بِاللَّفْظِ. وَكَأَنَّ جَابِرًا لَمْ يَعْرِفْ أَوَّلًا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِشَارَةِ الرَّدُّ عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ قَالَ: فَوَقَعَ فِي قَلْبِي مَا اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ؛ أَيْ مِنَ الْحُزْنِ. وَكَأَنَّهُ أَبْهَمَ ذَلِكَ إِشْعَارًا بِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ مِنْ شِدَّتِهِ تَحْتَ الْعِبَارَةِ.

قَوْلُهُ: (وَجَدَ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَالْجِيمِ؛ أَيْ غَضِبَ.

قَوْلُهُ: (أَنِّي أَبْطَأْتُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَنْ أَبْطَأْتُ بِنُونٍ خَفِيفَةٍ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيَّ)؛ أَيْ بَعْدَ أَنْ فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ: مَا مَنَعَنِي أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ) أَيِ السَّلَامَ (إِلَّا أَنِّي كُنْتُ أُصَلِّي) وَلِمُسْلِمٍ: فَرَجَعْتُ وَهُوَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ وَوَجْهُهُ عَلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ: كَرَاهَةُ ابْتِدَاءِ السَّلَامِ عَلَى الْمُصَلِّي لِكَوْنِهِ رُبَّمَا شُغِلَ بِذَلِكَ فَكُرِهَ، وَاسْتَدْعَى مِنْهُ الرَّدَّ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ، وَبِذَلِكَ قَالَ جَابِرٌ رَاوِي الْحَدِيثِ، وَكَرِهَهُ عَطَاءٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ، وَقَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: لَا يُكْرَهُ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَالْجُمْهُورُ

(1)

وَقَالُوا: يَرُدُّ إِذَا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ - أَوْ وَهُوَ فِيهَا - بِالْإِشَارَةِ. وَسَيَأْتِي اخْتِلَافُهُمْ فِي الْإِشَارَةِ فِي أَوَاخِرِ أَبْوَابِ سُجُودِ السَّهْوِ.

‌16 - بَاب رَفْعِ الْأَيْدِي فِي الصَّلَاةِ لِأَمْرٍ يَنْزِلُ بِهِ

1218 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه، قَالَ: بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِقُبَاءٍ كَانَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ، فَخَرَجَ يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَحُبِسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَحَانَتْ الصَّلَاةُ، فَجَاءَ بِلَالٌ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ حُبِسَ، وَقَدْ حَانَتْ الصَّلَاةُ، فَهَلْ لَكَ أَنْ تَؤُمَّ النَّاسَ؟ قَالَ: نَعَمْ إِنْ شِئْتَ. فَأَقَامَ بِلَالٌ الصَّلَاةَ. وَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فَكَبَّرَ لِلنَّاسِ، وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْشِي فِي الصُّفُوفِ يَشُقُّهَا شَقًّا، حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ فَأَخَذَ النَّاسُ فِي التَّصْفِيحِ، قَالَ سَهْلٌ: التَّصْفِيحُ هُوَ التَّصْفِيقُ، قَالَ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه لَا يَلْتَفِتُ فِي صَلَاتِهِ، فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ الْتَفَتَ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَشَارَ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ أَنْ يُصَلِّيَ، فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه يَدَهُ، فَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى وَرَاءَهُ حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ، وَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَصَلَّى لِلنَّاسِ، فَلَمَّا

(1)

هذا القول أصح، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينكر على من سلم عليه وهو يصلي، بل ثبت عنه أنه رد عليهم بالإشارة، فدل ذلك على مشروعية السلام على المصلي وأنه يرد بالإشارة. والله أعلم

ص: 87

فَرَغَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَا لَكُمْ حِينَ نَابَكُمْ شَيْءٌ فِي الصَّلَاةِ أَخَذْتُمْ بِالتَّصْفِيحِ، إِنَّمَا التَّصْفِيحُ لِلنِّسَاءِ، مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَقُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ لِلنَّاسِ حِينَ أَشَرْتُ إِلَيْكَ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا كَانَ يَنْبَغِي لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (بَابُ رَفْعِ الْأَيْدِي فِي الصَّلَاةِ لِأَمْرٍ يَنْزِلُ بِهِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، وَعَبْدِ الْعَزِيزِ هَذَا هُوَ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ.

قَوْلُهُ: (وَحَانَتِ الصَّلَاةُ) الْوَاوُ فِيهِ حَالِيَّةٌ. وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: وَقَدْ حَانَتِ الصَّلَاةُ.

قَوْلُهُ: (إِنْ شِئْتَ) فِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ إِنْ شِئْتُمْ.

قَوْلُهُ: (مِنَ الصَّفِّ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فِي الصَّفِّ.

قَوْلُهُ: (فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: يَدَيْهِ بِالتَّثْنِيَةِ، وَهَذَا مَوْضِعُ التَّرْجَمَةِ. وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ رَفْعَ الْيَدَيْنِ لِلدُّعَاءِ وَنَحْوِهِ فِي الصَّلَاةِ لَا يُبْطِلُهَا وَلَوْ كَانَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الرَّفْعِ، لِأَنَّهَا هَيْئَةُ اسْتِسْلَامٍ وَخُضُوعٍ، وَقَدْ أَقَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ عَلَى ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (حَيْثُ أَشَرْتُ عَلَيْكَ) وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: حِينَ أَشَرْتُ إِلَيْكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى فَوَائِدِهِ كَمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ قَرِيبًا.

‌17 - بَاب الْخَصْرِ فِي الصَّلَاةِ

1219 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: نُهِيَ عَنْ الْخَصْرِ فِي الصَّلَاةِ، وَقَالَ هِشَامٌ وَأَبُو هِلَالٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

[الحديث 1219 - طرفه في: 1220]

1220 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ "نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ مُخْتَصِرًا".

قَوْلُهُ: (بَابُ الْخَصْرِ فِي الصَّلَاةِ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ؛ أَيْ حُكْمُ الْخَصْرِ، وَالْمُرَادُ وَضْعُ الْيَدَيْنِ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا حَمَّادٌ) هُوَ ابْنُ زَيْدٍ، وَمُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ سِيرِينَ.

قَوْلُهُ: (نُهِيَ) بِضَمِّ النُّونِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَفَاعِلُ ذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَمَا فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ هِشَامٌ) يَعْنِي ابْنَ حَسَّانَ (وَأَبُو هِلَالٍ) يَعْنِي الرَّاسِبِيَّ (عَنِ ابْنِ سِيرِينَ. . إِلَخْ) أَمَّا رِوَايَةُ هِشَامٍ، وَهُوَ ابْنُ حَسَّانَ فَوَصَلَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي الْبَابِ، لَكِنْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْحَمَوِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي: نَهَى عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَلَمْ يُسَمِّهِ، وَسَمَّاهُ الْكُشْمِيهَنِيُّ فِي رِوَايَتِهِ، وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ بِلَفْظِ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ مُخْتَصِرًا. وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامٍ كَذَلِكَ، وَبِلَفْظِ: عَنِ الْخَصْرِ فِي الصَّلَاةِ. وَأَمَّا رِوَايَةُ أَبِي هِلَالٍ فَوَصَلَهَا الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ مَرْزُوقٍ عَنْهُ بِلَفْظِ: عَنِ الِاخْتِصَارِ فِي الصَّلَاةِ.

قَوْلُهُ: (نُهِيَ) بِالضَّمِّ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم

قَوْلُهُ: (مُتَخَصِّرًا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مُخَصَّرًا بِتَشْدِيدِ الصَّادِ، وَلِلنَّسَائِيِّ مُخْتَصِرًا بِزِيَادَةِ الْمُثَنَّاةِ، وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: قِيلَ لِأَيُّوبَ: إِنَّ هِشَامًا رَوَى عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: نُهِيَ عَنِ الِاخْتِصَارِ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ: إِنَّمَا قَالَ التَّخَصُّرَ. وَكَأَنَّ سَبَبَ إِنْكَارِ

ص: 88

أَيُّوبَ لَفْظُ الِاخْتِصَارِ لِكَوْنِهِ يُفْهِمُ مَعْنًى آخَرَ غَيْرَ التَّخَصُّرِ كَمَا سَيَأْتِي، وَقَدْ فَسَّرَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ، فَقَالَ فِيهِ: قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: هُوَ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى خَاصِرَتِهِ وَهُوَ يُصَلِّي، وَبِذَلِكَ جَزَمَ أَبُو دَاوُدَ، وَنَقَلَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ تَفْسِيرِهِ.

وَحَكَى الْهَرَوِيُّ فِي الْغَرِيبَيْنِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاخْتِصَارِ قِرَاءَةُ آيَةٍ أَوْ آيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ السُّورَةِ، وَقِيلَ: أَنْ يُحْذَفَ الطُّمَأْنِينَةُ. وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مِنَ الِاخْتِصَارِ مُمْكِنًا، لَكِنَّ رِوَايَةَ التَّخَصُّرِ وَالْخَصْرِ تَأْبَاهُمَا. وَقِيلَ: الِاخْتِصَارُ أَنْ يَحْذِفَ الْآيَةَ الَّتِي فِيهَا السَّجْدَةُ إِذَا مَرَّ بِهَا فِي قِرَاءَتِهِ حَتَّى لَا يَسْجُدَ فِي الصَّلَاةِ لِتِلَاوَتِهَا، حَكَاهُ الْغَزَالِيُّ. وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنْ يُمْسِكَ بِيَدِهِ مِخْصَرَةً؛ أَيْ عَصًا يَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا فِي الصَّلَاةِ، وَأَنْكَرَ هَذَا ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ فَأَبْلَغَ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: صَلَّيْتُ إِلَى جَنْبِ ابْنِ عُمَرَ فَوَضَعْتُ يَدِيَّ عَلَى خَاصِرَتِي، فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: هَذَا الصَّلْبُ فِي الصَّلَاةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنْهُ. وَاخْتُلِفَ فِي حِكْمَةِ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، فَقِيلَ: لِأَنَّ إِبْلِيسَ أُهْبِطَ مُتَخَصِّرًا. أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ مَوْقُوفًا. وَقِيلَ: لِأَنَّ الْيَهُودَ تُكْثِرُ مِنْ فِعْلِهِ، فَنُهِيَ عَنْهُ كَرَاهَةً لِلتَّشَبُّهِ بِهِمْ. أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي ذِكْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْ عَائِشَةَ. زَادَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِيهِ: فِي الصَّلَاةِ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: لَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ رَاحَةُ أَهْلِ النَّارِ. أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الْحِقْوِ اسْتِرَاحَةُ أَهْلِ النَّارِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّاجِزِ حِينَ يُنْشِدُ. رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

وَقِيلَ: لِأَنَّهُ فِعْلُ الْمُتَكَبِّرِينَ، حَكَاهُ الْمُهَلَّبُ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ فِعْلُ أَهْلِ الْمَصَائِبِ حَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ، وَقَوْلُ عَائِشَةَ أَعْلَى مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْجَمِيعِ.

(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ فِي بَابِ الْخَصْرِ فِي الصَّلَاةِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ اسْتِرَاحَةُ أَهْلِ النَّارِ، وَمَا أَظُنُّ أَنَّ قَوْلَهُ: رُوِيَ. . إلَخْ إِلَّا مِنْ كَلَامِهِ، لَا مِنْ كَلَامِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ ذَكَرْتُ مَنْ رَوَاهُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌18 - بَاب يُفْكِرُ الرَّجُلُ الشَّيْءَ فِي الصَّلَاةِ

وَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: إِنِّي لَأُجَهِّزُ جَيْشِي وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ

1221 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا عُمَرُ هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ رضي الله عنه، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْعَصْرَ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ سَرِيعًا دَخَلَ عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ، ثُمَّ خَرَجَ، وَرَأَى مَا فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ مِنْ تَعَجُّبِهِمْ لِسُرْعَتِهِ، فَقَالَ: ذَكَرْتُ وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ تِبْرًا عِنْدَنَا فَكَرِهْتُ أَنْ يُمْسِيَ أَوْ يَبِيتَ عِنْدَنَا فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ.

1222 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ الْأَعْرَجِ، قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا أُذِّنَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ لَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ، فَإِذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُ أَقْبَلَ، فَإِذَا ثُوِّبَ أَدْبَرَ، فَإِذَا سَكَتَ أَقْبَلَ، فَلَا يَزَالُ بِالْمَرْءِ يَقُولُ لَهُ اذْكُرْ مَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ حَتَّى لَا يَدْرِيَ كَمْ صَلَّى. قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: إِذَا فَعَلَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ قَاعِدٌ، وَسَمِعَهُ أَبُو سَلَمَةَ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه.

ص: 89

1223 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: يَقُولُ النَّاسُ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ. فَلَقِيتُ رَجُلًا فَقُلْتُ: بِمَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْبَارِحَةَ فِي الْعَتَمَةِ؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي، فَقُلْتُ: لَمْ تَشْهَدْهَا؟ قَالَ: بَلَى. قُلْتُ: لَكِنْ أَنَا أَدْرِي، قَرَأَ سُورَةَ كَذَا وَكَذَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ تَفَكُّرِ الرَّجُلِ الشَّيْءَ فِي الصَّلَاةِ) الشَّيْءُ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ. وَالتَّقْيِيدُ بِالرَّجُلِ لَا مَفْهُومَ لَهُ، لِأَنَّ بَقِيَّةَ الْمُكَلَّفِينَ فِي حُكْمِ ذَلِكَ سَوَاءٌ. قَالَ الْمُهَلَّبُ: التَّفَكُّرُ أَمْرٌ غَالِبٌ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ فِي الصَّلَاةِ، وَلَا فِي غَيْرِهَا لِمَا جَعَلَ اللَّهُ لِلشَّيْطَانِ مِنَ السَّبِيلِ عَلَى الْإِنْسَانِ، وَلَكِنْ يَفْتَرِقُ الْحَالُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ وَالدِّينِ كَانَ أَخَفَّ مِمَّا يَكُونُ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي لِأُجَهِّزُ جَيْشِي وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ). وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْهُ بِهَذَا سَوَاءٌ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: إِنَّمَا هَذَا فِيمَا يَقِلُّ فِيهِ التَّفَكُّرُ، كَأَنْ يَقُولَ: أُجَهِّزُ فُلَانًا، أُقَدِّمُ فُلَانًا، أُخْرِجُ مِنَ الْعِدَدِ كَذَا وَكَذَا، فَيَأْتِي عَلَى مَا يُرِيدُ فِي أَقَلِّ شَيْءٍ مِنَ الْفِكْرَةِ. فَأَمَّا أَنْ يُتَابِعَ التَّفَكُّرَ وَيُكْثِرَ حَتَّى لَا يَدْرِيَ كَمْ صَلَّى، فهَذَا اللَّاهِي فِي صَلَاتِهِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ. انْتَهَى. وَلَيْسَ هَذَا الْإِطْلَاقُ عَلَى وَجْهِهِ، وَقَدْ جَاءَ عَنْ عُمَرَ مَا يَأْبَاهُ، فَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: إِنِّي لَأَحْسِبُ جِزْيَةَ الْبَحْرَيْنِ وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ. وَرَوَى صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلَ فِي كِتَابِ الْمَسَائِلِ عَنْ أَبِيهِ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّ عُمَرَ صَلَّى الْمَغْرِبَ فَلَمْ يَقْرَأْ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّكَ لَمْ تَقْرَأْ، فَقَالَ: إِنِّي حَدَّثْتُ نَفْسِي وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ بِعِيرٍ جَهَّزْتُهَا مِنَ الْمَدِينَةِ حَتَّى دَخَلَتِ الشَّامَ، ثُمَّ أَعَادَ وَأَعَادَ الْقِرَاءَةَ. وَمِنْ طَرِيقِ عِيَاضٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: صَلَّى عُمَرُ الْمَغْرِبَ، فَلَمْ يَقْرَأْ، فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى: إِنَّكَ لَمْ تَقْرَأْ، فَأَقْبَلَ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَقَالَ: صَدَقَ، فَأَعَادَ. فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: لَا صَلَاةَ لَيْسَتْ فِيهَا قِرَاءَةٌ، إِنَّمَا شَغَلَنِي عِيرٌ جَهَّزْتُهَا إِلَى الشَّامِ فَجَعَلْتُ أَتَفَكَّرُ فِيهَا. . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا أَعَادَ لِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ، لَا لِكَوْنِهِ كَانَ مُسْتَغْرِقًا فِي الْفِكْرَةِ.

وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَى الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ ضَمْضَمِ بْنِ جَوْسٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ

(1)

بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ الرَّاهِبِ: إِنَّ عُمَرَ صَلَّى الْمَغْرِبَ فَلَمْ يَقْرَأْ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، فَلَمَّا كَانَتِ الثَّانِيَةُ قَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ مَرَّتَيْنِ، فَلَمَّا فَرَغَ وَسَلَّمَ سَجَدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ. وَرِجَالُ هَذِهِ الْآثَارِ ثِقَاتٌ، وَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَالْأَخِيرُ كَأَنَّهُ مَذْهَبٌ لِعُمَرَ. وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْتِفَاتٌ إِلَى مَسْأَلَةِ الْخُشُوعِ فِي الصَّلَاةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ فِي مَكَانِهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا رَوْحٌ) هُوَ ابْنُ عُبَادَةَ، وَعُمَرُ بْنُ سَعِيدٍ هُوَ ابْنُ أَبِي حُسَيْنٍ الْمَكِّيُّ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ وَشَيْءٌ مِنْ فَوَائِدِهِ فِي أَوَاخِرِ صِفَةِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ، لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَفَكَّرَ فِي أَمْرِ التِّبْرِ الْمَذْكُورِ، ثُمَّ لَمْ يُعِدِ الصَّلَاةَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ جَعْفَرٍ) هُوَ ابْنُ رَبِيعَةَ الْمِصْرِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْمَتْنِ فِي أَوَائِلِ أَبْوَابِ الْأَذَانِ مُسْتَوْفًى، وَشَاهِدُ التَّرْجَمَةِ قَوْلُهُ: حَتَّى لَا يَدْرِيَ كَمْ صَلَّى. فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّفَكُّرَ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ مَا لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا مِنْ أَرْكَانِهَا.

قَوْلُهُ: (قَالَ

(1)

كذا في الأصول التي في أيدينا، ولعل الصواب "عن عبد الرحمن" لأن ضمضم المذكور إنما روى عن عبد الله بن حنظلة وهو يكنى أبا عبد الرحمن، وليس له رواية عن عبد الرحمن بن حنظلة كما يعلم ذلك من "الاستيعاب" و "الإصابة" و "تهذيب التهذيب"

ص: 90

أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: إِذَا فَعَلَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ قَاعِدٌ، وَسَمِعَهُ أَبُو سَلَمَةَ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ). هَذَا التَّعْلِيقُ طَرَفٌ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ كَمَا سَيَأْتِي فِي خَامِسِ تَرْجَمَةٍ مِنْ أَبْوَابِ السَّهْوِ، لَكِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَرُبَّمَا تَبَادَرَ إِلَى الذِّهْنِ مِنْ سِيَاقِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مِنْ رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَسَيَأْتِي فِي سَادِسِ تَرْجَمَةٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، لَكِنْ بِاخْتِصَارِ ذِكْرِ الْأَذَانِ، وَهُوَ مِنْ طَرِيقِ هُذَيْنٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا بِخِلَافِ مَا يُوهِمُهُ سِيَاقُهُ هُنَا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هُنَاكَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

قَوْلُهُ: (يَقُولُ النَّاسُ: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ). أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَلِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُصْعَبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ بِلَفْظِ: إِنَّ النَّاسَ قَالُوا: قَدْ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ مِنَ الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنِّي كُنْتُ أَلْزَمُهُ لِشِبَعِ بَطْنِي، فَلَقِيتُ رَجُلًا، فَقُلْتُ لَهُ: بِأَيِّ سُورَةٍ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَقَالَ فِي آخِرِهِ: أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي مُصْعَبٍ. انْتَهَى. وَلَمْ أَرَ هَذِهِ الطَّرِيقَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَكَأَنَّ الْبَيْهَقِيَّ تَبِعَ أَطْرَافَ خَلَفٍ، فَإِنَّهُ ذَكَرَهَا، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: لَمْ أَجِدْهَا، وَلَا ذَكَرَهَا أَبُو مَسْعُودٍ. انْتَهَى.

ثُمَّ وَجَدْتُ فِي مَنَاقِبِ جَعْفَرٍ صَدْرَ هَذَا الْحَدِيثِ، لَكِنْ قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ: لِشِبَعِ بَطْنِي: حِينَ لَا آكُلُ الْخَمِيرَ، وَلَا أَلْبَسُ الْحَرِيرَ ; فَذَكَرَ قِصَّةَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَلَعَلَّ الْبَيْهَقِيَّ أَرَادَ هَذَا، وَكَأَنَّ الْمَقْبُرِيَّ وَغَيْرَهُ مِنْ رُوَاتِهِ كَانَ يُحَدِّثُ بِهِ تَامًّا تَارَةً، وَمُخْتَصَرًا أُخْرَى. وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي فُدَيْكٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ فِي أَوَّلِ هَذَا الْحَدِيثِ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وُعَاءَيْنِ، الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: إِنَّ النَّاسَ قَالُوا: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ، فَذَكَرَهُ. وَقَوْلُهُ: حَفِظْتُ. . . إِلَخْ. تَقَدَّمَ فِي الْعِلْمِ مَعَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ فِي الْعِلْمِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَاللَّهِ، لَوْلَا آيَتَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مَا حَدَّثْتُ

الْحَدِيثَ. وَسَيَأْتِي فِي أَوَائِلِ الْبُيُوعِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَأَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: إِنَّكُمْ تَقُولُونَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَكْثَرَ الْحَدِيثَ. وَفِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى سَبَبِ إِكْثَارِهِ، وَأَنَّ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ كَانُوا يَشْغَلُهُمُ الْمَعَاشُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ أَمَامَ مَا يُرِيدُ أَنْ يُحَدِّثَ بِهِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ إِكْثَارِهِ، وَعَلَى السَّبَبِ فِي ذَلِكَ، وَعَلَى سَبَبِ اسْتِمْرَارِهِ عَلَى التَّحْدِيثِ.

قَوْلُهُ: (فَلَقِيَتُ رَجُلًا) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَتِهِ، وَلَا عَلَى تَسْمِيَةِ السُّورَةِ، وَقَوْلُهُ: بِمَ بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ بِغَيْرِ أَلِفٍ لِأَبِي ذَرٍّ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ، وَلِلْأَكْثَرِ بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ وَهُوَ قَلِيلٌ، أَيْ بِأَيِّ شَيْءٍ.

قَوْلُهُ: (الْبَارِحَةَ)؛ أَيْ أَقْرَبُ لَيْلَةٍ مَضَتْ. وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ إِشَارَةٌ إِلَى سَبَبِ إِكْثَارِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَشِدَّةِ إِتْقَانِهِ وَضَبْطِهِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ. وَشَاهِدُ التَّرْجَمَةِ دَلَالَةُ الْحَدِيثِ عَلَى عَدَمِ ضَبْطِ ذَلِكَ الرَّجُلِ، كَأَنَّهُ اشْتَغَلَ بِغَيْرِ أَمْرِ الصَّلَاةِ حَتَّى نَسِيَ السُّورَةَ الَّتِي قُرِئَتْ، أَوْ دَلَالَتُهُ عَلَى ضَبْطِ أَبِي هُرَيْرَةَ، كَأَنَّهُ شُغِلَ فِكْرُهُ بِأَفْعَالِ الصَّلَاةِ حَتَّى ضَبَطَهَا وَأَتْقَنَهَا، كَذَا ذَكَرَ الْكِرْمَانِيُّ هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ، وَبِالْأَوَّلِ جَزَمَ غَيْرُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَتْ أَبْوَابُ الْعَمَلِ فِي الصَّلَاةِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْ ذَلِكَ سِتَّةٌ، وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا - فِيهَا وَفِيمَا مَضَى - ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ حَدِيثًا، وَالْبَقِيَّةُ خَالِصَةٌ، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ فِي قِصَّةِ انْفِلَاتِ دَابَّتِهِ، وَحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو الْمُعَلَّقِ فِي النَّفْخِ فِي السُّجُودِ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي التَّخَصُّرِ، وَحَدِيثِهِ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الْعَتَمَةِ. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ سِتَّةُ آثَارٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 91

بسم الله الرحمن الرحيم

‌22 - كتاب السهو

‌1 - بَاب مَا جَاءَ فِي السَّهْوِ إِذَا قَامَ مِنْ رَكْعَتَيْ الْفَرِيضَةِ

1224 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُحَيْنَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ مِنْ بَعْضِ الصَّلَوَاتِ، ثُمَّ قَامَ فَلَمْ يَجْلِسْ، فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ وَنَظَرْنَا تَسْلِيمَهُ كَبَّرَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ، ثُمَّ سَلَّمَ.

1225 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُحَيْنَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ مِنْ اثْنَتَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ لَمْ يَجْلِسْ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. بَابُ مَا جَاءَ فِي السَّهْوِ إِذَا قَامَ مِنْ رَكْعَتَيِ الْفَرِيضَةِ) وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ، وَالْأَصِيلِيِّ، وَأَبِي الْوَقْتِ: رَكْعَتَيِ الْفَرْضِ، وَسَقَطَ لَفْظُ: بَابُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ. وَالسَّهْوُ: الْغَفْلَةُ عَنِ الشَّيْءِ، وَذَهَابُ الْقَلْبِ إِلَى غَيْرِهِ، وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَاخْتُلِفَ فِي حُكْمِهِ، فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مَسْنُونٌ كُلُّهُ. وَعَنِ الْمَالِكِيَّةِ: السُّجُودُ لِلنَّقْصِ وَاجِبٌ دُونَ الزِّيَادَةِ. وَعَنِ الْحَنَابِلَةِ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ الْوَاجِبَاتِ غَيْرِ الْأَرْكَانِ، فَيَجِبُ لِتَرْكِهَا سَهْوًا، وَبَيْنَ السُّنَنِ الْقَوْلِيَّةِ فَلَا يَجِبُ، وَكَذَا يَجِبُ إِذَا سَهَا بِزِيَادَةِ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ يُبْطِلُهَا عَمْدُهُ. وَعَنِ الْحَنَفِيَّةِ: وَاجِبٌ كُلُّهُ، وَحُجَّتُهُمْ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَاضِي فِي أَبْوَابِ الْقِبْلَةِ: ثُمَّ لْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ. وَمِثْلُهُ لِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ. وَقَدْ ثَبَتَ مِنْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَفْعَالُهُ فِي الصَّلَاةِ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْبَيَانِ، وَبَيَانُ الْوَاجِبِ وَاجِبٌ، وَلَا سِيَّمَا مَعَ قَوْلِهِ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ) كَذَا فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ، وَلَمْ يُسَمَّ فِي رِوَايَةِ الْبَاقِينَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُحَيْنَةَ) تَقَدَّمَ فِي التَّشَهُّدِ أَنَّ بُحَيْنَةَ اسْمُ أُمِّهِ، أَوْ أُمِّ أَبِيهِ، وَعَلَى هَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ يُكْتَبَ ابْنَ بُحَيْنَةَ بِأَلِفٍ.

قَوْلُهُ: (صَلَّى لَنَا)؛ أَيْ بِنَا، أَوْ لِأَجْلِنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَبْوَابِ التَّشَهُّدِ مِنْ رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِلَفْظِ: صَلَّى بِهِمْ. وَيَأْتِي فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِلَفْظِ: صَلَّى بِنَا.

قَوْلُهُ: (مِنْ بَعْضِ الصَّلَوَاتِ) بَيَّنَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي تَلِيهَا أَنَّهَا الظُّهْرُ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَامَ) زَادَ الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنِ الْأَعْرَجِ: فَسَبَّحُوا بِهِ، فَمَضَى حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ. أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ. وَفِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ جَمِيعًا نَحْوَ هَذِهِ الْقِصَّةِ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ.

قَوْلُهُ: (فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ)؛ أَيْ فَرَغَ مِنْهَا، كَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ شَيْخِهِ، وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهِ لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ السَّلَامَ لَيْسَ مِنَ الصَّلَاةِ حَتَّى لَوْ أَحْدَثَ بَعْدَ أَنْ جَلَسَ، وَقَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ تَمَّتْ صَلَاتُهُ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ السَّلَامَ لَمَّا كَانَ لِلتَّحْلِيلِ مِنَ الصَّلَاةِ كَانَ الْمُصَلِّي إِذَا انْتَهَى إِلَيْهِ كَمَنْ فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ،

ص: 92

وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ جَمَاعَةٍ مِنَ الثِّقَاتِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الْأَعْرَجِ: حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ إِلَّا أَنْ يُسَلِّمَ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ حَذَفَ الِاسْتِثْنَاءَ لِوُضُوحِهِ، وَالزِّيَادَةُ مِنَ الْحَافِظِ مَقْبُولَةٌ.

قَوْلُهُ: (وَنَظَرْنَا تَسْلِيمَهُ:)؛ أَيِ انْتَظَرْنَا، وَتَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ بِلَفْظِ: وَانْتَظَرَ النَّاسُ تَسْلِيمَهُ. وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم سَجَدَ فِي قِصَّةِ ابْنِ بُحَيْنَةَ قَبْلَ السَّلَامِ سَهْوًا، أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّجْدَتَيْنِ سَجْدَتَا الصَّلَاةِ، أَوِ الْمُرَادَ بِالتَّسْلِيمِ التَّسْلِيمَةُ الثَّانِيَةُ، وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ ذَلِكَ وَبُعْدُهُ.

قَوْلُهُ: (كَبَّرَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ) فِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ سُجُودِ السَّهْوِ، وَأَنَّهُ سَجْدَتَانِ، فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى سَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ سَاهِيًا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ أَوْ عَامِدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهُ تَعَمَّدَ الْإِتْيَانَ بِسَجْدَةٍ زَائِدَةٍ لَيْسَتْ مَشْرُوعَةً، وَأَنَّهُ يُكَبِّرُ لَهُمَا كَمَا يُكَبِّرُ فِي غَيْرِهِمَا مِنَ السُّجُودِ. وَفِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ: يُكَبِّرُ فِي كُلِّ سَجْدَةٍ. وَفِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ: فَكَبَّرَ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ كَبَّرَ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ، ثُمَّ كَبَّرَ فَرَفَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ سَلَّمَ. أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَنَحْوَهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ عَقِبَ حَدِيثِ اللَّيْثِ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّكْبِيرِ فِيهِمَا وَالْجَهْرِ بِهِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ، وَأَنَّ بَيْنَهُمَا جِلْسَةً فَاصِلَةً، وَاسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِالسَّجْدَتَيْنِ لِلسَّهْوِ فِي الصَّلَاةِ، وَلَوْ تَكَرَّرَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الَّذِي فَاتَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ الْجُلُوسُ وَالتَّشَهُّدُ فِيهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا لَوْ سَهَا الْمُصَلِّي عَنْهُ عَلَى انْفِرَادِهِ سَجَدَ لِأَجْلِهِ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم سَجَدَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ غَيْرَ سَجْدَتَيْنِ، وَتُعَقِّبَ بِأَنَّهُ يَنْبَنِي عَلَى ثُبُوتِ مَشْرُوعِيَّةِ السُّجُودِ لِتَرْكِ مَا ذُكِرَ، وَلَمْ يَسْتَدِلُّوا عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ ذَلِكَ بِغَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ، فَيَسْتَلْزِمُ إِثْبَاتَ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ وَفِيهِ مَا فِيهِ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ بِأَنَّ السُّجُودَ مَكَانَ مَا نُسِيَ مِنَ الْجُلُوسِ كَمَا سَيَأْتِي مِنْ رِوَايَةِ اللَّيْثِ. نَعَمْ، حَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ دَالٌّ لِذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي.

قَوْلُهُ: (وَهُوَ جَالِسٌ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: سَجَدَ؛ أَيْ أَنْشَأَ السُّجُودَ جَالِسًا.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ سَلَّمَ) زَادَ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: ثُمَّ سَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ الْآتِيَةِ: وَسَجَدَهُمَا النَّاسُ مَعَهُ مَكَانَ مَا نَسِيَ مِنَ الْجُلُوسِ. وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ فِي كَوْنِ جَمِيعِهِ كَذَلِكَ، نَعَمْ يَرُدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ جَمِيعَهُ بَعْدَ السَّلَامِ كَالْحَنَفِيَّةِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ مُسْتَنَدِهِمْ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَاسْتُدِلَّ بِزِيَادَةِ اللَّيْثِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى أَنَّ السُّجُودَ خَاصٌّ بِالسَّهْوِ، فَلَوْ تَعَمَّدَ تَرْكَ شَيْءٍ مِمَّا يُجْبَرُ بِسُجُودِ السَّهْوِ لَا يَسْجُدُ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَرَجَّحَهُ الْغَزَالِيُّ وَنَاسٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْمَأْمُومَ يَسْجُدُ مَعَ الْإِمَامِ إِذَا سَهَا الْإِمَامُ، وَإِنْ لَمْ يَسْهُ الْمَأْمُومُ، وَنَقَلَ ابْنُ حَزْمٍ فِيهِ الْإِجْمَاعَ، لَكِنِ اسْتَثْنَى غَيْرَهُ مَا إِذَا ظَنَّ الْإِمَامُ أَنَّهُ سَهَا فَسَجَدَ وَتَحَقَّقَ الْمَأْمُومُ أَنَّ الْإِمَامَ لَمْ يَسْهُ فِيمَا سَجَدَ لَهُ وَفِي تَصْوِيرِهَا عُسْرٌ، وَمَا إِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِمَامَ مُحْدِثٌ، وَنَقَلَ أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ أَنَّ ابْنَ سِيرِينَ اسْتَثْنَى الْمَسْبُوقَ أَيْضًا.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ لَا تَشَهُّدَ بَعْدَهُ إِذَا كَانَ قَبْلَ السَّلَامِ، وَقَدْ تَرْجَمَ لَهُ الْمُصَنِّفُ قَرِيبًا، وَأَنَّ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ صِفَةِ الصَّلَاةِ، وَأَنَّ مَنْ سَهَا عَنِ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ حَتَّى قَامَ إِلَى الرَّكْعَةِ ثُمَّ ذَكَرَ لَا يَرْجِعُ، فَقَدْ سَبَّحُوا بِهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَرْجِعْ، فَلَوْ تَعَمَّدَ الْمُصَلِّي الرُّجُوعَ بَعْدَ تَلَبُّسِهِ بِالرُّكْنِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، خِلَافًا لِلْجُمْهُورِ، وَأَنَّ السَّهْوَ وَالنِّسْيَانَ جَائِزَانِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيمَا طَرِيقُهُ التَّشْرِيعُ، وَأَنَّ مَحَلَّ سُجُودِ السَّهْوِ آخِرُ الصَّلَاةِ، فَلَوْ سَجَدَ لِلسَّهْوِ قَبْلَ أَنْ يَتَشَهَّدَ سَاهِيًا أَعَادَ عِنْدَ مَنْ يُوجِبُ التَّشَهُّدَ الْأَخِيرَ، وَهُمُ الْجُمْهُورُ.

‌2 - بَاب إِذَا صَلَّى خَمْسًا

1226 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْحَكَمِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه

ص: 93

أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا، فَقِيلَ لَهُ: أَزِيدَ فِي الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: صَلَّيْتَ خَمْسًا، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَمَا سَلَّمَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا صَلَّى خَمْسًا) قِيلَ: أَرَادَ الْبُخَارِيُّ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ السَّهْوُ بِالنُّقْصَانِ أَوِ الزِّيَادَةِ، فَفِي الْأَوَّلِ يَسْجُدُ قَبْلَ السَّلَامِ، كَمَا فِي التَّرْجَمَةِ الْمَاضِيَةِ، وَفِي الزِّيَادَةِ يَسْجُدُ بَعْدَهُ، وَبِالتَّفْرِقَةِ هَكَذَا، قَالَ مَالِكٌ، وَالْمُزَنِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَزَعَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ غَيْرِهِ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْخَبْرَيْنِ، قَالَ: وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلنَّظَرِ، لِأَنَّهُ فِي النَّقْصِ جَبْرٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ أَصْلِ الصَّلَاةِ، وَفِي الزِّيَادَةِ تَرْغِيمٌ لِلشَّيْطَانِ فَيَكُونَ خَارِجَهَا. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَا شَكَّ أَنَّ الْجَمْعَ أَوْلَى مِنَ التَّرْجِيحِ وَادِّعَاءِ النَّسْخِ، وَيَتَرَجَّحُ الْجَمْعُ الْمَذْكُورُ بِالْمُنَاسَبَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَإِذَا كَانَتِ الْمُنَاسَبَةُ ظَاهِرَةً، وَكَانَ الْحُكْمُ عَلَى وَفْقِهَا كَانَتْ عِلَّةً، فَيَعُمُّ الْحُكْمُ جَمِيعَ مَحَالِّهَا، فَلَا تُخَصَّصُ إِلَّا بِنَصٍّ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ كَوْنَ السُّجُودِ فِي الزِّيَادَةِ تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ فَقَطْ مَمْنُوعٌ، بَلْ هُوَ جَبْرٌ أَيْضًا لِمَا وَقَعَ مِنَ الْخَلَلِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ زِيَادَةً فَهُوَ نَقْصٌ فِي الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا سَمَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سُجُودَ السَّهْوِ تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ فِي حَالَةِ الشَّكِّ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعيْدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَمْ يَرْجِعْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ إِلَى فَرْقٍ صَحِيحٍ.

وَأَيْضًا فَقِصَّةُ ذِي الْيَدَيْنِ وَقَعَ السُّجُودُ فِيهَا بَعْدَ السَّلَامِ، وَهِيَ عَنْ نُقْصَانٍ، وَأَمَّا قَوْلُ النَّوَوِيِّ: أَقْوَى الْمَذَاهِبِ فِيهَا قَوْلُ مَالِكٍ ثُمَّ أَحْمَدَ، فَقَدْ قَالَ غَيْرُهُ: بَلْ طَرِيقُ أَحْمَدَ أَقْوَى، لِأَنَّهُ قَالَ: يُسْتَعْمَلُ كُلُّ حَدِيثٍ فِيمَا وَرَدَ فِيهِ، وَمَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ شَيْءٌ يَسْجُدُ قَبْلَ السَّلَامِ، قَالَ: وَلَوْلَا مَا رُوِيَ عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ لَرَأَيْتُهُ كُلَّهُ قَبْلَ السَّلَامِ، لِأَنَّهُ مِنْ شَأْنِ الصَّلَاةِ، فَيَفْعَلُهُ قَبْلَ السَّلَامِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ مِثْلَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ شَيْءٌ يُفَرَّقُ فِيهِ بَيْنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، فَحَرَّرَ مَذْهَبَهُ مِنْ قَوْلَيْ أَحْمَدَ، وَمَالِكٍ، وَهُوَ أَعْدَلُ الْمَذَاهِبِ فِيمَا يَظْهَرُ. وَأَمَّا دَاوُدُ فَجَرَى عَلَى ظَاهِرِيَّتِهِ، فَقَالَ: لَا يُشْرَعُ سُجُودُ السَّهْوِ إِلَّا فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي سَجَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا فَقَطْ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ سُجُودُ السَّهْوِ كُلُّهُ قَبْلَ السَّلَامِ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كُلُّهُ بَعْدَ السَّلَامِ، وَاعْتَمَدَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى حَدِيثِ الْبَابِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِزِيَادَةِ الرَّكْعَةِ إِلَّا بَعْدَ السَّلَامِ حِينَ سَأَلُوهُ: هَلْ زِيدَ فِي الصَّلَاةِ؟ وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عَلَى أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ لِتَعَذُّرِهِ قَبْلَهُ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِالسَّهْوِ، وَإِنَّمَا تَابَعَهُ الصَّحَابَةُ لِتَجْوِيزِهِمُ الزِّيَادَةَ فِي الصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ كَانَ زَمَانَ تَوَقُّعِ النَّسْخِ.

وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِمَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنَ الزِّيَادَةِ، وَهِيَ: إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ، فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ لْيُسَلِّمْ، ثُمَّ يَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَبْوَابِ الْقِبْلَةِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مُعَارَضٌ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَلَفْظُهُ: إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى، فَلْيَطْرَحِ الشَّكَّ، وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ. وَبِهِ تَمَسَّكَ الشَّافِعِيَّةُ. وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَهُمَا بِحَمْلِ الصُّورَتَيْنِ عَلَى حَالَتَيْنِ. وَرَجَّحَ الْبَيْهَقِيُّ طَرِيقَةَ التَّخْيِيرِ فِي سُجُودِ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ أَوْ بَعْدَهُ. وَنَقَلَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى الْجَوَازِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْأَفْضَلِ. وَكَذَا أَطْلَقَ النَّوَوِيُّ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ إِمَامَ الْحَرَمَيْنِ نَقَلَ فِي النِّهَايَةِ الْخِلَافَ فِي الْإِجْزَاءِ عَنِ الْمَذْهَبِ، وَاسْتَبْعَدَ الْقَوْلَ بِالْجَوَازِ، وَكَذَا نَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ الْخِلَافَ فِي مَذْهَبِهِمْ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنَّهُ لَا خِلَافَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَوْ سَجَدَ لِلسَّهْوِ كُلِّهِ قَبْلَ السَّلَامِ أَوْ بَعْدَهُ أَنْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. فَيُجْمَعُ بِأَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ، وَالْخِلَافَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ الْقُدُورِيُّ: لَوْ سَجَدَ لِلسَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ، رُوِيَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ أَدَاءٌ قَبْلَ وَقْتِهِ، وَصَرَّحَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ بِأَنَّ الْخِلَافَ عِنْدَهُمْ فِي الْأَوْلَوِيَّةِ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُقْنِعِ مَنْ تَرَكَ سُجُودَ السَّهْوِ الَّذِي قَبْلَ السَّلَامِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ إِنْ تَعَمَّدَ، وَإِلَّا فَيَتَدَارَكُهُ

ص: 94

مَا لَمْ يَطُلِ الْفَصْلُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْإِجْمَاعُ الَّذِي نَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ قَبْلَ هَذِهِ الْآرَاءِ فِي الْمَذَاهِبِ الْمَذْكُورَةِ. وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: لَا حُجَّةَ لِلْعِرَاقِيِّينَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ لِأَنَّهُمْ خَالَفُوهُ، فَقَالُوا: إِنْ جَلَسَ الْمُصَلِّي فِي الرَّابِعَةِ مِقْدَارَ التَّشَهُّدِ أَضَافَ إِلَى الْخَامِسَةِ سَادِسَةً، ثُمَّ سَلَّمَ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ، وَإِنْ لَمْ يَجْلِسْ فِي الرَّابِعَةِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ. وَلَمْ يُنْقَلْ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ إِضَافَةٌ سَادِسَةٌ وَلَا إِعَادَةٌ، وَلَا بُدَّ مِنْ أَحَدِهِمَا عِنْدَهُمْ. قَالَ: وَيَحْرُمُ عَلَى الْعَالِمِ أَنْ يُخَالِفَ السُّنَّةَ بَعْدَ عِلْمِهِ بِهَا.

قَوْلُهُ: (عَنِ الْحَكَمِ) هُوَ ابْنُ عُتَيْبَةَ الْفَقِيهُ الْكُوفِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ إِبْرَاهِيمَ)؛ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ النَّخَعِيُّ.

قَوْلُهُ: (صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا) كَذَا جَزَمَ بِهِ الْحَكَمُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَبْوَابِ الْقِبْلَةِ مِنْ رِوَايَةِ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَتَمُّ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ، وَفِيهِ قَالَ إِبْرَاهِيمُ: لَا أَدْرِي: زَادَ أَوْ نَقَصَ.

قَوْلُهُ: (فَقِيلَ لَهُ أَزِيدَ فِي الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ: وَمَا ذَاكَ؟). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سُوَيْدٍ النَّخَعِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِلَفْظِ: فَلَمَّا انْفَتَلَ تَوَشْوَشَ الْقَوْمُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ زِيدَ فِي الصَّلَاةِ؟ قَالَ: لَا. فَتَبَيَّنَ أَنَّ سُؤَالَهُمْ لِذَلِكَ كَانَ بَعْدَ اسْتِفْسَارِهِ لَهُمْ عَنْ مُسَارَرَتِهِمْ، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى عَظِيمِ أَدَبِهِمْ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم، وَقَوْلُهُمْ: هَلْ زِيدَ فِي الصَّلَاةِ. يُفَسِّرُ الرِّوَايَةَ الْمَاضِيَةَ فِي أَبْوَابِ الْقِبْلَةِ بِلَفْظِ: هَلْ حَدَثَ فِي الصَّلَاةِ شَيْءٌ.

(تَنْبِيهٌ): رَوَى الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ هَذَا الْحَدِيثَ مُخْتَصَرًا، وَلَفْظُهُ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَجَدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ وَالْكَلَامِ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُمْ، قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْكَلَامِ قَوْلَهُ: وَمَا ذَاكَ فِي جَوَابِ قَوْلِهِمْ: أَزِيدَ فِي الصَّلَاةِ؟ فَهَذَا نَظِيرُ مَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ قَوْلَهُ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ. فَقَدِ اخْتَلَفَ الرُّوَاةُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي قَالَهَا فِيهِ، فَفِي رِوَايَةِ مَنْصُورٍ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ سَلَامِهِ مِنْ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ، وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلُ، وَرِوَايَةُ مَنْصُورٍ أَرْجَحُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَمَا سَلَّمَ) يَأْتِي فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ أَيْضًا بِلَفْظِ: فَثَنَى رِجْلَيْهِ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ. وَتَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ مَنْصُورٍ: وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ. وَفِيهِ الزِّيَادَةُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا، وَهِيَ: إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاةٍ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ، فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مِسْعَرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ: فَأَيُّكُمْ شَكَّ فِي صَلَاةٍ فَلْيَنْظُرْ أَحْرَى ذَلِكَ إِلَى الصَّوَابِ. وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ: فَلْيَتَحَرَّ أَقْرَبَ ذَلِكَ إِلَى الصَّوَابِ. وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ فُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ، عَنْ مَنْصُورٍ: فَلْيَتَحَرَّ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ الصَّوَابُ. زَادَ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ مِسْعَرٍ: فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ. وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالتَّحَرِّي، فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: هُوَ الْبِنَاءُ عَلَى الْيَقِينِ لَا عَلَى الْأَغْلَبِ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي الذِّمَّةِ بِيَقِينٍ فَلَا تَسْقُطُ إِلَّا بِيَقِينٍ. وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: التَّحَرِّي فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ يُفَسِّرُهُ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ، يَعْنِي الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِلَفْظِ: وَإِذَا لَمْ يَدْرِ أَصَلَّى ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا فَلْيَطْرَحِ الشَّكَّ، وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ. وَرَوَى سُفْيَانُ فِي جَامِعِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَتَوَخَّ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ أَتَمَّ. انْتَهَى. وَفِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ نَحْوَهُ، وَلَفْظُهُ: قَوْلُهُ فَلْيَتَحَرَّ؛ أَيْ فِي الَّذِي يَظُنُّ أَنَّهُ نَقَصَهُ فَلْيُتِمَّهُ، فَيَكُونُ التَّحَرِّي أَنْ يُعِيدَ مَا شَكَّ فِيهِ، وَيَبْنِيَ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ، وَهُوَ كَلَامٌ عَرَبِيٌّ مُطَابِقٌ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، إِلَّا أَنَّ الْأَلْفَاظَ تَخْتَلِفُ.

وَقِيلَ: التَّحَرِّي الْأَخْذُ بِغَالِبِ الظَّنِّ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَاتِ الَّتِي عِنْدَ مُسْلِمٍ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ: الْبِنَاءُ غَيْرُ التَّحَرِّي، فَالْبِنَاءُ أَنْ يَشُكَّ فِي الثَّلَاثِ أَوِ الْأَرْبَعِ مَثَلًا، فَعَلَيْهِ أَنْ يُلْغِيَ الشَّكَّ، وَالتَّحَرِّي أَنْ يَشُكَّ فِي صَلَاتِهِ فَلَا يَدْرِي مَا صَلَّى، فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى الْأَغْلَبِ عِنْدَهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: التَّحَرِّي لِمَنِ اعْتَرَاهُ الشَّكُّ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، فَيَبْنِي عَلَى غَلَبَةِ ظَنِّهِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَعَنْ أَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ: التَّحَرِّي يَتَعَلَّقُ بِالْإِمَامِ فَهُوَ الَّذِي يَبْنِي عَلَى مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ، وَأَمَّا الْمُنْفَرِدُ فَيَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ دَائِمًا. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ

ص: 95

أُخْرَى كَالشَّافِعِيَّةِ، وَأُخْرَى كَالْحَنَفِيَّةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ طَرَأَ الشَّكُّ أَوَّلًا اسْتَأْنَفَ، وَإِنْ كَثُرَ بَنَى عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ، وَإِلَّا فَعَلَى الْيَقِينِ. وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ أَنَّ الْجُمْهُورَ مَعَ الشَّافِعِيِّ، وَأَنَّ التَّحَرِّي هُوَ الْقَصْدُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} ، وَحَكَى الْأَثْرَمُ، عَنْ أَحْمَدَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: لَا غِرَارَ فِي صَلَاةٍ. قَالَ: أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْهَا إِلَّا عَلَى يَقِينٍ، فَهَذَا يُقَوِّي قَوْلَ الشَّافِعِيِّ.

وَأُبْعِدُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ لَفْظَ التَّحَرِّي فِي الْخَبَرِ مُدْرَجٌ مِنْ كَلَامِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَوْ مِمَّنْ دُونَهُ لِتَفَرُّدِ مَنْصُورٍ بِذَلِكَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ دُونَ رُفْقَتِهِ، لِأَنَّ الْإِدْرَاجَ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ صَلَّى خَمْسًا سَاهِيًا وَلَمْ يَجْلِسْ فِي الرَّابِعَةِ أَنَّ صَلَاتَهُ لَا تَفْسُدُ خِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ، وَقَوْلُهُمْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ قَعَدَ فِي الرَّابِعَةِ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، بَلِ السِّيَاقُ يُرْشِدُ إِلَى خِلَافِهِ، وَعَلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى سَبِيلِ السَّهْوِ لَا تُبْطِلُهَا خِلَافًا لِبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا كَثُرَتْ، وَقَيَّدَ بَعْضُهُمُ الزِّيَادَةَ بِمَا يَزِيدُ عَلَى نِصْفِ الصَّلَاةِ، وَعَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِسَهْوِهِ إِلَّا بَعْدَ السَّلَامِ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، فَإِنْ طَالَ الْفَصْلُ، فَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَفُوتُ مَحَلَّهُ، وَاحْتَجَّ لَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِتَعْقِيبِ إِعْلَامِهِمْ لِذَلِكَ بِالْفَاءِ، وَتَعْقِيبِهِ السُّجُودَ أَيْضًا بِالْفَاءِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لَا يَخْفَى. وَعَلَى أَنَّ الْكَلَامَ الْعَمْدَ فِيمَا يُصْلِحُ بِهِ الصَّلَاةَ لَا يُفْسِدُهَا، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَأَنَّ مَنْ تَحَوَّلَ عَنِ الْقِبْلَةِ سَاهِيًا لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، وَفِيهِ إِقْبَالُ الْإِمَامِ عَلَى الْجَمَاعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ. وَاسْتَدَلَّ الْبَيْهَقِيُّ عَلَى أَنَّ عُزُوبَ النِّيَّةِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِالصَّلَاةِ لَا يُبْطِلُهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ بَقِيَّةُ مَبَاحِثِهِ فِي أَبْوَابِ الْقِبْلَةِ.

‌3 - بَاب إِذَا سَلَّمَ فِي رَكْعَتَيْنِ أَوْ فِي ثَلَاثٍ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ مِثْلَ سُجُودِ الصَّلَاةِ أَوْ أَطْوَلَ

1227 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ أَوْ الْعَصْرَ فَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ: الصَّلَاةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَقَصَتْ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ: أَحَقٌّ مَا يَقُولُ؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ. قَالَ سَعْدٌ: وَرَأَيْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ صَلَّى مِنْ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ، فَسَلَّمَ وَتَكَلَّمَ، ثُمَّ صَلَّى مَا بَقِيَ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَقَالَ: هَكَذَا فَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا سَلَّمَ فِي رَكْعَتَيْنِ أَوْ فِي ثَلَاثٍ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ مِثْلَ سُجُودِ الصَّلَاةِ أَوْ أَطْوَلَ). فِي رِوَايَةٍ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ: فَسَجَدَ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ الْجَوَابُ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: مَا يَكُونُ الْحُكْمُ فِي نَظَائِرِهِ. أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِهِ إِلَّا التَّسْلِيمُ فِي ثِنْتَيْنِ، نَعَمْ وَرَدَ التَّسْلِيمُ فِي ثَلَاثٍ فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي كَوْنِهِمَا قِصَّتَيْنِ أَوْلا فِي الْكَلَامِ عَلَى تَسْمِيَةِ ذِي الْيَدَيْنِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: مِثْلَ سُجُودِ الصَّلَاةِ أَوْ أَطْوَلَ. فَهُوَ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.

قَوْلُهُ: (صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ظَاهِرٌ فِي أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَضَرَ الْقِصَّةَ، وَحَمَلَهُ الطَّحَاوِيُّ عَلَى الْمَجَازِ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ صَلَّى بِالْمُسْلِمينَ، وَسَبَبُ ذَلِكَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ: إِنَّ صَاحِبَ الْقِصَّةِ اسْتُشْهِدَ بِبَدْرٍ، فَإِنَّ مُقْتَضَاهُ أَنْ تَكُونَ الْقِصَّةُ وَقَعَتْ قَبْلَ بَدْرٍ، وَهِيَ قَبْلَ إِسْلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِأَكْثَرَ مِنْ خَمْسِ سِنِينَ

(1)

، لَكِنِ اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ - كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ - عَلَى أَنَّ الزُّهْرِيَّ

(1)

صوابه بأكثر من أربع سنين، لأن غزوة بدر وقعت في رمضان من السنة الثانية من الهجرة، وإسلام أبي هريرة وقع في عام خيبر في أول سنة سبع، فتأمل. والله أعلم.

ص: 96

وَهِمَ فِي ذَلِكَ، وَسَبَبُهُ أَنَّهُ جَعَلَ الْقِصَّةَ لِذِي الشِّمَالَيْنِ، وَذُو الشِّمَالَيْنِ هُوَ الَّذِي قُتِلَ بِبَدْرٍ وَهُوَ خُزَاعِيٌّ، وَاسْمُهُ عُمَيْرُ بْنُ عَبْدِ عَمْرِو بْنِ نَضْلَةَ، وَأَمَّا ذُو الْيَدَيْنِ فَتَأَخَّرَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمُدَّةٍ، لِأَنَّهُ حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، كَمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ سُلَمِيٌّ وَاسْمُهُ الْخِرْبَاقُ عَلَى مَا سَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ. وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، فَلَمَّا وَقَعَ عِنْدَ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ: فَقَامَ ذُو الشِّمَالَيْنِ.

وَهُوَ يَعْرِفُ أَنَّهُ قُتِلَ بِبَدْرٍ، قَالَ لِأَجْلِ ذَلِكَ: إَنَّ الْقِصَّةَ وَقَعَتْ قَبْلَ بَدْرٍ، وَقَدْ جَوَّزَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ أَنْ تَكُونَ الْقِصَّةُ وَقَعَتْ لِكُلٍّ مِنْ ذِي الشِّمَالَيْنِ، وَذِي الْيَدَيْنِ وَأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَوَى الْحَدِيثَيْنِ، فَأَرْسَلَ أَحَدَهُمَا، وَهُوَ قِصَّةُ ذِي الشِّمَالَيْنِ، وَشَاهَدَ الْآخَرَ وَهِيَ قِصَّةُ ذِي الْيَدَيْنِ، وَهَذَا مُحْتَمَلٌ مِنْ طَرِيقِ الْجَمْعِ، وَقِيلَ: يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ ذَا الشِّمَالَيْنِ كَانَ يُقَالُ لَهُ أَيْضًا: ذُو الْيَدَيْنِ وَبِالْعَكْسِ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلِاشْتِبَاهِ. وَيَدْفَعُ الْمَجَازَ الَّذِي ارْتَكَبَهُ الطَّحَاوِيُّ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: بَيْنَمَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَقَدِ اتَّفَقَ مُعْظَمُ أَهْلِ الْحَدِيثِ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ وَغَيْرِهِمْ عَلَى أَنَّ ذَا الشِّمَالَيْنِ غَيْرُ ذِي الْيَدَيْنِ، وَنَصَّ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ.

قَوْلُهُ: (الظُّهْرَ أَوِ الْعَصْرَ) كَذَا فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ عَنْ آدَمَ، عَنْ شُعْبَةَ بِالشَّكِّ، وَتَقَدَّمَ فِي أَبْوَابِ الْإِمَام عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ، عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ الظُّهْرَ بِغَيْرِ الشَّكِّ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ الْمَذْكُورِ: صَلَاةَ الظُّهْرِ. وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سُفْيَانَ مَوْلَى ابْنِ أَبِي أَحْمَدَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الْعَصْرَ بِغَيْرِ شَكٍّ، بَعْدَ بَابٍ لِلْمُصَنِّفِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ قَالَ: وَأَكْثَرُ ظَنِّي أَنَّهَا الْعَصْرُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ تَشْبِيكِ الْأَصَابِعِ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: إِحْدَى صَلَاتَيِ الْعَشِيِّ.

قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: سَمَّاهَا أَبُو هُرَيْرَةَ، وَلَكِنْ نَسِيتُ أَنَا، وَلِمُسْلِمٍ: إِحْدَى صَلَاتَيِ الْعَشِيِّ، إِمَّا الظُّهْرُ وَإِمَّا الْعَصْرُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِيهِ مِنَ الرُّوَاةِ. وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ: يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْقِصَّةَ وَقَعَتْ مَرَّتَيْنِ، بَلْ رَوَى النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّ الشَّكَّ فِيهِ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَفْظُهُ: صَلَّى صلى الله عليه وسلم إِحْدَى صَلَاتَيِ الْعَشِيِّ - قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ - وَلَكِنِّي نَسِيتُهَا. فَالظَّاهِرُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَوَاهُ كَثِيرًا عَلَى الشَّكِّ، وَكَانَ رُبَّمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهَا الظُّهْرُ فَجَزَمَ بِهَا، وَتَارَةً غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهَا الْعَصْرُ فَجَزَمَ بِهَا، وَطَرَأَ الشَّكُّ فِي تَعْيِينِهَا أَيْضًا عَلَى ابْنِ سِيرِينَ، وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ الِاهْتِمَامَ بِمَا فِي الْقِصَّةِ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَمْ تَخْتَلِفِ الرُّوَاةُ فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ فِي قِصَّةِ الْخِرْبَاقِ أَنَّهَا الْعَصْرُ، فَإِنْ قُلْنَا إَنَّهُمَا قِصَّةٌ وَاحِدَةٌ فَيَتَرَجَّحُ رِوَايَةُ مَنْ عَيَّنَ الْعَصْرَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.

قَوْلُهُ: (فَسَلَّمَ) زَادَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ مُعَاذٍ، عَنْ شُعْبَةَ: فِي الرَّكْعَتَيْنِ. وَسَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، وَفِي الَّذِي يَلِيهِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ ابْنِ سِيرِينَ بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ، وَنَسْتَوْفِي الْكَلَامَ عَلَيْهِ ثَمَّ.

قَوْلُهُ: (قَالَ سَعْدٌ) يَعْنِي ابْنَ إِبْرَاهِيمَ رَاوِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ بِالْإِسْنَادِ الْمُصَدَّرِ بِهِ الْحَدِيثُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ مُفْرَدًا. وَهَذَا الْأَثَرُ يُقَوِّي قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْكَلَامَ لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ لَا يُبْطِلُهَا، لَكِنْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عُرْوَةُ تَكَلَّمَ سَاهِيًا، أَوْ ظَانًّا أَنَّ الصَّلَاةَ تَمَّتْ، وَمُرْسَلُ عُرْوَةَ هَذَا مِمَّا يُقَوِّي طَرِيقَ أَبِي سَلَمَةَ الْمَوْصُولَةَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عُرْوَةُ حَمَلَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَدْ رَوَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ جَمَاعَةٌ مِنْ رُفْقَةِ عُرْوَةَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَابْنِ الْمُسَيَّبِ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْفُقَهَاءِ.

‌4 - بَاب مَنْ لَمْ يَتَشَهَّدْ فِي سَجْدَتَيْ اَلسَّهْو

وَسَلَّمَ أَنَسٌ وَالْحَسَنُ وَلَمْ يَتَشَهَّدَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا يَتَشَهَّدُ

ص: 97

1228 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ أَبِي تَمِيمَةَ السَّخْتِيَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم انْصَرَفَ مِنْ اثْنَتَيْنِ، فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ: أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ؟ فَقَالَ النَّاسُ: نَعَمْ. فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى اثْنَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ.

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ قَالَ: قُلْتُ لِمُحَمَّدٍ: فِي سَجْدَتَيْ السَّهْوِ تَشَهُّدٌ؟ قَالَ: لَيْسَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ لَمْ يَتَشَهَّدْ فِي سَجْدَتَيِ السَّهْوِ)؛ أَيْ إِذَا سَجَدَهُمَا بَعْدَ السَّلَامِ مِنَ الصَّلَاةِ، وَأَمَّا قَبْلَ السَّلَامِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعِيدُ التَّشَهُّدَ، وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَنِ اللَّيْثِ أَنَّهُ يُعِيدُهُ، وَعَنِ الْبُوَيْطِيِّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ مِثْلَهُ، وَخَطَّئوهُ فِي هَذَا النَّقْلِ، فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ، وَعَنْ عَطَاءٍ يَتَخَيَّرُ، وَاخْتُلِفَ فِيهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَأَمَّا مَنْ سَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ فَحَكَى التِّرْمِذِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ أَنَّهُ يَتَشَهَّدُ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَنَقَلَهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ عَنِ الْقَدِيمِ، لَكِنْ وَقَعَ فِي مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: إِذَا سَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ تَشَهَّدَ، أَوْ قَبْلَ السَّلَامِ أَجْزَأَهُ التَّشَهُّدُ الْأَوَّلُ، وَتَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ هَذَا النَّصَّ عَلَى أَنَّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى الْقَوْلِ الْقَدِيمِ، وَفِيهِ مَا لَا يَخْفَى.

قَوْلُهُ: (وَسَلَّمَ أَنَسٌ، وَالْحُسْنُ وَلَمْ يَتَشَهَّدَا) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ عَنْهُمَا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ قَتَادَةُ لَا يَتَشَهَّدُ) كَذَا فِي الْأُصُولِ الَّتِي وَقَفْتُ عَلَيْهَا مِنَ الْبُخَارِيِّ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: يَتَشَهَّدُ فِي سَجْدَتَيِ السَّهْوِ وَيُسَلِّمُ، فَلَعَلَّ لَا فِي التَّرْجَمَةِ زَائِدَةٌ، وَيَكُونُ قَتَادَةُ اخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى اثْنَتَيْنِ) لَمْ يَقَعْ فِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَفْظُ الْقِيَامِ، وَقَدِ اسْتُشْكِلَ، لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ قَائِمًا. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: فَقَامَ؛ أَيِ اعْتَدَلَ، لِأَنَّهُ كَانَ مُسْتَنِدًا إِلَى الْخَشَبَةِ كَمَا سَيَأْتِي، أَوْ هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ أَحْرَمَ ثُمَّ جَلَسَ ثُمَّ قَامَ، كَذَا قَالَ وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا.

قَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: (ثُمَّ رَفَعَ) زَادَ فِي بَابِ خَبَرِ الْوَاحِدِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: ثُمَّ كَبَّرَ، ثُمَّ رَفَعَ، ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ، ثُمَّ رَفَعَ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى التَّكْبِيرِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا حَمَّادٌ) هُوَ ابْنُ زَيْدٍ، وَكَذَا ثَبَتَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ) هُوَ التَّمِيمِيُّ أَبُو بِشْرٍ، وَرُبَّمَا اشْتَبَهَ بِمَسْلَمَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ الْمُزَنِيِّ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو مُحَمَّدٍ؛ لِكَوْنِهِمَا بَصْرِيَّيْنِ مُتَقَارِبَيِ الطَّبَقَةِ، لَكِنَّ الثَّانِيَ بِزِيَادَةِ مِيمٍ فِي أَوَّلِهِ، وَلَمْ يُخَرِّجْ لَهُ الْبُخَارِيُّ شَيْئًا.

قَوْلُهُ: (قُلْتُ لِمُحَمَّدٍ) هُوَ ابْنُ سِيرِينَ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ: سَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ: لَيْسَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ: فَقَالَ: لَمْ أَحْفَظْ فِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ شَيْئًا، وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَتَشَهَّدَ. وَقَدْ يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: لَيْسَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ. فَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ أَشْعَثَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهِمْ فَسَهَا، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ تَشَهَّدَ، ثُمَّ سَلَّمَ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: مَا رَوَى ابْنُ سِيرِينَ، عَنْ خَالِدٍ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ. انْتَهَى. وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَكَابِرِ عَنِ الْأَصَاغِرِ. وَضَعَّفَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ

ص: 98

وَغَيْرِهِمَا، وَوَهَّمُوا رِوَايَةَ أَشْعَثَ لِمُخَالَفَتِهِ غَيْرَهُ مِنَ الْحُفَّاظِ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، فَإِنَّ الْمَحْفُوظَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ التَّشَهُّدِ. وَرَوَى السَّرَّاجُ مِنْ طَرِيقِ سَلَمَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ أَيْضًا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: قُلْتُ لِابْنِ سِيرِينَ: فَالتَّشَهُّدُ؟ قَالَ: لَمْ أَسْمَعْ فِي التَّشَهُّدِ شَيْئًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ تَشْبِيكِ الْأَصَابِعِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: نُبِّئْتُ أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ قَالَ: ثُمَّ سَلَّمَ.

وَكَذَا الْمَحْفُوظُ عَنْ خَالِدٍ الحذاءِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ؛ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ التَّشَهُّدِ كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، فَصَارَتْ زِيَادَةُ أَشْعَثَ شَاذَّةً، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَحْسَبُ التَّشَهُّدَ فِي سُجُودِ السَّهْوِ يَثْبُتُ. لَكِنْ قَدْ وَرَدَ فِي التَّشَهُّدِ فِي سُجُودِ السَّهْوِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَعَنِ الْمُغِيرَةِ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ وَفِي إِسْنَادِهِمَا ضَعْفٌ، فَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ الْأَحَادِيثَ الثَّلَاثَةَ فِي التَّشَهُّدِ بِاجْتِمَاعِهَا تَرْتَقِي إِلَى دَرَجَةِ الْحَسَنِ، قَالَ الْعَلَائِيُّ: وَلَيْسَ ذَلِكَ بِبَعِيدٍ، وَقَدْ صَحَّ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ قَوْلِهِ: أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ.

‌5 - بَاب مَنْ يُكَبِّرُ فِي سَجْدَتَيْ السَّهْوِ

1229 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِحْدَى صَلَاتَيْ الْعَشِيِّ - قَالَ مُحَمَّدٌ: وَأَكْثَرُ ظَنِّي أنها الْعَصْرَ - رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى خَشَبَةٍ فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا، وَفِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ رضي الله عنهما فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ، وَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ، فَقَالُوا: أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ؟ وَرَجُلٌ يَدْعُوهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذا الْيَدَيْنِ فَقَالَ: أَنَسِيتَ أَمْ قَصُرَتْ؟ فَقَالَ: لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ. قَالَ: بَلَى قَدْ نَسِيتَ. فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَكَبَّرَ ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ فَكَبَّرَ فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ.

1230 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ بُحَيْنَةَ الأَسْدِيِّ حَلِيفِ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ وَعَلَيْهِ جُلُوسٌ فَلَمَّا أَتَمَّ صَلَاتَهُ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ فَكَبَّرَ فِي كُلِّ سَجْدَةٍ وَهُوَ جَالِسٌ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ وَسَجَدَهُمَا النَّاسُ مَعَهُ مَكَانَ مَا نَسِيَ مِنْ الْجُلُوسِ" تَابَعَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ فِي التَّكْبِيرِ

قَوْلُهُ: (بَابُ يُكَبِّرُ فِي سَجْدَتَيِ السَّهْوِ) اخْتُلِفَ فِي سُجُودِ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ: هَلْ يُشْتَرَطُ لَهُ تَكْبِيرَةُ إِحْرَامٍ أَوْ يُكْتَفَى بِتَكْبِيرِ السُّجُودِ؟ فَالْجُمْهُورُ عَلَى الِاكْتِفَاءِ، وَهُوَ ظَاهِرُ غَالِبِ الْأَحَادِيثِ. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ قَوْلَ مَالِكٍ لَمْ يُخْتَلَفْ فِي وُجُوبِ السَّلَامِ بَعْدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ، قَالَ: وَمَا يُتَحَلَّلُ مِنْهُ بِسَلَامٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَكْبِيرَةِ إِحْرَامٍ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، قَالَ: فَكَبَّرَ، ثُمَّ كَبَّرَ، وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: فَكَبَّرَ ثُمَّ كَبَّرَ إِلَّا حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ، فَأَشَارَ إِلَى شُذُوذِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا: قَوْلُهُ؛ يَعْنِي فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ الْمَاضِيَةِ: فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّرَ، ثُمَّ سَجَدَ. يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّكْبِيرَةَ لِلْإِحْرَامِ، لِأَنَّهُ أَتَى ثُمَّ الَّتِي تَقْتَضِي التَّرَاخِيَ، فَلَوْ كَانَ التَّكْبِيرُ لِلسُّجُودِ لَكَانَ مَعَهُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ بِلَفْظِ: فَصَلَّى مَا تَرَكَ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ. فَأَتَى بِوَاوِ الْمُصَاحَبَةِ الَّتِي تَقْتَضِي الْمَعِيَّةَ.

ص: 99

وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هُوَ التُّسْتَرِيُّ، وَمُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ سِيرِينَ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (وَأَكْثَرُ ظَنِّي أَنَّهَا الْعَصْرُ)؛ هُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَإِنَّمَا رَجَّحَ ذَلِكَ عِنْدَهُ لِأَنَّ فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ الْجَزْمَ بِأَنَّهَا الْعَصْرُ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ قَبْلُ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَامَ إِلَى خَشَبَةٍ فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ) أَيْ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ.

قَوْلُهُ: (فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا) تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ بِلَفْظِ: فَقَامَ إِلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ فِي الْمَسْجِدِ؛ أَيْ مَوْضُوعَةٍ بِالْعَرْضِ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَيُّوبَ: ثُمَّ أَتَى جِذْعًا فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ، فَاسْتَنَدَ إِلَيْهَا مُغْضَبًا. وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ، لِأَنَّهَا تُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْجِذْعَ قَبْلَ اتِّخَاذِ الْمِنْبَرِ كَانَ مُمْتَدًّا بِالْعَرْضِ، وَكَأَنَّهُ الْجِذْعُ الَّذِي كَانَ صلى الله عليه وسلم يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ قَبْلَ اتِّخَاذِ الْمِنْبَرِ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ.

قَوْلُهُ: (فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَوْنٍ: فَهَابَاهُ بِزِيَادَةِ الضَّمِيرِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمَا غَلَبَ عَلَيْهِمَا احْتِرَامُهُ وَتَعْظِيمُهُ عَنِ الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا ذُو الْيَدَيْنِ فَغَلَبَ عَلَيْهِ حِرْصُهُ عَلَى تَعَلُّمِ الْعِلْمِ.

قَوْلُهُ: (وَخَرَجَ سَرَعَانُ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَاتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَكَّنَ الرَّاءَ، وَحَكَى عِيَاضٌ أَنَّ الْأَصِيلِيَّ ضَبَطَهُ بِضَمٍّ ثُمَّ إِسْكَانٍ، كَأَنَّهُ جَمْعُ سَرِيعٍ، كَكَثِيبٍ وَكُثْبَانَ. وَالْمُرَادُ بِهِمْ أَوَائِلُ النَّاسِ خُرُوجًا مِنَ الْمَسْجِدِ، وَهُمْ أَصْحَابُ الْحَاجَاتِ غَالِبًا.

قَوْلُهُ: (فَقَالُوا: أَقُصِرَتِ الصَّلَاةُ) كَذَا هُنَا بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَتَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَوْنٍ بِحَذْفِهَا، فَتُحْمَلُ تِلْكَ عَلَى هَذِهِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وَرَعِهِمْ إِذْ لَمْ يَجْزِمُوا بِوُقُوعِ شَيْءٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَهَابُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَسْأَلُوهُ، وَإِنَّمَا اسْتَفْهَمُوهُ لِأَنَّ الزَّمَانَ زَمَانُ النَّسْخِ. وَقُصِرَتْ بِضَمِّ الْقَافِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ؛ أَيْ أَنَّ اللَّهَ قَصَرَهَا، وَبِفَتْحٍ ثُمَّ ضَمٍّ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ؛ أَيْ صَارَتْ قَصِيرَةً. قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا أَكْثَرُ وَأَرْجَحُ.

قَوْلُهُ: (وَرَجُلٌ يَدْعُوهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؛ أَيْ يُسَمِّيهِ (ذَا الْيَدَيْنِ)، وَالتَّقْدِيرُ: وَهُنَاكَ رَجُلٌ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَوْنٍ: وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ فِي يَدِهِ طُولٌ يُقَالُ لَهُ: ذُو الْيَدَيْنِ. وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنْ طُولِهَا بِالْعَمَلِ أَوْ بِالْبَذْلِ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَجَزَمَ ابْنُ قُتَيْبَةَ بِأَنَّهُ كَانَ يَعْمَلُ بِيَدَيْهِ جَمِيعًا، وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ شُرَّاحِ التَّنْبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ قَصِيرَ الْيَدَيْنِ، فَكَأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، فَهُوَ الَّذِي فِيهِ الْخِلَافُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الصَّوَابَ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ ذِي الْيَدَيْنِ، وَذِي الشِّمَالَيْنِ، وَذَهَبَ الْأَكْثَرُ إِلَى أَنَّ اسْمَ ذِي الْيَدَيْنِ الْخِرْبَاقُ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ، وَسُكُونِ الرَّاءِ، بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ، وَآخِرُهُ قَافٌ اعْتِمَادًا عَلَى مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَلَفْظُهُ: فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: الْخِرْبَاقُ، وَكَانَ فِي يَدِهِ طُولٌ.

وَهَذَا صَنِيعُ مَنْ يُوَحِّدُ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ بِحَدِيثِ عِمْرَانَ، وَهُوَ الرَّاجِحُ فِي نَظَرِي، وَإِنْ كَانَ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَمَنْ تَبِعَهُ جَنَحُوا إِلَى التَّعَدُّدِ، وَالْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الِاخْتِلَافُ الْوَاقِعُ فِي السِّيَاقَيْنِ، فَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ السَّلَامَ وَقَعَ مِنَ اثْنَتَيْنِ، وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَامَ إِلَى خَشَبَةٍ فِي الْمَسْجِدِ، وَفِي حَدِيثِ عِمْرَانَ أَنَّهُ سَلَّمَ مِنْ ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ، وَأَنَّهُ دَخَلَ مَنْزِلَهُ لَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ، فَأَمَّا الْأَوَّلُ، فَقَدْ حَكَى الْعَلَائِيُّ أَنَّ بَعْضَ شُيُوخِهِ حَمَلَهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّهُ سَلَّمَ فِي ابْتِدَاءِ الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ وَاسْتَبْعَدَهُ، وَلَكِنَّ طَرِيقَ الْجَمْعِ يُكْتَفَى فِيهَا بِأَدْنَى مُنَاسَبَةٍ، وَلَيْسَ بِأَبْعَدَ مِنْ دَعْوَى تَعَدُّدِ الْقِصَّةِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ كَوْنُ ذِي الْيَدَيْنِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ اسْتَفْهَمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، وَاسْتَفْهَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الصَّحَابَةَ عَنْ صِحَّةِ قَوْلِهِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَلَعَلَّ الرَّاوِيَ لَمَّا رَآهُ تَقَدَّمَ مِنْ مَكَانِهِ إِلَى جِهَةِ الْخَشَبَةِ ظَنَّ أَنَّهُ دَخَلَ مَنْزِلَهُ لِكَوْنِ الْخَشَبَةِ كَانَتْ فِي جِهَةِ مَنْزِلِهِ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، وَإِلَّا فَرِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَرْجَحُ لِمُوَافَقَةِ ابْنِ عُمَرَ لَهُ عَلَى سِيَاقِهِ، كَمَا أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو دُوَادَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَلِمُوَافَقَةِ ذِي الْيَدَيْنِ نَفْسِهِ لَهُ عَلَى سِيَاقِهِ، كَمَا أَخْرَجَهُ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زِيَادَاتِ الْمُسْنَدِ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ وَغَيْرُهُمْ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ تَشْبِيكِ الْأَصَابِعِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ رَاوِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كَانَ يَرَى التَّوْحِيدَ بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ

ص: 100

قَالَ فِي آخِرِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: نُبِّئْتُ أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ قَالَ: ثُمَّ سَلَّمَ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ) كَذَا فِي أَكْثَرِ الطُّرُقِ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي نَفْيِ النِّسْيَانِ وَنَفْيِ الْقَصْرِ، وَفِيهِ تَفْسِيرٌ لِلْمُرَادِ بِقَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ، وَتَأْيِيدٌ لِمَا قَالَهُ أَصْحَابُ الْمَعَانِي: إِنَّ لَفْظَ كُلٍّ إِذَا تَقَدَّمَ وَعَقِبَهَا النَّفْيُ كَانَ نَفْيًا لِكُلِّ فَرْدٍ لَا لِلْمَجْمُوعِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا تَأَخَّرَتْ؛ كَأَنْ يَقُولَ: لَمْ يَكُنْ كُلُّ ذَلِكَ، وَلِهَذَا أَجَابَ ذُو الْيَدَيْنِ فِي رِوَايَةِ أَبِي سُفْيَانَ بِقَوْلِهِ: قَدْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ. وَأَجَابَهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِقَوْلِهِ: بَلَى قَدْ نَسِيتَ. لِأَنَّهُ لَمَّا نَفَى الْأَمْرَيْنِ، وَكَانَ مُقَرَّرًا عِنْدَ الصَّحَابِيِّ أَنَّ السَّهْوَ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَيْهِ فِي الْأُمُورِ الْبَلَاغِيَّةِ جَزَمَ بِوُقُوعِ النِّسْيَانِ لَا بِالْقَصْرِ، وَهُوَ حُجَّةٌ لِمَنْ قَالَ: إِنَّ السَّهْوَ جَائِزٌ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فِيمَا طَرِيقُهُ التَّشْرِيعُ، وَإِنْ كَانَ عِيَاضٌ نَقَلَ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ دُخُولِ السَّهْوِ فِي الْأَقْوَالِ التَّبْلِيغِيَّةِ، وَخَصَّ الْخِلَافَ بِالْأَفْعَالِ، لَكِنَّهُمْ تَعَقَّبُوهُ. نَعَمْ، اتَّفَقَ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَيْهِ، بَلْ يَقَعُ لَهُ بَيَانُ ذَلِكَ إِمَّا مُتَّصِلًا بِالْفِعْلِ أَوْ بَعْدَهُ، كَمَا وَقَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ: لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ.

ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ نَسِيَ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: لَمْ أَنْسَ؛ أَيْ فِي اعْتِقَادِي لَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الِاعْتِقَادَ عِنْدَ فَقْدِ الْيَقِينِ يَقُومُ مَقَامَ الْيَقِينِ، وَفَائِدَةُ جَوَازِ السَّهْوِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ بَيَانُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ إِذَا وَقَعَ مِثْلُهُ لِغَيْرِهِ، وَأَمَّا مَنْ مَنَعَ السَّهْوَ مُطْلَقًا فَأَجَابُوا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَجْوِبَةٍ، فَقِيلَ: قَوْلُهُ: لَمْ أَنْسَ؛ نَفْيٌ لِلنِّسْيَانِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ نَفْيُ السَّهْوِ. وَهَذَا قَوْلُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ رَدُّهُ. وَيَكْفِي فِيهِ قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: بَلَى قَدْ نَسِيتَ. وَأَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ. وَقِيلَ: قَوْلُهُ: لَمْ أَنْسَ؛ عَلَى ظَاهِرِهِ وَحَقِيقَتِهِ، وَكَانَ يَتَعَمَّدُ مَا يَقَعُ مِنْهُ مِنْ ذَلِكَ لِيَقَعَ التَّشْرِيعُ مِنْهُ بِالْفِعْلِ لِكَوْنِهِ أَبْلَغَ مِنَ الْقَوْلِ، وَتُعُقِّبَ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَاضِي فِي بَابِ التَّوَجُّهِ نَحْوَ الْقِبْلَةِ، فَفِيهِ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ. فَأَثْبَتَ الْعِلَّةَ قَبْلَ الْحُكْمِ، وَقَيَّدَ الْحُكْمَ بِقَوْلِهِ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ.

وَلَمْ يَكْتَفِ بِإِثْبَاتِ وَصْفِ النِّسْيَانِ حَتَّى دَفَعَ قَوْلَ مَنْ عَسَاهُ يَقُولُ: لَيْسَ نِسْيَانُهُ كَنِسْيَانِنَا، فَقَالَ: كَمَا تَنْسَوْنَ وَبِهَذَا الْحَدِيثِ يُرَدُّ أَيْضًا قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: (لَمْ أَنْسَ) إِنْكَارُ اللَّفْظِ الَّذِي نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ، حَيْثُ قَالَ: إِنِّي لَا أَنْسَى، وَلَكِنْ أُنَسَّى، وَإِنْكَارُ اللَّفْظِ الَّذِي أَنْكَرَهُ عَلَى غَيْرِهِ حَيْثُ قَالَ: بِئْسَمَا لِأَحَدِكُمْ أَنْ يَقُولَ: نَسِيتُ آيَةَ كَذَا وَكذَا، وَقَدْ تَعَقَّبُوا هَذَا أَيْضًا بِأَنَّ حَدِيثَ: إِنِّي لَا أَنْسَى لَا أَصْلَ لَهُ، فَإِنَّهُ مِنْ بَلَاغَاتِ مَالِكٍ الَّتِي لَمْ تُوجَدْ مَوْصُولَةً بَعْدَ الْبَحْثِ الشَّدِيدِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَمِّ إِضَافَةِ نِسْيَانِ الْآيَةِ ذَمُّ إِضَافَةِ نِسْيَانِ كُلِّ شَيْءٍ، فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا وَاضِحٌ جِدًّا، وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: (لَمْ أَنْسَ) رَاجِعٌ إِلَى السَّلَامِ؛ أَيْ سَلَّمْتُ قَصْدًا، بَانِيًا عَلَى مَا فِي اعْتِقَادِي أَنِّي صَلَّيْتُ أَرْبَعًا، وَهَذَا جَيِّدٌ، وَكَأَنَّ ذَا الْيَدَيْنِ فَهِمَ الْعُمُومَ، فَقَالَ: بَلَى نَسِيتُ وَكَأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَوْقَعَ شَكًّا احْتَاجَ مَعَهُ إِلَى اسْتِثْبَاتِ الْحَاضِرِينَ.

وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَنْدَفِعُ إِيرَادُ مَنِ اسْتَشْكَلَ كَوْنَ ذِي الْيَدَيْنِ عَدْلًا، وَلَمْ يَقْبَلْ خَبَرَهُ بِمُفْرَدِهِ، فَسَبَبُ التَّوَقُّفِ فِيهِ كَوْنُهُ أَخْبَرَ عَنْ أَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ الْمَسْئُولِ مُغَايِرٌ لِمَا فِي اعْتِقَادِهِ. وَبِهَذَا يُجَابُ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَنْ أَخْبَرَ بِأَمْرٍ حِسِّيٍّ بِحَضْرَةِ جَمْعٍ لَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ، وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِمُ التَّوَاطُؤُ، وَلَا حَامِلَ لَهُمْ عَلَى السُّكُوتِ عَنْهُ، ثُمَّ لَمْ يُكَذِّبُوهُ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ بِصِدْقِهِ، فَإِنَّ سَبَبَ عَدَمِ الْقَطْعِ كَوْنُ خَبَرِهِ مُعَارَضًا بِاعْتِقَادِ الْمَسْئُولِ خِلَافَ مَا أَخْبَرَ بِهِ. وَفِيهِ أَنَّ الثِّقَةَ إِذَا انْفَرَدَ بِزِيَادَةِ خَبَرٍ، وَكَانَ الْمَجْلِسُ مُتَّحِدًا أَوْ مَنَعَتِ الْعَادَةُ

(1)

غَفْلَتَهُمْ عَنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يُقْبَلَ خَبَرُهُ. وَفِيهِ الْعَمَلُ بِالِاسْتِصْحَابِ، لِأَنَّ ذَا الْيَدَيْنِ اسْتَصْحَبَ حُكْمَ الْإِتْمَامِ فَسَأَلَ، مَعَ كَوْنِ أَفْعَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلتَّشْرِيعِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ السَّهْوِ، وَالْوَقْتُ قَابِلٌ لِلنَّسْخِ، وَبَقِيَّةُ الصَّحَابَةِ تَرَدَّدُوا بَيْنَ الِاسْتِصْحَابِ وَتَجْوِيزِ النَّسْخِ فَسَكَتُوا. وَالسَّرَعَانُ: هُمُ الَّذِينَ بَنَوْا عَلَى النَّسْخِ فَجَزَمُوا بِأَنَّ الصَّلَاةَ

(1)

في نسخة "ومنعت العادة" بدون همزة

ص: 101

قُصِرَتْ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ الِاجْتِهَادِ فِي الْأَحْكَامِ.

وَفِيهِ جَوَازُ الْبِنَاءِ عَلَى الصَّلَاةِ لِمَنْ أَتَى بِالْمُنَافِي سَهْوًا، قَالَ سَحْنُونٌ: إِنَّمَا يَبْنِي مَنْ سَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ كَمَا فِي قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ، لِأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ عَلَى غَيْرِ الْقِيَاسِ، فَيُقْتَصَرُ بِهِ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ، وَأُلْزِمَ بِقَصْرِ ذَلِكَ عَلَى إِحْدَى صَلَاتَيِ الْعَشِيِّ، فَيَمْنَعُهُ مَثَلًا فِي الصُّبْحِ، وَالَّذِينَ قَالُوا: يَجُوزُ الْبِنَاءُ مُطْلَقًا، قَيَّدُوهُ بِمَا إِذَا لَمْ يَطُلِ الْفَصْلُ، وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ الطُّولِ، فَحَدَّهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ بِالْعُرْفِ، وَفِي الْبُوَيْطِيِّ بِقَدْرِ رَكْعَةٍ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَدْرُ الصَّلَاةِ الَّتِي يَقَعُ السَّهْوُ فِيهَا.

وَفِيهِ أَنَّ الْبَانِيَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَأَنَّ السَّلَامَ وَنِيَّةَ الْخُرُوجِ مِنَ الصَّلَاةِ سَهْوًا لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ، وَأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ، وَأَنَّ الْكَلَامَ سَهْوًا لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ. وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِهِمْ إِنَّ قِصَّةَ ذِي الْيَدَيْنِ كَانَتْ قَبْلَ نَسْخِ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ فَضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ اعْتَمَدَ عَلَى قَوْلِ الزُّهْرِيِّ أنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ بَدْرٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ إِمَّا وَهِمَ فِي ذَلِكَ، أَوْ تَعَدَّدَتِ الْقِصَّةُ لِذِي الشِّمَالَيْنِ الْمَقْتُولِ بِبَدْرٍ، وَلِذِي الْيَدَيْنِ الَّذِي تَأَخَّرَتْ وَفَاتُهُ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَدْ ثَبَتَ شُهُودُ أَبِي هُرَيْرَةَ لِلْقِصَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَشَهِدَهَا عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ وَإِسْلَامُهُ مُتَأَخِّرٌ أَيْضًا. وَرَوَى مُعَاوِيَةُ بْنُ حُدَيْجٍ - بِمُهْمَلَةٍ وَجِيمٍ، مُصَغَّرًا - قِصَّةً أُخْرَى فِي السَّهْوِ، وَوَقَعَ فِيهَا الْكَلَامُ، ثُمَّ الْبِنَاءُ، أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُمَا وَكَانَ إِسْلَامُهُ قَبْلَ مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِشَهْرَيْنِ، وَقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: وَنُهِينَا عَنِ الْكَلَامِ؛ أَيْ إِلَّا إِذَا وَقَعَ سَهْوًا أَوْ عَمْدًا لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ، فَلَا يُعَارِضُ قِصَّةَ ذِي الْيَدَيْنِ. انْتَهَى. وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي الْكَلَامِ الْعَمْدِ لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ بَعْدَ هَذَا.

وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمُقَدَّرَ فِي حَدِيثِ: رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ.؛ أَيْ إِثْمُهُمَا، وَحُكْمُهُمَا خِلَافًا لِمَنْ قَصَرَهُ عَلَى الْإِثْمِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ تَعَمُّدَ الْكَلَامِ لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ لَا يُبْطِلُهَا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَتَكَلَّمْ إِلَّا نَاسِيًا، وَأَمَّا قَوْلُ ذِي الْيَدَيْنِ لَهُ: بَلَى قَدْ نَسِيتَ.، وَقَوْلُ الصَّحَابَةِ لَهُ: صَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ، فَإِنَّهُمْ تَكَلَّمُوا مُعْتَقِدِينَ النَّسْخَ فِي وَقْتٍ يُمْكِنُ وُقُوعُهُ فِيهِ فَتَكَلَّمُوا ظَنًّا أَنَّهُمْ لَيْسُوا فِي صَلَاةٍ، كَذَا قِيلَ، وَهُوَ فَاسِدٌ، لِأَنَّهُمْ كَلَّمُوهُ بَعْدَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: لَمْ تُقْصَرْ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْطِقُوا، وَإِنَّمَا أَوْمَئُوا كَمَا عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ فِي رِوَايَةٍ سَاقَ مُسْلِمٌ إِسْنَادَهَا، وَهَذَا اعْتَمَدَهُ الْخَطَّابِيُّ وَقَالَ: حَمْلُ الْقَوْلِ عَلَى الْإِشَارَةِ مَجَازٌ سَائِغٌ بِخِلَافِ عَكْسِهِ، فَيَنْبَغي رَدُّ الرِّوَايَاتِ الَّتِي فِيهَا التَّصْرِيحُ بِالْقَوْلِ إِلَى هَذِهِ، وَهُوَ قَوِيٌّ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْ قَوْلِ غَيْرِهِ: يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ بِالنُّطْقِ، وَبَعْضَهُمْ بِالْإِشَارَةِ، لَكِنْ يَبْقَى قَوْلُ ذِي الْيَدَيْنِ: بَلَى قَدْ نَسِيتَ، وَيُجَابُ عَنْهُ وَعَنِ الْبَقِيَّةِ عَلَى تَقْدِيرِ تَرْجِيحِ أَنَّهُمْ نَطَقُوا بِأَنَّ كَلَامَهُمْ كَانَ جَوَابًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَجَوَابُهُ: لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ، كَمَا سَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُوبِ الْإِجَابَةِ عَدَمُ قَطْعِ الصَّلَاةِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ ثَبَتَ مُخَاطَبَتُهُ فِي التَّشَهُّدِ وَهُوَ حَيٌّ بِقَوْلِهِمْ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ. وَلَمْ تَفْسُدِ الصَّلَاةُ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: مَا دَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُرَاجِعُ الْمُصَلِّي فَجَائِزٌ لَهُ جَوَابُهُ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْمُرَاجَعَةُ، فَلَا يَخْتَصُّ الْجَوَازُ بِالْجَوَابِ لِقَوْلِ ذِي الْيَدَيْنِ: بَلَى قَدْ نَسِيتَ، وَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِيهِ أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ لَا يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ السَّهْوِ - وَلَوِ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ - خِلَافًا لِلْأَوْزَاعِيِّ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ النَّخَعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ أَنَّ لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَيْنِ وَوَرَدَ عَلَى وَفْقِهِ حَدِيثُ ثَوْبَانَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَإِسْنَادُهُ مُنْقَطِعٌ، وَحُمِلَ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ سَهَا بِأَيِّ سَهْوٍ كَانَ شُرِعَ لَهُ السُّجُودُ؛ أَيْ لَا يَخْتَصُّ بِمَا سَجَدَ فِيهِ الشَّارِعُ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ: سَجْدَتَا السَّهْوِ تُجْزِئَانِ مِنْ كُلِّ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ.

وَفِيهِ أَنَّ الْيَقِينَ لَا يُتْرَكُ إِلَّا بِالْيَقِينِ، لِأَنَّ ذَا الْيَدَيْنِ كَانَ عَلَى يَقِينٍ أَنَّ فَرْضَهُمُ الْأَرْبَعُ، فَلَمَّا اقْتَصَرَ فِيهَا عَلَى اثْنَتَيْنِ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ سُؤَالَهُ. وَفِيهِ أَنَّ الظَّنَّ قَدْ يَصِيرُ يَقِينًا بِخَبَرِ أَهْلِ الصِّدْقِ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَجَعَ لِخَبَرِ الْجَمَاعَةِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ

ص: 102

يَرْجِعُ لِقَوْلِ الْمَأْمُومِينَ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ، وَلَوْ لَمْ يَتَذَكَّرْ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَيَّدَهُ بِمَا إِذَا كَانَ الْإِمَامُ مُجَوِّزًا لِوُقُوعِ السَّهْوِ مِنْهُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ مُتَحَقِّقًا لِخِلَافِ ذَلِكَ أَخْذًا مِنْ تَرْكِ رُجُوعِهِ صلى الله عليه وسلم لِذِي الْيَدَيْنِ وَرُجُوعِهِ لِلصَّحَابَةِ، وَمِنْ حُجَّتِهِمْ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَاضِي: فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَعْنَى قَوْلِهِ: فَذَكِّرُونِي؛ أَيْ لِأَتَذَكَّرَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَرْجِعَ لِمُجَرَّدِ إِخْبَارِهِمْ، وَاحْتِمَالُ كَوْنِهِ تَذَكَّرَ عِنْدَ إِخْبَارِهِمْ لَا يُدْفَعُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ هَلْ يَأْخُذُ الْإِمَامُ بِقَوْلِ النَّاسِ مِنْ أَبْوَابِ الْإِمَامَةِ مَا يُقَوِّي ذَلِكَ. وَفَرَّقَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْمُخْبِرُونَ مِمَّنْ يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ فَيُقْبَلُ وَيُقَدَّمُ عَلَى ظَنِّ الْإِمَامِ أَنَّهُ قَدْ كَمَّلَ الصَّلَاةَ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ، وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْقَائِلِينَ بِالرُّجُوعِ اشْتِرَاطَ الْعَدَدِ فِي مِثْلِ هَذَا، وَأَلْحَقُوهُ بِالشَّهَادَةِ، وَفَرَّعُوا عَلَيْهِ أَنَّ الْحَاكِمَ إِذَا نَسِيَ حُكْمَهُ، وَشَهِدَ بِهِ شَاهِدَانِ أَنَّهُ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِمَا، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْهِلَالَ لَا يُقْبَلُ بِشَهَادَةِ الْآحَادِ إِذَا كَانَتِ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً، بَلْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ عَدَدِ الِاسْتِفَاضَةِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِثْبَاتِ كَوْنُهُ أَخْبَرَ عَنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِخِلَافِ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ، فَإِنَّ الْأَبْصَارَ لَيْسَتْ مُتَسَاوِيَةً فِي رُؤْيَتِهِ، بَلْ مُتَفَاوِتَةً قَطْعًا، وَعَلَى أَنَّ مَنْ سَلَّمَ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ أَتَمَّ ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ شَكٌّ: هَلْ أَتَمَّ أَوْ نَقَصَ، أَنَّهُ يَكْتَفِي بِاعْتِقَادِهِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَخْذُ بِالْيَقِينِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ ذَا الْيَدَيْنِ لَمَّا أَخْبَرَ، أَثَارَ خَبَرُهُ شَكًّا، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَرْجِعِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى اسْتَثْبَتَ.

وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ عَلَى جَوَازِ تَشْبِيكِ الْأَصَابِعِ فِي الْمَسْجِدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ، وَعَلَى أَنَّ الْإِمَامَ يَرْجِعُ لِقَوْلِ الْمَأْمُومِينَ إِذَا شَكَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْإِمَامَةِ، وَعَلَى جَوَازِ التَّعْرِيفِ بِاللَّقَبِ، وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْأَدَبِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَعَلَى التَّرْجِيحِ بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ كَانَ تَقْوِيَةَ الْأَمْرِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ، لَا تَرْجِيحَ خَبَرٍ عَلَى خَبَرٍ.

تَابَعَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ فِي التَّكْبِيرِ.

قَوْلُهُ: (الْأَسْدِيِّ) بِسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِهِ فِي أَوَّلِ أَبْوَابِ السَّهْوِ، وَأَنَّهُ يُشْرَعُ التَّكْبِيرُ لِسُجُودِ السَّهْوِ كَتَكْبِيرِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ مُطَابِقٌ لِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ مَنْ لَمْ يَرَ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ وَاجِبًا أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ فِيهِ: حَلِيفِ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَهَمٌ، وَأَنَّ الصَّوَابَ: حَلِيفِ بَنِي الْمُطَّلِبِ بِإِسْقَاطِ عَبْدِ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فِي التَّكْبِيرِ) وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهُ، وَمِنْ طَرِيقِهِ الطَّبَرَانِيُّ، وَلَفْظُهُ: يُكَبِّرُ فِي كُلِّ سَجْدَةٍ. وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ بَكْرٍ كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِلَفْظِ: فَكَبَّرَ فَسَجَدَ، ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ، ثُمَّ سَلَّمَ.

‌6 - بَاب إِذَا لَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى - ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا - سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ

1231 -

حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الدَّسْتَوَائِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا نُودِيَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لَا يَسْمَعَ الْأَذَانَ، فَإِذَا قُضِيَ الْأَذَانُ، أَقْبَلَ فَإِذَا ثُوِّبَ بِهَا أَدْبَرَ، فَإِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ يَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا وَكَذَا - مَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ - حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ إِنْ يَدْرِي كَمْ صَلَّى. فَإِذَا لَمْ يَدْرِ أَحَدُكُمْ كَمْ صَلَّى - ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا - فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا لَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى: ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِأَوَّلِ الْمَتْنِ فِي أَبْوَابِ الْأَذَانِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ إِنْ يَدْرِي، فَقَوْلُهُ: إِنْ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَهِيَ نَافِيَةٌ.

وَقَوْلُهُ: فَإِذَا

ص: 103

لَمْ يَدْرِ أَحَدُكُمْ كَمْ صَلَّى. . إِلَخْ مُسَاوٍ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ غَيْرِ مَزِيدٍ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ، لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ دَاخِلَ الصَّلَاةِ أَوْ خَارِجَهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى خَارِجِهَا فِي أَوَاخِرِ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَأَمَّا دَاخِلُهَا فَهُوَ مُعَارَضٌ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الَّذِي عِنْدَ مُسْلِمٍ، فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي الْأَمْرِ بِطَرْحِ الشَّكِّ وَالْبِنَاءِ عَلَى الْيَقِينِ، فَقِيلَ: يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِحَمْلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى مَنْ طَرَأَ عَلَيْهِ الشَّكُّ، وَقَدْ فَرَغَ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، فَإِنَّهُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى ذَلِكَ الشَّكِّ، وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ كَمَنْ طَرَأَ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ سَلَّمَ، فَلَوْ طَرَأَ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ بَنَى عَلَى الْيَقِينِ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ. وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ فِيهِ: وَهُوَ جَالِسٌ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: إِذَا شَكَّ، لَا بِقَوْلِهِ: سَجَدَ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ مَنْ سَلَكَ طَرِيقَ التَّرْجِيحِ، فَقَالَ: حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ اخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ بِخِلَافِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ وَافَقَهُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَهُوَ أَرْجَحُ، لِأَنَّ لِمُخَالِفِهِ أَنْ يَقُولَ: بَلْ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ صَحَّحَهُ مُسْلِمٌ وَالَّذِي وَصَلَهُ حَافِظٌ فَزِيَادَتُهُ مَقْبُولَةٌ، وَقَدْ وَافَقَهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْآتِي قَرِيبًا، فَيَتَعَارَضُ التَّرْجِيحُ، وَقِيلَ: يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِحَمْلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى حُكْمِ مَا يَجْبُرُ بِهِ السَّاهِي صَلَاتَهُ، وَحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عَلَى مَا يَصْنَعُهُ مِنَ الْإِتْمَامِ وَعَدَمِهِ.

(تَنْبِيهٌ): لَمْ يَقَعْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَعْيِينُ مَحَلِّ السُّجُودِ، وَلَا فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ الَّتِي فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مَرْفُوعًا: إِذَا سَهَا أَحَدُكُمْ فَلَمْ يَدْرِ: أَزَادَ أَوْ نَقَصَ، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ، ثُمَّ يُسَلِّمْ. إِسْنَادُهُ قَوِيٌّ. وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ عَنْ عَمِّهِ نَحْوَهُ بِلَفْظِ: وَهُوَ جَالِسٌ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ بِإِسْنَادِهِ، وَقَالَ فِيهِ: فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ ثُمَّ يُسَلِّمْ. قَالَ الْعَلَائِيُّ: هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِمَجْمُوعِ هَذِهِ الطُّرُقِ لَا تَنْزِلُ عَنْ دَرَجَةِ الْحَسَنِ الْمُحْتَجِّ بِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌7 - بَاب السَّهْوِ فِي الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ

وَسَجَدَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ وِتْرِهِ

1232 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّي جَاءَ الشَّيْطَانُ فَلَبَسَ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَدْرِيَ كَمْ صَلَّى، فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ.

قَوْلُهُ: (بَابٌ) بِالتَّنْوِينِ.

قَوْلُهُ: (السَّهْوُ فِي الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ) أَيْ: هَلْ يَفْتَرِقُ حُكْمُهُ أَمْ يَتَّحِدُ؟ إِلَى الثَّانِي ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ ابْنُ سِيرِينَ، وَقَتَادَةُ وَنُقِلَ عَنْ عَطَاءٍ، وَوَجْهُ أَخْذِهِ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ مِنْ جِهَةِ قَوْلِهِ: وَإِذَا صَلَّى؛ أَيِ الصَّلَاةَ الشَّرْعِيَّةَ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ فَرِيضَةً أَوْ نَافِلَةً. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي إِطْلَاقِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمَا: هَلْ هُوَ مِنَ الِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ، أَوِ الْمَعْنَوِيِّ؟ وَإِلَى الثَّانِي ذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْأُصُولِ لِجَامِعِ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي لَا تَنْفَكُّ، وَمَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ إِلَى أَنَّهُ مِنَ الِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّبَايُنِ فِي بَعْضِ الشُّرُوطِ، وَلَكِنَّ طَرِيقَةَ الشَّافِعِيِّ، وَمَنْ تَبِعَهُ فِي أَعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعَانِيهِ عِنْدَ التَّجَرُّدِ تَقْتَضِي دُخُولَ النَّافِلَةِ أَيْضًا فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ. قَرِينَةٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ الْفَرِيضَةُ، وَكَذَا قَوْلُهُ: إِذَا ثُوِّبَ أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ تَنَاوُلَ النَّافِلَةِ، لِأَنَّ الْإِتْيَانَ حِينَئِذٍ بِهَا مَطْلُوبٌ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ.

قَوْلُهُ: (وَسَجَدَ ابْنُ عَبَّاسٍ

ص: 104

سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ وِتْرِهِ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَسْجُدُ بَعْدَ وِتْرِهِ سَجْدَتَيْنِ. وَتَعَلَّقَ هَذَا الْأَثَرُ بِالتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَرَى أَنَّ الْوِتْرَ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَيَسْجُدُ مَعَ ذَلِكَ فِيهِ لِلسَّهْوِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْمَتْنِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ.

‌8 - بَاب إِذَا كُلِّمَ وَهُوَ يُصَلِّي فَأَشَارَ بِيَدِهِ وَاسْتَمَعَ

1233 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، عَنْ بُكَيْرٍ، عَنْ كُرَيْبٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَزْهَرَ رضي الله عنهم أَرْسَلُوهُ إِلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها فَقَالُوا: اقْرَأْ عليها السلام مِنَّا جَمِيعًا وَسَلْهَا عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَقُلْ لَهَا: إِنَّا أُخْبِرْنَا عَنْكِ أَنَّكِ تُصَلِّينَهُمَا، وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهَا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكُنْتُ أَضْرِبُ النَّاسَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ عَنْهَا. فَقَالَ كُرَيْبٌ: فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها، فَبَلَّغْتُهَا مَا أَرْسَلُونِي، فَقَالَتْ: سَلْ أُمَّ سَلَمَةَ. فَخَرَجْتُ إِلَيْهِمْ فَأَخْبَرْتُهُمْ بِقَوْلِهَا، فَرَدُّونِي إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ بِمِثْلِ مَا أَرْسَلُونِي بِهِ إِلَى عَائِشَةَ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رضي الله عنها: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنْهَا ثُمَّ رَأَيْتُهُ يُصَلِّيهِمَا حِينَ صَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيَّ وَعِنْدِي نِسْوَةٌ مِنْ بَنِي حَرَامٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ الْجَارِيَةَ فَقُلْتُ: قُومِي بِجَنْبِهِ قُولِي لَهُ: تَقُولُ لَكَ أُمُّ سَلَمَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ سَمِعْتُكَ تَنْهَى عَنْ هَاتَيْنِ وَأَرَاكَ تُصَلِّيهِمَا، فَإِنْ أَشَارَ بِيَدِهِ فَاسْتَأْخِرِي عَنْهُ. فَفَعَلَتْ الْجَارِيَةُ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ، فَاسْتَأْخَرَتْ عَنْهُ. فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: يَا ابنة أَبِي أُمَيَّةَ، سَأَلْتِ عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَإِنَّهُ أَتَانِي نَاسٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ فَشَغَلُونِي عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، فَهُمَا هَاتَانِ.

[الحديث 1233 - طرفه في: 4370]

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا كُلِّمَ) بِضَمِّ الْكَافِ فِي الصَّلَاةِ (وَاسْتَمَعَ) أَيِ الْمُصَلِّي لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي عَمْرٌو) هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ، وَبُكَيْرٌ بِالتَّصْغِيرِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ، وَنِصْفُ هَذَا الْإِسْنَادِ الْمُبْدَأِ بِهِ مِصْرِيُّونَ، وَالثَّانِي مَدَنِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (وَقَدْ بَلَغَنَا) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا ذَلِكَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ، فَقَدْ سَمَّى الْوَاسِطَةَ، وَهُوَ عُمَرُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَوَاقِيتِ مِنْ قَوْلِهِ: شَهِدَ عِنْدِي رِجَالٌ مَرْضِيُّونَ، وَأَرْضَاهُمْ عِنْدِي عُمَرُ، الْحَدِيثَ. وَأَمَّا الْمِسْوَرُ، وَابْنُ أَزْهَرَ، فَلَمْ أَقِفْ عَنْهُمَا عَلَى تَسْمِيَةِ الْوَاسِطَةِ، وَقَوْلُهُ قَبْلَ ذَلِكَ: وَإِنَّا أُخْبِرْنَا بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَةِ الْمُخْبِرِ، وَكَأَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَسَيَأْتِي فِي الْحَجِّ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ عَائِشَةَ مَا يَشْهَدُ لِذَلِكَ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَأَجْلَسَهُ عَلَى السَّرِيرِ، ثُمَّ قَالَ: مَا رَكْعَتَانِ يُصَلِّيهِمَا النَّاسُ بَعْدَ الْعَصْرِ؟ قَالَ ذَلِكَ مَا يُفْتِي بِهِ النَّاسَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، فَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: أَخْبَرَتْنِي بِذَلِكَ عَائِشَةُ، فَأَرْسَلَ إِلَى عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: أَخْبَرَتْنِي أُمُّ سَلَمَةَ، فَأَرْسَلَ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَانْطَلَقَتْ مَعَ الرَّسُولِ، فَذَكَرَ الْقِصَّةَ.

وَاسْمُ الرَّسُولِ الْمَذْكُورِ كَثِيرُ بْنُ الصَّلْتِ، سَمَّاهُ الطَّحَاوِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى أَبِي سَلَمَةَ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ لِكَثِيرِ بْنِ

ص: 105

الصَّلْتِ: اذْهَبْ إِلَى عَائِشَةَ فَاسْأَلْهَا، فَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: فَقُمْتُ مَعَهُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِس: اذْهَبْ مَعَهُ، فَجِئْنَاهَا فَسَأَلْنَاهَا، فَذَكَرَهُ.

قَوْلُهُ: (تُصَلِّينَهُمَا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ تُصَلِّيهِمَا بِحَذْفِ النُّونِ وَهُوَ جَائِزٌ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كُنْتُ أَضْرِبُ النَّاسَ مَعَ عُمَرَ عَنْهَا) أَيْ لِأَجْلِهَا فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: عَنْهُ، وَكَذَا فِي قَوْلِهِ: نَهَى عَنْهَا، وَكَأَنَّهُ ذَكَرَ الضَّمِيرَ عَلَى إِرَادَةِ الْفِعْلِ، وَهَذَا مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ السَّائِبِ، هُوَ ابْنُ يَزِيدَ قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ يَضْرِبُ الْمُنْكَدِرَ عَلَى الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ كُرَيْبٌ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَتْ: سَلْ أُمَّ سَلَمَةَ) زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: فَخَرَجْتُ إِلَيْهِمْ، فَأَخْبَرْتُهُمْ بِقَوْلِهَا، فَرَدُّونِي إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِلطَّحَاوِيِّ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَيْسَ عِنْدِي، وَلَكِنْ حَدَّثَتْنِي أُمُّ سَلَمَةَ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ رَأَيْتُهُ يُصَلِّيهِمَا حِينَ صَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ دَخَلَ عَلَيَّ)؛ أَيْ فَصَلَّاهُمَا حِينَئِذٍ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: ثُمَّ رَأَيْتُهُ يُصَلِّيهِمَا، أَمَّا حِينَ صَلَّاهُمَا، فَإِنَّهُ صَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ دَخَلَ عِنْدِي فَصَلَّاهُمَا.

قَوْلُهُ: (مِنْ بَنِي حَرَامٍ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَتَيْنِ.

قَوْلُهُ: (فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ الْجَارِيَةَ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ بِنْتَهَا زَيْنَبَ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ الْمُصَنَّفِ فِي الْمَغَازِي: فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ الْخَادِمَ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: يَا ابْنَةَ أَبِي أُمَيَّةَ) هُوَ وَالِدُ أُمِّ سَلَمَةَ، وَاسْمُهُ حُذَيْفَةُ - وَقِيلَ: سُهَيْلٌ - ابْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ) أَيِ اللَّتَيْنِ صَلَّيْتُهُمَا الْآنَ.

قَوْلُهُ: (وَإِنَّهُ أَتَانِي نَاسٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ) زَادَ فِي الْمَغَازِي: بِالْإِسْلَامِ مِنْ قَوْمِهِمْ فَشَغَلُونِي. وَلِلطَّحَاوِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: قَدِمَ عَلَيَّ قَلَائِصُ مِنَ الصَّدَقَةِ فَنَسِيتُهُمَا ثُمَّ ذَكَرْتُهُمَا، فَكَرِهْتُ أَنْ أُصَلِّيَهُمَا فِي الْمَسْجِدِ وَالنَّاسُ يَرَوْنَ، فَصَلَّيْتُهُمَا عِنْدَكِ. وَلَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: فَجَاءَنِي فَشَغَلَنِي. وَلَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: قَدِمَ عَلَيَّ وَفْدٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، أَوْ جَاءَتْنِي صَدَقَةٌ. وَقَوْلُهُ: مِنْ بَنِي تَمِيمٍ وَهَمٌ، وَإِنَّمَا هُمْ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ، وَكَأَنَّهُمْ حَضَرُوا مَعَهُمْ بِمَالِ الْمُصَالَحَةِ مِنْ أَهْلِ الْبَحْرَيْنِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي الْجِزْيَةِ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ صَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمُ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ، وَأَرْسَلَ أَبَا عُبَيْدَةَ، فَأَتَاهُ بِجِزْيَتِهِمْ. وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا أَنَّهُ كَانَ بَعَثَ سَاعِيًا، وَكَانَ قَدْ أَهَمَّهُ شَأْنُ الْمُهَاجِرِينَ، وَفِيهِ: فَقُلْتُ: مَا هَاتَانِ الرَّكْعَتَانِ؟ فَقَالَ: شَغَلَنِي أَمْرُ السَّاعِي.

قَوْلُهُ: (فَهُمَا هَاتَانِ) فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ مِنَ الزِّيَادَةِ: فَقُلْتُ: أُمِرْتَ بِهِمَا؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنْ كُنْتُ أُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الظُّهْرِ، فَشُغِلْتُ عَنْهُمَا، فَصَلَّيْتُهُمَا الْآنَ. وَلَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهَا: لَمْ أَرَهُ صَلَّاهُمَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ. لَكِنْ هَذَا لَا يَنْفِي الْوُقُوعَ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْهُمَا، فَقَالَتْ: كَانَ يُصَلِّيهِمَا قَبْلَ الْعَصْرِ، فَشُغِلَ عَنْهُمَا، أَوْ نَسِيَهُمَا فَصَلَّاهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ، ثُمَّ أَثْبَتَهُمَا، وَكَانَ إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَثْبَتَهَا؛ أَيْ دَاوَمَ عَلَيْهَا. وَمِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ عَنْهَا: مَا تَرَكَ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ عِنْدِي قَطُّ. وَمِنْ ثَمَّ اخْتَلَفَ نَظَرُ الْعُلَمَاءِ، فَقِيلَ: تُقْضَى الْفَوَائِتُ فِي أَوْقَاتِ الْكَرَاهَةِ لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَقِيلَ: هُوَ خَاصٌّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقِيلَ: هُوَ خَاصٌّ بِمَنْ وَقَعَ لَهُ نَظِيرُ مَا وَقَعَ لَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي أَوَاخِرِ الْمَوَاقِيتِ. وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ سِوَى مَا مَضَى جَوَازُ اسْتِمَاعِ الْمُصَلِّي إِلَى كَلَامِ غَيْرِهِ وَفَهْمِهِ لَهُ، وَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي صَلَاتِهِ. وَأَنَّ الْأَدَبَ فِي ذَلِكَ أَنْ يَقُومَ الْمُتَكَلِّمُ إِلَى جَنْبِهِ لَا خَلْفَهُ، وَلَا أَمَامَهُ، لِئَلَّا يُشَوِّشَ عَلَيْهِ بِأَنْ لَا تُمْكِنَهُ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ، وَجَوَازُ الْإِشَارَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَسَيَأْتِي فِي بَابٍ مُفْرَدٍ.

وَفِيهِ الْبَحْثُ عَنْ عِلَّةِ الْحُكْمِ وَعَنْ دَلِيلِهِ، وَالتَّرْغِيبُ فِي عُلُوِّ الْإِسْنَادِ، وَالْفَحْصُ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُتَعَارِضَيْنِ، وَأَنَّ الصَّحَابِيَّ إِذَا عَمِلَ بِخِلَافِ مَا رَوَاهُ لَا يَكُونُ كَافِيًا فِي الْحُكْمِ بِنَسْخِ مَرْوِيِّهِ، وَأَنَّ الْحُكْمَ إِذَا ثَبَتَ لَا يُزِيلُهُ إِلَّا شَيْءٌ مَقْطُوعٌ بِهِ، وَأَنَّ الْأَصْلَ اتِّبَاعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي أَفْعَالِهِ، وَأَنَّ الْجَلِيلَ مِنَ الصَّحَابَةِ

ص: 106

قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَأَنَّهُ لَا يُعْدَلُ إِلَى الْفَتْوَى بِالرَّأْيِ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ، وَأَنَّ الْعَالِمَ لَا نَقْصَ عَلَيْهِ إِذَا سُئِلَ عَمَّا لَا يَدْرِي، فَوَكَلَ الْأَمْرَ إِلَى غَيْرِهِ. وَفِيهِ قَبُولُ إخْبَارِ الْآحَادِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ فِي الْأَحْكَامِ، وَلَوْ كَانَ شَخْصًا وَاحِدًا رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً، لِاكْتِفَاءِ أُمِّ سَلَمَةَ بأَخْبَارِ الْجَارِيَةِ.

وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى فِطْنَةِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَحُسْنِ تَأَتِّيهَا بِمُلَاطَفَةِ سُؤَالِهَا وَاهْتِمَامِهَا بِأَمْرِ الدِّينِ، وَكَأَنَّهَا لَمْ تُبَاشِرِ السُّؤَالَ لِحَالِ النِّسْوَةِ اللَّاتِي كُنَّ عِنْدَهَا، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ إِكْرَامُ الضَّيْفِ وَاحْتِرَامُهُ، وَفِيهِ زِيَارَةُ النِّسَاءِ الْمَرْأَةَ، وَلَوْ كَانَ زَوْجُهَا عِنْدَهَا، وَالتَّنَفُّلُ فِي الْبَيْتِ وَلَوْ كَانَ فِيهِ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ، وَكَرَاهَةُ الْقُرْبِ مِنَ الْمُصَلِّي لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَتَرْكُ تَفْوِيتِ طَلَبِ الْعِلْمِ، وَإِنْ طَرَأَ مَا يَشْغَلُ عَنْهُ، وَجَوَازُ الِاسْتِنَابَةِ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ الْوَكِيلَ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ مُوَكِّلِهِ فِي الْفَضْلِ، وَتَعْلِيمُ الْوَكِيلِ التَّصَرُّفَ إِذَا كَانَ مِمَّنْ يَجْهَلُ ذَلِكَ، وَفِيهِ الِاسْتِفْهَامُ بَعْدَ التَّحَقُّقِ لِقَوْلِهَا: وَأَرَاكَ تُصَلِّيهِمَا وَالْمُبَادَرَةُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ الْمُشْكِلِ فِرَارًا مِنَ الْوَسْوَسَةِ، وَأَنَّ النِّسْيَانَ جَائِزٌ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لِأَنَّ فَائِدَةَ اسْتِفْسَارِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ ذَلِكَ تَجْوِيزُهَا، إِمَّا النِّسْيَانُ، وَإِمَّا النَّسْخُ، وَإِمَّا التَّخْصِيصُ بِهِ، فَظَهَرَ وُقُوعُ الثَّالِثِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌9 - بَاب الْإِشَارَةِ فِي الصَّلَاةِ.

قَالَهُ كُرَيْبٌ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

1234 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَلَغَهُ أَنَّ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ كَانَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ فِي أُنَاسٍ مَعَهُ، فَحُبِسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَحَانَتْ الصَّلَاةُ، فَجَاءَ بِلَالٌ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ حُبِسَ وَقَدْ حَانَتْ الصَّلَاةُ، فَهَلْ لَكَ أَنْ تَؤُمَّ النَّاسَ؟ قَالَ: نَعَمْ إِنْ شِئْتَ.

فَأَقَامَ بِلَالٌ وَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فَكَبَّرَ لِلنَّاسِ، وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْشِي فِي الصُّفُوفِ حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ، فَأَخَذَ النَّاسُ فِي التَّصْفِيقِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه لَا يَلْتَفِتُ فِي صَلَاتِهِ، فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ الْتَفَتَ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُهُ أَنْ يُصَلِّيَ، فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه يَدَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ، وَرَجَعَ الْقَهْقَرَى وَرَاءَهُ حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ، فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى لِلنَّاسِ، فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَا لَكُمْ حِينَ نَابَكُمْ شَيْءٌ فِي الصَّلَاةِ أَخَذْتُمْ فِي التَّصْفِيقِ؟ إِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ، مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَقُلْ: سُبْحَانَ اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ حِينَ يَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ إِلَّا الْتَفَتَ، يَا أَبَا بَكْرٍ مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ لِلنَّاسِ حِينَ أَشَرْتُ إِلَيْكَ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: مَا كَانَ يَنْبَغِي لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

1235 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ فَاطِمَةَ، عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها وَهِيَ تُصَلِّي قَائِمَةً وَالنَّاسُ قِيَامٌ فَقُلْتُ: مَا شَأْنُ النَّاسِ؟ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا إِلَى السَّمَاءِ فَقُلْتُ: آيَةٌ؟ فَقَالَتْ بِرَأْسِهَا: أَيْ نَعَمْ.

ص: 107

1236 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِهِ وَهُوَ شَاكٍ جَالِسًا، وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنْ اجْلِسُوا. فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ؛ فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا.

قوله: (باب الإشارة في الصلاة) قال ابن رشيد: هذه الترجمة أعم من كونها مرتبة على استدعاء ذلك أو غير مرتبة، بخلاف الترجمة التي قبلها، فإن الإشارة فيها لزمت من الكلام واستماعه فهي مرتبة.

(قاله كريب عن أم سلمة) يشير إلى حديث الباب الذي قبله، ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي البَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ: أَحَدُهَا حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَفِيهِ إِرَادَةُ أَبِي بَكْرٍ الصَّلَاةَ بِالنَّاسِ، وَشَاهِدُ التَّرْجَمَةِ قَوْلُهُ فِيهِ: فَأَخَذَ النَّاسُ فِي التَّصْفِيقِ. فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ كَانَ أَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ لَكِنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ، وَحَرَكَةُ الْيَدِ بِالتَّصْفِيقِ كَحَرَكَتِهَا بِالْإِشَارَةِ، وَأَخَذَهُ مِنْ جِهَةِ الِالْتِفَاتِ وَالْإِصْغَاءِ إِلَى كَلَامِ الْغَيْرِ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْإِشَارَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ بِالنَّاسِ حِينَ أَشَرْتُ إِلَيْكَ فَلَيْسَ بِمُطَابِقٍ لِلتَّرْجَمَةِ، لِأَنَّ إِشَارَتَهُ صَدَرَتْ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ بِالصَّلَاةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ سَهْلٍ مُسْتَوْفًى فِي أَبْوَابِ الْإِمَامَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: قَامَ فِي الصَّفِّ الدُّخُولُ فِي الصَّلَاةِ، لِعُدُولِهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ أَدَلُّ مِنَ الْإِشَارَةِ، وَلِمَا يُفْهِمُهُ السِّيَاقُ مِنْ طُولِ مُقَامِهِ فِي الصَّفِّ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ الْإِشَارَةُ الْمَذْكُورَةُ، وَلِأَنَّهُ دَخَلَ بِنِيَّةِ الِائْتِمَامِ بِأَبِي بَكْرٍ، وَلِأَنَّ السُّنَّةَ الدُّخُولُ مَعَ الْإِمَامِ عَلَى أَيِّ حَالَةٍ وَجَدَهُ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا.

ثَانِيهَا حَدِيثُ أَسْمَاءَ فِي الصَّلَاةِ فِي الْكُسُوفِ، أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا جِدًّا، وَشَاهِدُ التَّرْجَمَةِ قَوْلُهَا فِيهِ: فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي الْكُسُوفِ.

ثَالِثُهَا: حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي صَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِهِ جَالِسًا، وَشَاهِدُهَا قَوْلُهُ فِيهِ: فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنِ اجْلِسُوا. وَقَدْ تَقَدَّمَ مُسْتَوْفًى فِي أَبْوَابِ الْإِمَامَةِ أَيْضًا، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ مَنَعَ الْإِشَارَةَ بِالسَّلَامِ وَجَوَّزَ مُطْلَقَ الْإِشَارَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُشِيرَ آمِرًا بِالْجُلُوسِ أَوْ يُشِيرَ مُخْبِرًا بِرَدِّ السَّلَامِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَتْ أَبْوَابُ السَّهْوِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى تِسْعَةَ عَشَرَ حَدِيثًا، مِنْهَا اثْنَانِ مُعَلَّقَانِ بِمُقْتَضَى حَدِيثِ كُرَيْبٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَزْهَرَ، وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، أَرْبَعَةُ أَحَادِيثَ لِقَوْلِهِمْ فِيهِ - سِوَى أُمِّ سَلَمَةَ -: بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهَا. وَجَمِيعُهَا مُكَرَّرَةٌ فِيهِ وَفِيمَا مَضَى سِوَاهُ، إِلَّا أَنَّهُ تَكَرَّرَ مِنْهُ فِي الْمَوَاقِيتِ طَرَفٌ مُخْتَصَرٌ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَسِوَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ، وَقَدْ وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا جَمِيعِهَا، وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ خَمْسَةُ آثَارٍ: مِنْهَا أَثَرُ عُرْوَةَ الْمَوْصُولُ فِي آخِرِ الْبَابِ، وَمِنْهَا أَثَرُ عُمَرَ فِي ضَرْبِهِ عَلَى الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ. وَاللَّهُ الْهَادِي إِلَى الصَّوَابِ، وَمِنْهُ الْمَبْدَأُ وَإِلَيْهِ الْمَآبُ.

ص: 108

بسم الله الرحمن الرحيم

‌23 - كِتَاب الْجَنَائِزِ

‌1 - بَاب فِي الْجَنَائِزِ وَمَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ

وَقِيلَ لِوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: أَلَيْسَ مِفْتَاحُ الْجَنَّةِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ لَيْسَ مِفْتَاحٌ إِلَّا لَهُ أَسْنَانٌ، فَإِنْ جِئْتَ بِمِفْتَاحٍ لَهُ أَسْنَانٌ فُتِحَ لَكَ وَإِلَّا لَمْ يُفْتَحْ لَكَ

1237 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا وَاصِلٌ الْأَحْدَبُ، عَنْ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي فَأَخْبَرَنِي أَوْ قَالَ: بَشَّرَنِي أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ، قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ.

قَوْلُهُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. كِتَابُ الْجَنَائِزِ) كَذَا لِلْأَصِيلِيِّ، وَأَبِي الْوَقْتِ، وَالْبَسْمَلَةُ مِنَ الْأَصْلِ، وَلِكَرِيمَةَ بَابٌ فِي الْجَنَائِزِ وَكَذَا لِأَبِي ذَرٍّ لَكِنْ بِحَذْفِ بَابٌ وَالْجَنَائِزُ بِفَتْحِ الْجِيمِ لَا غَيْرَ، جَمْعُ جِنَازَةٍ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ لُغَتَانِ، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَجَمَاعَةٌ: الْكَسْرُ أَفْصَحُ، وَقِيلَ: بِالْكَسْرِ لِلنَّعْشِ، وَبِالْفَتْحِ لِلْمَيِّتِ، وَقَالُوا: لَا يُقَالُ: نَعْشٌ إِلَّا إِذَا كَانَ عَلَيْهِ الْمَيِّتُ.

(تَنْبِيهٌ): أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ كِتَابَ الْجَنَائِزِ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ لِتَعَلُّقِهَا بِهِمَا، وَلِأَنَّ الَّذِي يُفْعَلُ بِالْمَيِّتِ مِنْ غُسْلٍ وَتَكْفِينٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ أَهَمُّهُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ، لِمَا فِيهَا مِنْ فَائِدَةِ الدُّعَاءِ لَهُ بِالنَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ وَلَا سِيَّمَا عَذَابَ الْقَبْرِ الَّذِي سَيُدْفَنُ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (وَمَنْ كَانَ آخِرَ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) قِيلَ: أَشَارَ بِهَذَا إِلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ كَانَ آخِرَ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ. قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: حَذَفَ الْمُصَنِّفُ جَوَابَ مَنْ مِنَ التَّرْجَمَةِ مُرَاعَاةً لِتَأْوِيلِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ فَأَبْقَاهُ إِمَّا لِيُوَافِقَهُ أَوْ لِيُبْقِيَ الْخَبَرَ عَلَى ظَاهِرِهِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي زُرْعَةَ: أَنَّهُ لَمَّا احْتُضِرَ أَرَادُوا تَلْقَيْنَهُ، فَتَذَكَّرُوا حَدِيثَ مُعَاذٍ، فَحَدَّثَهُمْ بِهِ أَبُو زُرْعَةَ بِإِسْنَادِهِ، وَخَرَجَتْ رُوحُهُ فِي آخِرِ قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.

(تَنْبِيهٌ): كَأَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ فِي التَّلْقِينِ شَيْءٌ عَلَى شَرْطِهِ فَاكْتَفَى بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِلَفْظِ: لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ كَذَلِكَ، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: هَذَا الْخَبَرُ يَتَنَاوَلُ بِلَفْظِهِ مَنْ قَالَهَا فَبَغَتَهُ الْمَوْتُ، أَوْ طَالَتْ حَيَاتُهُ لَكِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ غَيْرِهَا، وَيَخْرُجُ بِمَفْهُومِهِ مَنْ تَكَلَّمَ لَكِنِ اسْتَصْحَبَ حُكْمَهَا مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ نُطْقٍ بِهَا، فَإِنْ عَمِلَ أَعْمَالًا سَيِّئَةً كَانَ فِي الْمَشِيئَةِ، وَإِنْ عَمِلَ أَعْمَالًا صَالِحَةً فَقَضِيَّةُ سَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِسْلَامِ النُّطْقِيِّ وَالْحُكْمِيِّ الْمُسْتَصْحَبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى. وَحَكَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ لُقِّنَ عِنْدَ الْمَوْتِ فَأُكْثِرَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِذَا قُلْتُ مَرَّةً فَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مَا لَمْ أَتَكَلَّمْ بِكَلَامٍ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَرَى التَّفْرِقَةَ فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَقِيلَ لِوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: أَلَيْسَ مِفْتَاحُ الْجَنَّةِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِلَخْ) يَجُوزُ نَصْبُ مِفْتَاحُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَرَفْعُهُ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، كَأَنَّ الْقَائِلَ أَشَارَ إِلَى مَا ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَرْسَلَ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ قَالَ لَهُ: إِذَا سُئِلْتَ عَنْ مِفْتَاحِ الْجَنَّةِ فَقُلْ: مِفْتَاحُهَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَرُوِيَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ مَرْفُوعًا نَحْوُهُ، أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ وَزَادَ: وَلَكِنْ مِفْتَاحٌ بِلَا أَسْنَانٍ، فَإِنْ جِئْتَ بِمِفْتَاحٍ لَهُ أَسْنَانٌ فُتِحَ لَكَ، وَإِلَّا لَمْ يُفْتَحْ لَكَ. وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ نَظِيرُ مَا أَجَابَ بِهِ وَهْبٌ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مُدْرَجَةً فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ. وَأَمَّا أَثَرُ وَهْبٍ فَوَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّارِيخِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ رُمَّانَةَ بِضَمِّ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، وَبَعْدَ الْأَلِفِ نُونٌ، قَالَ:

ص: 109

أَخْبَرَنِي أَبِي، قَالَ: قِيلَ لِوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، فَذَكَرَهُ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ كَلِمَتَا الشَّهَادَةِ، فَلَا يَرِدُ إِشْكَالُ تَرْكِ ذِكْرِ الرِّسَالَةِ. قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَقَبٌ جَرَى عَلَى النُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ شَرْعًا. وَأَمَّا قَوْلُ وَهْبٍ فَمُرَادُهُ بِالْأَسْنَانِ الْتِزَامُ الطَّاعَةِ، فَلَا يَرِدُ إِشْكَالُ مُوَافَقَةِ الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَمْ يُفْتَحْ لَهُ، فَكَأَنَّ مُرَادَهُ لَمْ يُفْتَحْ لَهُ فَتْحًا تَامًّا، أَوْ لَمْ يُفْتَحْ لَهُ فِي أولى الْأَمْرِ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْغَالِبِ، وَإِلَّا فَالْحَقُّ أَنَّهُمْ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَرِيبًا مِنْ كَلَامِهِ هَذَا فِي التَّهْلِيلِ، وَلَفْظُهُ: عَنْ سِمَاكِ بْنِ الْفَضْلِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: مَثَلُ الدَّاعِي بِلَا عَمَلٍ مَثَلُ الرَّامِي بِلَا وَتَرٍ. قَالَ الدَّاوُدِيُّ: قَوْلُ وَهْبٍ مَحْمُولٌ عَلَى التَّشْدِيدِ، وَلَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ؛ أَيْ حَدِيثُ الْبَابِ. وَالْحَقُّ أَنَّ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا أُتِيَ بِمِفْتَاحٍ وَلَهُ أَسْنَانٌ، ولَكِنْ مَنْ خَلَطَ ذَلِكَ بِالْكَبَائِرِ حَتَّى مَاتَ مُصِرًّا عَلَيْهَا لَمْ تَكُنْ أَسْنَانُهُ قَوِيَّةً، فَرُبَّمَا طَالَ عِلَاجُهُ. وَقَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْبُخَارِيِّ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا عِنْدَ الْمَوْتِ كَانَ ذَلِكَ مُسْقِطًا لِمَا تَقَدَّمَ لَهُ، وَالْإِخْلَاصُ يَسْتَلْزِمُ التَّوْبَةَ وَالنَّدَمَ، وَيَكُونُ النُّطْقُ عَلَمًا عَلَى ذَلِكَ. وَأَدْخَلَ حَدِيثَ أَبِي ذَرٍّ لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الِاعْتِقَادِ، وَلِهَذَا قَالَ عَقِبَ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: هَذَا عِنْدَ الْمَوْتِ أَوْ قَبْلَهُ إِذَا تَابَ وَنَدِمَ. وَمَعْنَى قَوْلِ وَهْبٍ: إِنْ جِئْتَ بِمِفْتَاحٍ لَهُ أَسْنَانٌ جِيَادٌ؛ فَهُوَ مِنْ بَابِ حَذْفِ النَّعْتِ إِذَا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، لِأَنَّ مُسَمَّى الْمِفْتَاحِ لَا يُعْقَلُ إِلَّا بِالْأَسْنَانِ، وَإِلَّا فَهُوَ عُودٌ أَوْ حَدِيدَةٌ.

[الحديث 1237 - أطرفه في: 1408، 2388، 3222، 5827، 6268، 6443، 7487]

1238 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا شَقِيقٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ وَقُلْتُ أَنَا مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ"

[الحديث 1238 - طرفاه في: 4497، 6683]

قَوْلُهُ: (أَتَانِي آتٍ) سَمَّاهُ فِي التَّوْحِيدِ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ وَاصِلٍ جِبْرِيلُ، وَجَزَمَ بِقَوْلِهِ: فَبَشَّرَنِي، وَزَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَهْدِيٍّ فِي أَوَّلِهِ قِصَّةً، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَسِيرٍ لَهُ، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ تَنَحَّى فَلَبِثَ طَوِيلًا، ثُمَّ أَتَانَا فَقَالَ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَأَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ فِي اللِّبَاسِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ أَبْيَضُ وَهُوَ نَائِمٌ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ وَقَدِ اسْتَيْقَظَ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا رُؤْيَا مَنَامٍ.

قَوْلُهُ: (مِنْ أُمَّتِي)؛ أَيْ مِنْ أُمَّةِ الْإِجَابَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ؛ أَيْ أُمَّةُ الدَّعْوَةِ وَهُوَ مُتَّجِهٌ.

قَوْلُهُ: (لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا) أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ فِي اللِّبَاسِ بِلَفْظِ: مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ، الْحَدِيثَ. وإِنَّمَا لَمْ يُورِدْهُ الْمُصَنِّفُ هُنَا جَرْيًا عَلَى عَادَتِهِ فِي إِيثَارِ الْخَفِيِّ عَلَى الْجَلِيِّ، وَذَلِكَ أَنَّ نَفْيَ الشِّرْكِ يَسْتَلْزِمُ إِثْبَاتَ التَّوْحِيدِ، وَيَشْهَدُ لَهُ اسْتِنْبَاطُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي ثَانِي

ص: 110

حَدِيثَيِ الْبَابِ مِنْ مَفْهُومِ قَوْلِهِ: مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ دَخَلَ النَّارَ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَعْنَى نَفْيِ الشِّرْكِ أَنْ لَا يَتَّخِذَ مَعَ اللَّهِ شَرِيكًا فِي الْإِلَهِيَّةِ، لَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ صَارَ بِحُكْمِ الْعُرْفِ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِيمَانِ الشَّرْعِيِّ.

قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ) قَدْ يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّ القَائِلَ ذَلِكَ هُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَالْمَقُولُ لَهُ: الْمَلَكُ الَّذِي بَشَّرَهُ بِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْقَائِلُ هُوَ أَبُو ذَرٍّ وَالْمَقُولُ لَهُ هُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَمَا بَيَّنَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي اللِّبَاسِ. وَلِلتِّرْمِذِيِّ: قَالَ أَبُو ذَرٍّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَهُ مُسْتَوْضِحًا، وَأَبُو ذَرٍّ قَالَهُ مُسْتَبْعِدًا، وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الرِّقَاقِ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ. قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ مِنْ أَحَادِيثِ الرَّجَاءِ الَّتِي أَفْضَى الِاتِّكَالُ عَلَيْهَا بِبَعْضِ الْجَهَلَةِ إِلَى الْإِقْدَامِ عَلَى الْمُوبِقَاتِ، وَلَيْسَ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَإِنَّ الْقَوَاعِدَ اسْتَقَرَّتْ عَلَى أَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ لَا تَسْقُطْ بِمُجَرَّدِ الْمَوْتِ عَلَى الْإِيمَانِ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ سُقُوطِهَا أَنْ لَا يَتَكَفَّلَ اللَّهُ بِهَا عَمَّنْ يُرِيدُ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمِنْ ثَمَّ رَدَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِي ذَرٍّ اسْتِبْعَادَهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: دَخَلَ الْجَنَّةَ؛ أَيْ صَارَ إِلَيْهَا إِمَّا ابْتِدَاءً مِنْ أَوَّلِ الْحَالِ، وَإِمَّا بَعْدَ أَنْ يَقَعَ مَا يَقَعُ مِنَ الْعَذَابِ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ: مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ نَفَعَتْهُ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ، أَصَابَهُ قَبْلَ ذَلِكَ مَا أَصَابَهُ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ حَالِهِ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ.

وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَبَائِرِ لَا يُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ، وَأَنَّ الْكَبَائِرَ لَا تَسْلُبُ اسْمَ الْإِيمَانِ، وَأَنَّ غَيْرَ الْمُوَحِّدِينَ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ. وَالْحِكْمَةُ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ الْإِشَارَةُ إِلَى جِنْسِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّ الْعِبَادِ، وَكَأَنَّ أَبَا ذَرٍّ اسْتَحْضَرَ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم: لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، لِأَنَّ ظَاهِرَهُ مُعَارِضٌ لِظَاهِرِ هَذَا الْخَبَرِ، لَكِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا عَلَى قَوَاعِدِ أَهْلِ السُّنَّةِ بِحَمْلِ هَذَا عَلَى الْإِيمَانِ الْكَامِلِ، وَبِحَمْلِ حَدِيثِ الْبَابِ عَلَى عَدَمِ التَّخْلِيدِ فِي النَّارِ.

قَوْلُهُ: (عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ)

(1)

بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ، وَيُقَالُ: بِضَمِّهَا وَكَسْرِهَا، وَهُوَ مَصْدَرُ رَغَمَ بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَكَسْرِهَا، مَأْخُوذٌ مِنَ الرَّغْمِ، وَهُوَ التُّرَابُ، وَكَأَنَّهُ دَعَا عَلَيْهِ بِأَنْ يُلْصَقَ أَنْفُهُ بِالتُّرَابِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ)؛ أَيِ ابْنُ غِيَاثٍ، وَشَقِيقٌ هُوَ أَبُو وَائِلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَكُلُّهُمْ كُوفِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ فِي تَفْسِيرِ الْبَقَرَةِ: مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ نِدًّا، وَفِي أَوَّلِهِ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَلِمَةً وَقُلْتُ أَنَا أُخْرَى. وَلَمْ تَخْتَلِفِ الرِّوَايَاتُ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي أَنَّ الْمَرْفُوعَ الْوَعِيدُ، وَالْمَوْقُوفَ الْوَعْدُ. وَزَعَمَ الْحُمَيْدِيُّ فِي الْجَمْعِ وَتَبِعَهُ مُغَلْطَايْ فِي شَرْحِهِ، وَمَنْ أَخَذَ عَنْهُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، وَابْنِ نُمَيْرٍ بِالْعَكْسِ بِلَفْظِ: مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَقُلْتُ أَنَا: مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ. وَكَأَنَّ سَبَبَ الْوَهْمِ فِي ذَلِكَ مَا وَقَعَ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ بِالْعَكْسِ، لَكِنْ بَيَّنَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَنَّ الْمَحْفُوظَ عَنْ وَكِيعٍ كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ، قَالَ: وَإِنَّمَا الْمَحْفُوظُ أَنَّ الَّذِي قَلَبَهُ أَبُو عَوَانَةَ

(2)

وَحْدَهُ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ، وَالصَّوَابُ رِوَايَةُ الْجَمَاعَةِ. وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمٍ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ يَسَارٍ

(3)

وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ الْمُغِيرَةِ كُلُّهُمْ عَنْ شَقِيقٍ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ، لِأَنَّ جَانِبَ الْوَعِيدِ ثَابِتٌ بِالْقُرْآنِ وَجَاءَتِ السُّنَّةُ عَلَى وَفْقِهِ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِنْبَاطٍ، بِخِلَافِ جَانِبِ الْوَعْدِ، فَإِنَّهُ فِي مَحَلِّ الْبَحْثِ، إِذْ لَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَكَأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَمْ يَبْلُغْهُ حَدِيثُ جَابِرٍ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِلَفْظِ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،

(1)

قول الشارح "قوله على رغم أنف أبي ذر" ليست في النسخ التي بأيدينا في هذا الباب. اهـ مصححه

(2)

في نسخة "أبو معاوية"

(3)

في نسخة "سيار"

ص: 111

مَا الْمُوجِبَتَانِ؟ قَالَ: مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْجَيِّدُ أَنْ يُقَالَ: سَمِعَ ابْنَ مَسْعُودٍ اللَّفْظَتَيْنِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَكِنَّهُ فِي وَقْتٍ حَفِظَ إِحْدَاهُمَا، وَتَيَقَّنَهَا، وَلَمْ يَحْفَظِ الْأُخْرَى، فَرَفَعَ الْمَحْفُوظَةَ، وَضَمَّ الْأُخْرَى إِلَيْهَا، وَفِي وَقْتٍ بِالْعَكْسِ. قَالَ: فَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ رِوَايَتَيِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمُوَافَقَتِهِ لِرِوَايَةِ غَيْرِهِ فِي رَفْعِ اللَّفْظَتَيْنِ. انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي قَالَ مُحْتَمَلٌ بِلَا شَكٍّ، لَكِنْ فِيهِ بُعْدٌ مَعَ اتِّحَادِ مَخْرَجِ الْحَدِيثِ، فَلَوْ تَعَدَّدَ مَخْرَجُهُ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ لَكَانَ احْتِمَالًا قَرِيبًا مَعَ أَنَّهُ يُسْتَغْرَبُ مِنَ انْفِرَادِ رَاوٍ مِنَ الرُّوَاةِ بِذَلِكَ دُونَ رُفْقَتِهِ وَشَيْخِهِمْ وَمَنْ فَوْقَهُ، فَنِسْبَةُ السَّهْوِ إِلَى شَخْصٍ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ أَوْلَى مِنْ هَذَا التَّعَسُّفِ.

(فَائِدَةٌ): حَكَى الْخَطِيبُ فِي الْمُدْرَجِ أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ عَبْدِ الْجَبَّارِ رَوَاهُ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ عَاصِمٍ مَرْفُوعًا كُلُّهُ، وَأَنَّهُ وَهم فِي ذَلِكَ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَثَرُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَخَذَهُ مِنْ ضَرُورَةِ انْحِصَارِ الْجَزَاءِ فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَفِيهِ إِطْلَاقُ الْكَلِمَةِ عَلَى الْكَلَامِ الْكَثِيرِ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ.

‌2 - بَاب الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ

1239 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْأَشْعَثِ قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ، عَنْ الْبَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: أَمَرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ، أَمَرَنَا: بِاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي، وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ، وَرَدِّ السَّلَامِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَنَهَانَا: عَنْ آنِيَةِ الْفِضَّةِ، وَخَاتَمِ الذَّهَبِ، وَالْحَرِيرِ، وَالدِّيبَاجِ، وَالْقَسِّيِّ، وَالْإِسْتَبْرَقِ.

[الحديث 1239 - أطرافه في: 2445، 175، 5635، 5650، 5838، 5849، 5863، 6222، 6235، 6654،]

1240 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ الأَوْزَاعِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ رَدُّ السَّلَامِ وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ"

تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ. وَرَوَاهُ سَلَامَةُ بْنُ رَوْحٍ عَنْ عُقَيْلٍ

قَوْلُهُ: (بَابُ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: لَمْ يُفْصِحْ بِحُكْمِهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَمَرَنَا أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِلْوُجُوبِ أَوْ لِلنَّدْبِ.

قَوْلُهُ: (عَنِ الْأَشْعَثِ) هُوَ ابْنُ أَبِي الشَّعْثَاءِ الْمُحَارِبِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ) أَوْرَدَهُ فِي الْمَظَالِمِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْأَشْعَثِ، فَقَالَ فِيهِ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَشْعَثِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ)، أَمَّا الْمَأْمُورَاتُ فَسَنَذْكُرُ شَرْحَهَا فِي كِتَابَيِ الْأَدَبِ وَاللِّبَاسِ، وَالَّذِي يَتَعَلَّقُ مِنْهَا بِهَذَا الْبَابِ اتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ. وَأَمَّا الْمَنْهِيَّاتُ، فَمَحَلُّ شَرْحِهَا كِتَابُ اللِّبَاسِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِيهِ، وَسَقَطَ مِنَ الْمَنْهِيَّاتِ فِي هَذَا الْبَابِ وَاحِدَةٌ سَهْوًا، إِمَّا مِنَ الْمُصَنِّفِ، أَوْ مِنْ شَيْخِهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ) كَذَا فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ غَيْرُ مَنْسُوبٍ، وَقَالَ الْكَلَابَاذِيُّ: هُوَ الذُّهْلِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ هُوَ التِّنِّيسِيُّ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ بِسَبَبِ أَنَّ فِي حَدِيثِهِ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ مُنَاوَلَةً وَإِجَازَةً، لَكِنْ بَيَّنَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ الْمِصْرِيُّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِيمَا سَمِعَهُ: حَدَّثَنَا، وَلَا

ص: 112

يَقُولُ ذَلِكَ فِيمَا لَمْ يَسْمَعْهُ، وَعَلَى هَذَا، فَقَدْ عَنْعَنَ هَذَا الْحَدِيثَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ، وَالْجَوَابُ عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ يَعْتَمِدُ عَلَى الْمُنَاوَلَةِ، وَيَحْتَجُّ بِهَا، وَقُصَارَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا، وَقَدْ قَوَّاهُ بِالْمُتَابَعَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا عَقِبَهُ، وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ عَمْرٌو، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ اخْتَارَ طَرِيقَ عَمْرٍو لِوُقُوعِ التَّصْرِيحِ فِيهَا بِالْإِخْبَارِ بَيْنَ الْأَوْزَاعِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ، وَمُتَابَعَةُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ الَّتِي ذَكَرَهَا وَصَلَهَا مُسْلِمٌ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: كَانَ مَعْمَرٌ يُرْسِلُ هَذَا الْحَدِيثَ، وَأَسْنَدَهُ مَرَّةً عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَدْ وَقَعَ لِي مُعَلَّقًا فِي جُزْءِ الذُّهْلِيِّ: قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَأَمَّا رِوَايَةُ سَلَامَةَ، وَهُوَ بِتَخْفِيفِ اللَّامِ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي عَقِيلٍ، فَأَظُنُّهَا فِي الزُّهْرِيَّاتِ لِلذُّهْلِيِّ، وَلَهُ نُسْخَةٌ عَنْ عَمِّهِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ يَرْوِيهَا مِنْ كِتَابٍ.

قَوْلُهُ: (حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: خَمْسٌ تَجِبُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ. وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ، وَزَادَ: وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ. وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَعْنَى الْحَقِّ هُنَا الْوُجُوبُ خِلَافًا لِقَوْلِ ابْنِ بَطَّالٍ: الْمُرَادُ حَقُّ الْحُرْمَةِ وَالصُّحْبَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُنَا وُجُوبُ الْكِفَايَةِ.

قَوْلُهُ: (رَدُّ السَّلَامِ) يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى أَحْكَامِهِ فِي الِاسْتِئْذَانِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي الْمَرْضَى، وَإِجَابَةُ الدَّاعِي يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي الْوَلِيمَةِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْأَدَبِ. وَأَمَّا اتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابِ فَضْلِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ فِي وَسَطِ كِتَابِ الْجَنَائِزِ، وَالْمَقْصُودُ هُنَا إِثْبَاتُ مَشْرُوعِيَّتِهِ، فَلَا تَكْرَارَ.

‌3 - بَاب الدُّخُولِ عَلَى الْمَيِّتِ بَعْدَ الْمَوْتِ إِذَا أُدْرِجَ فِي أَكْفَانِهِ

1241، 1242 - حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قال: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَعْمَرٌ، وَيُونُسُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ قَالَتْ: أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه عَلَى فَرَسِهِ مِنْ مَسْكَنِهِ بِالسُّنْحِ حَتَّى نَزَلَ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ فَلَمْ يُكَلِّمْ النَّاسَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها فَتَيَمَّمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُسَجًّى بِبُرْدِ حِبَرَةٍ، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ ثُمَّ بَكَى فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وأمي يَا نَبِيَّ اللَّهِ، لَا يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ، أَمَّا الْمَوْتَةُ الَّتِي كُتِبَتْ عَلَيْكَ فَقَدْ مُتَّهَا.

قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: فَأَخْبَرَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه خَرَجَ وَعُمَرُ رضي الله عنه يُكَلِّمُ النَّاسَ فَقَالَ: اجْلِسْ فَأَبَى، فَقَالَ: اجْلِسْ فَأَبَى، فَتَشَهَّدَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فَمَالَ إِلَيْهِ النَّاسُ وَتَرَكُوا عُمَرَ فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} فوَاللَّهِ لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الآية حَتَّى تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فَتَلَقَّاهَا مِنْهُ النَّاسُ، فَمَا يُسْمَعُ بَشَرٌ إِلَّا يَتْلُوهَا.

ص: 113

[الحديث 1241 - أطرافه في: 3667، 3669، 4452، 4455، 5710

[الحديث 1242 - أطرافه في: 3668، 3670، 4453، 4454، 4457، 5711]

1243 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ "أَنَّ أُمَّ الْعَلَاءِ امْرَأَةً مِنْ الأَنْصَارِ بَايَعَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ اقْتُسِمَ الْمُهَاجِرُونَ قُرْعَةً فَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فَأَنْزَلْنَاهُ فِي أَبْيَاتِنَا فَوَجِعَ وَجَعَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَغُسِّلَ وَكُفِّنَ فِي أَثْوَابِهِ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ فَقُلْتُ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ فَقَالَ أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ وَاللَّهِ إِنِّي لَارْجُو لَهُ الْخَيْرَ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي قَالَتْ فَوَاللَّهِ لَا أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا"

1244 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ مِثْلَهُ وَقَالَ نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ عُقَيْلٍ "مَا يُفْعَلُ بِهِ" وَتَابَعَهُ شُعَيْبٌ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَمَعْمَرٌ

[الحديث 1243 - أطرافه في: 2687، 3929، 7003، 7018]

1244 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُنْكَدِرِ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ لَمَّا قُتِلَ أَبِي جَعَلْتُ أَكْشِفُ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ أَبْكِي وَيَنْهَوْنِي عَنْهُ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يَنْهَانِي فَجَعَلَتْ عَمَّتِي فَاطِمَةُ تَبْكِي فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تَبْكِينَ أَوْ لَا تَبْكِينَ مَا زَالَتْ الْمَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رَفَعْتُمُوهُ" تَابَعَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ سَمِعَ جَابِرًا رضي الله عنه

[الحديث 1244 - أطرافه في: 1293، 2816، 4080]

قَوْلُهُ: (بَابُ الدُّخُولِ عَلَى الْمَيِّتِ بَعْدَ الْمَوْتِ إِذَا أُدْرِجَ فِي أَكْفَانِهِ)؛ أَيْ لُفَّ فِيهَا، قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: مَوْقِعُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ مِنَ الْفِقْهِ أَنَّ الْمَوْتَ لَمَّا كَانَ سَبَبَ تَغْيِيرِ مَحَاسِنِ الْحَيِّ الَّتِي عُهِدَ عَلَيْهَا - وَلِذَلِكَ أُمِرَ بِتَغْمِيضِهِ وَتَغْطِيَتِهِ - كَانَ ذَلِكَ مَظِنَّةً لِلْمَنْعِ مِنْ كَشْفِهِ، حَتَّى قَالَ النَّخَعِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَطَّلِعَ عَلَيْهِ إِلَّا الْغَاسِلُ لَهُ وَمَنْ يَلِيهِ، فَتَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ، ثُمَّ أَوْرَدَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ: أَوَّلُهَا: حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي دُخُولِ أَبِي بَكْرٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ أَنْ مَاتَ، وَسَيَأْتِي مُسْتَوْفًى فِي بَابِ الْوَفَاةِ آخِرَ الْمَغَازِي، وَمُطَابَقَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ وَاضِحَةٌ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ، وَأَشَدُّ مَا فِيهِ إِشْكَالًا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ: لَا يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ. وَعَنْهُ أَجْوِبَةٌ: فَقِيلَ هُوَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ سَيَحْيَا، فَيَقْطَعُ أَيْدِي رِجَالٍ، لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَلَزِمَ أَنْ يَمُوتَ مَوْتَةً أُخْرَى، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ أَنْ يَجْمَعَ عَلَيْهِ مَوْتَتَيْنِ كَمَا جَمَعَهُمَا عَلَى غَيْرِهِ كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ، وَكَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ، وَهَذَا أَوْضَحُ الْأَجْوِبَةِ وَأَسْلَمُهَا. وَقِيلَ: أَرَادَ لَا يَمُوتُ مَوْتَةً أُخْرَى فِي الْقَبْرِ كَغَيْرِهِ؛ إِذْ يَحْيَا لِيُسْأَلَ ثُمَّ يَمُوتُ، وَهَذَا جَوَابُ الدَّاوُدِيِّ. وَقِيلَ: لَا يَجْمَعُ اللَّهُ مَوْتَ نَفْسِكَ وَمَوْتَ شَرِيعَتِكَ. وَقِيلَ: كَنَّى بِالْمَوْتِ الثَّانِي عَنِ الْكَرْبِ، أَيْ لَا تَلْقَى بَعْدَ كَرْبِ هَذَا الْمَوْتِ كَرْبًا آخَرَ.

ثَانِيهَا:

ص: 114

حَدِيثُ أُمِّ الْعَلَاءِ الْأَنْصَارِيَّةِ فِي قِصَّةِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، وَسَيَأْتِي بِأَتَمِّ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ فِي بَابِ الْقُرْعَةِ آخِرَ الشَّهَادَاتِ، وَفِي التَّعْبِيرِ. ثَالِثُهَا: حَدِيثُ جَابِرٍ فِي مَوْتِ أَبِيهِ، وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْجِهَادِ. وَدَلَالَةُ الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ مُشْكِلَةٌ، لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ إِنَّمَا دَخَلَ قَبْلَ الْغُسْلِ فَضْلًا عَنِ التَّكْفِينِ وَعُمَرُ يُنْكِرُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ مَاتَ، وَلِأَنَّ جَابِرًا كَشَفَ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِ أَبِيهِ قَبْلَ تَكْفِينِهِ. وَقَدْ يُقَالُ فِي الْجَوَابِ عَنِ الْأَوَّلِ: إِنَّ الَّذِي وَقَعَ دُخُولُ أَبِي بَكْرٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُسَجًّى أَيْ مُغَطًّى، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الدُّخُولَ عَلَى الْمَيِّتِ يَمْتَنِعُ إِلَّا إِنْ كَانَ مُدْرَجًا فِي أَكْفَانِهِ، أَوْ فِي حُكْمِ الْمُدْرَجِ، لِئَلَّا يُطَّلَعَ مِنْهُ عَلَى مَا يُكْرَهُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ. وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ مَا مُحَصَّلُهُ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ عَالِمًا بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَا يَزَالُ مَصُونًا عَنْ كُلِّ أَذًى، فَسَاغَ لَهُ الدُّخُولَ مِنْ غَيْرِ تَنْقِيبٍ عَنِ الْحَالِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، فَأَجَابَ ابْنُ الْمُنِيرِ أَيْضًا بِأَنَّ ثِيَابَ الشَّهِيدِ الَّتِي قُتِلَ فِيهَا هِيَ أَكْفَانُهُ فَهُوَ كَالْمُدْرَجِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: نَهْيُهُمْ لَهُ عَنْ كَشْفِ وَجْهِهِ يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الِاقْتِرَابِ مِنَ الْمَيِّتِ، وَلَكِنْ يُتَعَقَّبُ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَنْهَهُ، وَيُجَابُ بِأَنَّ عَدَمَ نَهْيِهِمْ عَنْ نَهْيِهِ يَدُلُّ عَلَى تَقْرِيرِ نَهْيِهِمْ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الدُّخُولَ الثَّابِتَ فِي الْأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ كَانَ فِي حَالَةِ الْإِدْرَاجِ أَوْ فِي حَالَةٍ تَقُومُ مَقَامَهَا.

قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: الْمَعْنَى الَّذِي فِي الْحَدِيثَيْنِ مِنْ كَشْفِ الْمَيِّتِ بَعْدَ تَسْجِيَتِهِ مُسَاوٍ لِحَالِهِ بَعْدَ تَكْفِينِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ جَوَازُ تَقْبِيلِ الْمَيِّتِ تَعْظِيمًا وَتَبَرُّكًا

(1)

وَجَوَازُ التَّفْدِيَةِ بِالْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ، وَقَدْ يُقَالُ: هِيَ لَفْظَةٌ اعْتَادَتِ الْعَرَبُ أَنْ تَقُولَهَا، وَلَا تَقْصِدُ مَعْنَاهَا الْحَقِيقِيَّ، إِذْ حَقِيقَةُ التَّفْدِيَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا تُتَصَوَّرُ، وَجَوَازُ الْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ، وَسَيَأْتِي مَبْسُوطًا.

قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ (أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَمَعْمَرٌ هُوَ ابْنُ رَاشِدٍ، وَيُونُسُ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ، وَالسُّنْحُ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ، وَسُكُونِ النُّونِ، بَعْدَهَا حَاءٌ مُهْمَلَةٌ: مَنَازِلُ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ مُتَزَوِّجًا فِيهِمْ.

قَوْلُهُ: (فَتَيَمَّمَ) أَيْ قَصَدَ. وَبُرْدُ حِبَرَةَ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ بِوَزْنِ عِنَبَةٍ، وَيَجُوزُ فِيهِ التَّنْوِينُ عَلَى الْوَصْفِ، وَعَدَمُهُ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَهِيَ نَوْعٌ مِنْ بُرُودِ الْيَمَنِ مُخَطَّطَةٌ غَالِيَةُ الثَّمَنِ. وقَوْلُهُ:(فَقَبَّلَهُ) أَيْ بَيْنَ عَيْنَيْهِ. وَقَدْ تَرْجَمَ عَلَيْهِ النَّسَائِيُّ وَأَوْرَدَهُ صَرِيحًا. وَقَوْلُهُ: (الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ الَّتِي كُتِبَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ.

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ مِثْلَهُ، وَقَالَ نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ عُقَيْلٍ: مَا يُفْعَلُ بِهِ، وَتَابَعَهُ شُعَيْبٌ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَمَعْمَرٌ. قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أُمِّ الْعَلَاءِ:(أَنَّهُ اقْتُسِمَ) الْهَاءُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَاقْتُسِمَ بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْأَنْصَارَ اقْتَرَعُوا عَلَى سُكْنَى الْمُهَاجِرِينَ لَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِمُ الْمَدِينَةَ. وَقَوْلُهَا (فَطَارَ لَنَا)؛ أَيْ وَقَعَ فِي سَهْمِنَا، وَذَكَرَهُ بَعْضُ الْمَغَارِبَةِ بِالصَّادِ، فَصَارَ لَنَا وَهُوَ صَحِيحٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى إِنْ ثَبَتَتِ الرِّوَايَةُ. وَقَوْلُهَا (أَبَا السَّائِبِ) تَعْنِي عُثْمَانَ الْمَذْكُورَ.

قَوْلُهُ: (مَا يُفْعَلُ بِي) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِهِ وَهُوَ غَلَطٌ مِنْهُ، فَإِنَّ الْمَحْفُوظَ فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ هَذَا، وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ الْمُصَنِّفُ بِرِوَايَةِ نَافِعِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَقِيلٍ الَّتِي لَفْظُهَا: مَا يُفْعَلُ بِهِ، وَعَلَّقَ مِنْهَا هَذَا الْقَدْرَ فَقَطْ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ بَاقِي الْحَدِيثِ لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ، وَرِوَايَةُ نَافِعٍ الْمَذْكُورَةُ وَصَلَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَأَمَّا مُتَابَعَةُ شُعَيْبٍ، فَسَتَأْتِي فِي أَوَاخِرِ الشَّهَادَاتِ مَوْصُولَةٌ، وَأَمَّا مُتَابَعَةُ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، فَوَصَلَهَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْهُ، وَأَمَّا مُتَابَعَةُ مَعْمَرٍ، فَوَصَلَهَا الْمُصَنِّفُ فِي التَّعْبِيرِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْهُ، وَقَدْ وَصَلَهَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ أَيْضًا. وَرُوِّينَاهَا فِي مُسْنَدِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَلَفْظُهُ: فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ذَلِكَ مُوَافَقَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ}

(1)

قوله: "وتبركا" هذا في حق النبي صلى الله عليه وسلم جائز لما جعل الله في جسده من البركة، وأما من سواه من الأموات فلا يجوز أن يقبل للتبرك، لأن غير النبي صلى الله عليه وسلم لا يقاس عليه، ولأن فعل ذلك مع غيره وسيلة إلى الشرك فيمنع، لأن الصحابة رضي الله عنهم لم يفعلوا مثل هذا مع غير النبي صلى الله عليه وسلم للتبرك وهم أعلم الناس بما يجيزه الشرع. والله أعلم.

ص: 115

وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} ؛ لِأَنَّ الْأَحْقَافَ مَكِّيَّةٌ، وَسُورَةُ الْفَتْحِ مَدَنِيَّةٌ بِلَا خِلَافٍ فِيهِمَا، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ. وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ الصَّرِيحَةِ فِي مَعْنَاهُ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُحْمَلَ الْإِثْبَاتُ فِي ذَلِكَ عَلَى الْعِلْمِ الْمُجْمَلِ، وَالنَّفْيُ عَلَى الْإِحَاطَةِ مِنْ حَيْثُ التَّفْصِيلِ.

قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ جابرٍ: (وَيَنْهَوْنِي) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَيَنْهَوْنَنِي وَهُوَ أَوْجَهُ، وَفَاطِمَةُ عَمَّةُ جَابِرٍ، وَهِيَ شَقِيقَةُ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَأَوْ فِي قَوْلِهِ: تَبْكِينَ أَوْ لَا تَبْكِينَ لِلتَّخْيِيرِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ مُكَرَّمٌ بِصَنِيعِ الْمَلَائِكَةِ، وَتَزَاحُمِهِمْ عَلَيْهِ لِصُعُودِهِمْ بِرُوحِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ شَكًّا مِنَ الرَّاوِي، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ إِلَخْ) وَصَلَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْهُ، وَأَوَّلُهُ: جَاءَ قَوْمِي بِأَبِي قَتِيلًا يَوْمَ أُحُدٍ.

‌4 - بَاب الرَّجُلِ يَنْعَى إِلَى أَهْل الْمَيِّتِ بِنَفْسِهِ

1245 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَعَى النَّجَاشِيَّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ؛ خَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى فَصَفَّ بِهِمْ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا.

[الحديث 1245 - أطرافه في: 1318، 1327، 1333، 3880، 3881]

1246 -

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، وَإِنَّ عَيْنَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَتَذْرِفَانِ، ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ فَفُتِحَ لَهُ.

[الحديث 1246 - أطرافه في: 2798، 3063، 3630، 3757، 6342]

قَوْلُهُ: (بَابُ الرَّجُلُ يَنْعَى إِلَى أَهْلِ الْمَيِّتِ بِنَفْسِهِ) كَذَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، وَوَقَعَ لِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِحَذْفِ الْمُوَحَّدَةِ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ بِحَذْفِ أَهْلِ فَعَلَى الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ يَكُونُ الْمَفْعُولُ مَحْذُوفًا وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: بِنَفْسِهِ لِلرَّجِلِ الَّذِي يَنْعَى الْمَيِّتَ إِلَى أَهْلِ الْمَيِّتِ بِنَفْسِهِ. وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: الضَّمِيرُ لِلْمَيِّتِ لِأَنَّ الَّذِي يُنْكَرُ عَادَةً هُوَ نَعْيُ النَّفْسِ لِمَا يَدْخُلُ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ هَوْلِ الْمَوْتِ. انْتَهَى. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَأَشَارَ الْمُهَلَّبُ إِلَى أَنَّ فِي التَّرْجَمَةِ خَلَلًا، قَالَ: وَالصَّوَابُ الرَّجُلُ يَنْعَى إِلَى النَّاسِ الْمَيِّتَ بِنَفْسِهِ، كَذَا قَالَ، وَلَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا إِلَّا أَنَّهُ أَبْدَلَ لَفْظَ الْأَهْلِ بِالنَّاسِ، وَأَثْبَتَ الْمَفْعُولَ الْمَحْذُوفَ، وَلَعَلَّهُ كَانَ ثَابِتًا فِي الْأَصْلِ فَسَقَطَ، أَوْ حُذِفَ عَمْدًا لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، أَوْ لَفْظُ يُنْعَى بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَالْمُرَادُ بِالرَّجُلِ الْمَيِّتُ، وَالضَّمِيرُ حِينَئِذٍ لَهُ، كَمَا قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ، وَيَسْتَقِيمُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ الْكُشْمِيهَنِيِّ.

وَأَمَّا التَّعبِيرُ بِالْأَهْلِ فَلَا خَلَلَ فِيهِ، لِأَنَّ مُرَادَهُ بِهِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْقَرَابَةِ، وَهُوَ أُخُوَّةُ الدِّينِ، وَهُوَ أَوْلَى مِنَ التَّعْبِيرِ بِالنَّاسِ، لِأَنَّهُ يُخْرِجُ مَنْ لَيْسَ لَهُ بِهِ أَهْلِيَّةٌ كَالْكُفَّارِ، وَأَمَّا رِوَايَةُ الْأَصِيلِيِّ، فَقَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: إِنَّهَا فَاسِدَةٌ، قَالَ: وَفَائِدَةُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ النَّعْيَ لَيْسَ مَمْنُوعًا كُلُّهُ، وَإِنَّمَا نُهِيَ عَمَّا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَصْنَعُونَهُ، فَكَانُوا يُرْسِلُونَ مَنْ يُعْلِنُ بِخَبَرِ مَوْتِ الْمَيِّتِ عَلَى أَبْوَابِ الدُّورِ وَالْأَسْوَاقِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُرَابِطِ: مُرَادُهُ أَنَّ النَّعْيَ الَّذِي هُوَ إِعْلَامُ النَّاسِ بِمَوْتِ قَرِيبِهِمْ مُبَاحٌ، وَإِنْ

ص: 116

كَانَ فِيهِ إِدْخَالُ الْكَرْبِ وَالْمَصَائِبِ عَلَى أَهْلِهِ، لَكِنْ فِي تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ مَصَالِحٌ جَمَّةٌ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ مِنَ الْمُبَادَرَةِ لِشُهُودِ جِنَازَتِهِ وَتَهْيِئَةِ أَمْرِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالدُّعَاءِ لَهُ وَالِاسْتِغْفَارِ وَتَنْفِيذِ وَصَايَاهُ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ. وَأَمَّا نَعْيُ الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ قَالَ: قُلْتُ لِإِبْرَاهِيمَ: أَكَانُوا يَكْرَهُ نَ النَّعْيَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: كَانُوا إِذَا تُوُفِّيَ الرَّجُلُ رَكِبَ رَجُلٌ دَابَّةً، ثُمَّ صَاحَ فِي النَّاسِ: أَنْعِي فُلَانًا. وَبِهِ إِلَى ابْنِ عَوْنٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لَا أَعْلَمُ بَأْسًا أَنْ يُؤْذِنَ الرَّجُلُ صَدِيقَهُ وَحَمِيمَهُ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ مَحْضَ الْإِعْلَامِ بِذَلِكَ لَا يُكْرَهُ، فَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَلَا، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يُشَدِّدُ فِي ذَلِكَ حَتَّى.

كَانَ حُذَيْفَةُ إِذَا مَاتَ لَهُ الْمَيِّتُ يَقُولُ: لَا تُؤْذِنُوا بِهِ أَحَدًا، إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ نَعْيًا، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأُذُنَيَّ هَاتَيْنِ يَنْهَى عَنِ النَّعْيِ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: يُؤْخَذُ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَحَادِيثِ ثَلَاثُ حَالَاتٍ، الْأُولَى: إِعْلَامُ الْأَهْلِ وَالْأَصْحَابِ وَأَهْلِ الصَّلَاحِ، فَهَذَا سُنَّةٌ، الثَّانِيَةُ: دَعْوَةُ الْحَفْلِ لِلْمُفَاخَرَةِ فَهَذِهِ تُكْرَهُ، الثَّالِثَةُ: الْإِعْلَامُ بِنَوْعٍ آخَرَ كَالنِّيَاحَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا يَحْرُمُ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى النَّجَاشِيِّ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ، ثَانِيهِمَا: حَدِيثُ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ قَتْلِ الْأُمَرَاءِ بِمُؤْتَةَ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْمَغَازِي. وَوَرَدَ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ بِلَفْظِ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَعَى زَيْدًا، وَجَعْفَرًا، الْحَدِيثَ. قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: وَجْهُ دُخُولِ قِصَّةِ الْأُمَرَاءِ فِي التَّرْجَمَةِ أَنَّ نَعْيَهُمْ كَانَ لِأَقَارِبِهِمْ وَلِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهُمْ مِنْ جِهَةِ الدِّينِ، وَوَجْهُ دُخُولِ قِصَّةِ النَّجَاشِيِّ كَوْنُهُ كَانَ غَرِيبًا فِي دِيَارِ قَوْمِهِ، فَكَانَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ حَيْثُ الْإِسْلَامِ أَخًا، فَكَانُوا أَخَصَّ بِهِ مِنْ قَرَابَتِهِ. قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ أَقْرِبَاءِ النَّجَاشِيِّ كَانَ بِالْمَدِينَةِ حِينَئِذٍ مِمَّنْ قَدِمَ مَعَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنَ الْحَبَشَةِ، كَذِي مُخَمَّرِ ابْنِ أَخِي النَّجَاشِيِّ، فَيَسْتَوِي الْحَدِيثَانِ فِي إِعْلَامِ أَهْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا حَقِيقَةً وَمَجَازًا.

‌5 - بَاب الْإِذْنِ بِالْجَنَازَةِ

وَقَالَ أَبُو رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَلَا كنتم آذَنْتُمُونِي؟

1247 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: مَاتَ إِنْسَانٌ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ فَمَاتَ بِاللَّيْلِ فَدَفَنُوهُ لَيْلًا، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَخْبَرُوهُ فَقَالَ: مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تُعْلِمُونِي؟ قَالُوا: كَانَ اللَّيْلُ فَكَرِهْنَا، وَكَانَتْ ظُلْمَةٌ أَنْ نَشُقَّ عَلَيْكَ، فَأَتَى قَبْرَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْإِذْنِ بِالْجِنَازَةِ) قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: ضَبَطْنَاهُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ، وَضَبَطَهُ ابْنُ الْمُرَابِطِ بِمَدِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الذَّالِ عَلَى وَزْنِ الْفَاعِلِ. قُلْتُ: وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ، وَالْمَعْنَى: الْإِعْلَامُ بِالْجِنَازَةِ إِذَا انْتَهَى أَمْرُهَا لِيُصَلَّى عَلَيْهَا. قِيلَ: هَذِهِ التَّرْجَمَةُ تُغَايِرُ الَّتِي قَبْلَهَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْإِعْلَامُ بِالنَّفْسِ وَبِالْغَيْرِ، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: هِيَ مُرَتَّبَةٌ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا؛ لِأَنَّ النَّعْيَ إِعْلَامُ مَنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ عِلْمٌ بِالْمَيِّتِ، وَالْإِذْنَ إِعْلَامُ مَنْ عَلِمَ بِتَهْيِئَةِ أَمْرِهِ، وَهُوَ حَسَنٌ.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ كَنْسِ الْمَسْجِدِ وَمُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ وَاضِحَةٌ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ) هُوَ ابْنُ سَلَّامٍ كَمَا جَزَمَ بِهِ أَبُو عَلِيِّ بْنُ السَّكَنِ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ الْفَرَبْرِيِّ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ هُوَ الضَّرِيرُ.

قَوْلُهُ: (مَاتَ إِنْسَانٌ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ) وَقَعَ فِي شَرْحِ الشَّيْخِ سِرَاجِ الدِّينِ عُمَرَ بْنِ الْمُلَقِّنِ أَنَّهُ الْمَيِّتُ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي كَانَ يَقُمُّ الْمَسْجِدَ،

ص: 117

وَهُوَ وَهَمٌ مِنْهُ لِتَغَايُرِ الْقِصَّتَيْنِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الصَّحِيحَ فِي الْأَوَّلِ أَنَّهَا امْرَأَةٌ وَأَنَّهَا أُمُّ مِحْجَنٍ، وَأَمَّا هَذَا، فَهُوَ رَجُلٌ وَاسْمُهُ طَلْحَةُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ عُمَيْرٍ الْبَلَوِيُّ حَلِيفُ الْأَنْصَارِ، رَوَى حَدِيثَهُ أَبُو دَاوُدَ مُخْتَصَرًا وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ وَحْوَحٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَهُوَ بِمُهْمَلَتَيْنِ بِوَزْنِ جَعْفَرٍ: أَنَّ طَلْحَةَ بْنَ الْبَرَاءِ مَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ، فَقَالَ: إِنِّي لَا أَرَى طَلْحَةَ إِلَّا قَدْ حَدَثَ فِيهِ الْمَوْتُ، فَآذِنُونِي بِهِ وَعَجِّلُوا، فَلَمْ يُبْلُغِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ حَتَّى تُوُفِّيَ، وَكَانَ قَالَ لِأَهْلِهِ لَمَّا دَخَلَ اللَّيْلُ: إِذَا مُتُّ فَادْفِنُونِي، وَلَا تَدْعُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْهِ يَهُودًا أَنْ يُصَابَ بِسَبَبِي، فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَصْبَحَ، فَجَاءَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى قَبْرِهِ، فَصَفَّ النَّاسَ مَعَهُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ الْقَ طَلْحَةَ يَضْحَكُ إِلَيْكَ وَتَضْحَكُ إِلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (كَانَ اللَّيْلُ) بِالرَّفْعِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: وَكَانَتْ ظُلْمَةٌ، فَكَانَ فِيهِمَا تَامَّةٌ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى حُكْمِ الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ فِي بَابِ صُفُوفِ الصِّبْيَانِ مَعَ الرِّجَالِ عَلَى الْجِنَازَةِ مَعَ بَقِيَّةِ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ.

‌6 - بَاب فَضْلِ مَنْ مَاتَ لَهُ وَلَدٌ فَاحْتَسَبَ

وَقول اللَّهُ عز وجل: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}

1248 -

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَا مِنْ النَّاسِ مِنْ مُسْلِمٍ يُتَوَفَّى لَهُ ثَلَاثٌ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ.

[الحديث 1248 - طرفه في: 1381]

1249 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَصْبَهَانِيِّ عَنْ ذَكْوَانَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه "أَنَّ النِّسَاءَ قُلْنَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اجْعَلْ لَنَا يَوْمًا فَوَعَظَهُنَّ وَقَالَ أَيُّمَا امْرَأَةٍ مَاتَ لَهَا ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ كَانُوا حِجَابًا مِنْ النَّارِ قَالَتْ امْرَأَةٌ وَاثْنَانِ قَالَ وَاثْنَانِ "

1250 -

وَقَالَ شَرِيكٌ عَنْ ابْنِ الأَصْبَهَانِيِّ حَدَّثَنِي أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَبُو هُرَيْرَةَ "لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ"

1251 -

حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَمُوتُ لِمُسْلِمٍ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ فَيَلِجَ النَّارَ إِلاَّ تَحِلَّةَ الْقَسَمِ" قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا}

[الحديث 1251 - طرفه في: 6656]

قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ مَنْ مَاتَ لَهُ وَلَدٌ فَاحْتَسَبَ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: عَبَّرَ الْمُصَنِّفُ بِالْفَضْلِ لِيَجْمَعَ بَيْنَ مُخْتَلِفِ الْأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي أَوْرَدَهَا، لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ دُخُولُ الْجَنَّةِ، وَفِي الثَّانِي الْحَجْبُ عَنِ النَّارِ، وَفِي الثَّالِثِ تَقْيِيدُ الْوُلُوجِ بِتَحِلَّةِ الْقَسَمِ، وَفِي كُلٍّ مِنْهَا ثُبُوتُ الْفَضْلِ لِمَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ. وَيُجْمَعُ بَيْنَهَا بِأَنْ يُقَالَ: الدُّخُولُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْحَجْبَ، فَفِي

ص: 118

ذِكْرِ الْحَجْبِ فَائِدَةٌ زَائِدَةٌ لِأَنَّهَا تَسْتَلْزِمُ الدُّخُولَ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ، وَأَمَّا الثَّالِثُ، فَالْمُرَادُ بِالْوُلُوجِ الْوُرُودُ، وَهُوَ الْمُرُورُ عَلَى النَّارِ كَمَا سَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ. وَالْمَارُّ عَلَيْهَا عَلَى أَقْسَامٍ: مِنْهُمْ مَنْ لَا يَسْمَعُ حَسِيسَهَا، وَهُمُ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمُ الْحُسْنَى مِنَ اللَّهِ كَمَا فِي الْقُرْآنِ، فَلَا تَنَافِيَ مَعَ هَذَا بَيْنَ الْوُلُوجِ وَالْحَجْبِ، وَعَبَّرَ بِقَوْلِهِ: وَلَدٍ لِيَتَنَاوَلَ الْوَاحِدَ فَصَاعِدًا، وَإِنْ كَانَ حَدِيثُ الْبَابِ قَدْ قُيِّدَ بِثَلَاثَةٍ أَوِ اثْنَيْنِ، لَكِنْ وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ ذِكْرُ الْوَاحِدِ فَفِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا: مَنْ دَفَنَ ثَلَاثَةً فَصَبَرَ عَلَيْهِمْ وَاحْتَسَبَ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ. فَقَالَتْ أُمُّ أَيْمَنَ: أَوِ اثْنَيْنِ؟ فَقَالَ: أَوِ اثْنَيْنِ. فَقَالَتْ: وَوَاحِدٌ؟ فَسَكَتَ، ثُمَّ قَالَ: وَوَاحِدٌ. أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ. وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: مَنْ قَدَّمَ ثَلَاثَةً مِنَ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ كَانُوا لَهُ حِصْنًا حَصِينًا مِنَ النَّارِ. قَالَ أَبُو ذَرٍّ: قَدَّمْتُ اثْنَيْنِ. قَالَ: وَاثْنَيْنِ. قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: قَدَّمْتُ وَاحِدًا. قَالَ: وَوَاحِدًا. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: غَرِيبٌ.

وَعِنْدَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ: مَنْ كَانَ لَهُ فَرَطَانِ مِنْ أُمَّتِي أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَنْ كَانَ لَهُ فَرَطٌ؟ قَالَ: وَمَنْ كَانَ لَهُ فَرَطٌ. الْحَدِيثَ. وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ مَا يَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ، بَلْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ شَرِيكٍ الَّتِي عَلَّقَ الْمُصَنِّفُ إِسْنَادَهَا كَمَا سَيَأْتِي، وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنِ الْوَاحِدِ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ حَفْصِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي قَالَتْ: وَاثْنَانِ، قَالَتْ بَعْدَ ذَلِكَ: يَا لَيْتَنِي قُلْتُ: وَوَاحِدٌ. وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيَدٍ، عَنْ جَابِرٍ رَفَعَهُ: مَنْ مَاتَ لَهُ ثَلَاثٌ مِنَ الْوَلَدِ فَاحْتَسَبَهُمْ دَخَلَ الْجَنَّةَ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاثْنَانِ؟ قَالَ مَحْمُودٌ: قُلْتُ لِجَابِرٍ: أُرَاكُمْ لَوْ قُلْتُمْ: وَوَاحِدٌ لَقَالَ: وَوَاحِدٌ. قَالَ: وَأَنَا أَظُنُّ ذَلِكَ. وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الثَّلَاثَةُ أَصَحُّ مِنْ تِلْكَ الثَّلَاثَةِ، لَكِنْ رَوَى الْمُصَنِّفُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا سَيَأْتِي فِي الرِّقَاقِ مَرْفُوعًا: يَقُولُ اللَّهُ عز وجل: مَا لِعَبْدِي الْمُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، ثُمَّ احْتَسَبَهُ إِلَّا الْجَنَّةَ.

وَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ الْوَاحِدُ فَمَا فَوْقَهُ، وَهُوَ أَصَحُّ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: فَاحْتَسَبَ؛ أَيْ صَبَرَ رَاضِيًا بِقَضَاءِ اللَّهِ رَاجِيًا فَضْلَهُ، وَلَمْ يَقَعِ التَّقْيِيدُ بِذَلِكَ أَيْضًا فِي أَحَادِيثِ الْبَابِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَيْضًا كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ الْمَذْكُورِ قَبْلُ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ حَفْصِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ رَفَعَهُ: مَنِ احْتَسَبَ مِنْ صُلْبِهِ ثَلَاثَةً دَخَلَ الْجَنَّةَ. الْحَدِيثَ.

وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا: لَا يَمُوتُ لِإِحْدَاكُنَّ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ فَتَحْتَسِبُهُمْ إِلَّا دَخَلَتِ الْجَنَّةَ. الْحَدِيثَ. وَلِأَحْمَدَ، وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَفَعَهُ: مَنْ أَعْطَى ثَلَاثَةً مِنْ صُلْبِهِ فَاحْتَسَبَهُمْ عَلَى اللَّهِ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ. وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ أَبِي النَّضْرِ السُّلَمِيِّ رَفَعَهُ: لَا يَمُوتُ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ فَيَحْتَسِبُهُمْ إِلَّا كَانُوا جُنَّةً مِنَ النَّارِ. الْحَدِيثَ. وَقَدْ عُرِفَ مِنَ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّ الثَّوَابَ لَا يَتَرَتَّبُ إِلَّا عَلَى النِّيَّةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ قَيْدِ الِاحْتِسَابِ، وَالْأَحَادِيثُ الْمُطْلَقَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمُقَيَّدَةِ، وَلَكِنْ أَشَارَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ إِلَى اعْتِرَاضٍ لَفْظِيٍّ، فَقَالَ: يُقَالُ فِي الْبَالِغِ: احْتَسَبَ، وَفِي الصَّغِيرِ: افْتَرَطَ. انْتَهَى. وَبِذَلِكَ قَالَ الْكَثِيرُ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ ذَلِكَ هُوَ الْأَصْلُ أَنْ لَا يُسْتَعْمَلَ هَذَا مَوْضِعَ هَذَا، بَلْ ذَكَرَ ابْنُ دُرَيْدٍ وَغَيْرُهُ: احْتَسَبَ فُلَانٌ بِكَذَا: طَلَبَ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ، وَهَذَا أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِكَبِيرٍ أَوْ صَغِيرٍ، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَهِيَ حُجَّةٌ فِي صِحَّةِ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُ اللَّهِ عز وجل: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَالْأَصِيلِيِّ: وَقَالَ اللَّهُ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ الْآيَةَ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ، وَقَدْ وُصِفَ فِيهَا الصَّابِرُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} فَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَرَادَ تَقْيِيدَ مَا أُطْلِقَ فِي الْحَدِيثِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى تَرْكِ

ص: 119

الْقَلَقِ وَالْجَزَعِ، وَلَفْظُ الْمُصِيبَةِ فِي الْآيَةِ، وَإِنْ كَانَ عَامًّا لَكِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْمُصِيبَةَ بِالْوَلَدِ، فَهُوَ مِنْ أَفْرَادِهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ) هُوَ ابْنُ صُهَيْبٍ، وَصَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (مَا مِنَ النَّاسِ مِنْ مُسْلِمٍ) قَيَّدَهُ بِهِ لِيَخْرُجَ الْكَافِرُ، وَمِنْ الْأُولَى بَيَانِيَّةٌ، وَالثَّانِيَةُ زَائِدَةٌ، وَسَقَطَتْ مِنْ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَمَا سَيَأْتِي فِي أَوَاخِرِ الْجَنَائِزِ. وَمُسْلِمٍ اسْمُ مَا، وَالِاسْتِثْنَاءُ وَمَا مَعَهُ الْخَبَرُ، وَالْحَدِيثُ ظَاهِرٌ فِي اخْتِصَاصِ ذَلِكَ بِالْمُسْلِمِ، لَكِنْ هَلْ يَحْصُلُ ذَلِكَ لِمَنْ مَاتَ لَهُ أَوْلَادٌ فِي الْكُفْرِ ثُمَّ أَسْلَمَ؟ فِيهِ نَظَرٌ، وَيَدُلُّ عَلَى عَدَمِ ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْأَشْجَعِيِّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَاتَ لِي وَلَدَانِ، قَالَ: مَنْ مَاتَ لَهُ وَلَدَانِ فِي الْإِسْلَامِ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ مَرْفُوعًا: مَنْ مَاتَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَوْلَادٍ فِي الْإِسْلَامِ فَمَاتُوا قَبْلَ أَنْ يَبْلُغُوا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ أَيْضًا، وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ رَجَاءَ الْأَسْلَمِيَّةِ قَالَتْ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ لِي فِي ابْنٍ لِي بِالْبَرَكَةِ، فَإِنَّهُ قَدْ تُوُفِّيَ لي ثَلَاثَةٌ. فَقَالَ: أَمُنْذُ أَسْلَمْتِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (يُتَوَفَّى لَهُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهِ الْمَذْكُورَةِ: مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يُتَوَفَّى لَهُمَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ وَلَدِهِ الرَّجُلُ حَقِيقَةً، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ النَّسَائِيِّ الْمَذْكُورَةُ مِنْ طَرِيقِ حَفْصٍ، عَنْ أَنَسٍ، فَفِيهَا: ثَلَاثَةٌ مِنْ صُلْبِهِ. وَكَذَا حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: وَهَلْ يَدْخُلُ فِي الْأَوْلَادِ أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ؟ مَحَلُّ بَحْثٍ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ أَوْلَادَ الصُّلْبِ يَدْخُلُونَ وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ فَقْدِ الْوَسَائِطِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَبِ، وَفِي التَّقيَيُّدِ بِكَوْنِهِمْ مِنْ صُلْبِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى إِخْرَاجِ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ.

قَوْلُهُ: (ثَلَاثَةٌ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَهُوَ الْمَوْجُودُ فِي غَيْرِ الْبُخَارِيِّ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ: ثَلَاثٌ بِحَذْفِ الْهَاءِ، وَهُوَ جَائِزٌ لِكَوْنِ الْمُمَيَّزِ مَحْذُوفًا.

قَوْلُهُ: (لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ) كَذَا لِلْجَمِيعِ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ النُّونِ، بَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ، وَحَكَى ابْنُ قُرْقُولٍ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ أَنَّهُ ضَبَطَهُ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ، وَفَسَّرَهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ لَمْ يَبْلُغُوا أَنْ يَعْمَلُوا الْمَعَاصِيَ. قَالَ: وَلَمْ يَذْكُرْهُ كَذَلِكَ غَيْرُهُ، وَالْمَحْفُوظُ: الْأَوَّلُ؛ وَالْمَعْنَى: لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ، فَتُكْتَبْ عَلَيْهِمُ الْآثَامُ. قَالَ الْخَلِيلُ: بَلَغَ الْغُلَامُ الْحِنْثَ إِذَا جَرَى عَلَيْهِ الْقَلَمُ، وَالْحِنْثُ: الذَّنْبُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ} وَقِيلَ: الْمُرَادُ: بَلَغَ إِلَى زَمَانٍ يُؤَاخَذُ بِيَمِينِهِ إِذَا حَنِثَ.

وَقَالَ الرَّاغِبُ: عَبَّرَ بِالْحِنْثِ عَنِ الْبُلُوغِ لَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ يُؤَاخَذُ بِمَا يَرْتَكِبُهُ فِيهِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَهُ، وَخُصَّ الْإِثْمَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ الَّذِي يَحْصُلُ بِالْبُلُوغِ، لِأَنَّ الصَّبِيَّ قَدْ يُثَابُ، وَخَصَّ الصَّغِيرَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الشَّفَقَةَ عَلَيْهِ أَعْظَمُ، وَالْحُبُّ لَهُ أَشَدُّ، وَالرَّحْمَةُ لَهُ أَوْفَرُ، وَعَلَى هَذَا، فَمَنْ بَلَغَ الْحِنْثَ لَا يَحْصُلُ لِمَنْ فَقَدَهُ مَا ذُكِرَ مِنْ هَذَا الثَّوَابِ، وَإِنْ كَانَ فِي فَقْدِ الْوَلَدِ أَجْرٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَبِهَذَا صَرَّحَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْبَالِغِ وَغَيْرِهِ بِأَنَّهُ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْعُقُوقُ الْمُقْتَضِي لِعَدَمِ الرَّحْمَةِ بِخِلَافِ الصَّغِيرِ، فَإِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ ذَلِكَ إِذْ لَيْسَ بِمُخَاطَبٍ، وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: بَلْ يَدْخُلُ الْكَبِيرُ فِي ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْفَحْوَى، لِأَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الطِّفْلِ الَّذِي هُوَ كَلٌّ عَلَى أَبَوَيْهِ، فَكَيْفَ لَا يَثْبُتُ فِي الْكَبِيرِ الَّذِي بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ، وَوَصَلَ لَهُ مِنْهُ النَّفْعُ، وَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْخِطَابُ بِالْحُقُوقِ؟ قَالَ: وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي إِلْغَاءِ الْبُخَارِيِّ التَّقْيِيدَ بِذَلِكَ فِي التَّرْجَمَةِ. انْتَهَى. وَيُقَوِّي الْأَوَّلَ قَوْلُهُ فِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ: بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ، لِأَنَّ الرَّحْمَةَ لِلصِّغَارِ أَكْثَرُ لِعَدَمِ حُصُولِ الْإِثْمِ مِنْهُمْ.

وَهَلْ يَلْتَحِقُ بِالصِّغَارِ مَنْ بَلَغَ مَجْنُونًا مَثَلًا، وَاسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ فَمَاتَ؟ فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ كَوْنَهُمْ لَا إِثْمَ عَلَيْهِمْ يَقْتَضِي الْإِلْحَاقَ، وَكَوْنَ الِامْتِحَانِ بِهِمْ يَخِفُّ بِمَوْتِهِمْ يَقْتَضِي عَدَمَهُ، وَلَمْ يَقَعِ التَّقْيِيدُ فِي طُرُقِ الْحَدِيثِ بِشِدَّةِ الْحُبِّ وَلَا عَدَمِهِ، وَكَانَ الْقِيَاسُ يَقْتَضِي ذَلِكَ، لِمَا يُوجَدُ مِنْ كَرَاهَةِ بَعْضِ النَّاسِ

ص: 120

لِوَلَدِهِ وَتَبَرُّمِهِ مِنْهُ، وَلَا سِيَّمَا مَنْ كَانَ ضَيِّقَ الْحَالِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْوَلَدُ مَظِنَّةَ الْمَحَبَّةِ وَالشَّفَقَةِ نِيطَ بِهِ الْحُكْمُ، وَإِنْ تَخَلَّفَ فِي بَعْضِ الْأَفْرَادِ.

قَوْلُهُ: (إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ) فِي حَدِيثِ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ السُّلَمِيِّ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ نَحْوِ حَدِيثِ الْبَابِ، لَكِنْ فِيهِ: إِلَّا تَلَقَّوْهُ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ دَخَلَ. وَهَذَا زَائِدٌ عَلَى مُطْلَقِ دُخُولِ الْجَنَّةِ، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا فِي أَثْنَاءِ حَدِيثِ: مَا يَسُرُّكَ أَنْ لَا تَأْتِيَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ إِلَّا وَجَدْتَهُ عِنْدَهُ يَسْعَى يَفْتَحُ لَكَ.

قَوْلُهُ: (بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ)، أَيْ بِفَضْلِ رَحْمَةِ اللَّهِ لِلْأَوْلَادِ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: قِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي رَحْمَتِهِ لِلْأَبِ، لِكَوْنِهِ كَانَ يَرْحَمُهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَيُجَازَى بِالرَّحْمَةِ فِي الْآخِرَةِ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: بِفَضْلِ رَحْمَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ. وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: إِلَّا غَفَرَ اللَّهُ لَهُمَا بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ. وَلِلطَّبَرَانِيِّ، وَابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ الْحَارِثِ بْنِ أُقَيْشٍ، وَهُوَ بِقَافٍ وَمُعْجَمَةٍ مُصَغَّرٌ، مَرْفُوعًا: مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَمُوتُ لَهُمَا أَرْبَعَةُ أَوْلَادٍ إِلَّا أَدْخَلَهُمَا اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ. وَكَذَا فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ قَرِيبًا. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: إِيَّاهُمْ جِنْسُ الْمُسْلِمِ الَّذِي مَاتَ أَوْلَادُهُ، لَا الْأَوْلَادُ، أَيْ بِفَضْلِ رَحْمَةِ اللَّهِ لِمَنْ مَاتَ لَهُمْ، قَالَ: وَسَاغَ الْجَمْعُ لِكَوْنِهِ نَكِرَةً فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَتَعُمُّ. انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي زَعَمَ أَنَّهُ ظَاهِرٌ لَيْسَ بِظَاهِرٍ، بَلْ فِي غَيْرِ هَذَا الطَّرِيقِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ لِلْأَوْلَادِ، فَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ: إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ هُوَ وَإِيَّاهُمُ الْجَنَّةَ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْأَشْجَعِيِّ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُ: أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ. قَالَهُ بَعْدَ قَوْلِهِ: مَنْ مَاتَ لَهُ وَلَدَانِ، فَوَضَحَ بِذَلِكَ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: إِيَّاهُمْ لِلْأَوْلَادِ لَا لِلْآبَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الحديث الثاني:

الحديث الثاني:

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَصْبَهَانِيِّ) فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ: أَخْبَرَنَا، وَاسْمُ وَلِدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَذْكُورِ عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ: إِنَّ أَصْلَهُ مِنْ أَصْبَهَانَ لَمَّا فَتَحَهَا أَبُو مُوسَى، وَقَالَ غَيْرُهُ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَتَّجِرُ إِلَى أَصْبَهَانَ، فَقِيلَ لَهُ: الْأَصْبَهَانِيُّ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا يَظْهَرُ لِي.

قَوْلُهُ: (عَنْ ذَكْوَانَ) هُوَ أَبُو صَالِحٍ السَّمَّانُ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ الْمُعَلَّقِ الَّذِي يَلِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْعِلْمِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ أَيْضًا، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَتَحَصَّلَ لَهُ رِوَايَتُهُ عَنْ شَيْخَيْنِ، وَلِشَيْخِهِ أَبِي صَالِحٍ رِوَايَتُهُ عَنْ شَيْخَيْنِ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ النِّسَاءَ) تَقَدَّمَ أَنَّ فِي رِوَايِةِ مُسْلِمٍ أَنَّهُنَّ كُنَّ مِنْ نِسَاءِ الْأَنْصَارِ.

قَوْلُهُ: (اجْعَلْ لَنَا يَوْمًا) تَقَدَّمَ فِي الْعِلْمِ بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ مَعَ الْكَلَامِ مِنْهُ عَلَى مَا لَا يَتَكَرَّرُ هُنَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (أَيُّمَا امْرَأَةٍ) إِنَّمَا خَصَّ الْمَرْأَةَ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّ الْخِطَابَ حِينَئِذٍ كَانَ لِلنِّسَاءِ، وَلَيْسَ لَهُ مَفْهُومٌ لِمَا فِي بَقِيَّةِ الطُّرُقِ.

قَوْلُهُ: (ثَلَاثَةٌ) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ: ثَلَاثٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ.

قَوْلُهُ: (مِنَ الْوَلَدِ) بِفَتْحَتَيْنِ، وَهُوَ يَشْمَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، وَالْمُفْرَدَ وَالْجَمْعَ.

قَوْلُهُ: (كَانُوا) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْحَمَوِيِّ: كُنَّ بِضَمِّ الْكَافِ، وَتَشْدِيدِ النُّونِ، وَكَأَنَّهُ أَنَّثَ بِاعْتِبَارِ النَّفْسِ أَوِ النَّسَمَةِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْوَقْتِ إِلَّا كَانُوا لَهَا حِجَابًا.

قَوْلُهُ: (قَالَتِ امْرَأَةٌ) هِيَ أُمُّ سُلَيْمٍ الْأَنْصَارِيَّةُ، وَالِدَةُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ كَمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ وَأَنَا عِنْدَهُ: مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَمُوتُ لَهُمَا ثَلَاثَةٌ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ إِلَّا أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ. فَقُلْتُ: وَاثْنَانِ؟ قَالَ: وَاثْنَانِ. وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، لَكِنَّ الْحَدِيثَ دُونَ الْقِصَّةِ، وَوَقَعَ لِأُمِّ مُبَشِّرٍ الْأَنْصَارِيَّةِ أَيْضًا السُّؤَالُ عَنْ ذَلِكَ، فَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى أُمِّ مُبَشِّرٍ، فَقَالَ: يَا أُمَّ مُبَشِّرٍ، مَنْ مَاتَ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ دَخَلَ الْجَنَّةَ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاثْنَانِ؟ فَسَكَتَ ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ وَاثْنَانِ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّ أُمَّ أَيْمَنَ مِمَّنْ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عَائِشَةَ أَيْضًا مِنْهُنَّ، وَحَكَى ابْنُ بَشْكُوَالٍ أَنَّ أُمَّ

ص: 121

هَانِئٍ أَيْضًا سَأَلَتْ عَنْ ذَلِكَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُنَّ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، وَأَمَّا تَعَدُّدُ الْقِصَّةِ فَفِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا سُئِلَ عَنِ الِاثْنَيْنِ بَعْدَ ذِكْرِ الثَّلَاثَةِ، وَأَجَابَ بِأَنَّ الِاثْنَيْنِ كَذَلِكَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ أُوحِيَ إِلَيْهِ ذَلِكَ فِي الْحَالِ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ ابْنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الثَّلَاثَةِ بَعْدَ ذَلِكَ مُسْتَبْعَدًا جِدًّا، لِأَنَّ مَفْهُومَهُ يُخْرِجُ الِاثْنَيْنِ اللَّذَيْنِ ثَبَتَ لَهُمَا ذَلِكَ الْحُكْمُ بِالْوَحْيِ، بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِمَفْهُومِ الْعَدَدِ، وَهُوَ مُعْتَبَرٌ هُنَا، كَمَا سَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ، نَعَمْ، قَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ مِمَّنْ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ، وَرَوَى الْحَاكِمُ، وَالْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ أَيْضًا، وَلَفْظُهُ: مَا مِنَ امْرِئٍ، وَلَا امْرَأَةٍ يَمُوتُ لَهُ ثَلَاثَةُ أَوْلَادٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ. فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاثْنَانِ؟ قَالَ: وَاثْنَانِ. قَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ. وَهَذَا لَا بُعْدَ فِي تَعَدُّدِهِ، لِأَنَّ خِطَابَ النِّسَاءِ بِذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ عِلْمَ الرِّجَالِ بِهِ.

قَوْلُهُ: (وَاثْنَانِ) قَالَ ابْنُ التِّينِ تَبَعًا لِعِيَاضٍ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَفْهُومَ الْعَدَدِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، لِأَنَّ الصَّحَابِيَّةَ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ، وَلَمْ تَعْتَبِرْهُ، إِذْ لَوِ اعْتَبَرَتْهُ لَانْتَفَى الْحُكْمُ عِنْدَهَا عَمَّا عَدَا الثَّلَاثَةَ، لَكِنَّهَا جَوَّزَتْ ذَلِكَ فَسَأَلَتْهُ. كَذَا قَالَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا اعْتَبَرَتْ مَفْهُومَ الْعَدَدِ، إِذْ لَوْ لَمْ تَعْتَبِرْهُ لَمْ تَسْأَلْ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ دَلَالَةَ مَفْهُومِ الْعَدَدِ لَيْسَتْ يَقِينِيَّةً، وإِنَّمَا هِيَ مُحْتَمَلَةٌ، وَمِنْ ثَمَّ وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْ ذَلِكَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَإِنَّمَا خَصَّتِ الثَّلَاثَةَ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّهَا أَوَّلُ مَرَاتِبِ الْكَثْرَةِ، فَبِعِظَمِ الْمُصِيبَةِ يَكْثُرُ الْأَجْرُ، فَأَمَّا إِذَا زَادَ عَلَيْهَا فَقَدْ يَخِفُّ أَمْرُ الْمُصِيبَةِ، لِأَنَّهَا تَصِيرُ كَالْعَادَةِ كَمَا قِيلَ: رُوِّعْتُ بِالْبَيْنِ حَتَّى مَا أُرَاعَ لَهُ. انْتَهَى.

وَهَذَا مَصِيرٌ مِنْهُ إِلَى انْحِصَارِ الْأَجْرِ الْمَذْكُورِ فِي الثَّلَاثَةِ، ثُمَّ فِي الِاثْنَيْنِ بِخِلَافِ الْأَرْبَعَةِ وَالْخَمْسَةِ، وَهُوَ جُمُودٌ شَدِيدٌ، فَإِنَّ مَنْ مَاتَ لَهُ أَرْبَعَةٌ فَقَدْ مَاتَ لَهُ ثَلَاثَةٌ ضَرُورَةً، لِأَنَّهُمْ إِنْ مَاتُوا دَفْعَةً وَاحِدَةً، فَقَدْ مَاتَ لَهُ ثَلَاثَةٌ وَزِيَادَةٌ، وَلَا خَفَاءَ بِأَنَّ الْمُصِيبَةَ بِذَلِكَ أَشَدُّ، وَإِنْ مَاتُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، فَإِنَّ الْأَجْرَ يَحْصُلُ لَهُ عِنْدَ مَوْتِ الثَّالِثِ بِمُقْتَضَى وَعْدِ الصَّادِقِ، فَيَلْزَمُ عَلَى قَوْلِ الْقُرْطُبِيِّ أَنَّهُ إِنْ مَاتَ لَهُ الرَّابِعُ أَنْ يَرْتَفِعَ عَنْهُ ذَلِكَ الْأَجْرُ مَعَ تَجَدُّدِ الْمُصِيبَةِ، وَكَفَى بِهَذَا فَسَادًا، وَالْحَقُّ أَنَّ تَنَاوُلَ الْخَبَرِ الْأَرْبَعَةَ فَمَا فَوْقَهَا مِنْ بَابِ أَوْلَى وَأَحْرَى، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْأَلُوا عَنِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَا مَا فَوْقَهَا، لِأَنَّهُ كَالْمَعْلُومِ عِنْدَهُمْ، إِذِ الْمُصِيبَةُ إِذَا كَثُرَتْ كَانَ الْأَجْرُ أَعْظَمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا: يَحْتَمِلُ أَنْ يَفْتَرِقَ الْحَالُ فِي ذَلِكَ بِافْتِرَاقِ حَالِ الْمُصَابِ مِنْ زِيَادَةِ رِقَّةِ الْقَلْبِ وَشِدَّةِ الْحُبِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْجَوَابَ عَنْ ذَلِكَ.

(تَنْبِيهٌ): قَوْلُهُ: وَاثْنَانِ؛ أَيْ: وَإِذَا مَاتَ اثْنَانِ مَا الْحُكْمُ؟ فَقَالَ وَاثْنَانِ: أَيْ: وَإِذَا مَاتَ اثْنَانِ فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: وَاثْنَيْنِ بِالنَّصْبِ؛ أَيْ: وَمَا حُكْمُ اثْنَيْنِ؟ وَفِي رِوَايَةِ سَهْلٍ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا: أَوِ اثْنَانِ. وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ حُكْمِ الثَّلَاثَةِ وَالِاثْنَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ النَّقْلُ عَنِ ابْنِ بَطَّالٍ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ فِي الْحَالِ، وَلَا بُعْدَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي أَسْرَعِ مِنْ طَرْفَةِ عَيْنٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ: كَانَ الْعِلْمُ عِنْدَهُ بِذَلِكَ حَاصِلًا، لَكِنَّهُ أَشْفَقَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَّكِلُوا؛ لِأَنَّ مَوْتَ الِاثْنَيْنِ غَالِبًا أَكْثَرُ مِنْ مَوْتِ الثَّلَاثَةِ كمَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ وَغَيْرِهِ فِي الشَّهَادَةِ بِالتَّوْحِيدِ، ثُمَّ لَمَّا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ الْجَوَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ شَرِيكٌ. . . إِلَخْ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ بِلَفْظِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَصْبَهَانِيِّ، قَالَ: أَتَانِي أَبُو صَالِحٍ يُعَزِّينِي عَنِ ابْنٍ لِي، فَأَخَذَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا مِنِ امْرَأَةٍ تَدْفِنُ ثَلَاثَةَ أَفْرَاطٍ إِلَّا كَانُوا لَهَا حِجَابًا مِنَ النَّارِ. فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدَّمْتُ اثْنَيْنِ؟ قَالَ: وَاثْنَيْنِ. وَلَمْ تَسْأَلْهُ عَنِ الْوَاحِدِ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَنْ لَمْ يَبْلُغِ الْحِنْثَ. وَهَذَا السِّيَاقُ ظَاهِرُهُ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْقُوفَةٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، وَأَبَا سَعِيدٍ اتَّفَقَا عَلَى السِّيَاقِ الْمَرْفُوعِ، وَزَادَ أَبُو هُرَيْرَةَ فِي حَدِيثِهِ هَذَا الْقَيْدَ، وَهُوَ مَرْفُوعٌ أَيْضًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْعِلْمِ

ص: 122

مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ شُعْبَةَ بِالْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: وَعَنِ ابْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ: سَمِعْتُ أَبَا حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَالَ: ثَلَاثَةٌ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ. وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مِنْ رِوَايَةِ شَرِيكٍ وَفِي حِفْظِهِ نَظَرٌ، لَكِنَّهَا ثَابِتَةٌ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنِ ابْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ. وَقَوْلُهُ: وَلَمْ تَسْأَلْهُ عَنِ الْوَاحِدِ تَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي أَوَّلِ الْبَابِ، وَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي بَابِ ثَنَاءِ النَّاسِ عَلَى الْمَيِّتِ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْجَنَائِزِ، وَيَأْتِي زِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ مَوْتُ الصَّبِيِّ، وَأَنَّ الصَّبِيَّ يَتَنَاوَلُ الْوَلَدَ الْوَاحِدَ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ:

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَلِيٌّ) هُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ، وَسُفْيَانُ هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ.

قَوْلُهُ: (لَا يَمُوتُ لِمُسْلِمٍ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ) وَقَعَ فِي الْأَطْرَافِ لِلْمِزِّيِّ هُنَا: لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ، وَلَيْسَتْ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَلَا مُسْلِمٍ، وَإِنَّمَا هِيَ فِي مَتْنِ الطَّرِيقِ الْآخَرِ، وَفَائِدَةُ إِيرَادِ هَذِهِ الطَّرِيقِ الْأَخِيرَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا مَا فِي سِيَاقِهَا مِنَ الْعُمُومِ فِي قَوْلِهِ: لَا يَمُوتُ لِمُسْلِمٍ. . . إِلَخْ، لِشُمُولِهِ النِّسَاءَ وَالرِّجَالَ، بِخِلَافِ رِوَايَتِهِ الْمَاضِيَةِ، فَإِنَّهَا مُقَيَّدَةٌ بِالنِّسَاءِ.

قَوْلُهُ: (فَيَلِجَ النَّارَ) بِالنَّصْبِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُضَارِعَ يُنْصَبُ بَعْدَ النَّفْيِ بِتَقْدِيرِ أَنْ، لَكِنْ حَكَى الطِّيبِيُّ أَنَّ شَرْطَهُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ مَا قَبْلَ الْفَاءِ، وَمَا بَعْدَهَا سَبَبِيَّةٌ، وَلَا سَبَبِيَّةَ هُنَا، إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْتُ الْأَوْلَادِ، وَلَا عَدَمُهُ سَبَبًا لِوُلُوجِ مَنْ وَلَدَهُمُ النَّارَ. قَالَ: وَإِنَّمَا الْفَاءُ بِمَعْنَى الْوَاوِ الَّتِي لِلْجَمْعِ، وَتَقْرِيرُهُ: لَا يَجْتَمِعُ لِمُسْلِمٍ مَوْتُ ثَلَاثَةٍ مِنْ وَلَدِهِ وَوُلُوجُهُ النَّارَ. لَا مَحِيدَ عَنْ ذَلِكَ إِنْ كَانَتِ الرِّوَايَةُ بِالنَّصْبِ، وَهَذَا قَدْ تَلَقَّاهُ جَمَاعَةٌ عَنِ الطِّيبِيِّ وَأَقَرُّوهُ عَلَيْهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ السَّبَبِيَّةَ حَاصِلَةٌ بِالنَّظَرِ إِلَى الْاستثْنَاءِ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بَعْدَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، فَكَأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ تَخْفِيفَ الْوُلُوجِ مُسَبَّبٌ عَنْ مَوْتِ الْأَوْلَادِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ الْوُلُوجَ عَامٌّ وَتَخْفِيفُهُ يَقَعُ بِأُمُورٍ، مِنْهَا مَوْتُ الْأَوْلَادِ بِشَرْطِهِ، وَمَا ادَّعَاهُ مِنْ أَنَّ الْفَاءَ بِمَعْنَى الْوَاوِ الَّتِي لِلْجَمْعِ فِيهِ نَظَرٌ، وَوَجَدْتُ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ لِلشَّيْخِ أَكْمَلِ الدِّينِ: الْمَعْنَى أَنَّ الْفِعْلَ الثَّانِي لَمْ يَحْصُلْ عَقِبَ الْأَوَّلِ، فَكَأَنَّهُ نَفَى وُقُوعَهُمَا بِصِفَةِ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي عَقِبَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْيُ الْوُلُوجِ عَقِبَ الْمَوْتِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنْ كَانَتِ الرِّوَايَةُ بِالرَّفْعِ فَمَعْنَاهُ لَا يُوجَدُ وُلُوجُ النَّارِ عَقِبَ مَوْتِ الْأَوْلَادِ إِلَّا مِقْدَارًا يَسِيرًا. انْتَهَى. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ بِلَفْظِ: لَا يَمُوتُ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ تَمَسُّهُ النَّارُ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ. وَقَوْلُهُ: تَمَسُّهُ بِالرَّفْعِ جَزْمًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ) بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ؛ أَيْ: مَا يَنْحَلُّ بِهِ الْقَسَمُ، وَهُوَ الْيَمِينُ، وَهُوَ مَصْدَرُ حَلَّلَ الْيَمِينَ، أَيْ كَفَّرَهَا. يُقَالُ: حَلَّلَ تَحْلِيلًا، وَتَحِلَّةً وَتَحِلًّا بِغَيْرِ هَاءٍ، وَالثَّالِثُ شَاذٌّ، وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: يُقَالُ: فَعَلْتُهُ تَحِلَّةَ الْقَسَمِ؛ أَيْ قَدْرَ مَا حَلَلْتُ بِهِ يَمِينِي، وَلَمْ أُبَالِغْ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: حَلَلْتُ الْقَسَمَ تَحِلَّةً؛ أَيْ أَبْرَرْتُهَا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: اخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِهَذَا الْقَسَمِ، فَقِيلَ: هُوَ مُعَيَّنٌ، وَقِيلَ: غَيْرُ مُعَيَّنٍ. فَالْجُمْهُورُ عَلَى الْأَوَّلِ، وَقِيلَ: لَمْ يُعْنَ بِهِ قَسَمٌ بِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ التَّقْلِيلُ لِأَمْرِ وُرُودِهَا، وَهَذَا اللَّفْظُ يُسْتَعْمَلُ فِي هَذَا، تَقُولُ: لَا يَنَامُ هَذَا إِلَّا لِتَحْلِيلِ الْإِلِيَّةِ، وَتَقُولُ: مَا ضَرَبْتُهُ إِلَّا تَحْلِيلًا، إِذَا لَمْ تُبَالِغْ فِي الضَّرْبِ؛ أَيْ قَدْرًا يُصِيبُهُ مِنْهُ مَكْرُوهٌ. وَقِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ بِمَعْنَى الْوَاوِ؛ أَيْ لَا تَمَسُّهُ النَّارُ قَلِيلًا، وَلَا كَثِيرًا، وَلَا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ، وَقَدْ جَوَّزَ الْفَرَّاءُ، وَالْأَخْفَشُ مَجِيءَ إِلَّا بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَجَعَلُوا مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى:{لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ * إِلا مَنْ ظَلَمَ} وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَبِهِ جَزَمَ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ، وَقَالُوا: الْمُرَادُ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا} قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ لَا يَدْخُلُ النَّارَ لِيُعَاقَبَ بِهَا وَلَكِنَّهُ يَدْخُلُهَا مُجْتَازًا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ الْجَوَازُ إِلَّا قَدْرَ مَا يُحَلِّلُ بِهِ الرَّجُلُ يَمِينَهُ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا وَقَعَ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ: إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ. يَعْنِي الْوُرُودَ.

وَفِي سُنَنِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ فِي آخِرِهِ: ثُمَّ قَرَأَ سُفْيَانُ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا} وَمِنْ

ص: 123

طَرِيقِ زَمْعَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي آخِرِهِ: قِيلَ وَمَا تَحِلَّةُ الْقَسَمِ؟ قَالَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا} وَكَذَا وَقَعَ مِنْ رِوَايَةِ كَرِيمَةَ فِي الْأَصْلِ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ:{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا} ، وَكَذَا حَكَاهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ، عَنْ مَالِكٍ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَوَرَدَ نَحْوُهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى فِي هَذَا الْحَدِيثِ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بِشْرٍ الْأَنْصَارِيِّ مَرْفُوعًا: مَنْ مَاتَ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ لَمْ يَرِدِ النَّارَ إِلَّا عَابِرَ سَبِيلٍ. يَعْنِي الْجَوَازَ عَلَى الصِّرَاطِ، وَجَاءَ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثٍ آخَرَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا: مَنْ حَرَسَ وَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مُتَطَوِّعًا لَمْ يَرَ النَّارَ بِعَيْنِهِ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل قَالَ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا} ، وَاخْتُلِفَ فِي مَوْضِعِ الْقَسَمِ مِنَ الْآيَةِ، فَقِيلَ: هُوَ مُقَدَّرٌ؛ أَيْ: وَاللَّهِ إِنْ مِنْكُمْ. وَقِيلَ: مَعْطُوفٌ عَلَى الْقَسَمِ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ} ؛ أَيْ: وَرَبِّكِ إِنْ مِنْكُمْ. وَقِيلَ: هُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتْمًا مَقْضِيًّا؛ أَيْ قَسَمًا وَاجِبًا، كَذَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ.

وَقَالَ الطِّيبِيُّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْقَسَمِ مَا دَلَّ عَلَى الْقَطْعِ وَالْبَتِّ مِنَ السِّيَاقِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ:{كَانَ عَلَى رَبِّكَ} تَذْيِيلٌ وَتَقْرِيرٌ لِقَوْلِهِ: {وَإِنْ مِنْكُمْ} فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْقَسَمِ، بَلْ أَبْلَغُ لِمَجِيءِ الِاسْتِثْنَاءِ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْمُرَادِ بِالْوُرُودِ فِي الْآيَةِ، فَقِيلَ: هُوَ الدُّخُولُ، رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ: أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَذَكَرَهُ. وَرَوَى أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: الْوُرُودُ الدُّخُولُ، لَا يَبْقَى بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ إِلَّا دَخَلَهَا، فَتَكُونُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بَرْدًا وَسَلَامًا، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ سَمِعْتُ مُرَّةَ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: يَرِدُونَهَا أَوْ يَلِجُونَهَا، ثُمَّ يَصْدُرُونَ عَنْهَا بِأَعْمَالِهِمْ، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: قُلْتُ لِشُعْبَةَ: إِنَّ إِسْرَائِيلَ يَرْفَعُهُ. قَالَ: صَدَقَ، وَعَمْدًا أَدَعُهُ. ثُمَّ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ مَرْفُوعًا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْوُرُودِ الْمَمَرُّ عَلَيْهَا، رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، وَسَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، وَمِنْ طَرِيقِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَزَادَ: يَسْتَوُونَ كُلُّهُمْ عَلَى مَتْنِهَا، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ: أَمْسِكِي أَصْحَابَكِ، وَدَعِي أَصْحَابِي، فَيَخْرُجُ الْمُؤْمِنُونَ نَدِيَّةً أَبْدَانُهُمْ.

وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ أَصَحُّ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ مَنْ عَبَرَ بِالدُّخُولِ تَجَوَّزَ بِهِ عَنِ الْمُرُورِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمَارَّ عَلَيْهَا فَوْقَ الصِّرَاطِ فِي مَعْنَى مَنْ دَخَلَهَا، لَكِنْ تَخْتَلِفُ أَحْوَالُ الْمَارَّةِ بِاخْتِلَافِ أَعْمَالِهِمْ، فَأَعْلَاهُمْ دَرَجَةً مَنْ يَمُرُّ كَلَمْعِ الْبَرْقِ، كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ عِنْدَ شَرْحِ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ فِي الرِّقَاقِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَيُؤَيِّدُ صِحَّةَ هَذَا التَّأْوِيلِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ مُبَشِّرٍ: إِنَّ حَفْصَةَ قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَالَ: لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ النَّارَ. أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا} ؟ فَقَالَ لَهَا: أَلَيْسَ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} الْآيَةَ. وَفِي هَذَا بَيَانُ ضَعْفِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: الْوُرُودُ مُخْتَصٌّ بِالْكُفَّارِ، وَمَنْ قَالَ: مَعْنَى الْوُرُودِ الدُّنُوُّ مِنْهَا، وَمَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ الْإِشْرَافُ عَلَيْهَا، وَمَنْ قَالَ: مَعْنَى وُرُودِهَا مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْحُمَّى، عَلَى أَنَّ هَذَا الْأَخِيرَ لَيْسَ بِبَعِيدٍ، وَلَا يُنَافِيهِ بَقِيَّةُ الْأَحَادِيثِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ: أَنَّ أَوْلَادَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجَنَّةِ، لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِلْآبَاءِ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ لِلْأَبْنَاءِ، وَلَا يَرْحَمُ الْأَبْنَاءَ. قَالَهُ الْمُهَلَّبُ، وَكَوْنُ أَوْلَادِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجَنَّةِ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ، وَوَقَفَتْ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ

ص: 124

الْجَنَائِزِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَفِيهِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَفْعَلَ

(1)

كَذَا ثُمَّ فَعَلَ مِنْهُ شَيْئًا وَلَوْ قَلَّ بَرَّتْ يَمِينُهُ، خِلَافًا لِمَالِكٍ، قَالَهُ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ.

‌7 - بَاب قَوْلِ الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ عِنْدَ الْقَبْرِ اصْبِرِي

1252 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِامْرَأَةٍ عِنْدَ قَبْرٍ وَهِيَ تَبْكِي فَقَالَ: اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي.

[الحديث 1252 - أطرافه في: 1283، 1302، 7154]

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ عِنْدَ الْقَبْرِ: اصْبِرِي) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ مَا مُحَصِّلُهُ: عَبَّرَ بِقَوْلِهِ: الرجل لَيُوَضِّحَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَعَبَّرَ بِالْقَوْلِ دُونَ الْمَوْعِظَةِ وَنَحْوِهَا لِكَوْنِ ذَلِكَ الْأَمْرِ يَقَعُ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ مِنَ الْوَعْظَ وَغَيْرِهِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الصَّبْرِ دُونَ التَّقْوَى؛ لِأَنَّهُ الْمُتَيَسِّرُ حِينَئِذٍ، الْمُنَاسِبُ لِمَا هِيَ فِيهِ. قَالَ: وَمَوْضِعُ التَّرْجَمَةِ مِنَ الْفِقْهِ جَوَازُ مُخَاطَبَةِ الرِّجَالِ النِّسَاءَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ بِمَا هُوَ أَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَهْيٍ عَنْ المنكر، أَوْ مَوْعِظَةٍ، أَوْ تَعْزِيَةٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِعَجُوزٍ دُونَ شَابَّةٍ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا آدَمُ) سَيَأْتِي هَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِعَيْنِهِ أَتَمَّ مِنْ هَذَا فِي بَابِ زِيَارَةِ الْقُبُورِ بَعْدَ زِيَادةٍ عَلَى عِشْرِينَ بَابًا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ هُنَاكَ مُسْتَوْفًى، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ لِمَا قَبْلَهَا لِجَامِعِ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ مُخَاطَبَةِ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ بِالْمَوْعِظَةِ، لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ جَوَازُ مُخَاطَبَتِهَا بِمَا يُرَغِّبُهَا فِي الْأَجْرِ إِذَا احْتَسَبَتْ مُصِيبَتَهَا، وَفِي هَذَا مُخَاطَبَتُهَا بِمَا يُرَهِّبُهَا مِنَ الْإِثْمِ لِمَا تَضَمَّنَهُ الْحَدِيثُ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ عَدَمَ الصَّبْرِ يُنَافِي التَّقْوَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌8 - بَاب غُسْلِ الْمَيِّتِ وَوُضُوئِهِ بِالْمَاءِ وَالسَّدْرِ

وَحَنَّطَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما ابْنًا لِسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ وَحَمَلَهُ وَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: الْمُسْلِمُ لَا يَنْجُسُ حَيًّا وَلَا مَيِّتًا. وَقَالَ سَعِيدٌ: لَوْ كَانَ نَجِسًا مَا مَسِسْتُهُ. وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الْمُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ

1253 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الْأَنْصَارِيَّةِ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ تُوُفِّيَتْ ابْنَتُهُ فَقَالَ: اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِي الْآخِرَةِ كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي، فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ فَأَعْطَانَا حِقْوَهُ فَقَالَ: أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ، تَعْنِي إِزَارَهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ غُسْلِ الْمَيِّتِ وَوُضُوئِهِ)؛ أَيْ بَيَانُ حُكْمِهِ، وَقَدْ نَقَلَ النَّوَوِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ غُسْلَ الْمَيِّتِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَهُوَ ذُهُولٌ شَدِيدٌ، فَإِنَّ الْخِلَافَ مَشْهُورٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، حَتَّى إِنَّ الْقُرْطُبِيَّ رَجَّحَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ سُنَّةٌ، وَلَكِنَّ

(1)

كذا في النسخ، والصواب "أن يفعل" باسقاط حرف النفي، وبذلك يستقيم الكلام. والله أعلم

ص: 125

الْجُمْهُورَ عَلَى وُجُوبِهِ. وَقَدْ رَدَّ ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَلَى مَنْ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ، وَقَدْ تَوَارَدَ بِهِ الْقَوْلُ وَالْعَمَلُ، وَغُسِّلَ الطَّاهِرُ الْمُطَهَّرُ، فَكَيْفَ بِمَنْ سِوَاهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ:(وَوُضُوئِهِ) فَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: تَرْجَمَ بِالْوُضُوءِ، وَلَمْ يَأْتِ لَهُ بِحَدِيثٍ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ انْتِزَاعَ الْوُضُوءِ مِنَ الْغُسْلِ، لِأَنَّهُ مُنَزَّلٌ عَلَى الْمَعْهُودِ مِنَ الْأَغْسَالِ كَغُسْلِ الْجَنَابَةِ، أَوْ أَرَادَ وُضُوءَ الْغَاسِلِ؛ أَيْ: لَا يَلْزَمُهُ وُضُوءٌ، وَلِهَذَا سَاقَ أَثَرَ ابْنِ عُمَرَ. انْتَهَى. وَفِي عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى الْغَاسِلِ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ بَعْدُ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: تَقْدِيرُ التَّرْجَمَةِ: بَابُ غُسْلِ الْحَيِّ الْمَيِّتَ، لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَتَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، فَيَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى الْمَحْذُوفِ فَيَتَّجِهُ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ أَشَارَ كَعَادَتِهِ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ، فَسَيَأْتِي قَرِيبًا فِي حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ أَيْضًا: ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا، وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا. فَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ الْوُضُوءَ لَمْ يَرِدِ الْأَمْرَ بِهِ مُجَرَّدًا، وَإِنَّمَا وَرَدَ الْبُدَاءَةُ بِأَعْضَاءِ الْوُضُوءِ كَمَا يُشْرَعُ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ، أَوْ أَرَادَ أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى الْوُضُوءِ لَا يُجْزِئُ لَوُروَدِ الْأَمْرِ بِالْغُسْلِ.

قَوْلُهُ: (بِالْمَاءِ وَالسِّدْرِ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: جَعَلَهُمَا مَعًا آلَةً لِغُسْلِ الْمَيِّتِ، وَهُوَ مُطَابِقٌ لِحَدِيثِ الْبَابِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: بِمَاءٍ وَسِدْرٍ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: اغْسِلْنَهَا، وَظَاهِرُهُ أَنَّ السِّدْرَ يُخْلَطُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ مِنْ مَرَّاتِ الْغُسْلِ، وَهُوَ مُشْعِرٌ بِأَنَّ غُسْلَ الْمَيِّتِ لِلتَّنْظِيفِ لَا لِلتَّطْهِيرِ، لِأَنَّ الْمَاءَ الْمُضَافَ لَا يُتَطَهَّرُ بِهِ. انْتَهَى. وَقَدْ يَمْنَعُ لُزُومُ كَوْنِ الْمَاءِ يَصِيرُ مُضَافًا بِذَلِكَ

(1)

، لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يُغَيِّرَ السِّدْرُ وَصْفَ الْمَاءِ بِأَنْ يُمَعَّكَ بِالسِّدْرِ، ثُمَّ يُغْسَلَ بِالْمَاءِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، فَإِنَّ لَفْظَ الْخَبَرِ لَا يَأْبَى ذَلِكَ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يُجْعَلُ السِّدْرُ فِي مَاءٍ، وَيُخَضْخَضُ إِلَى أَنْ تَخْرُجَ رَغْوَتُهُ، وَيُدْلَكُ بِهِ جَسَدُهُ، ثُمَّ يُصَبُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ الْقَرَاحُ، فَهَذِهِ غَسْلَةٌ. وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ أَنَّ قَوْمًا قَالُوا: تُطْرَحُ وَرَقَاتُ السِّدْرِ فِي الْمَاءِ؛ أَيْ لِئَلَّا يُمَازِجَ الْمَاءَ، فَيَتَغَيَّرَ وَصْفُهُ الْمُطْلَقُ. وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَقَالَ: يُغْسَلُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ بِالْمَاءِ وَالسِّدْرِ. وَأَعْلَى مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ الْغُسْلَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ فَيَغْسِلُ بِالْمَاءِ وَالسِّدْرِ مَرَّتَيْنِ، وَالثَّالِثَةُ بِالْمَاءِ وَالْكَافُورِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كَانَ يُقَالُ: كَانَ ابْنُ سِيرِينَ مِنْ أَعْلَمِ التَّابِعِينَ بِذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: مَنْ قَالَ الْأُولَى بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ، وَالثَّانِيَةُ بِالْمَاءِ وَالسِّدْرِ، أَوِ الْعَكْسُ، وَالثَّالِثَةُ بِالْمَاءِ وَالْكَافُورِ فَلَيْسَ هُوَ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ اهـ.

وَكَأَنَّ قَائِلَهُ أَرَادَ أَنْ تَقَعَ إِحْدَى الْغَسَلَاتِ بِالْمَاءِ الصِّرْفِ الْمُطْلَقِ، لِأَنَّهُ الْمُطَهِّرُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَأَمَّا الْمُضَافُ فَلَا. وَتَمَسَّكَ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ ابْنُ شَعْبَانَ، وَابْنُ الْفَرْضِيِّ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، فَقَالُوا: غُسْلُ الْمَيِّتِ إِنَّمَا هُوَ لِلتَّنْظِيفِ، فَيُجْزِئُ بِالْمَاءِ الْمُضَافِ كَمَاءِ الْوَرْدِ وَنَحْوِهِ، قَالُوا: وَإِنَّمَا يُكْرَهُ مِنْ جِهَةِ السَّرَفِ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ غُسْلٌ تَعَبُّدِيٌّ يُشْتَرَطُ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي بَقِيَّةِ الْأَغْسَالِ الْوَاجِبَةِ وَالْمَنْدُوبَةِ. وَقِيلَ: شُرِعَ احْتِيَاطًا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ جَنَابَةٌ، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ لَازِمَهُ أَنْ لَا يُشْرَعَ غُسْلُ مَنْ هُوَ دُونَ الْبُلُوغِ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ.

قَوْلُهُ: (وَحَنَّطَ ابْنُ عُمَرَ ابْنًا لِسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وَحَمَلَهُ، وَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ) حَنَّطَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ، وَالنُّونِ الثَّقِيلَةِ؛ أَيْ طَيَّبَهُ بِالْحَنُوطِ، وَهُوَ كُلُّ شَيْءٍ يُخْلَطُ مِنَ الطِّيبِ لِلْمَيِّتِ خَاصَّةً، وَقَدْ وَصَلَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ حَنَّطَ ابْنًا لِسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وَحَمَلَهُ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. انْتَهَى. وَالِابْنُ الْمَذْكُورُ اسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، كَذَلِكَ رَوَيْنَاهُ فِي نُسْخَةِ أَبِي الْجَهْمِ الْعَلَاءِ بْنِ مُوسَى، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّهُ رَأَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ حَنَّطَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ فَذَكَرَهُ. قِيلَ: تَعَلَّقَ هَذَا الْأَثَرُ وَمَا بَعْدَهُ بِالتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمُصَنِّفَ يَرَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجَسُ بِالْمَوْتِ، وَأَنَّ غُسْلَهُ إِنَّمَا هُوَ لِلتَّعَبُّدِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَجِسًا لَمْ يُطَهِّرْهُ الْمَاءُ وَالسِّدْرُ، وَلَا الْمَاءُ وَحْدَهُ،

(1)

الصواب أن يقال: إن في هذا الحديث دلالة على أن الماء المضاف طهور ما دام اسم الماء ثابتا له إذا كان المضاف إليه طاهرا كالسدر ونحوه، وقد اختار ذلك أبو العباس بن تيمية وتلميذه العلامة ابن القديم رحمهما الله، كما سيأتي مثله من ابن العربي في شرح الحديث الآني من 129 والله أعلم

ص: 126

وَلَوْ كَانَ نَجِسًا مَا مَسَّهُ ابْنُ عُمَرَ، وَلَغَسَلَ مَا مَسَّهُ مِنْ أَعْضَائِهِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى تَضْعِيفِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: مَنْ غَسَّلَ الْمَيِّتَ فَلْيَغْتَسِلْ، وَمَنْ حَمَلَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ. رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ إِلَّا عَمْرَو بْنَ عُمَيْرٍ، فَلَيْسَ بِمَعْرُوفٍ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ، وَهُوَ مَعْلُولٌ، لِأَنَّ أَبَا صَالِحٍ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ: الصَّوَابُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْقُوفٌ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ بَعْدَ تَخْرِيجِهِ: هَذَا مَنْسُوخٌ، وَلَمْ يُبَيِّنْ نَاسِخَهُ.

وَقَالَ الذُّهْلِيُّ فِيمَا حَكَاهُ الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ: لَيْسَ فِيمَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ حَدِيثُ ثَابِتٍ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما. . . إِلَخْ) وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: لَا تُنَجِّسُوا مَوْتَاكُمْ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيْسَ يَنْجَسُ حَيًّا وَلَا مَيِّتًا. إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا، أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مَنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَحْيَى الْمَخْزُومِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُثْمَانَ ابْنَيْ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ سُفْيَانَ، وَالَّذِي فِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ سُفْيَانَ مَوْقُوفٌ، كَمَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَرَوَى الْحَاكِمُ نَحْوَهُ مَرْفُوعًا أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، وَقَوْلُهُ: لَا تُنَجِّسُوا مَوْتَاكُمْ؛ أَيْ لَا تَقُولُوا إِنَّهُمْ نَجَسٌ. وَقَوْلُهُ: يَنْجَسُ بِفَتْحِ الْجِيمِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ سَعْدٌ: لَوْ كَانَ نَجِسًا مَا مَسِسْتُهُ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ، وَأَبِي الْوَقْتِ: وَقَالَ سَعِيدٌ بِزِيَادَةِ يَاءٍ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَهُوَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ كَذَلِكَ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ، قَالَتْ: أُوذِنَ سَعْدٌ - تَعْنِي أَبَاهَا - بِجِنَازَةِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرٍو، وَهُوَ بِالْعَقِيقِ فَجَاءَهُ فَغَسَّلَهُ، وَكَفَّنَهُ وَحَنَّطَهُ، ثُمَّ أَتَى دَارَهُ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ قَالَ: لَمْ أَغْتَسِلْ مِنْ غُسْلِهِ، وَلَوْ كَانَ نَجِسًا مَا مَسِسْتُهُ، وَلَكِنِّي اغْتَسَلْتُ مِنَ الْحَرِّ. وَقَدْ وَجَدْتُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَخْرَجَهُ سَمُّويَهِ فِي فَوَائِدِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي وَاقِدٍ الْمَدَنِيِّ قَالَ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّهُ نَجِسٌ لَمْ أَمَسَّهُ.

وَفِي أَثَرِ سَعْدٍ مِنَ الْفَوَائِدِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا يَخْشَى أَنْ يَلْتَبِسَ عَلَى مَنْ رَآهُ أَنْ يُعْلِمَهُمْ بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ، لِئَلَّا يَحْمِلُوهُ عَلَى غَيْرِ مَحْمَلِهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الْمُؤْمِنُ لَا يَنْجَسُ) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ لِأَبِي هُرَيْرَةَ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي بَابِ الْجُنُبِ يَمْشِي فِي السُّوقِ مِنْ كِتَابِ الْغُسْلِ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّ صِفَةَ الْإِيمَانِ لَا تُسْلَبُ بِالْمَوْتِ وَإِذَا كَانَتْ بَاقِيَةً فَهُوَ غَيْرُ نَجِسٍ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورُ قَبْلُ، وَوَقَعَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ هُنَا: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: النَّجِسُ الْقَذِرُ. انْتَهَى. وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ هُوَ الْبُخَارِيُّ. وَأَرَادَ بِذَلِكَ نَفْيَ هَذَا الْوَصْفِ، وَهُوَ النَّجَسُ عَنِ الْمُسْلِمِ حَقِيقَةً وَمَجَازًا.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَيُّوبَ: سَمِعْتُ ابْنَ سِيرِينَ. وَسَيَأْتِي فِي بَابِ كَيْفَ الْإِشْعَارُ، وَقَدْ رَوَاهُ أَيُّوبُ أَيْضًا عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ، وَمَدَارُ حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَحَفْصَةَ ابْنَيْ سِيرِينَ، وَحَفِظَتْ مِنْهُ حَفْصَةُ مَا لَمْ يَحْفَظْهُ مُحَمَّدٌ كَمَا سَيَأْتِي مُبَيَّنًا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَيْسَ فِي أَحَادِيثِ الْغُسْلِ لِلْمَيِّتِ أَعْلَى مِنْ حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ وَعَلَيْهِ عَوَّلَ الْأَئِمَّةُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الْأَنْصَارِيَّةِ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ الْمَذْكُورَةِ: جَاءَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ - امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ اللَّاتِي بَايَعْنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدِمَتِ الْبَصْرَةَ - تُبَادِرُ ابْنًا لَهَا فَلَمْ تُدْرِكْهُ. وَهَذَا الِابْنُ مَا عَرَفْتُ اسْمَهُ، وَكَأَنَّهُ كَانَ غَازِيًا، فَقَدِمَ الْبَصْرَةَ فَبَلَغَ أُمَّ عَطِيَّةَ وَهِيَ بِالْمَدِينَةِ قُدُومَهُ، وَهُوَ مَرِيضٌ، فَرَحَلَتْ إِلَيْهِ، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ تَلْقَاهُ. وَسَيَأْتِي فِي الْإِحْدَادِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قُدُومَهَا كَانَ بَعْدَ مَوْتِهِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ أَنَّ اسْمَهَا نُسَيْبَةَ بِنُونٍ وَمُهْمَلَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ. وَالْمَشْهُورُ فِيهَا التَّصْغِيُرُ، وَقِيلَ: بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَقَعَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ عَنِ السَّرَخْسِيِّ وَكَذَا ضَبَطَهُ الْأَصِيلِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، وَطَاهِرِ

ص: 127

بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي السِّيرَةِ الْهِشَامِيَّةِ.

قَوْلُهُ: (حِينَ تُوُفِّيَتِ ابْنَتُهُ) فِي رِوَايَةِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَيُّوبَ، وَهِيَ الَّتِي تَلِي هَذِهِ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ: دَخَلَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ نُغَسِّلُ بِنْتَهُ. وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ دَخَلَ حِينَ شَرَعَ النِّسْوَةُ فِي الْغُسْلِ، وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ أَنَّ مَجِيئَهُنَّ إِلَيْهَا كَانَ بِأَمْرِهِ، وَلَفْظُهُ مِنْ رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنْ حَفْصَةَ: مَاتَتْ إِحْدَى بَنَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَرْسَلَ إِلَيْنَا، فَقَالَ: اغْسِلْنَهَا.

قَوْلُهُ: (ابْنَتُهُ) لَمْ تَقَعْ فِي شَيْءٍ مِنْ رِوَاياتِ الْبُخَارِيِّ مُسَمَّاةً، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا زَيْنَبُ زَوْجُ أَبِي الْعَاصي بْنِ الرَّبِيعِ وَالِدَةُ أُمَامَةَ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي الصَّلَاةِ، وَهِيَ أَكْبَرُ بَنَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَتْ وَفَاتُهَا فِيمَا حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ فِي الذَّيْلِ فِي أَوَّلِ سَنَةِ ثَمَانٍ، وَقَدْ وَرَدَتْ مُسَمَّاةً فِي هَذَا عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ عَنْ حَفْصَةَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: لَمَّا مَاتَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اغْسِلْنَهَا: فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَلَمْ أَرَهَا فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ عَنْ حَفْصَةَ، وَلَا عَنْ مُحَمَّدٍ مُسَمَّاةً إِلَّا فِي رِوَايَةِ عَاصِمٍ هَذِهِ، وَقَدْ خُولِفَ فِي ذَلِكَ، فَحَكَى ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ الشَّارِحِ أَنَّهُ جَزَمَ بِأَنَّ الْبِنْتَ الْمَذْكُورَةَ أُمُّ كُلْثُومٍ زَوْجُ عُثْمَانَ، وَلَمْ يَذْكُرْ مُسْتَنَدَهُ، وَتَعَقَّبَهُ الْمُنْذِرِيُّ بِأَنَّ أُمَّ كُلْثُومٍ تُوُفِّيَتْ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِبَدْرٍ، فَلَمْ يَشْهَدْهَا، وَهُوَ غَلَطٌ مِنْهُ، فَإِنَّ الَّتِي تُوُفِّيَتْ حِينَئِذٍ رُقَيَّةُ، وَعَزَاهُ النَّوَوِيُّ تَبَعًا لِعِيَاضٍ لِبَعْضِ أَهْلِ السِّيَرِ، وَهُوَ قُصُورٌ شَدِيدٌ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَيُّوبَ وَلَفْظُهُ: دَخَلَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ نُغَسِّلُ ابْنَتَهُ أُمَّ كُلْثُومٍ. وَهَذَا الْإِسْنَادُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَفِيهِ نَظَرٌ سَيَأْتِي فِي بَابِ كَيْفَ الْإِشْعَارُ وَكَذَا وَقَعَ فِي الْمُبْهَمَاتِ لِابْنِ بَشْكُوَالٍ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: كُنْتُ فِيمَنْ غَسَّلَ أُمَّ كُلْثُومٍ.

الْحَدِيثَ. وَقَرَأْتُ بِخَطِّ مُغَلْطَايْ: زَعَمَ التِّرْمِذِيُّ أَنَّهَا أُمُّ كُلْثُومٍ وَفِيهِ نَظَرٌ. كَذَا قَالَ، وَلَمْ أَرَ فِي التِّرْمِذِيِّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ رَوَى الدُّولَابَيُّ فِي الذُّرِّيَّةِ الطَّاهِرَةِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الرِّجَالِ عَنْ عَمْرَةَ: أَنَّ أُمَّ عَطِيَّةَ كَانَتْ مِمَّنْ غَسَّلَ أُمَّ كُلْثُومٍ ابْنَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. الْحَدِيثَ. فَيُمْكِنُ دَعْوَى تَرْجِيحِ ذَلِكَ لِمَجِيئِهِ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنْ تَكُونَ حَضَرَتْهُمَا جَمِيعًا، فَقَدْ جَزَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رحمه الله فِي تَرْجَمَتِهَا بِأَنَّهَا كَانَتْ غَاسِلَةَ الْمَيِّتَاتِ، وَوَقَعَ لِي مِنْ تَسْمِيَةِ النِّسْوَةِ اللَّاتِي حَضَرْنَ مَعَهَا ثَلَاثٌ غَيْرُهَا، فَفِي الذُّرِّيَّةِ الطَّاهِرَةِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ، أَنَّهَا كَانَتْ مِمَّنْ غَسَّلَهَا، قَالَتْ: وَمَعَنَا صَفِيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ لَيْلَى بِنْتِ قَانِفٍ - بِقَافٍ وَنُونٍ وَفَاءٍ - الثَّقَفِيَّةِ، قَالَتْ: كُنْتُ فِيمَنْ غَسَّلَهَا. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سُلَيْمٍ شَيْئًا يُومِئُ إِلَى أَنَّهَا حَضَرَتْ ذَلِكَ أَيْضًا، وَسَيَأْتِي بَعْدَ خَمْسَةِ أَبْوَابٍ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ: وَلَا أَدْرِي أَيُّ بَنَاتِهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَسْمِيَتَهَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ دُونَ ابْنِ سِيرِينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (اغْسِلْنَهَا) قَالَ ابْنُ بَزِيزَةَ: اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ غُسْلِ الْمَيِّتِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ فِيمَا بَعْدُ: إِنْ رَأَيْتينَّ ذَلِكَ هَلْ يَرْجِعُ إِلَى الْغُسْلِ أَوِ الْعَدَدِ، وَالثَّانِي أَرْجَحُ، فَثَبَتَ الْمُدَّعَى. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَكِنْ قَوْلُهُ ثَلَاثًا، لَيْسَ لِلْوُجُوبِ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ، فَيَتَوَقَّفُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى تَجْوِيزِ إِرَادَةِ الْمَعْنَيَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: ثَلَاثًا غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا تَحْتَ صِيغَةِ الْأَمْرِ، فَيُرَادَ بِلَفْظِ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَصْلِ الْغُسْلِ، وَالنَّدْبُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِيتَارِ. انْتَهَى. وَقَوَاعِدُ الشَّافِعِيَّةِ لَا تَأْبَى ذَلِكَ. وَمِنْ ثَمَّ ذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ وَالْمُزَنِيُّ إِلَى إِيجَابِ الثَّلَاثِ، وَقَالُوا: إِنْ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ بَعْدَ ذَلِكَ يُغْسَلُ مَوْضِعُهُ، وَلَا يُعَادُ غُسْلُ الْمَيِّتِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ. وَجَاءَ عَنِ الْحَسَنِ مِثْلُهُ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ يُغَسَّلُ ثَلَاثًا، فَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ بَعْدُ فَخَمْسًا، فَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ غُسِّلَ سَبْعًا. قَالَ هِشَامٌ وَقَالَ الْحَسَنُ: يُغَسَّلُ ثَلَاثًا، فَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ غُسِلَ مَا خَرَجَ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى الثَّلَاثِ.

ص: 128

قَوْلُهُ: (ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا) فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنْ حَفْصَةَ: اغْسِلْنَهَا وِتْرًا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا. وَأَوْ هُنَا لِلتَّرْتِيبِ لَا لِلتَّخْيِيرِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُرَادُ: اغْسِلْنَهَا وِتْرًا، وَلْيَكُنْ ثَلَاثًا، فَإِنِ احْتَجْنَ إِلَى زِيَادَةٍ فَخَمْسًا، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْإِيتَارَ مَطْلُوبٌ، وَالثَّلَاثُ مُسْتَحَبَّةٌ، فَإِنْ حَصَلَ الْإِنْقَاءُ بِهَا لَمْ يُشْرَعْ مَا فَوْقَهَا، وَإِلَّا زِيدَ وِتْرًا، حَتَّى يَحْصُلَ الْإِنْقَاءُ، وَالْوَاجِبُ مِنْ ذَلِكَ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ عَامَّةٌ لِلْبَدَنِ. انْتَهَى. وَقَدْ سَبَقَ بَحْثُ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فِي قَوْلِهِ: أَوْ خَمْسًا إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْمَشْرُوعَ هُوَ الْإِيتَارُ، لِأَنَّهُ نَقَلَهُنَّ مِنَ الثَّلَاثِ إِلَى الْخَمْسِ وَسَكَتَ عَنِ الْأَرْبَعِ.

قَوْلُهُ: (أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكِ) بِكَسْرِ الْكَافِ لِأَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُؤَنَّثِ. فِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ عَنْ حَفْصَةَ كَمَا فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ: ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا. وَلَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ بَعْدَ قَوْلِهِ سَبْعًا التَّعْبِيرَ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، إِلَّا فِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ، وَأَمَّا مَا سِوَاهَا فَإِمَّا أَوْ سَبْعًا، وَإِمَّا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَيَحْتَمِلُ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بِالسَّبْعِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، فَكَرِهَ الزِّيَادَةَ عَلَى السَّبْعِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِمُجَاوَزَةِ السَّبْعِ، وَسَاقَ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ أَنَّ ابْنَ سِيرِينَ كَانَ يَأْخُذُ الْغُسْلَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ ثَلَاثًا، وَإِلَّا فَخَمْسًا، وَإِلَّا فَأَكْثَرَ، قَالَ: فَرَأَيْنَا أَنَّ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ سَبْعٌ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الزِّيَادَةُ عَلَى السَّبْعِ سَرَفٌ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: بَلَغَنِي أَنَّ جَسَدَ الْمَيِّتِ يَسْتَرْخِي بِالْمَاءِ، فَلَا أُحِبُّ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ) مَعْنَاهُ التَّفْوِيضُ إِلَى اجْتِهَادِهِنَّ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ لَا التَّشَهِّي. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: إِنَّمَا فَوَّضَ الرَّأْيَ إِلَيْهِنَّ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ الْإِيتَارُ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ عَنْ بَعْضِهِمْ قَالَ: يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ إِنْ رَأَيْتُنَّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْأَعْدَادِ الْمَذْكُورَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: إِنْ رَأَيْتُنَّ أَنْ تَفْعَلْنَ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَالْإِنْقَاءُ يَكْفِي.

قَوْلُهُ: (بِمَاءٍ وَسِدْرٍ) قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذَا أَصْلٌ فِي جَوَازِ التَّطَهُّرِ بِالْمَاءِ الْمُضَافِ إِذَا لَمْ يَسْلُبِ الْمَاءُ الْإِطْلَاقَ. انْتَهَى. وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الصَّحِيحِ أَنَّ غُسْلَ الْمَيِّتِ لِلتَّطْهِيرِ كَمَا تَقَدَّمَ.

قَوْلُهُ: (وَاجْعَلْنَ فِي الْآخِرَةِ كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ) هُوَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي؛ أَيِ اللَّفْظَتَيْنِ، قَالَ: وَالْأَوَّلُ مَحْمُولٌ عَلَى الثَّانِي، لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ، فَيَصْدُقُ بِكُلِّ شَيْءٍ مِنْهُ، وَجَزَمَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ بِالشِّقِّ الْأَوَّلِ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَظَاهِرُهُ جَعْلُ الْكَافُورِ فِي الْمَاءِ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَالْكُوفِيُّونَ: إِنَّمَا يُجْعَلُ فِي الْحَنُوطِ؛ أَيْ بَعْدَ انتْهَاءِ الْغُسْلِ وَالتَّجْفِيفِ، قِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي الْكَافُورِ مَعَ كَوْنِهِ بطيب رَائِحَةَ الْمَوْضِعِ لِأَجْلِ مَنْ يَحْضُرُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ فِيهِ تَجْفِيفًا وَتَبْرِيدًا وَقُوَّةَ نُفُوذٍ، وَخَاصِّيَّةً فِي تَصْلِيبِ بَدَنِ الْمَيِّتِ، وَطَرْدَ الْهَوَامِّ عَنْهُ، وَرَدْعَ مَا يَتَحَلَّلُ مِنَ الْفَضَلَاتِ، وَمَنْعَ إِسْرَاعِ الْفَسَادِ إِلَيْهِ، وَهُوَ أَقْوَى الْأَرَايِيحِ الطَّيِّبَةِ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ السِّرُّ فِي جَعْلِهِ فِي الْأَخِيرَةِ، إِذْ لَوْ كَانَ فِي الْأُولَى مَثَلًا لَأَذْهَبَهُ الْمَاءُ، وَهَلْ يَقُومُ الْمِسْكُ مَثَلًا مَقَامَ الْكَافُورِ؟ إِنْ نُظِرَ إِلَى مُجَرَّدِ التَّطَيُّبِ فَنَعَمْ، وَإِلَّا فَلَا، وَقَدْ يُقَالُ: إِذَا عُدِمَ الْكَافُورُ قَامَ غَيْرُهُ مَقَامَهُ، وَلَوْ بِخَاصِّيَّةٍ وَاحِدَةٍ مَثَلًا.

قَوْلُهُ: (فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي)؛ أَيْ أَعْلِمْنَنِي.

قَوْلُهُ: (فَلَمَّا فَرَغْنَا) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِصِيغَةِ الْخِطَابِ مِنَ الْحَاضِرِ، وَلَلْأَصِيلِيِّ: فَلَمَّا فَرَغْنَ بِصِيغَةِ الْغَائِبِ.

قَوْلُهُ: (حَقْوَهُ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ - وَيَجُوزُ كَسْرُهَا، وَهِيَ لُغَةُ هُذَيْلٍ - بَعْدَهَا قَافٌ سَاكِنَةٌ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْإِزَارُ كَمَا وَقَعَ مُفَسَّرًا فِي آخِرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَالْحَقْوُ فِي الْأَصْلِ مَعْقِدُ الْإِزَارِ، وَأُطْلِقَ عَلَى الْإِزَارِ مَجَازًا، وَسَيَأْتِي بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ بِلَفْظِ: فَنَزَعَ مِنْ حَقْوِهِ إِزَارَهُ. وَالْحَقْوُ فِي هَذَا عَلَى حَقِيقَتِهِ.

قَوْلُهُ: (أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ)؛ أَيِ اجْعَلْنَهُ شِعَارَهَا؛ أَيِ الثَّوْبُ الَّذِي يَلِي جَسَدَهَا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى صِفَتِهِ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ، قِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي تَأْخِيرِ الْإِزَارِ مَعَهُ إِلَى أَنْ يَفْرُغْنَ مِنَ الْغُسْلِ، وَلَمْ يُنَاوِلْهُنَّ إِيَّاهُ أَوَّلًا لِيَكُونَ قَرِيبَ الْعَهْدِ مِنْ جَسَدِهِ الْكَرِيمِ، حَتَّى لَا يَكُونَ بَيْنَ انْتِقَالِهِ مِنْ جَسَدِهِ إِلَى جَسَدِهَا فَاصِلٌ، وَهُوَ أَصْلٌ فِي التَّبَرُّكِ

ص: 129

بِآثَارِ الصَّالِحِينَ

(1)

وَفِيهِ جَوَازُ تَكْفِينِ الْمَرْأَةِ فِي ثَوْبِ الرَّجُلِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ.

‌9 - بَاب مَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُغْسَلَ وِتْرًا

1254 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نَغْسِلُ ابْنَتَهُ فَقَالَ: اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِي الْآخِرَةِ كَافُورًا، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي، فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ فَأَلْقَى إِلَيْنَا حِقْوَهُ فَقَالَ: أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ.

فَقَالَ أَيُّوبُ: وَحَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ بِمِثْلِ حَدِيثِ مُحَمَّدٍ، وَكَانَ فِي حَدِيثِ حَفْصَةَ: اغْسِلْنَهَا وِتْرًا، وَكَانَ فِيهِ ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا وَكَانَ فِيهِ أَنَّهُ قَالَ: ابْدَأن بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا وَكَانَ فِيهِ: إن أُمَّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: وَمَشَطْنَاهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُغْسَلَ وِتْرًا) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً أَوْ مَوْصُولَةً، وَالثَّانِي أَظْهَرُ. كَذَا قَالَ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ لَوَقَعَ التَّعْبِيرُ بِمَنِ الَّتِي لِمَنْ يَعْقِلُ. ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِيهِ حَدِيثَ أُمِّ عَطِيَّةَ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، وَلَيْسَ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِالْوِتْرِ، وَمِنْ رِوَايَةِ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ وَفِيهِ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ قَبْلُ. وَمُحَمَّدٌ شَيْخُهُ لَمْ يُنْسَبْ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، ووَقَعَ عِنْدَ الْأَصِيلِيِّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَقَالَ الْجَيَّانِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدَ بْنَ سَلَّامٍ. وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَهُوَ الْبُسْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ، وَهُوَ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ أَيُّوبُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالْفَاءِ، وَهُوَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْأَصِيلِيِّ وَقَالَ بِالْوَاوِ، فَرُبَّمَا ظُنَّ مُعَلَّقًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَقَدْ رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِالْإِسْنَادَيْنِ مَعًا مَوْصُولًا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى مَا فِي رِوَايَةِ حَفْصَةَ مِنَ الزِّيَادَةِ فِيمَا بَعْدُ. وَقَوْلُهُ فِيهِ: وِتْرًا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْوِتْرِ ثَلَاثٌ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ سِيقَ مَسَاقَ الْبَيَانِ لِلْمُرَادِ، إِذْ لَوْ أُطْلِقَ لَتَنَاوَلَ الْوَاحِدَةَ فَمَا فَوْقَهَا.

‌10 - بَاب يُبْدَأُ بِمَيَامِنِ الْمَيِّتِ

1255 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَسْلِ ابْنَتِهِ: ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ يُبْدَأُ بِمَيَامِنَ الْمَيِّتِ) أَيْ عِنْدَ غُسْلِهِ، وَكَأَنَّهُ أَطْلَقَ فِي التَّرْجَمَةِ لِيُشْعِرَ بِأَنَّ غَيْرَ الْغُسْلِ يَلْحَقُ بِهِ قِيَاسًا عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا خَالِدٌ) الْحَذَّاءُ، وَحَفْصَةُ هِيَ بِنْتُ سِيرِينَ.

قَوْلُهُ: (فِي غُسْلِ ابْنَتِهِ) فِي رِوَايَةِ هُشَيْمٍ، عَنْ خَالِدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ أَمَرَهَا أَنْ تُغَسِّلَ ابْنَتَهُ قَالَ لَهَا .. فَذَكَرَهُ.

قَوْلُهُ: (ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ

(1)

قد سبق غير مرة في الحاشية أن التبرك بآثار الصالحين غير جائز، وإنما يجوز ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة لما جعل الله في جسده وما ماسه من البركة، وأما غيره فلا يقاس عليه لوجهين: أحدهما أن الصحابة رضي الله عنهم لم يفعلوا ذلك مع غير النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان خيرا لسبقونا إليه. الثاني أن فعل ذلك مع غيره صلى الله عليه وسلم من وسائل الشرك فوجب منعه، والله أعلم

ص: 130

مِنْهَا) لَيْسَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ تَنَافٍ لِإِمْكَانِ الْبُدَاءَةِ بِمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ وَبِالْمَيَامِنِ مَعًا، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: قَوْلُهُ: ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا؛ أَيْ فِي الْغَسَلَاتِ الَّتِي لَا وُضُوءَ فِيهَا.

(وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا)؛ أَيْ فِي الْغَسْلَةِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْوُضُوءِ. وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مُخَالَفَةِ أَبِي قِلَابَةَ فِي قَوْلِهِ: يَبْدَأُ بِالرَّأْسِ ثُمَّ بِاللِّحْيَةِ قَالَ: وَالْحِكْمَةُ فِي الْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ تَجْدِيدُ أَثَرِ سِمَةِ الْمُؤْمِنِينَ فِي ظُهُورِ أَثَرِ الْغُرَّةِ وَالتَّحْجِيلِ.

‌11 - بَاب مَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْ الْمَيِّتِ

1256 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَمَّا غَسَّلْنَا ابنة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَنَا وَنَحْنُ نَغْسِلُهَا ابْدَءُوا بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَوَاضِعُ الْوُضُوءِ مِنَ الْمَيِّتَ) أَيْ يُسْتَحَبُّ الْبُدَاءَةُ بِهَا.

قَوْلُهُ: (سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ.

قَوْلُهُ: (ابْدَءُوا) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ ابْدَأْنَ وَهُوَ الْوَجْهُ

(1)

لِأَنَّهُ خِطَابٌ لِلنِّسْوَةِ.

قَوْلُهُ: (وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ) زَادَ أَبُو ذَرٍّ: مِنْهَا وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ، بَلْ قَالُوا: لَا يُسْتَحَبُّ وُضُوؤهُ أَصْلًا، وَإِذَا قُلْنَا بِاسْتِحْبَابِهِ، فَهَلْ يَكُونُ وُضُوءًا حَقِيقِيًّا بِحَيْثُ يُعَادُ غَسْلُ تِلْكَ الْأَعْضَاءِ فِي الْغُسْلِ أَوْ جُزْءًا مِنَ الْغُسْلِ بُدِئَتْ بِهِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ تَشْرِيفًا؟ الثَّانِي أَظْهَرُ مِنْ سِيَاقِ الْحَدِيثِ، وَالْبُدَاءَةُ بِالْمَيَامِنِ وَبِمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِمَّا زَادَتْهُ حَفْصَةُ فِي رِوَايَتِهَا عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ عَلَى أَخِيهَا مُحَمَّدٍ، وَكَذَا الْمَشْطُ وَالضَّفْرُ كَمَا سَيَأْتِي.

‌12 - بَاب هَلْ تُكَفَّنُ الْمَرْأَةُ فِي إِزَارِ الرَّجُلِ

1257 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمَّادٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: تُوُفِّيَتْ بِنْتُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَنَا: اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي، فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ، فَنَزَعَ مِنْ حِقْوِهِ إِزَارَهُ وَقَالَ: أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ هَلْ تُكَفَّنُ الْمَرْأَةُ فِي إِزَارِ الرَّجُلِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أُمِّ عَطِيَّةَ أَيْضًا. وَشَاهِدُ التَّرْجَمَةِ قَوْلُهُ فِيهِ: فَأَعْطَاهَا إِزَارَهُ قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: أَشَارَ بِقَوْلِهِ: هَلْ إِلَى تَرَدُّدٍ عِنْدَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَكَأَنَّهُ أَوْمَأَ إِلَى احْتِمَالِ اخْتِصَاصِ ذَلِكَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لِأَنَّ الْمَعْنَى: الْمَوْجُودُ فِيهِ مِنَ الْبَرَكَةِ وَنَحْوِهَا قَدْ لَا يَكُونُ فِي غَيْرِهِ، وَلَا سِيَّمَا مَعَ قُرْبِ عَهْدِهِ بِعَرْقِهِ الْكَرِيمِ، وَلَكِنَّ الْأَظْهَرَ الْجَوَازُ، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ الِاتِّفَاقَ عَلَى ذَلِكَ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ التَّعَقُّبُ عَلَى الْبُخَارِيِّ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا تَرْجَمَ بِالنَّظَرِ إِلَى سِيَاقِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَابِلٌ لِلِاحْتِمَالِ. وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ نَحْوَهُ، وَزَادَ: احْتِمَالُ الِاخْتِصَاصِ بِالْمُحْرِمِ أَمْ بِمَنْ يَكُونُ فِي مِثْلِ إِزَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَجَسَدِهِ مِنْ تَحَقيقِ النَّظَافَةِ، وَعَدَمِ نُفْرَةِ الزَّوْجِ وَغَيْرَتِهِ أَنْ تَلْبَسَ زَوْجَتُهُ لِبَاسَ غَيْرِهِ.

‌13 - بَاب يُجْعَلُ الْكَافُورُ فِي الأخيرة

1258 -

حَدَّثَنَا حَامِدُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: تُوُفِّيَتْ

(1)

في نسخة "وهو الأوجه"

ص: 131

إِحْدَى بَنَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَخَرَجَ فَقَالَ: اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَاجْعَلْنَ فِي الْآخِرَةِ كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي قَالَتْ: فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ فَأَلْقَى إِلَيْنَا حِقْوَهُ فَقَالَ: أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ. وَعَنْ أَيُّوبَ، عَنْ حَفْصَةَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنهما بِنَحْوِهِ.

1259 -

وَقَالَتْ: إِنَّهُ قَالَ: اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ. قَالَتْ حَفْصَةُ: قَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها: وَجَعَلْنَا رَأْسَهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ يُجْعَلُ الْكَافُورُ فِي الْأَخِيرَةِ)؛ أَيْ فِي الْغَسْلَةِ الْأَخِيرَةِ، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: لَمْ يُعَيَّنْ حُكْمُ ذَلِكَ لِاحْتِمَالِ صِيغَةِ: اجْعَلْنَ لِلْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ.

قَوْلُهُ: (وَعَنْ أَيُّوبَ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِيمَا قَبْلُ. وَاخْتُلِفَ فِي هَيْئَةِ جَعْلِهِ فِي الْغَسْلَةِ الْأَخِيرَةِ فَقِيلَ: يُجْعَلُ فِي مَاءٍ وَيُصَبُّ عَلَيْهِ فِي آخِرِ غَسْلَةٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ. وَقِيلَ: إِذَا كُمِّلَ غُسْلُهُ طُيِّبَ بِالْكَافُورِ قَبْلَ التَّكْفِيِنِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ بِلَفْظِ: وَاجْعَلْنَ فِي آخِرِ ذَلِكَ كَافُورًا.

(تَنْبِيهٌ): قِيلَ مَا مُنَاسَبَةُ إِدْخَالِ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ - وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْغُسْلِ - بَيْنَ تَرْجَمَتَيْنِ مُتَعَلِّقَتَيْنِ بِالْكَفَنِ؟ أَجَابَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ الْعُرْفَ تَقْدِيمُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمَيِّتُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْغُسْلِ أَوْ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْهُ لِيَتَيَسَّرَ غُسْلُهُ. وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ الْحَنُوطُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى خِلَافِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْكَافُورَ يَخْتَصُّ بِالْحَنُوطِ، وَلَا يُجْعَلُ فِي الْمَاءِ وَهُوَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، أَوْ يُجْعَلَ فِي الْمَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا. وَلَفْظَةُ الْأَخِيرَةِ صِفَةُ مَوْصُوفٍ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ الْغَسْلَةَ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْخِرْقَةَ الَّتِي تَلِي الْجَسَدَ.

‌14 - بَاب نَقْضِ شَعَرِ الْمَرْأَةِ

وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لَا بَأْسَ أَنْ يُنْقَضَ شَعَرُ الْمَيِّتِ

1260 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَيُّوبُ: وَسَمِعْتُ حَفْصَةَ بِنْتَ سِيرِينَ قَالَتْ: حَدَّثَتْنَا أُمُّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها: أَنَّهُنَّ جَعَلْنَ رَأْسَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَةَ قُرُونٍ، نَقَضْنَهُ ثُمَّ غَسَلْنَهُ ثُمَّ جَعَلْنَهُ ثَلَاثَةَ قُرُونٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ نَقْضُ شَعْرِ الْمَرْأَةِ)؛ أَيِ الْمَيِّتَةُ قَبْلَ الْغُسْلِ، وَالتَّقْيِيدُ بِالْمَرْأَةِ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ أَوِ الْأَكْثَرِ، وَإِلَّا فَالرَّجُلُ إِذَا كَانَ لَهُ شَعْرٌ يُنْقَضُ لِأَجْلِ التَّنْظِيفِ وَلِيَبْلُغَ الْمَاءُ الْبَشَرَةَ، وَذَهَبَ مَنْ مَنَعَهُ إِلَى أَنَّهُ قَدْ يُفْضِي إِلَى انْتِتَافِ شَعْرِهِ، وَأَجَابَ مَنْ أَثْبَتَهُ بِأَنَّهُ يُضَمُّ إِلَى مَا انْتَثَرَ مِنْهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ إِلَخْ) وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ غَيْرُ مَنْسُوبٍ، وَنَسَبَهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ شَبُّوَيْهِ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ: أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَيُّوبُ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ حَرْمَلَةَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ أَيُّوبَ بْنَ أَبِي تَمِيمَةَ أَخْبَرَهُ.

قَوْلُهُ: (وَسَمِعْتُ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ سَمِعْتُ كَذَا، وَسَمِعْتُ حَفْصَةَ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.

قَوْلُهُ: (أَنَّهُنَّ جَعَلْنَ رَأْسَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَةَ قُرُونٍ نَقَضْنَهُ ثُمَّ غَسَلْنَهُ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: قَالَتْ: نَقَضْتُهُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَائِلَةَ أُمُّ عَطِيَّةَ، وَلِعَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: فَقُلْتُ: نَقَضَتْهُ فَغَسَلَتْهُ،

ص: 132

فَجَعَلَتْهُ ثَلَاثَةَ قُرُونٍ، قَالَتْ: نَعَمْ. وَالْمُرَادُ بِالرَّأْسِ شَعْرُ الرَّأْسِ، فَهُوَ مِنْ مَجَازِ الْمُجَاوَرَةِ، وَفَائِدَةُ النَّقْضِ تَبْلِيغُ الْمَاءِ الْبَشَرَةَ، وَتَنْظِيفُ الشَّعْرِ مِنَ الْأَوْسَاخِ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَيُّوبَ، عَنْ حَفْصَةَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ: مَشَطْنَاهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ. وَهُوَ بِتَخْفِيفِ الْمُعْجَمَةِ؛ أَيْ سَرَّحْنَاهَا بِالْمُشْطِ، وَفِيهِ حُجَّةٌ لِلشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَسْرِيحِ الشَّعْرِ، وَاعْتَلَّ مَنْ كَرِهَهُ بِتَقْطِيعِ الشَّعْرِ، وَالرِّفْقُ يُؤْمَنُ مَعَهُ ذَلِكَ.

‌15 - بَاب كَيْفَ الْإِشْعَارُ لِلْمَيِّتِ؟

وَقَالَ الْحَسَنُ: الْخِرْقَةُ الْخَامِسَةُ يشُدُّ بِهَا الْفَخِذَيْنِ وَالْوَرِكَيْنِ تَحْتَ الدِّرْعِ

1261 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَنَّ أَيُّوبَ أَخْبَرَهُ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ سِيرِينَ يَقُولُ: جَاءَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ اللَّاتِي بَايَعْنَ - قَدِمَتْ الْبَصْرَةَ تُبَادِرُ ابْنًا لَهَا فَلَمْ تُدْرِكْهُ، فَحَدَّثَتْنَا قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نَغْسِلُ ابْنَتَهُ فَقَالَ: اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِي الْآخِرَةِ كَافُورًا، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي قَالَتْ: فَلَمَّا فَرَغْنَا أَلْقَى إِلَيْنَا حِقْوَهُ فَقَالَ: أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا أَدْرِي أَيُّ بَنَاتِهِ، وَزَعَمَ أَنَّ الْإِشْعَارَ الْفُفْنَهَا فِيهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَأْمُرُ بِالْمَرْأَةِ أَنْ تُشْعَرَ وَلَا تُؤْزَرَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ كَيْفَ الْإِشْعَارُ لِلْمَيِّتِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أُمِّ عَطِيَّةَ أَيْضًا، وَإِنَّمَا أَفْرَدَ لَهُ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ لِقَوْلِهِ فِي هَذَا السِّيَاقِ: وَزَعَمَ أَنَّ الْإِشْعَارَ: الْفُفْنَهَا فِيهِ. وَفِيهِ اخْتِصَارٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَزَعَمَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهَ: الْفُفْنَهَا. وَهُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، لِأَنَّ الشِّعَارَ مَا يَلِي الْجَسَدَ مِنَ الثِّيَابِ. وَالْقَائِلُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: وَزَعَمَ هُوَ أَيُّوبُ. وَذَكَرَ ابْنُ بَطَّالٍ أَنَّهُ ابْنُ سِيرِينَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَقَدْ بَيَّنَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَيُّوبَ: قَوْلُهُ: أَشْعِرْنَهَا تُؤْزَرُ بِهِ؟ قَالَ: مَا أُرَاهُ إِلَّا قَالَ: الْفُفْنَهَا فِيهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَسَنُ الْخِرْقَةُ الْخَامِسَةُ. . . إِلَخْ) هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ الْكَلَامِ أَنَّ الْمَرْأَةَ تُكَفَّنُ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ. وَقَدْ وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ نَحْوَهُ. وَرَوَى الْجَوْزَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ حَفْصَةَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: فَكَفَّنَّاهَا فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ، وَخَمَّرْنَاهَا كَمَا يُخَمَّرُ الْحَيُّ. وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ صَحِيحَةُ الْإِسْنَادِ. وَقَوْلُ الْحَسَنِ فِي الْخِرْقَةِ الْخَامِسَةِ قَالَ بِهِ زُفَرُ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: تُشَدُّ عَلَى صَدْرِهَا لِتُضَمَّ أَكْفَانَهَا، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ إِلَى مُوَافَقَةِ قَوْلِ زُفَرَ: وَلَا يُكْرَهُ الْقَمِيصُ لِلْمَرْأَةِ عَلَى الرَّاجِحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ غَيْرُ مَنْسُوبٍ، وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ شَبُّوَيْهِ فِي رِوَايَتِهِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ يَعْنِي ابْنَ صَالِحٍ. (فَائِدَةٌ): قَوْلُهُ: وَلَا أَدْرِي أَيُّ بَنَاتِهِ هُوَ مَقُولُ أَيُّوبَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ تَسْمِيَتَهَا مِنْ حَفْصَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ أَنَّهَا أُمُّ كُلْثُومٍ.

‌16 - بَاب يُجْعَلُ شَعَرُ الْمَرْأَةِ ثَلَاثَةَ قُرُونٍ

1262 -

حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أُمِّ الْهُذَيْلِ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ: ضَفَرْنَا شَعَرَ بِنْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَعْنِي ثَلَاثَةَ قُرُونٍ، وَقَالَ وَكِيعٌ: قَالَ سُفْيَانُ: نَاصِيَتَهَا وَقَرْنَيْهَا.

ص: 133

قَوْلُهُ: (بَابُ يُجْعَلُ شَعْرُ الْمَرْأَةِ ثَلَاثَةَ قُرُونٍ)؛ أَيْ ضَفَائِرَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَهِشَامٌ هُوَ ابْنُ حَسَّانَ، وَأُمُّ الْهُذَيْلِ هِيَ حَفْصَةُ بِنْتُ سِيرِينَ.

قَوْلُهُ: (ضَفَرْنَا) بِضَادٍ سَاقِطَةٍ وَفَاءٍ خَفِيفَةٍ (شَعْرَ بِنْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَعْنِي ثَلَاثَةَ قُرُونٍ، وَقَالَ وَكِيعٌ: قَالَ سُفْيَانُ) أَيْ بِهَذَا الْإِسْنَادِ (نَاصِيَتَهَا وَقَرْنَيْهَا)؛ أَيْ جَانِبَيْ رَأْسِهَا، وَرِوَايَةُ وَكِيعٍ وَصَلَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَزَادَ: ثُمَّ أَلْقَيْنَاهُ خَلْفَهَا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى ضَفْرِ شَعْرِ الْمَيِّتِ خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَهُ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا أَعْرِفُ الضَّفْرَ، بَلْ يُكَفُّ

(1)

وَعَنِ الْأَوْزَاعِيِّ وَالْحَنَفِيَّةِ: يُرْسَلُ شَعْرُ الْمَرْأَةِ خَلْفَهَا، وَعَلَى وَجْهِهَا مُفَرَّقًا. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَكَأَنَّ سَبَبَ الْخِلَافِ أَنَّ الَّذِي فَعَلَتْهُ أُمُّ عَطِيَّةَ: هَلِ اسْتَنَدَتْ فِيهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيَكُونُ مَرْفُوعًا، أَوْ هُوَ شَيْءٌ رَأَتْهُ فَفَعَلَتْهُ اسْتِحْسَانًا؟ كِلَا الْأَمْرَيْنِ مُحْتَمَلٌ، لَكِنِ الْأَصْلُ أَنْ لَا يُفْعَلَ فِي الْمَيِّتِ شَيْءٌ مِنْ جِنْسِ الْقُرَبِ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ الشَّرْعِ مُحَقَّقٌ، وَلَمْ يَرِدْ ذَلِكَ مَرْفُوعًا، كَذَا قَالَ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الظَّاهِرُ اطِّلَاعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَقْرِيرُهُ لَهُ. قُلْتُ: وَقَدْ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِلَفْظِ الْأَمْرِ مِنْ رِوَايَةِ هِشَامٍ، عَنْ حَفْصَةَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اغْسِلْنَهَا وِتْرًا، وَاجْعَلْنَ شَعْرْهَا ضَفَائِرَ.

وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ: ذِكْرُ الْبَيَانِ بِأَنَّ أُمَّ عَطِيَّةَ إِنَّمَا مَشَّطَتِ ابْنَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَمْرِهِ لَا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهَا. ثُمَّ أَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادٍ، عَنْ أَيُّوبَ قَالَ: قَالَتْ حَفْصَةُ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ: اغْسِلْنَهَا ثَلَاثَا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ سَبْعًا، وَاجْعَلْنَ لَهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ.

(تَنْبِيهٌ): قَوْلُهُ: ثَلَاثَةَ قُرُونٍ مَعَ قَوْلِهِ: نَاصِيَتَهَا وَقَرْنَيْهَا لَا تَضَادَّ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالثَّلَاثَةِ قُرُونٍ الضَّفَائِرُ، وَالْمُرَادُ بِالْقَرْنَيْنِ الْجَانِبَانِ.

‌17 - بَاب يُلْقَى شَعَرُ الْمَرْأَةِ خَلْفَهَا

1263 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانٍ قَالَ: حَدَّثَتْنَا حَفْصَةُ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ: تُوُفِّيَتْ إِحْدَى بَنَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَتَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: اغْسِلْنَهَا بِالسِّدْرِ وِتْرًا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ، وَاجْعَلْنَ فِي الْآخِرَةِ كَافُورًا، أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي، فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ فَأَلْقَى إِلَيْنَا حِقْوَهُ، فَضَفَرْنَا شَعَرَهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ وَأَلْقَيْنَاهَا خَلْفَهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ يُلْقَى شَعْرُ الْمَرْأَةِ خَلْفَهَا) فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ، وَأَبِي الْوَقْتِ: يُجْعَلُ. وَزَادَ الْحَمَوِيُّ: ثَلَاثَةَ قُرُونٍ. ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ أُمِّ عَطِيَّةَ مِنْ رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ حَفْصَةَ، وَفِيهِ: فَضَفَّرْنَا شَعْرَهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ، فَأَلْقَيْنَاهَا خَلْفَهَا. أَخْرَجَهُ مُسَدَّدٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ يَحْيَى بِلَفْظِ: وَمَشَّطْنَاهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ هِشَامٍ أَيْضًا، وَعِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ عَنْ حَفْصَةَ: ضَفَّرْنَا رَأْسَهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ: نَاصِيَتَهَا وَقَرْنَيْهَا، وَأَلْقَيْنَاهُ إِلَى خَلْفِهَا. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: فِيهِ اسْتِحْبَابُ تَسْرِيحِ الْمَرْأَةِ وَتَضْفِيرِهَا. وَزَادَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ تُجْعَلَ الثَّلَاثُ خَلْفَ ظَهْرِهَا. وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثًا غَرِيبًا، كَذَا قَالَ، وَهُوَ مِمَّا يُتَعَجَّبُ مِنْهُ مَعَ كَوْنِ الزِّيَادَةِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ تُوبِعَ رَاوِيهَا عَلَيْهَا كَمَا تَرَاهُ.

وَفِي حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ مِنَ الْفَوَائِدِ - غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ التَّرَاجِمِ الْعَشْرِ - تَعْلِيمُ الْإِمَامِ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالْأَمْرِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ، وَتَفْوِيضُهُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ أَهْلًا لِذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يُنَبِّهَهُ عَلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ.

(1)

في مخطوطة الرياض "بل يلف"

ص: 134

وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْغُسْلَ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، لِأَنَّهُ مَوْضِعُ تَعْلِيمٍ، وَلَمْ يُأْمَرْ بِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ شُرِعَ بَعْدَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِوُجُوبِهِ. وَكَأَنَّهُ مَا دَرَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ عَلَّقَ الْقَوْلَ بِهِ عَلَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ، وَالْخِلَافُ فِيهِ ثَابِتٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَصَارَ إِلَيْهِ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا. وَقَالَ ابْنُ بَزِيزَةَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ تَتَعَلَّقُ بِالْمَيِّتِ، لِأَنَّ الْغَاسِلَ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ سَيَغْتَسِلُ لَمْ يَتَحَفَّظْ مِنْ شَيْءٍ يُصِيبُهُ مِنْ أَثَرِ الْغُسْلِ، فَيُبَالِغْ فِي تَنْظِيفِ الْمَيِّتِ وَهُوَ مُطْمَئِنٌّ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْغَاسِلِ لِيَكُونَ عِنْدَ فَرَاغِهِ عَلَى يَقِينٍ مِنْ طَهَارَةِ جَسَدِهِ مِمَّا لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ أَصَابَهُ مِنْ رَشَاشٍ وَنَحْوِهِ. انْتَهَى

(1)

.

وَاسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ لَا يَتَوَلَّى غُسْلَ زَوْجَتِهِ، لِأَنَّ زَوْجَ ابْنَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ حَاضِرًا، وَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم النِّسْوَةَ بِغُسْلِ ابْنَتِهِ دُونَ الزَّوْجِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَى أَنَّهُ كَانَ حَاضِرًا، وَعَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِ فَيُحْتَاجُ إِلَى ثُبُوتِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِهِ مَانِعٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا آثَرَ النِّسْوَةَ عَلَى نَفْسِهِ، وَعَلَى تَسْلِيمِهِ، فَغَايَةُ مَا فِيهِ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ النِّسْوَةَ أَوْلَى مِنْهُ، لَا عَلَى مَنْعِهِ مِنْ ذَلِكَ لَوْ أَرَادَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

‌18 - باب الثِّيَابِ الْبِيضِ لِلْكَفَنِ

1264 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ يَمَانِيَةٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ مِنْ كُرْسُفٍ لَيْسَ فِيهِنَّ قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ.

[الحديث 1264 - أطرافه في: 1271، 1272، 1273، 13887]

قَوْلُهُ: (بَابُ الثِّيَابُ الْبِيضُ لِلْكَفَنِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ: كُفِّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ، الْحَدِيثَ. وَتَقْرِيرُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ لِيَخْتَارَ لِنَبِيِّهِ إِلَّا الْأَفْضَلَ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يُثْبِتْ عَلَى شَرْطِهِ الْحَدِيثَ الصَّرِيحَ فِي الْبَابِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: الْبَسُوا ثِيَابَ الْبَيَاضِ، فَإِنَّهَا أَطْهَرُ وَأَطْيَبُ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ. صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ. وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، أَخْرَجُوهُ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ أَيْضًا. وَحَكَى بَعْضُ مَنْ صَنَّفَ فِي الْخِلَافِ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ فِي أَحَدِهَا ثَوْبُ حِبَرَةَ، وَكَأَنَّهُمْ أَخَذُوا بِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كُفِّنَ فِي ثَوْبَيْنِ وَبُرْدِ حِبَرَةَ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، لَكِنْ رَوَى مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَهَ أَنَّهُمْ نَزَعُوهَا عَنْهُ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَتَكْفِينُهُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ أَصَحُّ مَا وَرَدَ فِي كَفَنِهِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: لُفَّ فِي بُرْدِ حِبَرَةَ، جُفِّفَ فِيهِ، ثُمَّ نُزِعَ عَنْهُ.

ويُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ لَهُمْ بِعُمُومِ حَدِيثِ أَنَسٍ: كَانَ أَحَبَّ اللِّبَاسِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْحِبَرَةُ. أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ. وَسَيَأْتِي فِي اللِّبَاسِ. وَالْحِبَرَةُ بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ: مَا كَانَ مِنَ الْبُرُودِ مُخَطَّطًا.

‌19 - باب الْكَفَنِ فِي ثَوْبَيْنِ

1265 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم

(1)

وقال بعضهم "إن الحكمة في ذلك -والله أعلم- جبر ما يحصل للغاسل من الضعف بسبب مشاهدة الميت وذكر الموت وما بعده، وهو معنى مناسب. والله أعلم

ص: 135

قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ إِذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَوَقَصَتْهُ - أَوْ قَالَ: فَأَوْقَصَتْهُ - قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ، وَلَا تُحَنِّطُوهُ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا.

[الحديث 1265 - أطرافه في: 1266، 1267، 1268، 1839، 1849، 1850، 1851]

قَوْلُهُ: (بَابُ الْكَفَنُ فِي ثَوْبَيْنِ) كَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الثَّلَاثَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: لَيْسَتْ شَرْطًا فِي الصِّحَّةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَاخْتُلِفَ فِيمَا إِذَا شَحَّ بَعْضُ الْوَرَثَةِ بِالثَّانِي أَوِ الثَّالِثِ، وَالْمُرَجَّحُ أَنَّهُ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ. وَأَمَّا الْوَاحِدُ السَّاتِرُ لِجَمِيعِ الْبَدَنِ، فَلَا بُدَّ مِنْهُ بِالِاتِّفَاقِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا حَمَّادٌ) فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ ابْنُ زَيْدٍ.

قَوْلُهُ: (بَيْنَمَا رَجُلٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَتِهِ.

قَوْلُهُ: (وَاقِفٌ) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى إِطْلَاقِ لَفْظِ الْوَاقِفِ عَلَى الرَّاكِبِ.

قَوْلُهُ: (بِعَرَفَةَ) سَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: وَنَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (فَوَقَصَتْهُ، أَوْ قَالَ: فَأَوْقَصَتْهُ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ الْأَوَّلُ، وَالَّذِي بِالْهَمْزِ شَاذٌّ، وَالْوَقْصُ: كَسْرُ الْعُنُقِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ وَقَصَتْهُ: الْوَقْعَةُ أَوِ الرَّاحِلَةُ - بِأَنْ تَكُونَ أَصَابَتْهُ بَعْدَ أَنْ وَقَعَ - وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: فَوَقَصَتْهُ؛ أَيْ رَاحِلَتُهُ، فَإِنْ كَانَ الْكَسْرُ حَصَلَ بِسَبَبِ الْوُقُوعِ فَهُوَ مَجَازٌ، وَإِنْ حَصَلَ مِنَ الرَّاحِلَةِ بَعْدَ الْوُقُوعِ فَحَقِيقَةٌ.

قَوْلُهُ: (وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى إِبْدَالِ ثِيَابِ الْمُحْرِمِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ سَيَأْتِي فِي الْحَجِّ بِلَفْظِ: فِي ثَوْبَيْهِ. وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ: فِي ثَوْبَيْهِ اللَّذَيْنِ أَحْرَمَ فِيهِمَا. وَقَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: إِنَّمَا لَمْ يَزِدْهُ ثَوْبًا ثَالِثًا تَكْرِمَةً لَهُ، كَمَا فِي الشَّهِيدِ، حَيْثُ قَالَ: زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْإِحْرَامَ لَا يَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ، وَعَلَى تَرْكِ النِّيَابَةِ فِي الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا أَنْ يُكْمِلَ عَنْ هَذَا الْمُحْرِمِ أَفْعَالَ الْحَجِّ، وَفِيهِ نَظَرٌ لَا يَخْفَى، وَقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وَفِيهِ أَنَّ مَنْ شَرَعَ فِي عَمَلِ طَاعَةٍ، ثُمَّ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِتْمَامِهِ الْمَوْتُ رُجِيَ لَهُ أَنَّ اللَّهَ يَكْتُبهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْعَمَلِ.

‌20 - باب الْحَنُوطِ لِلْمَيِّتِ

1266 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ وَاقِفٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَةَ إِذْ وَقَعَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَأَقْصَعَتْهُ - أَوْ قَالَ: فَأَقْعَصَتْهُ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ، وَلَا تُحَنِّطُوهُ وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْحَنُوطُ لِلْمَيِّتِ)؛ أَيْ غَيْرِ الْمُحْرِمِ.

أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورَ عَنْ شَيْخٍ آخَرَ، وَشَاهِدُ التَّرْجَمَةِ قَوْلُهُ: وَلَا تُحَنِّطُوهُ. ثُمَّ عُلِّلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ يُبْعَثُ مُلَبِّيًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ النَّهْيِ أَنَّهُ كَانَ مُحْرِمًا، فَإِذَا انْتَفَتِ الْعِلَّةُ انْتَفَى النَّهْيُ، وَكَأَنَّ الْحَنُوطَ لِلْمَيِّتِ كَانَ مُقَرَّرًا عِنْدَهُمْ. وَكَذَا قَوْلُهُ: لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ؛ أَيْ لَا تُغَطُّوهُ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْمُحْرِمِ يُحَنَّطُ كَمَا يُخَمَّرُ رَأْسُهُ، وَأَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا وَقَعَ لِأَجْلِ الْإِحْرَامِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وغَيْرِهِمْ: إِنَّ الْإِحْرَامَ يَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ فَيُصْنَعُ بِالْمَيِّتِ مَا يُصْنَعُ بِالْحَيِّ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهُوَ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ، لَكِنَّ الْحَدِيثَ بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ يُقَدَّمُ عَلَى الْقِيَاسِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: إِثْبَاتُ الْحَنُوطِ فِي هَذَا الْخَبَرِ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ مِنْ مَنْعِ الْحَنُوطِ لِلْمُحْرِمِ، وَلَكِنَّهَا وَاقِعَةُ حَالٍ يَتَطَرَّقُ الِاحْتِمَالُ إِلَى مَنْطُوقِهَا، فَلَا يُسْتَدَلُّ بِمَفْهُومِهَا. وَقَالَ بَعْضُ

ص: 136

الْحَنَفِيَّةِ: هَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ عَامًّا بِلَفْظِهِ، لِأَنَّهُ فِي شَخْصٍ مُعَيَّنٍ. وَلَا بِمَعْنَاهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: يُبْعَثُ مُلَبِّيًا لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ، فَلَا يَتَعَدَّى حُكْمُهُ إِلَى غَيْرِهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ.

وَقَالَ ابْنُ بَزِيزَةَ: وَأَجَابَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّ هَذَا مَخْصُوصٌ بِذَلِكَ الرَّجُلِ، لِأَنَّ إِخْبَارَهُ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُ يُبْعَثُ مُلَبِّيًا شَهَادَةٌ بِأَنَّ حَجَّهُ قُبِلَ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُحَقَّقٍ لِغَيْرِهِ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ بِأَنَّ هَذِهِ الْعِلَّةِ إِنَّمَا ثَبَتَتْ لِأَجْلِ الْإِحْرَامِ، فَتَعُمُّ كُلَّ مُحْرِمٍ، وَأَمَّا الْقَبُولُ وَعَدَمُهُ فَأَمْرٌ مُغَيَّبٌ. وَاعْتَلَّ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} وَبِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ. وَلَيْسَ هَذَا مِنْهَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْقَطِعَ عَمَلُهُ بِالْمَوْتِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ تَكْفِينَهُ فِي ثَوْبَيْ إِحْرَامِهِ، وَتَبْقِيَتِهِ عَلَى هَيْئَةِ إِحْرَامِهِ مِنْ عَمَلِ الْحَيِّ بَعْدَهُ، كَغُسْلِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَلَا مَعْنَى لِمَا ذَكَرُوهُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي الشُّهَدَاءِ: زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ مَعَ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ. فَعَمَّمَ الْحُكْمَ فِي الظَّاهِرِ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ السَّبَبِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُعَمَّمَ الْحُكْمُ فِي كُلِّ مُحْرِمٍ، وَبَيْنَ الْمُجَاهِدِ وَالْمُحْرِمِ جَامِعٌ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقَدِ اعْتَذَرَ الدَّاوُدِيُّ، عَنْ مَالِكٍ، فَقَالَ: لَمْ يَبْلُغْهُ هَذَا الْحَدِيثُ. وَأَوْرَدَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ إِحْرَامُهُ بَاقِيًا لَوَجَبَ أَنْ يُكْمِلَ بِهِ الْمَنَاسِكَ، وَلَا قَائِلَ بِهِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ وَرَدَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، فَيُقْتَصَرُ بِهِ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ وَضَحَ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي ذَلِكَ اسْتِبْقَاءُ شِعَارِ الْإِحْرَامِ كَاسْتِبْقَاءِ دَمِ الشَّهِيدِ.

‌21 - باب كَيْفَ يُكَفَّنُ الْمُحْرِمُ؟

1267 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ رَجُلًا وَقَصَهُ بَعِيرُهُ وَنَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحْرِمٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ، وَلَا تُمِسُّوهُ طِيبًا، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا.

1268 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرٍو، وَأَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم قَالَ: كَانَ رَجُلٌ وَاقِفٌ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَةَ، فَوَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، قَالَ أَيُّوبُ: فَوَقَصَتْهُ - وَقَالَ عَمْرٌو: فَأَقْصَعَتْهُ - فَمَاتَ فَقَالَ: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ، وَلَا تُحَنِّطُوهُ وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ أَيُّوبُ: يُلَبِّي، وَقَالَ عَمْرٌو: مُلَبِّيًا.

قَوْلُهُ: (بَابُ كَيْفَ يُكَفَّنُ الْمُحْرِمُ) سَقَطَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ لِلْأَصِيلِيِّ وَثَبَتَتْ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ أَوْجَهُ. وَأَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِيهَا حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورَ مِنْ طَرِيقَيْنِ، فَفِي الْأَوَّلِ: فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا. كَذَا لِلْمُسْتَمْلِي وَلِلْبَاقِينَ مُلَبَّدًا بِدَالٍ بَدَلَ التَّحْتَانِيَّةِ، وَالتَّلْبِيدُ جَمْعُ الشَّعْرِ بِصَمْغٍ، أَوْ غَيْرِهِ لِيُخْفِ شَعَثَهَ، وَكَانَتْ عَادَتُهُمْ فِي الْإِحْرَامِ أَنْ يَصْنَعُوا ذَلِكَ. وَقَدْ أَنْكَرَ عِيَاضٌ هَذِهِ الرِّوَايَةَ، وَقَالَ: لَيْسَ لِلتَّلْبِيدِ مَعْنًى، وَسَيَأْتِي فِي الْحَجِّ بِلَفْظِ: يُهِلُّ وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِلَفْظِ: فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُحْرِمًا. لَكِنْ لَيْسَ قَوْلُهُ مُلَبَّدًا فَاسِدَ الْمَعْنَى، بَلْ تَوْجِيهُهُ ظَاهِرٌ. قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى (كَانَ رَجُلٌ وَاقِفًا) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَلِلْبَاقِينَ: وَاقِفٌ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِرَجُلٍ، وَكَانَ تَامَّةٌ؛ أَيْ حَصَلَ رَجُلٌ وَاقِفٌ.

قَوْلُهُ: (فَأَقْصَعَتْهُ)؛ أَيْ هَشَّمَتْهُ، يُقَالُ: أَقْصَعَ الْقَمْلَةَ إِذَا هَشَّمَهَا. وَقِيلَ: هُوَ خَاصٌّ بِكَسْرِ الْعَظْمِ، وَلَوْ سُلِّمَ فَلَا مَانِعَ أَنْ يُسْتَعَارَ لِكَسْرِ الرَّقَبَةِ. وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِتَقْدِيمِ الْعَيْنِ عَلَى الصَّادِ، وَالْقَعْصُ الْقَتْلُ فِي الْحَالِ، وَمِنْهُ قُعَاصُ الْغَنَمِ، وَهُوَ مَوْتُهَا. قَالَ الزَّيْنُ بْنُ

ص: 137

الْمُنِيرِ: تَضَمَّنَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ الِاسْتِفْهَامَ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ مَعَ أَنَّهَا مُبَيَّنَةٌ، لَكِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ خَاصَّةً بِذَلِكَ الرَّجُلِ، وَأَنْ تَكُونَ عَامَّةً لِكُلِّ مُحْرِمٍ، آثَرَ الْمُصَنِّفُ الِاسْتِفْهَامَ. قُلْتُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: كَيْفَ يُكَفَّنُ؛ أَيْ كَيْفِيَّةُ التَّكْفِينِ، وَلَمْ يَرِدِ الِاسْتِفْهَامُ، وَكَيْفَ يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ فِيهِ، وَقَدْ جَزَمَ قَبْلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ عَامٌّ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ حَيْثُ تَرْجَمَ بِجَوَازِ التَّكْفِينِ فِي ثَوْبَيْنِ.

قَوْلُهُ: (وَلَا تُمِسُّوهُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْمِيمِ، مِنْ: أَمَسَّ.

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِبَاحَةُ غُسْلِ الْمُحْرِمِ الْحَيَّ بِالسِّدْرِ خِلَافًا لِمَنْ كَرِهَهُ لَهُ، وَأَنَّ الْوِتْرَ فِي الْكَفَنِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الصِّحَّةِ، وَأَنَّ الْكَفَنَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، لِأَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم بِتَكْفِينِهِ فِي ثَوْبَيْهِ، وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ: هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ يَسْتَغْرِقُ أَمْ لَا. وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ تَكْفِينِ الْمُحْرِمِ فِي ثِيَابِ إِحْرَامِهِ، وَأَنَّ إِحْرَامَهُ بَاقٍ، وَأَنَّهُ لَا يُكَفَّنُ فِي الْمَخِيطِ. وَفِيهِ التَّعْلِيلُ بِالْفَاءِ لِقَوْلِهِ: فَإِنَّهُ، وَفِيهِ التَّكْفِينُ فِي الثِّيَابِ الْمَلْبُوسَةِ، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ دَوَامِ التَّلْبِيَةِ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْإِحْرَامُ، وَأَنَّ الْإِحْرَامَ يَتَعَلَّقُ بِالرَّأْسِ لَا بِالْوَجْهِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى مَا وَقَعَ فِي مُسْلِمٍ بِلَفْظِ: وَلَا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَغْرَبَ الْقُرْطُبِيُّ فَحَكَى عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُحْرِمَ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَعْرُوفٍ عَنْهُ.

(فَائِدَةٌ): يَحْتَمِلُ اقْتِصَارُهُ لَهُ عَلَى التَّكْفِينِ فِي ثَوْبَيْهِ لِكَوْنِهِ مَاتَ فِيهِمَا، وَهُوَ مُتَلَبِّسٌ بِتِلْكَ الْعِبَادَةِ الْفَاضِلَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ لَهُ غَيْرَهُمَا.

‌22 - باب الْكَفَنِ فِي الْقَمِيصِ الَّذِي يُكَفُّ أَوْ لَا يُكَفُّ وَمَنْ كُفِّنَ بِغَيْرِ قَمِيصٍ

1269 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ لَمَّا تُوُفِّيَ جَاءَ ابْنُهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطِنِي قَمِيصَكَ أُكَفِّنْهُ فِيهِ، وَصَلِّ عَلَيْهِ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُ، فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَمِيصَهُ، فَقَالَ: آذِنِّي أُصَلِّي عَلَيْهِ، فَآذَنَهُ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ جَذَبَهُ عُمَرُ رضي الله عنه فَقَالَ: أَلَيْسَ اللَّهُ قد نَهاكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ؟ فَقَالَ: أَنَا بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ، قَالَ:{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} ، فَصَلَّى عَلَيْهِ، فَنَزَلَتْ:{وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا}

[الحديث 1269 - أطرافه في: 4670، 4672، 7596]

1270 -

حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، سَمِعَ جَابِرًا رضي الله عنه قَالَ: أَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ بَعْدَ مَا دُفِنَ، فَأَخْرَجَهُ فَنَفَثَ فِيهِ مِنْ رِيقِهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ.

[الحديث 1270 - أطرافه في: 1350، 3008، 5795]

قَوْلُهُ: (بَابُ الْكَفَنِ فِي الْقَمِيصِ الَّذِي يُكَفُّ أَوْ لَا يُكَفُّ) قَالَ ابْنُ التِّينِ: ضَبَطَ بَعْضُهُمْ يُكَفُّ بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَفَتْحِ الْكَافِ. وَبَعْضُهُمْ بِالْعَكْسِ، وَالْفَاءُ مَشْدُدَةٌ فِيهِمَا. وَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْكَافِ وَتَخْفِيفِ الْفَاءِ وَكَسْرِهَا، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِالْمَعْنَى. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ رَشِيدٍ بِأَنَّ الثَّانِي هُوَ الصَّوَابُ، قَالَ: وَكَذَا وَقَعَ فِي نُسْخَةِ حَاتِمٍ الطَّرَابُلُسِيِّ، وَكَذَا رَأَيْتُهُ فِي أَصْلِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ الْوَرْدِ، قَالَ: وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَحَظَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} ؛ أَيْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَلْبَسَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ قَمِيصَهُ سَوَاءٌ كَانَ يُكَفُّ عَنْهُ الْعَذَابُ أَوْ لَا يُكَفُّ، اسْتِصْلَاحًا لِلْقُلُوبِ

ص: 138

الْمُؤَلَّفَةِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا التَّبَرُّكُ بِآثَارِ الصَّالِحِينَ

(1)

سَوَاءٌ عَلِمْنَا أَنَّهُ مُؤَثِّرٌ فِي حَالِ الْمَيِّتِ أَوْ لَا. قَالَ: وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ الثَّوْبُ مَكْفُوفَ الْأَطْرَافِ أَوْ غَيْرَ مَكْفُوفٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ وَصْفٌ لَا أَثَرَ لَهُ. قَالَ: وَأَمَّا الضَّبْطُ الثَّالِثُ فَهُوَ لَحْنٌ إِذْ لَا مُوجِبَ لِحَذْفِ الْيَاءِ الثَّانِيَةِ فِيهِ. انْتَهَى.

وَقَدْ جَزَمَ الْمُهَلَّبُ بِأَنَّهُ الصَّوَابُ، وَأَنَّ الْيَاءَ سَقَطَتْ مِنَ الْكَاتِبِ غَلَطًا، قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وَالْمُرَادُ طَوِيلًا كَانَ الْقَمِيصُ سَابِغًا أَوْ قَصِيرًا، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُكَفَّنَ فِيهِ، كَذَا قَالَ، وَوَجَّهَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ كَانَ مُفْرِطَ الطُّولِ كَمَا سَيَأْتِي فِي ذِكْرِ السَّبَبِ فِي إِعْطَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ قَمِيصَهُ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُعْتَدِلَ الْخَلْقِ، وَقَدْ أَعْطَاهُ مَعَ ذَلِكَ قَمِيصَهُ لِيُكَفَّنَ فِيهِ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى كَوْنِهِ سَاتِرًا لِجَمِيعِ بَدَنِهِ أَوْ لَا. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ حَدِيثَ جَابِرٍ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ كُفِّنَ فِي غَيْرِهِ، فَلَا تَنْتَهِضُ الْحُجَّةُ بِذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ رَشِيدٍ: إِنَّ الْمَكْفُوفَ الْأَطْرَافِ لَا أَثَرَ لَهُ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ، بَلِ الْمُتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّهُ مُرَادُ الْبُخَارِيِّ، كَمَا فَهِمَهُ ابْنُ التِّينِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ التَّكْفِينَ فِي الْقَمِيصِ لَيْسَ مُمْتَنِعًا، سَوَاءٌ كَانَ مَكْفُوفَ الْأَطْرَافِ أَوْ غَيْرَ مَكْفُوفٍ. أَوِ الْمُرَادُ بِالْكَفِّ تَزْرِيرُهُ، دَفْعًا لِقَوْلِ مَنْ يَدَّعِي أَنَّ الْقَمِيصَ لَا يَسُوغُ إِلَّا إِذَا كَانَتْ أَطْرَافُهُ غَيْرَ مَكْفُوفَةٍ، أَوْ كَانَ غَيْرَ مُزَرَّرٍ لِيُشْبِهَ الرِّدَاءَ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ، وَإِلَى أَنَّ التَّكْفِينَ فِي غَيْرِ قَمِيصٍ مُسْتَحَبٌّ، وَلَا يُكْرَهُ التَّكْفِينُ فِي الْقَمِيصِ.

وَفِي الْخِلَافِيَّاتِ لِلْبَيْهَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَوْنٍ، قَالَ: كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يَكُونَ قَمِيصُ الْمَيِّتِ كَقَمِيصِ الْحَيِّ مُكَفَّفًا مُزَرَّرًا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فِي تَفْسِيرِ:(بَرَاءَةٌ)، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَيذْكُرُ فِيهِ جَوَابَ الْإِشْكَالِ الْوَاقِعِ فِي قَوْلِ عُمَرَ: أَلَيْسَ اللَّهُ قَدْ نَهَاكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ؟ مَعَ أَنَّ نُزُولَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي فِي سِيَاقِ حَدِيثِ الْبَابِ، حَيْثُ قَالَ: فَنَزَلَتْ: وَلَا تُصَلِّ. وَمُحَصِّلُ الْجَوَابِ: أَنَّ عُمَرَ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: {فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} مَنْعَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ، فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا مَنْعَ، وَأَنَّ الرَّجَاءَ لَمْ يَنْقَطِعْ بَعْدُ. ثُمَّ إِنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: أَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ بَعْدَ مَا دُفِنَ، فَأَخْرَجَهُ، فَنَفَثَ فِيهِ مِنْ رِيقِهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ. مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: لَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ جَاءَ ابْنُهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطِنِي قَمِيصَكَ أُكَفِّنْهُ فِيهِ. فَأَعْطَاهُ قَمِيصَهُ، وَقَالَ: آذِنِّي أُصَلِّي عَلَيْهِ، فَآذَنَهُ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ جَذَبَهُ عُمَرُ، الْحَدِيثَ. وَقَدْ جُمِعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: فَأَعْطَاهُ؛ أَيْ أَنْعَمَ لَهُ بِذَلِكَ، فَأُطْلِقَ عَلَى الْعِدَةِ اسْمُ الْعَطِيَّةِ مَجَازًا لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهَا.

وَكَذَا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: بَعْدَ مَا دُفِنَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ؛ أَيْ دُلِّيَ فِي حُفْرَتِهِ، وَكَان أَهْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ خَشَوْا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمَشَقَّةَ فِي حُضُورِهِ، فَبَادَرُوا إِلَى تَجْهِيزِهِ قَبْلَ وُصُولِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا وَصَلَ وَجَدَهُمْ قَدْ دَلَّوْهُ فِي حُفْرَتِهِ، فَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِ إِنْجَازًا لِوَعْدِهِ فِي تَكْفِينِهِ فِي الْقَمِيصِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: أَعْطَاهُ صلى الله عليه وسلم أَحَدَ قَمِيصَيْهِ أَوَّلًا، ثُمَّ لَمَّا حَضَرَ أَعْطَاهُ الثَّانِي بِسُؤَالِ وَلَدِهِ. وَفِي الْإِكْلِيلِ لِلْحَاكِمِ مَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ. وَقِيلَ: لَيْسَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ أَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْقَبْرِ، لِأَنَّ لَفْظَهُ: فَوَضَعَهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ. وَالْوَاوُ لَا تُرَتِّبُ، فَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنْ يَذْكُرَ مَا وَقَعَ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ إِكْرَامِهِ لَهُ مِنْ غَيْرِ إِرَادَةِ تَرْتِيبٍ. وَسَيَأْتِي فِي الْجِهَادِ ذِكْرُ السَّبَبِ فِي إِعْطَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَمِيصَهُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَبَقِيَّةُ الْقِصَّةِ فِي التَّفْسِيرِ، وَأَنَّ اسْمَ ابْنِهِ الْمَذْكُورِ عَبْدُ اللَّهِ، كَاسْمِ أَبِيهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ جَوَازَ طَلَبِ آثَارِ أَهْلِ الْخَيْرِ مِنْهُمْ لِلتَّبَرُّكِ بِهَا، وَإِنْ كَانَ السَّائِلُ غَنِيًّا.

(1)

أنظر ما تقدم في ص 130 وغيرها من منع التبرك بآثار الصالحين سوي النبي صلى الله عليه وسلم

ص: 139

‌23 - باب الْكَفَنِ بِغَيْرِ قَمِيصٍ

1271 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كُفِّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابِ سُحُولٍ، كُرْسُفٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ.

1272 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْكَفَنِ بِغَيْرِ قَمِيصٍ) ثَبَتَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ لِلْأَكْثَرِ، وَسَقَطَتْ لِلْمُسْتَمْلِي، وَلَكِنَّهُ ضَمَّنَهَا التَّرْجَمَةَ الَّتِي قَبْلَهَا، فَقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ: أَوْ لَا يَكُفُّ: وَمَنْ كُفِّنَ بِغَيْرِ قَمِيصٍ، وَالْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ فِي الِاسْتِحْبَابِ وَعَدَمِهِ، وَالثَّانِي عَنِ الْجُمْهُورِ، وَعَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ يُسْتَحَبُّ الْقَمِيصُ دُونَ الْعِمَامَةِ. وَأَجَابَ بَعْضُ مَنْ خَالَفَ بِأَنَّ قَوْلَهَا لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ يَحْتَمِلُ نَفْيَ وُجُودِهِمَا جُمْلَةً، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ نَفْيَ الْمَعْدُودِ؛ أَيِ الثَّلَاثَةُ خَارِجَةٌ عَنِ الْقَمِيصِ وَالْعِمَامَةِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: مَعْنَاهُ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ؛ أَيْ جَدِيدٌ. وَقِيلَ: لَيْسَ فِيهَا الْقَمِيصُ الَّذِي غُسِّلَ فِيهِ، أَوْ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ مَكْفُوفُ الْأَطْرَافِ.

قَوْلُهُ. (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ.

قَوْلُهُ: (سُحُولَ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَآخِرُهُ لَامٌ؛ أَيْ بِيضٌ، وَهُوَ جَمْعُ سَحْلٍ، وَهُوَ الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ النَّقِيُّ، ولَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ قُطْنٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ الثِّيَابِ الْبِيضِ لِلْكَفَنِ بِلَفْظِ: يَمَانِيَّةٍ بِيضٍ سُحُولِيَّةٍ مِنْ كُرْسُفٍ. وَعَنِ ابْنِ وَهْبٍ: السُّحُولُ الْقُطْنُ، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَهُوَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَيُرْوَى بِفَتْحِهِ نِسْبَةً إِلَى سَحُولٍ: قَرْيَةٌ بِالْيَمَنِ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: بِالْفَتْحِ: الْمَدِينَةُ، وَبِالضَّمِّ: الثِّيَابُ. وَقِيلَ: النَّسَبُ إِلَى الْقَرْيَةِ بِالضَّمِّ، وَأَمَّا بِالْفَتْحِ، فَنِسْبَةٌ إِلَى الْقَصَّارِ، لِأَنَّهُ يَسْحَلُ الثِّيَابَ؛ أَيْ يُنَقِّيهَا. وَالْكُرْسُفُ بِضَمِّ الْكَافِ وَالْمُهْمَلَةُ بَيْنَهُمَا رَاءٌ سَاكِنَةٌ هُوَ الْقُطْنُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ سُحُولِيَّةٌ جُدُدٌ

‌24 - باب الْكَفَنِ بِلَا عِمَامَةٍ

1273 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْكَفَنِ بِلَا عِمَامَةٍ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْمُسْتَمْلِي: الْكَفَنُ فِي الثِّيَابِ الْبِيضِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِئَلَّا تَتَكَرَّرُ التَّرْجَمَةُ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي هَذَا النَّفْيِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ.

قَوْلُهُ: (ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ) فِي طَبَقَاتِ ابْنِ سَعْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ إِزَارٌ وَرِدَاءٌ وَلِفَافَةٌ.

‌25 - باب الْكَفَنُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ

وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَقَتَادَةُ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: الْحَنُوطُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: يُبْدَأُ بِالْكَفَنِ، ثُمَّ بِالدَّيْنِ، ثُمَّ بِالْوَصِيَّةِ. وَقَالَ سُفْيَانُ: أَجْرُ الْقَبْرِ وَالْغَسْلِ هُوَ مِنْ الْكَفَنِ

1274 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أُتِيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ

ص: 140

بْنُ عَوْفٍ رضي الله عنه يَوْمًا بِطَعَامِهِ فَقَالَ: قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ - وَكَانَ خَيْرًا مِنِّي - فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ إِلَّا بُرْدَةٌ، وَقُتِلَ حَمْزَةُ - أَوْ رَجُلٌ آخَرُ - خَيْرٌ مِنِّي، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ إِلَّا بُرْدَةٌ. لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عُجِّلَتْ لَنَا طَيِّبَاتُنَا فِي حَيَاتِنَا الدُّنْيَا، ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي.

[الحديث 1274 - طرفاه في: 1275، 4045]

قَوْلُهُ: (بَابُ الْكَفَنِ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ)؛ أَيْ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ رَاعَى لَفْظَ حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ وَرَدَ بِهَذَا اللَّفْظِ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي الْعِلَلِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَحَكَى عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ مُنْكَرٌ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: قَالَ بِذَلِكَ جَمِيعُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَّا رِوَايَةً شَاذَّةً عَنْ خِلَاسِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: الْكَفَنُ مِنَ الثُّلُثِ. وَعَنْ طَاوُسٍ قَالَ: مِنَ الثُّلُثِ إِنْ كَانَ قَلِيلًا. قُلْتُ: أَخْرَجَهُمَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَقَدْ يَرِدُ عَلَى هَذَا الْإِطْلَاقِ مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّافِعِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الزَّكَاةِ وَسَائِرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ الْمَالِ، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى الْكَفَنِ وَغَيْرِهِ مِنْ مُؤْنَةِ تَجْهِيزِهِ كَمَا لَوْ كَانَتِ التَّرِكَةُ شَيْئًا مَرْهُونًا أَوْ عَبْدًا جَانِيًا.

قَوْلُهُ: (وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، الزُّهْرِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَقَتَادَةُ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: الْحَنُوطُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ) أَمَّا قَوْلُ عَطَاءٍ فَوَصَلَهُ الدَّارِمِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْهُ، قَالَ: الْحَنُوطُ وَالْكَفَنُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. وَأَمَّا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ قَالَا: الْكَفَنُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ. وَأَمَّا قَوْلُ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ: الْكَفَنُ وَالْحَنُوطُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. قَالَ: وَقَالَهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَقَوْلُهُ: وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ - يَعْنِي النَّخَعِيَّ -: يُبْدَأ بِالْكَفَنِ، ثُمَّ بِالدَّيْنِ، ثُمَّ بِالْوَصِيَّةِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ سُفْيَانُ) أَيِ الثَّوْرِيُّ إِلَخْ، وَصَلَهُ الدَّارِمِيُّ مِنْ قَوْلِ النَّخَعِيِّ كَذَلِكَ دُونَ قَوْلِ سُفْيَانَ، وَمِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ النَّخَعِيِّ بِلَفْظِ: الْكَفَنُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ. وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ؛ أَيِ الثَّوْرِيَّ، عَنْ عُبَيْدَةَ بْنِ مُعَتِّبٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: فَقُلْتُ لِسُفْيَانَ: فَأَجْرُ الْقَبْرِ وَالْغُسْلِ؟ قَالَ: هُوَ مِنَ الْكَفَنِ. أَيْ أَجْرُ حَفْرِ الْقَبْرِ وَأَجْرُ الْغَاسِلِ مِنْ حُكْمِ الْكَفَنِ فِي أَنَّهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَكِّيُّ) هُوَ الْأَزْرَقِيُّ عَلَى الصَّحِيحِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ سَعْدٍ)؛ أَيِ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فَإِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ رَاوٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ جَدِّ أَبِيهِ، وَسَيَأْتِي سِيَاقُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ أَصْرَحُ اتِّصَالًا مِنْ هَذَا. وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى فَوَائِدِهِ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ غَزْوَةِ أُحُدٍ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي، وَشَاهِدُ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ. لِأَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مَا يَمْلِكُهُ إِلَّا الْبُرْدَ الْمَذْكُورَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ: إِلَّا بُرْدَهُ بِالضَّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ إِلَّا بُرْدَةً بِلَفْظِ وَاحِدَةٍ الْبُرُودَ، وَسَيَأْتِي حَدِيثُ خَبَّابٍ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ بِلَفْظِ: وَلَمْ يَتْرُكْ إِلَّا نَمِرَةً. وَاخْتُلِفَ فِيمَا إِذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ هَلْ يَكُونُ كَفَنُهُ سَاتِرًا لِجَمِيعِ بَدَنِهِ، أَوِ لِلْعَوْرَةِ فَقَطْ؟ الْمُرَجَّحُ الأَوَّلُ. وَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ ثَوْبٌ وَاحِدٌ يَصِفُ مَا تَحْتَهُ مِنَ الْبَدَنِ.

قَوْلُهُ: (أَوْ رَجُلٌ آخَرُ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، وَلَمْ يَقَعْ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ إِلَّا بِذِكْرِ حَمْزَةَ، وَمُصْعَبٍ فَقَطْ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجِهِ مِنْ طَرِيقِ مَنْصُورِ بْنِ أَبِي مُزَاحِمٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ. قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: يُسْتَفَادُ مِنْ قِصَّةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِيثَارُ الْفَقْرِ عَلَى الْغِنَى وَإِيثَارُ التَّخَلِّي لِلْعِبَادَةِ عَلَى تَعَاطِي الِاكْتِسَابِ، فَلِذَلِكَ امْتَنَعَ مِنْ تَنَاوُلِ ذَلِكَ الطَّعَامِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ صَائِمًا.

‌26 - باب إِذَا لَمْ يُوجَدْ إِلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ

ص: 141

1275 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ رضي الله عنه أُتِيَ بِطَعَامٍ وَكَانَ صَائِمًا فَقَالَ: قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي، كُفِّنَ فِي بُرْدَةٍ، إِنْ غُطِّيَ رَأْسُهُ بَدَتْ رِجْلَاهُ، وَإِنْ غُطِّيَ رِجْلَاهُ بَدَا رَأْسُهُ، وَأُرَاهُ قَالَ: وَقُتِلَ حَمْزَةُ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي، ثُمَّ بُسِطَ لَنَا مِنْ الدُّنْيَا مَا بُسِطَ - أَوْ قَالَ: أُعْطِينَا مِنْ الدُّنْيَا مَا أُعْطِينَا - وَقَدْ خَشِينَا أَنْ تَكُونَ حَسَنَاتُنَا عُجِّلَتْ لَنَا، ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي حَتَّى تَرَكَ الطَّعَامَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا لَمْ يُوجَدْ إِلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ) أَيِ اقْتُصِرَ عَلَيْهِ، وَلَا يُنْتَظَرُ بِدَفْنِهِ ارْتِقَابُ شَيْءٍ آخَرَ.

وفي قَوْلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي. دَلَالَةٌ عَلَى تَوَاضُعِهِ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَعْظِيمِ فَضْلِ مَنْ قُتِلَ فِي الْمَشَاهِدِ الْفَاضِلَةِ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَزَادَ فِي هَذَهِ الطَّرِيقِ: إِنْ غُطِّيَ رَأْسُهُ بَدَتْ رِجْلَاهُ. وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ. وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ حَمْزَةَ أَيْضًا كُفِّنَ كَذَلِكَ.

‌27 - باب إِذَا لَمْ يَجِدْ كَفَنًا إِلَّا مَا يُوَارِي رَأْسَهُ أَوْ قَدَمَيْهِ غَطَّى رَأْسَهُ

1276 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا شَقِيقٌ، حَدَّثَنَا خَبَّابٌ رضي الله عنه قَالَ: هَاجَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَلْتَمِسُ وَجْهَ اللَّهِ، فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ، فَمِنَّا مَنْ مَاتَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا؛ مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدِبُهَا قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمْ نَجِدْ مَا نُكَفِّنُهُ إِلَّا بُرْدَةً إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلَاهُ، وَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ، فَأَمَرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ نُغَطِّيَ رَأْسَهُ، وَأَنْ نَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ مِنْ الْإِذْخِرِ.

[الحديث 1276 - أطرافه في: 3897، 3914، 4047، 4082، 6432، 6448]

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا لَمْ يَجِدْ كَفَنًا إِلَّا مَا يُوَارِي رَأْسَهُ أَوْ قَدَمَيْهِ)؛ أَيْ رَأْسَهُ مَعَ بَقِيَّةِ جَسَدِهِ إِلَّا قَدَمَيْهِ أَوِ الْعَكْسُ، كَأَنَّهُ قَالَ: مَا يُوَارِي جَسَدَهُ إِلَّا رَأْسَهُ، أَوْ جَسَدَهُ إِلَّا قَدَمَيْهِ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ حَيْثُ قَالَ: خَرَجَتْ رِجْلَاهُ. وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يُغَطِّي رَأْسَهُ فَقَطْ دُونَ سَائِرِ جَسَدِهِ لَكَانَ تَغْطِيَةُ الْعَوْرَةِ أَوْلَى. وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُوجَدْ سَاتِرٌ الْبَتَّةَ أَنَّهُ يُغَطِّي جَمِيعَهُ بالِإِذْخِرِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَبِمَا تَيَسَّرَ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ، وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْحَجِّ قَوْلُ الْعَبَّاسِ: إِلَّا الْإِذْخِرَ، فَإِنَّهُ لبُيُوتِنَا وَقُبُورنَا. فَكَأَنَّهَا كَانَتْ عَادَةً لَهُمُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْقُبُورِ. قَالَ الْمُهَلَّبُ: وَإِنَّمَا اسْتَحَبَّ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم التَّكْفِينَ فِي تِلْكَ الثِّيَابِ الَّتِي لَيْسَتْ سَابِغَةً؛ لِأَنَّهُمْ قُتِلُوا فِيهَا. انْتَهَى.

وَفِي هَذَا الْجَزْمِ نَظَرٌ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ لَهُمْ غَيْرَهَا كَمَا هُوَ مُقْتَضَى التَّرْجَمَةِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا شَقِيقٌ) هُوَ ابْنُ سَلَمَةَ أَبُو وَائِلٍ، وَخَبَّابٌ بِمُعْجَمَةٍ وَمُوَحَّدَتَيْنِ، الْأُولَى مُثَقَّلَةٌ، هُوَ ابْنُ الْأَرَتِّ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ كُوفِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا)؛ كِنَايَةٌ عَنِ الْغَنَائِمِ الَّتِي تَنَاوَلَهَا مَنْ أَدْرَكَ زَمَنَ الْفُتُوحِ، وَكَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَجْرِ ثَمَرَتُهُ، فَلَيْسَ مَقْصُورًا عَلَى أَجْرِ الْآخِرَةِ.

قَوْلُهُ: (أَيْنَعَتْ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ، وَفَتْحِ النُّونِ؛ أَيْ نَضِجَتْ.

قَوْلُهُ: (فَهُوَ يَهْدِبُهَا) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ؛ أَيْ يَجْتَنِبهَا، وَضَبَطَهُ النَّوَوِيُّ بِضَمِّ الدَّالِ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ تَثْلِيثَهَا.

قَوْلُهُ: (مَا نُكَفِّنُهُ بِهِ) سَقَطَ لَفْظُ بِهِ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ،

ص: 142

وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَى فَوَائِدِهِ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌28 - باب مَنْ اسْتَعَدَّ الْكَفَنَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ

1277 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَهْلٍ رضي الله عنه أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِبُرْدَةٍ مَنْسُوجَةٍ فِيهَا حَاشِيَتُهَا، أَتَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ؟ قَالُوا: الشَّمْلَةُ. قَالَ: نَعَمْ قَالَتْ: نَسَجْتُهَا بِيَدِي فَجِئْتُ لِأَكْسُوَكَهَا، فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُحْتَاجًا إِلَيْهَا فَخَرَجَ إِلَيْنَا، وَإِنَّهَا إِزَارُهُ، فَحَسَّنَهَا فُلَانٌ فَقَالَ: اكْسُنِيهَا مَا أَحْسَنَهَا قَالَ الْقَوْمُ: مَا أَحْسَنْتَ، لَبِسَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُحْتَاجًا إِلَيْهَا ثُمَّ سَأَلْتَهُ وَعَلِمْتَ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ قَالَ: إِنِّي وَاللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ لِأَلْبَسَهَا، إِنَّمَا سَأَلْتُهُ لِتَكُونَ كَفَنِي قَالَ سَهْلٌ: فَكَانَتْ كَفَنَهُ.

[الحديث 1277 - أطرافه في: 2093، 5810، 6036]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنِ اسْتَعَدَّ الْكَفَنَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ) ضُبِطَ فِي رِوَايَتِنَا بِفَتْحِ الْكَافِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَحُكِيَ الْكَسْرُ عَلَى أَنَّ فَاعِلَ الْإِنْكَارِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَحَكَى الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ، عَنْ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: فَلَمْ يُنْكِرْهُ؛ بِهَاءٍ، بَدَلَ: عَلَيْهِ، وَهُوَ بِمَعْنَى الرِّوَايَةِ الَّتِي بِالْكَسْرِ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ التَّرْجَمَةَ بِذَلِكَ لِيُشِيرَ إِلَى أَنَّ الْإِنْكَارَ الَّذِي وَقَعَ مِنَ الصَّحَابَةِ كَانَ عَلَى الصَّحَابِيِّ فِي طَلَبِ الْبُرْدَةِ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ بِعُذْرِهِ لَمْ يُنْكِرُوا ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ جَوَازُ تَحْصِيلِ مَا لَا بُدَّ لِلْمَيِّتِ مِنْهُ مِنْ كَفَنٍ وَنَحْوِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ. وَهَلْ يَلْتَحِقُ بِذَلِكَ حَفْرُ الْقَبْرِ؟ فِيهِ بَحْثٌ سَيَأْتِي.

قَوْلُهُ: (إِنَّ امْرَأَةً) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهَا.

قَوْلُهُ: (فِيهَا حَاشِيَتُهَا) قَالَ الدَّاوُدِيُّ: يَعْنِي أَنَّهَا لَمْ تُقْطَعْ مِنْ ثَوْبٍ، فَتَكُونُ بِلَا حَاشِيَةٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ: حَاشِيَةُ الثَّوْبِ هُدْبَهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّهَا جَدِيدَةٌ لَمْ يُقْطَعْ هُدْبُهَا، وَلَمْ تُلْبَسْ بَعْدُ، وَقَالَ الْقَزَّازُ: حَاشِيَتَا الثَّوْبِ نَاحِيَتَاهُ اللَّتَانِ فِي طَرَفِهِمَا الْهُدْبُ.

قَوْلُهُ: (أَتَدْرُونَ) هُوَ مَقُولُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، بَيَّنَهُ أَبُو غَسَّانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، كَمَا أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْأَدَبِ، وَلَفْظُهُ: فَقَالَ سَهْلٌ لِلْقَوْمِ: أَتَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ؟ قَالُوا: الشَّمْلَةُ. انْتَهَى. وَفِي تَفْسِيرِ الْبُرْدَةِ بِالشَّمْلَةِ تَجَوُّزٌ، لِأَنَّ الْبُرْدَةَ كِسَاءٌ، وَالشَّمْلَةُ مَا يُشْتَمَلُ بِهِ، فَهِيَ أَعَمُّ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ أَكْثَرُ اشْتِمَالِهِمْ بِهَا أَطْلَقُوا عَلَيْهَا اسْمَهَا.

قَوْلُهُ: (فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُحْتَاجًا إِلَيْهَا) كَأَنَّهُمْ عَرَفُوا ذَلِكَ بِقَرِينَةِ حَالٍ أَوْ تَقَدُّمِ قَوْلٍ صَرِيحٍ.

قَوْلُهُ: (فَخَرَجَ إِلَيْنَا، وَإِنَّهَا إِزَارُهُ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ

(1)

، عَنْ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ: فَخَرَجَ إِلَيْنَا فِيهَا، وَفِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ: فَاتَّزَرَ بِهَا ثُمَّ خَرَجَ.

قَوْلُهُ: (فَحَسَّنَهَا فُلَانٌ، فَقَالَ: اكْسُنِيهَا مَا أَحْسَنَهَا) كَذَا فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ هُنَا بِالْمُهْمَلَتَيْنِ مِنَ التَّحْسِينِ. وَلِلْمُصَنِّفِ فِي اللِّبَاسِ مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ: فَجَسَّهَا بِالْجِيمِ بِغَيْرِ نُونٍ. وَكَذَا لِلطَّبَرَانِيِّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، وَقَوْلُهُ: فُلَانٌ أَفَادَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ فِي الْأَحْكَامِ لَهُ أَنَّهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَعَزَاهُ لِلطَّبَرَانِيِّ وَلَمْ أَرَهُ فِي الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ لَا فِي مُسْنَدِ سَهْلٍ، وَلَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ. وَنَقَلَهُ شَيْخُنَا ابْنُ الْمُلَقِّنِ، عَنِ الْمُحِبِّ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ، وَكَذَا قَالَ لَنَا شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو الْحَسَنِ الْهَيْتَمِيُّ: إِنَّهُ وَقَفَ عَلَيْهِ، لَكِنْ لَمْ يَسْتَحْضِرْ مَكَانَهُ. وَوَقَعَ لِشَيْخِنَا ابْنِ الْمُلَقِّنِ فِي شَرْحِ التَّنْبِيهِ أَنَّهُ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ، وَهُوَ غَلَطٌ، فَكَأَنَّهُ الْتَبَسَ عَلَى شَيْخِنَا اسْمُ الْقَائِلِ بِاسْمِ الرَّاوِي، نَعَمْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ،

(1)

في نسخة "ابن بشار"

ص: 143

عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلٍ وَقَالَ فِي آخِرِهِ: قَالَ قُتَيْبَةُ: هُوَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ. انْتَهَى. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي اللِّبَاسِ، وَالنَّسَائِيُّ فِي الزِّينَةِ عَنْ قُتَيْبَةَ، وَلَمْ يَذْكُرَا عَنْهُ ذَلِكَ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدِهِ الْمُتَقَدِّمِ، وَقَالَ فِيهِ: فَجَاءَ فُلَانٌ، رَجُلٌ سَمَّاهُ يَوْمَئِذٍ. وَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الرَّاوِي كَانَ رُبَّمَا سَمَّاهُ.

وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ زَمْعَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ أَنَّ السَّائِلَ الْمَذْكُورَ أَعْرَابِيٌّ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ زَمْعَةُ ضَعِيفًا لَانْتَفَى أَنْ يَكُونَ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَوْ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، أَوْ يُقَالَ تَعَدَّدَتِ الْقِصَّةُ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ بُعْدٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (مَا أَحْسَنَهَا) بِنَصْبِ النُّونِ، وَمَا لِلتَّعَجُّبِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ، وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، قَالَ: نَعَمْ. فَلَمَّا دَخَلَ طَوَاهَا، وَأَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ، وَهُوَ لِلْمُصَنِّفِ فِي اللِّبَاسِ مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِلَفْظِ فَقَالَ: نَعَمْ. فَجَلَسَ مَا شَاءَ اللَّهُ فِي الْمَجْلِسِ، ثُمَّ رَجَعَ فَطَوَاهَا، ثُمَّ أَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ الْقَوْمُ: مَا أَحْسَنْتَ) مَا: نَافِيَةٌ، وَقَدْ وَقَعَتْ تَسْمِيَةُ الْمُعَاتِبِ لَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ الْمَذْكُورَةِ وَلَفْظُهُ، قَالَ سَهْلٌ: فَقُلْتُ لِلرَّجُلِ: لِمَ سَأَلْتَهُ، وَقَدْ رَأَيْتَ حَاجَتَهُ إِلَيْهَا؟ فَقَالَ: رَأَيْتُ مَا رَأَيْتُمْ، وَلَكِنْ أَرَدْتُ أَنْ أُخَبِّأَهَا حَتَّى أُكَفَّنَ فِيهَا.

قَوْلُهُ: (إِنَّهُ لَا يَرُدُّ) كَذَا وَقَعَ هُنَا بِحَذْفِ الْمَفْعُولِ، وَثَبَتَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ بِلَفْظِ: لَا يَرُدُّ سَائِلًا وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ فِي الْبُيُوعِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي غَسَّانَ فِي الْأَدَبِ: لَا يُسْأَلُ شَيْئًا فَيَمْنَعُهُ.

قَوْلُهُ: (مَا سَأَلْتُهُ لِأَلْبِسَهَا) فِي رِوَايَةِ أَبِي غَسَّانَ: فَقَالَ رَجَوْتُ بَرَكَتَهَا حِينَ لَبِسَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. وَأَفَادَ الطَّبَرَانِيُّ فِي رِوَايَةِ زَمْعَةَ بْنِ صَالِحٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَنْ يُصْنَعَ لَهُ غَيْرُهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ تَفْرُغَ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ حُسْنُ خُلُقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَسِعَةُ جُودِهِ، وَقَبُولُهُ الْهَدِيَّةَ، وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ الْمُهَلَّبُ جَوَازَ تَرْكِ مُكَافَأَةِ الْفَقِيرِ عَلَى هَدِيَّتِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِظَاهِرٍ مِنْهُ، فَإِنَّ الْمُكَافَأَةَ كَانَتْ عَادَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُسْتَمِرَّةً، فَلَا يَلْزَمُ مِنَ السُّكُوتِ عَنْهَا هُنَا أَنْ لَا يَكُونَ فَعَلَهَا، بَلْ لَيْسَ فِي سِيَاقِ هَذَا الْحَدِيثِ الْجَزْمُ بِكَوْنِ ذَلِكَ كَانَ هَدِيَّةً فَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ عَرَضَتْهَا عَلَيْهِ لِيَشْتَرِيَهَا مِنْهَا، قَالَ: وَفِيهِ جَوَازُ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْقَرَائِنِ وَلَوْ تَجَرَّدَتْ لِقَوْلِهِمْ: فَأَخَذَهَا مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ سَبَقَ لَهُمْ مِنْهُ قَوْلٌ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ. قَالَ: وَفِيهِ التَّرْغِيبُ فِي الْمَصْنُوعِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى صَانِعِهِ إِذَا كَانَ مَاهِرًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ أَرَادَتْ بِنِسْبَتِهِ إِلَيْهَا إِزَالَةَ مَا يُخْشَى مِنَ التَّدْلِيسِ. وَفِيهِ جَوَازُ اسْتِحْسَانِ الْإِنْسَانِ مَا يَرَاهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمَلَابِسِ وَغَيْرِهَا، إِمَّا لِيُعَرِّفَهُ قَدْرَهَا، وَإِمَّا لِيُعَرِّضَ لَهُ بِطَلَبِهِ مِنْهُ حَيْثُ يَسُوغُ لَهُ ذَلِكَ. وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الْإِنْكَارِ عِنْدَ مُخَالَفَةِ الْأَدَبِ ظَاهِرًا، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغِ الْمُنْكَرُ دَرَجَةَ التَّحْرِيمِ. وَفِيهِ التَّبَرُّكُ بِآثَارِ الصَّالِحِينَ

(1)

. وَقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: فِيهِ جَوَازُ إِعْدَادِ الشَّيْءِ قَبْلَ وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، قَالَ: وَقَدْ حَفَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّالِحِينَ قُبُورَهُمْ قَبْلَ الْمَوْتِ. وَتَعَقَّبَهُ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، قَالَ: وَلَوْ كَانَ مُسْتَحَبًّا لَكَثُرَ فِيهِمْ.

وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: يَنْبَغِي لِمَنِ اسْتَعَدَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَحْصِيلِهِ مِنْ جِهَةٍ يَثِقُ بِحِلِّهَا، أَوْ مِنْ أَثَرِ مَنْ يَعْتَقِدُ فِيهِ الصَّلَاحَ وَالْبَرَكَةَ.

‌29 - باب اتِّبَاعِ النِّسَاءِ الْجَنَائِزَ

1278 -

حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ أُمِّ الْهُذَيْلِ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ: نُهِينَا عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا.

(1)

هذا خطأ، والصواب المنع من ذلك لوجهين: أحدهما أن الصحابة لم يفعلوا ذلك مع غير النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان خيرا لسبقونا إليه، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يقاس عليه غيره لما بينه وبين غيره من الفروق الكثيرة. الوجه الثاني سد ذريعة الشرك، لأن جواز التبرك بآثار الصالحين يفضي إلى الغلو فيهم وعبادتهم من دون الله فوجب المنع من ذلك. وقد سبق بيان ذلك مرارا.

ص: 144

قَوْلُهُ: (بَابُ اتِّبَاعِ النِّسَاءِ الْجِنَازَةَ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: فَصَلَ الْمُصَنِّفُ بَيْنَ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ، وَبَيْنَ فَضْلِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ بِتَرَاجِمَ كَثِيرَةٍ تُشْعِرُ بِالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ، وَأَنَّ الْفَضْلَ الثَّابِتَ فِي ذَلِكَ يَخْتَصُّ بِالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، لِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ أَوِ الْكَرَاهَةَ، وَالْفَضْلَ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَلَا يَجْتَمِعَانِ. وَأُطْلِقَ الْحُكْمُ هُنَا لِمَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ مِنَ الِاحْتِمَالِ، وَمِنْ ثَمَّ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ إِنَّمَا هُوَ حَيْثُ تُؤْمَنُ الْمَفْسَدَةُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَأُمُّ الْهُذَيْلِ هِيَ حَفْصَةُ بِنْتُ سِيرِينَ.

قَوْلُهُ: (نُهِينَا) تَقَدَّمَ فِي الْحَيْضِ مِنْ رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ حَفْصَةَ عَنْهَا بِلَفْظِ: كُنَّا نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ. وَرَوَاهُ يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ، عَنِ الثَّوْرِيِّ بِإِسْنَادِ هَذَا الْبَابِ، بِلَفْظِ: نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: لَا حُجَّةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُسَمِّ النَّاهِيَ فِيهِ، لِمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ كُلَّ مَا وَرَدَ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ كَانَ مَرْفُوعًا، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ غَيْرِهِمَا مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، وَيُؤَيِّدُ رِوَايَةَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ جَدَّتِهِ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: لَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ جَمَعَ النِّسَاءَ فِي بَيْتٍ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْنَا عُمَرَ، فَقَالَ: إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُنَّ، بَعَثَنِي إِلَيْكُنَّ لِأُبَايِعْكُنَّ عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا. الْحَدِيثَ. وَفِي آخِرِهِ: وَأَمَرَنَا أَنْ نُخْرِجَ فِي الْعِيدِ الْعَوَاتِقَ، وَنَهَانَا أَنْ نَخْرُجَ فِي جِنَازَةٍ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رِوَايَةَ أُمِّ عَطِيَّةَ الْأُولَى مِنْ مُرْسَلِ الصَّحَابَةِ.

قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَيْنَا)؛ أَيْ: وَلَمْ يُؤَكِّدْ عَلَيْنَا فِي الْمَنْعِ، كَمَا أَكَّدَ عَلَيْنَا فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَنْهِيَّاتِ، فَكَأَنَّهَا قَالَتْ: كَرِهَ لَنَا اتِّبَاعَ الْجَنَائِزِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمٍ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ظَاهِرُ سِيَاقِ أُمِّ عَطِيَّةَ أَنَّ النَّهْيَ نَهْيُ تَنْزِيهٍ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَمَالَ مَالِكٌ إِلَى الْجَوَازِ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَيَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي جِنَازَةٍ، فَرَأَى عُمَرُ امْرَأَةً فَصَاحَ بِهَا، فَقَال: دَعْهَا يَا عُمَرُ. الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَمِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَزْرَقِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: فِي حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ مِنَ الشَّارِعِ عَلَى دَرَجَاتٍ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: قَوْلُهَا: نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ أَيْ إِلَى أَنْ نَصِلَ إِلَى الْقُبُورِ، وَقَوْلُهُ: وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَيْنَا؛ أَيْ أَنْ لَا نَأْتِيَ أَهْلَ الْمَيِّتِ فَنُعَزِّيَهِمْ، وَنَتَرَحَّمَ عَلَى مَيِّتِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ نَتَّبِعَ جِنَازَتَهُ. انْتَهَى. وَفِي أَخْذِ هَذَا التَّفْصِيلِ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ نَظَرٌ، نَعَمْ هُوَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى فَاطِمَةَ مُقْبِلَةً، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ جِئْتِ؟ فَقَالَتْ: رَحِمْتُ عَلَى أَهْلِ هَذَا الْمَيِّتِ مَيِّتَهُمْ. فَقَالَ: لَعَلَّكِ بَلَغْتِ مَعَهُمُ الْكُدَى؟ قَالَتْ: لَا. الْحَدِيثَ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمَا.

فَأَنْكَرَ عَلَيْهَا بُلُوغَ الْكُدَى، وَهُوَ بِالضَّمِّ، وَتَخْفِيفِ الدَّالِ الْمَقْصُورَةِ، وَهِيَ الْمَقَابرُ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا التَّعْزِيَةُ. وَقَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهَا: وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَيْنَا؛ أَيْ كَمَا عَزَمَ عَلَى الرِّجَالِ بِتَرْغِيبِهِمْ فِي اتِّبَاعِهَا بِحُصُولِ الْقِيرَاطِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌30 - باب إِحْدَادِ الْمَرْأَةِ عَلَى غَيْرِ زَوْجِهَا

1279 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: تُوُفِّيَ ابْنٌ لِأُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ دَعَتْ بِصُفْرَةٍ فَتَمَسَّحَتْ بِهِ، وَقَالَتْ: نُهِينَا أَنْ نُحِدَّ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ إِلَّا بِزَوْجٍ.

ص: 145

1280 -

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ مُوسَى قَالَ: أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ زَيْنَبَ ابنة أَبِي سَلَمَةَ قَالَتْ: لَمَّا جَاءَ نَعْيُ أَبِي سُفْيَانَ مِنْ الشام دَعَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ رضي الله عنها بِصُفْرَةٍ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، فَمَسَحَتْ عَارِضَيْهَا وَذِرَاعَيْهَا وَقَالَتْ: إِنِّي كُنْتُ عَنْ هَذَا لَغَنِيَّةً لَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ، فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.

[الحديث 1280 - أطرافه في: 1281، 5334، 5339، 5345]

1281 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ نَافِعٍ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ قَالَتْ دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تُحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا"

1282 -

"ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ حِينَ تُوُفِّيَ أَخُوهَا فَدَعَتْ بِطِيبٍ فَمَسَّتْ بِهِ ثُمَّ قَالَتْ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ غَيْرَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: "لَا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تُحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا"

[الحديث 1282 - طرفه في: 5335]

قَوْلُهُ: (بَابُ إِحْدَادِ الْمَرْأَةِ عَلَى غَيْرِ زَوْجِهَا) قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: الْإِحْدَادُ بِالْمُهْمَلَةِ امْتِنَاعُ الْمَرْأَةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا مِنَ الزِّينَةِ كُلِّهَا: مِنْ لِبَاسٍ وَطِيبٍ وَغَيْرِهِمَا، وَكُلِّ مَا كَانَ مِنْ دَوَاعِي الْجِمَاعِ. وَأَبَاحَ الشَّارِعُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى غَيْرِ زَوْجِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، لِمَا يَغْلِبُ مِنْ لَوْعَةِ الْحُزْنِ، وَيَهْجُمُ مِنْ أَلَمِ الْوَجْدِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ وَاجِبًا لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ طَالَبَهَا بِالْجِمَاعِ لَمْ يَحِلَّ لَهَا مَنْعُهُ في تِلْكَ الْحَالِ، وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَى مَبَاحِثِ الْإِحْدَادِ. وَقَوْلُهُ فِي التَّرْجَمَةِ: عَلَى غَيْرِ زَوْجِهَا. يَعُمُّ كُلَّ مَيِّتٍ غَيْرَ الزَّوْجِ سَوَاءٌ كَانَ قَرِيبًا أَوْ أَجْنَبِيًّا، وَدَلَالَةُ الْحَدِيثِ لَهُ ظَاهِرَةٌ، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ فِي التَّرْجَمَةِ بِالْمَوْتِ، لِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِهِ عُرْفًا، وَلَمْ يُبَيِّنْ حُكْمَهُ، لِأَنَّ الْخَبَرَ دَلَّ عَلَى عَدَمِ التَّحْرِيمِ فِي الثَّلَاثِ، وَأَقَلُّ مَا يَقْتَضِيهِ إِثْبَاتَ الْمَشْرُوعِيَّةِ.

قَوْلُهُ: (فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الثَّالِثِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ، وَلِلْمُسْتَمْلِي: الْيَوْمُ الثَّالِثُ.

قَوْلُهُ: (دَعَتْ بِصُفْرَةٍ) سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا قَرِيبًا.

قَوْلُهُ: (نُهِينَا) رَوَاهُ أَيُّوبُ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ بِلَفْظِ: أُمِرْنَا بِأَنْ لَا نُحِدَّ عَلَى هَالِكٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ. الْحَدِيثَ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ. وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ. فَذَكَرَ مَعْنَاهُ.

قَوْلُهُ: (أَنْ نُحِدَّ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ مِنَ الرُّبَاعِيِّ، وَلَمْ يَعْرِفِ الْأَصْمَعِيُّ غَيْرَهُ. وَحَكَى غَيْرُهُ فَتْحَ أَوَّلِهِ وَضَمَّ ثَانِيهِ مِنَ الثُّلَاثِيِّ، يُقَالُ: حَدَّتِ الْمَرْأَةُ وَأَحَدَّتْ، بِمَعْنًى.

قَوْلُهُ: (إِلَّا بِزَوْجٍ) وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ إِلَّا لِزَوْجٍ بِاللَّامِ، وَوَقَعَ فِي الْعِدَدِ مِنْ طَرِيقِهِ بِلَفْظِ: إِلَّا عَلَى زَوْجٍ، وَالْكُلُّ بِمَعْنَى السَّبَبِيَّةِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ) هِيَ رَبِيبَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَصَرَّحَ فِي الْعِدَدِ بِالْأخْبَارِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حُمَيْدِ بْنِ

ص: 146

نَافِعٍ.

قَوْلُهُ: (نَعْيٌ) بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ - وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ، وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ - هُوَ الْخَبَرُ بِمَوْتِ الشَّخْصِ، وَأَبُو سُفْيَانَ هُوَ ابْنُ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ وَالِدُ مُعَاوِيَةَ.

قَوْلُهُ: (دَعَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ) هِيَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ الْمَذْكُورِ. وَفِي قَوْلِهِ: مِنَ الشَّامِ نَظَرٌ، لِأَنَّ أَبَا سُفْيَانَ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ مَاتَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ، وَقِيلَ: سَنَةَ ثَلَاثٍ، وَلَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ تَقْيِيدَهُ بِذَلِكَ إِلَّا فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ هَذِهِ، وَأَظُنُّهَا وَهْمًا، وَكُنْتُ أَظُنُّ أَنَّهُ حُذِفَ مِنْهُ لَفْظُ ابْنِ لِأَنَّ الَّذِي جَاءَ نَعْيُهُ مِنَ الشَّامِ وَأُمُّ حَبِيبَةَ فِي الْحَيَاةِ هُوَ أَخُوهَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ الَّذِي كَانَ أَمِيرًا عَلَى الشَّامِ، لَكِنْ رَوَاهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْعِدَدِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ نَافِعٍ، بِلَفْظِ: حِينَ تُوُفِّيَ عَنْهَا أَبُوهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ. فَظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَسْقُطْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَمْ يَقُلْ فِيهِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مِنَ الشَّامِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي تَرْجَمَةِ أُمِّ حَبِيبَةَ مِنْ طَرِيقِ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْهَا. ثُمَّ وَجَدَتِ الْحَدِيثَ فِي مُسْنَدِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ نَافِعٍ - وَلَفْظُهُ - جَاءَ نَعْيُ أَخِي أُمِّ حَبِيبَةَ، أَوْ حَمِيمٍ لَهَا، فَدَعَتْ بِصُفْرَةٍ، فَلَطَّخَتْ بِهِ ذِرَاعَيْهَا. وَكَذَا رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ، عَنْ هَاشِمِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ شُعْبَةَ لَكِنْ بِلَفْظِ: إِنَّ أَخًا لِأُمِّ حَبِيبَةَ مَاتَ أَوْ حَمِيمًا لَهَا.

وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ حَجَّاجٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ جَمِيعًا، عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ: إِنَّ حَمِيمًا لَهَا مَاتَ. مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ، وَإِطْلَاقُ الْحَمِيمِ عَلَى الْأَخِ أَقْرَبُ مِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْأَبِ، فَقَوِيَ الظَّنُّ عِنْدَ هَذَا أَنْ تَكُونَ الْقِصَّةُ تَعَدَّدَتْ لِزَيْنَبَ مَعَ أُمِّ حَبِيبَةَ عِنْدَ وَفَاةِ أَخِيهَا يَزِيدَ، ثُمَّ عِنْدَ وَفَاةِ أَبِيهَا أَبِي سُفْيَانَ، لَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (بِصُفْرَةٍ) فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ الْمَذْكُورَةِ: بِطِيبٍ فِيهِ صُفْرَةُ خَلُوقٍ. وَزَادَ فِيهِ: فَدَهَنَتْ مِنْهُ جَارِيَةً، ثُمَّ مَسَّتْ بِعَارِضَيْهَا؛ أَيْ بِعَارِضَيْ نَفْسِهَا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسِ ابْنِ أُخْتِ مَالِكٍ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ هُنَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ مُخْتَصَرًا، وَأَوْرَدَهُ مُطَوَّلًا مِنْ طَرِيقِهِ فِي الْعِدَدِ كَمَا سَيَأْتِي.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ دَخَلْتُ) هُوَ مَقُولُ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَهُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي الْعِدَدِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ وَقَعَتْ بَعْدَ قِصَّةِ أُمِّ حَبِيبَةَ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ إِلَّا إِنْ قُلْنَا بِالتَّعَدُّدِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ عَقِبَ وَفَاةِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، لِأَنَّ وَفَاتَهُ سَنَةَ ثَمَانِ عَشْرَةَ أَوْ تِسْعَ عَشْرَةَ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عِنْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ، لِأَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ مَاتَتْ قَبْلَ أَبِي سُفْيَانَ بِأَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تُرِدْ تَرْتِيبَ الْوَقَائِعِ، وَإِنَّمَا أَرَادَتْ تَرْتِيبَ الْأَخْبَارِ. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ بِلَفْظِ: وَدَخَلْتُ. وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي التَّرْتِيبَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (حِينَ تُوُفِّيَ أَخُوهَا) لَمْ أَتَحَقَّقْ مِنَ الْمُرَادِ بِهِ، لِأَنَّ لِزَيْنَبَ ثَلَاثَةَ إِخْوَةٍ: عَبْدَ اللَّهِ، وَعَبْدُ بِغَيْرِ إِضَافَةٍ، وَعُبَيْدَ اللَّهِ بِالتَّصْغِيرِ، فَأَمَّا الْكَبِيرُ فَاسْتُشْهِدَ بِأُحُدٍ، وَكَانَتْ زَيْنَبُ إِذْ ذَاكَ صَغِيرَةً جِدًّا، لِأَنَّ أَبَاهَا أَبَا سَلَمَةَ مَاتَ بَعْدَ بَدْرٍ، وَتَزَوَّجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُمَّهَا أُمَّ سَلَمَةَ وَهِيَ صَغِيرَةٌ تَرْضَعُ، كَمَا سَيَأْتِي فِي الرَّضَاعِ: أَنَّ أُمَّهَا حَلَّتْ مِنْ عِدَّتِهَا مِنْ أَبِي سَلَمَةَ بِوَضْعِ زَيْنَبَ هَذِهِ، فَانْتَفَى أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَإِنْ كَانَ وَقَعَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمُوَطَّآتِ بِلَفْظِ: حِينَ تُوُفِّيَ أَخُوهَا عَبْدُ اللَّهِ، كَمَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ وَغَيْرِهِ، عَنْ مَالِكٍ.

وَأَمَّا عَبْدٌ بِغَيْرِ إِضَافَةٍ، فَيُعْرَفُ بِأَبِي حُمَيْدٍ، وَكَانَ شَاعِرًا أَعْمَى، وَعَاشَ إِلَى خِلَافَةِ عُمَرَ، وَقَدْ جَزَمَ ابنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ بِأَنَّهُ مَاتَ بَعْدَ أُخْتِهِ زَيْنَبَ بِسَنَةٍ، وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ فِي تَرْجَمَتِهَا فِي الطَّبَقَاتِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَنَّ أَبَا حُمَيْدٍ الْمَذْكُورَ حَضَرَ جِنَازَةَ زَيْنَبَ مَعَ عُمَرَ، وَحُكِيَ عَنْهُ مُرَاجَعَةٌ لَهُ بِسَبَبِهَا، وَإِنْ كَانَ فِي إِسْنَادِهِمَا الْوَاقِدِيُّ، لَكِنْ يُسْتَشْهَدُ بِهِ فِي مِثْلِ هَذَا، فَانْتَفَى أَنَّ يكَوْنَ هَذَا الْأَخِيرُ الْمُرَادَ، وَأَمَّا عُبَيْدُ اللَّهِ الْمُصَغَّرُ قَدِيمًا، وَهَاجَرَ بِزَوْجَتِهِ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ إِلَى الْحَبَشَةِ، ثُمَّ تَنَصَّرَ هُنَاكَ، وَمَاتَ فَتَزَوَّجَ النَّبِيُّ

ص: 147

صلى الله عليه وسلم بَعْدَهُ أُمَّ حَبِيبَةَ، فَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادُ، لِأَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ عِنْدَمَا جَاءَ الْخَبَرُ بِوَفَاةِ عُبَيْدِ اللَّهِ كَانَتْ فِي سِنِّ مَنْ يَضْبِطُ، وَلَا مَانِعَ أَنْ يَحْزَنَ الْمَرْءُ عَلَى قَرِيبِهِ الْكَافِرِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا تَذَكَّرَ سُوءَ مَصِيرِهِ. وَلَعَلَّ الرِّوَايَةَ الَّتِي فِي الْمُوَطَّأِ: حِينَ تُوُفِّيَ أَخُوهَا عَبْدُ اللَّهِ كَانَتْ عُبَيْدَ اللَّهِ بِالتَّصْغِيرِ، فَلَمْ يَضْبِطْهَا الْكَاتِبُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُعَكِّرُ عَلَى هَذَا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنْ عُبَيْدَ اللَّهِ مَاتَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةَ، فَتَزَوَّجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُمَّ حَبِيبَةَ، فَإِنَّ ظَاهِرَهَا أَنَّ تَزَوُّجَهَا كَانَ بَعْدَ مَوْتِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَتَزْوِيجَهَا وَقَعَ وَهِيَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَقَبْلَ أَنْ تَسْمَعَ النَّهْيَ، وَأَيْضًا فَفِي السِّيَاقِ: ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى زَيْنَبَ.

بَعْدَ قَوْلِهَا: دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ مَوْتِ قَرِيبِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ بَعْدَ مَجِيءِ أُمِّ حَبِيبَةَ مِنَ الْحَبَشَةِ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الظَّنُّ هُوَ الْوَاقِعُ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ أَخًا لِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ مِنْ أُمِّهَا، أَوْ مِنَ الرَّضَاعَةِ، أَوْ يُرَجَّحُ مَا حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبَي سَلَمَةَ وُلِدَتْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَإِنَّ مُقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ لَهَا عِنْدَ وَفَاةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ أَرْبَعُ سِنِينَ. وَمَا مِثْلُهَا

(1)

يُضْبَطُ فِي مِثْلِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (فَمَسَّتْ بِهِ) أَيْ شَيْئًا مِنْ جَسَدِهَا، وَسَيَأْتِي فِي الطَّرِيقِ الَّتِي فِي الْعِدَدِ بِلَفْظِ: فَمَسَّتْ مِنْهُ. وَسَيَأْتِي فِيهِ لِزَيْنَبَ حَدِيثٌ آخَرُ عَنْ أُمِّهَا أُمِّ سَلَمَةَ فِي الْإِحْدَادِ أَيْضًا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ مُسْتَوْفًى، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌31 - باب زِيَارَةِ الْقُبُورِ

1283 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ فَقَالَ: اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي، قَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّي، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي، وَلَمْ تَعْرِفْهُ، فَقِيلَ لَهَا: إِنَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَتَتْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ فَقَالَتْ: لَمْ أَعْرِفْكَ فَقَالَ: إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى.

قَوْلُهُ: (بَابُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ)؛ أَيْ مَشْرُوعِيَّتُهَا، وَكَأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِالْحُكْمِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْخِلَافِ كَمَا سَيَأْتِي، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يُثْبِتْ عَلَى شَرْطِهِ الْأَحَادِيثَ الْمُصَرِّحَةَ بِالْجَوَازِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ، وَفِيهِ نَسْخُ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، وَلَفْظُهُ: كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوهَا. وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْآخِرَةَ. وَلِلْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِهِ فِيهِ: وَتُرِقُّ الْقَلْبَ، وَتُدْمِعُ الْعَيْنَ، فَلَا تَقُولُوا هُجْرًا. أَيْ كَلَامًا فَاحِشًا، وَهُوَ بِضَمِّ الْهَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ، وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: فَإِنَّهَا تُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: زُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ. قَالَ النَّوَوِيُّ تَبَعًا لِلْعَبْدِيِّ، وَالْحَازِمِيِّ وَغَيْرِهِمَا: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ زِيَارَةَ الْقُبُورِ لِلرِّجَالِ جَائِزَةٌ. كَذَا أَطْلَقُوا، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ ابْنَ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرَهُ رَوَى عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ الْكَرَاهَةَ مُطْلَقًا، حَتَّى قَالَ الشَّعْبِيُّ: لَوْلَا نَهْيُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَزُرْتُ قَبْرَ ابْنَتِي. فَلَعَلَّ مَنْ أَطْلَقَ أَرَادَ بِالِاتِّفَاقِ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بَعْدَ هَؤُلَاءِ، وَكَأَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَبْلُغْهُمُ النَّاسِخُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمُقَابِلُ هَذَا قَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ: إِنَّ زِيَارَةَ الْقُبُورِ وَاجِبَةٌ، وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي الْعُمُرِ؛ لِوُرُودِ الْأَمْرِ بِهِ.

وَاخْتُلِفَ فِي النِّسَاءِ، فَقِيلَ: دَخَلْنَ فِي عُمُومِ الْإِذْنِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ، وَمَحَلُّهُ مَا إِذَا أُمِنَتِ الْفِتْنَةُ، وَيُؤَيِّدُ الْجَوَازَ حَدِيثُ الْبَابِ، وَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُنْكِرْ عَلَى الْمَرْأَةِ قُعُودَهَا عِنْدَ الْقَبْرِ، وَتَقْرِيرُهُ حُجَّةٌ.

(1)

في مخطوطة الرياض "ومثلها"

ص: 148

وَمِمَّنْ حَمَلَ الْإِذْنَ عَلَى عُمُومِهِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ عَائِشَةُ، فَرَوَى الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّهُ رَآهَا زَارَتْ قَبْرَ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقِيلَ لَهَا: أَلَيْسَ قَدْ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، كَانَ نَهَى، ثُمَّ أَمَرَ بِزِيَارَتِهَا. وَقِيلَ: الْإِذْنُ خَاصٌّ بِالرِّجَالِ، وَلَا يَجُوزُ لِلنِّسَاءِ زِيَارَةُ الْقُبُورِ، وَبِهِ جَزَمَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي الْمُهَذَّبِ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو الَّذِي تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي بَابِ اتِّبَاعِ النِّسَاءِ الْجَنَائِزَ، وَبِحَدِيثِ: لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمِنْ حَدِيثِ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ. وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِالْكَرَاهَةِ فِي حَقِّهِنَّ: هَلْ هِيَ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ أَوْ تَنْزِيهٍ؟ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا اللَّعْنُ إِنَّمَا هُوَ لِلْمُكْثِرَاتِ مِنَ الزِّيَارَةِ لِمَا تَقْتَضِيهِ الصِّفَةُ مِنَ الْمُبَالَغَةِ، وَلَعَلَّ السَّبَبَ مَا يُفْضِي إِلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ تَضْيِيعِ حَقِّ الزَّوْجِ وَالتَّبَرُّجِ، وَمَا يَنْشَأُ مِنْهُنَّ مِنَ الصِّيَاحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَقَدْ يُقَالُ: إِذَا أُمِنَ جَمِيعُ ذَلِكَ فَلَا مَانِعَ مِنَ الْإِذْنِ، لِأَنَّ تَذَكُّرَ الْمَوْتِ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ.

قَوْلُهُ: (بِامْرَأَةٍ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهَا وَلَا اسْمِ صَاحِبِ الْقَبْرِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: مَا يَشْعُرُ بِأَنَّهُ وَلَدُهَا، وَلَفْظُهُ: تَبْكِي عَلَى صَبِيٍّ لَهَا. وَصُرِّحَ بِهِ فِي مُرْسَلِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَلَفْظُهُ: قَدْ أُصِيبَتْ بِوَلَدِهَا. وَسَيَأْتِي فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْأَحْكَامِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ ثَابِتٍ: إِنَّ أَنَسًا قَالَ لِامْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِهِ: تَعْرِفِينَ فُلَانَةً؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِهَا. فَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: اتَّقِي اللَّهَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ، فَقَالَ: يَا أَمَةَ اللَّهِ، اتَّقِي اللَّهَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ فِي بُكَائِهَا قَدْرٌ زَائِدٌ مِنْ نَوْحٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَلِهَذَا أَمَرَهَا بِالتَّقْوَى. قُلْتُ: يُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي مُرْسَلِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ الْمَذْكُورِ: فَسَمِعَ مِنْهَا مَا يُكْرَهُ، فَوَقَفَ عَلَيْهَا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: اتَّقِي اللَّهَ تَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ: وَاصْبِرِي، كَأَنَّهُ قِيلَ لَهَا: خَافِي غَضَبَ اللَّهِ إِنْ لَمْ تَصْبِرِي، وَلَا تَجْزَعِي لِيَحْصُلَ لَكِ الثَّوَابُ.

قَوْلُهُ: (إِلَيْكَ عَنِّي) هُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ، وَمَعْنَاهَا تَنَحَّ وَابْعُدْ.

قَوْلُهُ: (لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي) سَيَأْتِي فِي الْأَحْكَامِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ: فَإِنَّكَ خِلْوٌ مِنْ مُصِيبَتِي وَهُوَ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ، وَلِمُسْلِمٍ: مَا تُبَالِي بِمُصِيبَتِي. وَلِأَبِي يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنِّي أَنَا الْحَرَّى الثَّكْلَى، وَلَوْ كُنْتَ مُصَابًا عَذَرْتَنِي.

قَوْلُهُ: (وَلَمْ تَعْرِفْهُ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ؛ أَيْ: خَاطَبَتْهُ بِذَلِكَ وَلَمْ تَعْرِفْ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (فَقِيلَ لَهَا) فِي رِوَايَةِ الْأَحْكَامِ: فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ، فَقَالَ لَهَا: إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالَتْ: مَا عَرَفْتُهُ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي يَعْلَى الْمَذْكُورَةِ: قَالَ: فَهَلْ تَعْرِفِينَهُ؟ قَالَتْ: لَا. وَلِلطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ عَطِيَّةَ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ الَّذِي سَأَلَهَا هُوَ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ، وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةٍ لَهُ: فَأَخَذَهَا مِثْلُ الْمَوْتِ؛ أَيْ مِنْ شِدَّةِ الْكَرْبِ الَّذِي أَصَابَهَا لَمَّا عَرَفَتْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم، خَجَلًا مِنْهُ وَمَهَابَةً.

قَوْلُهُ: (فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ) فِي رِوَايَةِ الْأَحْكَامِ: بَوَّابًا بِالْإِفْرَادِ، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: فَائِدَةُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ بَيَانُ عُذْرِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ فِي كَوْنِهَا لَمْ تَعْرِفْهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ لَا يَتَّخِذَ بَوَّابًا مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ تَوَاضُعًا، وَكَانَ مِنْ شَأْنِهِ لَا يَسْتَتْبِعُ النَّاسَ وَرَاءَهُ إِذَا مَشَى كَمَا جَرَتْ عَادَةُ الْمُلُوكِ وَالْأَكَابِرُ، فَلِذَلِكَ اشْتَبَهَ عَلَى الْمَرْأَةِ، فَلَمْ تَعْرِفْهُ مَعَ مَا كَانَتْ فِيهِ مِنْ شَاغِلِ الْوَجْدِ وَالْبُكَاءِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: فَائِدَةُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّهُ لَمَّا قِيلَ لَهَا: إِنَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، اسْتَشْعَرَتْ خَوْفًا وَهَيْبَةً فِي نَفْسِهَا، فَتَصَوَّرَتْ أَنَّهُ مِثْلُ الْمُلُوكِ لَهُ حَاجِبٌ وَبَوَّابٌ يَمْنَعُ النَّاسَ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ، فَوَجَدَتِ الْأَمْرَ بِخِلَافِ مَا تَصَوَّرَتْهُ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَتْ: لَمْ أَعْرِفْكَ) فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا عَرَفْتُكَ.

قَوْلُهُ: (إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى) فِي رِوَايَةِ الْأَحْكَامِ: عِنْدَ أَوَّلِ صَدْمَةٍ. وَنَحْوُهُ لِمُسْلِمٍ، وَالْمَعْنَى إِذَا وَقَعَ الثَّبَاتُ أَوَّلَ شَيْءٍ يَهْجُمُ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْجَزَعِ، فَذَلِكَ هُوَ الصَّبْرُ الْكَامِلُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْأَجْرُ. وَأَصْلُ الصَّدْمِ: ضَرْبُ الشَّيْءِ الصُّلْبِ بِمِثْلِهِ، فَاسْتُعِيرَ لِلْمُصِيبَةِ الْوَارِدَةِ عَلَى الْقَلْبِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ:

ص: 149

الْمَعْنَى أَنَّ الصَّبْرَ الَّذِي يُحْمَدُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ مَا كَانَ عِنْدَ مُفَاجَأَةِ الْمُصِيبَةِ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ عَلَى الْأَيَّامِ يَسْلُو. وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ عَنْ غَيْرِهِ أَنَّ الْمَرْءَ لَا يُؤْجَرْ عَلَى الْمُصِيبَةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ صُنْعِهِ، وَإِنَّمَا يُؤْجَرْ عَلَى حُسْنِ تَثَبُّتِهِ وَجَمِيلِ صَبْرِهِ. وَقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: أَرَادَ أَنْ لَا يَجْتَمِعَ عَلَيْهَا مُصِيبَةُ الْهَلَاكِ، وَفَقْدُ الْأَجْرِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: صَدَرَ هَذَا الْجَوَابُ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَوْلِهَا: لَمْ أَعْرِفْكَ عَلَى أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا: دَعِي الِاعْتِذَارَ فَإِنِّي لَا أَغْضَبُ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَانْظُرِي لِنَفْسِكِ. وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: فَائِدَةُ جَوَابِ الْمَرْأَةِ بِذَلِكَ أَنَّهَا لَمَّا جَاءَتْ طَائِعَةً لِمَا أَمَرَهَا بِهِ مِنَ التَّقْوَى وَالصَّبْرِ، مُعْتَذِرَةً عَنْ قَوْلِهَا الصَّادِرِ عَنِ الْحُزْنِ، بَيَّنَ لَهَا أَنَّ حَقَّ هَذَا الصَّبْرِ أَنْ يَكُونَ فِي أَوَّلِ الْحَالِ، فَهُوَ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ. انْتَهَى. وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورَةِ: فَقَالَتْ أَنَا أَصْبِرُ، أَنَا أَصْبِرُ.

وَفِي مُرْسَلِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ الْمَذْكُورِ، فَقَالَ: اذْهَبِي إِلَيْكِ، فَإِنَّ الصَّبْرَ عِنْدَ الصَّمَدةِ الْأُولَى. وَزَادَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِيهِ مِنْ مُرْسَلِ الْحَسَنِ: وَالْعَبْرَةُ لَا يَمْلِكُهَا ابْنُ آدَمَ. وَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ الْمَذْكُورَةُ تَأَخَّرَتْ بَعْدَ الدَّفْنِ عِنْدَ الْقَبْرِ، وَالزِّيَارَةُ إِنَّمَا تُطْلَقُ عَلَى مَنْ أَنْشَأَ إِلَى الْقَبْرِ قَصْدًا مِنْ جِهَةِ اسْتِوَاءِ الْحُكْمِ فِي حَقِّهَا، حَيْثُ أَمَرَهَا بِالتَّقْوَى وَالصَّبْرِ لِمَا رَأَى مِنْ جَزَعهَا، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا الْخُرُوجَ مِنْ بَيْتِهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ خُرُوجُهَا لِتَشْيِيعِ مَيِّتِهَا، فَأَقَامَتْ عِنْدَ الْقَبْرِ بَعْدَ الدَّفْنِ، أَوْ أَنْشَأَتْ قَصْدَ زِيَارَتِهِ بِالْخُرُوجِ بِسَبَبِ الْمَيِّتِ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ: مَا كَانَ فِيهِ عليه الصلاة والسلام مِنَ التَّوَاضُعِ وَالرِّفْقِ بِالْجَاهِلِ، وَمُسَامَحَةُ الْمُصَابِ وَقَبُولُ اعْتِذَارِهِ، وَمُلَازَمَةُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَفِيهِ: الْقَاضِي لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَّخِذَ مَنْ يَحْجُبُهُ عَنْ حَوَائِجِ النَّاسِ، وَأَنَّ مَنْ أُمِرَ بِمَعْرُوفٍ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْبَلَ وَلَوْ لَمْ يَعْرِفِ الْآمِرَ. وَفِيهِ أَنَّ الْجَزَعَ مِنَ الْمَنْهِيَّاتِ لِأَمْرِهِ لَهَا بِالتَّقْوَى مَقْرُونًا بِالصَّبْرِ. وَفِيهِ التَّرْغِيبُ فِي احْتِمَالِ الْأَذَى عِنْدَ بَذْلِ النَّصِيحَةِ وَنَشْرِ الْمَوْعِظَةِ، وَأَنَّ الْمُوَاجَهَةَ بِالْخِطَابِ إِذَا لَمْ تُصَادِفِ الْمَنْوِيَّ لَا أَثَرَ لَهَا. وَبَنَى عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ مَا إِذَا قَالَ: يَا هِنْدُ، أَنْتِ طَالِقٌ. فَصَادَفَ عَمْرَةَ أَنَّ عَمْرَةَ لَا تُطَلَّقُ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ زِيَارَةِ الْقُبُورِ سَوَاءٌ كَانَ الزَّائِرُ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً كَمَا تَقَدَّمَ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَزُورُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، لِعَدَمِ الِاسْتِفْصَالِ فِي ذَلِكَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَبِالْجَوَازِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَقَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي: لَا تَجُوزُ زِيَارَةُ قَبْرِ الْكَافِرِ، وَهُوَ غَلَطٌ. انْتَهَى. وَحُجَّةُ الْمَاوَرْدِيِّ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ نَظَرٌ لَا يَخْفَى.

(تَنْبِيهٌ): قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: قَدَّمَ الْمُصَنِّفُ تَرْجَمَةَ زِيَارَةِ الْقُبُورِ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ أَحْكَامِ تَشْيِيعِ الْجِنَازَةِ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ مِمَّا يَتَقَدَّمُ الزِّيَارَةَ، لِأَنَّ الزِّيَارَةَ يَتَكَرَّرُ وُقُوعُهَا فَجَعَلَهَا أَصْلًا وَمِفْتَاحًا لِتِلْكَ الْأَحْكَامِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَأَشَارَ أَيْضًا إِلَى أَنَّ مُنَاسَبَةَ تَرْجَمَةِ زِيَارَةِ الْقُبُورِ تُنَاسِبُ اتِّبَاعَ النِّسَاءِ الْجَنَائِزَ، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ حَصْرَ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِخُرُوجِ النِّسَاءِ مُتَوَالِيَةً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌32 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُعَذَّبُ الْمَيِّتُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ النَّوْحُ مِنْ سُنَّتِهِ

لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ سُنَّتِهِ فَهُوَ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها:{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وَهُوَ كَقَوْلِهِ: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ} ذُنُوبًا {إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ} وَمَا يُرَخَّصُ مِنْ الْبُكَاءِ من غَيْرِ نَوْحٍ، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا، إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ

ص: 150

1284 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، وَمُحَمَّدٌ قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا عَاصِمُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ رضي الله عنهما قَالَ: أَرْسَلَتْ ابْنَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِ: إِنَّ ابْنًا لِي قُبِضَ فَأْتِنَا، فَأَرْسَلَ يُقْرِئُ السَّلَامَ وَيَقُولُ: إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ، وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلٌّ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى، فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تُقْسِمُ عَلَيْهِ لَيَأْتِيَنَّهَا فَقَامَ وَمَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَمَعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَرِجَالٌ فَرُفِعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّبِيُّ وَنَفْسُهُ تَتَقَعْقَعُ قَالَ: حَسِبْتُهُ أَنَّهُ قَالَ كَأَنَّهَا شَنٌّ، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذَا؟ فَقَالَ: هَذِهِ رَحْمَةٌ، جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ.

[الحديث 1284 - أطرافه في: 5655، 6602، 6655، 7377، 7448]

1285 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ "شَهِدْنَا بِنْتًا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ عَلَى الْقَبْرِ قَالَ فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ قَالَ فَقَالَ هَلْ مِنْكُمْ رَجُلٌ لَمْ يُقَارِفْ اللَّيْلَةَ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ أَنَا قَالَ فَانْزِلْ قَالَ فَنَزَلَ فِي قَبْرِهَا"

[الحديث 1285 - طرفه في: 1342]

1286 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ "تُوُفِّيَتْ ابْنَةٌ لِعُثْمَانَ رضي الله عنه بِمَكَّةَ وَجِئْنَا لِنَشْهَدَهَا وَحَضَرَهَا ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم وَإِنِّي لَجَالِسٌ بَيْنَهُمَا أَوْ قَالَ جَلَسْتُ إِلَى أَحَدِهِمَا ثُمَّ جَاءَ الآخَرُ فَجَلَسَ إِلَى جَنْبِي فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما لِعَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ أَلَا تَنْهَى عَنْ الْبُكَاءِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ"

1287 -

فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَدْ كَانَ عُمَرُ رضي الله عنه يَقُولُ بَعْضَ ذَلِكَ ثُمَّ حَدَّثَ قَالَ صَدَرْتُ مَعَ عُمَرَ رضي الله عنه مِنْ مَكَّةَ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ إِذَا هُوَ بِرَكْبٍ تَحْتَ ظِلِّ سَمُرَةٍ فَقَالَ اذْهَبْ فَانْظُرْ مَنْ هَؤُلَاءِ الرَّكْبُ قَالَ فَنَظَرْتُ فَإِذَا صُهَيْبٌ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ ادْعُهُ لِي فَرَجَعْتُ إِلَى صُهَيْبٍ فَقُلْتُ ارْتَحِلْ فَالْحَقْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمَّا أُصِيبَ عُمَرُ دَخَلَ صُهَيْبٌ يَبْكِي يَقُولُ وَا أَخَاهُ وَا صَاحِبَاهُ فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه يَا صُهَيْبُ أَتَبْكِي عَلَيَّ وَقَدْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ"

[الحديث 1287 - طرفاه في: 1290، 1292]

1288 -

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما "فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ رضي الله عنه ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ

ص: 151

عَنْهَا فَقَالَتْ رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ وَاللَّهِ مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ اللَّهَ لَيُعَذِّبُ الْمُؤْمِنَ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ اللَّهَ لَيَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ" وَقَالَتْ حَسْبُكُمْ الْقُرْآنُ {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عِنْدَ ذَلِكَ وَاللَّهُ {هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: وَاللَّهِ مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما شَيْئًا"

[الحديث 1288 - طرفاه في: 1289، 3978]

1289 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ "إِنَّمَا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى يَهُودِيَّةٍ يَبْكِي عَلَيْهَا أَهْلُهَا فَقَالَ: "إِنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا"

1290 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ وَهْوَ الشَّيْبَانِيُّ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ "لَمَّا أُصِيبَ عُمَرُ رضي الله عنه جَعَلَ صُهَيْبٌ يَقُولُ وَا أَخَاهُ فَقَالَ عُمَرُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ"

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يُعَذَّبُ الْمَيِّتُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ النَّوْحُ مِنْ سُنَّتِهِ) هَذَا تَقْيِيدٌ مِنَ الْمُصَنِّفِ لِمُطْلَقِ الْحَدِيثِ، وَحمْلٌ مِنْهُ لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُقَيَّدَةِ بِالْبَعْضِيَّةِ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ الْمُطْلَقَةِ كَمَا سَاقَهُ فِي الْبَابِ عَنْهُمَا، وَتَفْسِيرٌ مِنْهُ لِلْبَعْضِ الْمُبْهَمِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِأَنَّهُ النَّوْحُ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْمَحْذُورَ بَعْضُ الْبُكَاءِ لَا جَمِيعُهُ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.

وقَوْلُهُ: (إِذَا كَانَ النَّوْحُ مِنْ سُنَّتِهِ) يُوهِمُ أَنَّهُ بَقِيَّةُ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْمُصَنِّفُ قَالَهُ تَفَقُّهًا، وَبَقِيَّةُ السِّيَاقِ يُرْشِدُ إِلَى ذَلِكَ، وَهَذَا الَّذِي جَزَمَ بِهِ هُوَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَاخْتُلِفَ فِي ضَبْطِ قَوْلِهِ: مِنْ سُنَّتِهِ، فَلِلْأَكْثَرِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ؛ أَيْ طَرِيقَتُهُ وَعَادَتُهُ، وَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَتَانِ: الْأُولَى مَفْتُوحَةٌ، أَيْ مِنْ أَجْلِهِ، قَالَ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ: حُكِيَ عَنْ أَبِي الْفَضْلِ بْنِ نَاصِرٍ أَنَّهُ رَجَّحَ هَذَا، وَأَنْكَرَ الْأَوَّلَ، فَقَالَ: وَأَيُّ سُنَّةٍ لِلْمَيِّتِ؟ انْتَهَى. وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: بَلِ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِإِشْعَارِهِ بِالْعِنَايَةِ بِذَلِكَ، إِذْ لَا يُقَالُ: مِنْ سُنَّتِهِ إِلَّا عِنْدَ غَلَبَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَاشْتِهَارِهِ بِهِ. قُلْتُ: وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ أُلْهِمَ هَذَا الْخِلَافَ، فَأَشَارَ إِلَى تَرْجِيحِ الْأَوَّلِ حَيْثُ اسْتَشْهَدَ بِالْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ، فَإِنَّهُ يُثْبِتُ مَا اسْتَبْعَدَهُ ابْنُ نَاصِرٍ بِقَوْلِهِ: وَأَيُّ سُنَّةٍ لِلْمَيِّتِ؟ وَأَمَّا تَعْبِيرُ الْمُصَنِّفِ بِالنَّوْحِ، فَمُرَادُهُ مَا كَانَ مِنَ الْبُكَاءِ بِصِيَاحٍ وَعَوِيلٍ، وَمَا يَلْتَحِقُ بِذَلِكَ مِنْ لَطْمِ خَدٍّ وَشَقِّ جَيْبٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَنْهِيَّاتِ.

قَوْلُهُ: (لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ عَامٌّ فِي جِهَاتِ الْوِقَايَةِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْأَصْلُ مُولَعًا بِأَمْرٍ مُنْكَرٍ، لِئَلَّا يَجْرِيَ أَهْلُهُ عَلَيْهِ بَعْدَهُ، أَوْ يَكُونَ قَدْ عَرَفَ أَنَّ لِأَهْلِهِ عَادَةٌ بِفِعْلِ أَمْرٍ مُنْكَرٍ، وَأَهْمَلَ نَهْيَهَمْ عَنْهُ، فَيَكُونَ لَمْ يَقِ نَفْسَهُ وَلَا أَهْلَهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: كُلُّكُمْ رَاعٍ. . . الْحَدِيثَ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ لِابْنِ عُمَرَ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي الْجُمُعَةِ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ مِنْهُ مَا تَقَدَّمَ، لِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ رِعَايَتِهِ لَهُمْ أَنْ يَكُونَ الشَّرُّ مِنْ طَرِيقَتِهِ، فَيَجْرِيَ أَهْلُهُ عَلَيْهِ، أَوْ يَرَاهُمْ يَفْعَلُونَ الشَّرَّ فَلَا يَنْهَاهُمْ

ص: 152

عَنْهُ، فَيُسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ وَيُؤَاخَذُ بِهِ. وَقَدْ تُعُقِّبَ اسْتِدْلَالُ الْبُخَارِيِّ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ حَمْلِ حَدِيثِ الْبَابِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْحَدِيثَ نَاطِقٌ بِأَنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ، وَالْآيَةُ وَالْحَدِيثُ يَقْتَضِيَانِ أَنَّهُ يُعَذَّبُ بِسُنَّتِهِ، فَلَمْ يَتَّحِدِ الْمَوْرِدَانِ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا مَانِعَ فِي سُلُوكِ طَرِيقِ الْجَمْعِ مِنْ تَخْصِيصِ بَعْضِ الْعُمُومَاتِ، وَتَقْيِيدِ بَعْضِ الْمُطْلَقَاتِ، فَالْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ دَالًّا عَلَى تَعْذِيبِ كُلِّ مَيِّتٍ بِكُلِّ بُكَاءٍ، لَكِنْ دَلَّتْ أَدِلَّةٌ أُخْرَى عَلَى تَخْصِيصِ ذَلِكَ بِبَعْضِ الْبُكَاءِ، كَمَا سَيَأْتِي تَوْجِيهُهُ وَتَقْيِيدُ ذَلِكَ بِمَنْ كَانَتْ تِلْكَ سُنَّتُهُ أَوْ أَهْمَلَ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ، فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا أَنَّ الَّذِي يُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ مَنْ كَانَ رَاضِيًا بِذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ تِلْكَ طَرِيقَتُهُ إِلَخْ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْمُصَنِّفُ:(فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ سُنَّتِهِ)؛ أَيْ كَمَنْ كَانَ لَا شُعُورَ عِنْدَهُ بِأَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، أَوْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ بِأَنْ نَهَاهُمْ، فَهَذَا لَا مُؤَاخَذَةَ عَلَيْهِ بِفِعْلِ غَيْرِهِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: إِذَا كَانَ يَنْهَاهُمْ فِي حَيَاتِهِ فَفَعَلُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ.

قَوْلُهُ: (فَهُوَ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ) أَيْ كَمَا اسْتَدَلَّتْ عَائِشَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ؛ أَيْ وَلَا تَحْمِلْ حَامِلَةً ذَنْبًا ذَنْبَ أُخْرَى عَنْهَا، وَهَذَا حُمِلَ مِنْهُ لِإِنْكَارِ عَائِشَةَ عَلَى أَنَّهَا أَنْكَرَتْ عُمُومَ التَّعْذِيبِ لِكُلِّ مَيِّتٍ بُكِيَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَهُوَ كَقَوْلِهِ: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ} فَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَحْدَهُ. وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ ذُنُوبًا إِلَى حِمْلِهَا وَلَيْسَتْ ذُنُوبًا فِي التِّلَاوَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي تَفْسِيرِ مُجَاهِدٍ، فَنَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ عَنْهُ، وَمَوْقِعُ التَّشْبِيهِ فِي قَوْلِهِ أَنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى دَلَّتْ عَلَى أَنَّ النَّفْسَ الْمُذْنِبَةَ لَا يُؤَاخَذُ غَيْرُهَا بِذَنْبِهَا، فَكَذَلِكَ الثَّانِيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ النَّفْسَ الْمُذْنِبَةَ لَا يَحْمِلُ عَنْهَا غَيْرُهَا شَيْئًا مِنْ ذُنُوبِهَا، وَلَوْ طَلَبَتْ ذَلِكَ وَدَعَتْ إِلَيْهِ، وَمَحَلُّ ذَلِكَ كُلُّهُ إِنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ تَسَبُّبٌ، وَإِلَّا فَهُوَ يُشَارِكُهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ إِثْمُ الْأَرِيسِيِّينَ.

قَوْلُهُ: (وَمَا يُرَخَّصُ مِنَ الْبُكَاءِ فِي غَيْرِ نَوْحٍ) هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى أَوَّلِ التَّرْجَمَةِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى حَدِيثِ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَقَرَظَةَ بْنِ كَعْبٍ، قَالَا: رُخِّصَ لَنَا فِي الْبُكَاءِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ فِي غَيْرِ نَوْحٍ. أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، لَكِنْ لَيْسَ إِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، فَاكْتَفَى بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ، وَاسْتَغْنَى عَنْهُ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ الدَّالَّةِ عَلَى مُقْتَضَاهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا. . . الْحَدِيثَ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ لِابْنِ مَسْعُودٍ وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الدِّيَاتِ وَغَيْرِهَا، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّ الْقَاتِلَ الْمَذْكُورَ يُشَارِكُ مَنْ صَنَعَ صَنِيعَهُ لِكَوْنِهِ فَتَحَ لَهُ الْبَابَ وَنَهَجَ لَهُ الطَّرِيقَ، فَكَذَلِكَ مَنْ كَانَتْ طَرِيقَتُهُ النَّوْحَ عَلَى الْمَيِّتِ يَكُونُ قَدْ نَهَجَ لِأَهْلِهِ تِلْكَ الطَّرِيقَةَ، فَيُؤَاخَذُ عَلَى فِعْلِهِ الْأَوَّلِ. وَحَاصِلُ مَا بَحَثَهُ الْمُصَنِّفُ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ أَنَّ الشَّخْصَ لَا يُعَذَّبُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ إِلَّا إِذَا كَانَ لَهُ فِيهِ تَسَبُّبٌ، فَمَنْ أَثْبَتَ تَعْذِيبَ شَخْصٍ بِفِعْلِ غَيْرِهِ فَمُرَادُهُ هَذَا، وَمَنْ نَفَاهُ فَمُرَادُهُ مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ تَسَبُّبٌ أَصْلًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدِ اعْتَرَضَ بَعْضُهُمْ عَلَى اسْتِدْلَالِ الْبُخَارِيِّ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ الْوِزْرَ يَخْتَصُّ بِالْبَادِئِ دُونَ مَنْ أَتَى بَعْدَهُ، فَعَلَى هَذَا يَخْتَصُّ التَّعْذِيبُ بِأَوَّلِ مَنْ سَنَّ النَّوْحَ عَلَى الْمَوْتَى. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَنْفِي الْإِثْمَ عَنْ غَيْرِ الْبَادِئِ فَيُسْتَدَلُّ عَلَى ذَلِكَ بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْمُصَنِّفُ بِهَذَا الْحَدِيثِ الرَّدَّ عَلَى مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُعَذَّبُ إِلَّا بِذَنْبٍ بَاشَرَهُ بِقَوْلِهِ أَوْ فِعْلِهِ، فَأَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ قَدْ يُعَذَّبُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ إِذَا كَانَ لَهُ فِيهِ تَسَبُّبٌ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَسْأَلَةِ تَعْذِيبِ الْمَيِّتِ بِالْبُكَاءِ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَهُوَ بَيِّنٌ مِنْ قِصَّةِ عُمَرَ مَعَ صُهَيْبٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي ثَالِثِ أَحَادِيثِ هَذَا الْبَابِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عُمَرُ كَانَ يَرَى أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ تَقَعُ عَلَى الْمَيِّتِ إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى النَّهْيِ وَلَمْ يَقَعْ مِنْهُ، فَلِذَلِكَ بَادَرَ إِلَى نَهْيِ صُهَيْبٍ، وَكَذَلِكَ نَهْيِ حَفْصَةَ كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْهُ، وَمِمَّنْ أَخَذَ بِظَاهِرِهِ أَيْضًا عَبْدُ اللَّهِ

ص: 153

بْنُ عُمَرَ فَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِهِ أَنَّهُ شَهِدَ جِنَازَةَ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، فَقَالَ لِأَهْلِهِ: إِنَّ رَافِعًا شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا طَاقَةَ لَهُ بِالْعَذَابِ، وَإِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ. وَيُقَابِلُ قَوْلَ هَؤُلَاءِ قَوْلُ مَنْ رَدَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَعَارَضَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} مِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ الْإِنْكَارُ مُطْلَقًا أَبُو هُرَيْرَةَ، كَمَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ طَرِيقِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاللَّهِ لَئِنِ انْطَلَقَ رَجُلٌ مُجَاهِدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاسْتُشْهِدَ فَعَمَدَتِ امْرَأَتُهُ سَفَهًا وَجَهْلًا فَبَكَتْ عَلَيْهِ لَيُعَذَّبَنَّ هَذَا الشَّهِيدُ بِذَنْبِ هَذِهِ السَّفِيهَةِ.

وَإِلَى هَذَا جَنَحَ جَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، مِنْهُمْ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَوَّلَ قَوْلَهُ: بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ، عَلَى أَنَّ الْبَاءَ لِلْحَالِ، أَيْ أَنَّ مَبْدَأَ عَذَابِ الْمَيِّتِ يَقَعُ عِنْدَ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّ شِدَّةَ بُكَائِهِمْ غَالِبًا إِنَّمَا تَقَعُ عِنْدَ دَفْنِهِ، وَفِي تِلْكَ الْحَالَةِ يُسْأَلُ وَيُبْتَدَأُ بِهِ عَذَابُ الْقَبْرِ، فَكَأَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ حَالَةَ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ بُكَاؤُهُمْ سَبَبًا لِتَعْذِيبِهِ، حَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ. وَلَعَلَّ قَائِلَهُ إِنَّمَا أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ: إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّهُ لَيُعَذَّبُ بِمَعْصِيَتِهِ أَوْ بِذَنْبِهِ، وَإِنَّ أَهْلَهُ لَيَبْكُونَ عَلَيْهِ الْآنَ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْهَا، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ خَاصًّا بِبَعْضِ الْمَوْتَى. وَمِنْهُمْ مَنْ أَوَّلَهُ عَلَى أَنَّ الرَّاوِيَ سَمِعَ بَعْضَ الْحَدِيثِ وَلَمْ يَسْمَعْ بَعْضَهُ، وَأَنَّ اللَّامَ فِي الْمَيِّتِ لِمَعْهُودٍ مُعَيَّنٍ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ وَغَيْرُهُ، وَحُجَّتُهُمْ مَا سَيَأْتِي فِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ فِي رَابِعِ أَحَادِيثِ الْبَابِ، وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مِنْهُ الْبُخَارِيُّ، وَزَادَ فِي أَوَّلِهِ: ذُكِرَ لِعَائِشَةَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَغْفِرُ اللَّهُ لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ، وَلَكِنَّهُ نَسِيَ أَوْ أَخْطَأَ، إِنَّمَا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى يَهُودِيَّةٍ. . . فَذَكَرَتِ الْحَدِيثَ.

وَمِنْهُمْ مَنْ أَوَّلَهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالْكَافِرِ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُعَذَّبُ بِذَنْبِ غَيْرِهِ أَصْلًا، وَهُوَ بَيِّنٌ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عَائِشَةَ، وَهُوَ ثَالِثُ أَحَادِيثِ الْبَابِ. وَهَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ عَنْ عَائِشَةَ مُتَخَالِفَةٌ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهَا لَمْ تَرُدَّ الْحَدِيثَ بِحَدِيثٍ آخَرَ، بَلْ بِمَا اسْتَشْعَرَتْهُ مِنْ مُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ. قَالَ الدَّاوُدِيُّ: رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عَائِشَةَ أَثْبَتَتْ مَا نَفَتْهُ عَمْرَةُ وَعُرْوَةُ عَنْهَا، إِلَّا أَنَّهَا خَصَّتْهُ بِالْكَافِرِ، لِأَنَّهَا أَثْبَتَتْ أَنَّ الْمَيِّتَ يَزْدَادُ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ، فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَزْدَادَ بِفِعْلِ غَيْرِهِ، أَوْ يُعَذَّبَ ابْتِدَاءً؟ وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنْكَارُ عَائِشَةَ ذَلِكَ وَحُكْمُهَا عَلَى الرَّاوِي بِالتَّخْطِئَةِ أَوِ النِّسْيَانِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ سَمِعَ بَعْضًا، وَلَمْ يَسْمَعْ بَعْضًا بَعِيدٌ، لِأَنَّ الرُّوَاةَ لِهَذَا الْمَعْنَى مِنَ الصَّحَابَةِ كَثِيرُونَ وَهُمْ جَازِمُونَ فَلَا وَجْهَ لِلنَّفْيِ مَعَ إِمْكَانِ حَمْلِهِ عَلَى مَحْمَلٍ صَحِيحٍ. وَقَدْ جَمَعَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بَيْنَ حَدِيثَيْ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ بِضُرُوبٍ مِنَ الْجَمْعِ: أَوَّلُهَا طَرِيقَةُ الْبُخَارِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهَا. ثَانِيهَا وَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ: مَا إِذَا أَوْصَى أَهْلَهُ بِذَلِكَ. وَبِهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ وَآخَرُونَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ، حَتَّى قَالَ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ: إِنَّهُ قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَكَذَا نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ عَنِ الْجُمْهُورِ، قَالُوا: وَكَانَ مَعْرُوفًا لِلْقُدَمَاءِ حَتَّى قَالَ طَرَفَةُ بْنُ الْعَبْدِ:

إِذَا مِتُّ فَانْعِينِي بِمَا أَنَا أَهْلُهُ

وَشُقِّي عَلَيَّ الْجَيْبَ يَا ابْنَةَ مَعْبَدِ

وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ التَّعْذِيبَ بِسَبَبِ الْوَصِيَّةِ يُسْتَحَقُّ بِمُجَرَّدِ صُدُورِ الْوَصِيَّةِ، وَالْحَدِيثُ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَقَعُ عِنْدَ وُقُوعِ الِامْتِثَالِ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي السِّيَاقِ حَصْرٌ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُقُوعِهِ عِنْدَ الِامْتِثَالِ أَنْ لَا يَقَعَ إِذَا لَمْ يَمَتَثِلُوا مَثَلًا. ثَالِثُهَا يَقَعُ ذَلِكَ أَيْضًا لِمَنْ أَهْمَلَ نَهْيَ أَهْلِهِ عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ دَاوُدَ وَطَائِفَةٍ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحَلَّهُ مَا إِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ أَنَّهُ لَيْسَتْ لَهُمْ بِذَلِكَ عَادَةٌ، وَلَا ظَنَّ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ الْمُرَابِطِ: إِذَا عَلِمَ الْمَرْءُ بِمَا جَاءَ فِي النَّهْيِ عَنِ النَّوْحِ، وَعَرَفَ أَنَّ أَهْلَهُ مِنْ شَأْنِهِمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُعْلِمْهُمْ بِتَحْرِيمِهِ، وَلَا زَجَرَهُمْ عَنْ تَعَاطِيهِ، فَإِذَا عُذِّبَ عَلَى ذَلِكَ بِفِعْلِ

ص: 154

نَفْسِهِ لَا يفعل غَيْرِهِ بِمُجَرَّدِهِ. رَابِعُهَا مَعْنَى قَوْلِهِ: يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ؛ أَيْ بِنَظِيرِ مَا يَبْكِيهِ أَهْلُهُ بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَفْعَالَ الَّتِي يُعَدِّدُونَ بِهَا عَلَيْهِ غَالِبًا تَكُونُ مِنَ الْأُمُورِ الْمَنْهِيَّةِ، فَهُمْ يَمْدَحُونَهُ بِهَا، وَهُوَ يُعَذَّبُ بِصَنِيعِهِ ذَلِكَ، وَهُوَ عَيْنُ مَا يَمْدَحُونَهُ بِهِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ حَزْمٍ وَطَائِفَةٍ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْآتِي بَعْدَ عَشَرَةِ أَبْوَابٍ فِي قِصَّةِ مَوْتِ إِبْرَاهِيمَ ابْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَفِيهِ: وَلَكِنْ يُعَذَّبُ بِهَذَا، وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ.

قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: فَصَحَّ أَنَّ الْبُكَاءَ الَّذِي يُعَذَّبُ بِهِ الْإِنْسَانُ مَا كَانَ مِنْهُ بِاللِّسَانِ، إِذْ يَنْدُبُونَهُ بِرِيَاسَتِهِ الَّتِي جَارَ فِيهَا، وَشَجَاعَتِهِ الَّتِي صَرَفَهَا فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ، وَجُودِهِ الَّذِي لَمْ يَضَعْهُ فِي الْحَقِّ، فَأَهْلُهُ يَبْكُونَ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْمَفَاخِرِ، وَهُوَ يُعَذَّبُ بِذَلِكَ. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: كَثُرَ كَلَامُ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَالَ كُلٌّ مُجْتَهِدا عَلَى حَسَبِ مَا قُدِّرَ لَهُ، وَمِنْ أَحْسَنِ مَا حَضَرَنِي وَجْهٌ لَمْ أَرَهُمْ ذَكَرُوهُ، وَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُغِيرُونَ وَيَسبُونَ وَيَقْتُلُونَ، وَكَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا مَاتَ بَكَتْهُ بَاكِيَتُهُ بِتِلْكَ الْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ، فَمَعْنَى الْخَبَرِ أَنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِذَلِكَ الَّذِي يَبْكِي عَلَيْهِ أَهْلُهُ بِهِ، لِأَنَّ الْمَيِّتَ يُنْدَبُ بِأَحْسَنِ أَفْعَالِهِ، وَكَانَتْ مَحَاسِنُ أَفْعَالِهِمْ مَا ذُكِرَ، وَهِيَ زِيَادَةُ ذَنْبٍ في ذُنُوبِهِ يَسْتَحِقُّ الْعَذَابَ عَلَيْهَا.

خَامِسُهَا مَعْنَى التَّعْذِيبِ تَوْبِيخُ الْمَلَائِكَةِ لَهُ بِمَا يَنْدُبُهُ أَهْلُهُ بِهِ، كَمَا رَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا: الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ، إِذَا قَالَتِ النَّائِحَةُ: وَاعَضُدَاهْ وَانَاصِرَاهْ وَاكَاسِيَاهْ، جُبِذَ الْمَيِّتُ، وَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ عَضُدُهَا، أَنْتَ نَاصِرُهَا، أَنْتَ كَاسِيهَا؟ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِلَفْظِ: يُتَعْتِعُ بِهِ، وَيُقَالُ: أَنْتَ كَذَلِكَ؟ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ: مَا مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ فَتَقُومُ نَادِبَتُهُ فَتَقُولُ: وَاجَبَلَاهْ وَاسَنَدَاهْ، أَوْ شِبْهُ ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ، إِلَّا وُكِّلَ بِهِ مَلَكَانِ يَلْهَزَانِهِ، أَهَكَذَا كُنْتَ؟ وَشَاهِدُهُ مَا رَوَى الْمُصَنِّفُ فِي الْمَغَازِي مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: أُغْمِيَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، فَجَعَلَتْ أُخْتُهُ تَبْكِي وَتَقُولُ: وَاجَبَلَاهْ وَاكَذَا وَاكَذَا، فَقَالَ حِينَ أَفَاقَ: مَا قُلْتِ شَيْئًا إِلَّا قِيلَ لِي: أَنْتَ كَذَلِكَ؟

سَادِسُهَا مَعْنَى التَّعْذِيبِ تَأَلُّمُ الْمَيِّتِ بِمَا يَقَعُ مِنْ أَهْلِهِ مِنَ النِّيَاحَةِ وَغَيْرِهَا، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّبَرِيِّ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ الْمُرَابِطِ، وَعِيَاضٌ، وَمَنْ تَبِعَهُ، وَنَصَرَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَاسْتَشْهَدُوا لَهُ بِحَدِيثِ قَيْلَةَ بِنْتِ مَخْرَمَةَ، وَهِيَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ، وَأَبُوهَا بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ، ثَقَفِيَّةٌ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ وَلَدْتُهُ فَقَاتَلَ مَعَكَ يَوْمَ الرَّبَذَةِ، ثُمَّ أَصَابَتْهُ الْحُمَّى فَمَاتَ، وَنَزَلَ عَلَيَّ الْبُكَاءُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيَغْلِبُ أَحَدَكُمْ أَنْ يُصَاحِبَ صُوَيْحِبَهُ فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا، وَإِذَا مَاتَ اسْتَرْجَعَ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَبْكِي فَيَسْتَعْبِرُ إِلَيْهِ صُوَيْحِبُهُ، فَيَا عِبَادَ اللَّهِ، لَا تَعَذِّبُوا مَوْتَاكُمْ. وَهَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ حَسَنِ الْإِسْنَادِ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ أَطْرَافًا مِنْهُ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَيُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ أَعْمَالَ الْعِبَادِ تُعْرَضُ عَلَى أَقْرِبَائِهِمْ مِنْ مَوْتَاهُمْ، ثُمَّ سَاقَهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَيْهِ، وَشَاهِدُهُ حَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ مَرْفُوعًا، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، قَالَ ابْنُ الْمُرَابِطِ: حَدِيثُ قَيْلَةَ نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَلَا يُعْدَلْ عَنْهُ.

وَاعْتَرَضَهُ ابْنُ رَشِيدٍ بِأَنَّهُ لَيْسَ نَصًّا، وَإِنَّمَا هُوَ مُحْتَمَلٌ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: فَيَسْتَعْبِرُ إِلَيْهِ صُوَيْحِبُهُ لَيْسَ نَصًّا فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَيِّتُ، بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ صَاحِبُهُ الْحَيُّ، وَأَنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ حِينَئِذٍ بِبُكَاءِ الْجَمَاعَةِ عَلَيْهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ هَذِهِ التَّوْجِيهَاتِ فَيُنْزَلَ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ بِأَنْ يُقَالَ مَثَلًا: مَنْ كَانَتْ طَرِيقَتُهُ النَّوْحَ فَمَشَى أَهْلُهُ عَلَى طَرِيقَتِهِ، أَوْ بَالَغَ فَأَوْصَاهُمْ بِذَلِكَ عُذِّبَ بِصُنْعِهِ، وَمَنْ كَانَ ظَالِمًا فَنُدِبَ بِأَفْعَالِهِ الْجَائِرَةِ عُذِّبَ بِمَا نُدِبَ بِهِ، وَمَنْ كَانَ يَعْرِفُ مِنْ أَهْلِهِ النِّيَاحَةَ فَأَهْمَلَ نَهْيَهُمْ عَنْهَا، فَإِنْ كَانَ رَاضِيًا بِذَلِكَ الْتَحَقَ بِالْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ رَاضٍ عُذِّبَ بِالتَّوْبِيخِ: كَيْفَ أَهْمَلَ النَّهْيَ. وَمَنْ سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَاحْتَاطَ، فَنَهَى أَهْلَهُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، ثُمَّ خَالَفُوهُ وَفَعَلُوا ذَلِكَ كَانَ تَعْذِيبُهُ تَأَلُّمَهُ بِمَا يَرَاهُ مِنْهُمْ مِنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ، وَإِقْدَامِهِمْ عَلَى مَعْصِيَةِ رَبِّهِمْ. وَاللَّهُ

ص: 155

تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. وَحَكَى الْكَرْمَانِيُّ تَفْصِيلًا آخَرَ وَحَسَّنَهُ، وَهُوَ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ حَالِ الْبَرْزَخِ وَحَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} عَلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ وَمَا أَشْبَهَهُ عَلَى الْبَرْزَخِ.

وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ يَقَعُ فِي الدُّنْيَا، وَالْإِشَارَةُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} فَإِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى جَوَازِ وُقُوعِ التَّعْذِيبِ عَلَى الْإِنْسَانِ بِمَا لَيْسَ لَهُ فِيهِ تَسَبُّبٌ، فَكَذَلِكَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْحَالُ فِي الْبَرْزَخِ بِخِلَافِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ خَمْسَةَ أَحَادِيثَ: الْأَوَّلُ حَدِيثُ أُسَامَةَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، وَمُحَمَّدٌ) هُوَ ابْنُ مُقَاتِلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي عُثْمَانَ) هُوَ النَّهْدِيُّ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي التَّوْحِيدِ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادٍ، عَنْ عَاصِمٍ، وَفِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ فِي أَوَاخِرِ الطِّبِّ، عَنْ عَاصِمٍ: سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ.

قَوْلُهُ: (أَرْسَلَتْ بِنْتُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هِيَ زَيْنَبُ كَمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ عَاصِمٍ الْمَذْكُورِ فِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ ابْنًا لِي) قِيلَ: هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَهُوَ مِنْ زَيْنَبَ، كَذَا كَتَبَ الدِّمْيَاطِيُّ بِخَطِّهِ فِي الْحَاشِيَةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ مُسَمًّى فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ. وَأَيْضًا فَقَدْ ذَكَرَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ أَنَّ عَلِيًّا الْمَذْكُورَ عَاشَ حَتَّى نَاهَزَ الْحُلُمَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَرْدَفَهُ عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُقَالُ فِي حَقِّهِ صَبِيٌّ عُرْفًا، وَإِنْ جَازَ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ. وَوَجَدْتُ فِي الْأَنْسَابِ لِلْبَلَاذُرِيِّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ مِنْ رُقَيَّةَ بِنْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا مَاتَ وَضَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حِجْرِهِ، وَقَالَ: إِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ.

وَفِي مُسْنَدِ الْبَزَّارِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: ثَقُلَ ابْنٌ لِفَاطِمَةَ، فَبَعَثَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. . . فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ الْبَابِ، وَفِيهِ مُرَاجَعَةُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فِي الْبُكَاءِ، فَعَلَى هَذَا قالِا ابْنُ الْمَذْكُورُ مُحْسِنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَقَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ أَنَّهُ مَاتَ صَغِيرًا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَهَذَا أَوْلَى أَنْ يُفَسَّرَ بِهِ الِابْنُ إِنْ ثَبَتَ أَنَّ الْقِصَّةَ كَانَتْ لِصَبِيٍّ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ الْمُرْسِلَةَ زَيْنَبُ، لَكِنَّ الصَّوَابَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّ الْمُرْسِلَةَ زَيْنَبُ، وَأَنَّ الْوَلَدَ صَبِيَّةٌ كَمَا ثَبَتَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ، وَلَفْظُهُ: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأُمَامَةَ بِنْتِ زَيْنَبَ. زَادَ سَعْدَانُ بْنُ نَصْرٍ فِي الثَّانِي مِنْ حَدِيثِهِ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَهِيَ لِأَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ: وَنَفْسُهَا تَقَعْقَعُ، كَأَنَّهَا فِي شَنٍّ. فَذَكَرَ حَدِيثَ الْبَابِ، وَفِيهِ مُرَاجَعَةُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ.

وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو سَعِيدِ بْنُ الْأَعْرَابِيِّ فِي مُعْجَمِهِ عَنْ سَعْدَانَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ بَعْضِهِمْ أُمَيْمَةُ بِالتَّصْغِيرِ، وَهِيَ أُمَامَةُ الْمَذْكُورَةُ، فَقَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالنَّسَبِ أَنَّ زَيْنَبَ لَمْ تَلِدْ لِأَبِي الْعَاصِ إِلَّا عَلِيًّا وَأُمَامَةَ فَقَطْ، وَقَدِ اسْتَشْكَلَ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أُمَامَةَ بِنْتَ أَبِي الْعَاصِ مِنْ زَيْنَبَ بِنْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَاشَتْ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى تَزَوَّجَهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بَعْدَ وَفَاةِ فَاطِمَةَ، ثُمَّ عَاشَتْ عِنْدَ عَلِيٍّ حَتَّى قُتِلَ عَنْهَا. وَيُجَابُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ: إِنَّ ابْنًا لِي قُبِضَ؛ أَيْ قَارَبَ أَنْ يُقْبَضَ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ فِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ: أَرْسَلَتْ تَدْعُوهُ إِلَى ابْنِهَا فِي الْمَوْتِ. وَفِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ: إِنَّ ابْنَتِي قَدْ حُضِرَتْ، وَهُوَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِهِ أَنَّ ابْنِي أَوِ ابْنَتِي، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الصَّوَابَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: ابْنَتِي، لَا ابْنِي، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: اسْتُعِزَّ بِأُمَامَةَ بِنْتِ أَبِي الْعَاصِ، فَبَعَثَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِ تَقُولُ لَهُ. . .

فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ أُسَامَةَ، وَفِيهِ مُرَاجَعَةُ سَعْدٍ فِي الْبُكَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: اسْتُعِزَّ بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ؛ أَيِ اشْتَدَّ بِهَا الْمَرَضُ، وَأَشْرَفَتْ عَلَى الْمَوْتِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَكْرَمَ نَبِيَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمَّا سَلَّمَ لِأَمْرِ رَبِّهِ، وَصَبَّرَ ابْنَتَهُ وَلَمْ يَمْلِكْ مَعَ ذَلِكَ عَيْنَيْهِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ بِأَنْ عَافَى اللَّهُ ابْنَةَ ابْنَتِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَخَلَصَتْ مِنْ تِلْكَ الشِّدَّةِ، وَعَاشَتْ

ص: 156

تِلْكَ الْمُدَّةَ، وَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

قَوْلُهُ: (يُقْرِئُ السَّلَامَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى) قَدَّمَ ذِكْرَ الْأَخْذِ عَلَى الْإِعْطَاءِ - وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا فِي الْوَاقِعِ - لِمَا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَأْخُذَهُ هُوَ الَّذِي كَانَ أَعْطَاهُ، فَإِنْ أَخَذَهُ أَخَذَ مَا هُوَ لَهُ، فَلَا يَنْبَغِي الْجَزَعُ، لِأَنَّ مُسْتَوْدَعَ الْأَمَانَةِ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَجْزَعَ إِذَا اسْتُعِيدَتْ مِنْهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْإِعْطَاءِ إِعْطَاءَ الْحَيَاةِ لِمَنْ بَقِيَ بَعْدَ الْمَيِّتِ، أَوْ ثَوَابَهُمْ عَلَى الْمُصِيبَةِ، أَوْ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ. وَمَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَصْدَرِيَّةٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، فَعَلَ الْأَوَّلِ التَّقْدِيرُ: لِلَّهِ الْأَخْذُ وَالْإِعْطَاءُ. وَعَلَى الثَّانِي: لِلَّهِ الَّذِي أَخَذَهُ مِنَ الْأَوْلَادِ، وَلَهُ مَا أَعْطَى مِنْهُمْ، أَوْ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ.

قَوْلُهُ: (وَكُلُّ)؛ أَيْ مِنَ الْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ - أَوْ مِنَ الْأَنْفُسِ - أَوْ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَهِيَ جُمْلَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمُؤَكَّدَةِ، وَيَجُوزُ فِي كُلُّ النَّصْبُ عَطْفًا عَلَى اسْمِ إِنَّ، فَيَنْسَحِبُ التَّأْكِيدُ أَيْضًا عَلَيْهِ، وَمَعْنَى الْعِنْدِيَّةِ الْعِلْمُ فَهُوَ مِنْ مَجَازِ الْمُلَازَمَةِ، وَالْأَجَلُ يُطْلَقُ عَلَى الْحَدِّ الْأَخِيِرِ، وَعَلَى مَجْمُوعِ الْعُمُرِ، وَقَوْلُهُ:(مُسَمًّى)؛ أَيْ مَعْلُومٌ مُقَدَّرٌ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَلْتَحْتَسِبْ) أَيْ تَنْوِي بِصَبْرِهَا طَلَبَ الثَّوَابِ مِنْ رَبِّهَا، لِيُحْسَبَ لَهَا ذَلِكَ مِنْ عَمَلِهَا الصَّالِحِ

قَوْلُهُ: (فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تُقْسِمُ) وَقَعَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهَا رَاجَعَتْهُ مَرَّتَيْنِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا قَامَ فِي ثَالِثِ مَرَّةٍ، وَكَأَنَّهَا أَلَحَّتْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ دَفْعًا لِمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ أَهْلِ الْجَهْلِ أَنَّهَا نَاقِصَةُ الْمَكَانَةِ عِنْدَهُ، أَوْ أَلْهَمَهَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ حُضُورَ نَبِيِّهِ عِنْدَهَا يَدْفَعُ عَنْهَا مَا هِيَ فِيهِ مِنَ الْأَلَمِ بِبَرَكَةِ دُعَائِهِ وَحُضُورِهِ، فَحَقَّقَ اللَّهُ ظَنَّهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ امْتَنَعَ أَوَّلًا مُبَالَغَةً فِي إِظْهَارِ التَّسْلِيمِ لِرَبِّهِ، أَوْ لِيُبَيِّنَ الْجَوَازَ فِي أَنَّ مَنْ دُعِيَ لِمِثْلِ ذَلِكَ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْإِجَابَةُ بِخِلَافِ الْوَلِيمَةِ مَثَلًا.

قَوْلُهُ: (فَقَامَ وَمَعَهُ) فِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ: فَقَامَ وَقَامَ مَعَهُ رِجَالٌ. وَقَدْ سُمِّيَ مِنْهُمْ - غَيْرُ مَنْ ذُكِرَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ - عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، وَهُوَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَاحِدِ فِي أَوَائِلِ التَّوْحِيدِ، وَفِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ أَنَّ أُسَامَةَ رَاوِيَ الْحَدِيثِ كَانَ مَعَهُمْ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ كَانَ مَعَهُمْ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ: وَأَبِي، أَوْ أُبَيٌّ، كَذَا فِيهِ بِالشَّكِّ: هَلْ قَالَهَا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ، أَوْ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَالتَّشْدِيدِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ مَعَهُمْ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ أَيْضًا، لَكِنَّ الثَّانِي أَرْجَحُ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْبَابِ بِلَفْظِ: وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الشَّكَّ فِيهِ مِنْ شُعْبَةَ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (فَرَفَعَ) كَذَا هُنَا بِالرَّاءِ، وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ: فَدَفَعَ بِالدَّالِ، وَبَيَّنَ فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ أَنَّهُ وُضِعَ فِي حِجْرِهِ صلى الله عليه وسلم. وَفِي هَذَا السِّيَاقِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَمَشَوْا إِلَى أَنْ وَصَلُوا إِلَى بَيْتِهَا فَاسْتَأْذَنُوا، فَأُذِنَ لَهُمْ، فَدَخَلُوا فَرُفِعَ، وَوَقَعَ بَعْضُ هَذَا الْمَحْذُوفِ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَاحِدِ، وَلَفْظُهُ: فَلَمَّا دَخَلْنَا نَاوَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّبِيَّ.

قَوْلُهُ: (وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ، قَالَ: حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: كَأَنَّهَا شَنٌّ) كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَجَزَمَ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ وَلَفْظُهُ: وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ كَأَنَّهَا فِي شَنٍّ. وَالْقَعْقَعَةُ حِكَايَةُ صَوْتِ الشَّيْءِ الْيَابِسِ إِذَا حُرِّكَ، وَالشَّنُّ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ الْقِرْبَةُ الْخَلِقَةُ الْيَابِسَةُ، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ شَبَّهَ الْبَدَنَ بِالْجِلْدِ الْيَابِسِ الْخَلِقِ، وَحَرَكَةَ الرُّوحِ فِيهِ بِمَا يُطْرَحُ من الْجِلْدِ مِنْ حَصَاةٍ وَنَحْوِهَا. وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الْأُولَى فَكَأَنَّهُ شَبَّهَ النَّفْسَ بِنَفْسِ الْجِلْدِ، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي الْإِشَارَةِ إِلَى شِدَّةِ الضَّعْفِ، وَذَلِكَ أَظْهَرُ فِي التَّشْبِيهِ.

قَوْلُهُ: (فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ) أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَصَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ سَعْدٌ)؛ أَيِ ابْنُ عُبَادَةَ الْمَذْكُورُ، وَصَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَاحِدِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَاحِدِ: فَقَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، وَالصَّوَابُ مَا فِي الصَّحِيحِ.

قَوْلُهُ: (مَا هَذَا) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَاحِدِ: فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: أَتَبْكِي. زَادَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ: وَتَنْهَى عَنِ الْبُكَاءِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ هَذِهِ) أَيِ الدَّمْعَةُ أَثَرُ رَحْمَةٍ، أَيْ أَنَّ

ص: 157

الَّذِي يَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِنْ حُزْنِ الْقَلْبِ بِغَيْرِ تَعَمُّدٍ مِنْ صَاحِبِهِ، وَلَا اسْتِدْعَاءٍ لَا مُؤَاخَذَةَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْمَنْهِيُّ عَنْهُ الْجَزَعُ، وَعَدَمُ الصَّبْرِ.

قَوْلُهُ: (وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ) فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ فِي أَوَاخِرِ الطِّبِّ: وَلَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ إِلَّا الرُّحَمَاءَ. وَمِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ عِبَادِهِ بَيَانِيَّةٌ، وَهِيَ حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ قَدَّمَهُ، فَيَكُونُ أَوْقَعَ، وَالرُّحَمَاءَ جَمْعُ رَحِيمٍ، وَهُوَ مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ تَخْتَصُّ بِمَنِ اتَّصَفَ بِالرَّحْمَةِ، وَتَحَقَّقَ بِهَا بِخِلَافِ مَنْ فِيهِ أَدْنَى رَحْمَةٍ، لَكِنْ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عِندَ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ: الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ. وَالرَّاحِمُونَ جَمْعُ رَاحِمٍ، فَيَدْخُلُ كُلُّ مَنْ فِيهِ أَدْنَى رَحْمَةٍ، وَقَدْ ذَكَرَ الْحَرْبِيُّ مُنَاسَبَةَ الْإِتْيَانِ بِلَفْظِ الرُّحَمَاءِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ بِمَا حَاصِلُهُ: إِنَّ لَفْظَ الْجَلَالَةِ دَالٌّ عَلَى الْعَظَمَةِ، وَقَدْ عُرِفَ بِالِاسْتِقْرَاءِ أَنَّهُ حَيْثُ وَرَدَ يَكُونُ الْكَلَامُ مَسُوقًا لِلتَّعْظِيمِ، فَلَمَّا ذُكِرَ هُنَا نَاسَبَ ذِكْرَ مَنْ كَثُرَتْ رَحْمَتُهُ وَعَظَمَتُهُ لِيَكُونَ الْكَلَامُ جَارِيًا عَلَى نَسَقِ التَّعْظِيمِ، بِخِلَافِ الْحَدِيثِ الْآخَرِ فَإِنَّ لَفْظَ الرَّحْمَنِ دَالٌّ عَلَى الْعَفْوِ، فَنَاسَبَ أَنْ يُذْكَرَ مَعَهُ كُلُّ ذِي رَحْمَةٍ، وَإِنْ قَلَّتْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ: جَوَازُ اسْتِحْضَارِ ذَوِي الْفَضْلِ لِلْمُحْتَضَرِ لِرَجَاءِ بَرَكَتِهِمْ وَدُعَائِهِمْ، وَجَوَازُ الْقَسَمِ عَلَيْهِمْ لِذَلِكَ، وَجَوَازُ الْمَشْيِ إِلَى التَّعْزِيَةِ وَالْعِيَادَةِ بِغَيْرِ إِذْنٍ بِخِلَافِ الْوَلِيمَةِ، وَجَوَازُ إِطْلَاقِ اللَّفْظِ الْمُوهِمِ لِمَا لَمْ يَقَعْ بِأَنَّهُ يَقَعُ مُبَالَغَةً فِي ذَلِكَ، لِيَنْبَعِثَ خَاطِرُ الْمَسْئُولِ فِي الْمَجِيءِ لِلْإِجَابَةِ إِلَى ذَلِكَ، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ إِبْرَارِ الْقَسَمِ وَأَمْرُ صَاحِبِ الْمُصِيبَةِ بِالصَّبْرِ قَبْلَ وُقُوعِ الْمَوْتِ لِيَقَعَ وَهُوَ مُسْتَشْعِرٌ بِالرِّضَا مُقَاوِمًا لِلْحُزْنِ بِالصَّبْرِ، وَإِخْبَارُ مَنْ يَسْتَدْعِي بِالْأَمْرِ الَّذِي يُسْتَدْعَى مِنْ أَجْلِهِ، وَتَقْدِيمُ السَّلَامِ عَلَى الْكَلَامِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ وَلَوْ كَانَ مَفْضُولًا أَوْ صَبِيًّا صَغِيرًا. وَفِيهِ أَنَّ أَهْلَ الْفَضْلِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْطَعُوا النَّاسَ عَنْ فَضْلِهِمْ وَلَوْ رُدُّوا أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَاسْتِفْهَامُ التَّابِعِ مِنْ إِمَامِهِ عَمَّا يُشْكِلُ عَلَيْهِ مِمَّا يَتَعَارَضُ ظَاهِرُهُ، وَحُسْنُ الْأَدَبِ فِي السُّؤَالِ لِتَقْدِيمِهِ قَوْلَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلَى الِاسْتِفْهَامِ. وَفِيهِ التَّرْغِيبُ فِي الشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ وَالرَّحْمَةِ لَهُمْ، وَالتَّرْهِيبُ مِنْ قَسَاوَةِ الْقَلْبِ وَجُمُودِ الْعَيْنِ، وَجَوَازُ الْبُكَاءِ مِنْ غَيْرِ نَوْحٍ وَنَحْوِهِ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي حَدِيثُ أَنَسٍ:

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ) هُوَ الْمُسْنَدِيُّ، وَأَبُو عَامِرٍ هُوَ الْعَقَدِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ هِلَالٍ) فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ الْآتِيَةِ بَعْدَ أَبْوَابٍ: حَدَّثَنَا هِلَالٌ.

قَوْلُهُ: (شَهِدْنَا بِنْتًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هِيَ أُمُّ كُلْثُومٍ زَوْجُ عُثْمَانَ، رَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ، عَنْ فُلَيْحِ بْنِ سُلَيْمَانَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ فِي تَرْجَمَةِ أُمِّ كُلْثُومٍ، وَكَذَا الدُّولَابِيُّ فِي الذُّرِّيَّةِ الطَّاهِرَةِ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ، وَالطَّحَاوِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَرَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، فَسَمَّاهَا رُقَيَّةَ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ الْأَوْسَطِ، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: مَا أَدْرِي مَا هَذَا، فَإِنَّ رُقَيَّةَ مَاتَتْ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِبَدْرٍ لَمْ يَشْهَدْهَا. قُلْتُ: وَهِمَ حَمَّادٌ فِي تَسْمِيَتِهَا فَقَطْ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ أَيْضًا فِي تَرْجَمَةِ أُمِّ كُلْثُومٍ مِنْ طَرِيقِ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَتْ: نَزَلَ فِي حُفْرَتِهَا أَبُو طَلْحَةَ. وَأَغْرَبَ الْخَطَّابِيُّ فَقَالَ: هَذِهِ الْبِنْتُ كَانَتْ لِبَعْضِ بَنَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَنُسِبَتْ إِلَيْهِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَكَأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ الْمَيِّتَةَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ هِيَ الْمُحْتَضَرَةُ فِي حَدِيثِ أُسَامَةَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا بَيَّنْتُهُ.

قَوْلُهُ: (لَمْ يُقَارِفْ) بِقَافٍ وَفَاءٍ، زَادَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ فُلَيْحٍ: أُرَاهُ يَعْنِي الذَّنْبَ. ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ مَنْ يَدْخُلُ قَبْرَ الْمَرْأَةِ تَعْلِيقًا، وَوَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَكَذَا سُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ، عَنْ فُلَيْحٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْهُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَمْ يُجَامِعْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ حَزْمٍ وَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَتَبَجَّحَ أَبُو طَلْحَةَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُ لَمْ يُذْنِبْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ. انْتَهَى. وَيُقَوِّيهِ أَنَّ فِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ الْمَذْكُورَةِ بِلَفْظِ: لَا يَدْخُلِ الْقَبْرَ أَحَدٌ قَارَفَ أَهْلَهُ الْبَارِحَةَ. فَتَنَحَّى عُثْمَانُ. وَحُكِيَ عَنِ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ قَالَ: (لَمْ يُقَارِفْ) تَصْحِيفٌ، وَالصَّوَابُ لَمْ يُقَاوِلْ؛ أَيْ: لَمْ يُنَازِعْ غَيْرَهُ الْكَلَامَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ الْحَدِيثَ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ تَغْلِيطٌ لِلثِّقَةِ بِغَيْرِ

ص: 158

مُسْتَنَدٍ، وَكَأَنَّهُ اسْتَبْعَدَ أَنْ يَقَعَ لِعُثْمَانَ ذَلِكَ لِحِرْصِهِ عَلَى مُرَاعَاةِ الْخَاطِرِ الشَّرِيفِ. وَيُجَابُ عَنْهُ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَرَضُ الْمَرْأَةِ طَالَ وَاحْتَاجَ عُثْمَانُ إِلَى الْوِقَاعِ، وَلَمْ يَظُنَّ عُثْمَانُ أَنَّهَا تَمُوتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ وَاقَعَ بَعْدَ مَوْتِهَا، بَلْ وَلَا حِينَ احْتِضَارِهَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ الْبُكَاءِ كَمَا تَرْجَمَ لَهُ، وَإِدْخالُ الرِّجَالِ الْمَرْأَةَ قَبْرَهَا لِكَوْنِهِمْ أَقْوَى عَلَى ذَلِكَ مِنَ النِّسَاءِ، وَإِيثَارُ الْبَعِيدِ الْعَهْدِ عَنِ الْمَلَاذِ فِي مُوَارَاةِ الْمَيِّتِ - وَلَوْ كَانَ امْرَأَةً - عَلَى الْأَبِ وَالزَّوْجِ، وَقِيلَ: إِنَّمَا آثَرَهُ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا كَانَتْ صَنْعَتَهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ ظَاهِرَ السِّيَاقِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اخْتَارَهُ لِذَلِكَ لِكَوْنِهِ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ جِمَاعٌ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَأْمَنُ مِنْ أَنْ يُذَكِّرَهُ الشَّيْطَانُ بِمَا كَانَ مِنْهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ حَبِيبٍ أَنَّ السِّرَّ فِي إِيثَارِ أَبِي طَلْحَةَ عَلَى عُثْمَانَ أَنَّ عُثْمَانَ كَانَ قَدْ جَامَعَ بَعْضَ جَوَارِيهِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَتَلَطَّفَ صلى الله عليه وسلم فِي مَنْعِهِ مِنَ النُّزُولِ فِي قَبْرِ زَوْجَتِهِ بِغَيْرِ تَصْرِيحٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ الْمَذْكُورَةِ: فَلَمْ يَدْخُلْ عُثْمَانُ الْقَبْرَ. وَفِيهِ جَوَازُ الْجُلُوسِ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ عِنْدَ الدَّفْنِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ الْبُكَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَحَكَى ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُكْرَهُ لِحَدِيثِ جَبْرِ بْنِ عَتِيكٍ فِي الْمُوَطَّأِ، فَإِنَّ فِيهِ: فَإِذَا وَجَبَ فَلَا تَبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ. يَعْنِي إِذَا مَاتَ. وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَوْلَوِيَّةِ، وَالْمُرَادُ: لَا تَرْفَعْ صَوْتَهَا بِالْبُكَاءِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ النِّسَاءَ قَدْ يُفْضِي بِهِنَّ الْبُكَاءُ إِلَى مَا يُحْذَرُ مِنَ النَّوْحِ لِقِلَّةِ صَبْرِهِنَّ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى جَوَازِ الْجُلُوسِ عَلَيْهِ مُطْلَقًا، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَفِيهِ فَضِيلَةٌ لِعُثْمَانَ لِإِيثَارِهِ الصِّدْقَ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ فِيهِ غَضَاضَةٌ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ:

قَوْلُهُ: (عَبْدَ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ.

قَوْلُهُ: (بِنْتٌ لِعُثْمَانَ) هِيَ أُمُّ أَبَانَ كَمَا سَيَأْتِي مِنْ رِوَايَةِ أَيُّوبَ.

قَوْلُهُ. (وَإِنِّي لَجَالِسٌ بَيْنَهُمَا، أَوْ قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى أَحَدِهِمَا) هَذَا شَكٌّ مِنَ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا إِلَى جَنْبِ ابْنِ عُمَرَ وَنَحْنُ نَنْتَظِرُ جِنَازَةَ أُمِّ أَبَانَ بِنْتِ عُثْمَانَ، وَعِنْدَهُ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، فَجَاءَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُودُهُ قَائِدُهُ فَأُرَاهُ أَخْبَرَهُ بِمَكَانِ ابْنِ عُمَرَ فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَى جَنْبِي، فَكُنْتُ بَيْنَهُمَا، فَإِذَا صَوْتٌ مِنَ الدَّارِ. وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عِنْدَ الْحُمَيْدِيِّ: فَبَكَى النِّسَاءُ. فَظَهَرَ السَّبَبُ فِي قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ، لِعَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ مَا قَالَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَكَانَ الَّذِي جَلَسَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ كَانَ أَوْفَقَ لَهُ مِنَ الْجُلُوسِ بِجَنْبِ ابْنِ عُمَرَ، أَوِ اخْتَارَ أَنْ لَا يُقِيمَ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ مِنْ مَكَانِهِ وَيَجْلِسُ فِيهِ لِلنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (فَلَمَّا أُصِيبَ عُمَرُ) يَعْنِي بِالْقَتْلِ، وَأَفَادَ أَيُّوبُ فِي رِوَايَتِهِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَقِبَ الْحَجَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَفْظُهُ: فَلَمَّا قَدِمْنَا لَمْ يَلْبَثْ عُمَرُ أَنْ أُصِيبَ وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ: لَمْ يَلْبَثْ أَنْ طُعِنَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ) هَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهَا، وَرِوَايَةُ مُسْلِمٍ تُوهِمُ أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْهَا، وَالْقِصَّةُ كَانَتْ بَعْدَ مَوْتِ عَائِشَةَ لِقَوْلِهِ فِيهَا: فَجَاءَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُودُهُ قَائِدُهُ فَإِنَّهُ إِنَّمَا عَمِيَ فِي أَوَاخِرِ عُمُرِهِ، وَيُؤَيِّدُ كَوْنَ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ لَمْ يَحْمِلْهُ عَنْهَا أَنَّ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي أَوَاخِرِ الْقِصَّةِ قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: وَحَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: لَمَّا بَلَغَ عَائِشَةَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ قَالَتْ: إِنَّكُمْ لَتُحَدِّثُونَنِي عَنْ غَيْرِ كَاذِبِينَ وَلَا مُكَذَّبِينَ، وَلَكِنَّ السَّمْعَ يُخْطِئُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ قَدْ حَدَّثَ بِهِ مِرَارًا. وَسَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ أَنَّهُ حَدَّثَ بِذَلِكَ أَيْضًا لَمَّا مَاتَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ.

قَوْلُهُ: (وَلَكِنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِسُكُونِ نُونِ لَكِنْ، وَيَجُوزُ تَشْدِيدُهَا.

قَوْلُهُ: (حَسْبُكُمْ) بِسُكُونِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ؛ أَيْ كَافِيكُمْ. (الْقُرْآنُ)؛ أَيْ فِي تَأْيِيدِ مَا ذَهَبْتُ إِلَيْهِ مِنْ رَدِّ الْخَبَرِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عِنْدَ ذَلِكَ) أَيْ عِنْدَ انْتِهَاءِ حَدِيثِهِ عَنْ عَائِشَةَ (وَاللَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى) أَيْ أَنَّ الْعَبْرَةَ لَا يَمْلِكُهَا ابْنُ آدَمَ وَلَا تَسَبُّبَ لَهُ فِيهَا، فَكَيْفَ يُعَاقَبُ عَلَيْهَا فَضْلًا عَنِ الْمَيِّتِ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَذِنَ فِي الْجَمِيلِ مِنَ

ص: 159

الْبُكَاءِ فَلَا يُعَذِّبُ عَلَى مَا أَذِنَ فِيهِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: غَرَضُهُ تَقْرِيرُ قَوْلِ عَائِشَةَ أَيْ أَنَّ بُكَاءَ الْإِنْسَانِ وَضَحِكَهُ مِنَ اللَّهِ يُظْهِرُهُ فِيهِ، فَلَا أَثَرَ لَهُ فِي ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ شَيْئًا) قَالَ الطِّيبِيُّ وَغَيْرُهُ: ظَهَرَتْ لِابْنِ عُمَرَ الْحُجَّةُ فَسَكَتَ مُذْعِنًا. وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: سُكُوتُهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْإِذْعَانِ، فَلَعَلَّهُ كَرِهَ الْمُجَادَلَةَ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَيْسَ سُكُوتُهُ لِشَكٍّ طَرَأَ لَهُ بَعْدَ مَا صَرَّحَ بِرَفْعِ الْحَدِيثِ، وَلَكِنِ احْتَمَلَ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ قَابِلًا لِلتَّأْوِيلِ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ لَهُ مَحْمَلٌ يَحْمِلُهُ عَلَيْهِ إِذْ ذَاكَ، أَوْ كَانَ الْمَجْلِسُ لَا يَقْبَلُ الْمُمَارَاةَ، وَلَمْ تَتَعَيَّنِ الْحَاجَةُ إِلَى ذَلِكَ حِينَئِذٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عُمَرَ فَهِمَ مِنَ اسْتِشْهَادِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِالْآيَةِ قَبُولَ رِوَايَتِهِ، لِأَنَّهَا يُمْكِنُ أَنْ يُتَمَسَّكُ بِهَا فِي أَنَّ لِلَّهِ أَنْ يُعَذِّبَ بِلَا ذَنْبٍ فَيَكُونُ بُكَاءُ الْحَيِّ عَلَامَةً لِذَلِكَ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْكَرْمَانِيُّ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ:

قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ)؛ أَيِ ابْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ.

قَوْلُهُ: (إِنَّمَا مَرَّ) كَذَا أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ مُخْتَصَرًا، وَهُوَ فِي الْمُوَطَّأِ بِلَفْظِ: ذُكِرَ لَهَا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَغْفِرُ اللَّهُ لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ، وَلَكِنَّهُ نَسِيَ أَوْ أَخْطَأَ، إِنَّمَا مَرَّ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ أَبِي بَكْرٍ كَذَلِكَ، وَزَادَ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمَّا مَاتَ رَافِعٌ قَالَ لَهُمْ: لَا تَبْكُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّ بُكَاءَ الْحَيِّ عَلَى الْمَيِّتِ عَذَابٌ عَلَى الْمَيِّتِ. قَالَتْ عَمْرَةُ: فَسَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَتْ: يَرْحَمُهُ اللَّهُ، إِنَّمَا مَرَّ. . . فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَرَافِعٌ الْمَذْكُورُ هُوَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ:

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي بُرْدَةَ) هُوَ ابْنُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ.

قَوْلُهُ: (لَمَّا أُصِيبَ عُمَرُ جَعَلَ صُهَيْبٌ يَقُولُ: وَاأَخَاهُ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ أَتَمَّ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ، وَفِيهِ قَوْلُ عُمَرَ: عَلَامَ تَبْكِي.

قَوْلُهُ: (إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ) الظَّاهِرُ أَنَّ الْحَيَّ مَنْ يُقَابِلُ الْمَيِّتَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْقَبِيلَةَ، وَتَكُونُ اللَّامُ فِيهِ بَدَلَ الضَّمِيرِ، وَالتَّقْدِيرُ: يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ حَيِّهِ؛ أَيْ قَبِيلَتِهِ. فَيُوَافِقُ قَوْلَهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: بِبُكَاءِ أَهْلِهِ. وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ الْمَذْكُورَةِ: مَنْ يَبْكِي عَلَيْهِ يُعَذَّبْ. وَلَفْظُهَا أَعَمُّ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ لَيْسَ خَاصًّا بِالْكَافِرِ، وَعَلَى أَنَّ صُهَيْبًا أَحَدُ مَنْ سَمِعَ هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَأَنَّهُ نَسِيَهُ حَتَّى ذَكَّرَهُ بِهِ عُمَرُ. وَزَادَ فِيهِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِمُوسَى بْنِ طَلْحَةَ فَقَالَ: كَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ: إِنَّمَا كَانَ أُولَئِكَ الْيَهُودُ. . . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: أَنْكَرَ عُمَرُ عَلَى صُهَيْبٍ بُكَاءَهُ لِرَفْعِ صَوْتِهِ بِقَوْلِهِ: وَاأَخَاهْ، فَفُهِمَ مِنْهُ أَنَّ إِظْهَارَهُ لِذَلِكَ قَبْلَ مَوْتِ عُمَرَ يُشْعِرُ بِاسْتِصْحَابِهِ ذَلِكَ بَعْدَ وَفَاتِهِ أَوْ زِيَادَتِهِ عَلَيْهِ فَابْتَدَرَهُ بِالْإِنْكَارِ لِذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: إِنْ قِيلَ: كَيْفَ نَهَى صُهَيْبًا عَنِ الْبُكَاءِ، وَأَقَرَّ نِسَاءَ بَنِي الْمُغِيرَةِ عَلَى الْبُكَاءِ عَلَى خَالِدٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يَكُونَ رَفْعُهُ لِصَوْتِهِ مِنْ بَابِ مَا نُهِيَ عَنْهُ، وَلِهَذَا قَالَ فِي قِصَّةِ خَالِدٍ: مَا لَمْ يَكُنْ نَقْعٌ أَوْ لَقْلَقَةٌ.

‌33 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ النِّيَاحَةِ عَلَى الْمَيِّتِ

وَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: دَعْهُنَّ يَبْكِينَ عَلَى أَبِي سُلَيْمَانَ مَا لَمْ يَكُنْ نَقْعٌ أَوْ لَقْلَقَةٌ، وَالنَّقْعُ: التُّرَابُ عَلَى الرَّأْسِ، وَاللَّقْلَقَةُ: الصَّوْتُ

1291 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ الْمُغِيرَةِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ؛ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ نِيحَ عَلَيْهِ يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ.

ص: 160

1292 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ" تَابَعَهُ عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ وَقَالَ آدَمُ عَنْ شُعْبَةَ "الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ عَلَيْهِ"

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ النِّيَاحَةِ عَلَى الْمَيِّتِ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: مَا مَوْصُولَةٌ، وَمِنْ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، فَالتَّقْدِيرُ: الَّذِي يُكْرَهُ مِنْ جِنْسِ الْبُكَاءِ هُوَ النِّيَاحَةُ. وَالْمُرَادُ بِالْكَرَاهَةِ كَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ، لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْوَعِيدِ عَلَيْهِ. انْتَهَى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً وَمِنْ تَبْعِيضِيَّةً، وَالتَّقْدِيرُ: كَرَاهِيَةُ بَعْضِ النِّيَاحَةِ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ الْمُرَابِطِ وَغَيْرُهُ. وَنَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ، عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً: أَنَّ بَعْضَ النِّيَاحَةِ لَا تَحْرُمُ. وَفِيهِ نَظَرٌ، وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ كَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَنْهَ عَمَّةَ جَابِرٍ

(1)

، لَمَّا نَاحَتْ عَلَيْهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النِّيَاحَةَ إِنَّمَا تَحْرُمُ إِذَا انْضَافَ إِلَيْهَا فِعْلٌ مِنْ ضَرْبِ خَدٍّ أَوْ شَقِّ جَيْبٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا نَهَى عَنِ النِّيَاحَةِ بَعْدَ هَذِهِ الْقِصَّةِ لِأَنَّهَا كَانَتْ بِأُحُدٍ، وَقَدْ قَالَ فِي أُحُدٍ: لَكِنْ حَمْزَةُ لَا بَوَاكِيَ لَهُ.

ثُمَّ نَهَى عَنْ ذَلِكَ وَتَوَعَّدَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِيمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِنِسَاءِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ يَبْكِينَ هَلْكَاهُنَّ يَوْمَ أُحُدٍ، فَقَالَ: لَكِنَّ حَمْزَةَ لَا بَوَاكِيَ لَهُ. فَجَاءَ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ يَبْكِينَ حَمْزَةَ، فَاسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: وَيْحَهُنَّ، مَا انْقَلَبْنَ بَعْدُ، مُرُوهُنَّ فَلْيَنْقَلِبْنَ، وَلَا يَبْكِينَ عَلَى هَالِكٍ بَعْدَ الْيَوْمِ. وَلَهُ شَاهِدٌ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ مُرْسَلًا وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُمَرُ: دَعْهُنَّ يَبْكِينَ عَلَى أَبِي سُلَيْمَانَ إِلَخْ) هَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّارِيخِ الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ قَالَ: لَمَّا مَاتَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ اجْتَمَعَ نِسْوَةُ بَنِي الْمُغِيرَةِ - أَيِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَخْزُومٍ - وَهُنَّ بَنَاتُ عَمِّ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ يَبْكِينَ عَلَيْهِ، فَقِيلَ لِعُمَرَ: أَرْسِلْ إِلَيْهِنَّ فَانْهَهُنَّ، فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ وَكِيعٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ.

قَوْلُهُ: (مَا لَمْ يَكُنْ نَقْعٌ أَوْ لَقْلَقَةٌ) بِقَافَيْنِ، الْأُولَى سَاكِنَةٌ، وَقَدْ فَسَّرَهُ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّ النَّقْعَ: التُّرَابُ. أَيْ وَضْعُهُ عَلَى الرَّأْسِ، وَاللَّقْلَقَةُ: الصَّوْتُ. أَيِ الْمُرْتَفِعُ. وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ، فَأَمَّا تَفْسِيرُ اللَّقْلَقَةِ فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ، وَأَمَّا النَّقْعُ فَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: النَّقْعُ: الشَّقُّ؛ أَيْ شَقُّ الْجُيُوبِ، وَكَذَا قَالَ وَكِيعٌ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ عَنْهُ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ هُوَ صَنْعَةُ الطَّعَامِ لِلْمَأْتَمِ، كَأَنَّهُ ظَنَّهُ مِنَ النَّقِيعَةِ، وَهِيَ طَعَامُ الْمَأْتَمِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ النَّقِيعَةَ طَعَامُ الْقَادِمِ مِنَ السَّفَرِ كَمَا سَيَأْتِي فِي آخِرِ الْجِهَادِ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ عَلَيْهِ، وَقَالَ: الَّذِي رَأَيْتُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ رَفْعُ الصَّوْتِ، يَعْنِي بِالْبُكَاءِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ وَضْعُ التُّرَابِ عَلَى الرَّأْسِ، لِأَنَّ النَّقْعَ هُوَ الْغُبَارُ. وَقِيلَ: هُوَ شَقُّ الْجُيُوبِ، وَهُوَ قَوْلُ شِمْرٍ، وَقِيلَ: هُوَ صَوْتُ لَطْمِ الْخُدُودِ. حَكَاهُ الْأَزْهَرِيُّ، وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مُعْتَرِضًا عَلَى الْبُخَارِيِّ: النَّقْعُ لَعَمْرِي، هُوَ الْغُبَارُ، وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُهُ، وَإِنَّمَا هُوَ هُنَا الصَّوْتُ الْعَالِي، وَاللَّقْلَقَةُ تَرْدِيدُ صَوْتِ النُّوَاحَةِ. انْتَهَى.

وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ بَعْدَ أَنْ فُسِّرَ الْمُرَادُ بِكَوْنِهِ وَضْعَ التُّرَابِ عَلَى الرَّأْسِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعِ أَهْلِ الْمَصَائِبِ، بَلْ قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: الْمُرَجَّحُ أَنَّهُ وَضْعُ التُّرَابِ عَلَى الرَّأْسِ، وَأَمَّا مَنْ فَسَّرَهُ بِالصَّوْتِ فَيَلْزَمُ مُوَافَقَتُهُ لِلَّقْلَقَةِ، فَحَمْلُ اللَّفْظَيْنِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِمَا عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ بَيْنَهُمَا مُغَايَرَةً مِنْ وَجْهٍ كَمَا تَقَدَّمَ فَلَا مَانِعَ مِنْ إِرَادَةِ ذَلِكَ. (تَنْبِيهٌ): كَانَتْ وَفَاةُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ بِالشَّامِ سَنَةَ إِحْدَى

(1)

مراده لما ناحت على أخيها عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر رضي الله عنهما

ص: 161

وَعِشْرِينَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ) هُوَ الطَّائِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ) هُوَ الْأَسَدِيُّ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ كُوفِيُّونَ، وَصَرَّحَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ بِسَمَاعِ سَعِيدٍ مِنْ عَلِيٍّ وَلَفْظُهُ: حَدَّثَنَا، وَالْمُغِيرَةُ هُوَ ابْنُ شُعْبَةَ وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ، وَفِيهِ عَلِيُّ بْنُ رَبِيعَةَ، قَالَ: أَتَيْتُ الْمَسْجِدَ وَالْمُغِيرَةُ أَمِيرُ الْكُوفَةَ، فَقَالَ: سَمِعْتُ. فَذَكَرَهُ. وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ الْأَسَدِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ نِيحَ عَلَيْهِ بِالْكُوفَةِ قَرَظَةُ بْنُ كَعْبٍ. وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ مَاتَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ: قَرَظَةُ بْنُ كَعْبٍ، فَنِيحَ عَلَيْهِ، فَجَاءَ الْمُغِيرَةُ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: مَا بَالُ النَّوْحِ فِي الْإِسْلَامِ. انْتَهَى. وَقَرَظَةُ الْمَذْكُورُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالرَّاءِ وَالظَّاءِ الْمُشَالَةِ أَنْصَارِيٌّ خَزْرَجِيٌّ، كَانَ أَحَدَ مَنْ وَجَّهَهُ عُمَرُ إِلَى الْكُوفَةِ لِيُفَقِّهَ النَّاسَ، وَكَانَ عَلَى يَدِهِ فَتْحُ الرَّيِّ، وَاسْتَخْلَفَهُ عَلِيٌّ

(1)

عَلَى الْكُوفَةِ، وَجَزَمَ ابْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُ بِأَنَّهُ مَاتَ فِي خِلَافَتِهِ، وَهُوَ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ؛ لِمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ وَفَاتَهُ حَيْثُ كَانَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَمِيرًا عَلَى الْكُوفَةِ، وَكَانَتْ إِمَارَةُ الْمُغِيرَةِ عَلَى الْكُوفَةِ مِنْ قِبَلِ مُعَاوِيَةَ مِنْ سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ إِلَى أَنْ مَاتَ وَهُوَ عَلَيْهَا سَنَةَ خَمْسِينَ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ)؛ أَيْ غَيْرِي، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْكَذِبَ عَلَى الْغَيْرِ قَدْ أُلِفَ وَاسْتُسْهِلَ خَطْبُهُ، وَلَيْسَ الْكَذِبُ عَلَيَّ بَالِغًا مَبْلَغَ ذَاكَ فِي السُّهُولَةِ، وَإِنْ كَانَ دُونَهُ فِي السُّهُولَةِ، فَهُوَ أَشَدُّ مِنْهُ فِي الْإِثْمِ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَنْدَفِعُ اعْتِرَاضُ مَنْ أَوْرَدَ أَنَّ الَّذِي تَدْخُلُ عَلَيْهِ الْكَافُ أَعْلَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَذَا لَا يَلْزَمُ مِنْ إِثْبَاتِ الْوَعِيدِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْكَذِبِ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ الْكَذِبُ عَلَى غَيْرِهِ مُبَاحًا، بَلْ يُسْتَدَلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْكَذِبِ عَلَى غَيْرِهِ بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْكَذِبَ عَلَيْهِ تُوُعِّدَ فَاعِلُهُ بِجَعْلِ النَّارِ لَهُ مَسْكَنًا، بِخِلَافِ الْكَذِبِ عَلَى غَيْرِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ بَقِيَّةُ مَبَاحِثِ الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ، وَيَأْتِي كَثِيرٌ مِنْهَا فِي شَرْحِ حَدِيثِ وَاثِلَةَ فِي أَوَائِلِ مَنَاقِبِ قُرَيْشٍ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (مَنْ يُنَحْ عَلَيْهِ يُعَذَّبْ) ضَبَطَهُ الْأَكْثَرُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ النُّونِ وَجَزْمِ الْمُهْمَلَةِ، عَلَى أَنَّ مَنْ شَرْطِيَّةٌ، وَتَجْزِمُ الْجَوَابَ، وَيَجُوزُ رَفْعُهُ عَلَى تَقْدِيرِ: فَإِنَّهُ يُعَذَّبُ، وَرُوِيَ بِكَسْرِ النُّونِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: مَنْ يُنَاحُ عَلَى أَنَّ مَنْ مَوْصُولَةٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ بِلَفْظِ: إِذَا نِيحَ عَلَى الْمَيِّتِ عُذِّبَ بِالنِّيَاحَةِ عَلَيْهِ. وَهُوَ يُؤَيِّدُ الرِّوَايَةَ الثَّانِيَةَ.

قَوْلُهُ: (بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ) كَذَا لِلْجَمِيعِ بِكَسْرِ النُّونِ، وَلِبَعْضِهِمْ: مَا نِيحَ، بِغَيْرِ مُوَحَّدَةٍ عَلَى أَنَّ مَا ظَرْفِيَّةٌ.

قَوْلُهُ: (عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ) فِي رِوَايَةٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ عَبْدُ الْأَعْلَى) هُوَ ابْنُ حَمَّادٍ، وَسَعِيدٌ هُوَ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا قَتَادَةُ) يَعْنِي عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ إِلَخْ، وَقَدْ وَصَلَهُ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ حَمَّادٍ كَذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ آدَمُ، عَنْ شُعْبَةَ) يَعْنِي بِإِسْنَادِ حَدِيثِ الْبَابِ، لَكِنْ بِغَيْرِ لَفْظِ الْمَتْنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ عَلَيْهِ. تَفَرَّدَ آدَمُ بِهَذَا اللَّفْظِ. وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ غُنْدَرَ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، وَحَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ، كُلِّهِمْ عَنْ شُعْبَةَ كَالْأَوَّلِ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي النَّضْرِ، وَعَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ، وَأَبِي زَيْدٍ الْهَرَوِيِّ، وَأَسْوَدَ بْنِ عَامِرٍ كُلِّهِمْ عَنْ سَعِيدٍ كَذَلِكَ، وَفِي الْحَدِيثِ تَقْدِيمٌ مَنْ يُحَدِّثُ كَلَامًا يَقْتَضِي تَصْدِيقُهُ فِيمَا يُحَدِّثُ بِهِ، فَإِنَّ الْمُغِيرَةَ قَدَّمَ قَبْلَ تَحْدِيثِهِ بِتَحْرِيمِ النَّوْحِ، أَنَّ الْكَذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَشَدُّ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى غَيْرِهِ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ الْوَعِيدَ عَلَى ذَلِكَ يَمْنَعُهُ أَنْ يُخْبِرَ عَنْهُ بِمَا لَمْ يَقُلْ.

(1)

في نسخة أخرى "واستخلفه"

ص: 162

‌34 - باب

1293 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: جِيءَ بِأَبِي يَوْمَ أُحُدٍ - قَدْ مُثِّلَ بِهِ - حَتَّى وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ سُجِّيَ ثَوْبًا، فَذَهَبْتُ أُرِيدُ أَنْ أَكْشِفَ عَنْهُ، فَنَهَانِي قَوْمِي، ثُمَّ ذَهَبْتُ أَكْشِفُ عَنْهُ، فَنَهَانِي قَوْمِي، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَرُفِعَ، فَسَمِعَ صَوْتَ صَائِحَةٍ، فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ فَقَالُوا: ابْنَةُ عَمْرٍو، أَوْ أُخْتُ عَمْرٍو. قَالَ: فَلِمَ تَبْكِي؟ - أَوْ لَا تَبْكِي - فَمَا زَالَتْ الْمَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رُفِعَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ) كَذَا فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ، وَسَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَكَرِيمَةَ، وَعَلَى ثُبُوتِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْفَصْلِ مِنَ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعَلُّقٍ بِالَّذِي قَبْلَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ فِي أَوَّلِ التَّرْجَمَةِ.

قَوْلُهُ: (قَدْ مُثِّلَ بِهِ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمُثَلَّثَةِ، يُقَالُ: مُثِّلَ بِالْقَتِيلِ إِذَا جُدِعَ أَنْفُهُ، أَوْ أُذُنُهُ، أَوْ مَذَاكِيرُهُ، أَوْ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ. وَالِاسْمُ: الْمُثْلَةُ؛ بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ.

قَوْلُهُ: (سُجِّيَ ثَوْبًا) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ الثَّقِيلَةِ، أَيْ غُطِّيَ بِثَوْبٍ.

قَوْلُهُ: (ابْنَةُ عَمْرٍو أَوْ أُخْتُ عَمْرٍو) هَذَا شَكٌّ مِنْ سُفْيَانَ، وَالصَّوَابُ بِنْتُ عَمْرٍو وَهِيَ فَاطِمَةُ بِنْتُ عَمْرٍو، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَلَى الصَّوَابِ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ فِي أَوَائِلِ الْجَنَائِزِ بِلَفْظِ: فَذَهَبَتْ عَمَّتِي فَاطِمَةُ. وَوَقَعَ فِي الْإِكْلِيلِ لِلْحَاكِمِ تَسْمِيَتُهَا هِنْدُ بِنْتُ عَمْرٍو، فَلَعَلَّ لَهَا اسْمَيْنِ، أَوْ أَحَدَهُمَا اسْمُهَا وَالْآخَرَ لَقَبُهَا، أَوْ كَانَتَا جَمِيعًا حَاضِرَتَيْنِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ: فَلِمَ تَبْكِي؟ أَوْ لَا تَبْكِي) هَكَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِكَسْرِ اللَّامِ، وَفَتْحِ الْمِيمِ عَلَى أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ عَنْ غَائِبَةٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَوْ لَا تَبْكِي. فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي: هَلِ اسْتَفْهَمَ أَوْ نَهَى. لَكِنْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْجَنَائِزِ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ: تَبْكِي أَوْ لَا تَبْكِي. وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ عَلَى التَّخْيِيرِ، وَمُحَصِّلُهُ أَنَّ هَذَا الْجَلِيلَ الْقَدْرِ الَّذِي تُظِلُّهُ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُبْكَى عَلَيْهِ، بَلْ يُفْرَحَ لَهُ بِمَا صَارَ إِلَيْهِ.

‌35 - بَاب لَيْسَ مِنَّا مَنْ شَقَّ الْجُيُوبَ

1294 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا زُبَيْدٌ الْيَامِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ.

[الحديث 1294 - أطرافه في: 1297، 1298، 3519]

قَوْلُهُ: (بَابُ لَيْسَ مِنَّا مَنْ شَقَّ الْجُيُوبَ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: أَفْرَدَ هَذَا الْقَدْرَ بِتَرْجَمَةٍ لِيُشْعِرَ بِأَنَّ النَّفْيَ الَّذِي حَاصِلُهُ التَّبَرِّي يَقَعُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَذْكُورَاتِ لَا بِمَجْمُوعِهَا. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةٌ لِمُسْلِمٍ بِلَفْظِ: أَوْ شَقَّ الْجُيُوبَ، أَوْ دَعَا. إِلَخْ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا زُبَيْدٌ) بِزَايٍ وَمُوَحَّدَةٍ، مُصَغَّرٌ.

قَوْلُهُ: (الْيَامِيُّ) بِالتَّحْتَانِيَّةِ وَالْمِيمِ الْخَفِيفَةِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: الْأَيَامِيُّ بِزِيَادَةِ هَمْزَةٍ فِي أَوَّلِهِ. وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ كُوفِيُّونَ، وَلِسُفْيَانَ - وَهُوَ الثَّوْرِيُّ - فِيهِ إِسْنَادٌ آخَرُ سَيُذْكَرُ بَعْدَ بَابَيْنِ.

قَوْلُهُ: (لَيْسَ مِنَّا) أَيْ مِنْ أَهْلِ سُنِّتَتَا وَطَرِيقَتِنَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ إِخْرَاجَهُ عَنِ الدِّينِ، وَلَكِنْ فَائِدَةُ إِيرَادِهِ بِهَذَا اللَّفْظِ الْمُبَالَغَةُ فِي الرَّدْعِ عَنِ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِوَلَدِهِ عِنْدَ مُعَاتَبَتِهِ: لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي، أَيْ: مَا أَنْتَ عَلَى طَرِيقَتِي. وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ مَا مُلَخَّصُهُ: التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ إِنَّمَا وَرَدَ عَنْ أَمْرٍ وُجُودِيٍّ، وَهَذَا يُصَانُ كَلَامُ الشَّارِعِ عَنِ الْحَمْلِ عَلَيْهِ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ أَنَّ الْوَاقِعَ فِي ذَلِكَ يَكُونُ قَدْ تَعَرَّضَ

ص: 163

لِأَنْ يُهْجَرَ وَيُعْرَضَ عَنْهُ، فَلَا يَخْتَلِطُ بِجَمَاعَةِ السُّنَّةِ تَأْدِيبًا لَهُ عَلَى اسْتِصْحَابِهِ حَالةَ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي قَبَّحَهَا الْإِسْلَامُ، فَهَذَا أَوْلَى مِنَ الْحَمْلِ عَلَى مَا لَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى الْفِعْلِ الْمَوْجُودِ. وَحُكِيَ عَنْ سُفْيَانَ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ الْخَوْضَ فِي تَأْوِيلِهِ، وَيَقُولُ: يَنْبَغِي أَنْ يُمْسَكَ عَنْ ذَلِكَ لِيَكُونَ أَوْقَعَ فِي النُّفُوسِ، وَأَبْلَغَ فِي الزَّجْرِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَيْسَ عَلَى دِينِنَا الْكَامِلِ، أَيْ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ فَرْعٍ مِنْ فُرُوعِ الدِّينِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَصْلُهُ، حَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ هَذَا النَّفْيَ يُفَسِّرُهُ التَّبَرِّي الْآتِي فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى بَعْدَ بَابٍ، حَيْثُ قَالَ: بَرِئَ مِنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. وَأَصْلُ الْبَرَاءَةِ الِانْفِصَالُ مِنَ الشَّيْءِ، وَكَأَنَّهُ تَوَعَّدَهُ بِأَنْ لَا يُدْخِلَهُ فِي شَفَاعَتِهِ مَثَلًا. وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: قَوْلُهُ: أَنَا بَرِيءٌ؛ أَيْ مِنْ فَاعِلِ مَا ذُكِرَ وَقْتَ ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَلَمْ يُرِدْ نَفْيَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ.

قُلْتُ: بَيْنَهُمَا وَاسِطَةٌ تُعْرَفُ مِمَّا تَقَدَّمَ أَوَّلَ الْكَلَامِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ مَا ذُكِرَ مِنْ شَقِّ الْجَيْبِ وَغَيْرِهِ. وَكَأَنَّ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ مَا تَضْمَنَّهُ ذَلِكَ مِنْ عَدَمِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ، فَإِنْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِالِاسْتِحْلَالِ مَعَ الْعِلْمِ بِالتَّحْرِيمِ أَوِ التَّسَخُّطِ مَثَلًا بِمَا وَقَعَ فَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِ النَّفْيِ عَلَى الْإِخْرَاجِ مِنَ الدِّينِ.

قَوْلُهُ: (لَطَمَ الْخُدُودَ) خَصَّ الْخَدَّ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ الْغَالِبَ فِي ذَلِكَ، وَإِلَّا فَضَرْبُ بَقِيَّةِ الْوَجْهِ دَاخِلٌ فِي ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَشَقَّ الْجُيُوبَ) جَمْعُ جَيْبٍ بِالْجِيمِ الْمُوَحَّدَةِ، وَهُوَ مَا يُفْتَحُ مِنَ الثَّوْبِ لِيَدْخُلَ فِيهِ الرَّأْسُ، وَالْمُرَادُ بِشَقِّهِ إِكْمَالُ فَتْحِهِ إِلَى آخِرِهِ وَهُوَ مِنْ عَلَامَاتِ التَّسَخُّطِ.

قَوْلُهُ: (وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ بِدَعْوَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، أَيْ مِنَ النِّيَاحَةِ وَنَحْوِهَا، وَكَذَا النُّدْبَةُ كَقَوْلِهِمْ: وَاجَبَلَاهُ، وَكَذَا الدُّعَاءُ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ.

‌36 - بَاب رِثَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَعْدَ بْنَ خَوْلَةَ

1295 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي، فَقُلْتُ: إِنِّي قَدْ بَلَغَ بِي مِنْ الْوَجَعِ، وَأَنَا ذُو مَالٍ، وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: لَا، فَقُلْتُ: بِالشَّطْرِ؟ فَقَالَ: لَا، ثُمَّ قَالَ: الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَبِيرٌ - أَوْ كَثِيرٌ - إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ. وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي؟ قَالَ: إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلًا صَالِحًا إِلَّا ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً، ثُمَّ لَعَلَّكَ أَنْ تُخَلَّفَ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ، اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ، وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ رِثَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَعْدَ بْنَ خَوْلَةَ) سَعْدَ: بِالنَّصْبِ على الْمَفْعُولِيَّةِ، وَخَوْلَةَ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ، وَسُكُونِ الْوَاوِ. وَالرِّثَاءُ - بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَبِالْمُثَلَّثَةِ بَعْدَهَا - مُدَّةُ مَدْحِ الْمَيِّتِ، وَذِكْرِ مَحَاسِنِهِ، وَلَيْسَ هُوَ الْمُرَادَ مِنَ الْحَدِيثِ، حَيْثُ قَالَ الرَّاوِي: يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَلِهَذَا اعْتَرَضَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ التَّرْجَمَةَ فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا مِنْ مَرَاثِي الْمَوْتَى، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ التَّوَجُّعِ. يُقَالُ: رَثَيْتُهُ إِذَا مَدَحْتُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَرَثَيْتُ لَهُ: إِذَا تَحَزَّنْتُ عَلَيْهِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْبُخَارِيِّ هَذَا بِعَيْنِهِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ مَا وَقَعَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ مِنَ التَّحَزُّنِ وَالتَّوَجُّعِ، وَهُوَ مُبَاحٌ، وَلَيْسَ مُعَارِضًا لِنَهْيِهِ عَنِ الْمَرَاثِي الَّتِي هِيَ ذِكْرُ أَوْصَافِ الْمَيِّتِ الْبَاعِثَةِ عَلَى تَهْيِيجِ الْحُزْنِ وَتَجْدِيدِ اللَّوْعَةِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ

ص: 164

الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمَرَاثِي. وَهُوَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ بِلَفْظِ: نَهَانَا أَنْ نَتَرَاثَى. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَامِعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ التَّوَجُّعُ وَالتَّحَزُّنُ. وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا التَّقْرِيرِ: مُنَاسَبَةُ إِدْخَالِ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ فِي تَضَاعِيفِ التَّرَاجِمِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِحَالِ مَنْ يُحَضِّرُ الْمَيِّتَ.

قَوْلُهُ: (أَنْ مَاتَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَلَا يَصِحُّ كَسْرُهَا لِأَنَّهَا تَكُونُ شَرْطِيَّةً، وَالشَّرْطُ لِمَا يُسْتَقْبَلُ، وَهُوَ قَدْ كَانَ مَاتَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ سَعْدَ بْنَ خَوْلَةَ، وَهُوَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانُوا يَكْرَهُونَ الْإِقَامَةَ فِي الْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرُوا مِنْهَا، وَتَرَكُوهَا مَعَ حُبِّهِمْ فِيهَا لِلَّهِ تَعَالَى، فَمِنْ ثَمَّ خَشِيَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَنْ يَمُوتَ بِهَا، وَتَوَجَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِسَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ لِكَوْنِهِ مَاتَ بِهَا، وَأَفَادَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي رِوَايَتِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ الْقَائِلَ يَرْثِي لَهُ. . . إِلَخْ هُوَ الزُّهْرِيُّ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ هَاشِمَ بْنَ هَاشِمٍ، وَسَعْدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ رَوَيَا هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، فَلَمْ يَذْكُرَا ذَلِكَ فِيهِ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهَا، كَمَا سَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْوَصَايَا مَعَ بَقِيَّةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَذِكْرِ الِاخْتِلَافِ فِي تَسْمِيَةِ الْبِنْتِ الْمَذْكُورَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌37 - بَاب مَا يُنْهَى مِنْ الْحَلْقِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ

1296 وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُخَيْمِرَةَ حَدَّثَهُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: وَجِعَ أَبُو مُوسَى وَجَعًا، فَغُشِيَ عَلَيْهِ وَرَأْسُهُ فِي حَجْرِ امْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِهِ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا شَيْئًا، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: أَنَا بَرِيءٌ مِمَّنْ بَرِئَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَرِئَ مِنْ الصَّالِقَةِ وَالْحَالِقَةِ وَالشَّاقَّةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُنْهَى مِنَ الْحَلْقِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا التَّرْكِيبِ فِي بَابِ مَا يُكْرَهُ مِنَ النِّيَاحَةِ عَلَى الْمَيِّتِ وَعَلَى الْحِكْمَةِ فِي اقْتِصَارِهِ عَلَى الْحَلْقِ دُونَ مَا ذُكِرَ مَعَهُ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَقَوْلُهُ: عِنْدَ الْمُصِيبَةِ قَصْرٌ لِلْحُكْمِ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ وَهُوَ وَاضِحٌ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى) هُوَ الْقَنْطَرِيُّ بِقَافٍ مَفْتُوحَةٍ وَنُونٍ سَاكِنَةٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْوَقْتِ حَدَّثَنَا الْحَكَمُ وَهُوَ وَهْمٌ، فَإِنَّ الَّذِينَ جَمَعُوا رِجَالَ الْبُخَارِيِّ فِي صَحِيحِهِ أَطْبَقُوا عَلَى تَرْكِ ذِكْرِهِ فِي شُيُوخِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الصَّوَابَ رِوَايَةُ الْجَمَاعَةِ بِصِيغَةِ التَّعْلِيقِ. وَقَدْ وَصَلَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى. وَكَذَا ابْنُ حِبَّانَ فَقَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو يَعْلَى، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ) هُوَ ابْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، نُسِبَ إِلَى جَدِّهِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَصَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ. وَمُخَيْمِرَةُ بِمُعْجَمَةٍ وَرَاءٍ مُصَغَّرٌ.

قَوْلُهُ: (وَجِعَ) بِكَسْرِ الْجِيمِ.

قَوْلُهُ: (فِي حِجْرِ امْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِهِ) زَادَ مُسْلِمٌ: فَصَاحَتْ. وَلَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَخْرَةَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ وَغَيْرِهِ: قَالُوا: أُغْمِيَ عَلَى أَبِي مُوسَى، فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ تَصِيحُ بِرَنَّةٍ. الْحَدِيثَ. وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ أُمِّ عَبْدِ اللَّهِ امْرَأَةِ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِي مُوسَى. . . فَذَكَرَ الْحَدِيثَ دُونَ الْقِصَّةِ. وَلِأَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ عَلَى مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ رِبْعِيٍّ قَالَ: أُغْمِيَ عَلَى أَبِي مُوسَى فَصَاحَتِ امْرَأَتُهُ بِنْتُ أَبِي دَوْمَةَ. فَحَصَلْنَا عَلَى أَنَّهَا أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ بِنْتُ أَبِي دَوْمَةَ، وَأَفَادَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي تَارِيخِ الْبَصْرَةِ أَنَّ اسْمَهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ دَمُونَ، وَأَنَّهَا وَالِدَةُ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى، وَأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ حَيْثُ كَانَ أَبُو مُوسَى أَمِيرًا عَلَى الْبَصْرَةِ مِنْ قِبَلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه.

قَوْلُهُ: (إِنِّي بَرِيءٌ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: أَنَا بَرِيءٌ. وَكَذَا لِمُسْلِمٍ.

قَوْلُهُ: (الصَّالِقَةُ) بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَالْقَافِ؛ أَيِ الَّتِي تَرْفَعُ صَوْتَهَا بِالْبُكَاءِ، وَيُقَالُ فِيهِ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ بَدَلَ الصَّادِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} وَعَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ:

ص: 165

الصَّلْقُ ضَرْبُ الْوَجْهِ، حَكَاهُ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ، وَالْحَالِقَةُ الَّتِي تَحْلِقُ رَأْسَهَا عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، وَالشَّاقَّةُ الَّتِي تَشُقُّ ثَوْبَهَا، وَلَفْظُ أَبِي صَخْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: أَنَا بَرِيءٌ مِمَّنْ حَلَقَ وَسَلَقَ وَخَرَقَ. أَيْ حَلَقَ شَعْرَهُ، وَسَلَقَ صَوْتَهُ - أَيْ رَفَعَهُ - وَخَرَقَ ثَوْبَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْبَرَاءَةِ قَبْلَ بَابٍ.

‌38 - بَاب لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ

1297 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ: لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ) وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ قَبْلَ بَابَيْنِ.

وعَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ هُوَ ابْنُ مَهْدِيٍّ.

‌39 - بَاب مَا يُنْهَى مِنْ الْوَيْلِ وَدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ

1398 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ: مَا يُنْهَى مِنَ الْوَيْلِ وَدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ) تَقَدَّمَ تَوْجِيهُ هَذَا التَّرْكِيبِ، وَهَذِهِ التَّرْجَمَةُ مَعَ حَدِيثِهَا سَقَطَتْ لِلْكُشْمِيهَنِيِّ وَثَبَتَتْ لِلْبَاقِينَ.

ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْوَيْلِ الْمُتَرْجَمِ بِهِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ، فَفِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ الْخَامِشَةَ وَجْهَهَا، وَالشَّاقَّةَ جَيْبَهَا، وَالدَّاعِيَةَ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذِكْرَى دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ بَعْدَ ذِكْرِ الْوَيْلِ مِنَ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ.

‌40 - بَاب مَنْ جَلَسَ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ يُعْرَفُ فِيهِ الْحُزْنُ

1299 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَتْنِي عَمْرَةُ قَالَتْ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَمَّا جَاءَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَتْلُ ابْنِ حَارِثَةَ، وَجَعْفَرٍ، وَابْنِ رَوَاحَةَ، جَلَسَ يُعْرَفُ فِيهِ الْحُزْنُ، وَأَنَا أَنْظُرُ مِنْ صَائِرِ الْبَابِ - شَقِّ الْبَابِ - فَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: إِنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ. . وَذَكَرَ بُكَاءَهُنَّ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَنْهَاهُنَّ، فَذَهَبَ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ لَمْ يُطِعْنَهُ، فَقَالَ: انْهَهُنَّ. فَأَتَاهُ الثَّالِثَةَ، قَالَ: وَاللَّهِ، غَلَبْنَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَزَعَمَتْ أَنَّهُ قَالَ: فَاحْثُ فِي أَفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ. فَقُلْتُ: أَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَكَ، لَمْ تَفْعَلْ مَا أَمَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ تَتْرُكْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْعَنَاءِ.

[الحديث 1299 - طرفاه في: 1305، 4263]

ص: 166

1300 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَهْرًا حِينَ قُتِلَ الْقُرَّاءُ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَزِنَ حُزْنًا قَطُّ أَشَدَّ مِنْهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ جَلَسَ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ يُعْرَفُ فِيهِ الْحُزْنُ.) يُعْرَفُ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ، وَمَنْ: مَوْصُولَةٌ، وَالضَّمِيرُ لَهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِمَصْدَرِ جَلَسَ؛ أَيْ جُلُوسًا يُعْرَفُ، وَلَمْ يُفْصِحِ الْمُصَنِّفُ بِحُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَا الَّتِي بَعْدَهَا حَيْثُ تَرْجَمَ: مَنْ لَمْ يُظْهِرْ حُزْنَهُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ. لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قَابِلٌ لِلتَّرْجِيحِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِكَوْنِهِ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالثَّانِي مِنْ تَقْرِيرِهِ، وَمَا يُبَاشِرُهُ بِالْفِعْلِ أَرْجَحُ غَالِبًا.

وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ فِعْلٌ أَبْلَغُ فِي الصَّبْرِ، وَأَزْحَرُ لِلنَّفْسِ فَيَرْجَحُ، وَيُحْمَلُ فِعْلُهُ صلى الله عليه وسلم الْمَذْكُورُ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ، وَيَكُونُ فِعْلُهُ فِي حَقِّهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَوْلَى. وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ مَا مُلَخَّصُهُ: مَوْقِعُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ مِنَ الْفِقْهِ أَنَّ الِاعْتِدَالَ فِي الْأَحْوَالِ هُوَ الْمَسْلَكُ الْأَقْوَمُ، فَمَنْ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ عَظِيمَةٍ لَا يُفْرِطُ فِي الْحُزْنِ، حَتَّى يَقَعَ فِي الْمَحْذُورِ مِنَ اللَّطْمِ وَالشَّقِّ وَالنَّوْحِ وَغَيْرِهَا، وَلَا يُفْرِطُ فِي التَّجَلُّدِ حَتَّى يُفْضِيَ إِلَى الْقَسْوَةِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِقَدْرِ الْمُصَابِ، فَيُقْتَدَى بِهِ صلى الله عليه وسلم فِي تِلْكَ الْحَالَةِ بِأَنْ يَجْلِسَ الْمُصَابُ جِلْسَةً خَفِيفَةً بِوَقَارٍ وَسَكِينَةٍ تَظْهَرُ عَلَيْهِ مَخَايِلُ الْحُزْنِ، وَيُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمُصِيبَةَ عَظِيمَةٌ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ، وَيَحْيَى هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ.

قَوْلُهُ: (لَمَّا جَاءَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هُوَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ. وَالْفَاعِلُ قَوْلُهُ: (قَتْلُ ابْنِ حَارِثَةَ)، وَهُوَ زَيْدٌ، وَأَبُوهُ بِالْمُهْمَلَةِ وَالْمُثَلَّثَةِ. وَجَعْفَرٌ هُوَ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنُ رَوَاحَةَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ. وَكَانَ قَتْلُهُمْ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي رَابِعِ بَابٍ مِنْ كِتَابِ الْجَنَائِزِ، وَوَقَعَ تَسْمِيَةُ الثَّلَاثَةِ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَسَاقَ مُسْلِمٌ إِسْنَادَهُ دُونَ الْمَتْنِ.

قَوْلُهُ: (جَلَسَ) زَادَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ يَحْيَى: فِي الْمَسْجِدِ.

قَوْلُهُ: (يُعْرَفُ فِيهِ الْحُزْنُ) قَالَ الطِّيبِيُّ: كَأَنَّهُ كَظَمَ الْحُزْنَ كَظْمًا، فَظَهَرَ مِنْهُ مَا لَا بُدَّ لِلْجِبِلَّةِ الْبَشَرِيَّةِ مِنْهُ.

قَوْلُهُ: (صَائِرِ الْبَابِ) بِالْمُهْمَلَةِ وَالتَّحْتَانِيَّةِ، وَقَعَ تَفْسِيرُهُ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ: شَقِّ الْبَابِ وَهُوَ بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ؛ أَيِ الْمَوْضِعِ الَّذِي يُنْظَرُ مِنْهُ، وَلَمْ يَرِدْ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ؛ أَيِ النَّاحِيَةِ إِذْ لَيْسَتْ مُرَادَةٌ هُنَا قَالَهُ ابْنُ التِّينِ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ بَعْدَهَا، قَالَ الْمَازِرِيُّ: كَذَا وَقَعَ فِي الصَّحِيحَيْنِ هُنَا صَائِرِ وَالصَّوَابُ: صِيرِ؛ أَيْ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ، وَهُوَ الشَّقُّ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ: مَنْ نَظَرَ مِنْ صِيرِ الْبَابِ فَفُقِئَتْ عَيْنُهُ، فَهِيَ هَدَرٌ. الصِّيرُ: الشَّقُّ، وَلَمْ نَسْمَعْهُ إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: صَائِرٌ وَصِيرٌ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَفِي كَلَامِ الْخَطَّابِيِّ نَحْوَهُ.

قَوْلُهُ: (فَأَتَاهُ رَجُلٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، وَكَأَنَّهُ أُبْهِمَ عَمْدًا لِمَا وَقَعَ فِي حَقِّهِ مِنْ غَضِّ عَائِشَةَ مِنْهُ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ) أَيِ امْرَأَتُهُ - وَهِيَ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ الْخَثْعَمِيَّةُ - وَمَنْ حَضَرَ عِنْدَهَا مِنْ أَقَارِبِهَا، وَأَقَارِبِ جَعْفَرٍ، وَمَنْ فِي مَعْنَاهُنَّ. وَلَمْ يَذْكُرْ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالِاخْتِبَارِ لِجَعْفَرٍ امْرَأَةً غَيْرَ أَسْمَاءَ.

قَوْلُهُ: (وَذَكَرَ بُكَاءَهُنَّ) كَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ حَالٌ عَنِ الْمُسْتَتِرِ فِي قَوْلِهِ: فَقَالَ. وَحَذْفُ خَبَرِ إِنَّ مِنَ الْقَوْلِ الْمَحْكِيِّ لِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَيْهِ. وَالْمَعْنَى: قَالَ الرَّجُلُ: إِنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ فَعَلْنَ كَذَا مِمَّا لَا يَنْبَغِي مِنَ الْبُكَاءِ الْمُشْتَمِلِ مَثَلًا عَلَى النَّوْحِ. انْتَهَى. وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى: قَدْ كَثُرَ بُكَاؤُهُنَّ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَصْحِيفًا فَلَا حَذْفَ وَلَا تَقْدِيرَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ يَحْيَى بِلَفْظِ: قَدْ أَكْثَرْنَ بُكَاءَهُنَّ.

قَوْلُهُ: (فَذَهَبَ)؛ أَيْ فَنَهَاهُنَّ فَلَمْ يُطِعْنَهُ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ لَمْ يُطِعْنَهُ)؛ أَيْ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ فَقَالَ: إِنَّهُنَّ لَمْ يُطِعْنَهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ الْمَذْكُورَةِ: فَذَكَرَ أَنَّهُنَّ لَمْ يُطِعْنَهُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ: وَاللَّهِ غَلَبْنَنَا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ لَقَدْ غَلَبْنَنَا.

ص: 167

قَوْلُهُ: (فَزَعَمَتْ) أَيْ عَائِشَةُ وَهُوَ مَقُولُ عَمْرَةَ، وَالزَّعْمُ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْقَوْلِ الْمُحَقَّقِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا.

قَوْلُهُ: (أَنَّهُ قَالَ) فِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ.

قَوْلُهُ: (فَاحْثُ) بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ وَبِكَسْرِهَا، يُقَالُ: حَثَا يَحْثُو وَيَحْثِي.

قَوْلُهُ: (التُّرَابَ) فِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ: مِنَ التُّرَابِ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُنَّ رَفَعْنَ أَصْوَاتَهُنَّ بِالْبُكَاءِ، فَلَمَّا لَمْ يَنْتَهِينَ أَمَرَهُ أَنْ يَسُدَّ أَفْوَاهَهُنَّ بِذَلِكَ، وَخَصَّ الْأَفْوَاهَ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا مَحَلُّ النَّوْحِ بِخِلَافِ الْأَعْيُنِ مَثَلًا. انْتَهَى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنِ الْمُبَالَغَةِ فِي الزَّجْرِ، أَوِ الْمَعْنَى: أَعْلِمْهُنَّ أَنَّهُنَّ خَائِبَاتٌ مِنَ الْأَجْرِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى الصَّبْرِ لِمَا أَظْهَرْنَ مِنَ الْجَزَعِ كَمَا يُقَالُ لِلْخَائِبِ: لَمْ يُحَصِّلْ فِي يَدِهِ إِلَّا التُّرَابَ. لَكِنْ يُبْعِدُ هَذَا الِاحْتِمَالَ قَوْلُ عَائِشَةَ الْآتِي. وَقِيلَ: لَمْ يُرَدْ بِالْأَمْرِ حَقِيقَتُهُ. قَالَ عِيَاضٌ: هُوَ بِمَعْنَى التَّعْجِيزِ، أَيْ أَنَّهُنَّ لَا يَسْكُتْنَ إِلَّا بِسَدِّ أَفْوَاهِهِنَّ، وَلَا يَسُدُّهَا إِلَّا أَنْ تُمْلَأَ بِالتُّرَابِ، فَإِنْ أَمْكَنَكَ فَافْعَلْ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُنَّ لَمْ يُطِعْنَ النَّاهِيَ لِكَوْنِهِ لَمْ يُصَرِّحْ لَهُنَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَاهُنَّ، فَحُمِلَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مُرْشِدٌ لِلْمَصْلَحَةِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، أَوْ عَلِمْنَ ذَلِكَ لَكِنْ غَلَبَ عَلَيْهِنَّ شِدَّةُ الْحُزْنِ لِحَرَارَةِ الْمُصِيبَةِ. ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ فِي بُكَائِهِنَّ زِيَادَةٌ عَلَى الْقَدْرِ الْمُبَاحِ، فَيَكُونُ النَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ كَرَّرَهُ، وَبَالَغَ فِيهِ، وَأَمَرَ بِعُقُوبَتِهِنَّ إِنْ لَمْ يَسْكُتْنَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بُكَاءً مُجَرَّدًا، وَالنَّهْيُ لِلتَّنْزِيهِ، وَلَوْ كَانَ لِلتَّحْرِيمِ لَأَرْسَلَ غَيْرَ الرَّجُلِ الْمَذْكُورِ لِمَنْعِهِنَّ، لِأَنَّهُ لَا يُقِرُّ عَلَى بَاطِلٍ.

وَيَبْعُدُ تَمَادِي الصَّحَابِيَّاتِ بَعْدَ تَكْرَارِ النَّهْيِ عَلَى فِعْلِ الْأَمْرِ الْمُحَرَّمِ، وَفَائِدَةُ نَهْيِهِنَّ عَنِ الْأَمْرِ الْمُبَاحِ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَرْسِلْنَ فِيهِ، فَيُفْضِي بِهِنَّ إِلَى الْأَمْرِ الْمُحَرَّمِ لِضَعْفِ صَبْرِهِنَّ، فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ جَوَازُ النَّهْيِ عَنِ الْمُبَاحِ عِنْدَ خَشْيَةِ إِفْضَائِهِ إِلَى مَا يَحْرُمُ.

قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ) هُوَ مَقُولُ عَائِشَةَ.

قَوْلُهُ: (أَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَكَ) بِالرَّاءِ وَالْمُعْجَمَةِ أَيِ أِلْصَقَهُ بِالرَّغَامِ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْمُعْجَمَةِ، وَهُوَ التُّرَابُ إِهَانَةً وَإِذْلَالًا، وَدَعَتْ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسِ مَا أَمَرَ أَنْ يَفْعَلَهُ بِالنِّسْوَةِ لِفَهْمِهَا مِنْ قَرَائِنِ الْحَالِ أَنَّهُ أَحْرَجَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِكَثْرَةِ تَرَدُّدِهِ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (لَمْ تَفْعَلْ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: أَيْ لَمْ تُبَلِّغِ النَّهْيَ، وَنَفَتْهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ نَهَى، وَلَمْ يُطِعْنَهُ، لِأَنَّ نَهْيَهُ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ الِامْتِثَالُ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ أَرَادَتْ لَمْ تَفْعَلْ؛ أَيِ الْحَثْوَ بِالتُّرَابِ. قُلْتُ: لَفْظَةُ لَمْ يُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الْمَاضِي، وَقَوْلُهَا ذَلِكَ وَقَعَ قَبْلَ أَنْ يَتَوَجَّهَ، فَمِنْ أَيْنَ عَلِمَتْ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ؟ فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا قَامَتْ عِنْدَهَا قَرِينَةٌ بِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ، فَعَبَّرَتْ عَنْهُ بِلَفْظِ الْمَاضِي مُبَالَغَةً فِي نَفْيِ ذَلِكَ عَنْهُ، وَهُوَ مُشْعِرٌ بِأَنَّ الرَّجُلَ الْمَذْكُورَ كَانَ مَنِ أَلْزَامِ

(1)

النِّسْوَةِ الْمَذْكُورَاتِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ: فَوَاللَّهِ مَا أَنْتَ بِفَاعِلٍ ذَلِكَ. وَكَذَا لِمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، فَظَهَرَ أَنَّهُ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ.

قَوْلُهُ: (مِنَ الْعَنَاءِ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ وَالْمَدِّ؛ أَيِ الْمَشَقَّةِ وَالتَّعَبِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: مِنَ الْعِيِّ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْعُذْرِيِّ: الْغَيِّ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ، بِلَفْظٍ ضِدَّ الرُّشْدِ. قَالَ عِيَاضٌ: وَلَا وَجْهَ لَهُ هُنَا. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ لَهُ وَجْهًا، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَلْيَقُ لِمُوَافَقَتِهِ لِمَعْنَى الْعَنَاءِ الَّتِي هِيَ رِوَايَةُ الْأَكْثَرِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: مُرَادُهَا أَنَّ الرَّجُلَ قَاصِرٌ عَنِ الْقِيَامِ بِمَا أُمِرَ بِهِ مِنَ الْإِنْكَارِ وَالتَّأْدِيبِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُفْصِحْ بِعَجْزِهِ عَنْ ذَلِكَ لِيُرْسِلَ غَيْرَهُ فَيَسْتَرِيحَ مِنَ التَّعَبِ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ أَيْضًا جَوَازُ الْجُلُوسِ لِلْعَزَاءِ بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ، وَجَوَازُ نَظَرِ النِّسَاءِ الْمُحْتَجِبَاتِ إِلَى الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ، وَتَأْدِيبِ مَنْ نُهِيَ عَمَّا لَا يَنْبَغِي لَهُ فِعْلُهُ إِذَا لَمْ يَنْتَهِ، وَجَوَازُ الْيَمِينِ لِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ.

(تَنْبِيهٌ): هَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يَرْوِهِ عَنْ عَمْرَةَ إِلَّا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ عَائِشَةَ أَيْضًا الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْرَجَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمَغَازِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ. فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَفِيهِ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي أَوَّلِهِ: قَالَتْ عَائِشَةُ: وَقَدْ نَهَانَا خَيْرُ النَّاسِ عَنِ التَّكَلُّفِ

(2)

.

قَوْلُهُ:

(1)

كذا في النسخ، وليس بظاهر المعنى، فليتأمل

(2)

في نسخة أخرى "وقديما ما ضر الناس التكليف"

ص: 168

(حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ) هُوَ الْفَلَّاسُ، وَالْكَلَامُ عَلَى الْمَتْنِ تَقَدَّمَ فِي آخِرِ أَبْوَابِ الْوِتْرِ، وَشَاهِدُ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ قَوْلُهُ: مَا حَزِنَ حُزْنًا قَطُّ أَشَدَّ مِنْهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَشْمَلُ حَالَةَ جُلُوسِهِ وَغَيْرِهَا.

‌41 - بَاب مَنْ لَمْ يُظْهِرْ حُزْنَهُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: الْجَزَعُ: الْقَوْلُ السَّيِّئُ وَالظَّنُّ السَّيِّئُ

وَقَالَ يَعْقُوبُ عليه السلام: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ}

1301 -

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْحَكَمِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ: اشْتَكَى ابْنٌ لِأَبِي طَلْحَةَ، قَالَ: فَمَاتَ وَأَبُو طَلْحَةَ خَارِجٌ، فَلَمَّا رَأَتِ امْرَأَتُهُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ هَيَّأَتْ شَيْئًا، وَنَحَّتْهُ فِي جَانِبِ الْبَيْتِ، فَلَمَّا جَاءَ أَبُو طَلْحَةَ قَالَ: كَيْفَ الْغُلَامُ؟ قَالَتْ: قَدْ هَدَأَتْ نَفْسُهُ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَرَاحَ، وَظَنَّ أَبُو طَلْحَةَ أَنَّهَا صَادِقَةٌ. قَالَ: فَبَاتَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ اغْتَسَلَ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَعْلَمَتْهُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ، فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ أَخْبَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِمَا كَانَ مِنْهُمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُبَارِكَ لَكُمَا فِي لَيْلَتِكُمَا. قَالَ سُفْيَانُ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ: فَرَأَيْتُ لَهُمَا تِسْعَةَ أَوْلَادٍ كُلُّهُمْ قَدْ قَرَأَ الْقُرْآنَ.

[الحديث 1301 - طرفه في: 5470]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ لَمْ يُظْهِرْ حُزْنَهُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي التَّرْجَمَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَيُظْهِرُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ مِنَ الرُّبَاعِيِّ. وَحُزْنَهُ: مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ) يَعْنِي الْقُرَظِيَّ بِضَمِّ الْقَافِ وَفَتْحِ الرَّاءِ بَعْدَهَا ظَاءٌ مُشَالَةٌ.

قَوْلُهُ: (السَّيِّئُ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ، وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا أُخْرَى مَهْمُوزَةٌ، وَالْمُرَادُ بِهِ: مَا يَبْعَثُ الْحُزْنَ غَالِبًا، وَبِالظَّنِّ السَّيِّئِ: الْيَأْسُ مِنْ تَعْوِيضِ اللَّهِ الْمُصَابَ فِي الْعَاجِلِ مَا هُوَ أَنْفَعُ لَهُ مِنَ الْفَائِتِ، أَوِ الِاسْتِبْعَادُ لِحُصُولِ مَا وَعَدَ بِهِ مِنَ الثَّوَابِ عَلَى الصَّبْرِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ سَأَلَ، مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ كَقَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ هَذَا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ يَعْقُوبُ عليه السلام: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِلتَّرْجَمَةِ أَنَّ قَوْلَ يَعْقُوبَ لَمَّا تَضَمَّنَ أَنَّهُ لَا يَشْكُو - بِتَصْرِيحٍ وَلَا تَعْرِيضٍ - إِلَّا لِلَّهِ وَافَقَ مَقْصُودَ التَّرْجَمَةِ، وَكَانَ خِطَابُهُ بِذَلِكَ لِبَنِيهِ بَعْدَ قَوْلِهِ:(يَا أَسْفَى عَلَى يُوسُفَ). وَالْبَثُّ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، بَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ ثَقِيلَةٌ: شِدَّةُ الْحُزْنِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْحَكَمِ) هُوَ النَّيْسَابُورِيُّ. قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ: يُقَالُ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مِمَّا تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ، عَنْ بِشْرِ بْنِ الْحَكَمِ. انْتَهَى. يَعْنِي مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ. وَلَمْ يُخَرِّجْهُ أَبُو نُعَيْمٍ، وَلَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْبُخَارِيِّ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، وَهُوَ أَخُو إِسْحَاقَ الْمَذْكُورِ عَنْ أَنَسٍ. وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، كِلَاهُمَا عَنْ أَنَسٍ. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَابْنُ سَعْدٍ أَيْضًا وَابْنُ حِبَّانَ، وَالطَّيَالِسِيُّ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَيْضًا. وَفِي رِوَايَةِ بَعْضِهِمْ مَا لَيْسَ فِي رِوَايَةِ بَعْضٍ، وَسَأَذْكُرُ مَا فِي كُلٍّ مِنْ فَائِدَةٍ زَائِدَةٍ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ص: 169

قَوْلُهُ: (اشْتَكَى ابْنٌ لِأَبِي طَلْحَةَ) أَيْ مَرِضَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ صَدَرَتْ مِنْهُ شَكْوَى، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْأَصْلُ أَنَّ الْمَرِيضَ يَحْصُلُ مِنْهُ ذَلِكَ اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ مَرَضٍ لِكُلِّ مَرِيضٍ. وَالِابْنُ الْمَذْكُورُ هُوَ أَبُو عُمَيْرٍ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُمَازِحُهُ وَيَقُولُ لَهُ: يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟ كَمَا سَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْأَدَبِ،، بَيَّنَ ذَلِكَ ابْنُ حِبَّانَ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقِ عُمَارَةَ بْنِ زَاذَانَ، عَنْ ثَابِتٍ، وَزَادَ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ ثَابِتٍ فِي أَوَّلِهِ قِصَّةَ تَزْوِيجِ أُمِّ سُلَيْمٍ بِأَبِي طَلْحَةَ بِشَرْطِ أَنْ يُسْلِمَ، وَقَالَ فِيهِ: فَحَمَلَتْ فَوَلَدَتْ غُلَامًا صَبِيحًا، فَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ يُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا، فَعَاشَ حَتَّى تَحَرَّكَ فَمَرِضَ، فَحَزِنَ أَبُو طَلْحَةَ عَلَيْهِ حُزْنًا شَدِيدًا حَتَّى تَضَعْضَعَ، وَأَبُو طَلْحَةَ يَغْدُو وَيَرُوحُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَرَاحَ رَوْحَةً فَمَاتَ الصَّبِيُّ. فَأَفَادَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ تَسْمِيَةَ امْرَأَةِ أَبِي طَلْحَةَ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَأَبُو طَلْحَةَ خَارِجٌ. أَيْ خَارِجُ الْبَيْتِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي أَوَاخِرِ النَّهَارِ، وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: كَانَ لِأَبِي طَلْحَةَ وَلَدٌ فَتُوُفِّيَ، فَأَرْسَلَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ أَنَسًا يَدْعُو أَبَا طَلْحَةَ، وَأَمَرَتْهُ أَنْ لَا يُخْبِرَهُ بِوَفَاةِ ابْنِهِ، وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ صَائِمًا.

قَوْلُهُ: (هَيَّأَتْ شَيْئًا) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: أَيْ أَعَدَّتْ طَعَامًا لِأَبِي طَلْحَةَ وَأَصْلَحَتْهُ، وَقِيلَ: هَيَّأَتْ حَالَهَا وَتَزَيَّنَتْ. قُلْتُ: بَلِ الصَّوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهَا هَيَّأَتْ أَمْرَ الصَّبِيِّ بِأَنْ غَسَّلَتْهُ وَكَفَّنَتْهُ كَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ صَرِيحًا، فَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ عَنْ مَشَايِخِهِ عَنْ ثَابِتٍ: فَهَيَّأَتِ الصَّبِيَّ، وَفِي رِوَايَةِ حُمَيْدٍ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ: فَتُوُفِّيَ الْغُلَامُ فَهَيَّأَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ أَمْرَهُ. وَفِي رِوَايَةِ عُمَارَةَ بْنِ زَاذَانَ، عَنْ ثَابِتٍ: فَهَلَكَ الصَّبِيُّ، فَقَامَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ فَغَسَّلَتْهُ وَكَفَّنَتْهُ وَحَنَّطَتْهُ وَسَجَّتْ عَلَيْهِ ثَوْبًا.

قَوْلُهُ: (وَنَحَّتْهُ فِي جَانِبِ الْبَيْتِ) أَيْ جَعَلَتْهُ فِي جَانِبِ الْبَيْتِ، وَفِي رِوَايَةِ جَعْفَرٍ، عَنْ ثَابِتٍ فَجَعَلَتْهُ فِي مَخْدَعِهَا.

قَوْلُهُ: (هَدَأَتْ) بِالْهَمْزِ؛ أَيْ سَكَنَتْ وَ (نَفْسُهُ) بِسُكُونِ الْفَاءِ كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ النَّفْسَ كَانَتْ قَلِقَةً مُنْزَعِجَةً بِعَارِضِ الْمَرَضِ، فَسَكَنَتْ بِالْمَوْتِ، وَظَنَّ أَبُو طَلْحَةَ أَنَّ مُرَادَهَا أَنَّهَا سَكَنَتْ بِالنَّوْمِ لِوُجُودِ الْعَافِيَةِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ: هَدَأَ نَفَسُهُ بِفَتْحِ الْفَاءِ؛ أَيْ سَكَنَ، لِأَنَّ الْمَرِيضَ يَكُونُ نَفَسُهُ عَالِيًا، فَإِذَا زَالَ مَرَضُهُ سَكَنَ، وَكَذَا إِذَا مَاتَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ: هُوَ أَسْكَنُ مَا كَانَ. وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ جَعْفَرٍ، عَنْ ثَابِتٍ، وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنْ ثَابِتٍ: أَمْسَى هَادِئًا. وَفِي رِوَايَةِ حُمَيْدٍ: بِخَيْرِ مَا كَانَ. وَمَعَانِيهَا مُتَقَارِبَةٌ.

قَوْلُهُ: (وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدِ اسْتَرَاحَ) لَمْ تَجْزِمْ بِذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْأَدَبِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ عَلِمَتْ أَنَّ الطِّفْلَ لَا عَذَابَ عَلَيْهِ، فَفَوَّضَتِ الْأَمْرَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، مَعَ وُجُودِ رَجَائِهَا بِأَنَّهُ اسْتَرَاحَ مِنْ نَكَدِ الدُّنْيَا.

قَوْلُهُ: (وَظَنَّ أَبُو طَلْحَةَ أَنَّهَا صَادِقَةٌ) أَيْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا فَهِمَهُ مِنْ كَلَامِهَا، وَإِلَّا فَهِيَ صَادِقَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا أَرَادَتْ.

قَوْلُهُ: (فَبَاتَ) أَيْ مَعَهَا (فَلَمَّا أَصْبَحَ اغْتَسَلَ) فِيهِ كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ، لِأَنَّ الْغُسْلَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْغَالِبِ مِنْهُ، وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ: فَفِي رِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ: فَقَرَّبَتْ إِلَيْهِ الْعَشَاءَ فَتَعَشَّى، ثُمَّ أَصَابَ مِنْهَا. وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ: ثُمَّ تَعَرَّضَتْ لَهُ، فَأَصَابَ مِنْهَا. وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ، عَنْ ثَابِتٍ: ثُمَّ تَطَيَّبَتْ. زَادَ جَعْفَرٌ، عَنْ ثَابِتٍ: فَتَعَرَّضَتْ لَهُ حَتَّى وَقَعَ بِهَا. وَفِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ، عَنْ ثَابِتٍ: ثُمَّ تَصَنَّعَتْ لَهُ أَحْسَنَ مَا كَانَتْ تَصَنَّعُ قَبْلَ ذَلِكَ فَوَقَعَ بِهَا.

قَوْلُهُ: (فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَعْلَمَتْهُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ) زَادَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةَ، عَنْ ثَابِتٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ. فَقَالَتْ: يَا أَبَا طَلْحَةَ، أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ قَوْمًا أَعَارُوا أَهْلَ بَيْتٍ عَارِيَةً، فَطَلَبُوا عَارِيَتَهُمْ، أَلَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوهُمْ؟ قَالَ: لَا. قَالَتْ: فَاحْتَسِبِ ابْنَكَ. فَغَضِبَ وَقَالَ: تَرَكْتِنِي حَتَّى تَلَطَّخْتُ، ثُمَّ أَخْبَرْتِنِي بِابْنِي. وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ: فَقَالَتْ: يَا أَبَا طَلْحَةَ، أَرَأَيْتَ قَوْمًا أَعَارُوا مَتَاعًا ثُمَّ بَدَا لَهُمْ فِيهِ فَأَخَذُوهُ، فَكَأَنَّهُمْ وَجَدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ. زَادَ حَمَّادٌ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ ثَابِتٍ: فَأَبَوْا أَنْ يَرُدُّوهَا، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ، إِنَّ الْعَارِيَةَ مُؤَدَّاةٌ إِلَى أَهْلِهَا. ثُمَّ اتَّفَقَا، فَقَالَتْ: إِنَّ اللَّهَ أَعَارَنَا فُلَانًا ثُمَّ أَخَذَهُ مِنَّا.

ص: 170

زَادَ حَمَّادٌ: فَاسْتَرْجَعَ.

قَوْلُهُ: (لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُبَارِكَ لَكُمَا فِي لَيْلَتِكُمَا) فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ: لَهُمَا فِي لَيْلَتِهِمَا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمَا. وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا فَيُجْمَعُ بِأَنَّهُ دَعَا بِذَلِكَ، وَرَجَا إِجَابَةَ دُعَائِهِ، وَلَمْ تَخْتَلِفِ الرُّوَاةُ عَنْ ثَابِتٍ، وَكَذَا عَنْ حُمَيْدٍ فِي أَنَّهُ قَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكُمَا فِي لَيْلَتِكُمَا. وَعُرِفَ مِنْ رِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّ الْمُرَادَ الدُّعَاءُ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ لَفْظَ الْخَبَرِ. وَفِي رِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ مِنَ الزِّيَادَةِ: فَوَلَدَتْ غُلَامًا. وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: فَجَاءَتْ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى قِصَّةِ تَحْنِيكِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، حَيْثُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْعَقِيقَةِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ سُفْيَانُ) هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ. . . إِلَخْ) هُوَ عَبَايَةُ بْنُ رِفَاعَةَ، لِمَا أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَمُسَدَّدٌ، وَابْنُ سَعْدٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ قَالَ: كَانَتْ أُمُّ أَنَسٍ تَحْتَ أَبِي طَلْحَةَ. فَذَكَرَ الْقِصَّةَ شَبِيهَةً بِسِيَاقِ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: فَوَلَدَتْ لَهُ غُلَامًا، قَالَ عَبَايَةُ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ لِذَلِكَ الْغُلَامِ سَبْعَ بَنِينَ كُلَّهُمْ قَدْ خَتَمَ الْقُرْآنَ. وَأَفَادَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ تَجَوُّزًا فِي قَوْلِهِ: لَهُمَا لِأَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ مِنْ وَلَدِهِمَا بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مِنْ أَوْلَادِ وَلَدِهِمَا الْمَدْعُوِّ لَهُ بِالْبَرَكَةِ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ تِسْعَةٌ وَفِي هَذِهِ سَبْعَةٌ، فَلَعَلَّ فِي أَحَدِهِمَا تَصْحِيفًا، أَوِ الْمُرَادُ بِالسَّبْعَةِ مَنْ خَتَمَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ وَبِالتِّسْعَةِ مَنْ قَرَأَ مُعْظَمَهُ، وَلَهُ مِنَ الْوَلَدِ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْأَنْسَابِ: إِسْحَاقُ، وَإِسْمَاعِيلُ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَيَعْقُوبُ، وَعُمَرُ، وَالْقَاسِمُ، وَعُمَارَةُ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَعُمَيْرٌ، وَزَيْدٌ، وَمُحَمَّدٌ، وَأَرْبَعٌ مِنَ الْبَنَاتِ.

وَفِي قِصَّةِ أُمِّ سُلَيْمٍ هَذِهِ مِنَ الْفَوَائِدِ أَيْضًا: جَوَازُ الْأَخ ذِ بِالشِّدَّةِ، وَتَرْكُ الرُّخْصَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، وَالتَّسْلِيَةُ عَنِ الْمَصَائِبِ، وَتَزَيُّنُ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا، وَتَعَرُّضُهَا لِطَلَبِ الْجِمَاعِ مِنْهُ، وَاجْتِهَادُهَا فِي عَمَلِ مَصَالِحِهِ، وَمَشْرُوعِيَّةُ الْمَعَارِيضِ الْمُوهِمَةِ إِذَا دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَيْهَا، وَشَرْطُ جَوَازِهَا أَنْ لَا تُبْطِلَ حَقًّا لِمُسْلِمٍ. وَكَانَ الْحَامِلُ لِأُمِّ سُلَيْمٍ عَلَى ذَلِكَ الْمُبَالَغَةَ فِي الصَّبْرِ وَالتَّسْلِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَرَجَاءَ إِخْلَافِهِ عَلَيْهَا مَا فَاتَ مِنْهَا، إِذْ لَوْ أَعْلَمَتْ أَبَا طَلْحَةَ بِالْأَمْرِ فِي أَوَّلِ الْحَالِ تَنَكَّدَ عَلَيْهِ وَقْتُهُ، وَلَمْ تَبْلُغِ الْغَرَضَ الَّذِي أَرَادَتْهُ، فَلَمَّا عَلِمَ اللَّهُ صِدْقَ نِيَّتِهَا بَلَّغَهَا مُنَاهَا، وَأَصْلَحَ لَهَا ذُرِّيَّتَهَا. وَفِيهِ إِجَابَةُ دَعْوَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا عَوَّضَهُ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ، وَبَيَانُ حَالِ أُمِّ سُلَيْمٍ مِنَ التَّجَلُّدِ وَجَوْدَةِ الرَّأْيِ وَقُوَّةِ الْعَزْمِ، وَسَيَأْتِي فِي الْجِهَادِ وَالْمَغَازِي أَنَّهَا كَانَتْ تَشْهَدُ الْقِتَالَ وَتَقُومُ بِخِدْمَةِ الْمُجَاهِدِينَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا انْفَرَدَتْ بِهِ عَنْ مُعْظَمِ النِّسْوَةِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُ حَدِيثِ: أَبِي عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ مُسْتَوْفًى فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْأَدَبِ، وَفِيهِ بَيَانُ مَا كَانَ سُمِّيَ بِهِ غَيْرُ الْكُنْيَةِ الَّتِي اشْتَهَرَ بِهَا.

‌42 - بَاب الصَّبْرِ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى.

وَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: نِعْمَ الْعِدْلَانِ وَنِعْمَ الْعِلَاوَةُ: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ}

1302 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى.

ص: 171

قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّبْرِ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى) أَيْ هُوَ الْمَطْلُوبُ الْمُبَشَّرُ عَلَيْهِ بِالصَّلَاةِ وَالرَّحْمَةِ، وَمِنْ هُنَا تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ إِيرَادِ أَثَرِ عُمَرَ فِي هَذَا الْبَابِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْمَتْنِ الْمَرْفُوعِ مُسْتَوْفًى فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُمَرُ)؛ أَيِ ابْنُ الْخَطَّابِ.

قَوْلُهُ: (الْعِدْلَانِ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ؛ أَيِ الْمِثْلَانِ، وَقَوْلُهُ:(الْعِلَاوَةُ) بِكَسْرِهَا أَيْضًا؛ أَيْ مَا يُعَلَّقُ عَلَى الْبَعِيرِ بَعْدَ تَمَامِ الْحَمْلِ. وَهَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ طَرِيقِ جَرِيرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ عُمَرَ كَمَا سَاقَهُ الْمُصَنِّفُ، وَزَادَ:{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} نِعْمَ الْعِدْلَانِ {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} نِعْمَ الْعِلَاوَةُ. وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْحَاكِمِ، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ نُعَيْمِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ عُمَرَ نَحْوَهُ، وَظَهَرَ بِهَذَا مُرَادُ عُمَرَ بِالْعِدْلَيْنِ وَبِالْعِلَاوَةِ، وَأَنَّ الْعِدْلَيْنِ الصَّلَاةُ وَالرَّحْمَةُ، وَالْعِلَاوَةُ الِاهْتِدَاءُ. وَيُؤَيِّدُهُ وُقُوعُهُمَا بَعْدَ عَلَى الْمُشْعِرَةُ بِالْفَوْقِيَّةِ، الْمُشْعِرَةُ بِالْحَمْلِ، قَالَهُ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ قَوْلِ عُمَرَ مَرْفُوعًا، أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أُعْطِيَتْ أُمَّتِي شَيْئًا لَمْ يُعْطَهُ أَحَدٌ مِنَ الْأُمَمِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ - إِلَى قَوْلِهِ - الْمُهْتَدُونَ، قَالَ: فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا سَلَّمَ لِأَمْرِ اللَّهِ وَاسْتَرْجَعَ كُتِبَ لَهُ ثَلَاثُ خِصَالٍ مِنَ الْخَيْرِ: الصَّلَاةُ مِنَ اللَّهِ وَالرَّحْمَةُ، وَتَحْقِيقُ سُبُلِ الْهُدَى. فَأَغْنَى هَذَا عَنِ التَّكَلُّفِ فِي ذَلِكَ كَقَوْلِ الْمُهَلَّبِ: الْعِدْلَانِ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَالْعِلَاوَةُ الثَّوَابُ عَلَيْهِمَا.

وَعَنْ قَوْلِ الْكَرْمَانِيِّ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَدْلَيْنِ الْقَوْلُ وَجَزَاؤُهُ، أَيْ قَوْلُ الْكَلِمَتَيْنِ وَنَوْعَا الثَّوَابِ، لِأَنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} الْآيَةَ) هُوَ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى أَوَّلِ التَّرْجَمَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَبَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى، أَيْ تَفْسِيرِهِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ:(وَإِنَّهَا) قِيلَ: أَفْرَدَ الصَّلَاةَ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّبْرِ الصَّوْمُ، وَهُوَ مِنَ التُّرُوكِ، أَوِ الصَّبْرِ عَنِ الْمَيِّتِ تَرْكُ الْجَزَعِ، وَالصَّلَاةُ أَفْعَالٌ وَأَقْوَالٌ، فَلِذَلِكَ ثَقُلَتْ عَلَى غَيْرِ الْخَاشِعِينَ، وَمِنْ أَسْرَارِهَا أَنَّهَا تُعِينُ عَلَى الصَّبْرِ لِمَا فِيهَا مِنَ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالْخُضُوعِ، وَكُلُّهَا تُضَادُّ حُبَّ الرِّيَاسَةِ، وَعَدَمَ الِانْقِيَادِ لِلْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَرَادَ بِإِيرَادِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ نُعِيَ إِلَيْهِ أَخُوهُ قُثَمَ وَهُوَ فِي سَفَرٍ، فَاسْتَرْجَعَ ثُمَّ تَنَحَّى عَنِ الطَّرِيقِ فَأَنَاخَ، فَصَلَّى رَك عَتَيْنِ أَطَالَ فِيهِمَا الْجُلُوسَ، ثُمَّ قَامَ وَهُوَ يَقُولُ:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} الْآيَةَ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ أَيْضًا. قَالَ الطَّبَرِيُّ: الصَّبْرُ مَنْعُ النَّفْسِ مَحَابَّهَا، وَكَفُّهَا عَنْ هَوَاهَا، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِمَنْ لَمْ يَجْزَعْ: صَابِرٌ؛ لِكَفِّهِ نَفْسَهُ. وَقِيلَ لِرَمَضَانَ: شَهْرُ الصَّبْرِ؛ لِكَفِّ الصَّائِمِ نَفْسَهُ عَنِ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ.

‌43 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّا بِكَ لَمَحْزُونُونَ

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: تَدْمَعُ الْعَيْنُ وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ

1303 -

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ، حَدَّثَنَا قُرَيْشٌ - هُوَ ابْنُ حَيَّانَ -، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِي سَيْفٍ الْقَيْنِ - وَكَانَ ظِئْرًا لِإِبْرَاهِيمَ عليه السلام فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ، ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَذْرِفَانِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رضي الله عنه: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ:

ص: 172

يَا ابْنَ عَوْفٍ، إِنَّهَا رَحْمَةٌ، ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ. رَوَاهُ مُوسَى عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ المُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّا بِكَ لَمَحْزُونُونَ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: تَدْمَعُ الْعَيْنُ وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ). سَقَطَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ وَالْأَثَرُ فِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ، وَثَبَتَتْ لِلْبَاقِينَ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ كَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا، إِلَّا أَنَّ لَفْظَهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ، وَلَا بِحُزْنِ الْقَلْبِ. فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرَهُ بِالْمَعْنَى، لِأَنَّ تَرْكَ الْمُؤَاخَذَةِ بِذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَهُ، وَأَمَّا لَفْظُهُ فَثَبَتَ فِي قِصَّةِ مَوْتِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَصْلُهُ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ كَمَا فِي هَذَا الْبَابِ، وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ، وَالطَّبَرَانِيِّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمِ، وَأَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، وَمَحْمُودِ بْنِ لَبِيَدٍ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ، وَالسَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، وَأَبِي أُمَامَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ) هُوَ الْجَرَوِيُّ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالرَّاءِ مَنْسُوبٌ إِلَى جَرْوَةَ بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَسُكُونِ الرَّاءِ، قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى تِنِّيسَ، وَكَانَ أَبُوهُ أَمِيرَهَا، فَتَزَهَّدَ الْحَسَنُ وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْ تَرِكَةِ أَبِيهِ شَيْئًا، وَكَانَ يُقَالُ: إِنَّهُ نَظِيرُ قَارُونَ فِي الْمَالِ، وَالْحَسَنُ الْمَذْكُورُ مِنْ طَبَقَةِ الْبُخَارِيِّ، وَمَاتَ بَعْدَهُ بِسَنَةٍ، وَلَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ وَحَدِيثَيْنِ آخَرَيْنِ فِي التَّفْسِيرِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ) هُوَ التِّنِّيسِيُّ، أَدْرَكَهُ الْبُخَارِيُّ وَلَمْ يَلْقَهُ لِأَنَّهُ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ مِصْرَ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ الشَّافِعِيُّ مَعَ جَلَالَتِهِ، وَمَاتَ قَبْلَهُ بِمُدَّةٍ، فَوَقَعَ لِلْحَسَنِ نَظِيرُ مَا وَقَعَ لِشَيْخِهِ مِنْ رِوَايَةِ إِمَامٍ عَظِيمِ الشَّأْنِ عَنْهُ، ثُمَّ يَمُوتُ قَبْلَهُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا قُرَيْشٌ، هُوَ ابْنُ حَيَّانَ) هُوَ بِالْقَافِ وَالْمُعْجَمَةِ، وَأَبُوهُ بِالْمُهْمَلَةِ وَالتَّحْتَانِيَّةِ، بَصْرِيٌّ يُكَنَّى أَبَا بَكْرٍ.

قَوْلُهُ: (عَلَى أَبِي سَيْفٍ) قَالَ عِيَاضٌ: هُوَ الْبَرَاءُ بْنُ أَوْسٍ، وَأُمُّ سَيْفٍ زَوْجَتُهُ هِيَ أُمُّ بُرْدَةَ، وَاسْمُهَا خَوْلَةُ بِنْتُ الْمُنْذِرِ. قُلْتُ: جُمِعَ بِذَلِكَ بَيْنَ مَا وَقَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَبَيْنَ قَوْلِ الْوَاقِدِيِّ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ عَنْهُ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ قَالَ: لَمَّا وُلِدَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ تَنَافَسَتْ فِيهِ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ أَيَّتُهُنَّ تُرْضِعُهُ، فَدَفَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أُمِّ بُرْدَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ بْنِ زَيْدِ بْنِ لَبِيدٍ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ وَزَوْجُهَا الْبَرَاءُ بْنُ أَوْسِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْجَعْدِ، مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ أَيْضًا، فَكَانَتْ تُرْضِعُهُ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْتِيهِ فِي بَنِي النَّجَّارِ. انْتَهَى. وَمَا جُمِعَ بِهِ غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ الْبَرَاءَ بْنَ أَوْسٍ يُكَنَّى أَبَا سَيْفٍ، وَلَا أَنَّ أَبَا سَيْفٍ يُسَمَّى الْبَرَاءُ بْنُ أَوْسٍ.

قَوْلُهُ: (الْقَيْنُ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا نُونٌ هُوَ الْحَدَّادُ، وَيُطْلَقُ عَلَى كُلِّ صَانِعٍ، يُقَالُ: قَإنَ الشَّيْءُ إِذَا أَصْلَحَهُ.

قَوْلُهُ: (ظِئْرًا) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ الْمَهْمُوزَةِ بَعْدَهَا رَاءٌ، أَيْ مُرْضِعًا، وَأُطْلِقَ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ زَوْجَ الْمُرْضِعَةِ، وَأَصْلُ الظِّئْرِ مِنْ ظَأَرَتِ النَّاقَةُ إِذَا عَطَفَتْ عَلَى غَيْرِ وَلَدِهَا، فَقِيلَ ذَلِكَ لِلَّتِي تُرْضِعُ غَيْرَ وَلَدِهَا، وَأُطْلِقَ ذَلِكَ عَلَى زَوْجِهَا لِأَنَّهُ يُشَارِكُهَا فِي تَرْبِيَتِهِ غَالِبًا.

قَوْلُهُ: (لِإِبْرَاهِيمَ) أَيِ ابْنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَوَقَعَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمُعَلَّقَةِ بَعْدَ هَذَا، وَلَفْظُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي أَوَّلِهِ: وُلِدَ لِيَ اللَّيْلَةَ غُلَامٌ فَسَمَّيْتُهُ بِاسْمِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَى أُمِّ سَيْفٍ امْرَأَةِ قَيْنٍ بِالْمَدِينَةِ يُقَالُ لَهُ: أَبُو سَيْفٍ، فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاتَّبَعَتْهُ، فَانْتَهَى إِلَى أَبِي سَيْفٍ وَهُوَ يَنْفُخُ بِكِيرِهِ، وَقَدِ امْتَلَأَ الْبَيْتُ دُخَانًا، فَأَسْرَعْتُ الْمَشْيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا أَبَا سَيْفٍ، أَمْسِكْ، جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَلِمُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَنَسٍ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا

ص: 173

كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ إِبْرَاهِيمُ مُسْتَرْضَعًا فِي عَوَالِي الْمَدِينَةِ، وَكَانَ يَنْطَلِقُ وَنَحْنُ مَعَهُ فَيَدْخُلُ الْبَيْتَ، وَإِنَّهُ لَيُدَخِّنُ وَكَانَ ظِئْرُهُ قَيْنًا.

قَوْلُهُ: (وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ) أَيْ يُخْرِجُهَا وَيَدْفَعُهَا كَمَا يَدْفَعُ الْإِنْسَانُ مَالَهُ، وَفِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ: يَكِيدُ. قَالَ صَاحِبُ الْعَيْنِ: أَيْ يَسُوقُ بِهَا، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: يُقَارِبُ بِهَا الْمَوْتَ. وَقَالَ أَبُو مَرْوَانَ بْنُ سِرَاجٍ: قَدْ يَكُونُ مِنَ الْكَيْدِ، وَهُوَ الْقَيْءُ، يُقَالُ مِنْهُ: كَادَ يَكِيدُ، شَبَّهَ تَقَلُّعَ نَفْسِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ بِذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (تَذْرِفَانِ) بِذَالٍ مُعْجَمَةٍ وَفَاءٍ أَيْ يَجْرِي دَمْعُهُمَا.

قَوْلُهُ: (وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟) قَالَ الطِّيبِيُّ. فِيهِ مَعْنَى التَّعَجُّبِ، وَالْوَاوُ تَسْتَدْعِي مَعْطُوفًا عَلَيْهِ، أَيِ: النَّاسُ لَا يَصْبِرُونَ عَلَى الْمُصِيبَةِ وَأَنْتَ تَفْعَلُ كَفِعْلِهِمْ؟ كَأَنَّهُ تَعَجَّبَ لِذَلِكَ مِنْهُ مَعَ عَهْدِهِ مِنْهُ أَنَّهُ يَحُثُّ عَلَى الصَّبْرِ وَيَنْهَى عَنِ الْجَزَعِ، فَأَجَابَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّهَا رَحْمَةٌ أَيِ الْحَالَةُ الَّتِي شَاهَدْتَهَا مِنِّي هِيَ رِقَّةُ الْقَلْبِ عَلَى الْوَلَدِ لَا مَا تَوَهَّمْتَ مِنَ الْجَزَعِ. انْتَهَى. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ نَفْسِهِ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَبْكِي؟ أَوَلَمْ تَنْهَ عَنِ الْبُكَاءِ؟ وَزَادَ فِيهِ: إِنَّمَا نَهَيْتُ عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ: صَوْتٍ عِنْدَ نَغْمَةِ لَهْوٍ وَلَعِبٍ وَمَزَامِيرِ الشَّيْطَانِ، وَصَوْتٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ: خَمْشِ وُجُوهٍ وَشَقِّ جُيُوبٍ وَرَنَّةِ شَيْطَانٍ. قَالَ: إِنَّمَا هَذَا رَحْمَةٌ، وَمَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمُ. وَفِي رِوَايَةِ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، فَقَالَ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ. وَعِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ مِنْ مُرْسَلِ مَكْحُولٍ: إِنَّمَا أَنْهَى النَّاسَ عَنِ النِّيَاحَةِ أَنْ يُنْدَبَ الرَّجُلُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: ثُمَّ أَتْبَعَهَا وَاللَّهِ بِأُخْرَى بِزِيَادَةِ الْقَسَمِ، قِيلَ: أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ أَتْبَعَ الدَّمْعَةَ الْأُولَى بِدَمْعَةٍ أُخْرَى، وَقِيلَ: أَتْبَعِ الْكَلِمَةَ الْأُولَى الْمُجْمَلَةَ، وَهِيَ قَوْلُهُ: إِنَّهَا رَحْمَةٌ بِكَلِمَةٍ أُخْرَى مُفَصَّلَةٍ وَهِيَ قَوْلُهُ: إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ. وَيُؤَيِّدُ الثَّانِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمُرْسَلِ مَكْحُولٍ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ إِلَخْ) فِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَمَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ: وَلَا نَقُولُ مَا يُسْخِطُ الرَّبَّ. وَزَادَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي آخِرِهِ: لَوْلَا أَنَّهُ أَمْرُ حَقٍّ وَوَعْدُ صِدْقٍ وَسَبِيلٌ نَأْتِيهِ، وَأنَّ آخِرَنَا سَيَلْحَقُ بِأَوَّلِنَا، لَحَزِنَّا عَلَيْكَ حُزْنًا هُوَ أَشَدُّ مِنْ هَذَا. وَنَحْوَهُ فِي حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ وَمُرْسَلِ مَكْحُولٍ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: وَفَصْلُ رَضَاعِهِ فِي الْجَنَّةِ. وَفِي آخِرِ حَدِيثِ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ: وَقَالَ: إِنَّ لَهُ مُرْضِعًا فِي الْجَنَّةِ. وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَذِكْرُ الرَّضَاعِ وَقَعَ فِي آخِرِ حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ عَنْهُ، إِلَّا أَنَّ ظَاهِرَ سِيَاقِهِ الْإِرْسَالُ، فَلَفْظُهُ: قَالَ عَمْرٌو: فَلَمَّا تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ ابْنِي، وَإِنَّهُ مَاتَ فِي الثَّدْيِ، وَإِنَّ لَهُ لَظِئْرَيْنِ يُكْمِلَانِ رَضَاعَهُ فِي الْجَنَّةِ. وَسَيَأْتِي فِي أَوَاخِرِ الْجَنَائِزِ حَدِيثُ الْبَرَاءِ: إِنَّ لِإِبْرَاهِيمَ لَمُرْضِعًا فِي الْجَنَّةِ.

(فَائِدَةٌ فِي وَقْتِ وَفَاةِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام: جَزَمَ الْوَاقِدِيُّ بِأَنَّهُ مَاتَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ لِعَشْرِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ عَشْرٍ، وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: مَاتَ قَبْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ وُلِدَ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَمَانٍ. قَالَ ابنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُ: هَذَا الْحَدِيثُ يُفَسِّرُ الْبُكَاءَ الْمُبَاحَ وَالْحُزْنَ الْجَائِزَ، وَهُوَ مَا كَانَ بِدَمْعِ الْعَيْنِ وَرِقَّةِ الْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ سُخْطٍ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَهُوَ أَبْيَنُ شَيْءٍ وَقَعَ فِي هَذَا الْمَعْنَى.

وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ تَقْبِيلِ الْوَلَدِ وَشَمِّهِ، وَمَشْرُوعِيَّةُ الرَّضَاعِ، وَعِيَادَةِ الصَّغِيرِ، وَالْحُضُورِ عِنْدَ الْمُحْتَضَرِ، وَرَحْمَةِ الْعِيَالِ، وَجَوَازِ الْإِخْبَارِ عَنِ الْحُزْنِ وَإِنْ كَانَ الْكِتْمَانُ أَوْلَى، وَفِيهِ وُقُوعُ الْخِطَابِ لِلْغَيْرِ وَإِرَادَةُ غَيْرِهِ بِذَلِكَ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَأْخُوذٌ مِنْ مُخَاطَبَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَدَهُ مَعَ أَنَّهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَفْهَمُ الْخِطَابَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا صِغَرُهُ، وَالثَّانِي نِزَاعُهُ. وَإِنَّمَا أَرَادَ بِالْخِطَابِ غَيْرَهُ مِنَ الْحَاضِرِينَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ فِي نَهْيِهِ السَّابِقِ. وَفِيهِ جَوَازُ الِاعْتِرَاضِ عَلَى مَنْ خَالَفَ فِعْلُهُ ظَاهِرَ قَوْلِهِ لِيَظْهَرَ الْفَرْقُ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ فِيهِ دَلِيلًا عَلَى تَقْبِيلِ الْمَيِّتِ وَشَمِّهِ، وَرَدَّهُ بِأَنَّ الْقِصَّةَ إِنَّمَا وَقَعَتْ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ.

قَوْلُهُ: (رَوَاهُ مُوسَى) هُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ التَّبُوذَكِيُّ وَطَرِيقُهُ هَذِهِ وَصَلَهَا

ص: 174

الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ طَرِيقِ تِمْتَامٍ وَهُوَ بِمُثَنَّاتَيْنِ لَقَبُ مُحَمَّدِ بْنِ غَالِبٍ الْبَغْدَادِيِّ الْحَافِظِ عَنْهُ، وَفِي سِيَاقِهِ مَا لَيْسَ فِي سِيَاقِ قُرَيْشِ بْنِ حَيَّانَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْبُخَارِيُّ أَصْلَ الْحَدِيثِ.

‌44 - بَاب الْبُكَاءِ عِنْدَ الْمَرِيضِ

1304 -

حَدَّثَنَا أَصْبَغُ، عَنْ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: اشْتَكَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ شَكْوَى لَهُ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهم، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ فَوَجَدَهُ فِي غَاشِيَةِ أَهْلِهِ، فَقَالَ: قَدْ قَضَى؟ قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَبَكَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ بُكَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَكَوْا، فَقَالَ: أَلَا تَسْمَعُونَ؟ إِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ وَلَا بِحُزْنِ الْقَلْبِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا - وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ - أَوْ يَرْحَمُ، وَإِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ. وَكَانَ عُمَرُ رضي الله عنه يَضْرِبُ فِيهِ بِالْعَصَا، وَيَرْمِي بِالْحِجَارَةِ، وَيَحْثِي بِالتُّرَابِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْبُكَاءِ عِنْدَ الْمَرِيضِ) سَقَطَ لَفْظُ بَابٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: ذِكْرُ الْمَرِيضِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَشْرَفَ عَلَى الْمَوْتِ، أَوْ هُوَ فِي مَبَادِئِ الْمَرَضِ، لَكِنَّ الْبُكَاءَ عَادَةً إِنَّمَا يَقَعُ عِنْدَ ظُهُورِ الْعَلَامَاتِ الْمَخُوفَةِ كَمَا فِي قِصَّةِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فِي حَدِيثِ هَذَا الْبَابِ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي عَمْرٌو) هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ الْمِصْرِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ الْأَنْصَارِيِّ) هُوَ ابْنُ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى قَاضِي الْمَدِينَةِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْمُعَلَّى فَكَأَنَّهُ نَسَبَ أَبَاهُ لِجَدِّهِ.

قَوْلُهُ: (اشْتَكَى) أَيْ ضَعُفَ وشَكْوَى بِغَيْرِ تَنْوِينَ.

قَوْلُهُ: (فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ) زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةِ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ: فَاسْتَأْخَرَ قَوْمُهُ مِنْ حَوْلِهِ حَتَّى دَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ مَعَهُ.

قَوْلُهُ: (فِي غَاشِيَةِ أَهْلِهِ) بِمُعْجَمَتَيْنِ أَيِ الَّذِينَ يَغْشَوْنَهُ لِلْخِدْمَةِ وَغَيْرِهَا، وَسَقَطَ لَفْظُ أَهْلِهِ مِنْ أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، وَعَلَيْهِ شَرْحُ الْخَطَّابِيِّ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْغَاشِيَةِ الْغَشْيَةَ مِنَ الْكَرْبِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فِي غَشْيَتِهِ. وَقَالَ التُّورْبَشْتِيُّ: الْغَاشِيَةُ هِيَ الدَّاهِيَةُ مِنْ شَرٍّ، أَوْ مِنْ مَرَضٍ، أَوْ مِنْ مَكْرُوهٍ، وَالْمُرَادُ مَا يَتَغَشَّاهُ مِنْ كَرْبِ الْوَجَعِ الَّذِي هُوَ فِيهِ لَا الْمَوْتُ، لِأَنَّهُ أَفَاقَ مِنْ تِلْكَ الْمِرْضَةِ وَعَاشَ بَعْدَهَا زَمَانًا.

قَوْلُهُ: (فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ بُكَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَكَوْا) فِي هَذَا إِشْعَارٌ بِأَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ كَانَتْ بَعْدَ قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ ابْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لِأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ كَانَ مَعَهُمْ فِي هَذِهِ، وَلَمْ يَعْتَرِضْهُ بِمِثْلِ مَا اعْتَرَضَ بِهِ هُنَاكَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ تَقَرَّرَ عِنْدَهُ الْعِلْمُ بِأَنَّ مُجَرَّدَ الْبُكَاءِ بِدَمْعِ الْعَيْنِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ لَا يَضُرُّ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: أَلَا تَسْمَعُونَ) لَا يَحْتَاجُ إِلَى مَفْعُولٍ لِأَنَّهُ جُعِلَ كَالْفِعْلِ اللَّازِمِ، أَيْ أَلَا تُوجِدُونَ السَّمَاعَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ فَهِمَ مِنْ بَعْضِهِمُ الْإِنْكَارَ، فَبَيَّنَ لَهُمُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ اللَّهَ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ.

قَوْلُهُ: (يُعَذِّبُ بِهَذَا) أَيْ إِنْ قَالَ سُوءًا.

قَوْلُهُ: (أَوْ يَرْحَمُ) إِنْ قَالَ خَيْرًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: أَوْ يَرْحَمُ؛ أَيْ إِنْ لَمْ يُنْفِذِ الْوَعِيدَ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ) أَيْ بِخِلَافِ غَيْرِهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَابِتٍ الَّتِي أَخْرَجَهَا مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ، فَفِيهِ: فَصَاحَ النِّسْوَةُ، فَجَعَلَ ابْنُ عَتِيكٍ يُسْكِتُهُنَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: دَعْهُنَّ، فَإِذَا وَجَبَتْ فَلَا تَبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ. . . الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ عُمَرُ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ إِلَى ابْنِ عُمَرَ، وَسَقَطَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ، وَكَذَا الَّتِي قَبْلَهَا مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ،

ص: 175

وَلِهَذَا ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُمَا مُعَلَّقَانِ.

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مِنَ الْفَوَائِدِ اسْتِحْبَابُ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَعِيَادَةِ الْفَاضِلِ لِلْمَفْضُولِ، وَالْإِمَامِ أَتْبَاعَهُ مَعَ أَصْحَابِهِ، وَفِيهِ النَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ وَبَيَانُ الْوَعِيدِ عَلَيْهِ.

‌45 - بَاب مَا يُنْهَى مِنْ النَّوْحِ وَالْبُكَاءِ وَالزَّجْرِ عَنْ ذَلِكَ

1305 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوْشَبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: أَخْبَرَتْنِي عَمْرَةُ قَالَتْ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها تَقُولُ: لَمَّا جَاءَ قَتْلُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَجَعْفَرٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ جَلَسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْرَفُ فِيهِ الْحُزْنُ - وَأَنَا أَطَّلِعُ مِنْ شَقِّ الْبَابِ - فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ - وَذَكَرَ بُكَاءَهُنَّ - فَأَمَرَهُ بِأَنْ يَنْهَاهُنَّ، فَذَهَبَ الرَّجُلُ، ثُمَّ أَتَى، فَقَالَ: قَدْ نَهَيْتُهُنَّ، وَذَكَرَ أَنَّهُنَّ لَمْ يُطِعْنَهُ. فَأَمَرَهُ الثَّانِيَةَ أَنْ يَنْهَاهُنَّ، فَذَهَبَ ثُمَّ أَتَى، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ غَلَبْنَنِي - أَوْ غَلَبْنَنَا، الشَّكُّ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوْشَبٍ - فَزَعَمَتْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَاحْثُ فِي أَفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ. فَقُلْتُ: أَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَكَ؛ فَوَاللَّهِ مَا أَنْتَ بِفَاعِلٍ، وَمَا تَرَكْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْعَنَاءِ.

1306 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ: أَخَذَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الْبَيْعَةِ أَنْ لَا نَنُوحَ، فَمَا وَفَتْ مِنَّا امْرَأَةٌ غَيْرَ خَمْسِ نِسْوَةٍ: أُمِّ سُلَيْمٍ، وَأُمِّ الْعَلَاءِ، وَابْنَةِ أَبِي سَبْرَةَ امْرَأَةِ مُعَاذٍ، وَامْرَأَتَيْنِ، أَوْ ابْنَةِ أَبِي سَبْرَةَ وَامْرَأَةِ مُعَاذٍ، وَامْرَأَةٍ أُخْرَى.

[الحديث 1306 - طرفاه في: 4892، 7215]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُنْهَى مِنَ النَّوْحِ وَالْبُكَاءِ وَالزَّجْرِ عَنْ ذَلِكَ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: عَطَفَ الزَّجْرَ عَلَى النَّهْيِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى الْمُؤَاخَذَةِ الْوَاقِعَةِ فِي الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ: فَاحْثُ فِي أَفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوْشَبٍ) بِمُهْمَلَةٍ وَشِينٍ مُعْجَمَةٍ، وَزْنُ جَعْفَرٍ، ثِقَةٌ مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ نَزَلَ الْكُوفَةَ، ذَكَرَ الْأَصِيلِيُّ أَنَّهُ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ الْبُخَارِيِّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ رَوَى عَنْهُ أَيْضًا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ وَارَةَ الرَّازِيُّ، كَمَا ذَكَرَهُ الْمِزِّيُّ فِي التَّهْذِيبِ، وَعَبْدُ الْوَهَّابِ شَيْخُهُ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ قَبْلَ أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ) هُوَ الْحَجَبِيُّ، وَحَمَّادٌ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ، وَمُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ سِيرِينَ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ. وَقَدْ رَوَاهُ عَارِمٌ، عَنْ حَمَّادٍ فَقَالَ: عَنْ أَيُّوبَ عَنْ حَفْصَةَ بَدَلَ مُحَمَّدٍ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَلَهُ أَصْلٌ عَنْ حَفْصَةَ، كَمَا سَيَأْتِي فِي الْأَحْكَامِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَارِثِ، عَنْ أَيُّوبَ عَنْهَا، فَكَأَنَّ حَمَّادًا سَمِعَهُ مِنْ أَيُّوبَ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا.

قَوْلُهُ: (عِنْدَ الْبَيْعَةِ) أَيْ لَمَّا بَايَعَهُنَّ عَلَى الْإِسْلَامِ.

قَوْلُهُ: (فَمَا وَفَتْ) أَيْ بِتَرْكِ النَّوْحِ. وَأُمُّ سُلَيْمٍ هِيَ بِنْتُ مِلْحَانَ وَالِدَةُ أَنَسٍ، وَأُمُّ الْعَلَاءِ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي ثَالِثِ بَابٍ مِنْ كِتَابِ الْجَنَائِزِ، وَابْنَةُ أَبِي سَبْرَةَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَوِ ابْنَةُ أَبِي سَبْرَةَ، وَامْرَأَةُ مُعَاذٍ، فَهُوَ شَكٌّ مِنْ أَحَدِ رُوَاتِهِ: هَلِ ابْنَةُ أَبِي سَبْرَةَ هِيَ امْرَأَةُ مُعَاذٍ أَوْ غَيْرُهَا، وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ مِنْ رِوَايَةِ حَفْصَةَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ بِالشَّكِّ أَيْضًا، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الرِّوَايَةَ بِوَاوِ الْعَطْفِ أَصَحُّ، لِأَنَّ امْرَأَةَ مُعَاذٍ، وَهُوَ ابْنُ جَبَلٍ، هِيَ أُمُّ عَمْرِو بِنْتِ خَلَّادِ بْنِ عَمْرٍو السُّلَمِيَّةُ، ذَكَرَهَا ابْنُ سَعْدٍ، فَعَلَى هَذَا فَابْنَةُ أَبِي سَبْرَةَ غَيْرُهَا. وَوَقَعَ فِي الدَّلَائِلِ

ص: 176

لِأَبِي مُوسَى مِنْ طَرِيقِ حَفْصَةَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ وَأُمِّ مُعَاذٍ بَدَلَ قَوْلِهِ: وَامْرَأَةُ مُعَاذٍ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ عَارِمٍ، لَكِنْ لَفْظُهُ: أَوْ أُمُّ مُعَاذٍ بِنْتُ أَبِي سَبْرَةَ. وَفِي الطَّبَرَانِيِّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ: فَمَا وَفَتْ غَيْرُ أُمِّ سُلَيْمٍ، وَأُمِّ كُلْثُومٍ، وَامْرَأَةِ مُعَاذِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ. كَذَا فِيهِ، وَالصَّوَابُ مَا فِي الصَّحِيحِ: امْرَأَةُ مُعَاذٍ، وَبِنْتُ أَبِي سَبْرَةَ.

وَلَعَلَّ بِنْتَ أَبِي سَبْرَةَ يُقَالُ لَهَا أُمُّ كُلْثُومٍ، وَإِنْ كَانَتِ الرِّوَايَةُ الَّتِي فِيهَا أُمُّ مُعَاذٍ مَحْفُوظَةً، فَلَعَلَّهَا أُمُّ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَهِيَ هِنْدُ بِنْتُ سَهْلٍ الْجُهَنِيَّةُ، ذَكَرَهَا ابْنُ سَعْدٍ أَيْضًا، وَعُرِفَ بِمَجْمُوعِ هَذا النِّسْوَةِ الْخَمْسِ، وَهِيَ أُمُّ سُلَيْمٍ، وَأُمُّ الْعَلَاءِ، وَأُمُّ كُلْثُومٍ، وَأُمُّ عَمْرٍو وَهِنْدٌ - إِنْ كَانَتِ الرِّوَايَةُ مَحْفُوظَةً - وَإِلَّا فَيَخْتَلِجُ فِي خَاطِرِي أَنَّ الْخَامِسَةَ هِيَ أُمُّ عَطِيَّةَ رَاوِيَةُ الْحَدِيثِ. ثُمَّ وَجَدْتُ مَا يُؤَيِّدُهُ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمٍ، عَنْ حَفْصَةَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ بِلَفْظِ: فَمَا وَفَتْ غَيْرِي، وَغَيْرِ أُمِّ سُلَيْمٍ. أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا. ثُمَّ وَجَدْتُ مَا يَرُدُّهُ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: كَانَ فِيمَا أُخِذَ عَلَيْنَا أَنْ لَا نَنُوحَ. الْحَدِيثَ. فَزَادَ فِي آخِرِهِ: وَكَانَتْ لَا تَعُدُّ نَفْسَهَا، لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْحَرَّةِ لَمْ تَزَلِ النِّسَاءُ بِهَا حَتَّى قَامَتْ مَعَهُنَّ، فَكَانَتْ لَا تَعُدُّ نَفْسَهَا لِذَلِكَ. وَيُجْمَعُ بِأَنَّهَا تَرَكَتْ عَدَّ نَفْسِهَا مِنْ يَوْمِ الْحَرَّةِ. قُلْتُ: يَوْمُ الْحَرَّةِ قُتِلَ فِيهِ مِنَ الْأَنْصَارِ مَنْ لَا يُحْصَى عَدَدُهُ، وَنُهِبَتِ الْمَدِينَةُ الشَّرِيفَةُ، وَبُذِلَ فِيهَا السَّيْفُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَيَّامِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَفِي حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ مِصْدَاقُ مَا وَصَفَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُنَّ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ وَدِينٍ.

وَفِيهِ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِلنِّسْوَةِ الْمَذْكُورَاتِ، قَالَ عِيَاضٌ: مَعْنَى الْحَدِيثِ لَمْ يَفِ مِمَّنْ بَايَعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَعَ أُمِّ عَطِيَّةَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي بَايَعَتْ فِيهِ النِّسْوَةُ إِلَّا الْمَذْكُورَاتِ، لَا أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكِ النِّيَاحَةَ مِنَ الْمُسْلِمَاتِ غَيْرُ خَمْسَةٍ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ فَوَائِدِهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُمْتَحَنَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌46 - بَاب الْقِيَامِ لِلْجَنَازَةِ

1307 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا رَأَيْتُمْ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا حَتَّى تُخَلِّفَكُمْ. قَالَ سُفْيَانُ: قَالَ الزُّهْرِيُّ:، أَخْبَرَنِي سَالِمٌ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. زَادَ الْحُمَيْدِيُّ: حَتَّى تُخَلِّفَكُمْ أَوْ تُوضَعَ.

[الحديث 1307 - طرفه في: 1308]

قَوْلُهُ: (بَابُ الْقِيَامِ لِلْجِنَازَةِ) أَيْ إِذَا مَرَّتْ عَلَى مَنْ لَيْسَ مَعَهَا، وَأَمَّا قِيَامُ مَنْ كَانَ مَعَهَا إِلَى أَنْ تُوضَعَ بِالْأَرْضِ فَسَيَأْتِي فِي تَرْجَمَةٍ مُفْرَدَةٍ. وَسَنَذْكُرُ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا فِيمَا بَعْدُ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى تُخَلِّفَكُمْ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ الْمَكْسُورَةِ، بَعْدَهَا فَاءٌ؛ أَيْ تَتْرُكَكُمْ وَرَاءَهَا، وَنِسْبَةُ ذَلِكَ إِلَيْهَا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ لِأَنَّ الْمُرَادَ حَامِلُهَا.

قَوْلُهُ: (قَالَ سُفْيَانُ) هَذَا السِّيَاقُ لَفْظُ الْحُمَيْدِيِّ فِي مُسْنَدِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَ بِهِ عَلَى السِّيَاقَيْنِ، فَقَالَ مَرَّةً: عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَالِمٍ. وَقَالَ مَرَّةً: قَالَ الزُّهْرِيُّ، أَخْبَرَنِي سَالِمٌ. وَالْمُرَادُ مِنَ السِّيَاقَيْنِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا سَمِعَهُ مِنْ شَيْخِهِ.

قَوْلُهُ: (زَادَ الْحُمَيْدِيُّ) يَعْنِي عَنْ سُفْيَانَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَدْ رَوَيْنَاهُ مُوصوَلًا فِي مُسْنَدِهِ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجِهِ مِنْ طَرِيقِهِ كَذَلِكَ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَثَلَاثَةٍ مَعَهُ، أَرْبَعَتُهُمْ عَنْ سُفْيَانَ بِالزِّيَادَةِ إِلَّا أَنَّهُ فِي سِيَاقِهِمْ بِالْعَنْعَنَةِ، وَفِي هَذَا الْإِسْنَادِ رِوَايَةُ تَابِعِيٍّ عَنْ تَابِعِيٍّ وَصَحَابِيٍّ عَنْ صَحَابِيٍّ فِي نَسَقٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 177

‌47 - بَاب مَتَى يَقْعُدُ إِذَا قَامَ لِلْجَنَازَةِ

1308 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ جِنَازَةً فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَاشِيًا مَعَهَا، فَلْيَقُمْ حَتَّى يُخَلِّفَهَا، أَوْ تُخَلِّفَهُ، أَوْ تُوضَعَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُخَلِّفَهُ.

1309 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا فِي جَنَازَةٍ، فَأَخَذَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه بِيَدِ مَرْوَانَ، فَجَلَسَا قَبْلَ أَنْ تُوضَعَ، فَجَاءَ أَبُو سَعِيدٍ رضي الله عنه، فَأَخَذَ بِيَدِ مَرْوَانَ، فَقَالَ: قُمْ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَ هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَانَا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: صَدَقَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَتَى يَقْعُدُ إِذَا قَامَ لِلْجِنَازَةِ) سَقَطَ هَذَا الْبَابُ وَالتَّرْجَمَةُ مِنْ رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَثَبَتَتِ التَّرْجَمَةُ دُونَ الْبَابِ لِرَفِيقِهِ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى يُخَلِّفَهَا أَوْ تُخَلِّفَهُ) شَكٌّ مِنَ الْبُخَارِيِّ، أَوْ مِنْ قُتَيْبَةَ حِينَ حَدَّثَهُ بِهِ، وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ قُتَيْبَةَ، وَمُسْلِمٌ، عَنْ قُتَيْبَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ رُمْحٍ كِلَاهُمَا عَنِ اللَّيْثِ، فَقَالَا: حَتَّى تُخَلِّفَهُ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ.

قَوْلُهُ: (أَوْ تُوضَعَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُخَلِّفَهُ) فِيهِ بَيَانٌ لِلْمُرَادِ مِنْ رِوَايَةِ سَالِمٍ الْمَاضِيَةِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ: إِذَا رَأَى أَحَدُكُمُ الْجِنَازَةَ فَلْيَقُمْ يَرَاهَا، حَتَّى تُخَلِّفَهُ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُتَّبِعِهَا.

‌48 - بَاب مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً فَلَا يَقْعُدُ حَتَّى تُوضَعَ عَنْ مَنَاكِبِ الرِّجَالِ، فَإِنْ قَعَدَ أُمِرَ بِالْقِيَامِ

1310 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ - يَعْنِي ابْنَ إِبْرَاهِيمَ -، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا رَأَيْتُمْ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا، فَمَنْ تَبِعَهَا فَلَا يَقْعُدْ حَتَّى تُوضَعَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ تَبِعَ جِنَازَةً فَلَا يَقْعُدْ حَتَّى تُوضَعَ عَنْ مَنَاكِبِ الرِّجَالِ) كَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذَا إِلَى تَرْجِيحِ رِوَايَةِ مَنْ رَوَى فِي حَدِيثِ الْبَابِ: حَتَّى تُوضَعَ بِالْأَرْضِ. عَلَى رِوَايَةِ مَنْ رَوَى: حَتَّى تُوضَعَ فِي اللَّحْدِ. وَفِيهِ اخْتِلَافٌ عَلَى سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: رَوَاهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ سُهَيْلٍ، فَقَالَ: حَتَّى تُوضَعَ فِي اللَّحْدِ. وَخَالَفَهُ الثَّوْرِيُّ، وَهُوَ أَحْفَظُ، فَقَالَ: فِي الْأَرْضِ. انْتَهَى، وَرَوَاهُ جَرِيرٌ، عَنْ سُهَيْلٍ، فَقَالَ: حَتَّى تُوضَعَ. حَسْبُ. وَزَادَ: قَالَ سُهَيْلٌ: وَرَأَيْتُ أَبَا صَالِحٍ لَا يَجْلِسُ حَتَّى تُوضَعَ عَنْ مَنَاكِبِ الرِّجَالِ. أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَهُوَ فِي مُسْلِمٍ بِدُونِهَا، وَفِي الْمُحِيطِ لِلْحَنَفِيَّةِ: الْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَقْعُدَ حَتَّى يُهَالَ عَلَيْهَا التُّرَابُ، وَحُجَّتُهُمْ رِوَايَةُ أَبِي مُعَاوِيَةَ، وَرَجَحَ الْأَوَّلُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ بِفِعْلِ أَبِي صَالِحٍ، لِأَنَّهُ رَاوِي الْخَبَرِ، وَهُوَ أَعْرَفُ بِالْمُرَادِ مِنْهُ، وَرِوَايَةُ أَبِي مُعَاوِيَةَ مَرْجُوحَةٌ كَمَا قَالَ أَبُو دَاوُدَ.

قَوْلُهُ: (فَإِنْ قَعَدَ أُمِرَ بِالْقِيَامِ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْقِيَامَ فِي هَذَا لَا يَفُوتُ بِالْقُعُودِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ تَعْظِيمُ أَمْرِ الْمَوْتِ، وَهُوَ لَا يَفُوتُ بِذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُ الْمُهَلَّبِ: قُعُودُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمَرْوَانَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ، فَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ، وَإِنْ أَرَادَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى ذَلِكَ. وَيَدُلُّ عَلَى الْأَوَّلِ مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَسَاقَ نَحْوَ

ص: 178

الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَزَادَ: إِنَّ مَرْوَانَ لَمَّا قَالَ لَهُ أَبُو سَعِيدٍ: قُمْ قَامَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: لِمَ أَقَمْتَنِي؟ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. فَقَالَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: فَمَا مَنَعَكَ أَنْ تُخْبِرَنِي؟ قَالَ: كُنْتُ إِمَامًا فَجَلَسْتُ. فَعَرَفَ بِهَذَا أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ ل مْ يَكُنْ يَرَاهُ وَاجِبًا، وَأَنَّ مَرْوَانَ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ حُكْمَ الْمَسْأَلَةِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ بَادَرَ إِلَى الْعَمَلِ بِهَا بِخَبَرِ أَبِي سَعِيدٍ. وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: مُرَّ عَلَى مَرْوَانَ بِجِنَازَةٍ فَلَمْ يَقُمْ، فَقَالَ لَهُ أَبُو سَعِيدٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّتْ عَلَيْهِ جِنَازَةٌ فَقَامَ، فَقَامَ مَرْوَانُ. وَأَظُنُّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ مُخْتَصَرَةً مِنَ الْقِصَّةِ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ بِاسْتِحْبَابِهِ كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَازِمٍ الْأَشْجَعِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ الْقَائِمَ مِثْلُ الْحَامِلِ، يَعْنِي فِي الْأَجْرِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ: يُكْرَهُ الْقُعُودُ قَبْلَ أَنْ تُوضَعَ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: يَجِبُ الْقِيَامُ، وَاحْتَجَّ لَهُ بِرِوَايَةِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ قَالَا: مَا رَأَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَهِدَ جِنَازَةً قَطُّ، فَجَلَسَ حَتَّى تُوضَعَ. أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ.

(تَنْبِيهَانِ):

(الْأَوَّلُ): قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: إِنَّمَا نَوَّعَ هَذِهِ التَّرَاجِمَ مَعَ إِمْكَانِ جَمْعِهَا فِي تَرْجَمَةٍ وَاحِدَةٍ لِلْإِشَارَةِ إِلَى الِاعْتِنَاءِ بِهَا وَمَا يَخْتَصُّ كُلُّ طَرِيقٍ مِنْهَا بِحِكْمَةٍ، وَلِأَنَّ بَعْضَ ذَلِكَ وَقَعَ فِيمَا لَيْسَ عَلَى شَرْطِهِ فَاكْتَفَى بِذِكْرِهِ فِي التَّرْجَمَةِ لِصَلَاحِيَّتِهِ لِلِاسْتِدْلَالِ.

(الثَّانِي): قَالَ: ثَبَتَ بَيْنَ حَدِيثَيِ الْبَابِ تَرْجَمَةٌ لَفْظُهَا: بَابُ مَنْ تَبِعَ جِنَازَةً. وَجَدَ ذَلِكَ فِي نُسْخَةٍ مُحَرَّرَةٍ مَسْمُوعَةٍ، فَإِنْ سَقَطَتْ فِي غَيْرِهَا قَدَّمَ مَنْ أَثْبَتَ عَلَى مَنْ نَفَى، قَالَ: وَإِنَّمَا لَمْ يَسْتَغْنِ عَنْهَا بِمَا قَبْلَهَا لِتَصْرِيحِهِ فِي الْخَبَرِ بِأَنَّهُمَا جَلَسَا قَبْلَ أَنْ تُوضَعَ، وَأَطَالَ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ، وَأَنَّ ذِكْرَهَا أَوْلَى مِنْ حَذْفِهَا. وَهُوَ عَجِيبٌ مِنْهُ فَإِنَّ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْحَدِيثُ الثَّانِي مِنَ الزِّيَادَةِ قَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ التَّرْجَمَةُ الْأُولَى، وَلَيْسَ فِي التَّرْجَمَةِ زِيَادَةٌ عَلَى مَا فِي الْحَدِيثَيْنِ إِلَّا قَوْلَهُ: عَنْ مَنَاكِبِ الرِّجَالِ. وَقَدْ ذَكَرْتُ مَنْ وَقَعَتْ فِي رِوَايَتِهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ) هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَهِشَامٌ هُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ، وَيَحْيَى هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ، وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ هَذَا أَبْيَنُ سِيَاقًا مِنْ حَدِيثِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَهُوَ يُوَضِّحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْغَايَةِ الْمَذْكُورَةِ مَنْ كَانَ مَعَهَا أَوْ مُشَاهِدًا لَهَا، وَأَمَّا مَنْ مَرَّتْ بِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ مِنَ الْقِيَامِ إِلَّا قَدْرَ مَا تَمُرُّ عَلَيْهِ، أَوْ تُوضَعُ عِنْدَهُ بِأَنْ يَكُونَ بِالْمُصَلَّى مَثَلًا. وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَرْجَانَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ وَلَمْ يَمْشِ مَعَهَا فَلْيَقُمْ حَتَّى تَغِيبَ عَنْهُ، وَإِنْ مَشَى مَعَهَا فَلَا يَقْعُدْ حَتَّى تُوضَعَ. وَفِي هَذَا السِّيَاقِ بَيَانٌ لِغَايَةِ الْقِيَامِ، وَأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِمَنْ مَرَّتْ بِهِ، وَلَفْظُ الْقِيَامِ يَتَنَاوَلُ مَنْ كَانَ قَاعِدًا، فَأَمَّا مَنْ كَانَ رَاكِبًا فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقِفَ، وَيَكُونُ الْوُقُوفُ فِي حَقِّهِ كَالْقِيَامِ فِي حَقِّ الْقَاعِدِ، وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا عَلَى أَنَّ شُهُودَ الْجِنَازَةِ لَا يَجِبُ عَلَى الْأَعْيَانِ.

49 -

بَاب مَنْ قَامَ لِجَنَازَةِ يَهُودِيٍّ

1311 -

حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: مَرَّ بِنَا جَنَازَةٌ، فَقَامَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقُمْنَا بِهِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ، قَالَ: إِذَا رَأَيْتُمْ الْجِنَازَةَ فَقُومُوا.

1312 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى قَالَ: كَانَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ قَاعِدَيْنِ بِالْقَادِس يَّةِ، فَمَرُّوا عَلَيْهِمَا بِجَنَازَةٍ، فَقَامَا، فَقِيلَ لَهُمَا: إِنَّهَا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ

ص: 179

أَيْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَقَالَا: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ، فَقَامَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ. فَقَالَ: أَلَيْسَتْ نَفْسًا؟

1313 -

وَقَالَ أَبُو حَمْزَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: كُنْتُ مَعَ قَيْسٍ، وَسَهْلٍ رضي الله عنهما، فَقَالَا: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَقَالَ زَكَرِيَّاءُ عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى: كَانَ أَبُو مَسْعُودٍ، وَقَيْسٌ يَقُومَانِ لِلْجَنَازَةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ قَامَ لِجِنَازَةِ يَهُودِيٍّ) أَيْ أَوْ نَحْوِهِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا هِشَامٌ) هُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ وَ (يَحْيَى) هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ.

قَوْلُهُ: (مُرَّ بِنَا) بِضَمِّ الْمِيمِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مَرَّتْ بِفَتْحِ الْمِيمِ.

قَوْلُهُ: (فَقَامَ)، زَادَ غَيْرُ كَرِيمَةَ لَهَا.

قَوْلُهُ: (فَقُمْنَا) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَقُمْنَا بِالْوَاوِ، وَزَادَ الْأَصِيلِيُّ وَكَرِيمَةُ: لَهُ، وَالضَّمِيرُ لِلْقِيَامِ، أَيْ لِأَجْلِ قِيَامِهِ، وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى فَلَمَّا ذَهَبْنَا لِنَحْمِلَ قِيلَ: إِنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ. زَادَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي قِلَابَةَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ فَضَالَةَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ: فَقَالَ: إِنَّ الْمَوْتَ فَزَعٌ. وَكَذَا لِمُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ هِشَامٍ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَوْتَ يُفْزَعُ مِنْهُ، إِشَارَةٌ إِلَى اسْتِعْظَامِهِ، وَمَقْصُودُ الْحَدِيثِ أَنْ لَا يَسْتَمِرَّ الْإِنْسَانُ عَلَى الْغَفْلَةِ بَعْدَ رُؤْيَةِ الْمَوْتِ، لِمَا يُشْعِرُ ذَلِكَ مِنَ التَّسَاهُلِ بِأَمْرِ الْمَوْتِ، فَمِنْ ثَمَّ اسْتَوَى فِيهِ كَوْنُ الْمَيِّتِ مُسْلِمًا أَوْ غَيْرَ مُسْلِمٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: جَعْلُ نَفْسِ الْمَوْتِ فَزَعًا مُبَالَغَةٌ، كَمَا يُقَالُ: رَجُلٌ عَدْلٌ، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: هُوَ مَصْدَرٌ جَرَى مَجْرَى الْوَصْفِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَفِيهِ تَقْدِيرٌ؛ أَيِ الْمَوْتُ ذُو فَزَعٍ. انْتَهَى. وَيُؤَيِّدُ الثَّانِي رِوَايَةُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: إِنَّ لِلْمَوْتِ فَزَعًا. أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ عِنْدَ الْبَزَّارِ، قَالَ: وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ يَنْبَغِي لِمَنْ رَآهَا أَنْ يَقْلَقَ مِنْ أَجْلِهَا وَيَضْطَرِبَ، وَلَا يَظْهَرُ مِنْهُ عَدَمُ الِاحْتِفَالِ وَالْمُبَالَاةِ.

قَوْلُهُ: (فَمَرُّوا عَلَيْهِمَا) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْحَمَوِيِّ: عَلَيْهِمْ أَيْ عَلَى قَيْسٍ، وَهُوَ ابْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَسَهْلٍ، وَهُوَ ابْنُ حُنَيْفٍ، وَمَنْ كَانَ حِينَئِذٍ مَعَهُمَا.

قَوْلُهُ: (مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، أَيْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ) كَذَا فِيهِ بِلَفْظِ: (أَيِ) الَّتِي يُفَسَّرُ بِهَا، وَهِيَ رِوَايَةُ الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ أَنَّهُ شَرَحَهُ بِلَفْظِ:(أَوِ) الَّتِي لِلشَّكِّ، وَقَالَ: لَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ، وَقِيلَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ: أَهْلُ الْأَرْضِ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا فَتَحُوا الْبِلَادَ أَقَرُّوهُمْ عَلَى عَمَلِ الْأَرْضِ وَحَمْلِ الْخَرَاجِ.

قَوْلُهُ: (أَلَيْسَتْ نَفْسًا) هَذَا لَا يُعَارِضُ التَّعْلِيلَ الْمُتَقَدِّمَ حَيْثُ قَالَ: إِنَّ لِلْمَوْتِ فَزَعًا. عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَكَذَا مَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا، فَقَالَ: إِنَّمَا قُمْنَا لِلْمَلَائِكَةِ. وَنَحْوَهُ لِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى، وَلِأَحْمَدَ، وَابْنِ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا: إِنَّمَا تَقُومُونَ إِعْظَامًا لِلَّذِي يَقْبِضُ النُّفُوسَ. وَلَفْظُ ابْنِ حِبَّانَ: إِعْظَامًا لِلَّهِ الَّذِي يَقْبِضُ الْأَرْوَاحَ. فَإِنَّ ذَلِكَ أَيْضًا لَا يُنَافِي التَّعْلِيلَ السَّابِقَ، لِأَنَّ الْقِيَامَ لِلْفَزَعِ مِنَ الْمَوْتِ فِيهِ تَعْظِيمٌ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَتَعْظِيمٌ لِلْقَائِمِينَ بِأَمْرِهِ فِي ذَلِكَ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: إِنَّمَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَأَذِّيًا بِرِيحِ الْيَهُودِيِّ. زَادَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشٍ بِالتَّحْتَانِيَّةِ وَالْمُعْجَمَةِ: فَآذَاهُ رِيحُ بَخُورِهَا. وَلِلطَّبَرَانِيِّ، وَالْبَيْهَقِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْحَسَنِ: كَرَاهِيَةَ أَنْ تَعْلُوَ رَأْسَهُ. فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُعَارِضُ الْأَخْبَارَ الْأُولَى الصَّحِيحَةَ، أَمَّا أَوَّلًا، فَلِأَنَّ أَسَانِيدَهَا لَا تُقَاوِمُ تِلْكَ فِي الصِّحَّةِ، وَأَمَّا ثَانِيًا، فَلِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى مَا فَهِمَهُ الرَّاوِي، وَالتَّعْلِيلُ الْمَاضِي صَرِيحٌ مِنْ لَفْظِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَكَأَنَّ الرَّاوِيَ لَمْ يَسْمَعِ التَّصْرِيحَ بِالتَّعْلِيلِ مِنْهُ فَعَلَّلَ بِاجْتِهَادِهِ.

وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ

ص: 180

مِنْ طَرِيقِ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ عَمِّهِ يَزِيدَ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَطَلَعَتْ جِنَازَةٌ، فَلَمَّا رَآهَا قَامَ، وَقَامَ أَصْحَابُهُ حَتَّى بَعُدَتْ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مِنْ شَأْنِهَا أَوْ مِنْ تَضَايُقِ الْمَكَانِ، وَمَا سَأَلْنَاهُ عَنْ قِيَامِهِ. وَمُقْتَضَى التَّعْلِيلِ بِقَوْلِهِ: أَلَيْسَتْ نَفْسًا أَنَّ ذَلِكَ يُسْتَحَبُّ لِكُلِّ جِنَازَةٍ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ فِي التَّرْجَمَةِ عَلَى الْيَهُودِيِّ وُقُوفًا مَعَ لَفْظِ الْحَدِيثِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ، فَقَالَ: هَذَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا أَوْ يَكُونَ قَامَ لِعِلَّةٍ، وَأَيُّهُمَا كَانَ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ تَرَكَهُ بَعْدَ فِعْلِهِ، وَالْحُجَّةُ فِي الْآخِرِ مِنْ أَمْرِهِ، وَالْقُعُودُ أَحَبُّ إِلَيَّ. انْتَهَى. وَأَشَارَ بِالتَّرْكِ إِلَى حَدِيثِ عَلِيٍّ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَامَ لِلْجِنَازَةِ، ثُمَّ قَعَدَ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: يَحْتَمِلُ قَوْلَ عَلِيٍّ: ثُمَّ قَعَدَ. أَيْ بَعْدَ أَنْ جَاوَزَتْهُ وَبَعُدَتْ عَنْهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ كَانَ يَقُومُ فِي وَقْتٍ، ثُمَّ تَرَكَ الْقِيَامَ أَصْلًا، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِعْلُهُ الْأَخِيرُ قَرِينَةً فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمْرِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ النَّدْبُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَسْخًا لِلْوُجُوبِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ ظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ لِأَنَّ احْتِمَالَ الْمَجَازِ - يَعْنِي فِي الْأَمْرِ - أَوْلَى مِنْ دَعْوَى النَّسْخِ. انْتَهَى. وَالِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ يَدْفَعُهُ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ، أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى قَوْمٍ قَامُوا: أَنْ يَجْلِسُوا، ثُمَّ حَدَّثَهُمُ الْحَدِيثَ.

وَمِنْ ثَمَّ قَالَ بِكَرَاهَةِ الْقِيَامِ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ سُلَيْمٌ الرَّازِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: قُعُودُهُ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ أَمْرِهِ بِالْقِيَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلنَّدْبِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَسْخًا، لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِنَهْيٍ أَوْ بِتَرْكٍ مَعَهُ نَهْيٌ. انْتَهَى. وَقَدْ وَرَدَ مَعْنَى النَّهْيِ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُومُ لِلْجِنَازَةِ، فَمَرَّ بِهِ حَبْرٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ: هَكَذَا نَفْعَلُ، فَقَالَ: اجْلِسُوا وَخَالِفُوهُمْ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ إِلَّا النَّسَائِيَّ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِسْنَادُهُ ضَعِيفًا لَكَانَ حُجَّةً فِي النَّسْخِ. وَقَالَ عِيَاضٌ: ذَهَبَ جَمْعٌ مِنَ السَّلَفِ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْقِيَامِ مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ، وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ النَّسْخَ لَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِلَّا إِذَا تَعَذَّرَ الْجَمْعُ، وَهُوَ هُنَا مُمْكِنٌ. قَالَ: وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، وَبِهِ قَالَ الْمُتَوَلِّي. انْتَهَى. وَقَوْلُ صَاحِبِ الْمُهَذَّبِ: هُوَ عَلَى التَّخْيِيرِ، كَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ الْمُتَقَدِّمِ لِمَا تَقْتضِيهِ صِيغَةُ أَفْعَلَ مِنَ الِاشْتِرَاكِ، وَلَكِنَّ الْقُعُودَ عِنْدَهُ أَوْلَى، وَعَكْسُهُ قَوْلُ ابْنِ حَبِيبٍ، وَابْنِ الْمَاجِشُونِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: كَانَ قُعُودُهُ صلى الله عليه وسلم لِبَيَانِ الْجَوَازِ، فَمَنْ جَلَسَ فَهُوَ فِي سَعَةٍ، وَمَنْ قَامَ فَلَهُ أَجْرٌ.

وَاسْتُدِلَّ بِحَدِيثِ الْبَابِ عَلَى جَوَازِ إِخْرَاجِ جَنَائِزِ أَهْلِ الذِّمَّةِ نَهَارًا غَيْرِ مُتَمَيِّزَةٍ عَنْ جَنَائِزِ الْمُسْلِمِينَ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ، قَالَ: وَإِلْزَامُهُمْ بِمُخَالَفَةِ رُسُومِ الْمُسْلِمِينَ وَقَعَ اجْتِهَادًا مِنَ الْأَئِمَّةِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِذَا ثَبَتَ النَّسْخُ لِلْقِيَامِ تَبِعَهُ مَا عَدَاهُ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عِنْدَ مَشْرُوعِيَّةِ الْقِيَامِ، فَلَمَّا تُرِكَ الْقِيَامُ مُنِعَ مِنَ الْإِظْهَارِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو حَمْزَةَ) هُوَ السُّكَّرِيُّ، وَعَمْرٌو هُوَ ابْنُ مُرَّةَ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَقَدْ وَصَلَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدَانَ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، وَلَفْظُهُ نَحْوُ حَدِيثِ شُعْبَةَ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَتِهِ: فَمَرَّتْ عَلَيْهِمَا جِنَازَةٌ فَقَامَا، وَلَمْ يَقُلْ فِيهِ: بِالْقَادِسِيَّةِ.

وَأَرَادَ الْمُصَنِّفُ بِهَذَا التَّعْلِيقِ بَيَانَ سَمَاعِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى لِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ سَهْلٍ وَقَيْسٍ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ زَكَرِيَّاءُ) هُوَ ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، وَطَرِيقُهُ هَذِهِ مَوْصُولَةٌ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْهُ. وَأَبُو مَسْعُودٍ الْمَذْكُورُ فِيهَا هُوَ الْبَدْرِيُّ، وَيُجْمَعُ بَيْنَ مَا وَقَعَ فِيهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ بِأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى ذَكَرَ قَيْسًا، وَسَهْلًا مُفْرَدَيْنِ لِكَوْنِهِمَا رَفَعَا لَهُ الْحَدِيثَ، وَذَكَرَهُ مَرَّةً أُخْرَى عَنْ قَيْسٍ، وَأَبِي مَسْعُودٍ لِكَوْنِ أَبِي مَسْعُودٍ لَمْ يَرْفَعْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌50 - بَاب حَمْلِ الرِّجَالِ الْجِنَازَةَ دُونَ النِّسَاءِ

1314 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ

ص: 181

رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا وُضِعَتْ الْجِنَازَةُ وَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ: قَدِّمُونِي، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قَالَتْ: يَا وَيْلَهَا، أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا، يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الْإِنْسَانَ، وَلَوْ سَمِعَهُ صَعِقَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ حَمْلِ الرِّجَالِ الْجِنَازَةَ دُونَ النِّسَاءِ) قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: لَيْسَتِ الْحُجَّةُ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ بِظَاهِرَةٍ فِي مَنْعِ النِّسَاءِ، لِأَنَّهُ مِنَ الْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ عَلَى شَرْطٍ. وَلَيْسَ فِيهِ أَنْ لَا يَكُونَ الْوَاقِعُ إِلَّا ذَلِكَ، ولَوْ سُلِّمَ فَهُوَ مِنْ مَفْهُومِ اللَّقَبِ. ثُمَّ أَجَابَ بِأَنَّ كَلَامَ الشَّارِعِ مَهْمَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى التَّشْرِيعِ لَا يُحْمَلُ عَلَى مُجَرَّدِ الْإِخْبَارِ عَنِ الْوَاقِعِ، وَيُؤَيِّدُهُ الْعُدُولُ عَنِ الْمُشَاكَلَةِ فِي الْكَلَامِ حَيْثُ قَالَ: إِذَا وُضِعَتْ فَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ، وَلَمْ يَقُلْ: فَاحْتَمَلَتْ، فَلَمَّا قَطَعَ احْتَمَلَتْ عَنْ مُشَاكَلَةِ وُضِعَتْ دَلَّ عَلَى قَصْدِ تَخْصِيصِ الرِّجَالِ بِذَلِكَ، وَأَيْضًا فَجَوَازُ ذَلِكَ لِلنِّسَاءِ وَإِنْ كَانَ يُؤْخَذُ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، لَكِنَّهُ مُعَارَضٌ بِأَنَّ فِي الْحَمْلِ عَلَى الْأَعْنَاقِ وَالْأَمْرِ بِالْإِسْرَاعِ مَظِنَّةَ الِانْكِشَافِ غَالِبًا، وَهُوَ مُبَايِنٌ لِلْمَطْلُوبِ مِنْهُنَّ مِنَ التَّسَتُّرِ مَعَ ضَعْفِ نُفُوسِهِنَّ عَنْ مُشَاهَدَةِ الْمَوْتَى غَالِبًا، فَكَيْفَ بِالْحَمْلِ، مَعَ مَا يُتَوَقَّعُ مِنْ صُرَاخِهِنَّ عِنْدَ حَمْلِهِ وَوَضْعِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْمَفَاسِدِ؟. انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَقَدْ وَرَدَ مَا هُوَ أَصْرَحُ مِنْ هَذَا فِي مَنْعِهِنَّ، وَلَكِنَّهُ عَلَى غَيْرِ شَرْطِ الْمُصَنِّفِ، وَلَعَلَّهُ أَشَارَ إِلَيْهِ وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ

(1)

. قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي جِنَازَةٍ، فَرَأَى نِسْوَةً، فَقَالَ: أَتَحْمِلْنَهُ؟ قُلْنَ: لَا. قَالَ: أَتَدْفِنَّهُ؟ قُلْنَ: لَا. قَالَ: فَارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُورَاتٍ. .

وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَالسَّبَبُ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ، وَلِأَنَّ الْجِنَازَةَ لَا بُدَّ أَنْ يُشَيِّعَهَا الرِّجَالُ، فَلَوْ حَمَلَهَا النِّسَاءُ لَكَانَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى اخْتِلَاطِهِنَّ بِالرِّجَالِ فَيُفْضِي إِلَى الْفِتْنَةِ. وَقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: قَدْ عَذَرَ اللَّهُ النِّسَاءَ لِضَعْفِهِنَّ حَيْثُ قَالَ: {إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ} الْآيَةَ، وَتَعَقَّبَهُ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِهِنَّ بِالضَّعْفِ، بَلْ عَلَى الْمُسَاوَاةِ. انْتَهَى. وَالْأَوْلَى أَنَّ ضَعْفَ النِّسَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرِّجَالِ مِنَ الْأُمُورِ الْمَحْسُوسَةِ الَّتِي لَا تَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ خَاصٍّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ) لِسَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ فِيهِ إِسْنَادٌ آخَرُ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْهُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَقَالَ: الطَّرِيقَانِ جَمِيعًا مَحْفُوظَانِ.

قَوْلُهُ: (إِذَا وُضِعَتِ الْجِنَازَةُ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ الْمَذْكُورَةِ: إِذَا وُضِعَ الْمَيِّتُ عَلَى السَّرِيرِ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجِنَازَةِ الْمَيِّتُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُطْلَقُ عَلَى الْمَيِّتِ، وَعَلَى السَّرِيرِ الَّذِي يُحْمَلُ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ بَعْدَ بَابٍ.

‌51 - بَاب السُّرْعَةِ بِالْجِنَازَةِ.

وَقَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه: أَنْتُمْ مُشَيِّعُونَ. وَامْشِ بَيْنَ يَدَيْهَا وَخَلْفَهَا وَعَنْ يَمِينِهَا وَعَنْ شِمَالِهَا وَقَالَ غَيْرُهُ: قَرِيبًا مِنْهَا

1315 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَفِظْنَاهُ مِنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي

(1)

وأصح من الحديث فيما يتعلق بنهي النساء عن حمل الجنازة ما تقدم من حديث أم عطية قالت "نهينا عن اتباع الجنائز، ولم يعزم علينا" أخرجه الشيخان. والله أعلم

ص: 182

هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ، فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إليه، وَإِنْ يَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ.

قَوْلُهُ: (بَابُ السُّرْعَةِ بِالْجِنَازَةِ) أَيْ بَعْدَ أَنْ تُحْمَلَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَنَسٌ: أَنْتُمْ مُشَيِّعُونَ، فَامْشِ) وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فَامْشُوا، وَأَثَرُ أَنَسٍ هَذَا وَصَلَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ الْخَفَّافُ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ لَهُ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْمَشْيِ فِي الْجِنَازَةِ فَقَالَ: أَمَامَهَا وَخَلْفَهَا، وَعَنْ يَمِينِهَا وَشِمَالِهَا، إِنَّمَا أَنْتُمْ مُشَيِّعُونَ. وَرَوَيْنَاهُ عَالِيًا فِي رُبَاعِيَّاتِ أَبِي بَكْرٍ الشَّافِعِيِّ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ حُمَيْدٍ كَذَلِكَ، وَبِنَحْوِهِ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنْ حُمَيْدٍ سَمِعَتُ الْعَيْزَارَ - يَعْنِي ابْنَ حُرَيْثٍ - سألَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ - يَعْنِي عَنِ الْمَشْيِ مَعَ الْجِنَازَةِ - فَقَالَ: إِنَّمَا أَنْتَ مُشَيِّعٌ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. فَاشْتَمَلَ عَلَى فَائِدَتَيْنِ: تَسْمِيَةِ السَّائِلِ، وَالتَّصْرِيحِ بِسَمَاعِ حُمَيْدٍ. قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: مُطَابَقَةُ هَذَا الْأَثَرِ لِلتَّرْجَمَةِ أَنَّ الْأَثَرَ يَتَضَمَّنُ التَّوْسِعَةَ عَلَى الْمُشَيِّعِينَ وَعَدَمِ الْتِزَامِهِمْ جِهَةً مُعَيَّنَةً، وَذَلِكَ لِمَا عُلِمَ مِنْ تَفَاوُتِ أَحْوَالِهِمْ فِي الْمَشْيِ، وَقَضِيَّةُ الْإِسْرَاعِ بِالْجِنَازَةِ أَنْ لَا يُلْزَمُوا بِمَكَانٍ وَاحِدٍ يَمْشُونَ فِيهِ لِئَلَّا يَشُقُّ عَلَى بَعْضِهِمْ مِمَّنْ يَضْعُفُ فِي الْمَشْيِ عَمَّنْ يَقْوَى عَلَيْهِ، وَمُحَصِّلُهُ أَنَّ السُّرْعَةَ لَا تَتَّفِقُ غَالِبًا إِلَّا مَعَ عَدَمِ الْتِزَامِ الْمَشْيِ فِي جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ فَتَنَاسَبَا، وَقَدْ سَبَقَ إِلَى نَحْوِ ذَلِكَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْمُرَابِطِ فَقَالَ: قَوْلُ أَنَسٍ لَيْسَ مِنْ مَعْنَى التَّرْجَمَةِ إِلَّا مِنْ وَجْهِ أَنَّ النَّاسَ فِي مَشْيِهِمْ مُتَفَاوِتُونَ.

وَقَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَفْظُ الْمَشْيِ وَالتَّشْيِيعِ فِي أَثَرِ أَنَسٍ أَعَمُّ مِنَ الْإِسْرَاعِ وَالْبُطْءِ، فَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنْ يُفَسِّرَ أَثَرَ أَنَسٍ بِالْحَدِيثِ، قَالَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ بِقَوْلِ أَنَسٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِسْرَاعِ مَا لَا يَخْرُجُ عَنِ الْوَقَارِ لِمُتَّبِعِهَا بِالْمِقْدَارِ الَّذِي يَصْدُقُ عَلَيْهِ بِهِ الْمُصَاحَبَةُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ غَيْرُهُ قَرِيبًا مِنْهَا) أَيْ قَالَ غَيْرُ أَنَسٍ مِثْلَ قَوْلِ أَنَسٍ، وَقَيَّدَ ذَلِكَ بِالْقُرْبِ مِنَ الْجِنَازَةِ، لِأَنَّ مَنْ بَعُدَ عَنْهَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّهُ مَشَى أَمَامَهَا وَخَلْفَهَا مَثَلًا، وَالْغَيْرُ الْمَذْكُورُ أَظُنُّهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ قُرْطٍ بِضَمِّ الْقَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا مِسْكِينُ بْنُ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ رُوَيْمٍ قَالَ: شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ قُرْطٍ جِنَازَةً، فَرَأَى نَاسًا تَقَدَّمُوا وَآخَرِينَ اسْتَأْخَرُوا، فَأَمَرَ بِالْجِنَازَةِ فَوُضِعَتْ، ثُمَّ رَمَاهُمْ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى اجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا، فَحُمِلَتْ ثُمَّ قَالَ: بَيْنَ يَدَيْهَا وَخَلْفَهَا وَعَنْ يَمِينِهَا وَعَنْ شِمَالِهَا وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمَذْكُورُ صَحَابِيٌّ، ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، وَكَانَ وَالِيًا عَلَى حِمْصَ فِي زَمَنِ عُمَرَ، وَدَلَّ إِيرَادُ الْبُخَارِيِّ لِأَثَرِ أَنَسٍ الْمَذْكُورِ عَلَى اخْتِيَارِ هَذَا الْمَذْهَبِ هُوَ التَّخْيِيرُ فِي الْمَشْيِ مَعَ الْجِنَازَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَبِهِ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ، لَكِنْ قَيَّدَهُ بِالْمَاشِي اتِّبَاعًا لِمَا أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ مَرْفُوعًا: الرَّاكِبُ خَلْفَ الْجِنَازَةِ وَالْمَاشِي حَيْثُ شَاءَ مِنْهَا. وَعَنِ النَّخَعِيِّ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ فِي الْجِنَازَةِ نِسَاءٌ مَشَى أَمَامَهَا، وَإِلَّا فَخَلْفَهَا.

وَفِي الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبَانِ آخَرَانِ مَشْهُورَانِ: فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمَشْيَ أَمَامَهَا أَفْضَلُ، وَفِيهِ حَدِيثٌ لِابْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ، إِلَّا أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ، وَيُعَارِضُهُ مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: الْمَشْيُ خَلْفَهَا أَفْضَلُ مِنَ الْمَشْيِ أَمَامَهَا كَفَضْلِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ. إِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَهُوَ مَوْقُوفٌ لَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ، لَكِنْ حَكَى الْأَثْرَمُ، عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي إِسْنَادِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ تَبِعَهُمَا.

قَوْلُهُ: (حَفِظْنَاهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي عَنْ بَدَلَ مِنْ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي سَمَاعَهُ مِنْهُ بِخِلَافِ رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَقَدْ صَرَّحَ الْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ بِسَمَاعِ سُفْيَانَ لَهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ.

ص: 183

قَوْلُهُ: (عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ) كَذَا قَالَ سُفْيَانُ وَتَابَعَهُ مَعْمَرٌ، وَابْنُ أَبِي حَفْصَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَخَالَفَهُمْ يُونُسُ، فَقَالَ: عَنِ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ لِلزُّهْرِيِّ فِيهِ شَيْخَيْنِ.

قَوْلُهُ: (أَسْرِعُوا) نَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ لِلِاسْتِحْبَابِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَشَذَّ ابْنُ حَزْمٍ فَقَالَ بِوُجُوبِهِ. وَالْمُرَادُ بِالْإِسْرَاعِ شِدَّةُ الْمَشْيِ وَعَلَى ذَلِكَ حَمَلَهُ بَعْضُ السَّلَفِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ. قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَيَمْشُونَ بِهَا مُسْرِعِينَ دُونَ الْخَبَبِ، وَفِي الْمَبْسُوطِ: لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مُؤَقَّتٌ، غَيْرَ أَنَّ الْعَجَلَةَ أَحَبُّ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ: الْمُرَادُ بِالْإِسْرَاعِ مَا فَوْقَ سَجِيَّةِ الْمَشْيِ الْمُعْتَادِ، وَيُكْرَهُ الْإِسْرَاعُ الشَّدِيدُ. وَمَالَ عِيَاضٌ إِلَى نَفْيِ الْخِلَافِ، فَقَالَ: مَنِ اسْتَحَبَّهُ أَرَادَ الزِّيَادَةَ عَلَى الْمَشْيِ الْمُعْتَادِ، وَمَنْ كَرِهَهُ أَرَادَ الْإِفْرَاطَ فِيهِ كَالرَّمَلِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْإِسْرَاعُ، لَكِنْ بِحَيْثُ لَا يَنْتَهِي إِلَى شِدَّةٍ يُخَافُ مَعَهَا حُدُوثُ مَفْسَدَةٍ بِالْمَيِّتِ، أَوْ مَشَقَّةٍ عَلَى الْحَامِلِ أَوِ الْمُشَيِّعِ، لِئَلَّا يُنَافِيَ الْمَقْصُودَ مِنَ النَّظَافَةِ وَإِدْخَالِ الْمَشَقَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَقْصُودُ الْحَدِيثِ أَنْ لَا يُتَبَاطَأَ بِالْمَيِّتِ عَنِ الدَّفْنِ، وَلِأَنَّ التَّبَاطُؤَ رُبَّمَا أَدَّى إِلَى التَّبَاهِي وَالِاخْتِيَالِ.

قَوْلُهُ: (بِالْجِنَازَةِ) أَيْ بِحَمْلِهَا إِلَى قَبْرِهَا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى بِتَجْهِيزِهَا، فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْأَوَّلِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الثَّانِي بَاطِلٌ مَرْدُودٌ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ. وَتَعَقَّبَهُ الْفَاكِهِيُّ بِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الرِّقَابِ قَدْ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْمَعَانِي، كَمَا تَقُولُ: حَمَلَ فُلَانٌ عَلَى رَقَبَتِهِ ذُنُوبًا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: اسْتَرِيحُوا مِنْ نَظَرِ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ. قَالَ: وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْكُلَّ لَا يَحْمِلُونَهُ. انْتَهَى. وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ فَلَا تَحْبِسُوهُ، وَأَسْرِعُوا بِهِ إِلَى قَبْرِهِ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ حُصَيْنِ بْنِ وَحْوَحَ مَرْفُوعًا: لَا يَنْبَغِي لِجِيفَةِ مُسْلِمٍ أَنْ تَبْقَى بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَهْلِهِ، الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً) أَيِ الْجُثَّةُ الْمَحْمُولَةُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: جُعِلَتِ الْجِنَازَةُ عَيْنَ الْمَيِّتِ، وَجُعِلْتِ الْجِنَازَةُ الَّتِي هِيَ مَكَانَ الْمَيِّتِ مُقَدَّمَةً إِلَى الْخَيْرِ الَّذِي كُنِّيَ بِهِ عَنْ عَمَلِهِ الصَّالِحِ.

قَوْلُهُ: (فَخَيْرٌ) هُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فَهُوَ خَيْرٌ، أَوْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: فَلَهَا خَيْرٌ، أَوْ فَهُنَاكَ خَيْرٌ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ: قَرَّبْتُمُوهَا إِلَى الْخَيْرِ. وَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: فَشَرٌّ. نَظِيرُ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (تُقَدِّمُونَهَا إِلَيْهِ) الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْخَيْرِ بِاعْتِبَارِ الثَّوَابِ، قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: رُوِيَ: تُقَدِّمُونَهُ إِلَيْهَا. فَأَنَّثَ الضَّمِيرَ عَلَى تَأْوِيلِ الْخَيْرِ بِالرَّحْمَةِ أَوِ الْحُسْنَى.

قَوْلُهُ: (تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ حَمْلَ الْجِنَازَةِ يَخْتَصُّ بِالرِّجَالِ لِلْإِتْيَانِ فِيهِ بِضَمِيرِ الْمُذَكَّرِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ.

وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الْمُبَادَرَةِ إِلَى دَفْنِ الْمَيِّتِ، لَكِنْ بَعْدَ أَنْ يَتَحَقَّقَ أَنَّهُ مَاتَ، أَمَّا مَثَلُ الْمَطْعُونِ وَالْمَفْلُوجِ وَالْمَسْبُوتِ

(1)

فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُسْرَعَ بِدَفْنِهِمْ حَتَّى يَمْضِيَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ لِيَتَحَقَّقَ مَوْتُهُمْ، نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ بَزِيزَةَ.

وَيُؤْخَذُ مِنَ الْحَدِيثِ تَرْكُ صُحْبَةِ أَهْلِ الْبَطَالَةِ وَغَيْرُ الصَّالِحِينَ.

‌52 - بَاب قَوْلِ الْمَيِّتِ وَهُوَ عَلَى الْجِنَازَةِ: قَدِّمُونِي

1316 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِذَا وُضِعَتْ الْجِنَازَةُ فَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً

(1)

المطعون: هو المصاب بالطاعون، وهو داء معروف. والمفلوج: المصاب بالفالج. والمسبوت: المصاب بالغشية، يقال سبت المريض إذا غشي عليه. والتحديد في تحقيق موت مثل هؤلاء باليوم والليلة فيه نظر، والأولى عدم التحديد، بل يرجع إلى العلامات الدالة على الموت، فمتى وجد منها ما يدل على يقين الموت اكتفى بذلك وإن لم يمض يوم وليلة، والله أعلم.

ص: 184

قَالَتْ: قَدِّمُونِي. وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قَالَتْ لِأَهْلِهَا: يَا وَيْلَهَا، أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا، يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الْإِنْسَانَ، وَلَوْ سَمِعَ الْإِنْسَانُ لَصَعِقَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ الْمَيِّتِ وَهُوَ عَلَى الْجِنَازَةِ) أَيِ السَّرِيرِ (قَدِّمُونِي) أَيْ: إِنْ كَانَ صَالِحًا. ثُمَّ أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ السَّابِقِ قَبْلَ بَابٍ.

قَوْلُهُ: (إِذَا وُضِعَتِ الْجِنَازَةُ) يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْجِنَازَةِ نَفْسُ الْمَيِّتِ، وَبِوَضْعِهِ جَعْلُهُ فِي السَّرِيرِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ السَّرِيرَ، وَالْمُرَادُ: وَضْعُهَا عَلَى الْكَتِفِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ. . . . فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَيِّتُ. وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورِ بِلَفْظِ: إِذَا وُضِعَ الْمُؤْمِنُ عَلَى سَرِيرِهِ يَقُولُ: قَدِّمُونِي. الْحَدِيثَ. وَظَاهِرُهُ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ هُوَ الْجَسَدُ الْمَحْمُولُ عَلَى الْأَعْنَاقِ. وَقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: إِنَّمَا يَقُولُ ذَلِكَ الرُّوحُ، وَرَدَّهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّهُ لَا مَانِعَ أَنْ يَرُدَّ اللَّهُ الرُّوحَ إِلَى الْجَسَدِ فِي تِلْكَ الْحَالِ لِيَكُونَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي بُشْرَى الْمُؤْمِنِ وَبُؤْسِ الْكَافِرِ. وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ، وَزَادَ: وَيَكُونُ ذَلِكَ مَجَازًا بِاعْتِبَارِ مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ الْحَالُ بَعْدَ إِدْخَالِ الْقَبْرِ وَسُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ. قُلْتُ: وَهُوَ بَعِيدٌ وَلَا حَاجَةَ إِلَى دَعْوَى إِعَادَةِ الرُّوحِ إِلَى الْجَسَدِ قَبْلَ الدَّفْنِ، لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، فَمِنَ الْجَائِزِ أَنْ يُحْدِثَ اللَّهُ النُّطْقَ فِي الْمَيِّتِ إِذَا شَاءَ. وَكَلَامُ ابْنِ بَطَّالٍ فِيمَا يَظْهَرُ لِي أَصْوَبُ. وَقَالَ ابْنُ بَزِيزَةَ. قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيْءٍ دَالٌّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ بِلِسَانِ الْقَالِ لَا بِلِسَانِ الْحَالِ.

قَوْلُهُ: (وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ ذَلِكَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: غَيْرَ صَالِحَةٍ.

قَوْلُهُ: (قَالَتْ لِأَهْلِهَا) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ لِأَجْلِ أَهْلِهَا إِظْهَارًا لِوُقُوعِهِ فِي الْهَلَكَةِ، وَكُلُّ مَنْ وَقَعَ فِي الْهَلَكَةِ دَعَا بِالْوَيْلِ. وَمَعْنَى النِّدَاءِ: يَا حُزْنِي. وَأَضَافَ الْوَيْلَ إِلَى ضَمِيرِ الْغَائِبِ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى كَرَاهِيَةَ أَنْ يُضِيفَ الْوَيْلَ إِلَى نَفْسِهِ، أَوْ كَأَنَّهُ لَمَّا أَبْصَرَ نَفْسَهُ غَيْرَ صَالِحَةٍ نَفَرَ عَنْهَا، وَجَعَلَهَا كَأَنَّهَا غَيْرُهُ. وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ أَنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورَةِ: قَالَ: يَا وَيْلَتَاهُ، أَيْنَ تَذْهَبُونَ بِي. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ.

قَوْلُهُ: (لَصَعِقَ) أَيْ لَغُشِيَ عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ مَا يَسْمَعُهُ، وَرُبَّمَا أُطْلِقَ ذَلِكَ عَلَى الْمَوْتِ، وَالضَّمِيرُ فِي (يَسْمَعُهُ) رَاجِعٌ إِلَى دُعَائِهِ بِالْوَيْلِ؛ أَيْ يَصِيحُ بِصَوْتٍ مُنْكَرٍ، لَوْ سَمِعَهُ الْإِنْسَانُ لَغُشِيَ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ بَزِيزَةَ: هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْمَيِّتِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ صَالِحٍ، وَأَمَّا الصَّالِحُ فَمِنْ شَأْنِهِ اللُّطْفُ وَالرِّفْقُ فِي كَلَامِهِ، فَلَا يُنَاسِبُ الصَّعْقُ مِنْ سَمَاعِ كَلَامِهِ. انْتَهَى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَحْصُلَ الصَّعْقُ مِنْ سَمَاعِ كَلَامِ الصَّالِحِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَأْلُوفٍ، وَقَدْ رَوَى أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ مَنْدَهْ هَذَا الْحَدِيثَ فِي كِتَابِ الْأَهْوَالِ بِلَفْظِ: لَوْ سَمِعَهُ الْإِنْسَانُ لَصَعِقَ مِنَ الْمُحْسِنِ وَالْمُسِيءِ. فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْمَفْعُولَ دَلَّ عَلَى وُجُودِ الصَّعْقِ عِنْدَ سَمَاعِ كَلَامِ الصَّالِحِ أَيْضًا، وَقَدِ اسْتَشْكَلَ هَذَا مَعَ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ السُّؤَالِ فِي الْقَبْرِ: فَيَضْرِبُهُ ضَرْبَةً فَيُصْعَقُ صَعْقَةً يَسْمَعُهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ. وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا الْمَيِّتُ وَالصَّعْقُ، وَالْأَوَّلُ اسْتُثْنِيَ فِيهِ الْإِنْسُ فَقَطْ، وَالثَّانِي اسْتُثْنِيَ فِيهِ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ. وَالْجَوَابُ أَنَّ كَلَامَ الْمَيِّتِ بِمَا ذُكِرَ لَا يَقْتَضِي وُجُودَ الصَّعْقِ - وَهُوَ الْفَزَعُ - إِلَّا مِنَ الْآدَمِيِّ لِكَوْنِهِ لَمْ يَأْلَفْ سَمَاعَ كَلَامِ الْمَيِّتِ، بِخِلَافِ الْجِنِّ فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا الصَّيْحَةُ الَّتِي يَصِيحُهَا الْمَضْرُوبُ، فَإِنَّهَا غَيْرُ مَأْلُوفَةٍ لِلْإِنْسِ وَالْجِنِّ جَمِيعًا، لِكَوْنِ سَبَبِهَا عَذَابَ اللَّهِ، وَلَا شَيْءَ أَشَدُّ مِنْهُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ فَاشْتَرَكَ فِيهِ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ كَلَامَ الْمَيِّتِ يَسْمَعُهُ كُلُّ حَيَوَانٍ نَاطِقٍ وَغَيْرِ نَاطِقٍ، لَكِنْ قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: هُوَ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ، وَإِنَّ الْمَعْنَى: يَسْمَعهُ مَنْ لَهُ عَقْلٌ كَالْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ، لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ رُوحٌ، وَإِنَّمَا يَسْمَعُ الرُّوحَ مَنْ هُوَ رُوحٌ مِثْلُهُ. وَتُعُقِّبَ بِمَنْعِ الْمُلَازَمَةِ إِذْ لَا ضَرُورَةَ إِلَى التَّخْصِيصِ، بَلْ لَا يُسْتَثْنَى إِلَّا الْإِنْسَانُ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْخَبَرِ، وَإِنَّمَا اخْتُصَّ الْإِنْسَانُ بِذَلِكَ إِبْقَاءً عَلَيْهِ،

ص: 185

وَبِأَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنَ إِنْطَاقِ اللَّهِ الْجَسَدَ بِغَيْرِ رُوحٍ كَمَا تَقَدَّمَ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

‌53 - بَاب مَنْ صَفَّ صَفَّيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً عَلَى الْجِنَازَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ

1317 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى النَّجَاشِيِّ، فَكُنْتُ فِي الصَّفِّ الثَّانِي أَوْ الثَّالِثِ.

[الحديث 1317 - أطرافه في: 1320، 1334، 3877، 3878، 3879]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ صَفَّ صَفَّيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً عَلَى الْجِنَازَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي الصَّلَاةِ عَلَى النَّجَاشِيِّ، وَفِيهِ: كُنْتُ فِي الصَّفِّ الثَّانِي أَوِ الثَّالِثِ. وَقَدِ اعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ فِي الصَّفِّ الثَّانِي أَوِ الثَّالِثِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُنْتَهَى الصُّفُوفِ، وَبِأَنَّهُ لَيْسَ فِي السِّيَاقِ مَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الصُّفُوفِ خَلْفَ الْإِمَامِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الزَّائِدِ، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قِصَّةَ الصَّلَاةِ عَلَى النَّجَاشِيِّ، فَقَالَ: فَقُمْنَا فَصَفَّنَا صَفَّيْنِ. فَعُرِفَ بِهَذَا أَنَّ مَنْ رَوَى عَنْهُ: (كُنْتُ فِي الصَّفِّ الثَّانِي أَوِ الثَّالِثِ) شَكَّ: هَلْ كَانَ هُنَالِكَ صَفٌّ ثَالِثٌ أَمْ لَا، وَبِذَلِكَ تَصِحُّ التَّرْجَمَةُ. وَعَنِ الثَّانِي بِأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ صَرِيحًا كَمَا سَيَأْتِي فِي هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ قَتَادَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِزِيَادَةِ: فَصَفَّنَا وَرَاءَهُ. وَوَقَعَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: فَصَفُّوا خَلْفَهُ. وَسَنَذْكُرُ بَقِيَّةَ فَوَائِدِ الْحَدِيثِ فِيهِ.

‌54 - بَاب الصُّفُوفِ عَلَى الْجِنَازَةِ

1318 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: نَعَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَصْحَابِهِ النَّجَاشِيَّ، ثُمَّ تَقَدَّمَ، فَصَفُّوا خَلْفَهُ، فَكَبَّرَ أَرْبَعًا.

1319 -

حَدَّثَنَا مُسلِمٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ "أَخْبَرَنِي مَنْ شَهِدَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَى عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ فَصَفَّهُمْ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا قُلْتُ مَنْ حَدَّثَكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما"

1320 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما يَقُولُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قَدْ تُوُفِّيَ الْيَوْمَ رَجُلٌ صَالِحٌ مِنْ الْحَبَشِ فَهَلُمَّ فَصَلُّوا عَلَيْهِ قَالَ فَصَفَفْنَا فَصَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ وَنَحْنُ مَعَهُ صُفُوفٌ قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ كُنْتُ فِي الصَّفِّ الثَّانِي"

قَوْلُهُ: (بَابُ الصُّفُوفِ عَلَى الْجِنَازَةِ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ مَا مُلَخَّصُهُ: إِنَّهُ أَعَادَ التَّرْجَمَةَ، لِأَنَّ الْأُولَى لَمْ يُجْزَمْ فِيهَا بِالزِّيَادَةِ عَلَى الصَّفَّيْنِ. وَقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: أَوْمَأَ الْمُصَنِّفُ إِلَى الرَّدِّ عَلَى عَطَاءٍ حَيْثُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ فِيهَا تَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ، يَعْنِي كَمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَحَقٌّ عَلَى النَّاسِ أَنْ يُسَوُّوا صُفُوفَهُمْ عَلَى الْجَنَائِزِ كَمَا يُسَوُّونَهَا فِي الصَّلَاةِ؟ قَالَ: لَا، إِنَّمَا يُكَبِّرُونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ. وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ إِلَى مَا وَرَدَ فِي اسْتِحْبَابِ ثَلَاثَةِ صُفُوفٍ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ هُبَيْرَةَ مَرْفُوعًا: مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ صُفُوفٍ فَقَدْ

ص: 186

أَوْجَبَ. حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ

(1)

، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ إِلَّا غُفِرَ لَهُ قَالَ الطَّبَرِيُّ: يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْمَيِّتِ إِذَا لَمْ يَخْشَوْا عَلَيْهِ التَّغَيُّرَ أَنْ يَنْتَظِرُوا بِهِ اجْتِمَاعَ قَوْمٍ يَقُومُ مِنْهُمْ ثَلَاثَةُ صُفُوفٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ. انْتَهَى. وَتَعَقَّبَ بَعْضُهُمُ التَّرْجَمَةَ بِأَنَّ أَحَادِيثَ الْبَابِ لَيْسَ فِيهَا صَلَاةٌ عَلَى جِنَازَةٍ، وَإِنَّمَا فِيهَا الصَّلَاةُ عَلَى الْغَائِبِ أَوْ عَلَى مَنْ فِي الْقَبْرِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الِاصْطِفَافَ إِذَا شُرِعَ وَالْجِنَازَةُ غَائِبَةٌ فَفِي الْحَاضِرَةِ أَوْلَى. وَأَجَابَ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْجِنَازَةِ فِي التَّرْجَمَةِ الْمَيِّتُ سَوَاءٌ كَانَ مَدْفُونًا أَوْ غَيْرُ مَدْفُونٍ، فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ التَّرْجَمَةِ وَالْحَدِيثِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ سَعِيدٍ) هُوَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ كَذَا رَوَاهُ أَصْحَابُ مَعْمَرٍ الْبَصْرِيُّونَ عَنْهُ، وَكَذَا هُوَ فِي مُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، فَقَالَ فِيهِ: عَنْ سَعِيدٍ، وَأَبِي سَلَمَةَ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْهُمَا، وَكَذَا ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ مِنْ طَرِيقِ خَالِدِ بْنِ مَخْلَدٍ وَغَيْرِهِ عَنْ مَالِكٍ، وَالْمَحْفُوظُ عَنْ مَالِكٍ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ أَبِي سَلَمَةَ، كَذَا هُوَ فِي الْمُوَطَّأِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْجَنَائِزِ، وَالْمَحْفُوظُ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ نَعْيَ النَّجَاشِيِّ وَالْأَمْرَ بِالِاسْتِغْفَارِ لَهُ عِنْدَهُ عَنْ سَعِيدٍ، وَأَبِي سَلَمَةَ جَمِيعًا. وَأَمَّا قِصَّةُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالتَّكْبِيرُ، فَعِنْدَهُ عَنْ سَعِيدٍ وَحْدَهُ، كَذَا فَصَّلَهُ عُقَيْلٌ عَنْهُ، كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ خَمْسَةِ أَبْوَابٍ، وَكَذَا يَأْتِي فِي هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ مِنْ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْهُ، وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ الِاخْتِلَافَ فِيهِ وَقَالَ: إِنَّ الصَّوَابَ مَا ذَكَرْنَاهُ.

قَوْلُهُ: (نَعَى النَّجَاشِيَّ) بِفَتْحِ النُّونِ وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ شِينٌ مُعْجَمَةٌ، ثُمَّ يَاءٌ ثَقِيلَةٌ كَيَاءِ النَّسَبِ، وَقِيلَ: بِالتَّخْفِيفِ، وَرَجَّحَهُ الصَّغَانِيُّ، وَهُوَ لَقَبُ مَنْ مَلَكَ الْحَبَشَةَ، وَحَكَى الْمُطَرِّزِيُّ تَشْدِيدَ الْجِيمِ عَنْ بَعْضِهِمْ وَخَطَّأَهُ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ تَقَدَّمَ) زَادَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ مَعْمَرٍ: فَخَرَجَ وَأَصْحَابُهُ إِلَى الْبَقِيعِ، فَصَفَّنَا خَلْفَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْجَنَائِزِ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ بِلَفْظِ: فَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى الْمُصَلَّى. وَالْمُرَادُ بِالْبَقِيعِ بَقِيعُ بَطْحَانَ، أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْمُصَلَّى مَوْضِعًا مُعَدًّا لِلْجَنَائِزِ بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ غَيْرَ مُصَلَّى الْعِيدَيْنِ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْعِيدَيْنِ أَنَّ الْمُصَلَّى كَانَ بِبَطْحَانَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ) هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورُ سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ بَعْدَ اثْنَيْ عَشَرَ بَابًا.

قَوْلُهُ: (قَدْ تُوُفِّيَ الْيَوْمَ رَجُلٌ صَالِحٌ مِنَ الْحَبَشِ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ، فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: مَاتَ الْيَوْمَ عَبْدٌ لِلَّهِ صَالِحٌ أَصْحَمَةُ. وَلِلْمُصَنِّفِ فِي هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: فَقُومُوا فَصَلُّوا عَلَى أَخِيكُمْ أَصْحَمَةَ. وَسَيَأْتِي ضَبْطُ هَذَا الِاسْمِ بَعْدُ فِي بَابِ التَّكْبِيرِ عَلَى الْجِنَازَةِ.

قَوْلُهُ: (فَصَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم زَادَ الْمُسْتَمْلِي فِي رِوَايَتِهِ وَنَحْنُ صُفُوفٌ وَبِهِ يَصِحُّ مَقْصُودُ التَّرْجَمَةِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يُؤْخَذُ مَقْصُودُهَا مِنْ قَوْلِهِ: فَصَفَفْنَا لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْمُلَازِمِينَ لَهُ صلى الله عليه وسلم كَانُوا كَثِيرًا، وَلَا سِيَّمَا مَعَ أَمْرِهِ لَهُمْ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْمُصَلَّى.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ: كُنْتُ فِي الصَّفِّ الثَّانِي) وَصَلَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ بِلَفْظِ: كُنْتُ فِي الصَّفِّ الثَّانِي يَوْمَ صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى النَّجَاشِيِّ. وَوَهِمَ مَنْ نَسَبَ وَصْلَ هَذَا التَّعْلِيقِ لِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ، فَإِنَّهُ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ وَلَيْسَ فِيهِ مَقْصُودُ التَّعْلِيقِ.

وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ لِلصُّفُوفِ عَلَى الْجِنَازَةِ تَأْثِيرًا وَلَوْ كَانَ الْجَمْعُ كَثِيرًا، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ صلى الله عليه وسلم كَانُوا عَدَدًا كَثِيرًا، وَكَانَ الْمُصَلَّى فَضَاءً، وَلَا يَضِيقُ بِهِمْ لَوْ صَفُّوا فِيهِ صَفًّا وَاحِدًا، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ صَفَّهُمْ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي فَهِمَهُ مَالِكُ بْنُ هُبَيْرَةَ الصَّحَابِيُّ الْمُقَدَّمُ ذِكْرُهُ، فَكَانَ يَصُفُّ مَنْ يَحْضُرُ الصَّلَاةَ عَلَى الْجِنَازَةِ ثَلَاثَةَ صُفُوفٍ سَوَاءٌ قَلُّوا

(1)

لكن في أشناده محمد بن اسحاق، وهو مدلس، وقد رواه بالعنعنة وهي علة مؤثرة في حق المدلس، وعليه بهذا الحديث سبعة يوجد ما يشهد له بالصحة، والله أعلم

ص: 187

أَوْ كَثُرُوا. وَيَبْقَى النَّظَرُ فِيمَا إِذَا تَعَدَّدَتِ الصُّفُوفُ وَالْعَدَدُ قَلِيلٌ، أَوْ كَانَ الصَّفُّ وَاحِدًا وَالْعَدَدُ كَثِيرٌ: أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟

وَفِي قِصَّةِ النَّجَاشِيِّ عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ، لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَعْلَمَهُمْ بِمَوْتِهِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، مَعَ بُعْدِ مَا بَيْنَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ وَالْمَدِينَةِ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى مَنْعِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، لَكِنْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِنْ أُعِدَّ مَسْجِدٌ لِلصَّلَاةِ عَلَى الْمَوْتَى لَمْ يَكُنْ فِي الصَّلَاةِ فِيهِ عَلَيْهِمْ بَأْسٌ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِدْخَالُ الْمَيِّتِ الْمَسْجِدَ لَا مُجَرَّدُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَيِّتُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ جَازَتِ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ لِمَنْ هُوَ دَاخِلُهُ. وَقَالَ ابْنُ بَزِيزَةَ وَغَيْرُهُ: اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ صِيغَةُ نَهْيٍ، وَلِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ خَرَجَ بِهِمْ إِلَى الْمُصَلَّى لِأَمْرٍ غَيْرِ الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى سُهَيْلِ بْنِ بَيْضَاءَ فِي الْمَسْجِدِ، فَكَيْفَ يُتْرَكُ هَذَا الصَّرِيحُ لِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ؟ بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ إِنَّمَا خَرَجَ بِالْمُسْلِمِينَ إِلَى الْمُصَلَّى لِقَصْدِ تَكْثِيرِ الْجَمْعِ الَّذِينَ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ، وَلِإِشَاعَةِ كَوْنِهِ مَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَقَدْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ لَمْ يُدْرِكُونَهُ أَسْلَمَ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ طَرِيقِ ثَابِتٍ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ، وَالْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدٍ كِلَاهُمَا عَنْ أَنَسٍ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا صَلَّى عَلَى النَّجَاشِيِّ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: صَلَّى عَلَى عِلْجٍ مِنَ الْحَبَشَةِ، فَنَزَلَتْ:{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} الْآيَةَ.

وَلَهُ شَاهِدٌ فِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ الْكَبِيرِ مِنْ حَدِيثِ وَحْشِيِّ بْنِ حَرْبٍ وَآخَرُ عِنْدَهُ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَزَادَ فِيهِ أَنَّ الَّذِي طَعَنَ بِذَلِكَ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ الْغَائِبِ عَنِ الْبَلَدِ، وَبِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ وَجُمْهُورُ السَّلَفِ، حَتَّى قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: لَمْ يَأْتِ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مَنْعُهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ دُعَاءٌ لَهُ، وَهُوَ إِذَا كَانَ مُلَفَّفًا يُصَلَّى عَلَيْهِ، فَكَيْفَ لَا يُدْعَى لَهُ وَهُوَ غَائِبٌ أَوْ فِي الْقَبْرِ بِذَلِكَ الْوَجْهِ الَّذِي يُدْعَى لَهُ بِهِ وَهُوَ مُلَفَّفٌ؟ وَعَنِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: لَا يُشْرَعُ ذَلِكَ، وَعَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يَمُوتُ فِيهِ الْمَيِّتُ أَوْ مَا قَرُبَ مِنْهُ؛ لَا مَا إِذَا طَالَتِ الْمُدَّةُ حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: إِنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِمَنْ كَانَ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ، فَلَوْ كَانَ بَلَدُ الْمَيِّتِ مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ مَثَلًا لَمْ يَجُزْ، قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: لَمْ أَرَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ، وَحُجَّتُهُ حُجَّةُ الَّذِي قَبْلَهُ: الْجُمُودُ عَلَى قِصَّةِ النَّجَاشِيِّ، وَسَتَأْتِي حِكَايَةُ مُشَارَكَةِ الْخَطَّابِيِّ لَهُمْ فِي هَذَا الْجُمُودِ.

وَقَدِ اعْتَذَرَ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْغَائِبِ عَنْ قِصَّةِ النَّجَاشِيِّ بِأُمُورٍ:

مِنْهَا: أَنَّهُ كَانَ بِأَرْضٍ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ بِهَا أَحَدٌ، فَتَعَيَّنَتِ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ لِذَلِكَ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَا يُصَلَّى عَلَى الْغَائِبِ إِلَّا إِذَا وَقَعَ مَوْتُهُ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا مَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ. وَاسْتَحْسَنَهُ الرُّويَانِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَبِهِ تَرْجَمَ أَبُو دَاوُدَ فِي السُّنَنِ: الصَّلَاةُ عَلَى الْمُسْلِمِ يَلِيهِ أَهْلُ الشِّرْكِ بِبَلَدٍ آخَرَ. وَهَذَا مُحْتَمَلٌ إِلَّا أَنَّنِي لَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَخْبَارِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ فِي بَلَدِهِ أَحَدٌ.

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: كُشِفَ لَهُ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ حَتَّى رَآهُ، فَتَكُونُ صَلَاتُهُ عَلَيْهِ كَصَلَاةِ الْإِمَامِ عَلَى مَيِّتٍ رَآهُ، وَلَمْ يَرَهُ الْمَأْمُومُونَ، وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهَا. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: هَذَا يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ، وَلَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ. وَتَعَقَّبَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ الِاحْتِمَالَ كَافٍ فِي مِثْلِ هَذَا مِنْ جِهَةِ الْمَانِعِ، وَكَأَنَّ مُسْتَنَدَ قَائِلِ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ فِي أَسْبَابِهِ بِغَيْرِ إِسْنَادٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُشِفَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ سَرِيرِ النَّجَاشِيِّ حَتَّى رَآهُ وَصَلَّى عَلَيْهِ. وَلِابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: فَقَامَ وَصَفُّوا خَلْفَهُ وَهُمْ لَا يَظُنُّونَ إِلَّا أَنَّ جِنَازَتَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ. أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ عَنْهُ، وَلِأَبِي عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبَانَ وَغَيْرِهِ عَنْ يَحْيَى: فَصَلَّيْنَا خَلْفَهُ وَنَحْنُ لَا نَرَى إِلَّا أَنَّ الْجِنَازَةَ قُدَّامَنَا.

وَمِنَ الِاعْتِذَارَاتِ أَيْضًا أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِالنَّجَاشِيِّ، لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى مَيِّتٍ غَائِبٍ غَيْرِهِ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: وَكَأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ قِصَّةُ مُعَاوِيَةَ اللَّيْثِيِّ، وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي تَرْجَمَتِهِ فِي الصَّحَابَةِ أَنَّ خَبَرَهُ قَوِيٌّ بِالنَّظَرِ إِلَى مَجْمُوعِ طُرُقِهِ، وَاسْتَنَدَ مَنْ قَالَ بِتَخْصِيصِ النَّجَاشِيِّ لِذَلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِرَادَةِ

ص: 188

إِشَاعَةِ أَنَّهُ مَاتَ مُسْلِمًا أَوِ اسْتِئْلَافِ قُلُوبِ الْمُلُوكِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا فِي حَيَاتِهِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: لَوْ فُتِحَ بَابُ هَذَا الْخُصُوصِ لَانْسَدَّ كَثِيرٌ مِنْ ظَوَاهِرِ الشَّرْعِ، مَعَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرُوهُ لَتَوَفَّرَتِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ: قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِمُحَمَّدٍ. قُلْنَا: وَمَا عَمِلَ بِهِ مُحَمَّدٌ تَعْمَلُ بِهِ أُمَّتُهُ، يَعْنِي لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْخُصُوصِيَّةِ. قَالُوا: طُوِيَتْ لَهُ الْأَرْضُ، وَأُحْضِرَتِ الْجِنَازَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ. قُلْنَا: إِنَّ رَبَّنَا عَلَيْهِ لَقَادِرٌ، وَإِنَّ نَبِيَّنَا لَأَهْلٌ لِذَلِكَ، وَلَكِنْ لَا تَقُولُوا إِلَّا مَا رُوِّيتُمْ، وَلَا تَخْتَرِعُوا حَدِيثًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تُحَدِّثُوا إِلَّا بِالثَّابِتَاتِ، وَدَعُوا الضِّعَافَ، فَإِنَّهَا سَبِيلُ تَلَافٍ، إِلَى مَا لَيْسَ لَهُ تَلَافٍ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: قَوْلُهُمْ: رُفِعَ الْحِجَابُ عَنْهُ مَمْنُوعٌ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا فَكَانَ غَائِبًا عَنِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ صَلَّوْا عَلَيْهِ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قُلْتُ: وَسَبَقَ إِلَى ذَلِكَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي تَعْلِيقِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ مُجَمِّعِ بْنِ جَارِيَةَ - بِالْجِيمِ وَالتَّحْتَانِيَّةِ - فِي قِصَّةِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّجَاشِيِّ قَالَ: فَصَفَّنَا خَلْفَهُ صَفَّيْنِ، وَمَا نَرَى شَيْئًا. أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَأَصْلُهُ فِي ابْنِ مَاجَهْ، لَكِنْ أَجَابَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ ذَلِكَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ يَصِيرُ كَالْمَيِّتِ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْهِ الْإِمَامُ وَهُوَ يَرَاهُ وَلَا يَرَاهُ الْمَأْمُومُونَ، فَإِنَّهُ جَائِزٌ اتِّفَاقًا.

(فَائِدَةٌ): أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ أَجَازَ الصَّلَاةَ عَلَى الْغَائِبِ أَنَّ ذَلِكَ يُسْقِطُ فَرْضَ الْكِفَايَةِ، إِلَّا مَا حُكِيَ عَنِ ابْنِ الْقَطَّانِ أَحَدِ أَصْحَابِ الْوُجُوهِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ قَالَ: يَجُوزُ ذَلِكَ وَلَا يُسْقِطُ الْفَرْضَ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي عَدَدِ التَّكْبِيرِ عَلَى الْجِنَازَةِ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ.

‌55 - بَاب صُفُوفِ الصِّبْيَانِ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْجَنَائِزِ

1321 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِقَبْرٍ قَدْ دُفِنَ لَيْلًا، فَقَالَ: مَتَى دُفِنَ هَذَا؟ قَالُوا: الْبَارِحَةَ، قَالَ: أَفَلَا آذَنْتُمُونِي؟ قَالُوا: دَفَنَّاهُ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، فَكَرِهْنَا أَنْ نُوقِظَكَ. فَقَامَ فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ - قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَنَا فِيهِمْ - فَصَلَّى عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ صُفُوفِ الصِّبْيَانِ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْجَنَائِزِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: عَلَى الْجَنَائِزِ أَيْ عِنْدَ إِرَادَةِ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنِ التَّرْجَمَةِ عَلَى الْجِنَازَةِ، وَإِرَادَةِ الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى الْمَتْنِ يَأْتِي مُسْتَوْفًى بَعْدَ اثْنَيْ عَشَرَ بَابًا، وَسَيَأْتِي بَعْدَ ثَلَاثِ تَرَاجِمَ بَابُ صَلَاةِ الصِّبْيَانِ مَعَ النَّاسِ عَلَى الْجَنَائِزِ، وَذَكَرَ فِيهِ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دُونَ الْبُلُوغِ، لِأَنَّهُ شَهِدَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ وَقَدْ قَارَبَ الِاحْتِلَامَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ.

‌56 - بَاب سُنَّةِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائز

وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ صَلَّى عَلَى الْجَنَازَةِ

وَقَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ، وَقَالَ: صَلُّوا عَلَى النَّجَاشِيِّ

سَمَّاهَا صَلَاةً، لَيْسَ فِيهَا رُكُوعٌ وَلَا سُجُودٌ، وَلَا يُتَكَلَّمُ فِيهَا، وَفِيهَا تَكْبِيرٌ وَتَسْلِيمٌ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يُصَلِّي إِلَّا طَاهِرًا، وَلَا يُصَلِّي عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلَا غُرُوبِهَا، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَدْرَكْتُ النَّاسَ، وَأَحَقُّهُمْ بِالصَّلَاةِ عَلَى جَنَائِزِهِمْ مَنْ رَضُوهُمْ لِفَرَائِضِهِمْ، وَإِذَا أَحْدَثَ يَوْمَ الْعِيدِ أَوْ عِنْدَ الْجَنَازَةِ يَطْلُبُ الْمَاءَ وَلَا يَتَيَمَّمُ، وَإِذَا انْتَهَى إِلَى الْجَنَازَةِ وَهُمْ يُصَلُّونَ يَدْخُلُ مَعَهمْ بِتَكْبِيرَةٍ. وَقَالَ ابْنُ

ص: 189

الْمُسَيَّبِ: يُكَبِّرُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالسَّفَرِ وَالْحَضَرِ أَرْبَعًا. وَقَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه: التَّكْبِيرَةُ الْوَاحِدَةُ اسْتِفْتَاحُ الصَّلَاةِ، وَقَالَ:{وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} وَفِيهِ صُفُوفٌ وَإِمَامٌ.

1322 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ مَرَّ مَعَ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ، فَأَمَّنَا، فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ، فَقُلْنَا: يَا أَبَا عَمْرٍو، مَنْ حَدَّثَكَ؟ قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما.

قَوْلُهُ: (بَابُ سُنَّةِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: الْمُرَادُ بِالسُّنَّةِ مَا شَرَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا، يَعْنِي فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ، وَمُرَادُهُ بِمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنَ الْآثَارِ وَالْأَحَادِيثِ أَنَّ لَهَا حُكْمَ غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ وَالشَّرَائِطِ وَالْأَرْكَانِ، وَلَيْسَتْ مُجَرَّدَ دُعَاءٍ، فَلَا تُجْزِئُ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ مَثَلًا، وَسَيَأْتِي بَسْطُ ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ الْبَابِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ صَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ سَيَأْتِي مَوْصُولًا بَعْدَ بَابٍ، وَهَذَا اللَّفْظُ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ لِسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ سَيَأْتِي مَوْصُولًا فِي أَوَائِلِ الْحَوَالَةِ، أَوَّلُهُ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ أُتِيَ بِجِنَازَةٍ، فَقَالُوا: صَلِّ عَلَيْهَا، فَقَالَ: هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ: صَلُّوا عَلَى النَّجَاشِيِّ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ قَرِيبًا.

قَوْلُهُ: (سَمَّاهَا صَلَاةً) أَيْ يُشْتَرَطُ فِيهَا مَا يُشْتَرَطُ فِي الصَّلَاةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا رُكُوعٌ وَلَا سُجُودٌ، فَإِنَّهُ لَا يُتَكَلَّمُ فِيهَا، وَيُكَبَّرُ فِيهَا وَيُسَلَّمُ مِنْهَا بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنِ اخْتُلِفَ فِي عَدَدِ التَّكْبِيرِ وَالتَّسْلِيمِ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يُصَلِّي إِلَّا طَاهِرًا) وَصَلَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ: إِنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: لَا يُصَلِّي الرَّجُلُ عَلَى الْجِنَازَةِ إِلَّا وَهُوَ طَاهِرٌ.

قَوْلُهُ: (وَلَا يُصَلِّي عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلَا غُرُوبِهَا) وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا سُئِلَ عَنِ الْجِنَازَةِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَبَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ يَقُولُ: مَا صُلِّيَتَا لِوَقْتِهِمَا.

(تَنْبِيهٌ): مَا فِي قَوْلِهِ: (مَا صُلِّيَتَا) ظَرْفِيَّةٌ، يَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي عَلَى الْجِنَازَةِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ إِذَا صُلِّيَتَا لِوَقْتِهِمَا. وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُمَا إِذَا أُخِّرَتَا إِلَى وَقْتِ الْكَرَاهَةِ عِنْدَهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهَا حِينَئِذٍ، وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ أَيْضًا، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْمَلَةَ: إِنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ - وَقَدْ أُتِيَ بِجِنَازَةٍ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ بِغَلَسٍ -: إِمَّا أَنْ تُصَلُّوا عَلَيْهَا، وَإِمَّا أَنْ تَتْرُكُوهَا حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ. فَكَأَنَّ ابْنَ عُمَرَ يَرَى اخْتِصَاصَ الْكَرَاهَةِ بِمَا عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا لَا مُطْلَقَ مَا بَيْنَ الصَّلَاةِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ أَوْ غُرُوبِهَا. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَكْرَهُ الصَّلَاةَ عَلَى الْجِنَازَةِ إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَحِينَ تَغْرُبُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عَنْهُ وَاضِحًا فِي بَابِ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ قُبَاءَ وَإِلَى قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ ذَهَبَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالْكُوفِيُّونَ وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ.

قَوْلُهُ: (وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ) وَصَلَهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ وَالْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: إِنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي كُلِّ تَكْبِيرَةٍ عَلَى الْجِنَازَةِ. وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا، أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ

(1)

.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَسَنُ إِلَخْ) لَمْ أَرَهُ مَوْصُولًا، وَقَوْلُهُ: مَنْ رَضُوهُ فِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي: مَنْ رَضُوهُمْ بِصِيغَةِ

(1)

وأخرجه الدار قطني في "العلل" بإسناد جيد عن ابن عمر مرفوعا وصوب وقفه لأنه لم يرفعه سوي عمر بن شبة. والأظهر عدم الالتفات إلى هذه العلة لأن عمر المذكور ثقة فيقبل رفعه، لأن ذلك زيادة من ثقة وهي مقبولة على الراجح عند أئمة الحديث ويكون ذلك دليلا على شرعية رفع اليدين في تكبيرات الجنازة. والله أعلم

ص: 190

الْجَمْعِ. وَفَائِدَةُ أَثَرِ الْحَسَنِ هَذَا بَيَانُ أَنَّهُ نُقِلَ عَنِ الَّذِينَ أَدْرَكَهُمْ، وَهُوَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُلْحِقُونَ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ بِالصَّلَوَاتِ الَّتِي يُجْمَعُ فِيهَا، وَقَدْ جَاءَ عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ الْأَبُ، ثُمَّ الِابْنُ. أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ اخْتِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ جَمَاعَةٍ - مِنْهُمْ سَالِمٌ، وَالْقَاسِمُ، وَطَاوُسٌ - أَنَّ إِمَامَ الْحَيِّ أَحَقُّ. وَقَالَ عَلْقَمَةُ، وَالْأَسْوَدُ وَآخَرُونَ: الْوَالِي أَحَقُّ مِنَ الْوَلِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَالشَّافِعِيُّ: الْوَلِيُّ أَحَقُّ مِنَ الْوَالِي.

قَوْلُهُ: (وَإِذَا أَحْدَثَ يَوْمَ الْعِيدِ أَوْ عِنْدَ الْجِنَازَةِ يَطْلُبُ الْمَاءَ وَلَا يَتَيَمَّمُ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْكَلَامُ مَعْطُوفًا عَلَى أَصْلِ التَّرْجَمَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَقِيَّةَ كَلَامِ الْحَسَنِ، وَقَدْ وَجَدْتُ عَنِ الْحَسَنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافًا، فَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ شِنْظِيرٍ قَالَ: سُئِلَ الْحَسَنُ عَنِ الرَّجُلِ يَكُونُ فِي الْجِنَازَةِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ، فَإِنْ ذَهَبَ يَتَوَضَّأَ تَفُوتُهُ، قَالَ: يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي. وَعَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ مِثْلَهُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ حَفْصٍ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: لَا يَتَيَمَّمُ وَلَا يُصَلِّي إِلَّا عَلَى طُهْرٍ. وَقَدْ ذَهَبَ جَمْعٌ مِنَ السَّلَفِ إِلَى أَنَّهُ يُجْزِي لَهَا التَّيَمُّمُ لِمَنْ خَافَ فَوَاتَهَا لَوْ تَشَاغَلَ بِالْوُضُوءِ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ عَطَاءٍ، وَسَالِمٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَرَبِيعَةَ، وَاللَّيْثِ وَالْكُوفِيِّينَ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَفِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ

(1)

.

قَوْلُهُ: (وَإِذَا انْتَهَى إِلَى الْجِنَازَةِ يَدْخُلُ مَعَهُمْ بِتَكْبِيرَةٍ) وَجَدْتُ هَذَا الْأَثَرَ عَنِ الْحَسَنِ وَهُوَ يُقَوِّي الِاحْتِمَالَ الثَّانِي، قَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا مُعَاذٌ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ الْحَسَنِ فِي الرَّجُلِ يَنْتَهِي إِلَى الْجِنَازَةِ وَهُمْ يُصَلُّونَ عَلَيْهَا، قَالَ: يَدْخُلُ مَعَهُمْ بِتَكْبِيرَةٍ. وَالْمُخَالِفُ فِي هَذَا بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ. وَفِي مُخْتَصَرِ ابْنِ الْحَاجِبِ: وَفِي دُخُولِ الْمَسْبُوقِ بَيْنَ التَّكْبِيرَتَيْنِ أَوِ انْتِظَارِ التَّكْبِيرِ قَوْلَانِ. انْتَهَى.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ إِلَخْ) لَمْ أَرَهُ مَوْصُولًا عَنْهُ، وَوَجَدْتُ مَعْنَاهُ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الصَّحَابِيِّ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ مَوْقُوفًا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَنَسٌ: التَّكْبِيرَةُ الْوَاحِدَةُ اسْتِفْتَاحُ الصَّلَاةِ) وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: قَالَ رُزَيْقُ بْنُ كَرِيمٍ، لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: رَجُلٌ صَلَّى فَكَبَّرَ ثَلَاثًا؟ قَالَ أَنَسٌ: أَوَلَيْسَ التَّكْبِيرُ ثَلَاثًا؟ قَالَ: يَا أَبَا حَمْزَةَ التَّكْبِيرُ أَرْبَعٌ. قَالَ: أَجَلْ، غَيْرَ أَنَّ وَاحِدَةً هِيَ اسْتِفْتَاحُ الصَّلَاةِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ) أَيْ: اللَّهُ سبحانه وتعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ} وَهَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى أَصْلِ التَّرْجَمَةِ.

وَقَوْلُهُ: (وَفِيهِ صُفُوفٌ وَإِمَامٌ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَفِيهَا تَكْبِيرٌ وَتَسْلِيمٌ. قَرَأْتُ بِخَطِّ مُغَلْطَايْ: كَأَنَّ الْبُخَارِيَّ أَرَادَ الرَّدَّ عَلَى مَالِكٍ، فَإِنَّ ابْنَ الْعَرَبِيِّ نَقَلَ عَنْهُ أَنَّهُ اسْتَحَبَّ أَنْ يَكُونَ الْمُصَلُّونَ عَلَى الْجِنَازَةِ سَطْرًا وَاحِدًا، قَالَ: وَلَا أَعْلَمُ لِذَلِكَ وَجْهًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ مَالِكِ بْنِ هُبَيْرَةَ فِي اسْتِحْبَابِ الصُّفُوفِ. ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ قَرِيبًا، وَمَوْضِعُ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ قَوْلُهُ: فَأَمَّنَا فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ. قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ نَقْلًا عَنِ ابْنِ الْمُرَابِطِ وَغَيْرِهِ مَا مُحَصِّلُهُ: مُرَادُ هَذَا الْبَابِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْجِنَازَةِ إِنَّمَا هِيَ دُعَاءٌ لَهَا وَاسْتِغْفَارٌ، فَتَجُوزُ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، فَأَوَّلُ الْمُصَنِّفُ الرَّدَّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ التَّسْمِيَةِ الَّتِي سَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةً، وَلَوْ كَانَ الْغَرَضُ الدُّعَاءُ وَحْدَهُ لَمَا أَخْرَجَهُمْ إِلَى الْبَقِيعِ، وَلَدَعَا فِي الْمَسْجِدِ، وَأَمَرَهُمْ بِالدُّعَاءِ مَعَهُ أَوِ التَّأْمِينُ عَلَى دُعَائِهِ، وَلَمَا صَفَّهُمْ خَلْفَهُ كَمَا يَصْنَعُ فِي الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَالْمَسْنُونَةِ، وَكَذَا وُقُوفُهُ فِي الصَّلَاةِ وَتَكْبِيرُهُ فِي افْتِتَاحِهَا وَتَسْلِيمُهُ فِي التَّحَلُّلِ مِنْهَا كُلُّ ذَلِكَ دَالٌّ عَلَى أَنَّهَا عَلَى الْأَبْدَانِ، لَا عَلَى اللِّسَانِ

(1)

الأرجح قول من قال لا يصليها بالتيمم لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} الآية. وفي الحديث "وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء" والواجب الأخذ بعموم النصوص حتى يوجد المخصص، وليس هنا مخصص يعتمد عليه. والله أعلم

ص: 191

وَحْدَهُ، وَكَذَا امْتِنَاعُ الْكَلَامِ فِيهَا، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا رُكُوعٌ وَلَا سُجُودٌ؛ لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ بَعْضُ الْجَهَلَةِ أَنَّهَا عِبَادَةٌ لِلْمَيِّتِ فَيَضِلَّ بِذَلِكَ. انْتَهَى.

وَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الِاتِّفَاقَ عَلَى اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ لَهَا إِلَّا عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: وَوَافَقَهُ إِبْرَاهِيمُ ابْنُ عُلَيَّةَ، وَهُوَ مِمَّنْ يُرْغَبُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ قَوْلِهِ. وَنَقَلَ غَيْرُهُ أَنَّ ابْنَ جَرِيرٍ الطَّبَرِيَّ وَافَقَهُمَا عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ مَذْهَبٌ شَاذٌّ، قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: وَفِي اسْتِدْلَالِ الْبُخَارِيِّ - بِالْأَحَادِيثِ الَّتِي صَدَّرَ بِهَا الْبَابَ مِنْ تَسْمِيَتِهَا صَلَاةً - لِمَطْلُوبِهِ مِنْ إِثباتِ شَرْطِ الطَّهَارَةِ إِشْكَالٌ، لِأَنَّهُ إِنْ تَمَسَّكَ بِالْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ عَارَضَهُ عَدَمُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَإِنْ تَمَسَّكَ بِالْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ عَارَضَتْهُ الشَّرَائِطُ الْمَذْكُورَةُ، وَلَمْ يَسْتَوِ التَّبَادُرُ فِي الْإِطْلَاقِ فَيَدَّعِي الِاشْتِرَاكَ؛ لِتَوَقُّفِ الْإِطْلَاقِ عَلَى الْقَيْدِ عِنْدَ إِرَادَةِ الْجِنَازَةِ بِخِلَافِ ذَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَتَعَيَّنَ الْحَمْلُ عَلَى الْمَجَازِ. انْتَهَى. وَلَمْ يَسْتَدِلَّ الْبُخَارِيُّ عَلَى مَطْلُوبِهِ بِمُجَرَّدِ تَسْمِيَتِهَا صَلَاةً، بَلْ بِذَلِكَ وَبِمَا انْضمَّ إِلَيْهِ مِنْ وُجُودِ جَمِيعِ الشَّرَائِطِ إِلَّا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْحِكْمَةِ فِي حَذْفِهِمَا مِنْهَا، فَبَقِيَ مَا عَدَاهُمَا عَلَى الْأَصْلِ.

وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: غَرَضُ الْبُخَارِيِّ بَيَانُ جَوَازِ إِطْلَاقِ الصَّلَاةِ عَلَى صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَكَوْنِهَا مَشْرُوعَةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا رُكُوعٌ وَسُجُودٌ، فَاسْتَدَلَّ تَارَةً بِإِطْلَاقِ اسْمِ الصَّلَاةِ وَالْأَمْرِ بِهَا، وَتَارَةً بِإِثْبَاتِ مَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الصَّلَاةِ نَحْوَ عَدَمِ التَّكَلُّمِ فِيهَا، وَكَوْنِهَا مُفْتَتَحَةً بِالتَّكْبِيرِ مُخْتَتَمَةً بِالتَّسْلِيمِ، وَعَدَمِ صِحَّتِهَا بِدُونِ الطَّهَارَةِ، وَعَدَمِ أَدَائِهَا عِنْدَ الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ، وَبِرَفْعِ الْيَدِ وَإِثْبَاتِ الْأَحَقِّيَّةِ بِالْإِمَامَةِ، وَبِوُجُوبِ طَلَبِ الْمَاءِ لَهَا، وَبِكَوْنِهَا ذَاتَ صُفُوفٍ وإِمَامٍ. قَالَ: وَحَاصِلُهُ أَنَّ الصَّلَاةَ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ ذَاتِ الْأَرْكَانِ الْمَخْصُوصَةِ وَبَيْنَ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَهُوَ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ فِيهِمَا، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ قَالَ بِذَلِكَ غَيْرُهُ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ بَحْثَ ابْنِ رَشِيدٍ أَقْوَى، وَمَطْلُوبُ الْمُصَنِّفِ حَاصِلٌ كَمَا قَدَّمْتُهُ بِدُونِ الدَّعْوَى الْمَذْكُورَةِ، بَلْ بِإِثْبَاتِ مَا مَرَّ مِنْ خَصَائِصِهَا كَمَا تَقَدَّمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌57 - بَاب فَضْلِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ

وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رضي الله عنه: إِذَا صَلَّيْتَ فَقَدْ قَضَيْتَ الَّذِي عَلَيْكَ. وَقَالَ حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ: مَا عَلِمْنَا عَلَى الْجَنَازَةِ إِذْنًا، وَلَكِنْ مَنْ صَلَّى ثُمَّ رَجَعَ، فَلَهُ قِيرَاطٌ

1323 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ نَافِعًا يَقُولُ: حُدِّثَ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنهم يَقُولُ: مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً فَلَهُ قِيرَاطٌ، فَقَالَ: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَيْنَا.

1324 -

فَصَدَّقَتْ يَعْنِي عَائِشَةَ، أَبَا هُرَيْرَةَ وَقَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُهُ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: لَقَدْ فَرَّطْنَا فِي قَرَارِيطَ كَثِيرَةٍ. {فَرَّطْتُ} : ضَيَّعْتُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ) قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ مَا مُحَصِّلُهُ مَقْصُودُ الْبَابِ: بَيَانُ الْقَدْرِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ مُسَمَّى الِاتِّبَاعِ الَّذِي يَجُوزُ بِهِ الْقِيرَاطُ. إِذْ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَوْرَدَهُ إِجْمَالٌ، وَلِذَلِكَ صَدَّرَهُ بِقَوْلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَآثَرَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ عَلَى الَّذِي بَعْدَهُ - وَإِنْ كَانَ أَوْضَحَ مِنْهُ فِي مَقْصُودِهِ - كَعَادَتِهِ الْمَأْلُوفَةِ فِي التَّرْجَمَةِ عَلَى اللَّفْظِ الْمُشْكِلِ لِيُبَيِّنَ مُجْمَلَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ طَرَفٌ مِنْ بَيَانِ مَا يَحْصُلُ بِهِ مُسَمَّى الِاتِّبَاعِ فِي بَابِ السُّرْعَةِ بِالْجِنَازَةِ، وَلَهُ تَعَلُّقٌ بِهَذَا الْبَابِ، وَكَأَنَّهُ قَصَدَ هُنَاكَ كَيْفِيَّةَ الْمَشْيِ وَأَمْكِنَتَهُ، وَقَصَدَ هُنَا مَا الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الِاتِّبَاعُ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَصَدَ هُنَا

ص: 192

مَا الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصِدُ، إِذِ الِاتِّبَاعُ إِنَّمَا هُوَ وَسِيلَةٌ إِلَى تَحْصِيلِ الصَّلَاةِ مُنْفَرِدَةً أَوِ الدَّفْنِ مُنْفَرِدًا، أَوِ الْمَجْمُوعِ. قَالَ: وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى بَرَاعَةِ الْمُصَنِّفِ وَدِقَّةِ فَهْمِهِ وَسِعَةِ عِلْمِهِ.

وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ مَا مُحَصِّلُهُ: مُرَادُ التَّرْجَمَةِ إِثباتُ الْأَجْرِ وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ، لَا تَعْيِينَ الْحُكْمِ، لِأَنَّ الِاتِّبَاعَ مِنَ الْوَاجِبَاتِ عَلَى الْكِفَايَةِ، فَالْمُرَادُ بِالْفَضْلِ مَا ذَكَرْنَاهُ لَا قَسِيمَ الْوَاجِبِ، وَأَجْمَلَ لَفْظَ الِاتِّبَاعِ تَبَعًا لِلَفْظِ الْحَدِيثِ الَّذِي أَوْرَدَهُ، لِأَنَّ الْقِيرَاطَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِمَنِ اتَّبَعَ وَصَلَّى، أَوِ اتَّبَعَ وَشَيَّعَ وَحَضَرَ الدَّفْنَ، لَا لِمَنِ اتَّبَعَ مَثَلًا وَشَيَّعَ ثُمَّ انْصَرَفَ بِغَيْرِ صَلَاةٍ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُ الْحُجَّةِ لِذَلِكَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاتِّبَاعَ إِنَّمَا هُوَ وَسِيلَةٌ لِأَحَدِ مَقْصُودَيْنِ: إِمَّا الصَّلَاةَ وَإِمَّا الدَّفْنَ، فَإِذَا تَجَرَّدَتِ الْوَسِيلَةُ عَنِ الْمَقْصِدِ لَمْ يَحْصُلِ الْمُرَتَّبُ عَلَى الْمَقْصُودِ، وَإِنْ كَانَ يُرْجَى أَنْ يَحْصُلَ لِفَاعِلِ ذَلِكَ فَضْلُ مَا بِحَسَبِ نِيَّتِهِ. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، قَالَ: اتِّبَاعُ الْجِنَازَةِ أَفْضَلُ النَّوَافِلِ. وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْهُ: اتِّبَاعُ الْجِنَازَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: إِذَا صَلَّيْتَ فَقَدْ قَضَيْتَ الَّذِي عَلَيْكَ) وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ بِلَفْظِ: إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى الْجِنَازَةِ فَقَدْ قَضَيْتُمْ مَا عَلَي كُمْ، فَخَلُّوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَهْلِهَا. وَكَذَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، لَكِنْ بِلَفْظِ: إِذَا صَلَّيْتَ عَلَى جِنَازَةٍ فَقَدْ قَضَيْتَ مَا عَلَيْكَ. وَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ الْإِفْرَادِ، وَمَعْنَاهُ فَقَدْ قَضَيْتَ حَقَّ الْمَيِّتِ، فَإِنْ أَرَدْتَ الِاتِّبَاعَ فَلَكَ زِيَادَةُ أَجْرٍ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ: مَا عَلِمْنَا عَلَى الْجِنَازَةِ إِذْنًا وَلَكِنْ مَنْ صَلَّى ثُمَّ رَجَعَ، فَلَهُ قِيرَاطٌ) لَمْ أَرَهُ مَوْصُولًا عَنْهُ، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: مُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ اسْتِعَارَةٌ بِأَنَّ الِاتِّبَاعَ إِنَّمَا هُوَ لِمَحْضِ ابْتِغَاءِ الْفَضْلِ، وَأَنَّهُ لَا يَجْرِي مَجْرَى قَضَاءِ حَقِّ أَوْلِيَاءِ الْمَيِّتِ، فَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِيهِ حَقٌّ لِيَتَوَقَّفَ الِانْصِرَافُ قَبْلَهُ عَلَى الْإِذْنِ مِنْهُمْ.

قُلْتُ: وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ أَرَادَ الرَّدَّ عَلَى مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَمِيرَانِ وَلَيْسَا بِأَمِيرَيْنِ: الرَّجُلُ يَكُونُ مَعَ الْجِنَازَةِ يُصَلِّي عَلَيْهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ وَلِيَّهَا، الْحَدِيثَ. وَهَذَا مُنْقَطِعٌ مَوْقُوفٌ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِثْلَهُ مِنْ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ الْمِسْوَرِ مِنْ فِعْلِهِ أَيْضًا، وَقَدْ وَرَدَ مِثْلُهُ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ فِيهِ مَقَالٌ، وَأَخْرَجَهُ الْعُقَيْلِيُّ فِي الضُّعَفَاءِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هُرْمُزَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: مَنْ تَبِعَ جِنَازَةً فَحَمَلَ مِنْ عُلْوِهَا، وَحَثَا فِي قَبْرِهَا، وَقَعَدَ حَتَّى يُؤْذَنَ لَهُ رَجَعَ بِقِيرَاطَيْنِ. وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. وَالَّذِي عَلَيْهِ مُعْظَمُ أَئِمَّةِ الْفَتْوَى قَوْلُ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ.

قَوْلُهُ: (حُدِّثَ ابْنُ عُمَرَ) كَذَا فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ: حُدِّثَ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَلَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ عَنْ نَافِعٍ عَلَى تَسْمِيَةِ مَنْ حَدَّثَ ابْنَ عُمَرَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِذَلِكَ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ أَصْحَابُ الْأَطْرَافِ وَالْحُمَيْدِيُّ فِي جَمْعِهِ فِي تَرْجَمَةِ نَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سَمِعَ مِنْهُ

(1)

وَفِي نُسْخَةٍ سَمِعَهُ مِنْهُ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُحْتَمِلًا، وَوَقَفْتُ عَلَى تَسْمِيَةِ مَنْ حَدَّثَ ابْنَ عُمَرَ بِذَلِكَ صَرِيحًا فِي مَوْضِعَيْنِ:

أَحَدِهِمَا: فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَهُوَ خَبَّابٌ بِمُعْجَمَةٍ وَمُوَحَّدَتَيْنِ، الْأُولَى مُشَدَّدَةٌ، وَهُوَ أَبُو السَّائِبِ الْمَدَنِيُّ صَاحِبُ الْمَقْصُورَةِ، قِيلَ: إِنَّ لَهُ صُحْبَةً، وَلَفْظُهُ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ: إِنَّهُ كَانَ قَاعِدًا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ إِذْ طَلَعَ خَبَّابٌ صَاحِبُ الْمَقْصُورَةِ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ؟، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.

وَالثَّانِي: فِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: فَذَكَرْتُ

(1)

وفي نسخة "سمعه منه"

ص: 193

ذَلِكَ لِابْنِ عُمَرَ، فَأَرْسَلَ إِلَى عَائِشَةَ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: مَنْ تَبِعَ) كَذَا فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ أَبِي النُّعْمَانِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، لَكِنْ أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ مَهْدِيِّ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ، وَعَنْ أَبِي أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِي النُّعْمَانِ، وَعَنِ التُّسْتَرِيِّ، عَنْ شَيْبَانَ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: قِيلَ لِابْنِ عُمَرَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ تَبِعَ جِنَازَةً فَلَهُ قِيرَاطٌ مِنَ الْأَجْرِ. فَذَكَرَهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ لِمَنِ السِّيَاقُ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ شَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخٍ كَذَلِكَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ السِّيَاقَ لَهُ.

قَوْلُهُ: (مَنْ تَبِعَ جِنَازَةً فَلَهُ قِيرَاطٌ) زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ مِنَ الْأَجْرِ. وَالْقِيرَاطُ بِكَسْرِ الْقَافِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: أَصْلُهُ قِرَّاطٌ بِالتَّشْدِيدِ، لِأَنَّ جَمْعَهُ قَرَارِيطُ، فَأَبْدَلَ مِنْ أَحَدِ حَرْفَيْ تَضْعِيفِهِ يَاءً، قَالَ: وَالْقِيرَاطُ نِصْفُ دَانِقٍ. وَقَالَ قَبْلَ ذَلِكَ: الدَّانِقُ سُدُسُ الدِّرْهَمِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْقِيرَاطُ جُزْءًا مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ جُزْءًا مِنَ الدِّرْهَمِ. وَأَمَّا صَاحِبُ النِّهَايَةِ فَقَالَ: الْقِيرَاطُ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الدِّينَارِ، وَهُوَ نِصْفُ عُشْرِهِ فِي أَكْثَرِ الْبِلَادِ، وَفِي الشَّامِ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا، وَنَقَلَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، عَنِ ابْنِ عُقَيْلٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْقِيرَاطُ نِصْفُ سُدُسِ دِرْهَمٍ، أَوْ نِصْفُ عُشْرِ دِينَارٍ. وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا الْمِقْدَارِ إِلَى الْأَجْرِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمَيِّتِ فِي تَجْهِيزِهِ وَغُسْلِهِ وَجَمِيعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، فَلِلْمُصَلِّي عَلَيْهِ قِيرَاطٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلِمَنْ شَهِدَ الدَّفْنَ قِيرَاطٌ. وَذَكَرَ الْقِيرَاطَ تَقْرِيبًا لِلْفَهْمِ لَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ يَعْرِفُ الْقِيرَاطَ وَيَعْمَلُ الْعَمَلَ فِي مُقَابَلَتِهِ، وُعِدَ مِنْ جِنْسِ مَا يَعْرِفُ، وَضَرَبَ لَهُ الْمَثَلَ بِمَا يَعْلَمُ. انْتَهَى. وَلَيْسَ الَّذِي قَالَ بِبَعِيدٍ، وَقَدْ رَوَى البَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرةَ مَرْفُوعًا: مَنْ أَتَى جِنَازَةً فِي أَهْلِهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ، فَإِنْ تَبِعَهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ، فَإِنْ صَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ، فَإِنِ انْتَظَرَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطٌ.

فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْجِنَازَةِ قِيرَاطًا، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مَقَادِيرُ الْقَرَارِيطِ، وَلَا سِيَّمَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَشَقَّةِ ذَلِكَ الْعَمَلِ وَسُهُولَتِهِ، وَعَلَى هَذَا فَيُقَالُ: إِنَّمَا خَصَّ قِيرَاطَيِ الصَّلَاةِ وَالدَّفْنِ بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهِمَا الْمَقْصُودَيْنِ، بِخِلَافِ بَاقِي أَحْوَالِ الْمَيِّتِ، فَإِنَّهَا وَسَائِلُ، وَلَكِنَّ هَذَا يُخَالِفُ ظَاهِرَ سِيَاقِ الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ الْمُتَقَدِّمِ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ، فَإِنَّ فِيهِ: إِنَّ لِمَنْ تَبِعَهَا حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا، وَيُفْرَغَ مِنْ دَفْنِهَا قِيرَاطَيْنِ. فَقَطْ، وَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْقِيرَاطَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لِمَنْ شَهِدَ، وَالَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عُقَيْلٍ لِمَنْ بَاشَرَ الْأَعْمَالَ الَّتِي يَحْتَاجُ إِلَيْهَا الْمَيِّتُ فَافْتَرَقَا، وَقَدْ وَرَدَ لَفْظُ الْقِيرَاطِ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ: فَمِنْهَا مَا يُحْمَلُ عَلَى الْقِيرَاطِ الْمُتَعَارَفِ، وَمِنْهَا مَا يُحْمَلُ عَلَى الْجُزْءِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ لَمْ تُعْرَفِ النِّسْبَةُ. فَمِنَ الْأَوَّلِ حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوعًا: إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ بَلَدًا يُذْكَرُ فِيهَا الْقِيرَاطُ. وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: كُنْتُ أَرْعَى غَنَمًا لِأَهْلِ مَكَّةَ بِالْقَرَارِيطِ. قَالَ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ: يَعْنِي كُلَّ شَاةٍ بِقِيرَاطٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: قَرَارِيطُ جَبَلٍ بِمَكَّةَ. وَمِنَ الْمُحْتَمَلِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي الَّذِينَ أُوتُوا التَّوْرَاةَ: أُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا. وَحَدِيثُ الْبَابِ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ.

وَقَدْ جَاءَ تَعْيِينُ مِقْدَارِ الْقِيرَاطِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ بِأَنَّهُ مِثْلُ أُحُدٍ كَمَا سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مِثْلُ قَرَارِيطِنَا هَذِهِ؟ قَالَ: لَا، بَلْ مِثْلُ أُحُدٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ: لَا يَلْزَمُ مِنْ ذِكْرِ الْقِيرَاطِ فِي الْحَدِيثَيْنِ تَسَاوِيهِمَا، لِأَنَّ عَادَةَ الشَّارِعِ تَعْظِيمُ الْحَسَنَاتِ وَتَخْفِيفُ مُقَابِلِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْقَاضِي: الذَّرَّةُ جُزْءٌ مِنَ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ حَبَّةٍ، وَالْحَبَّةُ ثُلُثُ الْقِيرَاطِ، فَإِذَا كَانَتِ الذَّرَّةُ تُخْرِجُ مِنَ النَّارِ فَكَيْفَ بِالْقِيرَاطِ؟ قَالَ: وَهَذَا قَدْرُ قِيرَاطِ الْحَسَنَاتِ، فَأَمَّا قِيرَاطُ السَّيِّئَاتِ فَلَا. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْقِيرَاطُ فِي اقْتِنَاءِ الْكَلْبِ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ عَمَلِ الْمُقْتَنَى لَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَذَهَبَ الْأَكْثَرُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقِيرَاطِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ جُزْءٌ

ص: 194

مِنْ أَجْزَاءٍ مَعْلُومَةٍ عِنْدَ اللَّهِ، وَقَدْ قَرَّبَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْفَهْمِ بِتَمْثِيلِهِ الْقِيرَاطَ بِأُحُدٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ مِثْلُ أُحُدٍ تَفْسِيرٌ لِلْمَقْصُودِ مِنَ الْكَلَامِ لَا لِلَفْظِ الْقِيرَاطِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِنَصِيبٍ كَبِيرٍ مِنَ الْأَجْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ لَفْظَ الْقِيرَاطِ مُبْهَمٌ مِنْ وَجْهَيْنِ، فَبَيَّنَ الْمَوْزُونَ بِقَوْلِهِ: مِنَ الْأَجْرِ. وَبَيَّنَ الْمِقْدَارَ الْمُرَادَ مِنْهُ بِقَوْلِهِ: مِثْلُ أُحُدٍ.

وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: أَرَادَ تَعْظِيمَ الثَّوَابِ فَمَثَّلَهُ لِلْعِيَانِ بِأَعْظَمِ الْجِبَالِ خَلْقًا، وَأَكْثَرِهَا إِلَى النُّفُوسِ الْمُؤْمِنَةِ حُبًّا، لِأَنَّهُ الَّذِي قَالَ فِي حَقِّهِ: إِنَّهُ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ. انْتَهَى. وَلِأَنَّهُ أَيْضًا قَرِيبٌ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ يَشْتَرِكُ أَكْثَرُهُمْ فِي مَعْرِفَتِهِ، وَخُصَّ الْقِيرَاطَ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّهُ كَانَ أَقَلَّ مَا تَقَعُ بِهِ الْإِجَارَةُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، أَوْ جَرَى ذَلِكَ مَجْرَى الْعَادَةِ مِنْ تَقْلِيلِ الْأَجْرِ بِتَقْلِيلِ الْعَمَلِ. وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: مَنْ تَبِعَ عَلَى أَنَّ الْمَشْيَ خَلْفَ الْجِنَازَةِ أَفْضَلُ مِنَ الْمَشْيِ أَمَامَهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ حَقِيقَةُ الِاتِّبَاعِ حِسًّا. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الَّذِينَ رَجَّحُوا الْمَشْيَ أَمَامَهَا حَمَلُوا الِاتِّبَاعَ هُنَا عَلَى الِاتِّبَاعِ الْمَعْنَوِيِّ أَيِ الْمُصَاحَبَةِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَمَامَهَا أَوْ خَلْفَهَا، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، وَهَذَا مَجَازٌ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَكُونَ الدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّقَدُّمِ رَاجِحًا. انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ فِي بَابِ السُّرْعَةِ بِالْجِنَازَةِ وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ بِمَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَتِهِ.

قَوْلُهُ: (أَكْثَرَ عَلَيْنَا أَبُو هُرَيْرَةَ) قَالَ ابْنُ التِّينِ: لَمْ يَتَّهِمْهُ ابْنُ عُمَرَ، بَلْ خَشِيَ عَلَيْهِ السَّهْوَ، أَوْ قَالَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ لَمْ يُنْقَلْ لَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ رَفَعَهُ، فَظَنَّ أَنَّهُ قَالَ بِرَأْيِهِ فَاسْتَنْكَرَهُ. انْتَهَى. وَالثَّانِي جُمُودٌ عَلَى سِيَاقِ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ رَفَعَهُ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ خَبَّابٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: قَوْلُهُ أَكْثَرَ عَلَيْنَا أَيْ فِي ذِكْرِ الْأَجْرِ، أَوْ فِي كَثْرَةِ الْحَدِيثِ، كَأَنَّهُ خَشِيَ لِكَثْرَةِ رِوَايَاتِهِ أَنْ يَشْتَبِهَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْأَمْرِ. انْتَهَى. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ: فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عُمَرَ فَتَعَاظَمَهُ. وَفِي رِوَايَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عِنْدَ سَعِيدٍ أَيْضًا وَمُسَدَّدٍ، وَأَحْمَدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ: فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ انْظُرْ مَا تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (فَصَدَّقَتْ - يَعْنِي عَائِشَةَ - أَبَا هُرَيْرَةَ) لَفْظُ يَعْنِي لِلْبُخَارِيِّ، كَأَنَّهُ شَكَّ فَاسْتَعْمَلَهَا. وَقَدْ رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي النُّعْمَانِ شَيْخِهِ، فَلَمْ يَقُلْهَا. وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: فَبَعَثَ ابْنُ عُمَرَ إِلَى عَائِشَةَ يَسْأَلَهَا، فَصَدَّقَتْ أَبَا هُرَيْرَةَ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِابْنِ عُمَرَ، فَأَرْسَلَ إِلَى عَائِشَةَ فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَتْ: صَدَقَ وَفِي رِوَايَةِ خَبَّابٍ صَاحِبِ الْمَقْصُورَةِ عِنْدَ مُسْلِمٍ. فَأَرْسَلَ ابْنُ عُمَرَ، خَبَّابًا إِلَى عَائِشَةَ يَسْأَلَهَا عَنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ، ثُمَّ يَرْجِعَ إِلَيْهِ فَيُخْبِرَهُ بِمَا قَالَتْ، حَتَّى رَجَعَ إِلَيْهِ الرَّسُولُ، فَقَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ صَدَقَ أَبُو هُرَيْرَةَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ: فَقَامَ أَبُو هُرَيْرَةَ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَانْطَلَقَا حَتَّى أَتَيَا عَائِشَةَ، فَقَالَ لَهَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْشُدُكِ اللَّهَ أَسَمِعْتِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ. . . فَذَكَرَهُ. فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ نَعَمْ. وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الرَّسُولَ لَمَّا رَجَعَ إِلَى ابْنِ عُمَرَ بِخَبَرِ عَائِشَةَ بَلَغَ ذَلِكَ أَبَا هُرَيْرَةَ، فَمَشَى إِلَى ابْنِ عُمَرَ، فَأَسْمَعَهُ ذَلِكَ مِنْ عَائِشَةَ مُشَافَهَةً، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ الْوَلِيدِ: فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَمْ يَشْغَلْنِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَرْسُ الْوَدِيِّ، وَلَا صَفْقٌ بِالْأَسْوَاقِ، وَإِنَّمَا كُنْتُ أَطْلُبُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَكْلَةً يُطْعِمنِيهَا أَوْ كَلِمَةً يُعَلِّمْنِيهَا. قَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: كُنْتَ أَلْزَمَنَا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَعْلَمَنَا بِحَدِيثِهِ.

قَوْلُهُ: (لَقَدْ فَرَّطْنَا فِي قَرَارِيطَ كَثِيرَةٍ) أَيْ مِنْ عَدَمِ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى حُضُورِ الدَّفْنِ، بَيَّنَ ذَلِكَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي عَلَى الْجِنَازَةِ ثُمَّ يَنْصَرِفُ، فَلَمَّا بَلَغَهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ. . . فَذَكَرَهُ.

وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ دَلَالَةٌ عَلَى تَمَيُّزِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْحِفْظِ، وَأَنَّ إِنْكَارَ الْعُلَمَاءِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ قَدِيمٌ، وَفِيهِ اسْتِغْرَابُ الْعَالِمِ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَى عِلْمِهِ، وَعَدَمُ مُبَالَاةِ الْحَافِظِ بِإِنْكَارِ مَنْ لَمْ يَحْفَظْ، وَفِيهِ مَا كَانَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ مِنَ التَّثَبُّتِ فِي الْحَدِيثِ

ص: 195

النَّبَوِيِّ، وَالتَّحَرُّزِ فِيهِ وَالتَّنْقِيبِ عَلَيْهِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى فَضِيلَةِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ حِرْصِهِ عَلَى الْعِلْمِ، وَتَأَسُّفِهِ عَلَى مَا فَاتَهُ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ.

قَوْلُهُ: (فَرَّطْتَ: ضَيَّعْتَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) كَذَا فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: فَرَّطْتَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أَيْ ضَيَّعْتَ. وَهُوَ أَشْبَهُ. وَهَذِهِ عَادَةُ الْمُصَنِّفِ إِذَا أَرَادَ تَفْسِيرَ كَلِمَةٍ غَرِيبَةٍ مِنَ الْحَدِيثِ وَوَافَقَتْ كَلِمَةً مِنَ الْقُرْآنِ فَسَّرَ الْكَلِمَةَ الَّتِي مِنَ الْقُرْآنِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي رِوَايَةِ سَالِمٍ الْمَذْكُورَةِ بِلَفْظِ: لَقَدْ ضَيَّعْنَا قَرَارِيطَ كَثِيرَةً.

(تَكْمِلَةٌ): وَقَعَ لِي حَدِيثُ الْبَابِ مِنْ رِوَايَةِ عَشَرَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ غَيْرِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَائِشَةَ: مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ عِنْدَ مُسْلِمٍ. وَالْبَرَاءِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ. وَأَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ أَحْمَدَ. وَابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ، وَأَسَانِيدُ هَؤُلَاءِ الْخَمْسَةِ صِحَاحٌ، وَمِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ. وَابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ فِي الشُّعَبِ. وَأَنَسٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ. وَوَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ عِنْدَ ابْنِ عَدِيٍّ. وَحَفْصَةَ عِنْدَ حُمَيْدِ بْنِ زَنْجَوَيْهِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ، وَفِي كُلٍّ مِنْ أَسَانِيدِ هَؤُلَاءِ الْخَمْسَةِ ضَعْفٌ. وَسَأُشِيرُ إِلَى مَا فِيهَا مِنْ فَائِدَةٍ زَائِدَةٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِي هَذَا.

‌58 - بَاب مَنْ انْتَظَرَ حَتَّى تُدْفَنَ

1325 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، فَقَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم.

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ شَهِدَ الْجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلِّيَ فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَ حَتَّى تُدْفَنَ كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ. قِيلَ: وَمَا الْقِيرَاطَانِ؟ قَالَ: مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنِ انْتَظَرَ حَتَّى تُدْفَنَ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: لَمْ يَذْكُرِ الْمُصَنِّفُ جَوَابَ مَنْ؛ إِمَّا اسْتِغْنَاءً بِمَا ذُكِرَ فِي الْخَبَرِ؛ أَوْ تَوَقُّفًا عَلَى إِثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ بِمُجَرَّدِ الِانْتِظَارِ إِنْ خَلَا عَنِ اتِّبَاعٍ. قَالَ: وَعَدَلَ عَنْ لَفْظِ الشُّهُودِ كَمَا هُوَ فِي الْخَبَرِ إِلَى لَفْظِ الِانْتِظَارِ لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الشُّهُودِ إِنَّمَا هُوَ مُعَاضَدَةُ أَهْلِ الْمَيِّتِ وَالتَّصَدِّي لِمَعُونَتِهِمْ، وَذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ الْمُعْتَبَرَةِ. انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ اخْتَارَ لَفْظَ الِانْتِظَارِ لِكَوْنِهِ أَعَمَّ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ، فَهُوَ أَكْثَرُ فَائِدَةً. وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ بِلَفْظِ الِانْتِظَارِ؛ لِيُفَسِّرَ اللَّفْظَ الْوَارِدَ بِالْمُشَاهَدَةِ بِهِ، وَلَفْظُ الِانْتِظَارِ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَقَدْ سَاقَ الْبُخَارِيُّ سَنَدَهَا وَلَمْ يَذْكُرْ لَفْظَهَا. وَوَقَعَتْ هَذِهِ الطَّرِيقُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الَّتِي لَمْ تَتَّصِلْ لَنَا عَنِ الْبُخَارِيِّ فِي هَذَا الْبَابِ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ) هُوَ الْقَعْنَبِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِيهِ) يَعْنِي أَبَا سَعِيدٍ كَيْسَانَ الْمَقْبُرِيَّ وَهُوَ ثَابِتٌ فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ، وَحَكَى الْكِرْمَانِيُّ أَنَّهُ سَقَطَ مِنْ بَعْضِ الطُّرُقِ. قُلْتُ: وَالصَّوَابُ إِثْبَاتُهُ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، نَعَمْ سَقَطَ قَوْلُهُ: عَنْ أَبِيهِ، مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَجْلَانَ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبِي مَعْشَرٍ عِنْدَ حُمَيْدِ بْنِ زَنْجَوَيْهِ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ.

(تَنْبِيهٌ): لَمْ يَسُقِ الْبُخَارِيُّ لَفْظَ رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ، وَلَفْظُهُ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ: مَا يَنْبَغِي فِي الْجِنَازَةِ؟ فَقَالَ: سَأُخْبِرُكَ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: مَنْ تَبِعَهَا مِنْ أَهْلِهَا حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ مِثْلُ أُحُدٍ، وَمَنْ تَبِعَهَا حَتَّى يُفْرَغَ مِنْهَا فَلَهُ قِيرَاطَانِ.

: قَوْلُهُ: (وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ؛ أَيْ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: حَدَّثَنِي فُلَانٌ بِكَذَا، وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجُ بِكَذَا.

قَوْلُهُ: (حَتَّى يُصَلَّى) زَادَ الْكُشْمِيهَنِيُّ عَلَيْهِ وَاللَّامُ

ص: 196

لِلْأَكْثَرِ مَفْتُوحَةٌ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِكَسْرِهَا، وَرِوَايَةُ الْفَتْحِ مَحْمُولَةٌ عَلَيْهَا، فَإِنَّ حُصُولَ الْقِيرَاطِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى وُجُودِ الصَّلَاةِ مِنَ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ، وَلِلْبَيْهَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الصَّائِغِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ شَبِيبٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ بِلَفْظِ: حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا. وَكَذَا هُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ ابْتِدَاءَ الْحُضُورِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ حَيْثُ قَالَ: مِنْ أَهْلِهَا. وَفِي رِوَايَةِ خَبَّابٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: مَنْ خَرَجَ مَعَ جِنَازَةٍ مِنْ بَيْتِهَا. وَلِأَحْمَدَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: فَمَشَى مَعَهَا مِنْ أَهْلِهَا. وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ الْقِيرَاطَ يَخْتَصُّ بِمَنْ حَضَرَ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ إِلَى انْقِضَاءِ الصَّلَاةِ، وَبِذَلِكَ صَرَّحَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْقِيرَاطَ يَحْصُلُ أَيْضًا لِمَنْ صَلَّى فَقَطْ، لِأَنَّ كُلَّ مَا قَبْلَ الصَّلَاةِ وَسِيلَةٌ إِلَيْهَا، لَكِنْ يَكُونُ قِيرَاطُ مَنْ صَلَّى فَقَطْ دُونَ قِيرَاطِ مَنْ شَيَّعَ مَثَلًا وَصَلَّى. وَرِوَايَةُ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: أَصْغَرُهُمَا مِثْلُ أُحُدٍ. يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَرَارِيطَ تَتَفَاوَتُ. وَوَقَعَ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ الْمَذْكُورَةِ عِنْدَ مُسْلِمٍ: مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ وَلَمْ يَتْبَعْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ. وَفِي رِوَايَةِ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ: وَمَنْ صَلَّى وَلَمْ يَتْبَعْ فَلَهُ قِيرَاطٌ.

فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ تُحَصِّلُ الْقِيرَاطَ، وَإِنْ لَمْ يَقَعِ اتِّبَاعٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ الِاتِّبَاعُ هُنَا عَلَى مَا بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَهَلْ يَأْتِي نَظِيرُ هَذَا فِي قِيرَاطِ الدَّفْنِ؟ فِيهِ بَحْثٌ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ بِلَفْظِ: مَنِ اتَّبَعَ جِنَازَةَ مُسْلِمٍ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، وَكَانَ مَعَهَا حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا وَيُفْرَغَ مِنْ دَفْنِهَا، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ مِنَ الْأَجْرِ بِقِيرَاطَيْنِ. الْحَدِيثَ. وَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّ الْقِيرَاطَيْنِ إِنَّمَا يَحْصُلَانِ لِمَنْ كَانَ مَعَهَا فِي جَمِيعِ الطَّرِيقِ حَتَّى تُدْفَنَ، فَإِنْ صَلَّى مَثَلًا وَذَهَبَ إِلَى الْقَبْرِ وَحْدَهُ فَحَضَرَ الدَّفْنَ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ إِلَّا قِيرَاطٌ وَاحِدٌ. انْتَهَى. وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ الْمَفْهُومِ، فَإِنْ وَرَدَ مَنْطُوقٌ بِحُصُولِ الْقِيرَاطِ لِشُهُودِ الدَّفْنِ وَحْدَهُ كَانَ مُقَدَّمًا. وَيُجْمَعُ حِينَئِذٍ بِتَفَاوُتِ الْقِيرَاطِ، وَالَّذِينَ أَبَوْا ذَلِكَ جَعَلُوهُ مِنْ بَابِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، نَعَمْ مُقْتَضَى جَمِيعِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى التَّشْيِيعِ فَلَمْ يُصَلِّ، وَلَمْ يَشْهَدِ الدَّفْنَ فَلَا قِيرَاطَ لَهُ إِلَّا عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا عَنِ ابْنِ عَقِيلٍ، لَكِنِ الْحَدِيثَ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ عَنِ الْبَرَاءِ فِي ذَلِكَ ضَعِيفٌ. وَأَمَّا التَّقْيِيدُ بِالْإِيمَانِ وَالِاحْتِسَابِ فَلَا بُدَّ مِنْهُ، لِأَنَّ تَرَتُّبَ الثَّوَابِ عَلَى الْعَمَلِ يَسْتَدْعِي سَبْقَ النِّيَّةِ فِيهِ فَيَخْرُجُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُكَافَأَةِ الْمُجَرَّدَةِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْمُحَابَاةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَمَنْ شَهِدَ) كَذَا فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ بِحَذْفِ الْمَفْعُولِ، وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا وَمَنْ شَهِدَهَا.

قَوْلُهُ: (فَلَهُ قِيرَاطَانِ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُمَا غَيْرُ قِيرَاطِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ سِيَاقِ أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَحَكَاهُ ابْنُ التِّينِ، عَنِ الْقَاضِي أَبِي الْوَلِيدِ، ولَكِنْ سِيَاقُ رِوَايَةِ ابْنِ سِيرِينَ يَأْبَى ذَلِكَ، وَهِيَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الْحَاصِلَ مِنَ الصَّلَاةِ وَمِنَ الدَّفْنِ قِيرَاطَانِ فَقَطْ، وَكَذَلِكَ رِوَايَةُ خَبَّابٍ صَاحِبِ الْمَقْصُورَةِ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ: مَنْ خَرَجَ مَعَ جِنَازَةٍ مِنْ بَيْتِهَا ثُمَّ تَبِعَهَا حَتَّى كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ مِنْ أَجْرٍ، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ كَانَ لَهُ قِيرَاطٌ. وَكَذَلِكَ رِوَايَةُ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ بِمَعْنَاهُ، وَنَحْوُهُ رِوَايَةُ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: رِوَايَةُ ابْنِ سِيرِينَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الْمَجْمُوعَ قِيرَاطَانِ، وَمَعْنَى رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ عَلَى هَذَا كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ؛ أَيْ بِالْأَوَّلِ، وَهَذَا مِثْلُ حَدِيثِ: مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَمَنْ صَلَّى الْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ اللَّيْلَ كُلَّهُ. أَيْ بِانْضِمَامِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى تُدْفَنَ) ظَاهِرُهُ أَنَّ حُصُولَ الْقِيرَاطِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى فَرَاغِ الدَّفْنِ، وَهُوَ أَصَحُّ الْأَوْجُهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَقِيلَ: يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْوَضْعِ فِي اللَّحْدِ، وَقِيلَ: عِنْدَ انْتِهَاءِ الدَّفْنِ قَبْلَ إِهَالَةِ التُّرَابِ، وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ بِكُلِّ ذَلِكَ، وَيَتَرَجَّحُ الْأَوَّلُ لِلزِّيَادَةِ، فَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ

ص: 197

مَعْمَرٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ: حَتَّى يُفْرَغَ مِنْهَا. وَفِي الْأُخْرَى: حَتَّى تُوضَعَ فِي اللَّحْدِ. وَكَذَا عِنْدَهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَازِمٍ بِلَفْظِ: حَتَّى تُوضَعَ فِي الْقَبْرِ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيِّ: حَتَّى يُفْرَغَ مِنْهَا. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي مُزَاحِمٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: حَتَّى يُقْضَى قَضَاؤُهَا. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ: حَتَّى يُقْضَى دَفْنُهَا. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عِيَاضٍ

(1)

، عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ: حَتَّى يُسَوَّى عَلَيْهَا؛ أَيِ التُّرَابُ. وَهِيَ أَصْرَحُ الرِّوَايَاتِ فِي ذَلِكَ. وَيَحْتَمِلُ حُصُولُ الْقِيرَاطِ بِكُلٍّ مِنْ ذَلِكَ، لَكِنْ يَتَفَاوَتُ الْقِيرَاطُ كَمَا تَقَدَّمَ.

قَوْلُهُ: (قِيلَ: وَمَا الْقِيرَاطَانِ) لَمْ يُعَيِّنْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ الْقَائِلَ وَلَا الْمَقُولَ لَهُ، وَقَدْ بَيَّنَ الثَّانِي مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ هَذِهِ، فَقَالَ: قِيلَ: وَمَا الْقِيرَاطَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ وَعِنْدَهُ فِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْقِيرَاطِ. وَبَيَّنَ الْقَائِلُ أَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُزَاحِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَفْظُهُ: قُلْتُ: وَمَا الْقِيرَاطُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟. وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّ أَبَا حَازِمٍ أَيْضًا سَأَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ) سَبَقَ أَنَّ فِي رِوَايَةِ ابْنِ سِيرِينَ وَغَيْرِهِ: مِثْلُ أُحُدٍ. وَفِي رِوَايَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: الْقِيرَاطُ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ. وَكَذَا فِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالْبَرَاءِ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَأَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ أَحْمَدَ. وَوَقَعَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ: فَلَهُ قِيرَاطَانِ مِنَ الْأَجْرِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَعْظَمُ مِنْ أُحُدٍ. . وَتَقَدَّمَ أَنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: أَصْغَرُهُمَا مِثْلُ أُحُدٍ. وَفِي رِوَايَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ: الْقِيرَاطُ أَعْظَمُ مِنْ أُحُدٍ هَذَا. كَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى الْجَبَلِ عِنْدَ ذِكْرِ الْحَدِيثِ. وَفِي حَدِيثِ وَاثِلَةَ عِنْدَ ابْنِ عَدِيٍّ: كُتِبَ لَهُ قِيرَاطَانِ مِنْ أَجْرٍ، أَخَفُّهُمَا فِي مِيزَانِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَثْقَلُ مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ. فَأَفَادَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ بَيَانَ وَجْهِ التَّمْثِيلِ بِجَبَلِ أُحُدٍ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ زِنَةُ الثَّوَابِ الْمُرَتَّبِ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ.

وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ: التَّرْغِيبُ فِي شُهُودِ الْمَيِّتِ، وَالْقِيَامِ بِأَمْرِهِ، وَالْحَضُّ عَلَى الِاجْتِمَاعِ لَهُ، وَالتَّنْبِيهُ عَلَى عَظِيمِ فَضْلِ اللَّهِ وَتَكْرِيمِهِ لِلْمُسْلِمِ فِي تَكْثِيرِ الثَّوَابِ لِمَنْ يَتَوَلَّى أَمْرَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَفِيهِ تَقْدِيرُ الْأَعْمَالِ بِنِسْبَةِ الْأَوْزَانِ، إِمَّا تَقْرِيبًا لِلْأَفْهَامِ، وَإِمَّا عَلَى حَقِيقَتِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌59 - بَاب صَلَاةِ الصِّبْيَانِ مَعَ النَّاسِ عَلَى الْجَنَائِزِ

1326 -

حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا زَائِدَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْرًا، فَقَالُوا: هَذَا دُفِنَ - أَوْ دُفِنَتْ - الْبَارِحَةَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: فَصَفَّنَا خَلْفَهُ، ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ صَلَاةِ الصِّبْيَانِ مَعَ النَّاسِ عَلَى الْجَنَائِزِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي صَلَاتِهِ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْقَبْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ قَبْلَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ، قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: أَفَادَ بِالتَّرْجَمَةِ الْأُولَى بَيَانَ كَيْفِيَّةِ وُقُوفِ الصِّبْيَانِ مَعَ الرِّجَالِ، وَأَنَّهُمْ يُصَفُّونَ مَعَهُمْ لَا يَتَأَخَّرُونَ عَنْهُمْ، لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي سَاقَهُ فِيهَا: وَأَنَا فِيهِمْ. وَأَفَادَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ مَشْرُوعِيَّةَ صَلَاةِ الصِّبْيَانِ عَلَى الْجَنَائِزِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ دَلَّ عَلَيْهِ ضِمْنًا، لَكِنْ أَرَادَ التَّنْصِيصَ عَلَيْهِ، وَأَخَّرَ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ عَنْ فَضْلِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ الصِّبْيَانَ دَاخِلُونَ فِي قَوْلِهِ: مَنْ تَبِعَ جِنَازَةً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌60 - بَاب الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ بِالْمُصَلَّى وَالْمَسْجِدِ

(1)

في النسخة المخطوطة "ابن عباس"

ص: 198

1327 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَأَبِي سَلَمَةَ، أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: نَعَى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّجَاشِيَّ صَاحِبَ الْحَبَشَةِ يَوْمَ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَقَالَ: اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ.

1328 -

وَعَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَفَّ بِهِمْ بِالْمُصَلَّى، فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا.

1329 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ مِنْهُمْ وَامْرَأَةٍ زَنَيَا، فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا قَرِيبًا مِنْ مَوْضِعِ الْجَنَائِزِ عِنْدَ الْمَسْجِدِ.

[الحديث 1329 - أطرافه في: 3635، 4556، 6841، 7337، 7543]

قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ بِالْمُصَلَّى وَالْمَسْجِدِ) قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: لَمْ يَتَعَرَّضِ الْمُصَنِّفُ لِكَوْنِ الْمَيِّتِ بِالْمُصَلَّى أَوْ لَا، لِأَنَّ الْمُصَلَّى عَلَيْهِ كَانَ غَائِبًا، وَأُلْحِقَ حُكْمُ الْمُصَلَّى بِالْمَسْجِدِ بِدَلِيلِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْعِيدَيْنِ وَفِي الْحَيْضِ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ: وَيَعْتَزِلُ الْحُيَّضُ الْمُصَلَّى. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لِلْمُصَلَّى حُكْمُ الْمَسْجِدِ فِيمَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْتَنَبَ فِيهِ وَيَلْحَقَ بِهِ مَا سِوَى ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَا فِي قِصَّةِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّجَاشِيِّ قَبْلَ خَمْسَةِ أَبْوَابٍ.

وقَوْلُهُ هُنَا: وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْإِسْنَادِ الْمُصَدَّرِ بِهِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى عَدَدِ التَّكْبِيرِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ.

ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي رَجْمِ الْيَهُودِيَّيْنِ، وسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مَبْسُوطًا فِي كِتَابِ الْحُدُودِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ ابْنِ حَبِيبٍ أَنَّ مُصَلَّى الْجَنَائِزِ بِالْمَدِينَةِ كَانَ لَاصِقًا بِمَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ نَاحِيَةِ جِهَةِ الْمَشْرِقِ انْتَهَى، فَإِنْ ثَبَتَ مَا قَالَ، وَإِلَّا فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ هُنَا الْمُصَلَّى الْمُتَّخَذَ لِلْعِيدَيْنِ وَالِاسْتِسْقَاءِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ مَكَانٌ يَتَهَيَّأُ فِيهِ الرَّجْمُ، وَسَيَأْتِي فِي قِصَّةِ مَاعِزٍ: فَرَجَمْنَاهُ بِالْمُصَلَّى. وَدَلَّ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لِلْجَنَائِزِ مَكَانٌ مُعَدٌّ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهَا، فَقَدْ يُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ مَا وَقَعَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى بَعْضِ الْجَنَائِزِ فِي الْمَسْجِدِ كَانَ لِأَمْرٍ عَارِضٍ، أَوْ لِبَيَانِ الْجَوَازِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ فِي الْمَسْجِدِ، وَيُقَوِّيهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ: مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى سُهَيْلِ بْنِ بَيْضَاءَ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ.

أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُعْجِبُنِي، وَكَرِهَهُ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَكُلُّ مَنْ قَالَ بِنَجَاسَةِ الْمَيِّتِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِطَهَارَتِهِ مِنْهُمْ فَلِخَشْيَةِ التَّلْوِيثِ، وَحَمَلُوا الصَّلَاةَ عَلَى سُهَيْلٍ بِأَنَّهُ كَانَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ، وَالْمُصَلُّونَ دَاخِلَهُ، وَذَلِكَ جَائِزٌ اتِّفَاقًا، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ عَائِشَةَ اسْتَدَلَّتْ بِذَلِكَ لَمَّا أَنْكَرُوا عَلَيْهَا أَمْرَهَا بِالْمُرُورِ بِجِنَازَةِ سَعْدٍ عَلَى حُجْرَتِهَا لِتُصَلِّيَ عَلَيْهِ، وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْعَمَلَ اسْتَقَرَّ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ، لِأَنَّ الَّذِينَ أَنْكَرُوا ذَلِكَ عَلَى عَائِشَةَ كَانُوا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَرُدَّ بِأَنَّ عَائِشَةَ لَمَّا أَنْكَرَتْ ذَلِكَ الْإِنْكَارَ سَلَّمُوا لَهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا حَفِظَتْ مَا نَسُوهُ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُ: إِنَّ عُمَرَ صَلَّى عَلَى أَبِي بَكْرٍ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَنَّ صُهَيْبًا صَلَّى عَلَى عُمَرَ فِي الْمَسْجِدِ. زَادَ فِي رِوَايَةٍ: وَوُضِعَتِ الْجِنَازَةُ فِي الْمَسْجِدِ تُجَاهَ الْمِنْبَرِ. وَهَذَا يَقْتَضِي الْإِجْمَاعَ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ.

ص: 199

‌61 - بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ اتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ

وَلَمَّا مَاتَ الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رضي الله عنهم، ضَرَبَتْ امْرَأَتُهُ الْقُبَّةَ عَلَى قَبْرِهِ سَنَةً، ثُمَّ رُفِعَتْ، فَسَمِعُوا صَائِحًا يَقُولُ: أَلَا هَلْ وَجَدُوا مَا فَقَدُوا؟ فَأَجَابَهُ الْآخَرُ: بَلْ يَئِسُوا فَانْقَلَبُوا.

1330 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ شَيْبَانَ، عَنْ هِلَالٍ - هُوَ الْوَزَّانُ -، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسْجِدًا. قَالَتْ: وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَبْرَزُوا قَبْرَهُ، غَيْرَ أَنِّي أَخْشَى أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ اتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ) تَرْجَمَ بَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَبْوَابٍ: بَابُ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ عَلَى الْقَبْرِ. قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: الِاتِّخَاذُ أَعَمُّ مِنَ الْبِنَاءِ، فَلِذَلِكَ أَفْرَدَهُ بِالتَّرْجَمَةِ، وَلَفْظُهَا يَقْتَضِي أَنَّ بَعْضَ الِاتِّخَاذِ لَا يُكْرَهُ، فَكَأَنَّهُ يَفْصِلُ بَيْنَ مَا إِذَا تَرَتَّبَتْ عَلَى الِاتِّخَاذِ مَفْسَدَةٌ أَوْ لَا.

قَوْلُهُ: (وَلَمَّا مَاتَ الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ) هُوَ مِمَّنْ وَافَقَ اسْمُهُ اسْمَ أَبِيهِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ، وَهُوَ مِنْ ثِقَاتِ التَّابِعِينَ، وَرَوَى لَهُ النَّسَائِيُّ، وَلَهُ وَلَدٌ يُسَمَّى الْحَسَنُ أَيْضًا، فَهُمْ ثَلَاثَةٌ فِي نَسَقٍ، وَاسْمُ امْرَأَتِهِ الْمَذْكُورَةِ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْحُسَيْنِ وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّهِ.

قَوْلُهُ: (الْقُبَّةُ) أَيِ الْخَيْمَةُ، فَقَدْ جَاءَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِلَفْظِ الْفُسْطَاطِ، كَمَا رَوَيْنَاهُ فِي الْجُزْءِ السَّادِسِ عَشَرَ مِنْ حَدِيثِ الْحُسَيْنِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَحَامِلِيِّ رِوَايَةَ الْأَصْبَهَانِيِّينَ عَنْهُ، وَفِي كِتَابِ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا فِي الْقُبُورِ مِنْ طَرِيقِ الْمُغِيرَةِ بْنِ مِقْسَمٍ قَالَ: لَمَّا مَاتَ الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ ضَرَبَتِ امْرَأَتُهُ عَلَى قَبْرِهِ فُسْطَاطًا، فَأَقَامَتْ عَلَيْهِ سَنَةً. فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَمُنَاسَبَةُ هَذَا الْأَثَرِ لِحَدِيثِ الْبَابِ أَنَّ الْمُقِيمَ فِي الْفُسْطَاطِ لَا يَخْلُو مِنَ الصَّلَاةِ هُنَاكَ، فَيَلْزَمُ اتِّخَاذُ الْمَسْجِدِ عِنْدَ الْقَبْرِ، وَقَدْ يَكُونُ الْقَبْرُ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ، فَتَزْدَادُ الْكَرَاهَةُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: إِنَّمَا ضُرِبَتِ الْخَيْمَةُ هُنَاكَ لِلِاسْتِمْتَاعِ بِالْمَيِّتِ بِالْقُرْبِ مِنْهُ تَعْلِيلًا لِلنَّفْسِ، وَتَخْيِيلًا بِاسْتِصْحَابِ الْمَأْلُوفِ مِنَ الْأُنْسِ، وَمُكَابَرَةً لِلْحِسِّ، كَمَا يَتَعَلَّلُ بِالْوُقُوفِ عَلَى الْأَطْلَالِ الْبَالِيَةِ، وَمُخَاطَبَةِ الْمَنَازِلِ الْخَالِيَةِ، فَجَاءَتْهُمُ الْمَوْعِظَةُ عَلَى لِسَانِ الْهَاتِفِينَ بِتَقْبِيحِ مَا صَنَعُوا، وَكَأَنَّهُمَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ مِنْ مُؤْمِنِي الْجِنِّ. وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ لِمُوَافَقَتِهِ لِلْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، لَا لِأَنَّهُ دَلِيلٌ بِرَأْسِهِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ شَيْبَانَ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّحْوِيُّ، وَهِلَالُ الْوَزَّانِ هُوَ ابْنُ أَبِي حُمَيْدٍ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَكَذَا وَقَعَ مَنْسُوبًا عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ وَغَيْرِهِمَا. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ: قَالَ وَكِيعٌ: هِلَالُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَقَالَ مَرَّةً: هِلَالُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَلَا يَصِحُّ.

قَوْلُهُ: (مَسْجِدًا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مَسَاجِدَ.

قَوْلُهُ: (لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ) أَيْ لَكُشِفَ قَبْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يُتَّخَذْ عَلَيْهِ الْحَائِلُ، وَالْمُرَادُ الدَّفْنُ خَارِجَ بَيْتِهِ، وَهَذَا قَالَتْهُ عَائِشَةُ قَبْلَ أَنْ يُوَسَّعَ الْمَسْجِدُ النَّبَوِيُّ، وَلِهَذَا لَمَّا وُسِّعَ الْمَسْجِدُ جُعِلَتْ حُجْرَتُهَا مُثَلَّثَةَ الشَّكْلِ مُحَدَّدَةً، حَتَّى لَا يَتَأَتَّى لِأَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ إِلَى جِهَةِ الْقَبْرِ مَعَ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ.

قَوْلُهُ: (غَيْرَ أَنِّي أَخْشَى) كَذَا هُنَا، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ هِلَالٍ الْآتِيَةِ فِي أَوَاخِرِ الْجَنَائِزِ: غَيْرَ أَنَّهُ خَشِيَ أَوْ خُشِيَ. عَلَى الشَّكِّ: هَلْ هُوَ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، أَوْ ضَمِّهَا، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: غَيْرَ أَنَّهُ خُشِيَ. بِالضَّمِّ لَا غَيْرَ، فَرِوَايَةُ الْبَابِ تَقْتَضِي أَنَّهَا هِيَ الَّتِي امْتَنَعَتْ مِنْ إِبْرَازِهِ، وَرِوَايَةُ الضَّمِّ مُبْهَمَةٌ، يُمْكِنُ أَنْ تُفَسَّرَ بِهَذِهِ، وَالْهَاءُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَكَأَنَّهَا أَرَادَتْ نَفْسَهَا وَمَنْ وَافَقَهَا عَلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ فَعَلُوهُ بِاجْتِهَادٍ، بِخِلَافِ رِوَايَةِ الْفَتْحِ، فَإِنَّهَا تَقْتَضِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هُوَ الَّذِي أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ فَوَائِدِ الْمَتْنِ فِي أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ فِي بَابِ هَلْ تُنْبَشُ قُبُورُ

ص: 200

الْمُشْرِكِينَ. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: مُفَادُ الْحَدِيثِ مَنْعُ اتِّخَاذِ الْقَبْرِ مَسْجِدًا، وَمَدْلُولُ التَّرْجَمَةِ اتِّخَاذُ الْمَسْجِدِ عَلَى الْقَبْرِ، وَمَفْهُومُهُمَا مُتَغَايِرٌ، وَيُجَابُ بِأَنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ، وَإِنْ تَغَايَرَ الْمَفْهُومُ.

‌62 - بَاب الصَّلَاةِ عَلَى النُّفَسَاءِ إِذَا مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا

1331 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا، فَقَامَ عَلَيْهَا وَسَطَهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّلَاةِ عَلَى النُّفَسَاءِ إِذَا مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا) وَقَعَ فِي نُسْخَةٍ: مِنْ بَدَلَ فِي؛ أَيْ فِي مُدَّةِ نِفَاسِهَا أَوْ بِسَبَبِ نِفَاسِهَا، وَالْأَوَّلُ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ مَاتَتْ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، وَالثَّانِي أَلْيَقُ بِخَبَرِ الْبَابِ فَإِنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَنَّهَا مَاتَتْ حَامِلًا، وَقد تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ كِتَابِ الْحَيْضِ. وَحُسَيْنٌ الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ هُوَ ابْنُ ذَكْوَانَ الْمُعَلِّمُ، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ وَغَيْرُهُ: الْمَقْصُودُ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ أَنَّ النُّفَسَاءَ وَإِنْ كَانَتْ مَعْدُودَةً مِنْ جُمْلَةِ الشُّهَدَاءِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهَا مَشْرُوعَةٌ، بِخِلَافِ شَهِيدِ الْمَعْرَكَةِ.

‌63 - بَاب أَيْنَ يَقُومُ مِنْ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ

1332 -

حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ، حَدَّثَنَا سَمُرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا، فَقَامَ عَلَيْهَا وَسَطَهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ أَيْنَ يَقُومُ) أَيِ الْإِمَامُ (مِنَ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ سَمُرَةَ الْمَذْكُورَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ.

وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَرْأَةِ، فَإِنَّ كَوْنَهَا نُفَسَاءَ وَصْفٌ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَأَمَّا كَوْنَهَا امْرَأَةً فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا، فَإِنَّ الْقِيَامَ عَلَيْهَا عِنْدَ وَسَطِهَا لِسَتْرِهَا، وَذَلِكَ مَطْلُوبٌ فِي حَقِّهَا، بِخِلَافِ الرَّجُلِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ مُعْتَبَرًا، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ اتِّخَاذِ النَّعْشِ لِلنِّسَاءِ، فَأَمَّا بَعْدَ اتِّخَاذِهِ، فَقَدْ حَصَلَ السَّتْرُ الْمَطْلُوبُ، وَلِهَذَا أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ التَّرْجَمَةَ مَوْرِدَ السُّؤَالِ، وَأَرَادَ عَدَمَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَأَشَارَ إِلَى تَضْعِيفِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي غَالِبٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ صَلَّى عَلَى رَجُلٍ، فَقَامَ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَصَلَّى عَلَى امْرَأَةٍ فَقَامَ عِنْدَ عَجِيزَتِهَا، فَقَالَ لَهُ الْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ: أَهَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ؟ قَالَ: نَعَمْ

(1)

، وَحَكَى ابْنُ رَشِيدٍ، عَنِ ابْنِ الْمُرَابِطِ أَنَّهُ أَبْدَى لِكَوْنِهَا نُفَسَاءَ عِلَّةً مُنَاسَبَةً، وَهِيَ اسْتِقْبَالُ جَنِينِهَا لِيَنَالَهُ مِنْ بَرَكَةِ الدُّعَاءِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْجَنِينَ كَعُضْوٍ مِنْهَا، ثُمَّ هُوَ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ إِذَا انْفَرَدَ وَكَانَ سِقْطًا

(2)

، فَأَحْرَى إِذَا كَانَ بَاقِيًا فِي بَطْنِهَا أَنْ لَا يُقْصَدَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(1)

وأخرجه أحمد وابن ماجه ولفظهما ولفظ الترمذي "عند رأس الرجل ووسط المرأة" وإسناده جيد، وهو حجة قائمة على التفرقة بين الرجل والمرأة في الموقف، ودليل على أن السنة الوقوف عند رأس الرجل ووسط المرأة. والله أعلم.

(2)

القول بعد الصلاة على السقط ضعيف، والصواب شرعية الصلاة عليه إذا سقط بعد نفخ الروح فيه وكان محكوما باسلامه لأنه ميت مسلم فشرعت الصلاة عليه كسائر موتى المسلين، ولما روى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "والسقط يصلى عليه ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة" وإسناده حسن. والله أعلم

ص: 201

(تَنْبِيهٌ): رَوَى حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَعْقِلِ بْنِ مُقَرِّنٍ أُتِيَ بِجِنَازَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ، فَصَلَّى عَلَى الرَّجُلِ، ثُمَّ صَلَّى عَلَى الْمَرْأَةِ. أَخْرَجَهُ ابْنُ شَاهِينٍ فِي الْجَنَائِزِ لَهُ، وَهُوَ مَقْطُوعٌ، فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ تَابِعِيٌّ.

‌64 - بَاب التَّكْبِير عَلَى الْجِنَازَة أَرْبَعًا

وَقَالَ حُمَيْدٌ: صَلَّى بِنَا أَنَسٌ رضي الله عنه فَكَبَّرَ ثَلَاثًا، ثُمَّ سَلَّمَ، فَقِيلَ لَهُ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ كَبَّرَ الرَّابِعَةَ، ثُمَّ سَلَّمَ

1333 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَعَى النَّجَاشِيَّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ وَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى الْمُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِمْ، وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ.

1334 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى أَصْحَمَةَ النَّجَاشِيِّ، فَكَبَّرَ أَرْبَعًا.

قَوْلُهُ: (بَابُ التَّكْبِيرِ عَلَى الْجِنَازَةِ أَرْبَعًا) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى أَنَّ التَّكْبِيرَ لَا يَزِيدُ عَلَى أَرْبَعٍ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ تَرْجَمَةً أُخْرَى، وَلَا خَبَرًا فِي الْبَابِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ: فَرَوَى مُسْلِمٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ أَنَّهُ يُكَبِّرُ خَمْسًا، وَرَفَعَ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ صَلَّى عَلَى جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ فَكَبَّرَ خَمْسًا، وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ سِتًّا، وَعَلَى الصَّحَابَةِ خَمْسًا، وَعَلَى سَائِرِ النَّاسِ أَرْبَعًا، وَرُوِيَ أَيْضًا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ، قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى جِنَازَةٍ، فَكَبَّرَ ثَلَاثًا. وَسَنَذْكُرُ الِاخْتِلَافَ عَلَى أَنَسٍ فِي ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: ذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ التَّكْبِيرَ أَرْبَعٌ، وَفِيهِ أَقْوَالٌ أُخَرُ، فَذَكَرَ مَا تَقَدَّمَ. قَالَ: وَذَهَبَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ إِلَى أَنَّهُ لَا يُنْقَصُ مِنْ ثَلَاثٍ، وَلَا يُزَادُ عَلَى سَبْعٍ. وَقَالَ أَحْمَدُ مِثْلَهُ، لَكِنْ قَالَ: لَا يُنْقَصُ مِنْ أَرْبَعٍ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كَبِّرْ مَا كَبَّرَ الْإِمَامُ. قَالَ: وَالَّذِي نَخْتَارُهُ مَا ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ، ثُمَّ سَاقَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: كَانَ التَّكْبِيرُ أَرْبَعًا وَخَمْسًا، فَجَمَعَ عُمَرُ النَّاسَ عَلَى أَرْبَعٍ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ إِلَى أَبِي وَائِلٍ قَالَ: كَانُوا يُكَبِّرُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبْعًا وَسِتًّا وَخَمْسًا وَأَرْبَعًا، فَجَمَعَ عُمَرُ النَّاسَ عَلَى أَرْبَعٍ كَأَطْوَلِ الصَّلَاةِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ حُمَيْدٌ: صَلَّى بِنَا أَنَسٌ فَكَبَّرَ ثَلَاثًا ثُمَّ سَلَّمَ، فَقِيلَ لَهُ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ كَبَّرَ الرَّابِعَةَ، ثُمَّ سَلَّمَ) لَمْ أَرَهُ مَوْصُولًا مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدٍ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ كَبَّرَ عَلَى جِنَازَةٍ ثَلَاثًا، ثُمَّ انْصَرَفَ نَاسِيًا، فَقَالُوا: يَا أَبَا حَمْزَةَ: إِنَّكَ كَبَّرْتَ ثَلَاثًا. فَقَالَ: صُفُّوا. فَصَفُّوا، فَكَبَّرَ الرَّابِعَةَ. وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ الِاقْتِصَارُ عَلَى ثَلَاثٍ. قَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ، عَنْ عِمْرَانِ بْنِ حُدَيْرٍ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَلَى جِنَازَةٍ، فَكَبَّرَ عَلَيْهَا ثَلَاثًا لَمْ يَزِدْ عَلَيْهَا. وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: قِيلَ لِأَنَسٍ: إِنَّ فُلَانًا كَبَّرَ ثَلَاثًا. فَقَالَ: وَهَلِ التَّكْبِيرُ إِلَّا ثَلَاثًا؟ انْتَهَى. قَالَ مُغَلْطَايْ: إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَهَمٌ. قُلْتُ: بَلْ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ مَا اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى أَنَسٍ، إِمَّا بِأَنَّهُ كَانَ يَرَى الثَّلَاثَ مُجْزِئَةً وَالْأَرْبَعَ أَكْمَلَ مِنْهَا، وَإِمَّا بِأَنَّ مَنْ أَطْلَقَ عَنْهُ الثَّلَاثَ لَمْ

ص: 202

يَذْكُرِ الْأُولَى، لِأَنَّهَا افْتِتَاحَ الصَّلَاةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ سُنَّةِ الصَّلَاةِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّ أَنَسًا قَالَ: أَوَلَيْسَ التَّكْبِيرُ ثَلَاثًا؟ فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا حَمْزَةَ التَّكْبِيرُ أَرْبَعًا. قَالَ: أَجَلْ، غَيْرَ أَنَّ وَاحِدَةً هِيَ افْتِتَاحُ الصَّلَاةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ قَالَ: يَزِيدُ فِي التَّكْبِيرِ عَلَى أَرْبَعٍ إِلَّا ابْنَ أَبِي لَيْلَى. انْتَهَى. وَفِي الْمَبْسُوطِ لِلْحَنَفِيَّةِ قِ لَ: إِنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ: يُكَبَّرُ خَمْسًا.

وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ عَنْ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ. ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى النَّجَاشِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْ إِيرَادِ مَنْ تَعَقَّبَهُ بِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّجَاشِيِّ صَلَاةٌ عَلَى غَائِبٍ لَا عَلَى جِنَازَةٍ، وَمُحَصِّلُ الْجَوَابِ أَنَّ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي دَاوُدَ فِي الْأَفْرَادِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَكَبَّرَ أَرْبَعًا. وَقَالَ: لَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهُ كَبَّرَ عَلَى جِنَازَةٍ أَرْبَعًا إِلَّا فِي هَذَا.

وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ وعبد الصمد عَنْ سَلِيمٍ: أَصْحَمَةَ، وَتَابَعَهُ عَبْدُ الصَّمَدِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، وَعَبْدُ الصَّمَدِ، عَنْ سُلَيْمٍ) يَعْنِي بِإِسْنَادِهِ إِلَى جَابِرٍ (أَصْحَمَةُ) وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَقَالَ يَزِيدُ، عَنْ سُلَيْمٍ: أَصْحَمَةُ. وَتَابَعَهُ عَبْدُ الصَّمَدِ، أَمَّا رِوَايَةُ يَزِيدَ فَوَصَلَهَا الْمُصَنِّفُ فِي هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ، وَأَمَّا رِوَايَةُ عَبْدِ الصَّمَدِ فَوَصَلَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْهُ.

(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ الَّتِي اتَّصَلَتْ لَنَا مِنَ الْبُخَارِيِّ، أَصْحَمَةُ بِمُهْمَلَتَيْنِ بِوَزْنِ أَفْعَلَةُ مَفْتُوحُ الْعَيْنِ فِي الْمُسْنَدِ وَالْمُعَلَّقِ مَعًا، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ إِيرَادَ الْمُصَنِّفِ يُشْعِرُ بِأَنْ يَزِيدَ خَالَفَ مُحَمَّدَ بْنَ سِنَانٍ، وَأَنَّ عَبْدَ الصَّمَدِ تَابَعَ يَزِيدَ، وَوَقَعَ فِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ يَزِيدَ: صَحْمَةُ؛ بِفَتْحِ الصَّادِ وَسُكُونِ الْحَاءِ، فَهَذَا مُتَّجَهٌ، وَيَتَحَصَّلُ مِنْهُ أَنَّ الرُّوَاةَ اخْتَلَفُوا فِي إِثباتِ الْأَلِفِ وَحَذْفِهَا. وَحَكَى الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَنَّ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الصَّمَدِ: أَصْخَمَةُ؛ بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ وَإِثْبَاتِ الْأَلِفِ، قَالَ: وَهُوَ غَلَطٌ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَحَلُّ الِاخْتِلَافِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْبُخَارِيُّ. وَحَكَى كَثِيرٌ مِنَ الشُّرَّاحِ أَنَّ رِوَايَةَ يَزِيدَ وَرَفِيقِهِ: صَحْمَةُ؛ بِالْمُهْمَلَةِ بِغَيْرِ أَلِفٍ. وَحَكَى الْكِرْمَانِيُّ أَنَّ فِي بَعْضِ النُّسَخِ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ: أَصْحَبَةُ؛ بِمُوَحَّدَةٍ بَدَلَ الْمِيمِ.

‌65 - بَاب قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ عَلَى الْجَنَازَةِ

وَقَالَ الْحَسَنُ: يَقْرَأُ عَلَى الطِّفْلِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا فَرَطًا وَسَلَفًا وَأَجْرًا

1335 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدٍ، عَنْ طَلْحَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما.

وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَلَى جَنَازَةٍ، فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ. قَالَ: لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّةٌ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ عَلَى الْجِنَازَةِ) أَيْ مَشْرُوعِيَّتُهَا، وَهِيَ مِنَ الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا، وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ مَشْرُوعِيَّتَهَا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ. وَنُقِلَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عُمَرَ: لَيْسَ فِيهَا قِرَاءَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالْكُوفِيِّينَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَسَنُ إِلَخْ) وَصَلَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ لَهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى الصَّبِيِّ، فَأَخْبَرَهُمْ عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ ثُمَّ يَقْرَأُ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا سَلَفًا وَفَرَطًا وَأَجْرًا. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ: السُّنَّةُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ أَنْ يُكَبِّرَ ثُمَّ يَقْرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ، ثُمَّ يُصَلِّيَ

ص: 203

عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يُخْلِصُ الدُّعَاءَ لِلْمَيِّتِ وَلَا يَقْرَأُ إِلَّا فِي الْأُولَى. إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.

قَوْلُهُ: (عَنْ سَعْدٍ) هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الزُّهْرِيُّ، وَطَلْحَةُ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ الْخُزَاعِيُّ كَمَا نُسَمِّيهِمَا فِي الْإِسْنَادِ الثَّانِي.

(تَنْبِيهٌ): لَيْسَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ بَيَانُ مَحَلِّ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ، أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ بِلَفْظِ: وَقَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى. أَفَادَهُ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ وَقَالَ: إِنَّ سَنَدَهُ ضَعِيفٌ.

قَوْلُهُ: (لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّةٌ) قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: جَمَعَ الْبُخَارِيُّ بَيْنَ رِوَايَتَيْ شُعْبَةَ، وَسُفْيَانَ، وَسِيَاقُهُمَا مُخْتَلِفٌ اهـ. فَأَمَّا رِوَايَةُ شُعْبَةَ فَقَدْ أَخْرَجَهَا ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَالنَّسَائِيُّ جَمِيعًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ بِلَفْظِ: فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: نَعَمْ يَا ابْنَ أَخِي، إِنَّهُ حَقٌّ وَسُنَّةٌ. وَلِلْحَاكِمِ مِنْ طَرِيقِ آدَمَ، عَنْ شُعْبَةَ فَسَأَلْتُهُ فَقُلْتُ: يَقْرَأُ؟ قالَ: نَعَمْ، إِنَّهُ حَقٌّ وَسُنَّةٌ. وَأَمَّا رِوَايَةُ سُفْيَانَ فَأَخْرَجَهَا التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ عَنْهُ بِلَفْظِ: فَقَالَ: إِنَّهُ مِنَ السُّنَّةِ، أَوْ مِنْ تَمَامِ السُّنَّةِ. وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِلَفْظِ: فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ، وَجَهَرَ حَتَّى أَسْمَعَنَا، فَلَمَّا فَرَغَ أَخَذْتُ بِيَدِهِ فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: سُنَّةٌ وَحَقٌّ. وَلِلْحَاكِمِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَجْلَانَ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ يَقُولُ: صَلَّى ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى جِنَازَةٍ فَجَهَرَ بِالْحَمْدِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا جَهَرْتُ لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّةٌ.

وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ: سُنَّةٌ حَدِيثٌ مُسْنَدٌ، كَذَا نُقِلَ الْإِجْمَاعُ، مَعَ أَنَّ الْخِلَافَ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَعِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ شَهِيرٌ، وَعَلَى الْحَاكِمِ فِيهِ مَأْخَذٌ آخَرُ، وَهُوَ اسْتِدْرَاكُهُ لَهُ وَهُوَ فِي الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ عَلَى الْجِنَازَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَقَالَ: لَا يَصِحُّ هَذَا، وَالصَّحِيحُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: مِنَ السُّنَّةِ وَهَذَا مَصِيرٌ مِنْهُ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الصِّيغَتَيْنِ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ الْفَرْقَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّرَاحَةِ وَالِاحْتِمَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَوَى الْحَاكِمُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ شُرَحْبِيلَ بْنِ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ بِالْأَبْوَاءِ فَكَبَّرَ، ثُمَّ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ رَافِعًا صَوْتَهُ، ثُمَّ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ أَصْبَحَ فَقِيرًا إِلَى رَحْمَتِكَ، وَأَنْتَ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِهِ، إِنْ كَانَ زَاكِيًا فَزَكِّهِ، وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا فَاغْفِرْ لَهُ. اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ، وَلَا تُضِلَّنَا بَعْدَهُ. ثُمَّ كَبَّرَ ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ ثُمَّ انْصَرَفَ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي لَمْ أَقْرَأْ عَلَيْهَا - أَيْ جَهْرًا - إِلَّا لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّةٌ. قَالَ الْحَاكِمُ: شُرَحْبِيلُ لَمْ يَحْتَجَّ بِهِ الشَّيْخَانِ، وَإِنَّمَا أَخْرَجْتُهُ لِأَنَّهُ مُفَسِّرٌ لِلطُّرُقِ الْمُتَقَدِّمَةِ. انْتَهَى.

وَشُرَحْبِيلُ مُخْتَلَفٌ فِي تَوْثِيقِهِ، وَاسْتَدَلَّ الطَّحَاوِيُّ عَلَى تَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُولَى بِتَرْكِهَا فِي بَاقِي التَّكْبِيرَاتِ وَبِتَرْكِ التَّشَهُّدِ، قَالَ: وَلَعَلَّ قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ مِنَ الصَّحَابَةِ كَانَ عَلَى وَجْهِ الدُّعَاءِ لَا عَلَى وَجْهِ التِّلَاوَةِ. وَقَوْلُهُ: أَنَّهَا سُنَّةٌ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ الدُّعَاءَ سُنَّةٌ. انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى مَا يَجِيءُ عَلَى كَلَامِهِ مِنَ التَّعَقُّبِ، وَمَا يَتَضَمَّنُهُ اسْتِدْلَالُهُ مِنَ التَّعَسُّفِ.

‌66 - بَاب الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ بَعْدَمَا يُدْفَنُ

1336 -

حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ مَرَّ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ، فَأَمَّهُمْ، وَصَلَّوْا خَلْفَهُ. قُلْتُ: مَنْ حَدَّثَكَ هَذَا يَا أَبَا عَمْرٍو؟ قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما.

1337 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ

ص: 204

عَنْهُ أَنَّ أَسْوَدَ - رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً - كَانَ يَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ يَقُمُّ الْمَسْجِدَ، فَمَاتَ، وَلَمْ يَعْلَمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَوْتِهِ، فَذَكَرَهُ ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالَ: مَا فَعَلَ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ؟ قَالُوا: مَاتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: أَفَلَا آذَنْتُمُونِي؟ فَقَالُوا: إِنَّهُ كَانَ كَذَا وَكَذَا قِصَّتُهُ. قَالَ: فَحَقَرُوا شَأْنَهُ. قَالَ: فَدُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ، فَأَتَى قَبْرَهُ، فَصَلَّى عَلَيْهِ.

[الحديث 1337 - طرفه في: 1374]

قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ بَعْدَمَا يُدْفَنَ) وَهَذا أَيْضًا مِنَ الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: قَالَ بِمَشْرُوعِيَّتِهِ الْجُمْهُورُ، وَمَنَعَهُ النَّخَعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَعَنْهُمْ: إِنْ دُفِنَ قَبْلَ أَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ شُرِعَ، وَإِلَّا فَلَا.

قَوْلُهُ: (قُلْتُ: مَنْ حَدَّثَكَ هَذَا يَا أَبَا عَمْرٍو) الْقَائِلُ هُوَ الشَّيْبَانِيُّ، وَالْمَقُولُ لَهُ هُوَ الشَّعْبِيُّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْإِذْنِ بِالْجِنَازَةِ بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ، وَفِيهِ عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَتَكَلَّمْنَا هُنَاكَ عَلَى مَا وَرَدَ فِي تَسْمِيَةِ الْمَقْبُورِ الْمَذْكُورِ. وَوَقَعَ فِي الْأَوْسَطِ لِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ الدُّولَابِيِّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ زَكَرِيَّا، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ أَنَّهُ صَلَّى عَلَيْهِ بَعْدَ دَفْنِهِ بِلَيْلَتَيْنِ. وَقَالَ: إِنَّ إِسْمَاعِيلَ تَفَرَّدَ بِذَلِكَ. وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ هُرَيْمِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ فَقَالَ: بَعْدَ مَوْتِهِ بِثَلَاثٍ. وَمِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ آدَمَ، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، فَقَالَ: بَعْدَ شَهْرٍ. وَهَذِهِ رِوَايَاتٌ شَاذَّةٌ، وَسِيَاقُ الطُّرُقِ الصَّحِيحَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى عَلَيْهِ فِي صَبِيحَةِ دَفْنِهِ.

قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ (فَأَتَى قَبْرَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ) زَادَ ابْنُ حِبَّانَ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ: ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللَّهَ يُنَوِّرُهَا عَلَيْهِمْ بِصَلَاتِي. وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ بَعْضَ الْمُخَالِفِينَ احْتَجَّ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ صلى الله عليه وسلم. ثُمَّ سَاقَ مِنْ طَرِيقِ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ نَحْوَ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَفِيهَا: ثُمَّ أَتَى الْقَبْرَ فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا. قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: فِي تَرْكِ إِنْكَارِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَنْ صَلَّى مَعَهُ عَلَى الْقَبْرِ بَيَانُ جَوَازِ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِهِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الَّذِي يَقَعُ بِالتَّبَعِيَّةِ لَا يَنْهَضُ دَلِيلًا لِلْأَصَالَةِ، وَاسْتَدَلَّ بِخَبَرِ الْبَابِ عَلَى رَدِّ التَّفْصِيلِ بَيْنَ مَنْ صَلَّي عَلَيْهِ، فَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ بِأَنَّ الْقِصَّةَ وَرَدَتْ فِيمَنْ صُلِّيَ عَلَيْهِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْخُصُوصِيَّةَ تَنْسَحِبُ عَلَى ذَلِكَ. وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِشَرْعِ الصَّلَاةِ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّ، فَقِيلَ: يُؤَخَّرُ دَفْنُهُ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهَا مَنْ كَانَ لَمْ يُصَلِّ. وَقِيلَ: يُبَادَرُ بِدَفْنِهَا وَيُصَلِّي الَّذِي فَاتَتْهُ عَلَى الْقَبْرِ. وَكَذَا اخْتُلِفَ فِي أَمَدِ ذَلِكَ: فَعِنْدَ بَعْضِهِمْ: إِلَى شَهْرٍ. وَقِيلَ: مَا لَمْ يَبْلُ الْجَسَدُ. وَقِيلَ: يَخْتَصُّ بِمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ حِينَ مَوْتِهِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَبَدًا.

‌67 - بَاب الْمَيِّتُ يَسْمَعُ خَفْقَ النِّعَالِ

1338 -

حَدَّثَنَا عَيَّاشٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ قَالَ

وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ:، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْعَبْدُ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتُوُلِّيَ، وَذَهَبَ أَصْحَابُهُ - حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ - أَتَاهُ مَلَكَانِ فَأَقْعَدَاهُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؟ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنْ النَّارِ، أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنْ الْجَنَّةِ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا. وَأَمَّا الْكَافِرُ - أَوْ الْمُنَافِقُ - فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَيُقَالُ: لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ، ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ، إِلَّا الثَّقَلَيْنِ.

ص: 205

قَوْلُهُ: (بَابُ الْمَيِّتُ يَسْمَعُ خَفْقَ النِّعَالِ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: جَرَّدَ الْمُصَنِّفُ مَا ضَمَّنَهُ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ؛ لِيَجْعَلَهُ أَوَّلَ آدَابِ الدَّفْنِ مِنَ إِلْزَامِ الْوَقَارِ وَاجْتِنَابِ اللَّغَطِ، وَقَرْعِ الْأَرْضِ بِشِدَّةِ الْوَطْءِ عَلَيْهَا كَمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ مَعَ الْحَيِّ النَّائِمِ، وَكَأَنَّهُ اقْتَطَعَ مَا هُوَ مِنْ سَمَاعِ الْآدَمِيِّينَ مِنْ سَمَاعِ مَا هُوَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَتَرْجَمَ بِالْخَفْقِ - وَلَفْظُ الْمَتْنِ بِالْقَرْعِ - إِشَارَةً إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ بِلَفْظِ الْخَفْقِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثِ طَوِيلٍ فِيهِ: وَأَنَّهُ لِيَسْمَعَ خَفْقَ نِعَالِهِمْ. وَرَوَى إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّ الْمَيِّتَ لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ. أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ هَكَذَا مُخْتَصَرًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. . . نَحْوَهُ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ الْمَشْيِ بَيْنَ الْقُبُورِ بِالنِّعَالِ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ سِوَى الْحِكَايَةُ عَمَّنْ يَدْخُلُ الْمَقَابِرَ، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي إِبَاحَةً وَلَا تَحْرِيمًا. انْتَهَى.

وَإِنَّمَا اسْتَدَلَّ بِهِ مَنِ اسْتَدَلَّ عَلَى الْإِبَاحَةِ أَخْذًا مِنْ كَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم قَالَهُ وَأَقَرَّهُ، فَلَوْ كَانَ مَكْرُوهًا لَبَيَّنَهُ، لَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ سَمَاعَهُ إِيَّاهَا بَعْدَ أَنْ يُجَاوِزَ الْمَقْبَرَةَ، وَيَدُلُّ عَلَى الْكَرَاهَةِ حَدِيثُ بَشِيرِ بْنِ الْخَصَاصِيَةِ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا يَمْشِي بَيْنَ الْقُبُورِ وَعَلَيْهِ نَعْلَانِ سِبْتِيَّتَانِ، فَقَالَ: يَا صَاحِبَ السِّبْتِيَّتَيْنِ أَلْقِ نَعْلَيْكَ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ. وَأَغْرَبَ ابْنُ حَزْمٍ فَقَالَ: يَحْرُمُ الْمَشْيُ بَيْنَ الْقُبُورِ بِالنِّعَالِ السِّبْتِيَّةِ دُونَ غَيْرِهَا، وَهُوَ جُمُودٌ شَدِيدٌ. وَأَمَّا قَوْلُ الْخَطَّابِيِّ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنْهُمَا لِمَا فِيهِمَا مِنَ الْخُيَلَاءِ، فَإِنَّهُ مُتَعَقَّبٌ بِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ وَيَقُولُ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَلْبَسُهَا. وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ كَمَا سَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ. وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: يُحْمَلُ نَهْيُ الرَّجُلِ الْمَذْكُورِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي نَعْلَيْهِ قَذَرٌ، فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ مَا لَمْ يَرَ فِيهِمَا أَذًى.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَيَّاشٌ) هُوَ ابْنُ الْوَلِيدِ الرَّقَّامُ، كَمَا جَزَمَ بِهِ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ، وَهُوَ بِتَحْتَانِيَّةٍ وَمُعْجَمَةٍ. وَعَبْدُ الْأَعْلَى هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى. وَسَاقَ حَدِيثَهُ مَقْرُونًا بِرِوَايَةِ خَلِيفَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ عَلَى لَفْظِ خَلِيفَةَ، وَسَيَأْتِي مُفْرَدًا فِي عَذَابِ الْقَبْرِ عَنْ عَيَّاشِ بْنِ الْوَلِيدِ بِلَفْظِهِ وَمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةٍ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَوْلُهُ هُنَا: إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى وَذَهَبَ أَصْحَابُهُ. كَذَا ثَبَتَ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ، فَقَالَ ابْنُ التِّينِ: إِنَّهُ كَرَّرَ اللَّفْظَ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَرَأَيْتُهُ أَنَا مَضْبُوطًا بِخَطٍّ مُعْتَمَدٍ: وَتُوُلِّيَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ اللَّامِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، أَيْ تُوُلِّيَ أَمْرُهُ أَيِ الْمَيِّتُ، وَسَيَأْتِي فِي رِوَايَةِ عَيَّاشٍ بِلَفْظِ: وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ. وَهُوَ الْمَوْجُودُ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ.

‌68 - بَاب مَنْ أَحَبَّ الدَّفْنَ فِي الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ أَوْ نَحْوِهَا

1339 -

حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى عليهما السلام، فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ، فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ، فَقَالَ: أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ عَيْنَهُ، وَقَالَ: ارْجِعْ فَقُلْ لَهُ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَلَهُ بِكُلِّ مَا غَطَّتْ بِهِ يَدُهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ، قَالَ: أَيْ رَبِّ، ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ الْمَوْتُ، قَالَ: فَالْآنَ، فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُدْنِيَهُ مِنْ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ

ص: 206

عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أَحَبَّ الدَّفْنَ فِي الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ أَوْ نَحْوِهَا) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَوْ نَحْوِهَا بَقِيَّةُ مَا تُشَدُّ إِلَيْهِ الرِّحَالُ مِنَ الْحَرَمَيْنِ، وَكَذَلِكَ مَا يُمْكِنُ مِنْ مَدَافِنِ الْأَنْبِيَاءِ وَقُبُورِ الشُّهَدَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ تَيَمُّنًا بِالْجِوَارِ، وَتَعَرُّضًا لِلرَّحْمَةِ النَّازِلَةِ عَلَيْهِمُ اقْتِدَاءً بِمُوسَى عليه السلام. انْتَهَى. وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ الْقُرْبُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ دُفِنُوا بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَهُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ عِيَاضٌ، وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: إِنَّمَا طَلَبَ ذَلِكَ لِيَقْرُبَ عَلَيْهِ الْمَشْيُ إِلَى الْمَحْشَرِ، وَتَسْقُطُ عَنْهُ الْمَشَقَّةُ الْحَاصِلَةُ لِمَنْ بَعُدَ عَنْهُ.

ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى. . . . الْحَدِيثُ بِطُولِهِ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الرَّفْعَ، وَقَدْ سَاقَهُ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ثُمَّ قَالَ: وَعَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ، وَقَدْ سَاقَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ بِالسَّنَدَيْنِ كَذَلِكَ. وَقَوْلُهُ فِيهِ: رَمْيَةٌ بِحَجَرٍ؛ أَيْ قَدْرَ رَمْيَةِ حَجَرٍ، أَيْ أَدْنِنِي مِنْ مَكَانٍ إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ هَذَا الْقَدْرَ، أَوْ أَدْنِنِي إِلَيْهَا حَتَّى يَكُونَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا هَذَا الْقَدْرُ، وَهَذَا الثَّانِي أَظْهَرُ، وَعَلَيْهِ شَرَحَ ابْنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُ. وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ وَإِنْ رَجَّحَهُ بَعْضُهُمْ فَلَيْسَ بِجَيِّدٍ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَطَلَبَ الدُّنُوَّ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْقَدْرُ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَوَّلِ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ كَانَ قَدْرَ رَمْيَةٍ، فَلِذَلِكَ طَلَبَهَا، لَكِنْ حَكَى ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ غَيْرِهِ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي أَنَّهُ لَمْ يَطْلُبْ دُخُولَهَا لِيُعْمِيَ مَوْضِعَ قَبْرِهِ لِئَلَّا تَعْبُدُهُ الْجُهَّالُ مِنْ مِلَّتِهِ. انْتَهَى.

وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سِرُّ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا مَنَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ دُخُولِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَتَرَكَهُمْ فِي التِّيهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً إِلَى أَنْ أَفْنَاهُمُ الْمَوْتُ فَلَمْ يَدْخُلِ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ مَعَ يُوشَعَ إِلَّا أَوْلَادُهُمْ، وَلَمْ يَدْخُلْهَا مَعَهُ أَحَدٌ مِمَّنِ امْتَنَعَ أَوَّلًا أَنْ يَدْخُلَهَا كَمَا سَيَأْتِي شَرْحُ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَمَاتَ هَارُونُ ثُمَّ مُوسَى عليهما السلام قَبْلَ فَتْحِ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا سَيَأْتِي وَاضِحًا أَيْضًا، فَكَأَنَّ مُوسَى لَمَّا لَمْ يَتَهَيَّأْ لَهُ دُخُولُهَا لِغَلَبَةِ الْجَبَّارِينَ عَلَيْهَا، وَلَا يُمْكِنُ نَبْشُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِيُنْقَلَ إِلَيْهَا، طَلَبَ الْقُرْبَ مِنْهَا، لِأَنَّ مَا قَارَبَ الشَّيْءَ يُعْطَى حُكْمُهُ. وَقِيلَ: إِنَّمَا طَلَبَ مُوسَى الدُّنُوَّ لِأَنَّ النَّبِيَّ يُدْفَنُ حَيْثُ يَمُوتُ، وَلَا يُنْقَلُ. وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ مُوسَى قَدْ نَقَلَ يُوسُفَ عليهما السلام مَعَهُ لَمَّا خَرَجَ مِنْ مِصْرَ كَمَا سَيَأْتِي ذَلِكَ فِي تَرْجَمَتِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَاخْتُلِفَ فِي جَوَازِ نَقْلِ الْمَيِّتِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، فَقِيلَ: يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَأْخِيرِ دَفْنِهِ وَتَعْرِيضِهِ لِهَتْكِ حُرْمَتِهِ، وَقِيلَ: يُسْتَحَبُّ، وَالْأَوْلَى تَنْزِيلُ ذَلِكَ عَلَى حَالَتَيْنِ: فَالْمَنْعُ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ غَرَضٌ رَاجِحٌ كَالدَّفْنِ فِي الْبِقَاعِ الْفَاضِلَةِ، وَتَخْتَلِفُ الْكَرَاهَةُ فِي ذَلِكَ، فَقَدْ تَبْلُغُ التَّحْرِيمَ، وَالِاسْتِحْبَابُ حَيْثُ يَكُونُ ذَلِكَ بِقُرْبِ مَكَانٍ فَاضِلٍ، كَمَا نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ نَقْلِ الْمَيِّتِ إِلَى الْأَرْضِ الْفَاضِلَةِ كَمَكَّةَ وَغَيْرِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌69 - بَاب الدَّفْنِ بِاللَّيْلِ

وَدُفِنَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه لَيْلًا

1340 -

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَجُلٍ بَعْدَ مَا دُفِنَ بِلَيْلَةٍ، قَامَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَكَانَ سَأَلَ عَنْهُ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: فُلَانٌ دُفِنَ الْبَارِحَةَ فَصَلَّوْا عَلَيْهِ.

[الحديث 1340 - طرفه في: 3407]

قَوْلُهُ: (بَابُ الدَّفْنُ بِاللَّيْلِ) أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ مُحْتَجًّا بِحَدِيثِ جَابِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم زَجَرَ أَنْ يُقْبَرَ الرَّجُلُ لَيْلًا إِلَّا أَنْ يُضْطَرَّ إِلَى ذَلِكَ. أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ، لَكِنْ بَيَّنَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ وَلَفْظُهُ:

ص: 207

أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ يَوْمًا، فَذَكَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ قُبِضَ وَكُفِّنَ فِي كَفَنٍ غَيْرِ طَائِلٍ، وَقُبِرَ لَيْلًا، فَزَجَرَ أَنْ يُقْبَرَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهِ، إِلَّا أَنْ يُضْطَرَّ إِنْسَانٌ إِلَى ذَلِكَ. وَقَالَ: إِذَا وَلِيَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ بِسَبَبِ تَحْسِينِ الْكَفَنِ. وَقَوْلُهُ: حَتَّى يُصَلِّيَ عَلَيْهِ مَضْبُوطٌ بِكَسْرِ اللَّامِ؛ أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَهَذَا سَبَبٌ آخَرُ يَقْتَضِي أَنَّهُ إِنْ رُجِيَ بِتَأْخِيرِ الْمَيِّتِ إِلَى الصَّبَاحِ صَلَاةُ مَنْ تُرْجَى بَرَكَتُهُ عَلَيْهِ اسْتُحِبَّ تَأْخِيرُهُ، وَإِلَّا فَلَا، وَبِهِ جَزَمَ الطَّحَاوِيُّ.

وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ لِلْجَوَازِ بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَلَمْ يُنْكِرِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دَفْنَهُمْ إِيَّاهُ بِاللَّيْلِ، بَلْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ عَدَمَ إِعْلَامِهِمْ بِأَمْرِهِ. وَأُيِّدَ ذَلِكَ بِمَا صَنَعَ الصَّحَابَةُ بِأَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ ذَلِكَ كَالْإِجْمَاعِ مِنْهُمْ عَلَى الْجَوَازِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَرِيبًا. وَأَمَّا أَثَرُ أَبِي بَكْرٍ، فَوَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَاخِرِ الْجَنَائِزِ فِي بَابِ مَوْتِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَفِيهِ: وَدُفِنَ أَبُو بَكْرٍ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ. وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ حَدِيثِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: دُفِنَ أَبُو بَكْرٍ لَيْلًا. وَمِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ: أَنَّ عُمَرَ دَفَنَ أَبَا بَكْرٍ بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ. وَصَحَّ أَنَّ عَلِيًّا دَفَنَ فَاطِمَةَ لَيْلًا كَمَا سَيَأْتِي فِي مَكَانِهِ.

‌70 - بَاب بِنَاءِ الْمَسْجِدِ عَلَى الْقَبْرِ

1341 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَمَّا اشْتَكَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَتْ بَعْضُ نِسَائِهِ كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ يُقَالُ لَهَا: مَارِيَةُ، وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَأُمُّ حَبِيبَةَ رضي الله عنهما أَتَتَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ، فَذَكَرَتَا مِنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِيرَ فِيهَا، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: أُولَئِكِ إِذَا مَاتَ مِنْهُمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، ثُمَّ صَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّورَةَ. أُولَئِكِ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ عَلَى الْقَبْرِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي لَعْنِ مَنْ بَنَى عَلَى الْقَبْرِ مَسْجِدًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ قَبْلَ ثَمَانِيَةِ أَبْوَابٍ. قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: كَأَنَّهُ قَصَدَ بِالتَّرْجَمَةِ الْأُولَى اتِّخَاذَ الْمَسَاجِدِ فِي الْمَقْبَرَةِ لِأَجْلِ الْقُبُورِ بِحَيْثُ لَوْلَا تَجَدُّدُ الْقَبْرِ مَا اتُّخِذَ الْمَسْجِدُ. وَيُؤَيِّدُهُ بِنَاءُ الْمَسْجِدِ فِي الْمَقْبَرَةِ عَلَى حِدَتِهِ؛ لِئَلَّا يُحْتَاجُ إِلَى الصَّلَاةِ فَيُوجَدُ مَكَانٌ يُصَلَّى فِيهِ سِوَى الْمَقْبَرَةِ، فَلِذَلِكَ نَحَا بِهِ مَنْحَى الْجَوَازِ. انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ حَالَ خَشْيَةِ أَنْ يُصْنَعَ بِالْقَبْرِ كَمَا صَنَعَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لُعِنُوا، وَأَمَّا إِذَا أُمِنَ ذَلِكَ فَلَا امْتِنَاعَ، قَدْ يَقُولُ بِالْمَنْعِ مُطْلَقًا مَنْ يَرَى سَدَّ الذَّرِيعَةِ، وَهُوَ هُنَا مُتَّجَهٌ قَوِيٌّ

(1)

.

‌71 - بَاب مَنْ يَدْخُلُ قَبْرَ الْمَرْأَةِ

1342 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا هِلَالُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: شَهِدْنَا بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ عَلَى الْقَبْرِ - فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ، فَقَالَ: هَلْ فِيكُمْ مِنْ أَحَدٍ لَمْ يُقَارِفْ اللَّيْلَةَ؛ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَنَا، قَالَ: فَانْزِلْ فِي قَبْرِهَا، فَنَزَلَ فِي قَبْرِهَا، فَقَبَرَهَا. قَالَ ابْنُ مُبَارَكٍ: قَالَ فُلَيْحٌ: أُرَاهُ يَعْنِي الذَّنْبَ. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: لِيَقْتَرِفُوا، أَيْ: لِيَكْتَسِبُوا.

(1)

هذا هو الحق، لعموم الأحاديث الواردة بالنهي عن اتخاذ القبور مساجد، ولعن من فعل ذلك، ولأن بناء المساجد على القبور من أعظم وسائل الشرك بالمقبورين فيها. والله أعلم

ص: 208

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ يَدْخُلُ قَبْرَ الْمَرْأَةِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي دَفْنِ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَنُزُولِ أَبِي طَلْحَةَ فِي قَبْرِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ الْمَيِّتِ يُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ) تَقَدَّمَ هُنَاكَ أَنَّ الْإِسْمَاعِيلِيَّ وَصَلَهُ مِنْ طَرِيقِهِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَسَنِ الْقَابِسِيِّ هُنَا: قَالَ أَبُو الْمُبَارَكِ، بِلَفْظِ الْكُنْيَةِ، وَنَقَلَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَبُو الْمُبَارَكِ كُنْيَةُ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، يَعْنِي رَاوِيَ الطَّرِيقَ الْمَوْصُولَةَ، وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ سِنَانٍ يُكَنَّى أَبَا بَكْرٍ، بِغَيْرِ خِلَافٍ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ، وَالصَّوَابُ ابْنُ الْمُبَارَكِ كَمَا فِي بَقِيَّةِ الطُّرُقِ.

قَوْلُهُ: (لِيَقْتَرِفُوا: لِيَكْتَسِبُوا) ثَبَتَ هَذَا فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَهَذَا تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ، قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} لِيَكْتَسِبُوا مَا هُمْ مُكْتَسِبُونَ. وَفِي هَذَا مَصِيرٌ مِنَ الْبُخَارِيِّ إِلَى تَأْيِيدِ مَا قَالَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ فُلَيْحٍ، أَوْ أَرَادَ أَنْ يُوَجِّهَ الْكَلَامَ الْمَذْكُورَ، وَأَنَّ لَفْظَ الْمُقَارَفَةِ فِي الْحَدِيثِ أُرِيدَ بِهِ مَا هُوَ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ الْجِمَاعُ.

‌72 - بَاب الصَّلَاةِ عَلَى الشَّهِيدِ

1343 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ يَقُولُ: أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا، قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ، وَقَالَ: أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ فِي دِمَائِهِمْ، وَلَمْ يُغَسَّلُوا، وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ.

[الحديث 1343 - أطرافه في: 1345، 1346، 1347، 1348، 1353،]

1344 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يَوْمًا فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ إِنِّي فَرَطٌ لَكُمْ وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ وَإِنِّي وَاللَّهِ لَانْظُرُ إِلَى حَوْضِي الآنَ وَإِنِّي أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الأَرْضِ أَوْ مَفَاتِيحَ الأَرْضِ وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا"

[الحديث 1344 - أطرافه في: 3566، 4042، 4085، 6426، 6590]

قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّلَاةِ عَلَى الشُّهَدَاءِ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: أَرَادَ بَابَ حُكْمِ الصَّلَاةِ عَلَى الشَّهِيدِ، وَلِذَلِكَ أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ جَابِرٍ الدَّالِّ عَلَى نَفْيِهَا، وَحَدِيثِ عُقْبَةَ الدَّالِّ عَلَى إِثْبَاتِهَا قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بَابَ مَشْرُوعِيَّةِ الصَّلَاةِ عَلَى الشَّهِيدِ فِي قَبْرِهِ لَا قَبْلَ دَفْنِهِ عَمَلًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثَيْنِ، قَالَ: وَالْمُرَادُ بِالشَّهِيدِ قَتِيلُ الْمَعْرَكَةِ فِي حَرْبِ الْكُفَّارِ. انْتَهَى. وَكَذَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ بَعْدُ مَنْ لَمْ يَرَ غُسْلَ الشَّهِيدِ وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا حُرًّا أَوْ عَبْدًا صَالِحًا أَوْ غَيْرَ صَالِحٍ.

وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ: الْمَعْرَكَةِ مَنْ جُرِحَ فِي الْقِتَالِ وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً، وَخَرَجَ بِحَرْبِ الْكُفَّارِ مَنْ مَاتَ بِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ كَأَهْلِ الْبَغْيِ، وَخَرَجَ بِجَمِيعِ ذَلِكَ مَنْ سُمِّيَ شَهِيدًا بِسَبَبٍ غَيْرِ السَّبَبِ الْمَذْكُورِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهُ شَهِيدٌ بِمَعْنَى ثَوَابِ الْآخِرَةِ، وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ. وَالْخِلَافُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى قَتِيلِ مَعْرَكَةِ الْكُفَّارِ

ص: 209

مَشْهُورٌ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: قَالَ بَعْضُهُمْ: يُصَلَّى عَلَى الشَّهِيدِ، وَهُوَ قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ وَإِسْحَاقَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ. وَهُوَ قَوْلُ الْمَدَنِيِّينَ وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: جَاءَتِ الْأَخْبَارُ كَأَنَّهَا عِيَانٌ مِنْ وُجُوهٍ مُتَوَاتِرَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُصَلِّ عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ، وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى عَلَيْهِمْ وَكَبَّرَ عَلَى حَمْزَةَ سَبْعِينَ تَكْبِيرَةً لَا يَصِحُّ. وَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي لِمَنْ عَارَضَ بِذَلِكَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ أَنْ يَسْتَحْيِيَ عَلَى نَفْسِهِ. قَالَ: وَأَمَّا حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، فَقَدْ وَقَعَ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ ثَمَانِ سِنِينَ، يَعْنِي وَالْمُخَالِفُ يَقُولُ: لَا يُصَلَّى عَلَى الْقَبْرِ إِذَا طَالَتِ الْمُدَّةُ. قَالَ: وَكَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم دَعَا لَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ حِينَ عَلِمَ قُرْبَ أَجَلِهِ مُوَدِّعًا لَهُمْ بِذَلِكَ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى نَسْخِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ. انْتَهَى. وَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ مِنَ الْمُدَّةِ وَالتَّوْدِيعِ قَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا كَمَا سَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ بَعْدَ هَذَا.

ثُمَّ إِنَّ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ فِي مَنْعِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي وَجْهِ أَنَّ الْخِلَافَ فِي الِاسْتِحْبَابِ وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنِ الْحَنَابِلَةِ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ

(1)

عَنْ أَحْمَدَ: الصَّلَاةُ عَلَى الشَّهِيدِ أَجْوَدُ، وَإِنْ لَمْ يُصَلُّوا عَلَيْهِ أَجْزَأَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ جَابِرٍ) كَذَا يَقُولُ اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ النَّسَائِيُّ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ ثِقَاتِ أَصْحَابِ ابْنِ شِهَابٍ تَابَعَ اللَّيْثَ عَلَى ذَلِكَ. ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ مُخْتَصَرًا، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَعَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ. وَعَبْدُ اللَّهِ لَهُ رُؤْيَةٌ، فَحَدِيثُهُ مِنْ حَيْثُ السَّمَاعِ مُرْسَلٌ، وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، فَزَادَ فِيهِ جَابِرًا، وَهُوَ مِمَّا يُقَوِّي اخْتِيَارَ الْبُخَارِيِّ، فَإِنَّ ابْنَ شِهَابٍ صَاحِبُ حَدِيثٍ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ عِنْدَهُ عَنْ شَيْخَيْنِ، وَلَا سِيَّمَا أَنَّ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ مَا لَيْسَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ. وَعَلِيُّ بْنُ شِهَابٍ فِيهِ اخْتِلَافٌ آخَرُ، رَوَاهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ اللَّيْثِيُّ عَنْهُ، عَنْ أَنَسٍ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَأُسَامَةُ سَيِّئُ الْحِفْظِ، وَقَدْ حَكَى التِّرْمِذِيُّ فِي الْعِلَلِ عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ أُسَامَةَ غَلِطَ فِي إِسْنَادِهِ. وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْأَنْصَارِيِّ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فَقَالَ: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ أَبِيهِ. وَابْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ضَعِيفٌ، وَقَدْ أَخْطَأَ فِي قَوْلِهِ: عَنْ أَبِيهِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِيهِ اخْتِلَافًا آخَرَ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ بَابَيْنِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ يَقُولُ: أَيُّهُمَا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَيُّهُمْ.

قَوْلُهُ: (وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ) هُوَ مَضْبُوطٌ فِي رِوَايَتِنَا بِفَتْحِ اللَّامِ، وَهُوَ اللَّائِقُ بِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: وَلَمْ يُغَسَّلُوا وَسَيَأْتِي بَعْدَ بَابَيْنِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ اللَّيْثِ بِلَفْظِ: وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ وَهَذِهِ بِكَسْرِ اللَّامِ، وَالْمَعْنَى: وَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَلَا بِأَمْرِهِ.

وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ هَذَا مَبَاحِثُ كَثِيرَةٌ يَأْتِي اسْتِيفَاؤُهَا فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ مِنَ الْمَغَازِي، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِيهِ جَوَازُ تَكْفِينِ الرَّجُلَيْنِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ، إِمَّا بِجَمْعِهِمَا فِيهِ، وَإِمَّا بِقَطْعِهِ بَيْنَهُمَا، وَعَلَى جَوَازِ دَفْنِ اثْنَيْنِ فِي لَحْدٍ، وَعَلَى اسْتِحْبَابِ تَقْدِيمِ أَفْضَلِهِمَا لِدَاخِلِ اللَّحْدِ، وَعَلَى أَنَّ شَهِيدَ الْمَعْرَكَةِ لَا يُغَسَّلُ، وَقَدْ تَرْجَمَ الْمُصَنِّفُ لِجَمِيعِ ذَلِكَ.

(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أُسَامَةَ الْمَذْكُورَةِ: لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَالْحَاكِمِ: وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ غَيْرِهِ. يَعْنِي حَمْزَةَ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: هَذِهِ اللَّفْظَةُ غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ - يَعْنِي عَنْ أُسَامَةَ - وَالصَّوَابُ الرِّوَايَةُ الْمُوَافِقَةُ لِحَدِيثِ اللَّيْثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي الْخَيْرِ) هُوَ الْيَزَنِيُّ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ، وَهَذَا مَعْدُودٌ مِنْ أَصَحِّ الْأَسَانِيدِ.

قَوْلُهُ: (صَلَاتَهُ) بِالنَّصْبِ؛ أَيْ مِثْلَ صَلَاتِهِ. زَادَ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ مِنْ طَرِيقِ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ، عَنْ يَزِيدَ: بَعْدَ ثَمَانِ سِنِينَ كَالْمُوَدِّعِ لِلْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ. وَزَادَ فِيهِ: فَكَانَتْ آخِرَ نَظْرَةٍ نَظَرْتُهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

(1)

في نسخة: المروذي

ص: 210

وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الزِّيَادَةِ هُنَاكَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَكَانَتْ أُحُدٌ فِي شَوَّالِ سَنَةَ ثَلَاثٍ، وَمَاتَ صلى الله عليه وسلم فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ، فَعَلَى هَذَا فَفِي قَوْلِهِ: بَعْدَ ثَمَانِ سِنِينَ. تَجُوزُ عَلَى طَرِيقِ جَبْرِ الْكَسْرِ، وإِلَّا فَهِيَ سَبْعُ سِنِينَ وَدُونَ النِّصْفِ.

وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الصَّلَاةِ عَلَى الشُّهَدَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ جَوَابُ الشَّافِعِيِّ عَنْهُ بِمَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ.

وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: مَعْنَى صَلَاتِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِمْ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ مَعَانٍ:

إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَرْكِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ.

أَوْ يَكُونَ مِنْ سُنَّتِهِمْ أَنْ لَا يُصَلِّي عَلَيْهِمْ إِلَّا بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ.

أَوْ تَكُونَ الصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ جَائِزَةٌ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ فَإِنَّهَا وَاجِبَةٌ.

وَأَيُّهَا كَانَ، فَقَدْ ثَبَتَ بِصَلَاتِهِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ عَلَى الشُّهَدَاءِ. ثُمَّ كَأَنَّ الْكَلَامَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي عَصْرِنَا إِنَّمَا هُوَ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ قَبْلَ دَفْنِهِمْ، وَإِذَا ثَبَتَتِ الصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الدَّفْنِ كَانَتْ قَبْلَ الدَّفْنِ أَوْلَى. انْتَهَى.

وَغَالِبُ مَا ذَكَرَهُ بِصَدَدِ الْمَنْعِ - لَا سِيَّمَا فِي دَعْوَى الْحَصْرِ - فَإِنَّ صَلَاتَهُ عَلَيْهِمْ تَحْتَمِلُ أُمُورًا أُخَرُ: مِنْهَا أَنْ تَكُونَ مِنْ خَصَائِصِهِ، وَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ. ثُمَّ هِيَ وَاقِعَةُ عَيْنٍ لَا عُمُومَ فِيهَا، فَكَيْفَ يَنْتَهِضُ الِاحْتِجَاجُ بِهَا لِدَفْعِ حُكْمٍ قَدْ تَقَرَّرَ؟ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِالِاحْتِمَالِ الثَّانِي الَّذِي ذَكَرَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ هُنَا الدُّعَاءُ، وَأَمَّا كَوْنُهُ مِثْلَ الَّذِي عَلَى الْمَيِّتِ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ دَعَا لَهُمْ بِمِثْلِ الدُّعَاءِ الَّذِي كَانَتْ عَادَتُهُ أَنْ يَدْعُوَ بِهِ لِلْمَوْتَى.

قَوْلُهُ: (إِنِّي فَرَطٌ لَكُمْ) أَيْ سَابِقُكُمْ، وَقَوْلُهُ:(وَإِنِّي وَاللَّهِ) فِيهِ الْحَلِفُ لِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ وَتَعْظِيمِهِ، وَقَوْلُهُ:(لَأَنْظُرَ إِلَى حَوْضِي) هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَكَأَنَّهُ كُشِفَ لَهُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْحَوْضِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَذَا عَلَى الْمُنَافَسَةِ فِي الدُّنْيَا.

قَوْلُهُ: (مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا) أَيْ عَلَى مَجْمُوعِكُمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ وَقَعَ مِنَ الْبَعْضِ، أَعَاذَنَا اللَّهُ تَعَالَى.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مُعْجِزَاتٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلِذَلِكَ أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ. كَمَا سَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ هُنَاكَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌73 - بَاب دَفْنِ الرَّجُلَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ

1345 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ دَفْنِ الرَّجُلَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ فِي قَبْرٍ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ جَابِرٍ الْمَذْكُورَ مُخْتَصَرًا بِلَفْظِ: كَانَ يُجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ. قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: جَرَى الْمُصَنِّفُ عَلَى عَادَتِهِ إِمَّا بِالْإِشَارَةِ إِلَى مَا لَيْسَ عَلَى شَرْطِهِ، وَإِمَّا بِالِاكْتِفَاءِ بِالْقِيَاسِ. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ يَعْنِي الْمُشَارَ إِلَيْهَا قَبْلُ بِلَفْظِ: وَكَانَ يَدْفِنُ الرَّجُلَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ فِي الْقَبْرِ الْوَاحِدِ. انْتَهَى. وَوَرَدَ ذِكْرُ الثَّلَاثَةِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ عَنْ أَنَسٍ أَيْضًا عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ، وَرَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: جَاءَتِ الْأَنْصَارُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالُوا: أَصَابَنَا قَرْحٌ وَجَهْدٌ. قَالَ: احْفِرُوا وَأَوْسِعُوا، وَاجْعَلُوا الرَّجُلَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ فِي الْقَبْرِ. صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْحَدِيثِ. وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَهُ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الثَّلَاثَةِ، بَلْ كَانَ يَقُولُ مَثَلًا دَفَنَ الرَّجُلَيْنِ فَأَكْثَرَ، وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا جَوَازُ دَفْنِ الْمَرْأَتَيْنِ فِي قَبْرٍ، وَأَمَّا دَفْنُ الرَّجُلِ مَعَ الْمَرْأَةِ فَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ: أَنَّهُ كَانَ يَدْفِنُ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ فِي الْقَبْرِ الْوَاحِدِ، فَيُقَدِّمُ الرَّجُلَ وَيَجْعَلُ الْمَرْأَةَ وَرَاءَهُ. وَكَأَنَّهُ يَجْعَلُ بَيْنَهُمَا حَائِلًا مِنْ تُرَابٍ وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَا أَجْنَبِيَّيْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 211

‌74 - بَاب مَنْ لَمْ يَرَ غَسْلَ الشُّهَدَاءِ

1346 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ادْفِنُوهُمْ فِي دِمَائِهِمْ. يَعْنِي يَوْمَ أُحُدٍ، وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ.

[الحديث 1346 - أطرافه في: 1587، 1833، 1834، 2090، 2433، 2783، 2825، 3077، 3189، 4313]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ لَمْ يَرَ غُسْلَ الشُّهَدَاءِ) فِي نُسْخَةٍ الشَّهِيدِ بِالْإِفْرَادِ. أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ: يُغَسَّلُ الشَّهِيدُ، لِأَنَّ كُلَّ مَيِّتٍ يُجْنِبُ فَيَجِبُ غُسْلُهُ، حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، قَالَ: وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُمَا، أَيْ عَنْ سَعِيدٍ، وَالْحَسَنِ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَعَنْ غَيْرِهِ، وَهُوَ مِنَ الشُّذُوذِ. وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي قَتْلَى أُحُدٍ: لَا تُغَسِّلُوهُمْ، فَإِنَّ كُلَّ جُرْحٍ - أَوْ كُلَّ دَمٍ - يَفُوحُ مِسْكًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ، فَبَيَّنَ الْحِكْمَةَ فِي ذَلِكَ.

ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ جَابِرٍ المذكورَ قَبْلُ مُخْتَصرًا بِلَفْظِ: وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ. وَاسْتَدَلَّ بِعُمُومِهِ عَلَى أَنَّ الشَّهِيدَ لَا يُغَسَّلْ حَتَّى وَلَا الْجُنُبَ وَالْحَائِضَ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقِيلَ: يُغَسَّلُ لِلْجَنَابَةِ لَا بِنِيَّةِ غُسْلِ الْمَيِّتِ، لِمَا رُوِيَ فِي قِصَّةِ حَنْظَلَةَ بْنِ الرَّاهِبِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ غَسَّلَتْهُ يَوْمَ أُحُدٍ لَمَّا اسْتُشْهِدَ وَهُوَ جُنُبٌ، وَقِصَّتُهُ مَشْهُورَةٌ، رَوَاهَا ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ بِهِ عَنْهُ قَالَ: أُصِيبَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَحَنْظَلَةُ بْنُ الرَّاهِبِ وَهُمَا جُنُبٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: رَأَيْتُ الْمَلَائِكَةَ تُغَسِّلُهُمَا غَرِيبٌ فِي ذِكْرِ حَمْزَةَ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا مَا اكْتُفِيَ فِيهِ بِغُسْلِ الْمَلَائِكَةِ، فَدَلَّ عَلَى سُقُوطِهِ عَمَّنْ يَتَوَلَّى أَمْرَ الشَّهِيدِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌75 - بَاب مَنْ يُقَدَّمُ فِي اللَّحْدِ

وَسُمِّيَ اللَّحْدَ؛ لِأَنَّهُ فِي نَاحِيَةٍ، وَكُلُّ جَائِرٍ مُلْحِدٌ. {مُلْتَحَدًا} مَعْدِلًا، وَلَوْ كَانَ مُسْتَقِيمًا كَانَ ضَرِيحًا

1347 -

حَدَّثَنَا ابْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعيدٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ يَقُولُ: أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا، قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ وَقَالَ: أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ. وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ بِدِمَائِهِمْ، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ.

1348 -

وَأَخْبَرَنَا، الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لِقَتْلَى أُحُدٍ: أَيُّ هَؤُلَاءِ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى رَجُلٍ، قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ قَبْلَ صَاحِبِهِ.

وَقَالَ جَابِرٌ: فَكُفِّنَ أَبِي وَعَمِّي فِي نَمِرَةٍ وَاحِدَةٍ.

وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ جَابِرًا رضي الله عنه.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ يُقَدَّمُ فِي اللَّحْدِ) أَيْ إِذَا كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ، وَقَدْ دَلَّ حَدِيثُ الْبَابِ عَلَى تَقْدِيمِ مَنْ كَانَ أَكْثَرَ قُرْآنًا مِنْ صَاحِبِهِ، وَهَذَا نَظِيرُ تَقْدِيمِهِ فِي الْإِمَامَةِ.

قَوْلُهُ: (وَسُمِّيَ اللَّحْدُ لِأَنَّهُ فِي نَاحِيَةٍ) قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: أَصْلُ الْإِلْحَادِ

ص: 212

الْمَيْلُ وَالْعُدُولُ عَنِ الشَّيْءِ، وَقِيلَ لِلْمَائِلِ عَنِ الدِّينِ: مُلْحِدٌ، وَسُمِّيَ اللَّحْدُ لِأَنَّهُ شَقٌّ يُعْمَلُ فِي جَانِبِ الْقَبْرِ، فَيَمِيلُ عَنْ وَسَطِ الْقَبْرِ إِلَى جَانِبِهِ بِحَيْثُ يَسَعُ الْمَيِّتَ فَيُوضَعُ فِيهِ وَيُطْبَقُ عَلَيْهِ اللَّبِنُ. وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفُ بَعْدُ: وَلَوْ كَانَ مُسْتَقِيمًا لَكَانَ ضَرِيحًا. فَلِأَنَّ الضَّرِيحَ شَقٌّ فِي الْأَرْضِ عَلَى الِاسْتِوَاءِ وَيُدْفَنُ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (مُلْتَحَدًا: مَعْدِلًا) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةِ بْنِ الْمُثَنَّى فِي كِتَابِ الْمَجَازِ. قَالَ: قَوْلُهُ {مُلْتَحَدًا} ، أَيْ مَعْدِلًا. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: مَعْنَاهُ: وَلَنْ تَجِدْ مِنْ دُونِهِ مَعْدِلًا تَعْدِلُ إِلَيْهِ عَنِ اللَّهِ، لِأَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ مُحِيطَةٌ بِجَمِيعِ خَلْقِهِ. قَالَ: وَالْمُلْتَحَدُ مُفْتَعَلٌ مِنَ اللَّحْدِ، يُقَالُ مِنْهُ: لَحِدْتُ إِلَى كَذَا إِذَا مِلْتَ إِلَيْهِ. انْتَهَى. وَيُقَالُ: لَحِدْتُهُ وَأَلْحَدْتُهُ، قَالَ الْفَرَّاءُ: الرُّبَاعِيُّ أَجْوَدُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الثُّلَاثِيُّ أَكْثَرُ. وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ دَفْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: فَأَرْسَلُوا إِلَى الشَّقَّاقِ وَاللَّاحِدِ، الْحَدِيثَ. أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ.

ثُمَّ سَاقَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ جَابِرٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنِ اللَّيْثِ مُتَّصِلًا، وَعَنِ الْأَوْزَاعِيِّ مُنْقَطِعًا، لِأَنَّ ابْنَ شِهَابٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ جَابِرٍ. زَادَ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ: حَدَّثَنِي الْأَوْزَاعِيُّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، قَالَ: زَمِّلُوهُمْ بِجِرَاحِهِمْ، فَإِنِّي أَنَا الشَّهِيدُ عَلَيْهِمْ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَسِيلُ دَمًا. الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ (فَكُفِّنَ أَبِي وَعَمِّي فِي نَمِرَةٍ) هِيَ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْمِيمِ: بُرْدَةٌ مِنْ صُوفٍ أَوْ غَيْرِهِ مُخَطَّطَةٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ دُرَّاعَةٌ فِيهَا لَوْنَانِ سَوَادٌ وَبَيَاضٌ، وَيُقَالُ لِلسَّحَابَةِ إِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ: نَمِرَةٌ، وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ فِي الْمَغَازِي وَابْنُ سَعْدٍ أَنَّهُمَا كُفِّنَا فِي نَمِرَتَيْنِ، فَإِنْ ثَبَتَ حُمِلَ عَلَى أَنَّ النَّمِرَةَ الْوَاحِدَةَ شُقَّتْ بَيْنَهُما نِصْفَيْنِ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ بَعْدَ بَابَيْنِ. وَالرَّجُلُ الَّذِي كُفِّنَ مَعَهُ فِي النَّمِرَةِ كَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي دُفِنَ مَعَهُ كَمَا سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى تَسْمِيَتِهِ بَعْدَ بَابٍ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ إِلَخْ) هُوَ مَوْصُولٌ فِي الزُّهْرِيَّاتِ لِلذُّهْلِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ الْمَذْكُورِ إِبْهَامُ شَيْخِ الزُّهْرِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ قَبْلَ بَابَيْنِ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي التَّتَبُّعِ: اضْطَرَبَ فِيهِ الزُّهْرِيُّ، وَأُجِيبَ بِمَنْعِ الِاضْطِرَابِ لِأَنَّ الْحَاصِلَ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِيهِ عَلَى الثِّقَاتِ أَنَّ الزُّهْرِيَّ حَمَلَهُ عَنْ شَيْخَيْنِ، وَأَمَّا إِبْهَامُ سُلَيْمَانَ لِشَيْخِ الزُّهْرِيُّ وَحَذْفُ الْأَوْزَاعِيِّ لَهُ فَلَا يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ مَنْ سَمَّاهُ، لِأَنَّ الْحُجَّةَ لِمَنْ ضَبَطَ وَزَادَ إِذَا كَانَ ثِقَةً، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ حَافِظًا، وَأَمَّا رِوَايَةُ أُسَامَةَ، وَابْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَلَا تَقْدَحُ فِي الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ لِضَعْفِهِمَا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْبُخَارِيَّ صَرَّحَ بِغَلَطِ أُسَامَةَ فِيهِ.

وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ فَوَائِدِ حَدِيثِ جَابِرٍ فِي الْمَغَازِي، وَفِيهِ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِقَارِئِ الْقُرْآنِ، وَيَلْحَقُ بِهِ أَهْلُ الْفِقْهِ وَالزُّهْدِ وَسَائِرِ وُجُوهِ الْفَضْلِ.

‌76 - بَاب الْإِذْخِرِ وَالْحَشِيشِ فِي الْقَبْرِ

1349 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوْشَبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: حَرَّمَ اللَّهُ مَكَّةَ، فَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَا لِأَحَدٍ بَعْدِي. أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ؛ لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُعَرِّفٍ. فَقَالَ الْعَبَّاسُ رضي الله عنه: إِلَّا الْإِذْخِرَ؛ لِصَاغَتِنَا وَقُبُورِنَا؟ فَقَالَ: إِلَّا الْإِذْخِرَ.

وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لِقُبُورِنَا وَبُيُوتِنَا.

وَقَالَ أَبَانُ بْنُ صَالِحٍ: عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ.

ص: 213

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: لِقَيْنِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْإِذْخِرِ وَالْحَشِيشِ فِي الْقَبْرِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَحْرِيمِ مَكَّةَ، وَفِيهِ: فَقَالَ الْعَبَّاسُ: إِلَّا الْإِذْخِرَ لِصَاغَتِنَا وَقُبُورِنَا. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى فَوَائِدِهِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَجَوَّزَ ابْنُ مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الْإِذْخِرَ الرَّفْعَ وَالنَّصْبَ، وَتَرْجَمَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ طَرْحَ الْإِذْخِرِ فِي الْقَبْرِ وَبَسْطِهِ فِيهِ، وَأَرَادَ الْمُصَنِّفُ بِذِكْرِ الْحَشِيشِ التَّنْبِيهَ عَلَى إِلْحَاقِهِ بِالْإِذْخِرِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِاسْتِعْمَالِ الْإِذْخِرِ الْبَسْطُ وَنَحْوُهُ لَا التَّطَيُّبُ، وَمُرَادُهُ بِالْحَشِيشِ مَا يَجُوزُ حَشُّهُ مِنَ الْحَرَامِ؛ إِذْ لَمْ يُقَيِّدْهُ فِي التَّرْجَمَةِ بِشَيْءٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ إِذَا لَمْ يَجِدْ كَفَنًا فِي قِصَّةِ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ لَمَّا قَصُرَ كَفَنُهُ أَنْ يُغَطَّى رَأْسُهُ، وَأَنْ يُجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ مِنَ الْإِذْخِرِ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ خَبَّابٍ أَيْضًا أَنَّ حَمْزَةَ لَمْ يُوجَدْ لَهُ كَفَنٌ إِلَّا بُرْدَةٌ إِذَا جُعِلَتْ عَلَى رَأْسِهِ قَلَصَتْ عَنْ قَدَمَيْهِ، وَإِذَا جُعِلَتْ عَلَى قَدَمَيْهِ قَلَصَتْ عَنْ رَأْسِهِ حَتَّى مُدَّتْ عَلَى رَأْسِهِ وَجُعِلَ عَلَى قَدَمَيْهِ الْإِذْخِرُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ إِلَخْ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ فِيهِ قِصَّةُ أَبِي شَاه وَقَدْ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي كِتَابِ الْعِلْمِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبَانُ بْنُ صَالِحٍ إِلَخْ) وَصَلَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِهِ وَفِيهِ: فَقَالَ الْعَبَّاسُ إِلَّا الْإِذْخِرَ، فَإِنَّهُ لِلْبُيُوتِ وَالْقُبُورِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ. . . إِلَخْ) هُوَ طَرَفٌ مِنَ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، وَسَيَأْتِي مَوْصُولًا فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَأَوْرَدَهُ لِقَوْلِهِ فِيهِ: لِقَيْنِهِمْ بَدَلَ لِقُبُورِهِمْ. وَالْقَيْنُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا نُونٌ، هُوَ الْحَدَّادُ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى تَرْجِيحِ الرِّوَايَةِ الْأُولَى لِمُوَافَقَةِ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَصْفِيَّةَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْحَجِّ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌77 - بَاب هَلْ يُخْرَجُ الْمَيِّتُ مِنْ الْقَبْرِ وَاللَّحْدِ لِعِلَّةٍ؟

1350 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ بَعْدَمَا أُدْخِلَ حُفْرَتَهُ، فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ، فَوَضَعَهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَنَفَثَ عَلَيْهِ مِنْ رِيقِهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَكَانَ كَسَا عَبَّاسًا قَمِيصًا. قَالَ سُفْيَانُ: وَقَالَ أَبُو هَارُونَ يَحْيَى: وَكَانَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَمِيصَانِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلْبِسْ أَبِي قَمِيصَكَ الَّذِي يَلِي جِلْدَكَ. قَالَ سُفْيَانُ: فَيُرَوْنَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَلْبَسَ عَبْدَ اللَّهِ قَمِيصَهُ؛ مُكَافَأَةً لِمَا صَنَعَ.

1351 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا حَضَرَ أُحُدٌ دَعَانِي أَبِي مِنْ اللَّيْلِ فَقَالَ: مَا أُرَانِي إِلَّا مَقْتُولًا فِي أَوَّلِ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَإِنِّي لَا أَتْرُكُ بَعْدِي أَعَزَّ عَلَيَّ مِنْكَ غَيْرَ نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وإِنَّ عَلَيَّ دَيْنًا فَاقْضِ، وَاسْتَوْصِ بِأَخَوَاتِكَ خَيْرًا. فَأَصْبَحْنَا فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ، وَدُفِنَ مَعَهُ آخَرُ فِي قَبْرٍ، ثُمَّ لَمْ تَطِبْ نَفْسِي أَنْ أَتْرُكَهُ مَعَ الْآخَرِ، فَاسْتَخْرَجْتُهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا هُوَ كَيَوْمِ وَضَعْتُهُ هُنَيَّةً غَيْرَ أُذُنِهِ.

[الحديث 1351 - طرفه في: 1352]

ص: 214

1352 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: دُفِنَ مَعَ أَبِي رَجُلٌ فَلَمْ تَطِبْ نَفْسِي حَتَّى أَخْرَجْتُهُ، فَجَعَلْتُهُ فِي قَبْرٍ عَلَى حِدَةٍ.

قَوْلُه: (بَابُ هَلْ يُخْرَجُ الْمَيِّتُ مِنَ الْقَبْرِ وَاللَّحْدِ لِعِلَّةٍ) أَيْ لِسَبَبٍ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ مَنَعَ إِخْرَاجَ الْمَيِّتِ مِنْ قَبْرِهِ مُطْلَقًا أَوْ لِسَبَبٍ دُونَ سَبَبٍ، كَمَنْ خَصَّ الْجَوَازَ بِمَا لَوْ دُفِنَ بِغَيْرِ غُسْلٍ أَوْ بِغَيْرِ صَلَاةٍ، فَإِنَّ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الْأَوَّلِ دَلَالَةٌ عَلَى الْجَوَازِ إِذَا كَانَ فِي نَبْشِهِ مَصْلَحَةٌ تَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ زِيَادَةِ الْبَرَكَةِ لَهُ، وَعَلَيْهِ يَتَنَزَّلُ قَوْلُهُ فِي التَّرْجَمَةِ مِنَ الْقَبْرِ، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ الثَّانِي دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الْإِخْرَاجِ لِأَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِالْحَيِّ، لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الْمَيِّتِ فِي دَفْنِ مَيِّتٍ آخَرَ مَعَهُ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ جَابِرٌ بِقَوْلِهِ: فَلَمْ تَطِبْ نَفْسِي. وَعَلَيْهِ يَتَنَزَّلُ قَوْلُهُ وَاللَّحْدُ، لِأَنَّ وَالِدَ جَابِرٍ كَانَ فِي لَحْدٍ.

وَإِنَّمَا أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ التَّرْجَمَةَ بِلَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّ قِصَّةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ قَابِلَةٌ لِلتَّخْصِيصِ، وَقِصَّةَ وَالِدِ جَابِرٍ لَيْسَ فِيهَا تَصْرِيحٌ بِالرَّفْعِ، قَالَهُ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ.

ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِيهِ حَدِيثَ عَمْرٍو - وَهُوَ ابْنُ دِينَارٍ - عَنْ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي بَابِ الْكَفَنِ فِي الْقَمِيصِ وَزَادَ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ: وَكَانَ كَسَا عَبَّاسًا قَمِيصًا. وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ قَمِيصُهُ وَالْعَبَّاسُ الْمَذْكُورُ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمُّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (قَالَ سُفْيَانُ: وَقَالَ أَبُو هَارُونَ إِلَخْ) كَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهَا، وَوَقَعَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ: وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَكَذَا فِي مُسْتَخْرَجِ أَبِي نُعَيْمٍ، وَهُوَ تَصْحِيفٌ، وَأَبُو هَارُونَ الْمَذْكُورُ جَزَمَ الْمِزِّيُّ بِأَنَّهُ مُوسَى بْنُ أَبِي عِيسَى الْحَنَّاطُ - بِمُهْمَلَةٍ وَنُونٍ - الْمَدَنِيُّ، وَقِيلَ: هُوَ الْغَنَوِيُّ، وَاسْمُهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْعَلَاءِ مِنْ شُيُوخِ الْبَصْرَةِ، وَكِلَاهُمَا مِنْ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ، فَالْحَدِيثُ مُعْضَلٌ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ سُفْيَانَ، فَسَمَّاهُ عِيسَى وَلَفْظُهُ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ أَبِي مُوسَى

(1)

، فَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ سُفْيَانُ: فَيَرَوْنَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَلْبَسَ عَبْدَ اللَّهِ قَمِيصَهُ مُكَافَأَةً لِمَا صَنَعَ بِالْعَبَّاسِ) هَذَا الْقَدْرُ مُتَّصِلٌ عِنْدَ سُفْيَانَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي أَوَاخِرِ الْجِهَادِ فِي بَابِ كُسْوَةِ الْأُسَارَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ سُفْيَانَ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ أُتِيَ بِأُسَارَى، وَأُتِيَ بِالْعَبَّاسِ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ثَوْبٌ، فَوَجَدُوا قَمِيصَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ يُقْدَرُ عَلَيْهِ، فَكَسَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهُ، فَلِذَلِكَ نَزَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَمِيصَهُ الَّذِي أَلْبَسَهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فَلِذَلِكَ مِنْ كَلَامِ سُفْيَانَ أُدْرِجَ فِي الْخَبَرِ، بَيَّنَتْهُ رِوَايَةُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الَّتِي فِي هَذَا الْبَابِ، وَسَأَسْتَوْفِي الْكَلَامَ عَلَيْهِ هُنَاكَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ، عَنْ عَطَاءٍ) هُوَ ابْنُ أَبِي رَبَاحٍ (عَنْ جَابِرٍ) هَكَذَا أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ مُسَدَّدٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ، عَنْ حُسَيْنٍ، وَلَمْ أَرَهُ بَعْدَ التَّتَبُّعِ الْكَثِيرِ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ إِلَى جَابِرٍ إِلَّا فِي الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ عَزَّ عَلَى الْإِسْمَاعِيلِيِّ مَخْرَجُهُ، فَأَخْرَجَهُ فِي مُسْتَخْرَجِهِ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، وَأَمَّا أَبُو نُعَيْمٍ فَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَشْعَثِ، عَنْ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ فَقَالَ: عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ جَابِرٍ. وَقَالَ بَعْدَهُ: لَيْسَ أَبُو نَضْرَةَ مِنْ شَرْطِ الْبُخَارِيِّ. قَالَ: وَرِوَايَتُهُ عَنْ حُسَيْنٍ، عَنْ عَطَاءٍ عَزِيزَةٌ جِدًّا.

قُلْتُ: وَطَرِيقُ سَعِيدٍ مَشْهُورَةٌ عَنْهُ، أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ سَعْدٍ، وَالْحَاكِمُ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ جَابِرٍ، وَاحْتَمَلَ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ لِبِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ فِيهِ شَيْخَانِ، إِلَى أَنْ رَأَيْتُهُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ لِلْحَاكِمِ، قَدْ أَخْرَجَهُ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ

(1)

هكذا في المخطوطة التي بأيدينا وفي طبعة بولاق، وهو غلط من النساخ أو سبق قلم، والصواب "موسى بن أبي عيسى" كما تقدم في كلام المزي وكما يعلم من المراجع المعتمدة، فتأمل. والله أعلم

ص: 215

الْمُثَنَّى، عَنْ مُسَدَّدٍ، عَنْ بِشْرٍ كَمَا رَوَاهُ أَبُو الْأَشْعَثِ، عَنْ بِشْرٍ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ فِي الْإِكْلِيلِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ إِلَى جَابِرٍ وَلَفْظُهُ لَفْظُ الْبُخَارِيِّ سَوَاءٌ، فَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ حِينَئِذٍ أَنَّ فِي هَذِهِ الطَّرِيقَ وَهْمًا، لَكِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ لِي مِمَّنْ هُوَ، وَلَمْ أَرَ مَنْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ، وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ اسْتَشْعَرَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَعَقَّبَ هَذِهِ الطَّرِيقَ بِمَا أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ مُخْتَصَرًا لِيُوَضِّحَ أَنَّ لَهُ أَصْلًا مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (مَا أُرَانِي) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ بِمَعْنَى الظَّنِّ، وَذَكَرَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنِ الْوَاقِدِيِّ أَنَّ سَبَبَ ظَنِّهِ ذَلِكَ مَنَامٌ رَآهُ، أَنَّهُ رَأَى مُبَشِّرَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ - وَكَانَ مِمَّنِ اسْتُشْهِدَ بِبَدْرٍ - يَقُولُ لَهُ: أَنْتَ قَادِمٌ عَلَيْنَا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، فَقَصَّهَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: هَذِهِ الشَّهَادَةُ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي نَضْرَةَ الْمَذْكُورَةِ عِنْدَ ابْنِ السَّكَنِ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ أَبَاهُ قَالَ لَهُ: إِنِّي مُعَرِّضٌ نَفْسِي لِلْقَتْلِ. الْحَدِيثَ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى مَا كَانَ عَزَمَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا قَالَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِشَارَةً إِلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِهِ سَيُقْتَلُ كَمَا سَيَأْتِي وَاضِحًا فِي الْمَغَازِي.

قَوْلُهُ: (وَإنَّ عَلَيَّ دَيْنًا) سَيَأْتِي مِقْدَارُهُ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ.

قَوْلُهُ: (فَاقْضِ) كَذَا فِي الْأَصْلِ بِحَذْفِ الْمَفْعُولِ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَاكِمِ: فَاقْضِهِ.

قَوْلُهُ: (بِأَخَوَاتِكَ) سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذِكْرِ عِدَّتِهِنَّ، وَمَنْ عُرِفَ اسْمُهَا مِنْهُنَّ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (وَدُفِنَ مَعَهُ آخَرُ) هُوَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَرَامٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَكَانَ صَدِيقَ وَالِدِ جَابِرٍ وَزَوْجِ أُخْتِهِ هِنْدِ بِنْتِ عَمْرٍو، وَكَأَنَّ جَابِرًا سَمَّاهُ عَمُّهُ تَعْظِيمًا. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمَغَازِي: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ رِجَالٍ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ حِينَ أُصِيبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عمر، وَعَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ: اجْمَعُوا بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُمَا كَانَا مُتَصَادِقَيْنِ فِي الدُّنْيَا. وَفِي مَغَازِي الْوَاقِدِيِّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا رَأَتْ هِنْدَ بِنْتَ عمر تَسُوقُ بَعِيرًا لَهَا عَلَيْهِ زَوْجُهَا عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ، وَأَخُوهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ لِتَدْفِنَهُمَا بِالْمَدِينَةِ، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِرَدِّ الْقَتْلَى إِلَى مَضَاجِعِهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُ الدِّمْيَاطِيِّ: إِنَّ قَوْلَهُ: وَعَمِّي وَهَمٌ فَلَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ لِأَنَّ لَهُ مَحْمَلًا سَائِغًا، وَالتَّجَوُّزُ فِي مِثْلِ هَذَا يَقَعُ كَثِيرًا. وَحَكَى الْكِرْمَانِيُّ عَنْ غَيْرِهِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَعَمِّي تَصْحِيفٌ مِنْ عَمْرٍو، وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: قُتِلَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ وَابْنُ أَخِيهِ يَوْمَ أُحُدٍ، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجُعِلَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ: لَيْسَ هُوَ ابْنُ أَخِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ ابْنُ عَمِّهِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ، فَلَعَلَّهُ كَانَ أَسَنَّ مِنْهُ.

قَوْلُهُ: (فَاسْتَخْرَجْتُهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ) أَيْ: مِنْ يَوْمِ دَفْنِهِ، وَهَذَا يُخَالِفُ فِي الظَّاهِرِ مَا وَقَعَ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْجَمُوحِ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيَّيْنِ كَانَا قَدْ حَفَرَ السَّيْلُ قَبْرَهُمَا، وَكَانَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ، فَحُفِرَ عَنْهُمَا لِيُغَيَّرَا مِنْ مَكَانِهِمَا فَوُجِدَا لَمْ يَتَغَيَّرَا كَأَنَّهُمَا مَاتَا بِالْأَمْسِ، وَكَانَ بَيْنَ أُحُدٍ وَيَوْمَ حُفِرَ عَنْهُمَا سِتٌّ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً، وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِتَعَدُّدِ الْقِصَّةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الَّذِي فِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهُ دَفَنَ أَبَاهُ فِي قَبْرٍ وَحْدَهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَفِي حَدِيثِ الْمُوَطَّأِ أَنَّهُمَا وُجِدَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ بَعْدَ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِكَوْنِهِمَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ قُرْبَ الْمُجَاوَرَةِ، أَوْ أَنَّ السَّيْلَ خَرَقَ أَحَدَ الْقَبْرَيْنِ، فَصَارَا كَقَبْرٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ الْقِصَّةَ فِي الْمَغَازِي، فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَشْيَاخٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، قَالُوا: لَمَّا ضَرَبَ مُعَاوِيَةُ عَيْنَهُ الَّتِي مَرَّتْ عَلَى قُبُورِ الشُّهَدَاءِ انْفَجَرَتِ الْعَيْنُ عَلَيْهِمْ فَجِئْنَا فَأَخْرَجْنَاهُمَا - يَعْنِي عَمْرًا، وَعَبْدَ اللَّهِ - وَعَلَيْهِمَا بُرْدَتَانِ قَدْ غُطِّيَ بِهِمَا وُجُوهُهُمَا، وَعَلَى أَقْدَامِهِمْا شَيْءٌ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ، فَأَخْرَجْنَاهُمَا يَتَثَنَّيَانِ تَثَنِّيًا كَأَنَّهُمَا دُفِنَا بِالْأَمْسِ. وَلَهُ شَاهِدٌ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ.

قَوْلُهُ: (فَإِذَا هُوَ كَيَوْمِ وَضَعْتُهُ هُنَيَّةً غَيْرَ أُذُنِهِ) وَقَالَ عِيَاضٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي السَّكَنِ، وَالنَّسَفِيِّ: غَيْرَ هُنَيَّةٍ فِي أُذُنِهِ وَهُوَ الصَّوَابُ بِتَقْدِيمِ: غَيْرَ وَزِيَادَةِ: فِي، وَفِي الْأَوَّلِ تَغْيِيرٌ، قَالَ: وَمَعْنَى قَوْلِهِ: هُنَيَّةً؛

ص: 216

أَيْ شَيْئًا يَسِيرًا، وَهُوَ بِنُونٍ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ مُصَغَّرًا، وَهُوَ تَصْغِيرُ هَنَةٍ؛ أَيْ: شَيْءٍ، فَصَغَّرَهُ لِكَوْنِهِ أَثَرًا يَسِيرًا. انْتَهَى. وَقَدْ قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ عَقِبَ سِيَاقِهِ بِلَفْظِ الْأَكْثَرِ. إِنَّمَا هُوَ عِنْدَ

(1)

. قُلْتُ: وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْكُشْمِيهَنِيٍّ، لَكِنْ يَبْقَى فِي الْكَلَامِ نَقْصٌ، وَيُبَيِّنُهُ مَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ، وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ غَسَّانَ بْنِ مُضَرَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بِلَفْظِ: وَهُوَ كَيَوْمِ دَفَنْتُهُ، إِلَّا هُنَيَّةً عِنْدَ أُذُنِهِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِرِوَايَةِ ابْنِ السَّكَنِ الَّتِي صَوَّبَهَا عِيَاضٌ. وَجَمَعَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَشْعَثِ بَيْنَ لَفْظِ: غَيْرَ وَلَفْظِ: عِنْدَ فَقَالَ: غَيْرَ هُنَيَّةٍ عِنْدَ أُذُنِهِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحَاكِمِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا: فَإِذَا هُوَ كَيَوْمِ وَضَعْتُهُ غَيْرَ أُذُنِهِ. سَقَطَ مِنْهَا لَفْظُ هُنَيَّةٍ وَهُوَ مُسْتَقِيمُ الْمَعْنَى. وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي الْجَمْعِ فِي أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ، وَالْمُرَادُ بِالْأُذُنِ بَعْضُهَا. وَحَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ فِي رِوَايَتِهِ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ ثُمَّ مُثَنَّاةٌ مَنْصُوبَةٌ ثُمَّ هَاءُ الضَّمِيرِ، أَيْ: عَلَى حَالَتِهِ.

وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ السَّكَنِ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي مَسْلَمَةَ

(2)

بِلَفْظِ: غَيْرَ أَنَّ طَرَفَ أُذُنِ أَحَدِهِمْ تَغَيَّرَ، وَلِابْنِ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ أَبِي مَسْلَمَةَ: إِلَّا قَلِيلًا مِنْ شَحْمَةِ أُذُنِهِ. وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي مَسْلَمَةَ: إِلَّا شَعَرَاتٍ كُنَّ مِنْ لِحْيَتِهِ مِمَّا يَلِي الْأَرْضَ. وَيُجْمَعُ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَغَيْرِهَا بِأَنَّ الْمُرَادَ الشَّعَرَاتُ الَّتِي تَتَّصِلُ بِشَحْمَةِ الْأُذُنِ، وَأَفَادَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ سَبَبَ تَغَيُّرِ ذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ، وَلَا يُعَكِّرُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ أَبَاهُ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ ثُمَّ مَثَّلُوا بِهِ، فَجَدَعُوا أَنْفَهُ وَأُذُنَيْهِ، الْحَدِيثَ. وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ؛ لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمْ قَطَعُوا بَعْضَ أُذُنَيْهِ لَا جَمِيعَهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءٍ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَحَكَى أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ أَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَ أَبِي عَلِيِّ بْنِ السَّكَنِ: عَنْ مُجَاهِدٍ. بَدَلَ عَطَاءٍ. قَالَ: وَالَّذِي رَوَاهُ غَيْرُهُ أَصَحُّ. قُلْتُ: وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ وَآخَرُونَ، كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ عَامِرٍ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ فِيهِ، وَهُوَ الصَّوَابُ.

وَفِي قِصَّةِ وَالِدِ جَابِرٍ مِنَ الْفَوَائِدِ: الْإِرْشَادُ إِلَى بِرِّ الْأَوْلَادِ بِالْآبَاءِ خُصُوصًا بَعْدَ الْوَفَاةِ، وَالِاسْتِعَانَةُ عَلَى ذَلِكَ بِإِخْبَارِهِمْ بِمَكَانَتِهِمْ مِنَ الْقَلْبِ. وَفِيهِ قُوَّةُ إِيمَانِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَذْكُورِ؛ لِاسْتِثْنَائِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مِمَّنْ جَعَلَ وَلَدَهُ أَعَزَّ عَلَيْهِ مِنْهُمْ. وَفِيهِ كَرَامَتُهُ بِوُقُوعِ الْأَمْرِ عَلَى مَا ظَنَّ، وَكَرَامَتُهُ بِكَوْنِ الْأَرْضِ لَمْ تُبْلِ جَسَدَهُ مَعَ لُبْثِهِ فِيهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ لِمَكَانِ الشَّهَادَةِ. وَفِيهِ فَضِيلَةٌ لِجَابِرٍ لِعَمَلِهِ بِوَصِيَّةِ أَبِيهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَكَانِهِ.

‌78 - بَاب اللَّحْدِ وَالشَّقِّ فِي الْقَبْرِ

1353 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ، ثُمَّ يَقُولُ: أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ، فَقَالَ: أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ بِدِمَائِهِمْ، وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ.

قَوْلُهُ: (بَابُ اللَّحْدِ وَالشَّقِّ فِي الْقَبْرِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ قَتْلَى أُحُدٍ وَلَيْسَ فِيهِ لِلشَّقِّ ذِكْرٌ.

قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ. ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْمَيِّتَيْنِ جَمِيعًا فِي اللَّحْدِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُقَدَّمُ فِي اللَّحْدِ

(1)

أي "عند أذنه" بدل "غير أذنه" لكنه لايتم بها الكلام كما قال الشارح، والله أعلم

(2)

في المخطوطة: عن أبي سلمة

ص: 217

وَالَّذِي يَلِيهِ فِي الشَّقِّ لِمَشَقَّةِ الْحَفْرِ فِي الْجَانِبِ لِمَكَانِ اثْنَيْنِ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: فَكُفِّنَ أَبِي وَعَمِّي فِي نَمِرَةٍ وَاحِدَةٍ. أَيْ: شُقَّتْ بَيْنَهُمَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرَ الشَّقَّ فِي التَّرْجَمَةِ؛ لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ اللَّحْدَ أَفْضَلُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي وَقَعَ دَفْنُ الشُّهَدَاءِ فِيهِ مَعَ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْجَهْدِ وَالْمَشَقَّةِ، فَلَوْلَا مَزِيدٌ فِيهِ مَا عَانَوْهُ. وَفِي السُّنَنِ لِأَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: اللَّحْدُ لَنَا وَالشَّقُّ لِغَيْرِنَا وَهُوَ يُؤَيِّدُ فَضِيلَةَ اللَّحْدِ عَلَى الشَّقِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌79 - بَاب إِذَا أَسْلَمَ الصَّبِيُّ فَمَاتَ هَلْ يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَهَلْ يُعْرَضُ عَلَى الصَّبِيِّ الْإِسْلَامُ؟

وَقَالَ الْحَسَنُ وَشُرَيْحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَقَتَادَةُ: إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا فَالْوَلَدُ مَعَ الْمُسْلِمِ

وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما مَعَ أُمِّهِ مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَ أَبِيهِ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ

وَقَالَ: الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى

1354 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ، أَنَّ عُمَرَ انْطَلَقَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي رَهْطٍ قِبَلَ ابْنِ صَيَّادٍ حَتَّى وَجَدُوهُ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ عِنْدَ أُطُمِ بَنِي مَغَالَةَ، وَقَدْ قَارَبَ ابْنُ صَيَّادٍ الْحُلُمَ، فَلَمْ يَشْعُرْ حَتَّى ضَرَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ لِابْنِ صَيَّادٍ: تَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ فَنَظَرَ إِلَيْهِ ابْنُ صَيَّادٍ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الْأُمِّيِّينَ، فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ فَرَفَضَهُ وَقَالَ: آمَنْتُ بِاللَّهِ وَبِرُسُلِهِ، فَقَالَ لَهُ: مَاذَا تَرَى؟ قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: يَأْتِينِي صَادِقٌ وَكَاذِبٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: خُلِّطَ عَلَيْكَ الْأَمْرُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئًا، فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: هُوَ الدُّخُّ، فَقَالَ: اخْبَأْ، فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ فَلَا خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ.

[الحديث 1354 - أرافه في: 3055، 6173، 6618]

1355 -

وَقَالَ سَالِمٌ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ "انْطَلَقَ بَعْدَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ إِلَى النَّخْلِ الَّتِي فِيهَا ابْنُ صَيَّادٍ وَهُوَ يَخْتِلُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ ابْنِ صَيَّادٍ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ ابْنُ صَيَّادٍ فَرَآهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُضْطَجِعٌ يَعْنِي فِي قَطِيفَةٍ لَهُ فِيهَا رَمْزَةٌ أَوْ زَمْرَةٌ فَرَأَتْ أمُّ ابْنِ صَيّادٍ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ فَقَالَتْ لِابْنِ صَيَّادٍ يَا صَافِ وَهُوَ اسْمُ ابْنِ صَيَّادٍ هَذَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم فَثَارَ ابْنُ صَيَّادٍ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ" وَقَالَ شُعَيْبٌ فِي حَدِيثِهِ فَرَفَصَهُ رَمْرَمَةٌ أَوْ زَمْزَمَةٌ وَقَالَ إِسْحَاقُ الْكَلْبِيُّ وَعُقَيْلٌ رَمْرَمَةٌ وَقَالَ مَعْمَرٌ رَمْزَةٌ

[الحديث 1355 - أطرافه في: 2638، 3033، 3056، 6174]

ص: 218

1356 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ وَهْوَ ابْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ "كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ: "أَسْلِمْ فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم فَأَسْلَمَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنْ النَّارِ"

[الحديث 1356 - طرفه في: 5675]

1357 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ أَنَا مِنْ الْوِلْدَانِ وَأُمِّي مِنْ النِّسَاءِ"

1358 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ يُصَلَّى عَلَى كُلِّ مَوْلُودٍ مُتَوَفًّى وَإِنْ كَانَ لِغَيَّةٍ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِطْرَةِ الإِسْلَامِ يَدَّعِي أَبَوَاهُ الإِسْلَامَ أَوْ أَبُوهُ خَاصَّةً وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ عَلَى غَيْرِ الإِسْلَامِ إِذَا اسْتَهَلَّ صَارِخًا صُلِّيَ عَلَيْهِ وَلَا يُصَلَّى عَلَى مَنْ لَا يَسْتَهِلُّ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سِقْطٌ فَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه كَانَ يُحَدِّثُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ "ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} الْآيَةَ

[الحديث 1358 - أطرافه 1359، 1385، 4775، 6577]

1359 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟ ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه:{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} .

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا أَسْلَمَ الصَّبِيُّ فَمَاتَ هَلْ يُصَلَّى عَلَيْهِ؟ وَهَلْ يُعْرَضُ عَلَى الصَّبِيِّ الْإِسْلَامُ؟) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ مَعْقُودَةٌ لِصِحَّةِ إِسْلَامِ الصَّبِيِّ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ اخْتِلَافٍ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ. وَقَوْلُهُ: وَهَلْ يُعْرَضُ عَلَيْهِ ذَكَرَهُ هُنَا بِلَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ، وَتَرْجَمَ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ بِصِيغَةٍ تَدُلُّ عَلَى الْجَزْمِ بِذَلِكَ، فَقَالَ: وَكَيْفَ يُعْرَضُ الْإِسْلَامُ عَلَى الصَّبِيِّ؟ وَكَأَنَّهُ لَمَّا أَقَامَ الْأَدِلَّةَ هُنَا عَلَى صِحَّةِ إِسْلَامِهِ اسْتَغْنَى بِذَلِكَ، وَأَفَادَ هُنَاكَ ذِكْرَ الْكَيْفِيَّةِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَسَنُ، إِلَخْ) أَمَّا أَثَرُ الْحَسَنِ فَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ، أَظُنُّهُ فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ لَهُ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ فِي الصَّغِيرِ؟ قَالَ: مَعَ الْمُسْلِمِ مِنْ وَالِدَيْهِ. وَأَمَّا أَثَرُ إِبْرَاهِيمَ فَوَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: فِي نَصْرَانِيَّيْنَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ صَغِيرٌ، فَأَسْلَمَ أَحَدُهُمَا؟ قَالَ: أَوْلَاهُمَا بِهِ الْمُسْلِمُ. وَأَمَّا أَثَرُ شُرَيْحٍ، فَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِالْإِسْنَادِ

ص: 219

الْمَذْكُورِ إِلَى يَحْيَى بْنِ يَحْيَى: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ اخْتُصِمَ إِلَيْهِ فِي صَبِيٍّ أَحَدُ أَبَوَيْهِ نَصْرَانِيٌّ، قَالَ: الْوَالِدُ الْمُسْلِمُ أَحَقُّ بِالْوَلَدِ. وَأَمَّا أَثَرُ قَتَادَةَ فَوَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْهُ نَحْوَ قَوْلِ الْحَسَنِ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعَ أُمِّهِ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ) وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ مِنْ حَدِيثِهِ بِلَفْظِ: كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَاسْمُ أُمِّهِ لُبَابَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ.

قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَكُنْ مَعَ أَبِيهِ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ) هَذَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ تَفَقُّهًا، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ إِسْلَامَ الْعَبَّاسِ كَانَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ فَقِيلَ: أَسْلَمَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَأَقَامَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ فِي ذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، رَوَى ذَلِكَ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي إِسْنَادِهِ الْكَلْبِيُّ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ. وَيَرُدُّهُ أَنَّ الْعَبَّاسَ أُسِرَ بِبَدْرٍ، وَقَدْ فَدَى نَفْسَهُ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي وَاضِحًا، وَيَرُدُّهُ أَيْضًا أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي فِي قِصَّةِ الْمُسْتَضْعَفِينَ نَزَلَتْ بَعْدَ بَدْرٍ بِلَا خِلَافٍ، فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ أَسْلَمَ قَبْلَ فَتْحِ خَيْبَرَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ الْحَجَّاجِ بْنِ عِلَاطٍ كَمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ هَاجَرَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِخَيْبَرَ، وَرَدَّهُ بِقِصَّةِ الْحَجَّاجِ الْمَذْكُورِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ هَاجَرَ عَامَ الْفَتْحِ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ، وَقَدِمَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَشَهِدَ الْفَتْحَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ: الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى) كَذَا فِي جَمِيعِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ لَمْ يُعَيَّنِ الْقَائِلُ، وَكُنْتُ أَظُنُّ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَيَكُونُ مِنْ كَلَامِهِ، ثُمَّ لَمْ أَجِدْهُ مِنْ كَلَامِهِ بَعْدَ التَّتَبُّعِ الْكَثِيرِ، وَرَأَيْتُهُ مَوْصُولًا مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ غَيْرِهِ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الرُّويَانِيُّ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ عَائِذِ بْنِ عَمْرٍو الْمُزَنِيِّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، وَرَوَيْنَاهُ فِي فَوَائِدِ أَبِي يَعْلَى الْخَلِيلِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَزَادَ فِي أَوَّلِهِ قِصَّةً وَهِيَ أَنَّ عَائِذَ بْنَ عَمْرٍو جَاءَ يَوْمَ الْفَتْحِ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، فَقَالَ الصَّحَابَةُ: هَذَا أَبُو سُفْيَانَ، وَعَائِذُ بْنُ عَمْرٍو، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَذَا عَائِذُ بْنُ عَمْرٍو، وَأَبُو سُفْيَانَ، الْإِسْلَامُ أَعَزُّ مِنْ ذَلِكَ، الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى. وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ لِلْمَبْدَأِ بِهِ فِي الذِّكْرِ تَأْثِيرًا فِي الْفَضْلِ لِمَا يُفِيدُهُ مِنَ الِاهْتِمَامِ، وَلَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ تُرَتِّبُ. ثُمَّ وَجَدْتُهُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا كُنْتُ أَظُنُّ، ذَكَرَهُ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْمُحَلَّى، قَالَ: وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِذَا أَسْلَمَتِ الْيَهُودِيَّةُ أَوِ النَّصْرَانِيَّةُ تَحْتَ الْيَهُودِيِّ أَوِ النَّصْرَانِيِّ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى.

ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ أَحَادِيثَ تَرَجُّحَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ صِحَّةِ إِسْلَامِ الصَّبِيِّ، أَوَّلُهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ ابْنِ صَيَّادٍ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي الْبَابِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي الْجِهَادِ، وَمَقْصُودُ الْبُخَارِيِّ مِنْهُ الِاسْتِدْلَالُ هُنَا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِابْنِ صَيَّادٍ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ وَكَانَ إِذْ ذَاكَ دُونَ الْبُلُوغِ.

وقَوْلُهُ: أُطُمِ بِضَمَّتَيْنِ: بِنَاءٌ كَالْحِصْنِ.

وَمَغَالَةَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْمُعْجَمَةِ الْخَفِيفَةِ: بَطْنٌ مِنَ الْأَنْصَارِ. وَابْنُ صَيَّادٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ: صَائِدٌ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ كَانَ يُدْعَى بِهِ، وَقَوْلُهُ: فَرَفَضَهُ لِلْأَكْثَرِ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ، أَيْ: تَرَكَهُ، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: أَنْكَرَهَا الْقَاضِي. وَلِبَعْضِهِمْ بِالْمُهْمَلَةِ، أَيْ: دَفَعَهُ بِرِجْلِهِ، قَالَ عِيَاضٌ: كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ عَنْ غَيْرِ الْمُسْتَمْلِي وَلَا وَجْهَ لَهَا. قَالَ الْمَازِرِيُّ: لَعَلَّهُ رَفْسَهُ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: ضَرَبَهُ بِرِجْلِهِ، قَالَ عِيَاضٌ: لَمْ أَجِدْ هَذِهِ اللَّفْظَةَ فِي جَمَاهِيرِ اللُّغَةِ يَعْنِي بِالصَّادِ، قَالَ: وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ بِالْقَافِ بَدَلَ الْفَاءِ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدُوسٍ: فَوَقَصَهُ بِالْوَاوِ وَالْقَافِ، وَقَوْلُهُ: وَهُوَ يَخْتِلُ بِمُعْجَمَةِ سَاكِنَةٍ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ مَكْسُورَةٌ، أَيْ: يَخْدَعُهُ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَغْفِلَهُ؛ لِيَسْمَعَ كَلَامَهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ.

قَوْلُهُ: (لَهُ فِيهَا رُمْزَةٌ أَوْ زُمْرَةٌ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ عَلَى الشَّكِّ فِي تَقْدِيمِ الرَّاءِ عَلَى الزَّاي أَوْ تَأْخِيرِهَا، وَلِبَعْضِهِمْ: زَمْزَمَةٌ أَوْ رَمْرَمَةٌ عَلَى الشَّكِّ، هَلْ هُوَ بِزَايَيْنِ أَوْ بِرَاءَيْنِ مَعَ زِيَادَةِ مِيمٍ فِيهِمَا، وَمَعَانِي هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ مُتَقَارِبَةٌ، فَأَمَّا الَّتِي بِتَقْدِيمِ الرَّاءِ وَمِيمٍ وَاحِدَةٍ فَهِيَ فُعْلَةٌ مِنَ الرَّمْزِ، وَهُوَ الْإِشَارَةُ، وَأَمَّا الَّتِي بِتَقْدِيمِ الزَّاي كَذَلِكَ فَمِنَ

ص: 220

الزّمْرِ، وَالْمُرَادُ حِكَايَةُ صَوْتِهِ، وَأَمَّا الَّتِي بِالْمُهْمَلَتَيْنِ وَمِيمَيْنِ، فَأَصْلُهُ مِنَ الْحَرَكَةِ، وَهِيَ هُنَا بِمَعْنَى الصَّوْتِ الْخَفِيِّ، وَأَمَّا الَّتِي بِالْمُعْجَمَتَيْنِ كَذَلِكَ فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: هُوَ تَحْرِيكُ الشَّفَتَيْنِ بِالْكَلَامِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: وَهُوَ كَلَامُ الْعُلُوجِ، وَهُوَ صَوْتٌ يُصَوَّتُ مِنَ الْخَيَاشِيمِ وَالْحَلْقِ.

قَوْلُهُ: (فَثَارَ ابْنُ صَيَّادٍ) أَيْ: قَامَ، كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ: فَثَابَ بِمُوَحَّدَةٍ، أَيْ: رَجَعَ عَنِ الْحَالَةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ شُعَيْبٌ: زَمْزَمَةٌ. فَرَفَصَهُ) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ بِالزَّايَيْنِ وَبِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ، وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ: وَقَالَ شُعَيْبٌ فِي حَدِيثِهِ: فَرَفَصَهُ. زَمْزَمَةٌ. أَوْ: رَمْرَمَةٌ بِالشَّكِّ. وَسَيَأْتِي فِي الْأَدَبِ مَوْصُولًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِالشَّكِّ، لَكِنْ فِيهِ: فَرَصَّهُ بِغَيْرِ فَاءٍ وَبِالتَّشْدِيدِ، وَذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ فِي غَرِيبِهِ بِمُهْمَلَةٍ، أَيْ: ضَغَطَهُ، وَضَمَّ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ إِسْحَاقُ الْكَلْبِيُّ، وَعُقَيْلٌ: رَمْرَمَةٌ) يَعْنِي بِمُهْمَلَتَيْنِ (وَقَالَ مَعْمَرٌ: رُمْزَةٌ) يَعْنِي بِرَاءٍ ثُمَّ زَايٍ، أَمَّا رِوَايَةُ إِسْحَاقَ فَوَصَلَهَا الذُّهْلِيُّ فِي الزُّهْرِيَّاتِ، وَسَقَطَتْ مِنْ رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، والْكُشْمِيهَنِيِّ، وَأَبِي الْوَقْتِ، وَأَمَّا رِوَايَةُ عُقَيْلٍ فَوَصَلَهَا الْمُصَنِّفُ فِي الْجِهَادِ، وَكَذَا رِوَايَةُ مَعْمَرٍ.

ثَانِي الْأَحَادِيثِ حَدِيثُ أَنَسٍ: (كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ) لَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ الْمَوْصُولَةِ عَلَى تَسْمِيَتِهِ، إِلَّا أَنَّ ابْنَ بَشْكُوَالٍ ذَكَرَ أَنَّ صَاحِبَ الْعُتْبِيَّةِ حَكَى عَنْ زِيَادٍ شَيْطُونٍ أَنَّ اسْمَ هَذَا الْغُلَامِ عَبْدُ الْقُدُّوسِ، قَالَ: وَهُوَ غَرِيبٌ مَا وَجَدْتُهُ عِنْدَ غَيْرِهِ.

قَوْلُهُ: (وَهُوَ عِنْدَهُ) فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: عِنْدَ رَأْسِهِ. أَخْرَجَهُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، وَكَذَا لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ، عَنْ أَبِي خَلِيفَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ.

قَوْلُهُ: (فَأَسْلَمَ) فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، عَنْ سُلَيْمَانَ الْمَذْكُورِ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، وَأَبِي خَلِيفَةَ: أَنْقَذَهُ بِي مِنَ النَّارِ.

وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ اسْتِخْدَامِ الْمُشْرِكِ، وَعِيَادَتِهِ إِذَا مَرِضَ، وَفِيهِ حُسْنُ الْعَهْدِ، وَاسْتِخْدَامُ الصَّغِيرِ، وَعَرْضُ الْإِسْلَامِ عَلَى الصَّبِيِّ، وَلَوْلَا صِحَّتُهُ مِنْهُ مَا عَرَضَهُ عَلَيْهِ. وَفِي قَوْلِهِ: أَنْقَذَهُ بِي مِنَ النَّارِ. دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ صَحَّ إِسْلَامُهُ، وَعَلَى أَنَّ الصَّبِيَّ إِذَا عَقَلَ الْكُفْرَ وَمَاتَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُعَذَّبُ

(1)

. وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ الطَّوِيلِ فِي الرُّؤْيَا الْآتِي فِي بَابِ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ فِي أَوَاخِرِ الْجَنَائِزِ.

ثَالِثُهَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي التَّرْجَمَةِ.

رَابِعُهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي أَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مُنْقَطِعًا، وَمِنْ طَرِيقٍ آخَرَ عَنْهُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَالِاعْتِمَادُ فِي الْمَرْفُوعِ عَلَى الطَّرِيقِ الْمَوْصُولَةِ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ الْمُنْقَطِعَةَ لِقَوْلِ ابْنِ شِهَابٍ الَّذِي اسْتَنْبَطَهُ مِنَ الْحَدِيثِ، وَقَوْلُ ابْنِ شِهَابٍ: لِغِيَّةٍ بِكَسْرِ اللَّامِ وَالْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ، أَيْ: مِنْ زِنًا، وَمُرَادُهُ أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَى وَلَدِ الزِّنَا وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِأُمِّهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ أَبُوهُ مُسْلِمًا دُونَ أُمِّهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إِنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَى وَلَدِ الزِّنَا إِلَّا قَتَادَةُ وَحْدَهُ، وَاخْتُلِفَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الصَّبِيِّ، فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ حَتَّى يَبْلُغَ. وَقِيلَ: حَتَّى يُصَلِّيَ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: يُصَلَّى عَلَيْهِ حَتَّى السِّقْطَ إِذَا اسْتَهَلَّ

(2)

. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ. مَا يُقَالُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى جِنَازَةِ الصَّبِيِّ، وَدَخَلَ فِي قَوْلِهِ: كُلُّ مَوْلُودٍ السِّقْطُ،

(1)

في هذه الفائدة نظر لأنه ليس في الحديث المذكور دلالة صريحة على أن الغلام المذكور لم يبلغ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "رفع القلم عن ثلاثة" وذكر منهم "الصغير حتى يبلغ" والله أعلم

(2)

الصواب شرعية الصلاة عليه وإن لم يستهل، إذا كان قد نفخ فيه الروح، لعموم حديث "السقط يصلى عليه" وتقدم البحث في ذلك في ص 201، والله أعلم

ص: 221

فَلِذَلِكَ قَيَّدَهُ بِالِاسْتِهْلَالِ، وَهَذَا مُصَيِّرٌ مِنَ الزُّهْرِيِّ إِلَى تَسْمِيَةِ الزَّانِي أَبًا لِمَنْ زَنَى بِأُمِّهِ؛ فَإِنَّهُ يَتْبَعُهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْمَتْنِ الْمَرْفُوعِ، وَعَلَى ذِكْرِ الِاخْتِلَافِ عَلَى الزُّهْرِيِّ فِيهِ فِي بَابِ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌80 - بَاب إِذَا قَالَ الْمُشْرِكُ عِنْدَ الْمَوْتِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ

1360 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي طَالِبٍ: يَا عَمِّ، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؛ كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ، أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ، وَيَعُودَانِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَمَا وَاللَّهِ، لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ:[113 التوبة]: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ} الآيَةَ"

[الحديث 1360 - أطرافه في: 3884، 4675، 4772، 6681]

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا قَالَ الْمُشْرِكُ عِنْدَ الْمَوْتِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: لَمْ يَأْتِ بِجَوَابِ (إِذَا)؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَالَ لِعَمِّهِ: قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ لَكَ بِهَا. كَانَ مُحْتَمِلًا لِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَاصًّا بِهِ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ إِذَا قَالَهَا وَقَدْ أَيْقَنَ بِالْوَفَاةِ لَمْ يَنْفَعْهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَرَكَ جَوَابَ إِذَا لِيَفْهَمَ الْوَاقِفُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَوْضِعُ تَفْصِيلٍ وَفِكْرٍ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ.

ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ فِي قِصَّةِ أَبِي طَالِبٍ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي تَفْسِيرِ بَرَاءَةَ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ: مَا لَمْ أُنْهَ عَنْهُ. أَيِ: الِاسْتِغْفَارِ. وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: عَنْكَ. وَقَوْلُهُ: (فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ الْآيَةَ) يَعْنِي: قَوْلَهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} الْآيَةَ، كَمَا سَيَأْتِي. وَقَدْ ثَبَتَ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ} الْآيَةَ.

‌81 - بَاب الْجَرِيدَةِ عَلَى الْقَبْرِ.

وَأَوْصَى بُرَيْدَةُ الْأَسْلَمِيُّ أَنْ يُجْعَلَ فِي قَبْرِهِ جَرِيدَتَانِ

وَرَأَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما فُسْطَاطًا عَلَى قَبْرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ: انْزِعْهُ يَا غُلَامُ؛ فَإِنَّمَا يُظِلُّهُ عَمَلُهُ.

وَقَالَ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ: رَأَيْتُنِي وَنَحْنُ شُبَّانٌ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ رضي الله عنه، وَإِنَّ أَشَدَّنَا وَثْبَةً الَّذِي يَثِبُ قَبْرَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ حَتَّى يُجَاوِزَهُ.

وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ: أَخَذَ بِيَدِي خَارِجَةُ، فَأَجْلَسَنِي عَلَى قَبْرٍ، وَأَخْبَرَنِي عَنْ عَمِّهِ يَزِيدَ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: إِنَّمَا كُرِهَ ذَلِكَ لِمَنْ أَحْدَثَ عَلَيْهِ. وَقَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَجْلِسُ عَلَى الْقُبُورِ.

1361 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ

ص: 222

عَنْهُمَا، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ مَرَّ بِقَبْرَيْنِ يُعَذَّبَانِ، فَقَالَ: إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ، ثُمَّ أَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً فَشَقَّهَا بِنِصْفَيْنِ، ثُمَّ غَرَزَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ صَنَعْتَ هَذَا؟ فَقَالَ: لَعَلَّهُ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْجَرِيدَةِ عَلَى الْقَبْرِ) أَيْ: وَضْعُهَا، أَوْ غَرْزُهَا.

قَوْلُهُ: (وَأَوْصَى بُرَيْدَةُ الْأَسْلَمِيُّ، إِلَخْ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ: فِي قَبْرِهِ. وَلِلْمُسْتَمْلِي: عَلَى قَبْرِهِ. وَقَدْ وَصَلَهُ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ مُوَرِّقٍ الْعِجْلِيِّ، قَالَ: أَوْصَى بُرَيْدَةُ أَنْ يُوضَعَ فِي قَبْرِهِ جَرِيدَتَانِ، وَمَاتَ بِأَدْنَى خُرَاسَانَ. قَالَ ابْنُ الْمُرَابِطِ وَغَيْرُهُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بُرَيْدَةُ أَمَرَ أَنْ يُغْرَزَا فِي ظَاهِرِ الْقَبْرِ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي وَضْعِهِ الْجَرِيدَتَيْنِ فِي الْقَبْرَيْنِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَمَرَ أَنْ يُجْعَلَا فِي دَاخِلِ الْقَبْرِ؛ لِمَا فِي النَّخْلَةِ مِنَ الْبَرَكَةِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَيُؤَيِّدُهُ إِيرَادُ الْمُصَنِّفِ حَدِيثَ الْقَبْرَيْنِ فِي آخِرِ الْبَابِ، وَكَأَنَّ بُرَيْدَةَ حَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى عُمُومِهِ، وَلَمْ يَرَهُ خَاصًّا بِذَيْنِكَ الرَّجُلَيْنِ. قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: وَيَظْهَرُ مِنْ تَصَرُّفِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِهِمَا

(1)

. فَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ: إِنَّمَا يُظِلُّهُ عَمَلُهُ.

قَوْلُهُ: (وَرَأَى ابْنُ عُمَرَ فُسْطَاطًا عَلَى قَبْرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) الْفُسْطَاطُ بِضَمِّ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَبِطَاءَيْنِ مُهْمَلَتَيْنِ: هُوَ الْبَيْتُ مِنَ الشَّعْرِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ الشَّعْرِ، وَفِيهِ لُغَاتٌ أُخْرَى بِتَثْلِيثِ الْفَاءِ وبِالْمُثَنَّاتَيْنِ بَدَلَ الطَّاءَيْنِ، وَإِبْدَالِ الطَّاءِ الْأُولَى مُثَنَّاةً، وَإِدْغَامِهِمَا فِي السِّينِ وَكَسْرِ أَوَّلِهِ فِي الثَّلَاثَةِ. وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ هُوَ ابْنُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، بَيَّنَهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي رِوَايَتِهِ لَهُ مَوْصُولًا مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: مَرَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَلَى قَبْرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَخِي عَائِشَةَ، وَعَلَيْهِ فُسْطَاطٌ مَضْرُوبٌ، فَقَالَ: يَا غُلَامُ، انْزِعْهُ؛ فَإِنَّمَا يُظِلُّهُ عَمَلُهُ. قَالَ الْغُلَامُ: تَضْرِبُنِي مَوْلَاتِي. قَالَ: كَلَّا. فَنَزَعَهُ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ رَجُلٍ

(2)

. قَالَ: قَدِمَتْ عَائِشَةُ ذَا طُوًى حِينَ رَفَعُوا أَيْدِيَهُمْ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، فَأَمَرَتْ بِفُسْطَاطٍ فَضُرِبَ عَلَى قَبْرِهِ، وَوَكَّلَتْ بِهِ إِنْسَانًا وَارْتَحَلَتْ، فَقَدِمَ ابْنُ عُمَرَ. فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُ إِدْخَالِ هَذَا الْأَثَرِ تَحْتَ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ) أَيِ: ابْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ أَحَدُ ثِقَاتِ التَّابِعِينَ، وَهُوَ أَحَدُ السَّبْعَةِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، إِلَخْ. وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّارِيخِ الصَّغِيرِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ الْأَنْصَارِيُّ سَمِعْتُ خَارِجَةَ بْنَ زَيْدٍ. فَذَكَرَهُ، وَفِيهِ جَوَازُ تَعْلِيَةِ الْقَبْرِ وَرَفْعِهِ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ، وَقَوْلُهُ: رَأَيْتُنِي بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ وَالْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ ضَمِيرَانِ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مِنْ خَصَائِصِ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ. وَمَظْعُونٌ وَالِدُ عُثْمَانَ بِظَاءٍ مُعْجَمَةٍ سَاكِنَةٍ، ثُمَّ مُهْمَلَةٍ، وَمُنَاسَبَتُهُ مِنْ وَجْهِ أَنَّ وَضْعَ الْجَرِيدِ عَلَى الْقَبْرِ يُرْشِدُ إِلَى جَوَازِ وَضْعِ مَا يَرْتَفِعُ بِهِ ظَهْرُ الْقَبْرِ عَنِ الْأَرْضِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي آخِرِ الْجَنَائِزِ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: أَرَادَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ الَّذِي يَنْفَعُ أَصْحَابَ الْقُبُورِ هِيَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ، وَأَنَّ عُلُوَّ الْبِنَاءِ وَالْجُلُوسَ عَلَيْهِ وَغَيْرَ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ بِصُورَتِهِ، وَإِنَّمَا يَضُرُّ بِمَعْنَاهُ إِذَا تَكَلَّمَ الْقَاعِدُونَ عَلَيْهِ

(1)

القول بالخصوصية هو الصواب، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يغرز الجريدة إلا على قبور علم تعذيب أهلها، ولم يفعل ذلك لسائر القبور، ولو كان سنة لفعله بالجميع، ولأن الخلفاء الراشدين وكبار الصحابة لم يفعلوا ذلك، ولو كان مشروعا لبادروا إليه. أما ما فعله بريدة فهو اجتهاد منه، يخطئ ويصيب، والصواب مع من ترك ذلك كما تقدم. والله أعلم

(2)

هذا الآثر ضعيف من أجل الرجل المبهم، وعلى فرض صحته فالصواب ما فعله ابن عمر لعموم الأحاديث الدالة على تحريم البناء على القبور، وهي تشمل بناء القباب وغيرها، ولأن ذلك من وسائل الشرك بالمقبور فحرم فعله كسائر وسائل الشرك، والله أعلم

ص: 223

بِمَا يَضُرُّ مَثَلًا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ: أَخَذَ بِيَدِي خَارِجَةُ) أَيِ: ابْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ إِلَخْ. وَصَلَهُ مُسَدَّدٌ فِي مُسْنَدِهِ الْكَبِيرِ، وَبَيَّنَ فِيهِ سَبَبَ إِخْبَارِ خَارِجَةَ، لِحَكِيمٍ بِذَلِكَ، وَلَفْظُهُ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَرْجِسَ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُمَا سَمِعَا أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: لَأَنْ أَجْلِسَ عَلَى جَمْرَةٍ فَتُحْرِقَ مَا دُونَ لَحْمِي حَتَّى تُفْضِيَ إِلَيَّ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ. قَالَ عُثْمَانُ: فَرَأَيْتُ خَارِجَةَ بْنَ زَيْدٍ فِي الْمَقَابِرِ، فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ، فَأَخَذَ بِيَدِي الْحَدِيثَ. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا مِنْ طَرِيقِ سَهْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْهُ، وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: إِنَّمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَنْ جَلَسَ عَلَى قَبْرٍ يَبُولُ عَلَيْهِ أَوْ يَتَغَوَّطُ، فَكَأَنَّمَا جَلَسَ عَلَى جَمْرَةٍ، لَكِنَّ إِسْنَادَهُ ضَعِيفٌ. قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْأَثَرَ وَالَّذِي بَعْدَهُ مِنَ الْبَابِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا، وَهُوَ: بَابُ مَوْعِظَةِ الْمُحَدِّثِ عِنْدَ الْقَبْرِ وَقُعُودِ أَصْحَابِهِ حَوْلَهُ. وَكَأَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ كَتَبَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، قَالَ: وَقَدْ يُتَكَلَّفُ لَهُ طَرِيقٌ يَكُونُ بِهِ مِنَ الْبَابِ، وَهِيَ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ ضَرْبَ الْفُسْطَاطِ إِنْ كَانَ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ كَالتَّسَتُّرِ مِنَ الشَّمْسِ مَثَلًا لِلْحَيِّ لَا لِإِظْلَالِ الْمَيِّتِ فَقَطْ جَازَ، وَكَأَنَّهُ يَقُولُ: إِذَا أُعْلِيَ الْقَبْرُ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ لَا لِقَصْدِ الْمُبَاهَاةِ جَازَ، كَمَا يَجُوزُ الْقُعُودُ عَلَيْهِ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ، لَا لِمَنْ أَحْدَثَ عَلَيْهِ.

قَالَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدَثِ هُنَا التَّغَوُّطُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ مِنَ إِحْدَاثِ مَا لَا يَلِيقُ مِنَ الْفُحْشِ قَوْلًا وَفِعْلًا؛ لِتَأَذِّي الْمَيِّتِ بِذَلِكَ. انْتَهَى.

وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الْآثَارُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذَا الْبَابِ تَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ مُنَاسَبَتِهَا لِلتَّرْجَمَةِ، وَإِلَى مُنَاسَبَةِ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ حُكْمَ وَضْعِ الْجَرِيدَةِ، وَذَكَرَ أَثَرَ بُرَيْدَةَ، وَهُوَ يُؤْذِنُ بِمَشْرُوعِيَّتِهَا، ثُمَّ أَثَرَ ابْنِ عُمَرَ الْمُشْعِرَ بِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِمَا يُوضَعُ عَلَى الْقَبْرِ، بَلِ التَّأْثِيرُ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَظَاهِرُهُمَا التَّعَارُضُ فَلِذَلِكَ أَبْهَمَ حُكْمَ وَضْعِ الْجَرِيدَةِ، قَالَهُ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ تَصَرُّفِهِ تَرْجِيحُ الْوَضْعِ، وَيُجَابُ عَنْ أَثَرِ ابْنِ عُمَرَ بِأَنَّ ضَرْبَ الْفُسْطَاطِ عَلَى الْقَبْرِ لَمْ يَرِدْ فِيهِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْمَيِّتُ، بِخِلَافِ وَضْعِ الْجَرِيدَةِ؛ لِأَنَّ مَشْرُوعِيَّتَهَا ثَبَتَتْ بِفِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم، وإِنْ كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ قَالَ: إِنَّهَا وَاقِعَةُ عَيْنٍ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مَخْصُوصَةً بِمَنْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى حَالِ الْمَيِّتِ، وَأَمَّا الْآثَارُ الْوَارِدَةُ فِي الْجُلُوسِ عَلَى الْقَبْرِ، فَإِنَّ عُمُومَ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ: إِنَّمَا يُظِلُّهُ عَمَلُهُ يَدْخُلُ فِيهِ أَنَّهُ كَمَا لَا يَنْتَفِعُ بِتَظْلِيلِهِ وَلَوْ كَانَ تَعْظِيمًا لَهُ، لَا يَتَضَرَّرُ بِالْجُلُوسِ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ تَحْقِيرًا لَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَجْلِسُ عَلَى الْقُبُورِ) وَوَصَلَهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ أَنَّ نَافِعًا حَدَّثَهُ بِذَلِكَ، وَلَا يُعَارِضُ هَذَا مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْهُ، قَالَ: لَأَنْ أَطَأَ عَلَى رَضْفٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَطَأَ عَلَى قَبْرٍ. وَهَذِهِ مِنَ الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا، وَوَرَدَ فِيهَا مِنْ صَحِيحِ الْحَدِيثِ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ مَرْفُوعًا: لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ، وَلَا تُصَلُّوا إِلَيْهَا. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُرَادُ بِالْجُلُوسِ الْقُعُودُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ مَالِكٌ: الْمُرَادُ بِالْقُعُودِ الْحَدَثُ، وَهُوَ تَأْوِيلٌ ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ. انْتَهَى. وَهُوَ يُوهِمُ انْفِرَادَ مَالِكٍ بِذَلِكَ، وَكَذَا أَوْهَمَهُ كَلَامُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ حَيْثُ قَالَ: جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى الْكَرَاهَةِ خِلَافًا لِمَالِكٍ. وَصَرَّحَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ بِأَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ كَالْجُمْهُورِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ كَقَوْلِ مَالِكٍ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ الطَّحَاوِيُّ وَاحْتَجَّ لَهُ بِأَثَرِ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ، وَأَخْرَجَ عَنْ عَلِيٍّ نَحْوَهُ، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مَرْفُوعًا: إِنَّمَا نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْجُلُوسِ عَلَى الْقُبُورِ لِحَدَثٍ؛ غَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ. وَرِجَالُ إِسْنَادِهِ ثِقَاتٌ. وَيُؤَيِّدُ قَوْلَ الْجُمْهُورِ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الْأَنْصَارِيِّ مَرْفُوعًا: لَا تَقْعُدُوا عَلَى الْقُبُورِ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْهُ: رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا مُتَّكِئٌ عَلَى قَبْرٍ فَقَالَ:

ص: 224

لَا تُؤْذِ صَاحِبَ الْقَبْرِ.

إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجُلُوسِ الْقُعُودُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَرَدَّ ابْنُ حَزْمٍ التَّأْوِيلَ الْمُتَقَدِّمَ بِأَنَّ لَفْظَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: لَأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتُحْرِقَ ثِيَابَهُ فَتَخْلُصَ إِلَى جِلْدِهِ. قَالَ: وَمَا عَهِدْنَا أَحَدًا يَقْعُدُ عَلَى ثِيَابِهِ لِلْغَائِطِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْقُعُودُ عَلَى حَقِيقَتِهِ. وَقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: التَّأْوِيلُ الْمَذْكُورُ بَعِيدٌ؛ لِأَنَّ الْحَدَثَ عَلَى الْقَبْرِ أَقْبَحُ مِنْ أَنْ يُكْرَهَ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ الْجُلُوسُ الْمُتَعَارَفُ

(1)

.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ: لَمْ أَرَهُ مَنْسُوبًا لِأَحَدٍ مِنَ الْمَشَايِخِ. قُلْتُ: قَدْ نَسَبَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ يَحْيَى بْنَ جَعْفَرٍ، وَجَزَمَ أَبُو مَسْعُودٍ فِي الْأَطْرَافِ وَتَبِعَهُ الْمِزِّيُّ بِأَنَّهُ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ شَبُّوَيْهِ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى. وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي كِتَابِ الْوُضُوءِ بِمَا فِيهِ مَقْنَعٌ بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌82 - بَاب مَوْعِظَةِ الْمُحَدِّثِ عِنْدَ الْقَبْرِ، وَقُعُودِ أَصْحَابِهِ حَوْلَهُ

{يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ} الْأَجْدَاثُ: الْقُبُورُ، {بُعْثِرَتْ} أُثِيرَتْ، بَعْثَرْتُ حَوْضِي أَيْ: جَعَلْتُ أَسْفَلَهُ أَعْلَاهُ، الْإِيفَاضُ: الْإِسْرَاعُ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ:{إِلَى نُصُبٍ} إِلَى شَيْءٍ مَنْصُوبٍ يَسْتَبِقُونَ إِلَيْهِ، وَالنُّصْبُ وَاحِدٌ، وَالنَّصْبُ مَصْدَرٌ، {يَوْمُ الْخُرُوجِ} مِنْ الْقُبُورِ، {يَنْسِلُونَ} يَخْرُجُونَ

1362 -

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، فَأَتَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ، وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ، فَنَكَّسَ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ؛ مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلَّا كُتِبَ مَكَانُهَا مِنْ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَإِلَّا قَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ، فَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ، قَالَ: أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ، فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ الشَّقَاوَةِ، ثُمَّ قَرَأَ:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} الْآيَةَ.

[الحديث 1362 - أطرافه في: 4945، 4946، 4947، 4948، 4949، 6217، 6605، 7552]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَوْعِظَةِ الْمُحَدِّثِ عِنْدَ الْقَبْرِ وَقُعُودِ أَصْحَابِهِ حَوْلَهُ) كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى التَّفْصِيلِ بَيْنَ أَحْوَالِ الْقُعُودِ، فَإِنْ كَانَ لِمَصْلَحَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالْحَيِّ أَوِ الْمَيِّتِ لَمْ يُكْرَهْ، وَيُحْمَلُ النَّهْيُ الْوَارِدُ عَنْ ذَلِكَ عَلَى مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (يَخْرُجُونَ مِنَ

(1)

ويؤيده ما ذهب إليه الجمهور من النهي عن القعود على القبور مطلقا ما رواه مسلم في صحيحه عن جابر قال "تهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبني عليه". وهذا الحديث الصحيح وما جاء في معناه يدل على تحريم تجصيص القبور والبناء عليها، لأن ذلك من تعظيمها وهو من وسائل الشرك كما وقع ذلك في كثير من الأمصار. فالواجب على أهل العلم وعلى جميع المسلمين إنكاره والتحذير منه. وإذا كان البناء على القبر مسجدا صارت المعصية أعظم، والوسيلة به إلى الشرك أظهر، ولهذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن من اتخذ القبور مساجد وقال عليه الصلاة والسلام "ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك"

ص: 225

الْأَجْدَاثِ: الْأَجْدَاثُ الْقُبُورُ) أَيِ: الْمُرَادُ بِالْأَجْدَاثِ فِي الْآيَةِ الْقُبُورُ. وَقَدْ وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، وَالسُّدِّيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَاحِدُهَا: جَدَثٌ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْمُهْمَلَةِ.

قَوْلُهُ: (بُعْثِرَتْ: أُثِيرَتْ. بَعْثَرْتُ حَوْضِي: جَعَلْتُ أَسْفَلَهُ أَعْلَاهُ) هَذَا كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي كِتَابِ الْمَجَازِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: بُعْثِرَتْ أَيْ: حُرِّكَتْ، فَخَرَجَ مَا فِيهَا. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.

قَوْلُهُ: (الْإِيفَاضُ) بِيَاءٍ تَحْتَانِيَّةٍ سَاكِنَةٍ قَبْلَهَا كَسْرَةٌ وَبِفَاءٍ وَمُعْجَمَةٍ (الْإِسْرَاعُ) كَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ فِي الْمَعَانِي. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُوفِضُونَ أَيْ: يُسْرِعُونَ.

قَوْلُهُ: (وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: إِلَى نَصْبٍ) يَعْنِي بِفَتْحِ النُّونِ كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ بِالضَّمِّ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَكَذَا ضَبَطَهُ الْفَرَّاءُ، عَنِ الْأَعْمَشِ فِي كِتَابِ الْمَعَانِي وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ. وَحَكَى الطَّبَرَانِيُّ أَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْهُ بِالضَّمِّ إِلَّا الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ. وَقَدْ حَكَى الْفَرَّاءُ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ذَلِكَ، وَنَقَلَهَا غَيْرُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَأَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ. وَفِي كِتَابِ السَّبْعَةِ لِابْنِ مُجَاهِدٍ: قَرَأَهَا ابْنُ عَامِرٍ بِضَمَّتَيْنِ، يَعْنِي بِلَفْظِ الْجَمْعِ. وَكَذَا قَرَأَهَا حَفْصٌ، عَنْ عَاصِمٍ. وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ سَبَبُ تَخْصِيصِ الْأَعْمَشِ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهُ كُوفِيٌّ، وَكَذَا عَاصِمٌ فَفِي انْفِرَادِ حَفْصٍ، عَنْ عَاصِمٍ بِالضَّمِّ شُذُوذٌ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: النَّصْبُ بِالْفَتْحِ هُوَ الْعَلَمُ الَّذِي نَصَبُوهُ لِيَعْبُدُوهُ، وَمَنْ قَرَأَ: نُصُبٍ، بِالضَّمِّ فَهِيَ جَمَاعَةٌ مِثْلُ رَهْنٍ وَرُهُنٍ.

قَوْلُهُ: (يُوفِضُونَ إِلَى شَيْءٍ مَنْصُوبٍ: يَسْتَبِقُونَ) قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ قُرَّةَ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ:{إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} أَيْ: يَبْتَدِرُونَ أَيُّهُمْ يَسْتَلِمُهُ أَوَّلَ.

قَوْلُهُ: (وَالنَّصْبُ وَاحِدٌ، وَالنُّصُبُ مَصْدَرٌ) كَذَا وَقَعَ فِيهِ، وَالَّذِي فِي الْمَعَانِي لِلْفَرَّاءِ النَّصْبُ وَالنُّصُبُ وَاحِدٌ وَهُوَ مَصْدَرٌ وَالْجَمْعُ الْأَنْصَابُ. وَكَأَنَّ التَّغْيِيرَ مِنْ بَعْضِ النَّقْلَةِ.

قَوْلُهُ: (يَوْمَ الْخُرُوجِ مِنْ قُبُورِهِمْ) أَيْ: خُرُوجُ أَهْلِ الْقُبُورِ مِنْ قُبُورِهِمْ.

قَوْلُهُ: (وَيَنْسِلُونَ: يَخْرُجُونَ) كَذَا أَوْرَدَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَغَيْرُهُ عَنْ قَتَادَةَ، وَسَيَأْتِي لَهُ مَعْنًى آخَرَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ بَعْدَ قَوْلِهِ:(يَخْرُجُونَ): مِنَ النَّسَلَانِ. وَهَذِهِ التَّفَاسِيرُ أَوْرَدَهَا لِتَعَلُّقِهَا بِذِكْرِ الْقَبْرِ اسْتِطْرَادًا، وَلَهَا تَعَلُّقٌ بِالْمَوْعِظَةِ أَيْضًا. قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: مُنَاسَبَةُ إِيرَادِ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ؛ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْمُنَاسِبَ لِمَنْ قَعَدَ عِنْدَ الْقَبْرِ أَنْ يَقْصُرَ كَلَامَهُ عَلَى الْإِنْذَارِ بِقُرْبِ الْمَصِيرِ إِلَى الْقُبُورِ، ثُمَّ إِلَى النَّشْرِ لِاسْتِيفَاءِ الْعَمَلِ.

ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مَرْفُوعًا: مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلَّا كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. الْحَدِيثَ. وَسَيَأْتِي مَبْسُوطًا فِي تَفْسِيرِ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} وَهُوَ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي إِثْبَاتِ الْقَدَرِ. وَقَوْلُهُ فِيهِ: اعْمَلُوا جَرَى مَجْرَى أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، أَيِ: الْزَمُوا مَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ، وَلَا تَتَصَرَّفُوا فِي أَمْرِ الرُّبُوبِيَّةِ. وَعُثْمَانُ شَيْخُهُ هُوَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَجَرِيرٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ. وَمَوْضِعُ الْحَاجَةِ مِنْهُ: فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ. وَقَوْلُهُ: فَقَالَ رَجُلٌ هُوَ عُمَرُ أَوْ غَيْرُهُ، كَمَا سَيَأْتِي، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌83 - بَاب مَا جَاءَ فِي قَاتِلِ النَّفْسِ

1363 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ عُذِّبَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ.

[الحديث 1363 - أطرافه في: 4171، 4843، 6047، 6652]

1364 -

وَقَالَ حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ الْحَسَنِ "حَدَّثَنَا جُنْدَبٌ رضي الله عنه فِي هَذَا

ص: 226

الْمَسْجِدِ فَمَا نَسِينَا وَمَا نَخَافُ أَنْ يَكْذِبَ جُنْدَبٌ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كَانَ بِرَجُلٍ جِرَاحٌ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَقَالَ اللَّهُ بَدَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ"

[الحديث 1364 - طرفه في: 3463]

1365 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الَّذِي يَخْنُقُ نَفْسَهُ يَخْنُقُهَا فِي النَّارِ وَالَّذِي يَطْعُنُهَا يَطْعُنُهَا فِي النَّارِ"

[الحديث 1365 - طرفه في: 5778]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا جَاءَ فِي قَاتِلِ النَّفْسِ) قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: مَقْصُودُ التَّرْجَمَةِ حُكْمُ قَاتِلِ النَّفْسِ. وَالْمَذْكُورُ فِي الْبَابِ حُكْمُ قَاتِلِ نَفْسِهِ، فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ التَّرْجَمَةِ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُلْحِقَ بِقَاتِلِ نَفْسِهِ قَاتِلَ غَيْرِهِ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ قَاتِلُ نَفْسِهِ الَّذِي لَمْ يَتَعَدَّ ظَلَمَ نَفْسَهَ ثَبَتَ فِيهِ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ، فَأَوْلَى مَنْ ظَلَمَ غَيْرَهُ بِإِفَاتَةِ نَفْسِهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: عَادَةُ الْبُخَارِيِّ إِذَا تَوَقَّفَ فِي شَيْءٍ تَرْجَمَ عَلَيْهِ تَرْجَمَةً مُبْهَمَةً، كَأَنَّهُ يُنَبِّهُ عَلَى طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ قَاتِلَ النَّفْسِ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ، وَمُقْتَضَاهُ أَنْ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَهُوَ نَفْسُ قَوْلِ الْبُخَارِيِّ. قُلْتُ: لَعَلَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ

(1)

. مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِرَجُلٍ قَتَلَ نَفْسَهُ بِمَشَاقِصَ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ: أَمَّا أَنَا فَلَا أُصَلِّي عَلَيْهِ. لَكِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ عَلَى شَرْطِهِ أَوْمَأَ إِلَيْهِ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ، وَأَوْرَدَ فِيهَا مَا يُشْبِهُهُ مِنْ قِصَّةِ قَاتِلِ نَفْسِهِ.

ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ.

أَحَدُهَا: حَدِيثُ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ فِيمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ، وَخَالِدٌ الْمَذْكُورُ فِي إِسْنَادِهِ هُوَ الْحَذَّاءُ.

ثَانِيهَا: حَدِيثُ جُنْدُبٍ، وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ قَالَ فِيهِ: قَالَ حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ:، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ. وَقَدْ وَصَلَهُ فِي ذِكْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ فَذَكَرَهُ. وَهُوَ أَحَدُ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى أَنَّهُ رُبَّمَا عَلَّقَ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِيهِ وَاسِطَةٌ، لَكِنَّهُ أَوْرَدَهُ هُنَا مُخْتَصَرًا، وَأَوْرَدَهُ هُنَاكَ مَبْسُوطًا، فَقَالَ فِي أَوَّلِهِ: كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ. وَقَالَ فِيهِ: فَجَزِعَ، فَأَخَذَ سِكِّينًا، فَحَزَّ بِهَا يَدَهُ فَمَا رَقَأَ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَةِ هَذَا الرَّجُلِ.

ثَالِثُهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: الَّذِي يَخْنُقُ نَفْسَهُ يَخْنُقُهَا فِي النَّارِ، وَالَّذِي يَطْعَنُهَا يَطْعَنُهَا فِي النَّارِ. وَهُوَ مِنْ أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَيْضًا فِي الطِّبِّ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مُطَوَّلًا، وَمِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْخَنْقِ، وَفِيهِ مِنَ الزِّيَادَةِ ذِكْرُ السُّمِّ وَغَيْرِهِ، وَلَفْظُهُ: فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا. وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ الْمُعْتَزِلَةُ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ قَالَ بِتَخْلِيدِ أَصْحَابِ الْمَعَاصِي فِي النَّارِ، وَأَجَابَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَنْ ذَلِكَ بِأَجْوِبَةٍ: مِنْهَا تَوْهِيمُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُ: رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَلَمْ يَذْكُرْ خَالِدًا مُخَلَّدًا. وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يُشِيرُ إِلَى رِوَايَةِ الْبَابِ، قَالَ: وَهُوَ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الرِّوَايَاتِ قَدْ صَحَّتْ أَنَّ أَهْلَ التَّوْحِيدِ يُعَذَّبُونَ ثُمَّ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا يُخَلَّدُونَ، وَأَجَابَ غَيْرُهُ بِحَمْلِ ذَلِكَ عَلَى مَنِ اسْتَحَلَّهُ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ بِاسْتِحْلَالِهِ كَافِرًا، وَالْكَافِرُ مُخَلَّدٌ بِلَا رَيْبٍ. وَقِيلَ: وَرَدَ مَوْرِدَ الزَّجْرِ وَالتَّغْلِيظِ، وَحَقِيقَتُهُ غَيْرُ مُرَادَةٍ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّ هَذَا جَزَاؤُهُ، لَكِنْ قَدْ تَكَرَّمَ اللَّهُ عَلَى الْمُوَحِّدِينَ فَأَخْرَجَهُمْ مِنَ النَّارِ بِتَوْحِيدِهِمْ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ مُخَلَّدًا فِيهَا إِلَى أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ

(1)

هذا الحديث أخرجه مسلم في صحيحه باللفظ المذكور كما ذكره الشارح في بلوغ المرام. والله أعلم

ص: 227

بِالْخُلُودِ طُولُ الْمُدَّةِ لَا حَقِيقَةُ الدَّوَامِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: يُخَلَّدُ مُدَّةً مُعَيَّنَةً، وَهَذَا أَبْعَدُهَا.

وَسَيَأْتِي لَهُ مَزِيدُ بَسْطٍ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى أَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: الَّذِي يَطْعَنُ نَفْسَهُ يَطْعَنُهَا فِي النَّارِ. عَلَى أَنَّ الْقِصَاصَ مِنَ الْقَاتِلِ يَكُونُ بِمَا قَتَلَ بِهِ اقْتِدَاءً بِعِقَابِ اللَّهِ تَعَالَى لِقَاتِلِ نَفْسِهِ، وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ ضَعِيفٌ

(1)

.

(تَنْبِيهٌ): قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ: يَطْعُنُهَا هُوَ بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ كَذَا ضَبْطُهُ فِي الْأُصُولِ.

‌84 - بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَالِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ

رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

1366 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنهم أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ، دُعِيَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَثَبْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُصَلِّي عَلَى ابْنِ أُبَيٍّ، وَقَدْ قَالَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا؟! أُعَدِّدُ عَلَيْهِ قَوْلَهُ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: أَخِّرْ عَنِّي يَا عُمَرُ، فَلَمَّا أَكْثَرْتُ عَلَيْهِ قَالَ: إِنِّي خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ، لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَرُ لَهُ لَزِدْتُ عَلَيْهَا، قَالَ: فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ انْصَرَفَ فَلَمْ يَمْكُثْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَتَانِ مِنْ بَرَاءَةٌ:{وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} - إِلَى: - {وَهُمْ فَاسِقُونَ} قَالَ: فَعَجِبْتُ بَعْدُ مِنْ جُرْأَتِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ. وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.

[الحديث 1366 - طرفه في: 4671]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَالِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: عَدَلَ عَنْ قَوْلِهِ: كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ؛ لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ لِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا، لَا مِنْ جِهَةِ الْعِبَادَةِ الْوَاقِعَةِ مِنْ صُورَةِ الصَّلَاةِ، فَقَدْ تَكُونُ الْعِبَادَةُ طَاعَةً مِنْ وَجْهٍ، مَعْصِيَةً مِنْ وَجْهٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى حَدِيثِهِ فِي قِصَّةِ الصَّلَاةِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ أَيْضًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْقَمِيصِ الَّذِي يُكَفُّ. ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَسَيَأْتِي مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا فِي التَّفْسِيرِ.

‌85 - بَاب ثَنَاءِ النَّاسِ عَلَى الْمَيِّتِ

1367 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ: مَرُّوا بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وَجَبَتْ، ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا فَقَالَ: وَجَبَتْ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: مَا وَجَبَتْ؟ قَالَ: هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ

(1)

هذا من الشارح غريب، والصواب أنه استدلال جيد، ويدل عليه قوله تعالى {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} وقوله تعالى {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} وما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من رض رأس الهودي الذي رض رأس الجارية. والأدلة في ذلك كثيرة. والله أعلم

ص: 228

الْجَنَّةُ، وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ.

[الحديث 1367 - طرفه في: 3642]

1368 -

حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ قَالَ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ - وَقَدْ وَقَعَ بِهَا مَرَضٌ - فَجَلَسْتُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، فَمَرَّتْ بِهِمْ جَنَازَةٌ فَأُثْنِيَ عَلَى صَاحِبِهَا خَيْرًا، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: وَجَبَتْ، ثُمَّ مُرَّ بِأُخْرَى فَأُثْنِيَ عَلَى صَاحِبِهَا خَيْرًا، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: وَجَبَتْ، ثُمَّ مُرَّ بِالثَّالِثَةِ فَأُثْنِيَ عَلَى صَاحِبِهَا شَرًّا، فَقَالَ: وَجَبَتْ، فَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ: فَقُلْتُ: وَمَا وَجَبَتْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: قُلْتُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّمَا مُسْلِمٍ شَهِدَ لَهُ أَرْبَعَةٌ بِخَيْرٍ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ، فَقُلْنَا: وَثَلَاثَةٌ؟ قَالَ: وَثَلَاثَةٌ، فَقُلْنَا: وَاثْنَانِ؟ قَالَ: وَاثْنَانِ، ثُمَّ لَمْ نَسْأَلْهُ عَنْ الْوَاحِدِ.

[الحديث 1368 - طرفه في: 2643]

قَوْلُهُ: (بَابُ ثَنَاءِ النَّاسِ عَلَى الْمَيِّتِ) أَيْ: مَشْرُوعِيَّتُهُ وَجَوَازُهُ مُطْلَقًا، بِخِلَافِ الْحَيِّ؛ فَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ إِذَا أَفْضَى إِلَى الْإِطْرَاءِ خَشْيَةً عَلَيْهِ مِنَ الزَّهْوِ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ.

قَوْلُهُ: (مُرَّ) بِضَمِّ الْمِيمِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ.

قَوْلُهُ: (فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا) فِي رِوَايَةِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِيهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ: كُنْتُ قَاعِدًا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَمُرَّ بِجِنَازَةٍ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ الْجِنَازَةُ؟ قَالُوا: جِنَازَةُ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ، كَانَ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَيَسْعَى فِيهَا. وَقَالَ ضِدَّ ذَلِكَ فِي الَّتِي أَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا. فَفِيهِ تَفْسِيرُ مَا أُبْهِمَ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَلِلْحَاكِمِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ: فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَنِعْمَ الْمَرْءُ، لَقَدْ كَانَ عَفِيفًا مُسْلِمًا. وَفِيهِ أَيْضًا: فَقَالَ بَعْضُهُمْ: بِئْسَ الْمَرْءُ كَانَ، إِنْ كَانَ لَفَظًّا غَلِيظًا.

قَوْلُهُ: (وَجَبَتْ) فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ عِنْدَ مُسْلِمٍ: وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ. ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وَكَذَا فِي رِوَايَةِ النَّضْرِ الْمَذْكُورَةِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالتَّكْرَارُ فِيهِ لِتَأْكِيدِ الْكَلَامِ الْمُبْهَمِ، لِيُحْفَظَ وَيَكُونَ أَبْلَغَ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ عُمَرُ) زَادَ مُسْلِمٌ: فِدَاءً لَكَ أَبِي وَأُمِّي. وَفِيهِ جَوَازُ قَوْلِ مِثْلِ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ: هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ) فِيهِ بَيَانٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَجَبَتْ؛ أَيِ: الْجَنَّةُ لِذِي الْخَيْرِ، وَالنَّارُ لِذِي الشَّرِّ، وَالْمُرَادُ بِالْوُجُوبِ الثُّبُوتُ إِذْ هُوَ فِي صِحَّةِ الْوُقُوعِ كَالشَّيْءِ الْوَاجِبِ، وَالْأَصْلُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ، بَلِ الثَّوَابُ فَضْلُهُ، وَالْعِقَابُ عَدْلُهُ، لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ. وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: مَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ. وَنَحْوُهُ لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ مَرْزُوقٍ، عَنْ شُعْبَةَ، وَهُوَ أَبْيَنُ فِي الْعُمُومِ مِنْ رِوَايَةِ آدَمَ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِالْمَيِّتَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لِغَيْبٍ أَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ عَنْ حُكْمٍ أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِهِ.

قَوْلُهُ: (أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ) أَيِ: الْمُخَاطَبُونَ بِذَلِكَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمَنْ كَانَ عَلَى صِفَتِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ. وَحَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالصَّحَابَةِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَنْطِقُونَ بِالْحِكْمَةِ بِخِلَافِ مَنْ بَعْدَهُمْ. قَالَ: وَالصَّوَابُ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَصُّ بِالثِّقَاتِ وَالْمُتَّقِينَ. انْتَهَى. وَسَيَأْتِي فِي الشَّهَادَاتِ بِلَفْظِ: الْمُؤْمِنُونَ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ. وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي نَحْوِ هَذِهِ الْقِصَّةِ: إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لَشَهِيدٌ. وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَسْطٍ فِيهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِي أَثْنَوْا عَلَيْهِ شَرًّا كَانَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. قُلْتُ: يُرْشِدُ إِلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُصَلِّ عَلَى الَّذِي أَثْنَوْا عَلَيْهِ شَرًّا، وَصَلَّى عَلَى الْآخَرِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَفَّانُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ. وَذَكَرَ أَصْحَابُ

ص: 229

الْأَطْرَافِ أَنَّهُ أَخْرَجَهُ قَائِلًا فِيهِ: قَالَ عَفَّانُ. وَبِذَلِكَ جَزَمَ الْبَيْهَقِيُّ. وَقَدْ وَصَلَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عَفَّانَ بِهِ، وَمِنْ طَرِيقِهِ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ) هُوَ بِلَفْظِ النَّهْرِ الْمَشْهُورِ، وَاسْمُهُ عَمْرٌو، وَهُوَ كِنْدِيٌّ مِنْ أَهْلِ مَرْوَ. وَلَهُمْ شَيْخٌ آخَرُ يُقَالُ لَهُ: دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ، اسْمُ أَبِيهِ بَكْرٌ، وَأَبُو الْفُرَاتِ اسْمُ جَدِّهِ، وَهُوَ أَشْجَعِيٌّ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، أَقْدَمُ مِنَ الْكِنْدِيِّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ) هُوَ الدِّيلِيُّ التَّابِعِيُّ الْكَبِيرُ الْمَشْهُورُ، وَلَمْ أَرَهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْهُ إِلَّا مُعَنْعَنًا. وَقَدْ حَكَى الدَّارَقُطْنِيُّ فِي كِتَابِ التَّتَبُّعِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، أَنَّ ابْنَ بُرَيْدَةَ إِنَّمَا يَرْوِي عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، وَلَمْ يَقُلْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ سَمِعْتُ أَبَا الْأَسْوَدِ. قُلْتُ: وَابْنُ بُرَيْدَةَ وُلِدَ فِي عَهْدِ عُمَرَ، فَقَدْ أَدْرَكَ أَبَا الْأَسْوَدِ بِلَا رَيْبٍ، لَكِنَّ الْبُخَارِيَّ لَا يَكْتَفِي بِالْمُعَاصَرَةِ

(1)

. فَلَعَلَّهُ أَخْرَجَهُ شَاهِدًا، وَاكْتَفَى لِلْأَصْلِ بِحَدِيثِ أَنَسٍ الَّذِي قَبْلَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ وَقَدْ وَقَعَ بِهَا مَرَضٌ) زَادَ الْمُصَنِّفُ فِي الشَّهَادَاتِ عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ دَاوُدَ: وَهُمْ يَمُوتُونَ مَوْتًا ذَرِيعًا. وَهُوَ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ؛ أَيْ: سَرِيعًا.

قَوْلُهُ: (فَأُثْنِيَ عَلَى صَاحِبِهَا خَيْرًا) كَذَا فِي جَمِيعِ الْأُصُولِ خَيْرًا بِالنَّصْبِ، وَكَذَا شَرًّا وَقَدْ غَلِطَ مَنْ ضَبَطَ أَثْنَى بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ؛ فَإِنَّهُ فِي جَمِيعِ الْأُصُولِ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَالصَّوَابُ الرَّفْعُ وَفِي نَصْبِهِ بُعْدٌ فِي اللِّسَانِ. وَوَجَّهَهُ غَيْرُهُ بِأَنَّ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ أُقِيمَ مَقَامَ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ وَ (خَيْرًا) مَقَامَ الثَّانِي، وَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ عَكْسَهُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: أُثْنِيَ عَلَيْهَا بِخَيْرٍ. وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: خَيْرًا صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، فَأُقِيمَتْ مَقَامَهُ فَنُصِبَتْ، لِأَنَّ أُثْنِيَ مُسْنَدٌ إِلَى الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ. قَالَ: وَالتَّفَاوُتُ بَيْنَ الْإِسْنَادِ إِلَى الْمَصْدَرِ وَالْإِسْنَادِ إِلَى الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ قَلِيلٌ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ) هُوَ الرَّاوِي، وَهُوَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ: وَمَا وَجَبَتْ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى شَيْءٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: قُلْتُ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ، وَمَا مَعْنَى قَوْلِكَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا وَجَبَتْ مَعَ اخْتِلَافِ الثَّنَاءِ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ.

قَوْلُهُ: (قُلْتُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّمَا مُسْلِمٍ، إِلَخْ) الظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: أَيُّمَا مُسْلِمٍ هُوَ الْمَقُولُ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ قَوْلُ عُمَرَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا: وَجَبَتْ قَالَهُ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِ صِدْقَ الْوَعْدِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ. وَأَمَّا اقْتِصَارُ عُمَرَ عَلَى ذِكْرِ أَحَدِ الشِّقَّيْنِ، فَهُوَ إِمَّا لِلِاخْتِصَارِ، وَإِمَّا لِإِحَالَتِهِ السَّامِعَ عَلَى الْقِيَاسِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَعُرِفَ مِنَ الْقِصَّةِ أَنَّ الْمُثْنِيَ عَلَى كُلٍّ مِنَ الْجَنَائِزِ الْمَذْكُورَةِ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ، وَكَذَا فِي قَوْلِ عُمَرَ: قُلْنَا: وَمَا وَجَبَتْ؟ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ السَّائِلَ عَنْ ذَلِكَ هُوَ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ وَقَعَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} فِي الْبَقَرَةِ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ مِمَّنْ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (فَقُلْنَا: وَثَلَاثَةٌ؟) فِيهِ اعْتِبَارُ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ؛ لِأَنَّهُ سَأَلَ عَنِ الثَّلَاثَةِ، وَلَمْ يَسْأَلْ عَمَّا فَوْقَ الْأَرْبَعَةِ كَالْخَمْسَةِ مَثَلًا، وَفِيهِ أَنَّ مَفْهُومَ الْعَدَدِ لَيْسَ دَلِيلًا قَطْعِيًّا، بَلْ هُوَ فِي مَقَامِ الِاحْتِمَالِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ لَمْ نَسْأَلْهُ عَنِ الْوَاحِدِ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: إِنَّمَا لَمْ يَسْأَلْ عُمَرُ عَنِ الْوَاحِدِ اسْتِبْعَادًا مِنْهُ أَنْ يُكْتَفَى فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ الْعَظِيمِ بِأَقَلَّ مِنَ النِّصَابِ، وَقَالَ أَخُوهُ فِي الْحَاشِيَةِ: فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى الِاكْتِفَاءِ بِالتَّزْكِيَةِ بِوَاحِدٍ. كَذَا قَالَ، وَفِيهِ غُمُوضٌ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ عَلَى أَنَّ أَقَلَّ مَا يُكْتَفَى بِهِ فِي الشَّهَادَةِ اثْنَانِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ الدَّاوُدِيُّ: الْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ شَهَادَةُ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالصِّدْقِ، لَا الْفَسَقَةُ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ يُثْنُونَ عَلَى مَنْ يَكُونُ مِثْلَهُمْ، وَلَا مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَيِّتِ عَدَاوَةٌ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ

(1)

ظاهر كلام المزي في "التهذيب" والشارح في "تهذيب التهذيب" في ترجمة أبي الأسود وترجمة عبد الله المذكور أن عبد الله قد سمع من أبي الأسود، ولم ينقلا عن أحد أنه لم يسمع منه، وذلك هو ظاهر صنيع البخاري هنا، لأنه لا يكتفي بالمعاصرة. والله أعلم

ص: 230

الْعَدُوِّ لَا تُقْبَلُ. وَفِي الْحَدِيثِ فَضِيلَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَإِعْمَالُ الْحُكْمِ بِالظَّاهِرِ. وَنَقَلَ الطِّيبِيُّ عَنْ بَعْضِ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ قَالَ: لَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ: أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ. أَنَّ الَّذِي يَقُولُونَهُ فِي حَقِّ شَخْصٍ يَكُونُ كَذَلِكَ حَتَّى يَصِيرَ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْجَنَّةَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ بِقَوْلِهِمْ، وَلَا الْعَكْسُ، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ الَّذِي أَثْنَوْا عَلَيْهِ خَيْرًا رَأَوْهُ مِنْهُ، كَانَ ذَلِكَ عَلَامَةَ كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَبِالْعَكْسِ. وَتَعَقَّبَهُ الطِّيبِيُّ بِأَنَّ قَوْلَهُ: وَجَبَتْ بَعْدَ الثَّنَاءِ حُكْمٌ عَقَّبَ وَصْفًا مُنَاسِبًا فَأَشْعَرَ بِالْعِلِّيَّةِ. وَكَذَا قَوْلُهُ: أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ فِيهِ لِلتَّشْرِيفِ؛ لِأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةٍ عَالِيَةٍ عِنْدَ اللَّهِ، فَهُوَ كَالتَّزْكِيَةِ لِلْأُمَّةِ بَعْدَ أَدَاءِ شَهَادَتِهِمْ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهَا أَثَرٌ. قَالَ: وَإِلَى هَذَا يُومِئُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} الْآيَةَ.

قُلْتُ: وَقَدِ اسْتَشْهَدَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقَرَظِيُّ لِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ نَحْوُ حَدِيثِ أَنَسٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ، أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ. وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ غَيْرِهِ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ فِي التَّفْسِيرِ، وَفِيهِ أَنَّ الَّذِي قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَا قَوْلُكُ: وَجَبَتْ؟ هُوَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الثَّنَاءَ بِالْخَيْرِ لِمَنْ أَثْنَى عَلَيْهِ أَهْلُ الْفَضْلِ - وَكَانَ ذَلِكَ مُطَابِقًا لِلْوَاقِعِ - فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُطَابِقٍ فَلَا، وَكَذَا عَكْسُهُ. قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَلَى عُمُومِهِ، وَأَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ، فَأَلْهَمَ اللَّهُ تَعَالَى النَّاسَ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ بِخَيْرٍ كَانَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ أَفْعَالُهُ تَقْتَضِي ذَلِكَ أَمْ لَا؛ فَإِنَّ الْأَعْمَالَ دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ، وَهَذَا إِلْهَامٌ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى تَعْيِينِهَا، وَبِهَذَا تَظْهَرُ فَائِدَةُ الثَّنَاءِ. انْتَهَى. وَهَذَا فِي جَانِبِ الْخَيْرِ وَاضِحٌ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَشْهَدُ لَهُ أَرْبَعَةٌ مِنْ جِيرَانِهِ الْأَدْنَيْنَ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مِنْهُ إِلَّا خَيْرًا إِلَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَدْ قَبِلْتُ قَوْلَكُمْ، وَغَفَرْتُ لَهُ مَا لَا تَعْلَمُونَ. وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوُهُ. وَقَالَ: ثَلَاثَةٌ بَدَلَ أَرْبَعَةٍ وَفِي إِسْنَادِهِ مَنْ لَمْ يُسَمَّ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ مَرَاسِيلِ بَشِيرِ بْنِ كَعْبٍ، أَخْرَجَهُ أَبُو مُسْلِمٍ الْكَجِّيُّ.

وَأَمَّا جَانِبُ الشَّرِّ، فَظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ كَذَلِكَ، لَكِنْ إِنَّمَا يَقَعُ ذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ غَلَبَ شَرُّهُ عَلَى خَيْرِهِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّضْرِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا أَوَّلًا فِي آخِرِ حَدِيثِ أَنَسٍ: إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً تَنْطِقُ عَلَى أَلْسِنَةِ بَنِي آدَمَ بِمَا فِي الْمَرْءِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ ذِكْرِ الْمَرْءِ بِمَا فِيهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ لِلْحَاجَةِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الْغِيبَةِ. وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ عَنْ ذَلِكَ فِي بَابِ النَّهْيِ عَنْ سَبِّ الْأَمْوَاتِ آخِرِ الْجَنَائِزِ، وَهُوَ أَصْلٌ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ بِالِاسْتِفَاضَةِ، وَأَنَّ أَقَلَّ أَصْلِهَا اثْنَانِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فِيهِ جَوَازُ الشَّهَادَةِ قَبْلَ الِاسْتِشْهَادِ، وَقَبُولُهَا قَبْلَ الِاسْتِفْصَالِ. وَفِيهِ اسْتِعْمَالُ الثَّنَاءِ فِي الشَّرِّ لِلْمُؤَاخَاةِ وَالْمُشَاكَلَةِ، وَحَقِيقَتُهُ إِنَّمَا هِيَ فِي الْخَيْرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌86 - بَاب مَا جَاءَ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ،

وَقَوْلِهِ تَعَالَى:

{إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ}

: هُوَ: الْهَوَانُ، وَالْهَوْنُ: الرِّفْقُ، وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ:{سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ}

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}

1369 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ

ص: 231

رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا أُقْعِدَ الْمُؤْمِنُ فِي قَبْرِهِ أُتِيَ، ثُمَّ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ}

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ بِهَذَا، وَزَادَ:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} نَزَلَتْ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ.

[الحديث 1369 - طرفه في: 4699]

1370 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ صَالِحٍ حَدَّثَنِي نَافِعٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ قَالَ "اطَّلَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَهْلِ الْقَلِيبِ فَقَالَ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا فَقِيلَ لَهُ تَدْعُو أَمْوَاتًا فَقَالَ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لَا يُجِيبُونَ"

[الحديث 1370 - طرفاه في: 3980، 4026

1371 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ "إِنَّمَا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ الْآنَ أَنَّ مَا كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ حَقٌّ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى}

[الحديث 1371 - طرفاه في: 3979، 3981]

1372 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ شُعْبَةَ سَمِعْتُ الأَشْعَثَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها "أَنَّ يَهُودِيَّةً دَخَلَتْ عَلَيْهَا فَذَكَرَتْ عَذَابَ الْقَبْرِ فَقَالَتْ لَهَا أَعَاذَكِ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَذَابِ الْقَبْرِ فَقَالَ نَعَمْ عَذَابُ الْقَبْرِ قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدُ صَلَّى صَلَاةً إِلاَّ تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ" زَادَ غُنْدَر: " عَذَابُ الْقَبْرِ حَقٌّ"

1373 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما تَقُولُ "قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا فَذَكَرَ فِتْنَةَ الْقَبْرِ الَّتِي يَفْتَتِنُ فِيهَا الْمَرْءُ فَلَمَّا ذَكَرَ ذَلِكَ ضَجَّ الْمُسْلِمُونَ ضَجَّةً"

1374 -

حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ أَتَاهُ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولَانِ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ فَيُقَالُ لَهُ انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنْ النَّارِ قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنْ الْجَنَّةِ فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا" قَالَ قَتَادَةُ وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ "وَأَمَّا الْمُنَافِقُ وَالْكَافِرُ فَيُقَالُ لَهُ:

ص: 232

مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ فَيَقُولُ لَا أَدْرِي كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فَيُقَالُ لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ وَيُضْرَبُ بِمَطَارِقَ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ"

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا جَاءَ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ) لَمْ يَتَعَرَّضِ الْمُصَنِّفُ فِي التَّرْجَمَةِ لِكَوْنِ عَذَابِ الْقَبْرِ يَقَعُ عَلَى الرُّوحِ فَقَطْ، أَوْ عَلَيْهَا وَعَلَى الْجَسَدِ، وَفِيهِ خِلَافٌ شَهِيرٌ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَكَأَنَّهُ تَرَكَهُ؛ لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ الَّتِي يَرْضَاهَا لَيْسَتْ قَاطِعَةً فِي أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، فَلَمْ يَتَقَلَّدِ الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ وَاكْتَفَى بِإِثْبَاتِ وُجُودِهِ، خِلَافًا لِمَنْ نَفَاهُ مُطْلَقًا مِنَ الْخَوَارِجِ وَبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ كَضِرَارِ بْنِ عَمْرٍو، وَبِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُمَا، وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ وَجَمِيعُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَكْثَرُوا مِنَ الِاحْتِجَاجِ لَهُ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ كَالْجَيَّانِيِّ إِلَى أَنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْكُفَّارِ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبَعْضُ الْأَحَادِيثِ الْآتِيَةِ تَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلِهِ تَعَالَى) بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى عَذَابِ الْقَبْرِ، أَيْ: مَا وَرَدَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ. وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ قَدَّمَ ذِكْرَ هَذِهِ الْآيَاتِ؛ لِيُنَبِّهَ عَلَى ثُبُوتِ ذِكْرِهِ فِي الْقُرْآنِ، خِلَافًا لِمَنْ رَدَّهُ وَزَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ ذِكْرُهُ إِلَّا مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ. فَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي فِي الْأَنْعَامِ، فَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} قَالَ: هَذَا عِنْدَ الْمَوْتِ، وَالْبَسْطُ: الضَّرْبُ؛ {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} انْتَهَى. وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقِتَالِ: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} وَهَذَا وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدَّفْنِ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْعَذَابِ الْوَاقِعِ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّمَا أُضِيفَ الْعَذَابُ إِلَى الْقَبْرِ؛ لِكَوْنِ مُعْظَمِهِ يَقَعُ فِيهِ، وَلِكَوْنِ الْغَالِبِ عَلَى الْمَوْتَى أَنْ يُقْبَرُوا، وَإِلَّا فَالْكَافِرُ وَمَنْ شَاءَ اللَّهُ تَعْذِيبَهُ مِنَ الْعُصَاةِ يُعَذَّبُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَوْ لَمْ يُدْفَنْ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ مَحْجُوبٌ عَنِ الْخَلْقِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} وَرَوَى الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ: اخْرُجْ يَا فُلَانُ؛ فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: فَفَضَحَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ. فَهَذَا الْعَذَابُ الْأَوَّلُ، وَالْعَذَابُ الثَّانِي عَذَابُ الْقَبْرِ. وَرَوَيَا أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ نَحْوُهُ، وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الْحَسَنِ:{سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} عَذَابُ الدُّنْيَا وَعَذَابُ الْقَبْرِ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: بَلَغَنِي فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ اخْتِلَافًا عَنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ: وَالْأَغْلَبُ أَنَّ إِحْدَى الْمَرَّتَيْنِ عَذَابُ الْقَبْرِ، وَالْأُخْرَى تَحْتَمِلُ أَحَدَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْجُوعِ أَوِ السَّبْيِ أَوِ الْقَتْلِ أَوِ الْإِذْلَالِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ} الْآيَةَ) رَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي قَيْسٍ عَنْ هُزَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ قَالَ: أَرْوَاحُ آلِ فِرْعَوْنَ فِي طُيُورٍ سُودٍ تَغْدُو وَتَرُوحُ عَلَى النَّارِ، فَذَلِكَ عَرْضُهَا. وَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ لَيْثٍ، عَنْ أَبِي قَيْسٍ فَذَكَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فِيهِ، وَلَيْثٌ ضَعِيفٌ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ بَابَيْنِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بَيَانُ أَنَّ هَذَا الْعَرْضَ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْعَرْضَ يَكُونُ فِي الْبَرْزَخِ، وَهُوَ حُجَّةٌ فِي تَثْبِيتِ عَذَابِ الْقَبْرِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: وَقَعَ ذِكْرُ عَذَابِ الدَّارَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُفَسَّرًا مُبَيَّنًا، لَكِنَّهُ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ عَذَابَ الْقَبْرِ مُطْلَقًا لَا عَلَى مَنْ خَصَّهُ بِالْكُفَّارِ. وَاسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى أَنَّ الْأَرْوَاحَ بَاقِيَةٌ بَعْدَ فِرَاقِ الْأَجْسَادِ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ كَمَا سَيَأْتِي. وَاحْتُجَّ بِالْآيَةِ الْأُولَى عَلَى أَنَّ النَّفْسَ وَالرُّوحَ شَيْءٌ وَاحِدٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} وَالْمُرَادُ الْأَرْوَاحُ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مَشْهُورَةٌ فِيهَا أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ، وَسَتَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا فِي التَّفْسِيرِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} الْآيَةَ.

ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ سِتَّةَ أَحَادِيثَ:

أَوَّلُهَا: حَدِيثُ

ص: 233

الْبَرَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} وَقَدْ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّفْسِيرِ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ شُعْبَةَ، وَصَرَّحَ فِيهِ بِالْإِخْبَارِ بَيْنَ شُعْبَةَ، وَعَلْقَمَةَ، وَبِالسَّمَاعِ بَيْنَ عَلْقَمَةَ، وَسَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ.

قَوْلُهُ: (إِذَا أُقْعِدَ الْمُؤْمِنُ فِي قَبْرِهِ أُتِيَ ثُمَّ شَهِدَ) فِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي: ثُمَّ يَشْهَدُ هَكَذَا سَاقَهُ الْمُصَنِّفُ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنْ أَبِي خَلِيفَةَ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ بِلَفْظٍ أَبَيْنَ مِنْ لَفْظِهِ قَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَعَرَفَ مُحَمَّدًا فِي قَبْرِهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ إِلَخْ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَغَيْرِهِ بِلَفْظِ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ عَذَابَ الْقَبْرِ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَعَرَفَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ: (بِهَذَا وَزَادَ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} نَزَلَتْ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ) يُوهِمُ أَنَّ لَفْظَ غُنْدَرٍ كَلَفْظِ حَفْصٍ وَزِيَادَةٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ بِالْمَعْنَى، فَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، وَالْقَدْرُ الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ أَوَّلُ الْحَدِيثِ، وَبَقِيَّتُهُ عِنْدَهُمْ: يُقَالُ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّي اللَّهُ وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ. وَالْقَدْرُ الْمَذْكُورُ أَيْضًا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ خَيْثَمَةَ، عَنِ الْبَرَاءِ، وَقَدِ اخْتَصَرَ سَعْدٌ، وَخَيْثَمَةُ هَذَا الْحَدِيثَ جِدًّا، لَكِنْ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ خَيْثَمَةَ، فَزَادَ فِيهِ: إِنْ كَانَ صَالِحًا وُفِّقَ، وَإِنْ كَانَ لَا خَيْرَ فِيهِ وُجِدَ أَبْلَهُ. وَفِيهِ اخْتِصَارٌ أَيْضًا، وَقَدْ رَوَاهُ زَاذَانُ أَبُو عُمَرَ، عَنِ الْبَرَاءِ مُطَوَّلًا مُبَيَّنًا، أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ أَبُو عَوَانَةَ وَغَيْرُهُ، وَفِيهِ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي أَوَّلِهِ: اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. وَفِيهِ: فَتُرَدُّ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ وَفِيهِ: فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ. فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: دِينِي الْإِسْلَامُ. فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ. فَيَقُولَانِ لَهُ: وَمَا يُدْرِيكَ؟ فَيَقُولُ: قَرَأْتُ الْقُرْآنَ، كِتَابَ اللَّهِ، فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} . وَفِيهِ: وَإنَّ الْكَافِرَ تُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ، لَا أَدْرِي. الْحَدِيثَ.

وَسَيَأْتِي نَحْوُ هَذَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ سَادِسِ أَحَادِيثِ الْبَابِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَيْسَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ عَذَابِ الْقَبْرِ، فَلَعَلَّهُ سَمَّى أَحْوَالَ الْعَبْدِ فِي قَبْرِهِ عَذَابَ الْقَبْرِ تَغْلِيبًا لِفِتْنَةِ الْكَافِرِ عَلَى فِتْنَةِ الْمُؤْمِنِ لِأَجْلِ التَّخْوِيفِ، وَلِأَنَّ الْقَبْرَ مَقَامُ الْهَوْلِ وَالْوَحْشَةِ، وَلِأَنَّ مُلَاقَاةَ الْمَلَائِكَةِ مِمَّا يَهَابُ مِنْهُ ابْنُ آدَمَ فِي الْعَادَةِ.

ثَانِيهَا: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ، وَفِيهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ. أَوْرَدَهُ هُنَا مُخْتَصَرًا، وَسَيَأْتِي مُطَوَّلًا فِي الْمَغَازِي. وَصَالِحٌ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ هُوَ ابْنُ كَيْسَانَ.

ثَالِثُهَا: حَدِيثُ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ الْآنَ مَا أَنْ كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ حَقٌّ. وَهَذَا مَصِيرٌ مِنْ عَائِشَةٍ إِلَى رَدِّ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورَةِ، وَقَدْ خَالَفَهَا الْجُمْهُورُ فِي ذَلِكَ، وَقَبِلُوا حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ؛ لِمُوَافَقَةِ مَنْ رَوَاهُ غَيْرُهُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} فَقَالُوا: مَعْنَاهَا لَا تُسْمِعُهُمْ سَمَاعًا يَنْفَعُهُمْ، أَوْ لَا تُسْمِعُهُمْ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: عَائِشَةُ لَمْ تَحْضُرْ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَغَيْرُهَا مِمَّنْ حَضَرَ أَحْفَظُ لِلَفْظِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ قَالُوا لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُخَاطِبُ قَوْمًا قَدْ جَيَّفُوا؟ فَقَالَ: مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ. قَالَ: وَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونُوا فِي تِلْكَ الْحَالِ عَالِمِينَ جَازَ أَنْ يَكُونُوا سَامِعِينَ، إِمَّا بِآذَانِ رُءُوسِهِمْ كَمَا هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، أَوْ بِآذَانِ الرُّوحِ عَلَى رَأْيِ مَنْ يُوَجِّهُ السُّؤَالَ إِلَى الرُّوحِ مِنْ غَيْرِ رُجُوعٍ إِلَى الْجَسَدِ. قَالَ: وَأَمَّا الْآيَةُ، فَإِنَّهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ} أَيْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يُسْمِعُ وَيَهْدِي. انْتَهَى.

وَقَوْلُهُ: (إِنَّهَا لَمْ تَحْضُرْ) صَحِيحٌ، لَكِنْ لَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي رِوَايَتِهَا لِأَنَّهُ مُرْسَلُ صَحَابِيٍّ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهَا سَمِعَتْ

ص: 234

ذَلِكَ مِمَّنْ حَضَرَهُ أَوْ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدُ، وَلوْ كَانَ ذَلِكَ قَادِحًا فِي رِوَايَتِهَا لَقَدَحَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَحْضُرْ أَيْضًا، وَلَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ اللَّفْظَيْنِ مَعًا؛ فَإِنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَالْآيَةِ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَى لَا يَسْمَعُونَ بِلَا شَكٍّ، لَكِنْ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ إِسْمَاعَ مَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ السَّمَاعُ لَمْ يَمْتَنِعْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ} الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ:{فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} الْآيَةَ. وَسَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي قَوْلُ قَتَادَةَ: إِنَّ اللَّهَ أَحْيَاهُمْ حَتَّى سَمِعُوا كَلَامَ نَبِيِّهِ تَوْبِيخًا وَنِقْمَةً. انْتَهَى.

وَقَدْ أَخَذَ ابْنُ جَرِيرٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْكَرَّامِيَّةِ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ السُّؤَالَ فِي الْقَبْرِ يَقَعُ عَلَى الْبَدَنِ فَقَطْ، وَأَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ فِيهِ إِدْرَاكًا بِحَيْثُ يَسْمَعُ وَيَعْلَمُ وَيَلَذُّ وَيَأْلَمُ. وَذَهَبَ ابْنُ حَزْمٍ، وَابْنُ هُبَيْرَةَ إِلَى أَنَّ السُّؤَالَ يَقَعُ عَلَى الرُّوحِ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ عَوْدٍ إِلَى الْجَسَدِ، وَخَالَفَهُمُ الْجُمْهُورُ، فَقَالُوا: تُعَادُ الرُّوحُ إِلَى الْجَسَدِ أَوْ بَعْضِهِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ، وَلَوْ كَانَ عَلَى الرُّوحِ فَقَطْ لَمْ يَكُنْ لِلْبَدَنِ بِذَلِكَ اخْتِصَاصٌ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ كَوْنُ الْمَيِّتِ قَدْ تَتَفَرَّقُ أَجْزَاؤُهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ أَنْ يُعِيدَ الْحَيَاةَ إِلَى جُزْءٍ مِنَ الْجَسَدِ، وَيَقَعُ عَلَيْهِ السُّؤَالُ، كَمَا هُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَجْمَعَ أَجْزَاءَهُ. وَالْحَامِلُ لِلْقَائِلِينَ بِأَنَّ السُّؤَالَ يَقَعُ عَلَى الرُّوحِ فَقَطْ، أَنَّ الْمَيِّتَ قَدْ يُشَاهَدُ فِي قَبْرِهِ حَالَ الْمَسْأَلَةِ لَا أَثَرَ فِيهِ مِنَ إِقْعَادٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَلَا ضِيقٍ فِي قَبْرِهِ وَلَا سَعَةٍ، وَكَذَلِكَ غَيْرُ الْمَقْبُورِ كَالْمَصْلُوبِ. وَجَوَابُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ فِي الْقُدْرَةِ، بَلْ لَهُ نَظِيرٌ فِي الْعَادَةِ وَهُوَ النَّائِمُ؛ فَإِنَّهُ يَجِدُ لَذَّةً وَأَلَمًا لَا يُدْرِكُهُ جَلِيسُهُ، بَلِ الْيَقْظَانُ قَدْ يُدْرِكُ أَلَمًا أَوْ لَذَّةً لِمَا يَسْمَعُهُ أَوْ يُفَكِّرُ فِيهِ وَلَا يُدْرِكُ ذَلِكَ جَلِيسُهُ، وَإِنَّمَا أَتَى الْغَلَطُ مِنْ قِيَاسِ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ، وَأَحْوَالِ مَا بَعْدِ الْمَوْتِ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَرَفَ أَبْصَارَ الْعِبَادِ وَأَسْمَاعَهُمْ عَنْ مُشَاهَدَةِ ذَلِكَ، وَسَتَرَهُ عَنْهُمُ إِبْقَاءً عَلَيْهِمْ؛ لِئَلَّا يَتَدَافَنُوا، وَلَيْسَتْ لِلْجَوَارِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ قُدْرَةٌ عَلَى إِدْرَاكِ أُمُورِ الْمَلَكُوتِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ.

وَقَدْ ثَبَتَتِ الْأَحَادِيثُ بِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ كَقَوْلِهِ: إِنَّهُ لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ. وَقَوْلِهِ: تَخْتَلِفُ أَضْلَاعُهُ لِضَمَّةِ الْقَبْرِ. وَقَوْلِهِ: يَسْمَعُ صَوْتَهُ إِذَا ضَرَبَهُ بِالْمِطْرَاقِ. وَقَوْلِهِ: يُضْرَبُ بَيْنَ أُذُنَيْهِ. وَقَوْلِهِ: فَيُقْعِدَانِهِ. وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَادِ. وَذَهَبَ أَبُو الْهُذَيْلِ وَمَنْ تَبِعَهُ إِلَى أَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَشْعُرُ بِالتَّعْذِيبِ وَلَا بِغَيْرِهِ إِلَّا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ، قَالُوا: وَحَالُهُ كَحَالِ النَّائِمِ وَالْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ لَا يُحِسُّ بِالضَّرْبِ وَلَا بِغَيْرِهِ إِلَّا بَعْدَ الْإِفَاقَةِ، وَالْأَحَادِيثُ الثَّابِتَةُ فِي السُّؤَالِ حَالَةَ تَوَلِّي أَصْحَابِ الْمَيِّتِ عَنْهُ تَرُدُّ عَلَيْهِمْ.

(تَنْبِيهٌ): وَجْهُ إِدْخَالِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَمَا عَارَضَهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي تَرْجَمَةِ عَذَابِ الْقَبْرِ، أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ مِنْ سَمَاعِ أَهْلِ الْقَلِيبِ وَتَوْبِيخِهِ لَهُمْ دَلَّ إِدْرَاكُهُمُ الْكَلَامَ بِحَاسَّةِ السَّمْعِ عَلَى جَوَازِ إِدْرَاكِهِمْ أَلَمَ الْعَذَابِ بِبَقِيَّةِ الْحَوَاسِّ بَلْ بِالذَّاتِ، إِذِ الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ بَقِيَّةِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ إِلَى طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْجَمْعِ بَيْنَ حَدِيثَيِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ بِحَمْلِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَلَى أَنَّ مُخَاطَبَةَ أَهْلِ الْقَلِيبِ وَقَعَتْ وَقْتَ الْمَسْأَلَةِ، وَحِينَئِذٍ كَانَتِ الرُّوحُ قَدْ أُعِيدَتْ إِلَى الْجَسَدِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْأُخْرَى أَنَّ الْكَافِرَ الْمَسْئُولَ يُعَذَّبُ، وَأَمَّا إِنْكَارُ عَائِشَةَ فَمَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ وَقْتِ الْمَسْأَلَةِ، فَيَتَّفِقُ الْخَبَرَانِ. وَيَظْهَرُ مِنْ هَذَا التَّقْرِيرِ وَجْهُ إِدْخَالِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

رَابِعُ أَحَادِيثِ الْبَابِ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الْيَهُودِيَّةِ:

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ الْأَشْعَثَ) هُوَ ابْنُ أَبِي الشَّعْثَاءِ سَلِيمُ بْنُ الْأَسْوَدِ الْمُحَارِبِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِيهِ) فِي رِوَايِةِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَشْعَثَ: سَمِعْتُ أَبِي.

قَوْلُهُ: (أَنَّ يَهُودِيَّةً دَخَلَتْ عَلَيْهَا، فَذَكَرَتْ عَذَابَ الْقَبْرِ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الدَّعَوَاتِ: دَخَلَتْ عَجُوزَانِ مِنْ عُجُزِ يَهُودِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَتَا: إِنَّ أَهْلَ الْقُبُورِ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ. وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ إِحْدَاهُمَا تَكَلَّمَتْ وَأَقَرَّتْهَا الْأُخْرَى عَلَى ذَلِكَ فَنَسَبَتِ الْقَوْلَ إِلَيْهِمَا مَجَازًا، وَالْإِفْرَادُ يُحْمَلُ عَلَى الْمُتَكَلِّمَةِ. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا. وَزَادَ فِي رِوَايَةِ أَبِي وَائِلٍ: فَكَذَبْتُهُمَا وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنَ الْيَهُودِ وَهِيَ

ص: 235

تَقُولُ: هَلْ شَعَرْتِ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ؟ قَالَتْ: فَارْتَاعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: إِنَّمَا يُفْتَنُ يَهُودُ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَلَبِثْنَا لَيَالِيَ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَلْ شَعَرْتِ أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ؟ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَعِيذُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. وَبَيْنَ هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ مُخَالَفَةٌ؛ لِأَنَّ فِي هَذِهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَنْكَرَ عَلَى الْيَهُودِيَّةِ، وَفِي الْأُولَى أَنَّهُ أَقَرَّهَا.

قَالَ النَّوَوِيُّ تَبَعًا لِلطَّحَاوِيِّ وَغَيْرِهِ: هُمَا قِصَّتَانِ، فَأَنْكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَوْلَ الْيَهُودِيَّةِ فِي الْقِصَّةِ الْأُولَى، ثُمَّ أُعْلِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ وَلَمْ يُعْلِمْ عَائِشَةَ، فَجَاءَتِ الْيَهُودِيَّةُ مَرَّةً أُخْرَى فَذَكَرَتْ لَهَا ذَلِكَ، فَأَنْكَرَتْ عَلَيْهَا مُسْتَنِدَةً إِلَى الْإِنْكَارِ الْأَوَّلِ، فَأَعْلَمَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ الْوَحْيَ نَزَلَ بِإِثْبَاتِهِ. انْتَهَى. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَعَوَّذُ سِرًّا، فَلَمَّا رَأَى اسْتِغْرَابَ عَائِشَةَ حِينَ سَمِعَتْ ذَلِكَ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ أَعْلَنَ بِهِ. انْتَهَى.

وَكَأَنَّهُ لَمْ يَقِفْ عَلَى رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ التَّعَوُّذِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ فِي الْكُسُوفِ مِنْ طَرِيقِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ يَهُودِيَّةً جَاءَتْ تَسْأَلَهَا، فَقَالَتْ لَهَا: أَعَاذَكِ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَتُعَذَّبُ النَّاسُ فِي قُبُورِهِمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: عَائِذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ. ثُمَّ رَكِبَ ذَاتَ غَدَاةٍ مَرْكَبًا فَخَسَفَتِ الشَّمْسُ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِي آخِرِهِ: ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَعَوَّذُوا مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. وَفِي هَذَا مُوَافَقَةٌ لِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ عَلِمَ بِذَلِكَ. وَأَصْرَحُ مِنْهُ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ الْأُمَوِيِّ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ يَهُودِيَّةً كَانَتْ تَخْدُمُهَا، فَلَا تَصْنَعُ عَائِشَةُ إِلَيْهَا شَيْئًا مِنَ الْمَعْرُوفِ إِلَّا قَالَتْ لَهَا الْيَهُودِيَّةُ: وَقَاكِ اللَّهُ عَذَابَ الْقَبْرِ. قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ لِلْقَبْرِ عَذَابٌ؟ قَالَ: كَذَبَتْ يَهُودُ، لَا عَذَابَ دُونَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. ثُمَّ مَكَثَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ، فَخَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ نِصْفَ النَّهَارِ وَهُوَ يُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ، اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ؛ فَإِنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ حَقٌّ. وَفِي هَذَا كُلُّهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا عَلِمَ بِحُكْمِ عَذَابِ الْقَبْرِ إِذْ هُوَ بِالْمَدِينَةِ فِي آخِرِ الْأَمْرِ، كَمَا تَقَدَّمَ تَارِيخُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ فِي مَوْضِعِهِ.

وَقَدِ اسْتُشْكِلَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ مَكِّيَّةٌ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} وَكَذَلِكَ الْآيَةُ الْأُخْرَى الْمُتَقَدِّمَةُ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} وَالْجَوَابُ أَنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ إِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنَ الْأُولَى بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِالْإِيمَانِ، وَكَذَلِكَ بِالْمَنْطُوقِ فِي الْأُخْرَى فِي حَقِّ آلِ فِرْعَوْنَ، وَإِنِ الْتَحَقَ بِهِمْ مَنْ كَانَ لَهُ حُكْمُهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، فَالَّذِي أَنْكَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا هُوَ وُقُوعُ عَذَابِ الْقَبْرِ عَلَى الْمُوَحِّدِينَ، ثُمَّ أُعْلِمَ صلى الله عليه وسلم أَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَقَعُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ اللَّهُ مِنْهُمْ، فَجَزَمَ بِهِ، وَحَذَّرَ مِنْهُ، وَبَالَغَ فِي الِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ تَعْلِيمًا لِأُمَّتِهِ وَإِرْشَادًا، فَانْتَفَى التَّعَارُضُ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ لَيْسَ بِخَاصٍّ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ، فَفِيهَا اخْتِلَافٌ سَيَأْتِي ذِكْرُهُ آخِرَ الْبَابِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ: نَعَمْ عَذَابُ الْقَبْرِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، زَادَ فِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي: حَقٌّ وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ قَالَ عَقِبَ هَذِهِ الطَّرِيقِ: زَادَ غُنْدَرٌ: عَذَابُ الْقَبْرِ حَقٌّ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ لَفْظَ: حَقٌّ لَيْسَتْ فِي رِوَايَةِ عَبْدَانَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ شُعْبَةَ، وَأَنَّهَا ثَابِتَةٌ فِي رِوَايَةِ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ وَهُوَ كَذَلِكَ. وَقَدْ أَخْرَجَ طَرِيقَ غُنْدَرٍ، النَّسَائِيُّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ كَذَلِكَ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ شُعْبَةَ.

(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ قَوْلُهُ: زَادَ غُنْدَرٌ إِلَخْ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَحْدَهُ، وَوَقَعَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ عَقِبَ حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ غَلَطٌ.

خَامِسُهَا: حَدِيثُ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا جِدًّا بِلَفْظِ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا، فَذَكَرَ فِتْنَةَ الْقَبْرِ الَّتِي يُفْتَتَنُ فِيهَا الْمَرْءُ، فَلَمَّا ذَكَرَ ذَلِكَ ضَجَّ الْمُسْلِمُونَ ضَجَّةً، وَهُوَ مُخْتَصَرٌ، وَقَدْ سَاقَهُ النَّسَائِيُّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مِنْهُ الْبُخَارِيُّ، فَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ ضَجَّةً: حَالَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَنْ أَفْهَمَ آخِرَ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا سَكَتَ

ص: 236

ضَجِيجُهُمْ قُلْتُ لِرَجُلٍ قَرِيبٍ مِنِّي: أَيْ بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ، مَاذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي آخِرِ كَلَامِهِ؟ قَالَ: قَالَ: قَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ قَرِيبًا مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ. انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ وَفِي الْكُسُوفِ مِنْ طَرِيقِ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ بِتَمَامِهِ، وَفِيهِ مِنَ الزِّيَادَةِ: يُؤْتَى أَحَدُكُمْ فَيُقَالُ لَهُ: مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ. الْحَدِيثَ، فَلَمْ يُبَيِّنْ فِيهِ مَا بَيَّنَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مِنْ تَفْهِيمِ الرَّجُلِ الْمَذْكُورِ لِأَسْمَاءَ فِيهِ. وَأَخْرَجَهُ فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ مِنْ طَرِيقِ فَاطِمَةَ أَيْضًا، وَفِيهِ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، لَغَطَ نِسْوَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَأَنَّهَا ذَهَبَتْ لِتُسْكِتَهُنَّ، فَاسْتَفْهَمَتْ عَائِشَةُ عَمَّا قَالَ. فَيُجْمَعُ بَيْنَ مُخْتَلِفِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهَا احْتَاجَتْ إِلَى الِاسْتِفْهَامِ مَرَّتَيْنِ، وَأَنَّهُ لَمَّا حَدَّثَتْ فَاطِمَةُ لَمْ تُبَيِّنْ لَهَا الِاسْتِفْهَامَ الثَّانِي. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ الرَّجُلِ الَّذِي اسْتَفْهَمَتْ مِنْهُ عَنْ ذَلِكَ إِلَى الْآنَ.

وَلِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ أَسْمَاءَ مَرْفُوعًا: إِذَا دَخَلَ الْإِنْسَانُ قَبْرَهُ فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا احْتَفَّ بِهِ عَمَلُهُ، فَيَأْتِيهِ الْمَلَكُ فَتَرُدُّهُ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ، فَيُنَادِيهِ الْمَلَكُ: اجْلِسْ، فَيَجْلِسْ، فَيَقُولُ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ؟ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: عَلَى ذَلِكَ عِشْتَ وَعَلَيْهِ مِتَّ وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ. الْحَدِيثَ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ فَوَائِدِ حَدِيثِ أَسْمَاءَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ هُنَا: زَادَ غُنْدَرٌ: عَذَابُ الْقَبْرِ وَهُوَ غَلَطٌ، لِأَنَّ هَذَا إِنَّمَا هُوَ فِي آخِرِ حَدِيثِ عَائِشَةَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَسْمَاءَ فَلَا رِوَايَةَ لِغُنْدَرٍ فِيهِ.

سَادِسُ أَحَادِيثِ الْبَابِ حَدِيثُ أَنَسٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فِي بَابِ خَفْقِ النِّعَالِ وَعَبْدُ الْأَعْلَى الْمَذْكُورُ فِيهِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى السَّامِيُّ - بِالْمُهْمَلَةِ - الْبَصْرِيُّ، وَسَعِيدٌ هُوَ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ) كَذَا وَقَعَ عِنْدَهُ مُخْتَصَرًا، وَأَوَّلُهُ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدٍ بِهَذَا السَّنَدِ: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ نَخْلًا لِبَنِي النَّجَّارِ، فَسَمِعَ صَوْتًا فَفَزِعَ فَقَالَ: مَنْ أَصْحَابُ هَذِهِ الْقُبُورِ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَاسٌ مَاتُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَقَالَ: تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ. قَالُوا: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ،؟ قَالَ: إِنَّ الْعَبْدَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَأَفَادَ بَيَانَ سَبَبِ الْحَديثِ.

قَوْلُهُ: (وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ) زَادَ مُسْلِمٌ: إِذَا انْصَرَفُوا. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: يَأْتِيهِ مَلَكَانِ. زَادَ ابْنُ حِبَّانَ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ، يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا: الْمُنْكَرُ، وَلِلْآخَرِ: النَّكِيرُ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ: يُقَالُ لَهُمَا: مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ. زَادَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَعْيُنُهُمَا مِثْلُ قُدُورِ النُّحَاسِ، وَأَنْيَابُهُمَا مِثْلُ صَيَاصِي الْبَقَرِ، وَأَصْوَاتُهُمَا مِثْلُ الرَّعْدِ. وَنَحْوُهُ لِعَبْدِ الرَّزَّاقِ مِنْ مُرْسَلِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَزَادَ: يَحْفِرَانِ بِأَنْيَابِهِمَا، وَيَطَآنِ فِي أَشْعَارِهِمَا، مَعَهُمَا مِرْزَبَّةٌ، لَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهَا أَهْلُ مِنًى لَمْ يُقِلُّوهَا. وَأَوْرَدَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ حَدِيثًا فِيهِ: إِنَّ فِيهِمْ رُومَانُ وَهُوَ كَبِيرٌ. وَذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ اسْمَ اللَّذَيْنِ يَسْأَلَانِ الْمُذْنِبَ: مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ، وَأَنَّ اسْمَ اللَّذَيْنِ يَسْأَلَانِ الْمُطِيعَ: مُبَشِّرٌ وَبَشِيرٌ.

قَوْلُهُ: (فَيُقْعِدَانِهِ) زَادَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ: فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ أَحَادِيثِ الْبَابِ، وَزَادَ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَإِذَا كَانَ مُؤْمِنًا كَانَتِ الصَّلَاةُ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَالزَّكَاةُ عَنْ يَمِينِهِ، وَالصَّوْمُ عَنْ شِمَالِهِ، وَفِعْلُ الْمَعْرُوفِ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ. فَيُقَالُ لَهُ: اجْلِسْ، فَيَجْلِسُ، وَقَدْ مَثَلَتْ لَهُ الشَّمْسُ عِنْدَ الْغُرُوبِ. زَادَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ: فَيَجْلِسُ فَيَمْسَحُ عَيْنَيْهِ وَيَقُولُ: دَعُونِي أُصَلِّي.

قَوْلُهُ: (فَيَقُولَانِ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ؟) زَادَ أَبُو دَاوُدَ فِي أَوَّلِهِ: مَا كُنْتَ تَعْبُدُ؟ فَإِنْ هَدَاهُ اللَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَعْبُدُ اللَّهَ. فَيُقَالُ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ. وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ فِيكُمْ؟ وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

ص: 237

فَيُقَالُ لَهُ: صَدَقْتَ. زَادَ أَبُو دَاوُدَ: فَلَا يُسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ غَيْرِهِمَا. وَفِي حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الْمُتَقَدِّمِ فِي الْعِلْمِ وَالطَّهَارَةِ وَغَيْرِهِمَا: فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ أَوِ الْمُوقِنُ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، فَأَجَبْنَا وَآمَنَّا وَاتَّبَعْنَا. فَيُقَالُ لَهُ: نَمْ صَالِحًا. وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ: فَيُقَالُ لَهُ: نَمْ نَوْمَةَ الْعَرُوسِ، فَيَكُونُ فِي أَحْلَى نَوْمَةٍ نَامَهَا أَحَدٌ حَتَّى يُبْعَثَ. وَلِلتِّرْمِذِيِّ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: وَيُقَالُ لَهُ: نَمْ، فَيَنَامُ نَوْمَةَ الْعَرُوسِ الَّذِي لَا يُوقِظُهُ إِلَّا أَحَبُّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ. وَلِابْنِ حِبَّانَ، وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ: وَيُقَالُ لَهُ: عَلَى الْيَقِينِ كُنْتَ، وَعَلَيْهِ مِتَّ، وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

قَوْلُهُ: (فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا بَيْتُكَ كَانَ فِي النَّارِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ عز وجل عَصَمَكَ وَرَحِمَكَ، فَأَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ. فَيَقُولُ: دَعُونِي حَتَّى أَذْهَبَ فَأُبَشِّرَ أَهْلِي، فَيُقَالُ لَهُ: اسْكُتْ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: كَانَ هَذَا مَنْزِلُكَ لَوْ كَفَرْتَ بِرَبِّكَ. وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ: فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ رَأَيْتَ اللَّهَ؟ فَيَقُولُ: مَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَرَى اللَّهَ، فَتُفْرَجَ لَهُ فُرْجَةٌ قِبَلَ النَّارِ، فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَا وَقَاكَ اللَّهُ. وَسَيَأْتِي فِي أَوَاخِرِ الرِّقَاقِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ الْجَنَّةَ إِلَّا أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، لَوْ أَسَاءَ؛ لِيَزْدَادَ شُكْرًا. وَذَكَرَ عَكْسَهُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ قَتَادَةُ: وَذَكَرَ لَنَا أَنَّهُ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ) زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ شَيْبَانَ، عَنْ قَتَادَةَ: سَبْعُونَ ذِرَاعًا، وَيُمْلَأُ خَضِرًا إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ مَوْصُولَةً مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عِنْدَ أَحْمَدَ: وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ. وَلِلتِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا. زَادَ ابْنُ حِبَّانَ: فِي سَبْعِينَ ذِرَاعًا. وَلَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: وَيُرْحَبُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا، وَيُنَوَّرُ لَهُ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ. وَفِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ الطَّوِيلِ: فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أَنْ صَدَقَ عَبْدِي فَأَفْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا فِي الْجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ. قَالَ: فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا، وَيُفْسَحُ لَهُ فِيهَا مَدَّ بَصَرِهِ. زَادَ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَيَزْدَادُ غِبْطَةً وَسُرُورًا، فَيُعَادُ الْجِلْدُ إِلَى مَا بَدَأَ مِنْهُ، وَتُجْعَلُ رُوحُهُ فِي نَسَمِ طَائِرٍ يُعَلَّقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ

(1)

،

قَوْلُهُ: (وَأَمَّا الْمُنَافِقُ وَالْكَافِرُ) كَذَا فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ بِوَاوِ الْعَطْفِ، وَتَقَدَّمَ فِي بَابِ خَفْقِ النِّعَالِ بِهَا وَأَمَّا الْكَافِرُ أَوِ الْمُنَافِقُ بِالشَّكِّ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: وَأَنَّ الْكَافِرَ إِذَا وُضِعَ. وَكَذَا لِابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ الطَّوِيلِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: وَإِنْ كَانَ كَافِرًا أَوْ مُنَافِقًا. بِالشَّكِّ، وَلَهُ فِي حَدِيثِ أَسْمَاءَ: فَإِنْ كَانَ فَاجِرًا أَوْ كَافِرًا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِهَا: وَأَمَّا الْمُنَافِقُ أَوِ الْمُرْتَابُ. وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ: وَأَمَّا الْمُنَافِقُ. وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ: وَأَمَّا الرَّجُلُ السُّوءُ. وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّكِّ. فَاخْتَلَفَتْ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ لَفْظًا، وَهِيَ مُجْتَمِعَةٌ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنَ الْكَافِرِ وَالْمُنَافِقِ يُسْأَلُ، فَفِيهِ تَعَقُّبٌ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ السُّؤَالَ إِنَّمَا يَقَعُ عَلَى مَنْ يَدَّعِي الْإِيمَانَ إِنْ مُحِقًّا وَإِنْ مُبْطِلًا، وَمُسْتَنَدُهُمْ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ

(1)

خرج الإمام أحمد عن كعب بن مالك أن النبيصلى الله عليه وسلم قال "نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه" قال الحافظ ابن كثير في اسناد هذا الحديث: إنه إسناد صحيح عزيز عظيم. قال: ومعنى "يعلق" أي يأكل. وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود مرفوعا "أرواح الشهداء في جوف طير العهد في خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل" الحديث. والله أعلم

ص: 238

عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أَحَدِ كِبَارِ التَّابِعِينَ، قَالَ: إِنَّمَا يُفْتَنُ رَجُلَانِ: مُؤْمِنٌ وَمُنَافِقٌ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَلَا يُسْأَلُ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَلَا يَعْرِفُهُ. وَهَذَا مَوْقُوفٌ.

وَالْأَحَادِيثُ النَّاصَّةُ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ يُسْأَلُ مَرْفُوعَةٌ مَعَ كَثْرَةِ طُرُقِهَا الصَّحِيحَةِ فَهِيَ أَوْلَى بِالْقَبُولِ، وَجَزَمَ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ بِأَنَّ الْكَافِرَ يُسْأَلُ، وَاخْتُلِفَ فِي الطِّفْلِ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ، فَجَزَمَ الْقُرْطُبِيُّ فِي التَّذْكِرَةِ بِأَنَّهُ يُسْأَلُ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَجَزَمَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّهُ لَا يُسْأَلُ، وَمِنْ ثَمَّ قَالُوا: لَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُلَقَّنَ. وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِي النَّبِيِّ: هَلْ يُسْأَلُ، وَأَمَّا الْمَلَكُ فَلَا أَعْرِفُ أَحَدًا ذَكَرَهُ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يُسْأَلُ؛ لِأَنَّ السُّؤَالَ يَخْتَصُّ بِمَنْ شَأْنُهُ أَنْ يُفْتَنَ، وَقَدْ مَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إِلَى الْأَوَّلِ، وَقَالَ: الْآثَارُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفِتْنَةَ لِمَنْ كَانَ مَنْسُوبًا إِلَى أَهْلِ الْقِبْلَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ الْجَاحِدُ فَلَا يُسْأَلُ عَنْ دِينِهِ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِ الرُّوحِ وَقَالَ: فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السُّؤَالَ لِلْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ فِي الْبُخَارِيِّ: وَأَمَّا الْمُنَافِقُ وَالْكَافِرُ. بِوَاوِ الْعَطْفِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا - فَذَكَرَهُ وَفِيهِ - وَإِنْ كَانَ كَافِرًا. وَفِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ: وَأَنَّ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا - فَذَكَرَهُ وَفِيهِ - فَيَأْتِيهِ مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ، الْحَدِيثَ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ هَكَذَا. قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي عُمَرَ: فَأَمَّا الْكَافِرُ الْجَاحِدُ، فَلَيْسَ مِمَّنْ يُسْأَلُ عَنْ دِينِهِ، فَجَوَابُهُ أَنَّهُ نَفْيٌ بِلَا دَلِيلٍ.

بَلْ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ يُسْأَلُ عَنْ دِينِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} لَكِنْ لِلنَّافِي أَنْ يَقُولَ إِنَّ هَذَا السُّؤَالَ يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

قَوْلُهُ: (فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي) فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الْمَذْكُورَةِ: وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ أَتَاهُ مَلَكٌ فَيَنْتَهِرُهُ فَيَقُولُ لَهُ: مَا كُنْتَ تَعْبُدُ؟. وَفِي أَكْثَرِ الْأَحَادِيثِ: فَيَقُولَانِ لَهُ مَا كُنْتَ تَقُولَ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ وَفِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ: فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ، لَا أَدْرِي. فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ، لَا أَدْرِي. فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ، لَا أَدْرِي. وَهُوَ أَتَمُّ الْأَحَادِيثِ سِيَاقًا.

قَوْلُهُ: (كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ) فِي حَدِيثِ أَسْمَاءَ: سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ. وَكَذَا فِي أَكْثَرِ الْأَحَادِيثِ.

قَوْلُهُ: (لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ) كَذَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ بِمُثَنَّاةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَهَا لَامٌ مَفْتُوحَةٌ وَتَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ، قَالَ ثَعْلَبٌ: قَوْلُهُ: تَلَيْتَ أَصْلُهُ تَلَوْتَ، أَيْ: لَا فَهِمْتَ وَلَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ، وَالْمَعْنَى لَا دَرَيْتَ، وَلَا اتَّبَعْتَ مَنْ يَدْرِي، وَإِنَّمَا قَالَهُ بِالْيَاءِ لِمُؤَاخَاةِ دَرَيْتَ. وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: قَوْلُهُ تَلَيْتَ إِتْبَاعٌ وَلَا مَعْنَى لَهَا، وَقِيلَ: صَوَابُهُ وَلَا ائْتَلَيْتَ بِزِيَادَةِ هَمْزَتَيْنِ قَبْلَ الْمُثَنَّاةِ بِوَزْنِ افْتَعَلْتَ، مِنْ قَوْلِهِمْ: مَا أَلَوْتَ، أَيْ: مَا اسْتَطَعْتَ، حُكِيَ ذَلِكَ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ، وَبِهِ جَزَمَ الْخَطَّابِيُّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ: قَصَّرْتَ، كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: لَا دَرَيْتَ وَلَا قَصَّرْتَ فِي طَلَبِ الدِّرَايَةِ، ثُمَّ أَنْتَ لَا تَدْرِي. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْأُلُوُّ يَكُونُ بِمَعْنَى الْجَهْدِ، وَبِمَعْنَى التَّقْصِيرِ، وَبِمَعْنَى الِاسْتِطَاعَةِ. وَحَكَى ابْنُ قُتَيْبَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ حَبِيبٍ، أَنَّ صَوَابَ الرِّوَايَةِ: لَا دَرَيْتَ وَلَا أَتْلَيْتَ. بِزِيَادَةِ أَلِفٍ وَتَسْكِينِ الْمُثَنَّاةِ، كَأَنَّهُ يَدْعُو عَلَيْهِ بِأَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مَنْ يَتَّبِعُهُ، وَهُوَ مِنَ الْإِتِلَاءِ، يُقَالُ: مَا أَتِلَتْ إِبِلُهُ، أَيْ: لَمْ تَلِدْ أَوْلَادًا يَتْبَعُونَهَا. وَقَالَ: قَوْلُ الْأَصْمَعِيِّ أَشْبَهُ بِالْمَعْنَى، أَيْ: لَا دَرَيْتَ وَلَا اسْتَطَعْتَ أَنْ تَدْرِيَ. وَوَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: لَا دَرَيْتَ وَلَا اهْتَدَيْتَ. وَفِي مُرْسَلِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: لَا دَرَيْتَ وَلَا أَفْلَحْتَ.

قَوْلُهُ: (بِمَطَارِقَ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً) تَقَدَّمَ فِي بَابِ خَفْقِ النِّعَالِ بِلَفْظِ بِمِطْرَقَةٍ عَلَى الْإِفْرَادِ، وَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ الْأَحَادِيثِ. قَالَ الْكَرْمَانِيِّ: الْجَمْعُ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ تِلْكَ الْمِطْرَقَةِ مِطْرَقَةٌ بِرَأْسِهَا مُبَالَغَةً، اهـ. وَفِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ: لَوْ ضُرِبَ بِهَا جَبَلٌ لَصَارَ

ص: 239

تُرَابًا. وَفِي حَدِيثِ أَسْمَاءَ: وَيُسَلَّطُ عَلَيْهِ دَابَّةٌ فِي قَبْرِهِ مَعَهَا سَوْطٌ ثَمَرَتُهُ جَمْرَةٌ مِثْلُ غَرْبِ الْبَعِيرِ تَضْرِبُهُ مَا شَاءَ اللَّهُ صَمَّاءَ لَا تَسْمَعْ صَوْتَهُ فَتَرْحَمَهُ. وَزَادَ فِي أَحَادِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَائِشَةَ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا: ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَنْزِلُكَ لَوْ آمَنْتَ بِرَبِّكَ، فَأَمَّا إِذْ كَفَرْتَ فَإِنَّ اللَّهَ أَبْدَلَكَ هَذَا، وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى النَّارِ. زَادَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَيَزْدَادُ حَسْرَةً وَثُبُورًا، وَيَضِيقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ أَضْلَاعُهُ، فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ: فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أَفْرِشُوهُ مِنَ النَّارِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ النَّارِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ، فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا.

قَوْلُهُ: (مَنْ يَلِيهِ) قَالَ الْمُهَلَّبُ: الْمُرَادُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يَلُونَ فِتْنَتَهُ، كَذَا قَالَ، وَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِهِ بِالْمَلَائِكَةِ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْبَهَائِمَ تَسْمَعُهُ. وَفِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ: يَسْمَعُهُ مَنْ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: يَسْمَعُهُ خَلْقُ اللَّهِ كُلُّهُمْ غَيْرُ الثَّقَلَيْنِ. وَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ الْحَيَوَانُ وَالْجَمَادُ، لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يَخُصَّ مِنْهُ الْجَمَادَ. وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْبَزَّارِ: يَسْمَعُهُ كُلُّ دَابَّةٍ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ. وَالْمُرَادُ بِالثَّقَلَيْنِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ، قِيلَ لَهُمْ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَالثِّقَلِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. قَالَ الْمُهَلَّبُ: الْحِكْمَةُ فِي أَنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ الْجِنَّ قَوْلَ الْمَيِّتِ: قَدِّمُونِي. وَلَا يُسْمِعُهُمْ صَوْتَهُ إِذَا عُذِّبَ بِأَنَّ كَلَامَهُ قَبْلَ الدَّفْنِ مُتَعَلِّقٌ بِأَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَصَوْتَهُ إِذَا عُذِّبَ فِي الْقَبْرِ مُتَعَلِّقٌ بِأَحْكَامِ الْآخِرَةِ، وَقَدْ أَخْفَى اللَّهُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ أَحْوَالَ الْآخِرَةِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ إِبْقَاءً عَلَيْهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ جَاءَ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ غَيْرُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ: مِنْهَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي أَيُّوبَ، وَسَعْدٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، وَأُمِّ خَالِدٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، وَعَنْ جَابِرٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، وَأَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ، وَعُمَرَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَنَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ، وَأَبِي بَكْرَةَ، وَأَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَأُمِّ مُبَشِّرٍ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَنْ غَيْرِهِمْ.

وَفِي أَحَادِيثِ الْبَابِ مِنَ الْفَوَائِدِ: إِثْبَاتُ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَنَّهُ وَاقِعٌ عَلَى الْكُفَّارِ وَمَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ. وَالْمَسْأَلَةُ: وَهَلْ هِيَ وَاقِعَةٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ؟ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ، وَهَلْ تَخْتَصُّ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ أَمْ وَقَعَتْ عَلَى الْأُمَمِ قَبْلَهَا؟ ظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ الْأَوَّلُ، وَبِهِ جَزَمَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: كَانَتِ الْأُمَمُ قَبْلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ تَأْتِيهِمُ الرُّسُلُ، فَإِنْ أَطَاعُوا فَذَاكَ، وَإِنْ أَبَوُا اعْتَزَلُوهُمْ وَعُوجِلُوا بِالْعَذَابِ، فَلَمَّا أَرْسَلَ اللَّهُ مُحَمَّدًا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ أَمْسَكَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ، وَقَبِلَ الْإِسْلَامَ مِمَّنْ أَظْهَرَهُ سَوَاءٌ أَسَرَّ الْكُفْرَ أَوْ لَا، فَلَمَّا مَاتُوا قَيَّضَ اللَّهُ لَهُمْ فَتَّانَيِ الْقَبْرِ؛ لِيَسْتَخْرِجَ سِرَّهُمْ بِالسُّؤَالِ، وَلِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، وَيُثَبِّتَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ. انْتَهَى. وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مَرْفُوعًا: إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا. الْحَدِيثَ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَمِثْلُهُ عِنْدَ أَحْمَدَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا قَوْلُ الْمَلَكَيْنِ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ. وَحَدِيثُ عَائِشَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ أَيْضًا بِلَفْظِ: وَأَمَّا فِتْنَةُ الْقَبْرِ فَبِي تُفْتَنُونَ، وَعَنِّي تُسْأَلُونَ.

وَجَنَحَ ابْنُ الْقَيِّمِ إِلَى الثَّانِي، وَقَالَ: لَيْسَ فِي الْأَحَادِيثِ مَا يَنْفِي الْمَسْأَلَةَ عَمَّنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأُمَمِ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُمَّتَهُ بِكَيْفِيَّةِ امْتِحَانِهِمْ فِي الْقُبُورِ، لَا أَنَّهُ نَفَى ذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِمْ، قَالَ: وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ مَعَ أُمَّتِهِ كَذَلِكَ، فَتُعَذَّبُ كُفَّارُهُمْ فِي قُبُورِهِمْ بَعْدَ سُؤَالِهِمْ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، كَمَا يُعَذَّبُونَ فِي الْآخِرَةِ بَعْدَ السُّؤَالِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ. وَحَكَى فِي مَسْأَلَةِ الْأَطْفَالِ احْتِمَالًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ فِي حَقِّ الْمُمَيِّزِ دُونَ غَيْرِهِ. وَفِيهِ ذَمُّ التَّقْلِيدِ فِي الِاعْتِقَادَاتِ لِمُعَاقَبَةِ مَنْ قَالَ: كُنْتُ أَسْمَعُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ، وَفِيهِ أَنَّ الْمَيِّتَ يَحْيَا فِي قَبْرِهِ لِلْمَسْأَلَةِ خِلَافًا لِمَنْ رَدَّهُ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} الْآيَةَ، قَالَ: فَلَوْ كَانَ يَحْيَا فِي قَبْرِهِ لَلَزِمَ أَنْ يَحْيَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَيَمُوتَ ثَلَاثًا، وَهُوَ خِلَافُ النَّصِّ، وَالْجَوَابُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَيَاةِ فِي الْقَبْرِ لِلْمَسْأَلَةِ لَيْسَتِ الْحَيَاةَ الْمُسْتَقِرَّةَ الْمَعْهُودَةَ فِي الدُّنْيَا الَّتِي تَقُومُ فِيهَا الرُّوحُ بِالْبَدَنِ وَتَدْبِيرِهِ، وَتَصَرُّفِهِ

ص: 240

وَتَحْتَاجُ إِلَى مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْأَحْيَاءُ، بَلْ هِيَ مُجَرَّدُ إِعَادَةٍ لِفَائِدَةِ الِامْتِحَانِ الَّذِي وَرَدَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، فَهِيَ إِعَادَةٌ عَارِضَةٌ، كَمَا حَيِيَ خَلْقٌ لِكَثِيرٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لِمَسْأَلَتِهِمْ لَهُمْ عَنْ أَشْيَاءَ ثُمَّ عَادُوا مَوْتَى. وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ جَوَازُ التَّحْدِيثِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِمَا وَافَقَ الْحَقَّ.

‌87 - بَاب التَّعَوُّذِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ

1375 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنِي عَوْنُ بْنُ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنهم قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ وَجَبَتِ الشَّمْسُ، فَسَمِعَ صَوْتًا، فَقَالَ: يَهُودُ تُعَذَّبُ فِي قُبُورِهَا. وَقَالَ النَّضْرُ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَوْنٌ، سَمِعْتُ أَبِي، سَمِعْتُ الْبَرَاءَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

1376 -

حَدَّثَنَا مُعَلًّى حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ قَالَ حَدَّثَتْنِي ابْنَةُ خَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ "أَنَّهَا سَمِعَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَتَعَوَّذُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْر"

[الحديث 1376 - طرفه في: 6364]

1377 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو وَيَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ"

قَوْلُهُ: (بَابُ التَّعَوُّذِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: أَحَادِيثُ هَذَا الْبَابِ تَدْخُلُ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَإِنَّمَا أَفْرَدَهَا عَنْهَا؛ لِأَنَّ الْبَابَ الْأَوَّلَ مَعْقُودٌ لِثُبُوتِهِ رَدًّا عَلَى مَنْ أَنْكَرَهُ. وَالثَّانِي لِبَيَانِ مَا يَنْبَغِي اعْتِمَادُهُ فِي مُدَّةِ الْحَيَاةِ مِنَ التَّوَسُّلِ إِلَى اللَّهِ بِالنَّجَاةِ مِنْهُ وَالِابْتِهَالِ إِلَيْهِ فِي الصَّرْفِ عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا يَحْيَى) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي أَيُّوبَ) هُوَ الْأَنْصَارِيُّ. وَفِي هَذَا الْإِسْنَادِ ثَلَاثَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي نَسَقٍ، أَوَّلُهُمْ أَبُو جُحَيْفَةَ.

قَوْلُهُ: (وَجَبَتِ الشَّمْسُ) أَيْ: سَقَطَتْ، وَالْمُرَادُ غُرُوبُهَا.

قَوْلُهُ: (فَسَمِعَ صَوْتًا) قِيلَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَ صَوْتَ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ، أَوْ صَوْتَ الْيَهُودِ الْمُعَذَّبِينَ، أَوْ صَوْتَ وَقْعِ الْعَذَابِ. قُلْتُ: وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ الْعَبَّاسِ، عَنْ عَوْنٍ بِهَذَا السَّنَدِ مُفَسَّرًا، وَلَفْظُهُ: خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَمَعِي كُوزٌ مِنْ مَاءٍ، فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ حَتَّى جَاءَ فَوَضَّأْتُهُ، فَقَالَ: أَتَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: أَسْمَعُ أَصْوَاتَ الْيَهُودِ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ.

قَوْلُهُ: (يَهُودُ تُعَذَّبُ فِي قُبُورِهَا) هُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ؛ أَيْ: هَذِهِ يَهُودُ، أَوْ هُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْيَهُودُ قَبِيلَةٌ، وَالْأَصْلُ الْيَهُودِيُّونَ، فَحُذِفَتْ يَاءُ الْإِضَافَةِ، مِثْلُ زَنْجٌ وَزَنْجِيٌّ، ثُمَّ عُرِفَ عَلَى هَذَا الْحَدُّ فَجُمِعَ عَلَى قِيَاسِ شَعِيرٍ وَشَعِيرَةٍ، ثُمَّ عُرِفَ الْجَمْعُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ دُخُولُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ؛ لِأَنَّهُ مَعْرِفَةُ مُؤَنَّثٍ، فَجَرَى مَجْرَى الْقَبِيلَةِ، وَهُوَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ: إِنَّمَا تُعَذَّبُ الْيَهُودُ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْيَهُودَ تُعَذَّبُ بِيَهُودِيَّتِهِمْ ثَبَتَ تَعْذِيبُ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ؛ لِأَنَّ كُفْرَهُمْ بِالشِّرْكِ أَشَدُّ مِنْ كُفْرِ الْيَهُودِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ النَّضْرُ

ص: 241

إِلَخْ) سَاقَ هَذِهِ الطَّرِيقَ لِتَصْرِيحِ عَوْنٍ فِيهَا بِسَمَاعِهِ لَهُ مِنْ أَبِيهِ، وَسَمَاعِ أَبِيهِ لَهُ مِنَ الْبَرَاءِ، وَقَدْ وَصَلَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنِ النَّضْرِ وَلَمْ يَسُقِ الْمَتْنَ، وَسَاقَهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ النَّضْرِ بِلَفْظِ: فَقَالَ: هَذِهِ يَهُودُ تُعَذَّبُ فِي قُبُورِهَا. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: لَمْ يَجْرِ لِلتَّعَوُّذِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ذِكْرٌ، فَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ: إِنَّهُ مِنْ بَقِيَّةِ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَإِنَّمَا أَدْخَلَهُ فِي هَذَا الْبَابِ بَعْضُ مَنْ نَسَخَ الْكِتَابِ وَلَمْ يُمَيِّزْ. قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُصَنِّفُ أَرَادَ أَنْ يُعْلِمَ بِأَنَّ حَدِيثَ أُمِّ خَالِدٍ ثَانِيَ أَحَادِيثِ هَذَا الْبَابِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ حِينَ سَمِعَ أَصْوَاتَ يَهُودَ، لِمَا عُلِمَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ كَانَ يَتَعَوَّذُ وَيَأْمُرُ بِالتَّعَوُّذِ مَعَ عَدَمِ سَمَاعِ الْعَذَابِ، فَكَيْفَ مَعَ سَمَاعِهِ. قَالَ: وَهَذَا جَارٍ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ عَادَةِ الْمُصَنِّفِ فِي الْأَغْمَاضِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْعَادَةُ قَاضِيَةٌ بِأَنَّ كُلَّ مَنْ سَمِعَ مِثْلَ ذَلِكَ الصَّوْتِ يَتَعَوَّذُ مِنْ مِثْلِهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُعَلَّى) هُوَ ابْنُ أَسَدٍ، وَبِنْتُ خَالِدٍ اسْمُهَا أَمَةُ وَتُكَنَّى أُمَّ خَالِدٍ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الدَّعَوَاتِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ سَمِعْتُ أُمَّ خَالِدِ بِنْتَ خَالِدٍ، وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا سَمِعَ مِنَ النَّبِيِّ غَيْرَهَا. فَذَكَرَهُ. وَوَقَعَ فِي الطَّبَرَانِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُوسَى بِلَفْظِ: اسْتَجِيرُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ؛ فَإِنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ حَقٌّ.

قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو) زَادَ الْكُشْمِيهَنِيُّ: وَيَقُولُ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي آخِرِ صِفَةِ الصَّلَاةِ قُبَيْلَ كِتَابِ الْجُمُعَةِ.

‌88 - بَاب عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْ الْغِيبَةِ وَالْبَوْلِ

1378 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُسٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ: إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، ثُمَّ قَالَ: بَلَى، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَسْعَى بِالنَّمِيمَةِ، وَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ، قَالَ: ثُمَّ أَخَذَ عُودًا رَطْبًا فَكَسَرَهُ بِاثْنَتَيْنِ، ثُمَّ غَرَزَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى قَبْرٍ، ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنَ الْغِيبَةِ وَالْبَوْلِ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: الْمُرَادُ بِتَخْصِيصِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ بِالذِّكْرِ تَعْظِيمُ أَمْرِهِمَا، لَا نَفْيُ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُمَا، فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُ مِنْ ذِكْرِهِمَا حَصْرُ عَذَابِ الْقَبْرِ فِيهِمَا، لَكِنِ الظَّاهِرُ مِنَ الِاقْتِصَارِ عَلَى ذِكْرِهِمَا أَنَّهُمَا أَمْكَنُ فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمَا، وَقَدْ رَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: اسْتَنْزِهُوا مِنَ الْبَوْلِ؛ فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ.

ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ الْقَبْرَيْنِ، وَلَيْسَ فِيهِ لِلْغِيبَةِ ذِكْرٌ، وَإِنَّمَا وَرَدَ بِلَفْظِ النَّمِيمَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي الطَّهَارَةِ. وَقِيلَ: مُرَادُ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْغِيبَةَ تُلَازِمُ النَّمِيمَةَ؛ لِأَنَّ النَّمِيمَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى ضَرْبَيْنِ: نَقْلُ كَلَامِ الْمُغْتَابِ إِلَى الَّذِي اغْتَابَهُ، وَالْحَدِيثُ عَنِ الْمَنْقُولِ عَنْهُ بِمَا لَا يُرِيدُهُ. قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْوَعِيدِ عَلَى النَّمِيمَةِ ثُبُوتُهُ عَلَى الْغِيبَةِ وَحْدَهَا؛ لِأَنَّ مَفْسَدَةَ النَّمِيمَةِ أَعْظَمُ، وَإِذَا لَمْ تُسَاوِهَا لَمْ يَصِحَّ الْإِلْحَاقُ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنَ التَّعْذِيبِ عَلَى الْأَشَدِّ التَّعْذِيبُ عَلَى الْأَخَفِّ، لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَرَدَ عَلَى مَعْنَى التَّوَقُّعِ وَالْحَذَرِ، فَيَكُونُ قَصَدَ التَّحْذِيرَ مِنَ الْمُغْتَابِ؛ لِئَلَّا يَكُونَ لَهُ فِي ذَلِكَ نَصِيبٌ. انْتَهَى. وَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ بِلَفْظِ الْغِيبَةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الطَّهَارَةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ جَرَى عَلَى عَادَتِهِ فِي الْإِشَارَةِ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 242

‌89 - بَاب الْمَيِّتِ يُعْرَضُ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ

1379 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ؛ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَيُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

[الحديث 1379 - طرفاه في: 3240، 6515]

قَوْلُهُ: (بَابُ الْمَيِّتِ يُعْرَضُ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ: إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ غَدَاةً وَاحِدَةً، وَعَشِيَّةً وَاحِدَةً يَكُونُ الْعَرْضُ فِيهَا. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ. أَيْ: لَا تَصِلُ إِلَيْهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ كُلَّ غَدَاةٍ وَكُلَّ عَشِيٍّ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ يَحْيَا مِنْهُ جُزْءٌ لِيُدْرِكَ ذَلِكَ، فَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ أَنْ تُعَادَ الْحَيَاةُ إِلَى جُزْءٍ مِنَ الْمَيِّتِ أَوْ أَجْزَاءٍ وَتَصِحُّ مُخَاطَبَتُهُ وَالْعَرْضُ عَلَيْهِ. انْتَهَى. وَالْأَوَّلُ مُوَافِقٌ لِلْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَبْلَ بَابَيْنِ فِي سِيَاقِ الْمُسَاءَلَةِ وَعَرْضُ الْمَقْعَدَيْنِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْعَرْضُ عَلَى الرُّوحِ فَقَطْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ مَعَ جُزْءٍ مِنَ الْبَدَنِ. قَالَ: وَالْمُرَادُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ وَقْتُهُمَا، وَإِلَّا فَالْمَوْتَى لَا صَبَاحَ عِنْدَهُمْ وَلَا مَسَاءَ. قَالَ: وَهَذَا فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَاضِحٌ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ الْمُخَلَّطُ فَمُحْتَمِلُ فِي حَقِّهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ فِي الْجُمْلَةِ، ثُمَّ هُوَ مَخْصُوصٌ بِغَيْرِ الشُّهَدَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ وَأَرْوَاحُهُمْ تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ فَائِدَةَ الْعَرْضِ فِي حَقِّهِمْ تَبْشِيرُ أَرْوَاحِهِمْ بِاسْتِقْرَارِهَا فِي الْجَنَّةِ مُقْتَرِنَةً بِأَجْسَادِهَا؛ فَإِنَّ فِيهِ قَدْرًا زَائِدًا عَلَى مَا هِيَ فِيهِ الْآنَ.

قَوْلُهُ: (إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ) اتَّحَدَ فِيهِ الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ لَفْظًا وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَقْدِيرٍ، قَالَ التُّورْبَشْتِيُّ: التَّقْدِيرُ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمَقْعَدُهُ مِنْ مَقَاعِدِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يُعْرَضُ عَلَيْهِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ إِذَا اتَّحِدَا لَفْظًا دَلَّ عَلَى الْفَخَامَةِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَرَى بَعْدَ الْبَعْثِ مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ مَا يُنْسِيهِ هَذَا الْمَقْعَدَ. انْتَهَى. وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ: إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَالْجَنَّةُ. أَيْ: فَالْمَعْرُوضُ الْجَنَّةُ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ إِثْبَاتُ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَنَّ الرُّوحَ لَا تَفْنَى بِفِنَاءِ الْجَسَدِ؛ لِأَنَّ الْعَرْضَ لَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى حَيٍّ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْأَرْوَاحَ عَلَى أَفْنِيَةِ الْقُبُورِ

(1)

، قَالَ: وَالْمَعْنَى عِنْدِي أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ عَلَى أَفْنِيَةِ قُبُورِهَا لَا أَنَّهَا لَا تُفَارِقُ الْأَفْنِيَةَ، بَلْ هِيَ كَمَا قَالَ مَالِكٌ إِنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ الْأَرْوَاحَ تَسْرَحُ حَيْثُ شَاءَتْ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى عنْ مَالِكٍ: حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِيهِ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَأَنَّ الْأَكْثَرَ رَوَوْهُ كَرِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، وَأَنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ رَوَاهُ كَرِوَايَةِ مُسْلِمٍ، قَالَ: وَالْمَعْنَى حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ إِلَى ذَلِكَ الْمَقْعَدِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ إِلَى اللَّهِ، فَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ، وَالْأَوَّلُ

(1)

ما قاله اين عبد البر ومالك في الأرواح ضعيف مخالف لظاهر القرآن الكريم، وقد دل ظاهر القرآان على أن الأرواح ممسكة عند الله سبحانه وينالها من العذب والنعيم ما شاء الله من ذلك، ولا مانع من عرض العذاب والنعيم عليها وإحساس البدن أو ما بقي منه بما شاء الله من ذلك كما هو قول أهل السنة، والدليل المشار إليه قوله تعالى {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} . وقد دلت الأحاديث على إعادتها إلى الجسد بعد الدفن عند السؤال، ولا مانع من إعادتها إليه فيما يشاء الله من الأوقات كوقت السلام عليه. وثبت في الحديث الصحيح أن أرواح المؤمنين في شكل طيور تعلق بشجرة الجنة، وأرواح الشهداء في أجواف طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت .. الحديث. والله أعلم

ص: 243

أَظْهَرُ، اهـ. وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ بِلَفْظِ: ثُمَّ يُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ الَّذِي تُبْعَثُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ رِوَايَةَ ابْنِ الْقَاسِمِ لَكِنْ لَفْظُهُ كَلَفْظِ الْبُخَارِيِّ.

‌90 - بَاب كَلَامِ الْمَيِّتِ عَلَى الْجَنَازَةِ

1380 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا وُضِعَتْ الْجِنَازَةُ فَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ: قَدِّمُونِي قَدِّمُونِي، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قَالَتْ: يَا وَيْلَهَا، أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا؟ يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الْإِنْسَانَ، وَلَوْ سَمِعَهَا الْإِنْسَانُ لَصَعِقَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ كَلَامِ الْمَيِّتِ عَلَى الْجِنَازَةِ) أَيْ: بَعْدَ حَمْلِهَا، أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ قَبْلَ بِضْعَةٍ وَثَلَاثِينَ بَابًا، وَتَرْجَمَ لَهُ: قَوْلُ الْمَيِّتِ وَهُوَ عَلَى الْجِنَازَةِ: قَدِّمُونِي. قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: الْحِكْمَةُ فِي هَذَا التَّكْرِيرِ أَنَّ التَّرْجَمَةَ الْأُولَى مُنَاسِبَةٌ لِلتَّرْجَمَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَهِيَ: بَابُ السُّرْعَةِ بِالْجِنَازَةِ. لِاشْتِمَالِ الْحَدِيثِ عَلَى بَيَانِ مُوجِبِ الْإِسْرَاعِ، وَكَذَلِكَ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ مُنَاسِبَةٌ لِلَّتِي قَبْلَهَا، كَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْعَرْضِ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ حَمْلِ الْجِنَازَةِ؛ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ يَظْهَرُ لَهَا مَا تَؤُولُ إِلَيْهِ فَتَقُولُ مَا تَقُولُ.

‌91 - بَاب مَا قِيلَ فِي أَوْلَادِ الْمُسْلِمِينَ

وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ مَاتَ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ كَانَ لَهُ حِجَابًا مِنْ النَّارِ، أَوْ: دَخَلَ الْجَنَّةَ.

1381 -

حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا مِنْ النَّاسِ مُسْلِمٌ يَمُوتُ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ، بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ.

1382 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ سَمِعَ الْبَرَاءَ رضي الله عنه قَالَ لَمَّا تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لَهُ مُرْضِعًا فِي الْجَنَّةِ"

[الحديث 1382 - طرفاه في: 3255، 6195]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا قِيلَ فِي أَوْلَادِ الْمُسْلِمِينَ) أَيْ: غَيْرِ الْبَالِغِينَ. قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْجَنَائِزِ تَرْجَمَةٌ: مَنْ مَاتَ لَهُ وَلَدٌ فَاحْتَسَبَ. وَفِيهَا الْحَدِيثُ الْمُصَدَّرُ بِهِ، وَإِنَّمَا تَرْجَمَ بِهَذِهِ لِمَعْرِفَةِ مَآلِ الْأَوْلَادِ، وَوَجْهُ انْتِزَاعِ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ يَكُونُ سَبَبًا فِي حَجْبِ النَّارِ عَنْ أَبَوَيْهِ أَوْلَى بِأَنْ يُحْجَبَ هُوَ؛ لِأَنَّهُ أَصْلُ الرَّحْمَةِ وَسَبَبُهَا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: أَجْمَعَ مَنْ يُعْتَدَّ بِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْ أَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَتَوَقَّفَ فِيهِ بَعْضُهُمْ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ، يَعْنِي الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِلَفْظِ: تُوُفِّيَ صَبِيٌّ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقُلْتُ: طُوبَى لَهُ لَمْ يَعْمَلْ سُوءًا وَلَمْ يُدْرِكْهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ يَا عَائِشَةَ، إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ لِلْجَنَّةِ أَهْلًا، الْحَدِيثَ. قَالَ: وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ لَعَلَّهُ نَهَاهَا عَنِ الْمُسَارَعَةِ إِلَى الْقَطْعِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، أَوْ قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ أَطْفَالَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجَنَّةِ. انْتَهَى. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: نَفَى بَعْضُهُمُ

ص: 244

الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ. وَكَأَنَّهُ عَنَى ابْنَ أَبِي زَيْدٍ؛ فَإِنَّهُ أَطْلَقَ الْإِجْمَاعَ فِي ذَلِكَ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ إِجْمَاعَ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: الْخِلَافُ فِي غَيْرِ أَوْلَادِ الْأَنْبِيَاءِ. انْتَهَى. وَلَعَلَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي بَدَأَ بِهِ كَمَا سَيَأْتِي؛ فَإِنَّ فِيهِ التَّصْرِيحَ بِإِدْخَالِ الْأَوْلَادِ الْجَنَّةَ مَعَ آبَائِهِمْ.

وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زِيَادَاتِ الْمُسْنَدِ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَأَوْلَادَهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ وَأَوْلَادَهُمْ فِي النَّارِ، ثُمَّ قَرَأَ:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ} ، الْآيَةَ. وَهَذَا أَصَحُّ مَا وَرَدَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ عَبَّاسٍ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ إِلَخْ) لَمْ أَرَهُ مَوْصُولًا مِنْ حَدِيثِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، نَعَمْ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَمُوتُ لَهُمَا ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ إِلَّا أَدْخَلَهُمَا اللَّهُ وَإِيَّاهُمْ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ الْجَنَّةَ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: لَا يَمُوتُ لِإِحْدَاكُنَّ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ فَتَحْتَسِبُ إِلَّا دَخَلَتِ الْجَنَّةَ، الْحَدِيثَ. وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِامْرَأَةٍ: دَفَنْتِ ثَلَاثَةً؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: لَقَدِ احْتَظَرْتِ بِحِظَارٍ شَدِيدٍ مِنَ النَّارِ. وَفِي صَحِيحِ أَبِي عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمٍ، عَنْ أَنَسٍ: مَاتَ ابْنٌ لِلزُّبَيْرِ فَجَزِعَ عَلَيْهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ مَاتَ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ كَانُوا لَهُ حِجَابًا مِنَ النَّارِ.

قَوْلُهُ: (كَانَ لَهُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، أَيْ: كَانَ مَوْتُهُمْ لَهُ حِجَابًا، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ: كَانُوا أَيِ: الْأَوْلَادَ.

قَوْلُهُ: (ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ) سَقَطَ قَوْلُهُ: مِنَ الْوَلَدِ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَكَذَا سَبَقَ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي بَابِ فَضْلِ مَنْ مَاتَ لَهُ وَلَدٌ فَاحْتَسَبَ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ.

قَوْلُهُ: (لَمَّا تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ) زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ مَرْزُوقٍ، عَنْ شُعْبَةَ بِسَنَدِهِ: ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ مُعَاذٍ، عَنْ شُعْبَةَ بِسَنَدِهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: تُوُفِّيَ ابْنُهُ إِبْرَاهِيمُ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ لَهُ مُرْضِعًا فِي الْجَنَّةِ) قَالَ ابْنُ التِّينِ: يُقَالُ: امْرَأَةٌ مُرْضِعٌ، بِلَا هَاءٍ، مِثْلُ حَائِضٍ، وَقَدْ أَرْضَعَتْ فَهِيَ مُرْضِعَةٌ إِذَا بُنِيَ مِنَ الْفِعْلِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} قَالَ: وَرُوِيَ مُرْضَعًا بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيِ: إِرْضَاعًا. انْتَهَى. وَقَدْ سَبَقَ إِلَى حِكَايَةِ هَذَا الْوَجْهِ الْخَطَّابِيُّ، وَالْأَوَّلُ رِوَايَةُ الْجُمْهُورِ، وَفِي رِوَايَةِ عَمْرٍو الْمَذْكُورَةِ: مُرْضِعًا تُرْضِعُهُ فِي الْجَنَّةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قِصَّةِ مَوْتِ إِبْرَاهِيمَ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّا بِكَ لَمَحْزُونُونَ. وَإِيرَادُ الْبُخَارِيِّ لَهُ فِي هَذَا الْبَابِ يُشْعِرُ بِاخْتِيَارِ الْقَوْلِ الصَّائِرِ إِلَى أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ، فَكَأَنَّهُ تَوَقَّفَ فِيهِ أَوَّلًا، ثُمَّ جَزَمَ بِهِ.

92 -

بَاب مَا قِيلَ فِي أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ

1383 -

حَدَّثَنَا حِبَّانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: اللَّهُ إِذْ خَلَقَهُمْ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ.

[الحديث 1383 - طرفه في: 6597]

1384 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ "سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَرَارِيِّ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ"

[الحديث 1384 - طرفاه في: 6598، 660]

1385 -

حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ

ص: 245

اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ تُنْتَجُ الْبَهِيمَةَ هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ".

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا قِيلَ فِي أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ تُشْعِرُ أَيْضًا بِأَنَّهُ كَانَ مُتَوَقِّفًا فِي ذَلِكَ، وَقَدْ جَزَمَ بَعْدَ هَذَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الرُّومِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى اخْتِيَارِ الْقَوْلِ الصَّائِرِ إِلَى أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ، كَمَا سَيَأْتِي تَحْرِيرُهُ، وَقَدْ رَتَّبَ أَيْضًا أَحَادِيثَ هَذَا الْبَابِ تَرْتِيبًا يُشِيرُ إِلَى الْمَذْهَبِ الْمُخْتَارِ؛ فَإِنَّهُ صَدَّرَهُ بِالْحَدِيثِ الدَّالِّ عَلَى التَّوَقُّفِ، ثُمَّ ثَنَّى بِالْحَدِيثِ الْمُرَجِّحِ لِكَوْنِهِمْ فِي الْجَنَّةِ، ثُمَّ ثَلَّثَ بِالْحَدِيثِ الْمُصَرِّحِ بِذَلِكَ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ فِي سِيَاقِهِ: وَأَمَّا الصِّبْيَانُ حَوْلَهُ فَأَوْلَادُ النَّاسِ. قَدْ أَخْرَجَهُ فِي التَّعْبِيرِ بِلَفْظِ: وَأَمَّا الْوِلْدَانُ الَّذِينَ حَوْلَهُ فَكُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ. فَقَالَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ: وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ؟ فَقَالَ: وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: سَأَلْتُ رَبِّي اللَّاهِينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ الْبَشَرِ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ فَأَعْطَانِيهِمْ. إِسْنَادُهُ حَسَنٌ. وَوَرَدَ تَفْسِيرُ اللَّاهِينَ بِأَنَّهُمُ الْأَطْفَالُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ خَنْسَاءَ بِنْتِ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَرِيمٍ، عَنْ عَمَّتِهَا قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ فِي الْجَنَّةِ؟ قَالَ: النَّبِيُّ فِي الْجَنَّةِ، وَالشَّهِيدُ فِي الْجَنَّةِ، وَالْمَوْلُودُ فِي الْجَنَّةِ.

إِسْنَادُهُ حَسَنٌ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَقْوَالٍ: أَحَدِهَا أَنَّهُمْ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنِ الْحَمَّادَيْنِ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ، وَإِسْحَاقَ، وَنَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الِاعْتِقَادِ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي حَقِّ أَوْلَادِ الْكُفَّارِ خَاصَّةً، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهُوَ مُقْتَضَى صَنِيعِ مَالِكٍ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ شَيْءٌ مَنْصُوصٌ، إِلَّا أَنَّ أَصْحَابَهُ صَرَّحُوا بِأَنَّ أَطْفَالَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجَنَّةِ وَأَطْفَالَ الْكُفَّارِ خَاصَّةً فِي الْمَشِيئَةِ، وَالْحُجَّةُ فِيهِ حَدِيثُ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ.

ثَانِيهَا أَنَّهُمْ تَبَعٌ لِآبَائِهِمْ، فَأَوْلَادُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجَنَّةِ، وَأَوْلَادُ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ، وَحَكَاهُ ابْنُ حَزْمٍ عَنِ الْأَزَارِقَةِ مِنَ الْخَوَارِجِ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ قَوْمُ نُوحٍ خَاصَّةً، وَإِنَّمَا دَعَا بِذَلِكَ لَمَّا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ:{أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ} وَأَمَّا حَدِيثُ: هُمْ مِنْ آبَائِهِمْ أَوْ مِنْهُمْ. فَذَاكَ وَرَدَ فِي حُكْمِ الْحَرْبِيِّ، وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ وِلْدَانِ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ: فِي الْجَنَّةِ، وَعَنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ، قَالَ: فِي النَّارِ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ يُدْرِكُوا الْأَعْمَالَ، قَالَ: رَبُّكِ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ، لَوْ شِئْتِ أَسْمَعْتُكِ تَضَاغِيَهُمْ فِي النَّارِ. وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ جِدًّا؛ لِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ أَبَا عُقَيْلٍ مَوْلَى بَهِيَّةَ وَهُوَ مَتْرُوكٌ.

ثَالِثُهَا أَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي بَرْزَخٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا حَسَنَاتٍ يَدْخُلُونَ بِهَا الْجَنَّةَ، وَلَا سَيِّئَاتٍ يَدْخُلُونَ بِهَا النَّارَ.

رَابِعِهَا خَدَمُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَفِيهِ حَدِيثٌ عَنْ أَنَسٍ ضَعِيفٌ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، وَأَبُو يَعْلَى، وَلِلطَّبَرَانِيِّ، وَالْبَزَّارِ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا: أَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ خَدَمُ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.

خَامِسِهَا أَنَّهُمْ يَصِيرُونَ تُرَابًا، رُوِيَ عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ أَشْرَسَ.

سَادِسِهَا هُمْ فِي النَّارِ حَكَاهُ عِيَاضٌ، عَنْ أَحْمَدَ، وَغَلَّطَهُ ابْنُ تَيْمِيَةَ بِأَنَّهُ قَوْلٌ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ، وَلَا يُحْفَظُ عَنِ الْإِمَامِ أَصْلًا.

سَابِعِهَا أَنَّهُمْ يُمْتَحَنُونَ فِي الْآخِرَةِ بِأَنْ تُرْفَعَ لَهُمْ نَارٌ، فَمَنْ دَخَلَهَا كَانَتْ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا، وَمَنْ أَبَى عُذِّبَ، أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ. وَقَدْ صَحَّتْ مَسْأَلَةُ الِامْتِحَانِ فِي حَقِّ الْمَجْنُونِ، وَمَنْ مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ مِنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ، وَحَكَى الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الِاعْتِقَادِ أَنَّهُ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْآخِرَةَ لَيْسَتْ دَارَ تَكْلِيفٍ، فَلَا عَمَلَ فِيهَا وَلَا ابْتِلَاءَ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يَقَعَ الِاسْتِقْرَارُ فِي الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ، وَأَمَّا فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ فَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا

ص: 246

يَسْتَطِيعُونَ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ النَّاسَ يُؤْمَرُونَ بِالسُّجُودِ، فَيَصِيرُ ظَهْرُ الْمُنَافِقِ طَبَقًا، فَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْجُدَ.

ثَامِنِهَا أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ فِي بَابِ فَضْلِ مَنْ مَاتَ لَهُ وَلَدٌ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ الَّذِي صَارَ إِلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} وَإِذَا كَانَ لَا يُعَذَّبُ الْعَاقِلُ لِكَوْنِهِ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، فَلَأَنْ لَا يُعَذَّبُ غَيْرُ الْعَاقِلِ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى، وَلِحَدِيثِ سَمُرَةَ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَلِحَدِيثِ عَمَّةِ خَنْسَاءَ الْمُتَقَدِّمِ، وَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْآتِي قَرِيبًا.

تَاسِعِهَا الْوَقْفُ.

عَاشِرِهَا الْإِمْسَاكُ وَفِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا دِقَّةٌ. ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ: أَحَدُهَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ: سُئِلَ عَنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ذَرَارِيِّ الْمُشْرِكِينَ. وَلَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ عَلَى تَسْمِيَةِ هَذَا السَّائِلِ، لَكِنْ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ، عَنْ عَائِشَةَ مَا يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ هِيَ السَّائِلَةُ، فَأَخْرَجَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَيْسٍ عَنْهَا قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَرَارِيُّ الْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: مَعَ آبَائِهِمْ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِلَا عَمَلٍ؟ قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ. الْحَدِيثَ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاذٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَأَلَتْ خَدِيجَةُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: هُمْ مَعَ آبَائِهِمْ، ثُمَّ سَأَلَتْهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ، ثُمَّ سَأَلَتْهُ بَعْدَمَا اسْتَحْكَمَ الْإِسْلَامُ، فَنَزَلَ:{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} قَالَ: هُمْ عَلَى الْفِطْرَةِ، أَوْ قَالَ: فِي الْجَنَّةِ. وَأَبُو مُعَاذٍ هُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ أَرْقَمَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا لَكَانَ قَاطِعًا لِلنِّزَاعِ رَافِعًا لِكَثِيرٍ مِنَ الْإِشْكَالِ الْمُتَقَدِّمِ.

قوله: (الله أعلم) قال ابن قتيبة: معنى قوله: بما كانوا عاملين، أي: لو أبقاهم، فلا تحكموا عليهم بشيء. وقال غيره: أي علم أنهم لا يعملون شيئا، ولا يرجعون فيعملون، أو أخبر بعلم

(1)

شيء لو وجد كيف يكون، مثل قوله:{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا} ولكن لم يرد أنهم يجازون بذلك في الآخرة؛ لأن العبد لا يجازى بما لم يعمل.

(تَنْبِيهٌ): لَمْ يَسْمَعِ ابْنُ عَبَّاسٍ هَذَا الْحَدِيثَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، بَيَّنَ ذَلِكَ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كُنْتُ أَقُولُ فِي أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ: هُمْ مِنْهُمْ، حَتَّى حَدَّثَنِي رَجُلٌ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَقِيتُهُ فَحَدَّثَنِي عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ، هُوَ خَلَقَهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ، فَأَمْسَكْتُ عَنْ قَوْلِي. انْتَهَى. وَهَذَا أَيْضًا يَدْفَعُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ الَّذِي حَكَيْنَاهُ.

وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَهُوَ طَرَفٌ مِنْ ثَانِي أَحَادِيثِ الْبَابِ - كَمَا سَيَأْتِي فِي الْقَدَرِ - مِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَفِي آخِرِهِ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَرَأَيْتَ مَنْ يَمُوتُ وَهُوَ صَغِيرٌ؟ قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ لَوْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ؟. وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَ رِوَايَةِ هَمَّامٍ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ عَقِبَهُ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، سَمِعْتُ مَالِكًا وَقِيلَ لَهُ: إِنَّ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ يَحْتَجُّونَ عَلَيْنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ، يَعْنِي قَوْلَهُ: فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ. فَقَالَ مَالِكٌ: احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِآخِرِهِ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْقَدَرِ اسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّ اللَّهَ فَطَرَ الْعِبَادَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَأَنَّهُ لَا يُضِلُّ أَحَدًا، وَإِنَّمَا يُضِلُّ الْكَافِرَ أَبَوَاهُ، فَأَشَارَ مَالِكٌ إِلَى الرَّدِّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: اللَّهُ أَعْلَمُ. فَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ يَعْلَمُ بِمَا يَصِيرُونَ إِلَيْهِ بَعْدَ إِيجَادِهِمْ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى تَقَدَّمِ الْعِلْمِ الَّذِي يُنْكِرُهُ غُلَاتُهُمْ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَهْلُ الْقَدَرِ إِنْ أَثْبَتُوا الْعِلْمَ خُصِمُوا.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَتَابَعَهُ يُونُسُ كَمَا تَقَدَّمَ قَبْلَ أَبْوَابٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْهُ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ،

(1)

في نسخة "بعلم الشيء"

ص: 247

وَخَالَفَهُمَا الزُّبَيْدِيُّ، وَمَعْمَرٌ، فَرَوَيَاهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ بَدَلَ أَبِي سَلَمَةَ، وَأَخْرَجَهُ الذُّهْلِيُّ فِي الزُّهْرِيَّاتِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ وَاسِطَةٍ. وَصَنِيعُ الْبُخَارِيِّ يَقْتَضِي تَرْجِيحَ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ، وَصَنِيعُ مُسْلِمٍ يَقْتَضِي تَصْحِيحَ الْقَوْلَيْنِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ الذُّهْلِيُّ.

قَوْلُهُ: (كُلُّ مَوْلُودٍ) أَيْ: مِنْ بَنِي آدَمَ، وَصَرَّحَ بِهِ جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: كُلُّ بَنِي آدَمَ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ. وَكَذَا رَوَاهُ خَالِدٌ الْوَاسِطِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، ذَكَرَهَا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَاسْتَشْكَلَ هَذَا التَّرْكِيبَ بِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يَقَعُ لَهُ التَّهْوِيدُ وَغَيْرُهُ مِمَّا ذُكِرَ، وَالْفَرْضُ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَسْتَمِرُّ مُسْلِمًا وَلَا يَقَعُ لَهُ شَيْءٌ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ التَّرْكِيبِ أَنَّ الْكُفْرَ لَيْسَ مِنْ ذَاتِ الْمَوْلُودِ وَمُقْتَضَى طَبْعِهِ، بَلْ إِنَّمَا حَصَلَ بِسَبَبٍ خَارِجِيٍّ، فَإِنْ سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ السَّبَبِ اسْتَمَرَّ عَلَى الْحَقِّ. وَهَذَا يُقَوِّي الْمَذْهَبَ الصَّحِيحَ فِي تَأْوِيلِ الْفِطْرَةِ، كَمَا سَيَأْتِي.

قَوْلُهُ: (يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ) ظَاهِرُهُ تَعْمِيمُ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ فِي جَمِيعِ الْمَوْلُودِينَ، وَأَصْرَحُ مِنْهُ رِوَايَةُ يُونُسَ الْمُتَقَدِّمَةِ بِلَفْظِ: مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: لَيْسَ مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا عَلَى هَذِهِ الْفِطْرَةِ حَتَّى يُعَبِّرَ عَنْهُ لِسَانُهُ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا وَهُوَ عَلَى الْمِلَّةِ. وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ مَنْ وُلِدَ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَكَانَ لَهُ أَبَوَانِ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ نَقَلَاهُ إِلَى دِينِهِمَا، فَتَقْدِيرُ الْخَبَرِ عَلَى هَذَا: كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ وَأَبَوَاهُ يَهُودِيَّانِ مَثَلًا فَإِنَّهُمَا يُهَوِّدَانِهِ، ثُمَّ يَصِيرُ عِنْدَ بُلُوغِهِ إِلَى مَا يُحْكَمُ بِهِ عَلَيْهِ. وَيَكْفِي فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ رِوَايَةُ أَبِي صَالِحٍ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَأَصْرَحُ مِنْهَا رِوَايَةُ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ بِلَفْظِ: كُلُّ بَنِي آدَمَ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْمُرَادِ بِالْفِطْرَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ، وَحَكَى أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّهُ سَأَلَ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ صَاحِبَ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: كَانَ هَذَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْفَرَائِضُ، وَقَبْلَ الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: كَأَنَّهُ عَنَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ يُولَدُ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُهَوِّدَهُ أَبَوَاهُ مَثَلًا لَمْ يَرِثَاه. وَالْوَاقِعُ فِي الْحُكْمِ أَنَّهُمَا يَرِثَانِهِ، فَدَلَّ عَلَى تَغَيُّرِ الْحُكْمِ. وَقَدْ تَعَقَّبَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ.

وَسَبَبُ الِاشْتِبَاهِ أَنَّهُ حَمَلَهُ عَلَى أَحْكَامِ الدُّنْيَا، فَلِذَلِكَ ادَّعَى فِيهِ النَّسْخَ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ إِخْبَارٌ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَا وَقَعَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ إِثباتَ أَحْكَامِ الدُّنْيَا. وَأَشْهَرُ الْأَقْوَالِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِطْرَةِ الْإِسْلَامُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ عَامَّةِ السَّلَفِ. وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالتَّأْوِيلِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} الْإِسْلَامُ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي آخِرِ حَدِيثِ الْبَابِ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} . وَبِحَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ: إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، فَاجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ عَنْ دِينهِمْ. الْحَدِيثَ. وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُهُ فَزَادَ فِيهِ حُنَفَاءَ مُسْلِمِينَ وَرَجَّحَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فِطْرَتَ اللَّهِ} ؛ لِأَنَّهَا إِضَافَةُ مَدْحٍ، وَقَدْ أَمَرَ نَبِيَّهُ بِلُزُومِهَا، فَعُلِمَ أَنَّهَا الْإِسْلَامُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: قَوْلُهُ: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} ؛ أَيْ: سَدِّدْ لِطَاعَتِهِ حَنِيفًا، أَيْ: مُسْتَقِيمًا، {فِطْرَتَ اللَّهِ} أَيْ: صِبْغَةَ اللَّهِ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ الْأَوَّلُ، أَوْ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيِ: الْزَمْ. وَقَدْ سَبَقَ قَبْلَ أَبْوَابٍ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَوْلُودِ: مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ، وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الرُّومِ جَزْمُ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّ الْفِطْرَةَ الْإِسْلَامُ، وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ: مَنْ مَاتَ أَبَوَاهُ وَهُمَا كَافِرَانِ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ.

وَاسْتُدِلَّ بِحَدِيثِ الْبَابِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ فَسَّرَ الْفِطْرَةَ بِالْإِسْلَامِ. وَتَعَقَّبَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ كَانَ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَصِحَّ اسْتِرْقَاقُهُ، وَلَا يُحْكَمُ

ص: 248

بِإِسْلَامِهِ إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ. وَالْحَقُّ أَنَّ الْحَدِيثَ سِيقَ لِبَيَانِ مَا هُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، لَا لِبَيَانِ الْأَحْكَامِ فِي الدُّنْيَا. وَحَكَى مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ أَنَّ آخِرَ قَوْلَيْ أَحْمَدَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِطْرَةِ الْإِسْلَامُ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَقَدْ جَاءَ عَنْ أَحْمَدَ أَجْوِبَةٌ كَثِيرَةٌ يُحْتَجُّ فِيهَا بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الطِّفْلَ إِنَّمَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ بِأَبَوَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ أَبَوَيْنِ كَافِرَيْنِ فَهُوَ مُسْلِمٌ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّهُ قَالَ: الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ حَيْثُ أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ، حَيْثُ قَالَ:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} وَنَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ وَعَنْ سَحْنُونٍ، وَنَقَلَهُ أَبُو يَعْلَى بْنُ الْفَرَّاءِ عَنْ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ مَا حَكَاهُ الْمَيْمُونِيُّ عَنْهُ، وَذَكَرَهُ ابْنُ بَطَّةَ، وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ إِسْلَامِ الصَّبِيِّ فِي آخِرِ حَدِيثِ الْبَابِ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ، ثُمَّ يَقُولُ:{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} - إِلَى قَوْلِهِ -: {الْقَيِّمُ} وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ مِنْ كَلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ أُدْرِجَ فِي الْخَبَرِ، بَيَّنَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَلَفْظُهُ: ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: ذِكْرُ هَذِهِ الْآيَةِ عَقِبَ هَذَا الْحَدِيثِ يُقَوِّي مَا أَوَّلَهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنَّ التَّعْرِيفَ فِي قَوْلِهِ: عَلَى الْفِطْرَةِ إِشَارَةٌ إِلَى مَعْهُودٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{فِطْرَتَ اللَّهِ} وَمَعْنَى الْمَأْمُورِ فِي قَوْلِهِ: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} ؛ أَيِ: اثْبُتْ عَلَى الْعَهْدِ الْقَدِيمِ. ثَانِيهَا وُرُودُ الرِّوَايَةِ بِلَفْظِ الْمِلَّةِ بَدَلَ الْفِطْرَةِ، وَالدِّينِ فِي قَوْلِهِ:{لِلدِّينِ حَنِيفًا} هُوَ عَيْنُ الْمِلَّةِ، قَالَ تَعَالَى:{دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ عِيَاضٍ الْمُتَقَدِّمِ. ثَالِثُهَا التَّشْبِيهُ بِالْمَحْسُوسِ الْمُعَايَنِ لِيُفِيدَ أَنَّ ظُهُورَهُ يَقَعُ فِي الْبَيَانِ مَبْلَغَ هَذَا الْمَحْسُوسِ، قَالَ. وَالْمُرَادُ تَمَكُّنُ النَّاسِ مِنَ الْهُدَى فِي أَصْلِ الْجِبِلَّةِ، وَالتَّهَيُّؤِ لِقَبُولِ الدِّينِ، فَلَوْ تُرِكَ الْمَرْءُ عَلَيْهَا لَاسْتَمَرَّ عَلَى لُزُومِهَا، وَلَمْ يُفَارِقْهَا إِلَى غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ حُسْنَ هَذَا الدِّينِ ثَابِتٌ فِي النُّفُوسِ، وَإِنَّمَا يُعْدَلُ عَنْهُ لِآفَةٍ مِنَ الْآفَاتِ الْبَشَرِيَّةِ كَالتَّقْلِيدِ. انْتَهَى. وَإِلَى هَذَا مَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ فَقَالَ: الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ مُؤَهَّلَةً لِقَبُولِ الْحَقِّ، كَمَا خَلَقَ أَعْيُنَهُمْ وَأَسْمَاعَهُمْ قَابِلَةً لِلْمَرْئِيَّاتِ وَالْمَسْمُوعَاتِ، فَمَا دَامَتْ بَاقِيَةً عَلَى ذَلِكَ الْقَبُولِ وَعَلَى تِلْكَ الْأَهْلِيَّةِ أَدْرَكَتِ الْحَقَّ، وَدِينُ الْإِسْلَامِ هُوَ الدِّينُ الْحَقُّ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى بَقِيَّةُ الْحَدِيثِ، حَيْثُ قَالَ: كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ.

يَعْنِي أَنَّ الْبَهِيمَةَ تَلِدُ الْوَلَدَ كَامِلَ الْخِلْقَةِ، فَلَوْ تُرِكَ كَذَلِكَ كَانَ بَرِيئًا مِنَ الْعَيْبِ، لَكِنَّهُمْ تَصَرَّفُوا فِيهِ بِقَطْعِ أُذُنِهِ مَثَلًا، فَخَرَجَ عَنِ الْأَصْلِ، وَهُوَ تَشْبِيهٌ وَاقِعٌ وَوَجْهُهُ وَاضِحٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ. أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يَعْلَمُ الدِّينَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} وَلَكِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ فِطْرَتَهُ مُقْتَضِيَةٌ لِمَعْرِفَةِ دِينِ الْإِسْلَامِ وَمَحَبَّتِهِ، فَنَفْسُ الْفِطْرَةِ تَسْتَلْزِمُ الْإِقْرَارَ وَالْمَحَبَّةَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مُجَرَّدَ قَبُولِ الْفِطْرَةِ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ بِتَهْوِيدِ الْأَبَوَيْنِ مَثَلًا، بِحَيْثُ يُخْرِجَانِ الْفِطْرَةَ عَنِ الْقَبُولِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى إِقْرَارِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ، فَلَوْ خُلِّيَ وَعَدَمُ الْمُعَارِضِ لَمْ يَعْدِلْ عَنْ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِ، كَمَا أَنَّهُ يُولَدُ عَلَى مَحَبَّةِ مَا يُلَائِمُ بَدَنَهُ مِنِ ارْتِضَاعِ اللَّبَنِ حَتَّى يَصْرِفَهُ عَنْهُ الصَّارِفُ، وَمِنْ ثَمَّ شُبِّهَتِ الْفِطْرَةُ بِاللَّبَنِ، بَلْ كَانَتْ إِيَّاهُ فِي تَأْوِيلِ الرُّؤْيَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ أُخَرُ ذَكَرَهَا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ: مِنْهَا قَوْلُ ابْنِ الْمُبَارَكِ: إِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ يُولَدُ عَلَى مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ مِنْ شَقَاوَةٍ أَوْ سَعَادَةٍ، فَمَنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يَصِيرُ مُسْلِمًا وُلِدَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمَنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يَصِيرُ كَافِرًا وُلِدَ عَلَى الْكُفْرِ، فَكَأَنَّهُ أَوَّلَ الْفِطْرَةَ بِالْعِلْمِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ: فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ إِلَخْ مَعْنًى؛ لِأَنَّهُمَا فَعَلَا بِهِ مَا هُوَ الْفِطْرَةُ الَّتِي وُلِدَ عَلَيْهَا، فَيُنَافِي فِي التَّمْثِيلِ بِحَالِ الْبَهِيمَةِ. وَمِنْهَا أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ فِيهِمُ الْمَعْرِفَةَ وَالْإِنْكَارَ، فَلَمَّا أَخَذَ الْمِيثَاقَ مِنَ الذُّرِّيَّةِ قَالُوا جَمِيعًا:(بَلَى) أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَقَالُوهَا طَوْعًا، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَقَالُوهَا كَرْهًا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: سَمِعْتُ إِسْحَاقَ بْنَ رَاهَوَيْهِ يَذْهَبُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى وَيُرَجِّحُهُ،

ص: 249

وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ صَحِيحٍ، فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ هَذَا التَّفْصِيلُ عِنْدَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ إِلَّا عَنِ السُّدِّيِّ وَلَمْ يُسْنِدْهُ، وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، حَكَاهُ ابْنُ الْقَيِّمِ عَنْ شَيْخِهِ.

وَمِنْهَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِطْرَةِ الْخِلْقَةُ، أَيْ: يُولَدُ سَالِمًا لَا يَعْرِفُ كُفْرًا وَلَا إِيمَانًا، ثُمَّ يَعْتَقِدُ إِذَا بَلَغَ التَّكْلِيفَ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَقَالَ: إِنَّهُ يُطَابِقُ التَّمْثِيلَ بِالْبَهِيمَةِ، وَلَا يُخَالِفُ حَدِيثَ عِيَاضٍ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ:(حَنِيفًا)؛ أَيْ: عَلَى اسْتِقَامَةٍ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَقْتَصِرْ فِي أَحْوَالِ التَّبْدِيلِ عَلَى مِلَلِ الْكُفْرِ دُونَ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَكُنْ لِاسْتِشْهَادِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِالْآيَةِ مَعْنًى. وَمِنْهَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّ اللَّامَ فِي الْفِطْرَةِ لِلْعَهْدِ، أَيْ: فِطْرَةُ أَبَوَيْهِ، وَهُوَ مُتَعَقَّبٌ بِمَا ذُكِرَ فِي الَّذِي قَبْلَهُ. وَيُؤَيِّدُ الْمَذْهَبَ الصَّحِيحَ أَنَّ قَوْلَهُ: فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ. إِلَخْ، لَيْسَ فِيهِ لِوُجُودِ الْفِطْرَةِ شَرْطٌ، بَلْ ذُكِرَ مَا يَمْنَعُ مُوجِبَهَا، كَحُصُولِ الْيَهُودِيَّةِ مَثَلًا مُتَوَقِّفٌ عَلَى أَشْيَاءَ خَارِجَةٍ عَنِ الْفِطْرَةِ، بِخِلَافِ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: سَبَبُ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي مَعْنَى الْفِطْرَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْقَدَرِيَّةَ كَانُوا يَحْتَجُّونَ بِهِ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ وَالْمَعْصِيَةَ لَيْسَا بِقَضَاءِ اللَّهِ بَلْ مِمَّا ابْتَدَأَ النَّاسُ إِحْدَاثَهُ، فَحَاوَلَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مُخَالَفَتَهُمْ بِتَأْوِيلِ الْفِطْرَةِ عَلَى غَيْرِ مَعْنَى الْإِسْلَامِ، وَلَا حَاجَةَ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْآثَارَ الْمَنْقُولَةَ عَنِ السَّلَفِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا مِنْ لَفْظِ الْفِطْرَةِ إِلَّا الْإِسْلَامَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ حَمْلِهَا عَلَى ذَلِكَ مُوَافَقَةُ مَذْهَبِ الْقَدَرِيَّةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ. إِلَخْ.

مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْ ثَمَّ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ مَالِكٌ بِقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ.

قَوْلُهُ: (فَأَبَوَاهُ) أَيِ: الْمَوْلُودُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ إِمَّا لِلتَّعْقِيبِ أَوِ السَّبَبِيَّةِ أَوْ جَزَاءُ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: إِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَمَنْ تَغَيَّرَ كَانَ بِسَبَبِ أَبَوَيْهِ، إِمَّا بِتَعْلِيمِهِمَا إِيَّاهُ أَوْ بِتَرْغِيبِهِمَا فِيهِ، وَكَوْنُهُ تَبَعًا لَهُمَا فِي الدِّينِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ حُكْمَهُمَا. وَخُصَّ الْأَبَوَانِ بِالذِّكْرِ لِلْغَالِبِ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِمَنْ حَكَمَ بِإِسْلَامِ الطِّفْلِ الَّذِي يَمُوتُ أَبَوَاهُ كَافِرَيْنِ، كَمَا هُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ، فَقَدِ اسْتَمَرَّ عَمَلُ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى عَدَمِ التَّعَرُّضِ لِأَطْفَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ.

قَوْلُهُ: (كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ تُنْتَجُ الْبَهِيمَةَ) أَيْ: تَلِدُهَا، فَالْبَهِيمَةُ الثَّانِيَةُ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِلَفْظِ: كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: كَمَا حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي يُهَوِّدَانِهِ؛ أَيْ: يُهَوِّدَانِ الْمَوْلُودَ بَعْدَ أَنْ خُلِقَ عَلَى الْفِطْرَةِ تَشْبِيهًا بِالْبَهِيمَةِ الَّتِي جُدِعَتْ بَعْدَ أَنْ خُلِقَتْ سَلِيمَةً، أَوْ هُوَ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: يُغَيِّرَانِهِ تَغْيِيرًا مِثْلَ تَغْيِيرِهِمُ الْبَهِيمَةَ السَّلِيمَةَ، قَالَ: وَقَدْ تَنَازَعَتِ الْأَفْعَالُ الثَّلَاثَةُ فِي كَمَا عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ.

قَوْلُهُ: (تُنْتَجُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ النُّونِ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ بَعْدَهَا جِيمٌ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: نُتِجَتِ النَّاقَةُ عَلَى صِيغَةِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، تُنْتَجُ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ، وَأَنْتَجَ الرَّجُلُ نَاقَتَهُ يُنْتِجُهَا إِنْتَاجًا، زَادَ فِي الرِّوَايَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ: بَهِيمَةً جَمْعَاءَ. أَيْ: لَمْ يَذْهَبْ مِنْ بَدَنِهَا شَيْءٌ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاجْتِمَاعِ أَعْضَائِهَا.

قَوْلُهُ: (هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ؟) قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ سَلِيمَةً: مَقُولًا فِي حَقِّهَا ذَلِكَ، وَفِيهِ نَوْعُ التَّأْكِيدِ، أَيْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ نَظَرَ إِلَيْهَا قَالَ ذَلِكَ لِظُهُورِ سَلَامَتِهَا. وَالْجَدْعَاءُ: الْمَقْطُوعَةُ الْأُذُنِ، فَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ تَصْمِيمَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ كَانَ بِسَبَبِ صَمَمِهِمْ عَنِ الْحَقِّ. وَوَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِلَفْظِ: هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟ وَهُوَ مِنَ الْإِحْسَاسِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ، يُرِيدُ أَنَّهَا تُولَدُ لَا جَدْعَ فِيهَا، وَإِنَّمَا يَجْدَعُهَا أَهْلُهَا بَعْدَ ذَلِكَ. وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الرُّومِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ:{لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} أَيْ: لِدِينِ اللَّهِ، وَتَوْجِيهُ ذَلِكَ.

(تَنْبِيهٌ): ذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ فِي الْمُغْنِي عَنِ ابْنِ هِشَامٍ الْخَضْرَاوِيِّ أَنَّهُ جَعَلَ هَذَا الْحَدِيثَ شَاهِدًا لِوُرُودِ حَتَّى لِلِاسْتِثْنَاءِ، فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ: كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ حَتَّى يَكُونَ أَبَوَاهُ هُمَا اللَّذَانِ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ. وَقَالَ: وَلَكَ أَنْ تُخَرِّجَهُ عَلَى أَنَّ فِيهِ حَذْفًا، أَيْ: يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ وَيَسْتَمِرُّ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ، يَعْنِي فَتَكُونُ لِلْغَايَةِ عَلَى بَابِهَا. انْتَهَى. وَمَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِلَى أَنَّهُ ضَمَّنَ يُولَدُ مَعْنَى

ص: 250

يَنْشَأُ مَثَلًا، وَقَدْ وَجَدْتُ الْحَدِيثَ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ بِلَفْظِ: لَيْسَتْ نَسَمَةٌ تُولَدُ إِلَّا وُلِدَتْ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَمَا تَزَالُ عَلَيْهَا حَتَّى يَبِينَ عَنْهَا لِسَانُهَا. الْحَدِيثَ. وَهُوَ يُؤَيِّدُ الِاحْتِمَالَ الْمَذْكُورَ. وَاللَّفْظُ الَّذِي سَاقَهُ الْخَضْرَاوِيُّ لَمْ أَرَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلَا غَيْرِهِمَا، إِلَّا عِنْدَ مُسْلِمٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ: حَتَّى يُعْرِبَ عَنْهُ لِسَانُهُ. ثُمَّ وَجَدْتُ أَبَا نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجِهِ عَلَى مُسْلِمٍ أَوْرَدَ الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ كَثِيرِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَرْبٍ، عَنِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ: مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ فِي بَنِي آدَمَ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، حَتَّى يَكُونَ أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ. الْحَدِيثَ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، عَنْ حَاجِبِ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَرْبٍ بِلَفْظِ: مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ. الْحَدِيثَ.

‌93 - بَاب

1386 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا؟ قَالَ: فَإِنْ رَأَى أَحَدٌ قَصَّهَا فَيَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ، فَسَأَلَنَا يَوْمًا فَقَالَ: هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رُؤْيَا؟ قُلْنَا.

لَا، قَالَ: لَكِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي، فَأَخَذَا بِيَدِي فَأَخْرَجَانِي إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ وَرَجُلٌ قَائِمٌ بِيَدِهِ كَلُّوبٌ مِنْ حَدِيدٍ - قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ مُوسَى: كلوب من حديد يدخله فِي شِدْقِهِ - حَتَّى يَبْلُغَ قَفَاهُ، ثُمَّ يَفْعَلُ بِشِدْقِهِ الْآخَرِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَيَلْتَئِمُ شِدْقُهُ هَذَا، فَيَعُودُ فَيَصْنَعُ مِثْلَهُ، قُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالَا: انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ عَلَى قَفَاهُ، وَرَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ بِفِهْرٍ - أَوْ: صَخْرَةٍ - فَيَشْدَخُ بِهِ رَأْسَهُ، فَإِذَا ضَرَبَهُ تَدَهْدَهَ الْحَجَرُ، فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ لِيَأْخُذَهُ، فَلَا يَرْجِعُ إِلَى هَذَا حَتَّى يَلْتَئِمَ رَأْسُهُ، وَعَادَ رَأْسُهُ كَمَا هُوَ، فَعَادَ إِلَيْهِ فَضَرَبَهُ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَا: انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا إِلَى ثَقْبٍ مِثْلِ التَّنُّورِ؛ أَعْلَاهُ ضَيِّقٌ وَأَسْفَلُهُ وَاسِعٌ، يَتَوَقَّدُ تَحْتَهُ نَارًا، فَإِذَا اقْتَرَبَ ارْتَفَعُوا حَتَّى كَادَ أَنْ يَخْرُجُوا، فَإِذَا خَمَدَتْ رَجَعُوا فِيهَا، وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَا: انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ مِنْ دَمٍ فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى وَسَطِ النَّهَرِ رجل بين يديه حجارة - قَالَ يَزِيدُ وَوَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ: وَعَلَى شَطِّ النَّهَرِ رَجُلٌ - فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي النَّهَرِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ فِي فِيهِ فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ، فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ رَمَى فِي فِيهِ بِحَجَرٍ فَيَرْجِعُ كَمَا كَانَ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالَا: انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ فِيهَا شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ، وَفِي أَصْلِهَا شَيْخٌ وَصِبْيَانٌ، وَإِذَا رَجُلٌ قَرِيبٌ مِنْ الشَّجَرَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ نَارٌ يُوقِدُهَا، فَصَعِدَا

بِي فِي الشَّجَرَةِ، وَأَدْخَلَانِي دَارًا لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهَا، فِيهَا رِجَالٌ شُيُوخٌ وَشَبَابٌ وَنِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ، ثُمَّ أَخْرَجَانِي مِنْهَا فَصَعِدَا بِي الشَّجَرَةَ، فَأَدْخَلَانِي دَارًا هِيَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ فِيهَا شُيُوخٌ وَشَبَابٌ، قُلْتُ: طَوَّفْتُمَانِي اللَّيْلَةَ، فَأَخْبِرَانِي عَمَّا رَأَيْتُ، قَالَا: نَعَمْ؛ أَمَّا الَّذِي رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ فَكَذَّابٌ يُحَدِّثُ بِالْكَذْبَةِ، فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الْآفَاقَ، فَيُصْنَعُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالَّذِي رَأَيْتَهُ

ص: 251

يُشْدَخُ رَأْسُهُ فَرَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَنَامَ عَنْهُ بِاللَّيْلِ، وَلَمْ يَعْمَلْ فِيهِ بِالنَّهَارِ، يُفْعَلُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالَّذِي رَأَيْتَهُ فِي الثَّقْبِ فَهُمُ الزُّنَاةُ، وَالَّذِي رَأَيْتَهُ فِي النَّهَرِ آكِلُوا الرِّبَا، وَالشَّيْخُ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام، وَالصِّبْيَانُ حَوْلَهُ فَأَوْلَادُ النَّاسِ، وَالَّذِي يُوقِدُ النَّارَ مَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ، وَالدَّارُ الْأُولَى الَّتِي دَخَلْتَ دَارُ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَمَّا هَذِهِ الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَدَاءِ، وَأَنَا جِبْرِيلُ وَهَذَا مِيكَائِيلُ، فَارْفَعْ رَأْسَكَ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا فَوْقِي مِثْلُ السَّحَابِ قَالَا: ذَاكَ مَنْزِلُكَ، قُلْتُ: دَعَانِي أَدْخُلْ مَنْزِلِي، قَالَا: إِنَّهُ بَقِيَ لَكَ عُمُرٌ لَمْ تَسْتَكْمِلْهُ، فَلَوْ اسْتَكْمَلْتَ أَتَيْتَ مَنْزِلَكَ.

قَوْلُهُ: (بَابٌ) كَذَا ثَبَتَ لِجَمِيعِهِمْ إِلَّا لِأَبِي ذَرٍّ، وَهُوَ كَالْفَصْلِ مِنَ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَتَعَلُّقُ الْحَدِيثِ بِهِ ظَاهِرٌ مِنْ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ سَمُرَةَ الْمَذْكُورِ: (وَالشَّيْخُ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ إِبْرَاهِيمُ، وَالصِّبْيَانُ حَوْلَهُ أَوْلَادُ النَّاسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ أَوْرَدَهُ فِي التَّعْبِيرِ بِزِيَادَةِ: قَالُوا: وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ؟ فَقَالَ: وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ التَّعْبِيرِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ: (فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ وَرَجُلٌ قَائِمٌ بِيَدِهِ، قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ مُوسَى: كَلُّوبٌ مِنْ حَدِيدٍ فِي شِدْقِهِ) كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَهُوَ سِيَاقٌ مُسْتَقِيمٌ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَالْبَعْضُ الْمُبْهَمُ لَمْ أَعْرِفِ الْمُرَادَ بِهِ إِلَّا أَنَّ الطَّبَرَانِيَّ أَخْرَجَهُ فِي الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ عَنِ العباسِ بنِ الْفَضْلِ الْأَسْفَاطِيِّ، عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ مِثْلَ حِدِيثٍ قَبْلَهُ وَفِيهِ: بِيَدِهِ كُلَّابٌ مِنْ حَدِيدٍ. قَوْلُهُ فِيهِ: (حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهْرٍ مِنْ دَمٍ فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى وَسْطِ النَّهْرِ. قَالَ يَزِيدُ، وَوَهْبُ بْنُ جِرِيرٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ: وَعَلَى شَطِّ النَّهْرِ رَجُلٌ) وَهَذَا التَّعْلِيقُ عَنْ هَذَيْنِ ثَبَتَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ أَيْضًا، فَأَمَّا حَدِيثُ يَزِيدَ، وَهُوَ ابنُ هَارُونَ فَوَصَلَهُ أَحْمَدُ عَنْهُ، فَسَاقَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَفِيهِ: فَإِذَا نَهْرٌ مِنْ دَمٍ فِيهِ رَجُلٌ، وَعَلَى شَطِّ النَّهْرِ رَجُلٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ فَوَصَلَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِهِ، فَسَاقَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ وَفِيهِ: حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى نَهْرٍ مِنْ دَمٍ، وَرَجُلٌ قَائِمٌ فِي وَسْطِهِ، وَرَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى شَاطِئِ النَّهْرِ، الْحَدِيثَ. وَأَصْلُ الْحَدِيثِ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ وَهْبٍ، لَكِنْ بِاخْتِصَارٍ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: إِذَا ارْتَفَعُوا كَذَا فِيهِ بِالْفَاءِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَوَقَعَ فِي جَمْعِ الْحُمَيْدِيِّ: ارْتَقَوْا بِالْقَافِ فَقَطْ مِنَ الِارْتِقَاءِ، وَهُوَ الصُّعُودُ.

‌94 - بَاب مَوْتِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ

1387 -

حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه فَقَالَ: فِي كَمْ كَفَّنْتُمْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتْ: فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ، وَقَالَ لَهَا: فِي أَيِّ يَوْمٍ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتْ: يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، قَالَ: فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قَالَتْ: يَوْمُ الِاثْنَيْنِ قَالَ: أَرْجُو فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّيْلِ، فَنَظَرَ إِلَى ثَوْبٍ عَلَيْهِ كَانَ يُمَرَّضُ فِيهِ بِهِ رَدْعٌ مِنْ زَعْفَرَانٍ، فَقَالَ: اغْسِلُوا ثَوْبِي هَذَا وَزِيدُوا عَلَيْهِ ثَوْبَيْنِ، فَكَفِّنُونِي فِيهِمَا، قُلْتُ: إِنَّ هَذَا خَلَقٌ، قَالَ: إِنَّ الْحَيَّ أَحَقُّ بِالْجَدِيدِ مِنْ الْمَيِّتِ، إِنَّمَا هُوَ لِلْمُهْلَةِ، فَلَمْ يُتَوَفَّ حَتَّى أَمْسَى مِنْ لَيْلَةِ الثُّلَاثَاءِ، وَدُفِنَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ.

ص: 252

قَوْلُهُ: (بَابُ مَوْتِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: تَعَيُّنُ وَقْتِ الْمَوْتِ لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهِ اخْتِيَارٌ، لَكِنْ فِي التَّسَبُّبِ فِي حُصُولِهِ مَدْخَلٌ كَالرَّغْبَةِ إِلَى اللَّهِ لِقَصْدِ التَّبَرُّكِ، فَمَنْ لَمْ تَحْصُلْ لَهُ الْإِجَابَةُ أُثِيبَ عَلَى اعْتِقَادِهِ. وَكَأَنَّ الْخَبَرَ الَّذِي وَرَدَ فِي فَضْلِ الْمَوْتِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، فَاقْتَصَرَ عَلَى مَا وَافَقَ شَرْطَهُ، وَأَشَارَ إِلَى تَرْجِيحِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا: مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، أَوْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ إِلَّا وَقَاهُ اللَّهُ فِتْنَةَ الْقَبْرِ. وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ نَحْوَهُ، وَإِسْنَادُهُ أَضْعَفُ.

قَوْلُهُ: (قَالَتْ عَائِشَةُ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ) تَعْنِي أَبَاهَا، زَادَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: فَرَأَيْتُ بِهِ الْمَوْتَ، فَقُلْتُ: هَيْجٌ هَيْجٌ

مَنْ لَا يَزَالُ دَمْعُهُ مُقَنَّعًا

فَإِنَّهُ فِي مَرَّةٍ مَدْفُوقُ

فَقَالَ: لَا تَقُولِي هَذَا، وَلَكِنْ قُولِي:{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} الْآيَةَ - ثُمَّ قَالَ - فِي أَيِّ يَوْمٍ. الْحَدِيثَ. وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ أَخْرَجَهَا ابْنُ سَعْدٍ مُفْرَدَةً عَنْ أَبِي سَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ. وَقَوْلُهَا: هَيْجٌ بِالْجِيمِ، حِكَايَةَ بُكَائِهَا.

قَوْلُهُ: (فِي كَمْ كَفَّنْتُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم؟) أَيْ: كَمْ ثَوْبًا كَفَّنْتُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ؟ وَقَوْلُهُ: فِي كَمْ مَعْمُولٌ مُقَدَّمٌ لِكَفَّنْتُمْ، قِيلَ: ذَكَرَ لَهَا أَبُو بَكْرٍ ذَلِكَ بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ تَوْطِئَةً لَهَا لِلصَّبْرِ عَلَى فَقْدِهِ، وَاسْتِنْطَاقًا لَهَا بِمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ يَعْظُمُ عَلَيْهَا ذِكْرُهُ، لِمَا فِي بُدَاءَتِهِ لَهَا بِذَلِكَ مِنْ إِدْخَالِ الْغَمِّ الْعَظِيمِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ أَبُو بَكْرٍ نَسِيَ مَا سَأَلَ عَنْهُ مَعَ قُرْبِ الْعَهْدِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ عَنْ قَدْرِ الْكَفَنِ عَلَى حَقِيقَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْ ذَلِكَ لِاشْتِغَالِهِ بِأَمْرِ الْبَيْعَةِ. وَأَمَّا تَعْيِينُ الْيَوْمِ فَنِسْيَانُهُ أَيْضًا مُحْتَمَلٌ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم دُفِنَ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَحْصُلَ التَّرَدُّدُ: هَلْ مَاتَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ أَوِ الثُّلَاثَاءِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْكَفَنِ فِي مَوْضِعِهِ.

قَوْلُهُ: (قُلْتُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ) بِالنَّصْبِ أَيْ: فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ، وَقَوْلُهَا بَعْدَ ذَلِكَ قُلْتُ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ بِالرَّفْعِ أَيْ هَذَا يَوْمُ الِاثْنَيْنِ.

قَوْلُهُ: (أَرْجُو فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّيْلِ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي: اللَّيْلَةَ وَلِابْنِ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: أَوَّلُ بَدْءِ مَرَضِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ اغْتَسَلَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَكَانَ يَوْمًا بَارِدًا، فَحُمَّ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَمَاتَ مَسَاءَ لَيْلَةِ الثُّلَاثَاءِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ. وَأَشَارَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ إِلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي تَأَخُّرِ وَفَاتِهِ عَنْ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ ذَلِكَ وَيُرَغِّبُ فِيهِ؛ لِكَوْنِهِ قَامَ فِي الْأَمْرِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَاسَبَ أَنْ تَكُونَ وَفَاتُهُ مُتَأَخِّرَةً عَنِ الْوَقْتِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (بِهِ رَدْعٌ) بِسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا عَيْنٌ مُهْمَلَةٌ، أَيْ: لَطْخٌ لَمْ يَعُمَّهُ كُلَّهُ.

قَوْلُهُ: (وَزِيدُوا عَلَيْهِ ثَوْبَيْنِ) زَادَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامٍ جَدِيدَيْنِ.

قَوْلُهُ: (فَكَفِّنُونِي فِيهِمَا) أَيِ: الْمَزِيدَ وَالْمَزِيدَ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ: فِيهَا أَيِ: الثَّلَاثَةَ.

قَوْلُهُ: (خَلَقٌ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَاللَّامِ، أَيْ: غَيْرُ جَدِيدٍ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ: أَلَا نَجْعَلُهَا جُدُدًا كُلَّهَا؟ قَالَ: لَا. وَظَاهِرُهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يَرَى عَدَمَ الْمُغَالَاةِ فِي الْأَكْفَانِ. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنَّمَا هُوَ لِلْمُهْلَةِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا: لَا تُغَالُوا فِي الْكَفَنِ؛ فَإِنَّهُ يُسْلَبُ سَرِيعًا. وَلَا يُعَارِضُهُ حَدِيثُ جَابِرٍ فِي الْأَمْرِ بِتَحْسِينِ الْكَفَنِ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ؛ فَإِنَّهُ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِحَمْلِ التَّحْسِينِ عَلَى الصِّفَةِ، وَحَمْلِ الْمُغَالَاةِ عَلَى الثَّمَنِ. وَقِيلَ: التَّحْسِينُ حَقُّ الْمَيِّتِ، فَإِذَا أَوْصَى بِتَرْكِهِ اتُّبِعَ كَمَا فَعَلَ الصِّدِّيقُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اخْتَارَ ذَلِكَ الثَّوْبَ بِعَيْنِهِ لِمَعْنًى فِيهِ مِنَ التَّبَرُّكِ بِهِ، لِكَوْنِهِ صَارَ إِلَيْهِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَوْ لِكَوْنِهِ كَانَ جَاهَدَ فِيهِ أَوْ تَعَبَّدَ فِيهِ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَفِّنُونِي فِي ثَوْبَيَّ اللَّذَيْنِ كُنْتُ أُصَلِّي فِيهِمَا.

ص: 253

قَوْلُهُ: (إِنَّمَا هُوَ) أَيِ: الْكَفَنُ.

قَوْلُهُ: (لِلْمُهْلَةِ) قَالَ عِيَاضٌ: رُوِيَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِهَا وَكَسْرِهَا. قُلْتُ: جَزَمَ بِهِ الْخَلِيلُ. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: هُوَ بِالْكَسْرِ: الصَّدِيدُ، وَبِالْفَتْحِ: التَّمَهُّلُ، وَبِالضَّمِّ: عَكَرُ الزَّيْتِ. وَالْمُرَادُ هُنَا الصَّدِيدُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: إِنَّمَا هُوَ أَيِ: الْجَدِيدُ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْمُهْلَةِ عَلَى هَذَا التَّمَهُّلِ، أَيْ إِنَّ الْجَدِيدَ لِمَنْ يُرِيدُ الْبَقَاءَ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: كُفِّنَ أَبُو بَكْرٍ فِي رَبْطَةٍ بَيْضَاءَ، وَرَبْطَةٍ مُمَصَّرَةٍ، وَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ لِمَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْفِهِ وَفِيهِ. أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ. وَلَهُ عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: إِنَّمَا هُوَ لِلْمَهْلِ وَالتُّرَابِ. وَضَبَطَ الْأَصْمَعِيُّ هَذِهِ بِالْفَتْحِ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُ التَّكْفِينِ فِي الثِّيَابِ الْبِيضِ، وَتَثْلِيثِ الْكَفَنِ، وَطَلَبِ الْمُوَافَقَةِ فِيمَا وَقَعَ لِلْأَكَابِرِ تَبَرُّكًا بِذَلِكَ

(1)

. وَفِيهِ جَوَازُ التَّكْفِينِ فِي الثِّيَابِ الْمَغْسُولَةِ، وَإِيثَارِ الْحَيِّ بِالْجَدِيدِ، وَالدَّفْنِ بِاللَّيْلِ، وَفَضْلُ أَبِي بَكْرٍ، وَصِحَّةُ فِرَاسَتِهِ، وَثَبَاتُهُ عِنْدَ وَفَاتِهِ. وَفِيهِ أَخْذُ الْمَرْءِ الْعِلْمَ عَمَّنْ دُونَهُ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: فِيهِ أَنَّ التَّكْفِينَ فِي الثَّوْبِ الْجَدِيدِ وَالْخَلَقِ سَوَاءٌ. وَتُعُقِّبَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أَبُو بَكْرٍ اخْتَارَهُ لِمَعْنًى فِيهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى الْمُسَاوَاةِ.

‌95 - بَاب مَوْتِ الْفُجَاءَةِ الْبَغْتَةِ

1388 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي هِشَامُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، فَهَلْ لَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ.

[الحديث 1388 - طرفه في: 2760]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَوْتِ الْفُجَاءَةِ، الْبَغْتَةِ) قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: هُوَ مَضْبُوطٌ بِالْكَسْرِ عَلَى الْبَدَلِ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هِيَ الْبَغْتَةُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: بَغْتَةٌ. وَالْفُجَاءَةُ بِضَمِّ الْفَاءِ، وَبَعْدَ الْجِيمِ مَدٌّ ثُمَّ هَمْزٌ، وَيُرْوَى بِفَتْحٍ ثُمَّ سُكُونٍ بِغَيْرِ مَدٍّ، وَهِيَ الْهُجُومُ عَلَى مَنْ لَمْ يَشْعُرْ بِهِ. وَمَوْتُ الْفَجْأَةِ وُقُوعُهُ بِغَيْرِ سَبَبٍ مِنْ مَرَضٍ وَغَيْرِهِ، قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: مَقْصُودُ الْمُصَنِّفِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ كَرَاهِيَتُهُ لَمَّا أَخْبَرَهُ الرَّجُلُ بِأَنَّ أُمَّهُ افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَأَشَارَ إِلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِلَفْظِ: مَوْتُ الْفَجْأَةِ أَخْذَةُ أَسَفٍ. وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ، فَجَرَى عَلَى عَادَتِهِ فِي التَّرْجَمَةِ بِمَا لَمْ يُوَافِقْ شَرْطَهُ، وَإِدْخَالُ مَا يُومِئُ إِلَى ذَلِكَ وَلَوْ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ. انْتَهَى. وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ بْنِ خَالِدٍ السُّلَمِيِّ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، إِلَّا أَنَّ رَاوِيهِ رَفَعَهُ مَرَّةً وَوَقَفَهُ أُخْرَى. وَقَوْلُهُ: أَسَفٌ أَيْ: غَضَبٌ، وَزْنًا وَمَعْنًى، وَرُوِيَ بِوَزْنِ فَاعِلٍ أَيْ غَضْبَانَ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِجِدَارٍ مَائِلٍ فَأَسْرَعَ، وَقَالَ: أَكْرَهُ مَوْتَ الْفَوَاتِ. قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وَكَانَ ذَلِكَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - لِمَا فِي مَوْتِ الْفَجْأَةِ مِنْ خَوْفِ حِرْمَانِ الْوَصِيَّةِ، وَتَرْكِ الِاسْتِعْدَادِ لِلْمَعَادِ بِالتَّوْبَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.

وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْمَوْتِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ نَحْوَ حَدِيثِ عُبَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، وَزَادَ فِيهِ: الْمَحْرُومُ مَنْ حُرِمَ وَصِيَّتَهُ. انْتَهَى. وَفِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ: مَوْتُ الْفَجْأَةِ رَاحَةٌ لِلْمُؤْمِنِ، وَأَسَفٌ عَلَى الْفَاجِرِ.

(1)

هذا فيه نظر. والصواب أن ذلك غير مشروع إلا بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الله سبحانه شرع لنا التأسي به، وأما غيره فيخطيء ويصيب. وسبق في هذا المعنى حواشي في المجلد الأول والثاني وأوائل هذا الجزء، فراجعها إن شئت. والله أعلم

ص: 254

وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ لَعَلَّ الْبُخَارِيَّ أَرَادَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ أَنَّ مَنْ مَاتَ فَجْأَةً فَلْيَسْتَدْرِكْ وَلَدُهُ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ مَا أَمْكَنَهُ مِمَّا يَقْبَلُ النِّيَابَةَ، كَمَا وَقَعَ حَدِيثُ الْبَابِ. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ كَرَاهَةُ مَوْتِ الْفَجْأَةِ، وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ عَنْ بَعْضِ الْقُدَمَاءِ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مَاتُوا كَذَلِكَ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ مَحْبُوبٌ لِلْمُرَاقِبِينَ. قُلْتُ: وَبِذَلِكَ يَجْتَمِعُ الْقَوْلَانِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) أَيِ: ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ الْمَدَنِيُّ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ رَجُلًا) هُوَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَاسْمُ أُمِّهِ عَمْرَةُ، وَسَيَأْتِي حَدِيثُهُ وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْوَصَايَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (افْتُلِتَتْ) بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ وَكَسْرِ اللَّامِ؛ أَيْ: سُلِبَتْ، عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، يُقَالُ: افْتُلِتَ فُلَانٌ، أَيْ: مَاتَ فَجْأَةً، وَافْتُلِتَتْ نَفْسُهُ كَذَلِكَ، وَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ بِفَتْحِ السِّينِ، إِمَّا عَلَى التَّمْيِيزِ، وَإِمَّا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَالْفَلْتَةُ وَالِافْتِلَاتُ مَا وَقَعَ بَغْتَةً مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ، وَذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ بِالْقَافِ وَتَقْدِيمِ الْمُثَنَّاةِ، وَقَالَ: هِيَ كَلِمَةٌ تُقَالُ لِمَنْ قَتَلَهُ الْحُبُّ، وَلِمَنْ مَاتَ فَجْأَةً، وَالْمَشْهُورُ فِي الرِّوَايَةِ بِالْفَاءِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌96 - بَاب مَا جَاءَ فِي قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ رضي الله عنهما

{فَأَقْبَرَهُ} أَقْبَرْتُ الرَّجُلَ أُقْبِرُهُ إِذَا جَعَلْتَ لَهُ قَبْرًا، وَقَبَرْتُهُ: دَفَنْتُهُ

{كِفَاتًا} يَكُونُونَ فِيهَا أَحْيَاءً، وَيُدْفَنُونَ فِيهَا أَمْوَاتًا

1389 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ، عَنْ هِشَامٍ. وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مَرْوَانَ يَحْيَى بْنُ أَبِي زَكَرِيَّاءَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيَتَعَذَّرُ فِي مَرَضِهِ أَيْنَ أَنَا الْيَوْمَ؟ أَيْنَ أَنَا غَدًا؟ اسْتِبْطَاءً لِيَوْمِ عَائِشَةَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمِي قَبَضَهُ اللَّهُ بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، وَدُفِنَ فِي بَيْتِي.

1390 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ هِلَالٍ هُوَ الْوَزَّانُ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ لَوْلَا ذَلِكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ غَيْرَ أَنَّهُ خَشِيَ أَوْ خُشِيَ أَنَّ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا"

وَعَنْ هِلَالٍ قَالَ كَنَّانِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَلَمْ يُولَدْ لِي

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ سُفْيَانَ التَّمَّارِ أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ رَأَى قَبْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُسَنَّمًا

حَدَّثَنَا: فَرْوَةُ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ لَمَّا سَقَطَ عَلَيْهِمْ الْحَائِطُ فِي زَمَانِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَخَذُوا فِي بِنَائِهِ فَبَدَتْ لَهُمْ قَدَمٌ فَفَزِعُوا وَظَنُّوا أَنَّهَا قَدَمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَمَا وَجَدُوا أَحَدًا يَعْلَمُ ذَلِكَ حَتَّى قَالَ لَهُمْ عُرْوَةُ لَا وَاللَّهِ مَا هِيَ قَدَمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَا هِيَ إِلاَّ قَدَمُ عُمَرَ رضي الله عنه

1391 -

وَعَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا أَوْصَتْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما لَا تَدْفِنِّي مَعَهُمْ وَادْفِنِّي مَعَ صَوَاحِبِي بِالْبَقِيعِ لَا أُزَكَّى بِهِ أَبَدًا

[الحديث 1391 - طرفه في: 7327]

1391 -

وَعَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا أَوْصَتْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما: لَا تَدْفِنِّي مَعَهُمْ، وَادْفِنِّي مَعَ صَوَاحِبِي بِالْبَقِيعِ؛ لَا أُزَكَّى بِهِ أَبَدًا.

وَعَنْ هِلَالٍ قَالَ: كَنَّانِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَلَمْ يُولَدْ لِي.

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ سُفْيَانَ التَّمَّارِ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ رَأَى قَبْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُسَنَّمًا.

حَدَّثَنَا فَرْوَةُ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ لَمَّا سَقَطَ عَلَيْهِمْ الْحَائِطُ فِي زَمَانِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَخَذُوا فِي بِنَائِهِ، فَبَدَتْ لَهُمْ قَدَمٌ فَفَزِعُوا وَظَنُّوا أَنَّهَا قَدَمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَمَا وَجَدُوا أَحَدًا يَعْلَمُ ذَلِكَ حَتَّى قَالَ لَهُمْ عُرْوَةُ: لَا وَاللَّهِ مَا هِيَ قَدَمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَا هِيَ إِلَّا قَدَمُ عُمَرَ رضي الله عنه.

ص: 255

1392 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الأَوْدِيِّ قَالَ "رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ اذْهَبْ إِلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رضي الله عنها فَقُلْ يَقْرَأُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَيْكِ السَّلَامَ ثُمَّ سَلْهَا أَنْ أُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيَّ قَالَتْ كُنْتُ أُرِيدُهُ لِنَفْسِي فَلأوثِرَنَّهُ الْيَوْمَ عَلَى نَفْسِي فَلَمَّا أَقْبَلَ قَالَ لَهُ مَا لَدَيْكَ قَالَ أَذِنَتْ لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ مَا كَانَ شَيْءٌ أَهَمَّ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ الْمَضْجَعِ فَإِذَا قُبِضْتُ فَاحْمِلُونِي ثُمَّ سَلِّمُوا ثُمَّ قُلْ يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَإِنْ أَذِنَتْ لِي فَادْفِنُونِي وَإِلَا فَرُدُّونِي إِلَى مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ إِنِّي لَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَحَقَّ بِهَذَا الأَمْرِ مِنْ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ فَمَنْ اسْتَخْلَفُوا بَعْدِي فَهُوَ الْخَلِيفَةُ فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا فَسَمَّى عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ وَوَلَجَ عَلَيْهِ شَابٌّ مِنْ الأَنْصَارِ فَقَالَ أَبْشِرْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِبُشْرَى اللَّهِ كَانَ لَكَ مِنْ الْقَدَمِ فِي الإِسْلَامِ مَا قَدْ عَلِمْتَ ثُمَّ اسْتُخْلِفْتَ فَعَدَلْتَ ثُمَّ الشَّهَادَةُ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ فَقَالَ لَيْتَنِي يَا ابْنَ أَخِي وَذَلِكَ كَفَافًا لَا عَلَيَّ وَلَا لِي أُوصِي الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِي بِالْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ خَيْرًا أَنْ يَعْرِفَ لَهُمْ حَقَّهُمْ وَأَنْ يَحْفَظَ لَهُمْ حُرْمَتَهُمْ وَأُوصِيهِ بِالأَنْصَارِ خَيْرًا الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ أَنْ يُقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَيُعْفَى عَنْ مُسِيئِهِمْ وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ اللَّهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ وَأَنْ لَا يُكَلَّفُوا فَوْقَ طَاقَتِهِمْ"

[الحديث 1392 - أطرافه في: 3052، 3162، 3700، 4888، 7207]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا جَاءَ فِي قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ) قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: قَالَ بَعْضُهُمْ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ: قَبْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. الْمَصْدَرُ مِنْ قَبَرْتُهُ قَبْرًا، وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّهُ أَرَادَ الِاسْمَ، وَمَقْصُودُهُ بَيَانُ صِفَتِهِ مِنْ كَوْنِهِ مُسَنَّمًا أَوْ غَيْرَ مُسَنَّمٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ.

قَوْلُهُ: (قَوْلُ اللَّهِ عز وجل: {فَأَقْبَرَهُ} يُرِيدُ تَفْسِيرَ الْآيَةِ: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} ؛ أَيْ: جَعَلَهُ مِمَّنْ يُقْبَرُ، لَا مِمَّنْ يُلْقَى حَتَّى تَأْكُلَهُ الْكِلَابُ مَثَلًا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي الْمَجَازِ أَقْبَرَهُ أَمَرَ بِأَنْ يُقْبَرَ.

قَوْلُهُ: (أَقْبَرْتُ الرَّجُلَ إِذَا جَعَلْتُ لَهُ قَبْرًا، وَقَبَرْتُهُ: دَفَنْتُهُ) قَالَ يَحْيَى الْفَرَّاءُ فِي الْمَعَانِي: يُقَالُ: أَقْبَرَهُ جَعَلَهُ مَقْبُورًا، وَقَبَرَهُ دَفَنَهُ.

قَوْلُهُ: (كِفَاتًا إِلَخْ) رَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، قَالَ فِي قَوْلِهِ:{أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} قَالَ: يَكُونُونَ فِيهَا مَا أَرَادُوا ثُمَّ يُدْفَنُونَ فِيهَا.

ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ أَحَادِيثَ:

أَوَّلَهَا حَدِيثَ عَائِشَةَ: إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيَتَعَذَّرُ فِي مَرَضِهِ. وَقَدْ ضُبِطَ فِي رِوَايَتِنَا بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ؛ أَيْ: يَتَمَنَّعُ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ فِي رِوَايَةِ الْقَابِسِيِّ بِالْقَافِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، أَيْ: يَسْأَلُ عَنْ قَدْرِ مَا بَقِيَ إِلَى يَوْمِهَا؛ لِأَنَّ الْمَرِيضَ يَجِدُ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِهِ مِنَ الْأُنْسِ مَا لَا يَجِدُ عِنْدَ بَعْضٍ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ وَالَّذِي بَعْدَهُ فِي بَابِ الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ آخِرَ الْمَغَازِي، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْمَقْصُودُ مِنَ إِيرَادِهِمَا هُنَا بَيَانُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم دُفِنَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ.

وتَقَدَّمَ ثَانِيهِمَا فِي بَابِ مَا يُكْرَهُ مِنَ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ عَلَى الْمَسَاجِدِ مِنْ طَرِيقِ هِلَالٍ الْمَذْكُورِ، وَفِي بَابِ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ عَلَى الْقَبْرِ. مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَفِي أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (وَعَنْ هِلَالٍ) يَعْنِي بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ إِلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (كَنَّانِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ) أَيِ: الَّذِي

ص: 256

رَوَى عَنْهُ ذَلِكَ الْحَدِيثَ. وَاخْتُلِفَ فِي كُنْيَةِ هِلَالٍ: فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ أَبُو عَمْرٍو، وَقِيلَ: أَبُو أُمَيَّةَ، وَقِيلَ: أَبُو الْجَهْمِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ سُفْيَانَ التَّمَّارِ) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: ابْنُ زِيَادٍ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ غَيْرُهُ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا عُصْفُرِيٌّ كُوفِيٌّ. وَهُوَ مِنْ كِبَارِ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ، وَقَدْ لَحِقَ عَصْرَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ أَرَ لَهُ رِوَايَةً عَنْ صَحَابِيٍّ.

قَوْلُهُ: (مُسَنَّمًا) أَيْ: مُرْتَفِعًا، زَادَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ: وَقَبْرُ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ كَذَلِكَ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ تَسْنِيمُ الْقُبُورِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، وَالْمُزَنِيِّ وَكَثِيرٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَادَّعَى الْقَاضِي حُسَيْنٌ اتِّفَاقَ الْأَصْحَابِ عَلَيْهِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ جَمَاعَةً مِنْ قُدَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ اسْتَحَبُّوا التَّسْطِيحَ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَبِهِ جَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ وَآخَرُونَ. وَقَوْلُ سُفْيَانَ التَّمَّارِ لَا حُجَّةَ فِيهِ كَمَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّ قَبْرَهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ فِي الْأَوَّلِ مُسَنَّمًا، فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ، فَقُلْتُ: يَا أُمَّةُ، اكْشِفِي لِي عَنْ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبَيْهِ، فَكَشَفَتْ لَهُ عَنْ ثَلَاثَةِ قُبُورٍ لَا مُشْرِفَةٍ وَلَا لَاطِئَةٍ، مَبْطُوحَةٍ بِبَطْحَاءِ الْعَرْصَةِ الْحَمْرَاءِ. زَادَ الْحَاكِمُ: فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُقَدَّمًا، وَأَبَا بَكْرٍ رَأْسُهُ بَيْنَ كَتِفَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَعُمَرُ رَأْسُهُ عِنْدَ رِجْلَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَهَذَا كَانَ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ، فَكَأَنَّهَا كَانَتْ فِي الْأَوَّلِ مُسَطَّحَةً، ثُمَّ لَمَّا بُنِيَ جِدَارُ الْقَبْرِ فِي إِمَارَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَلَى الْمَدِينَةِ مِنْ قِبَلِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ صَيَّرُوهَا مُرْتَفِعَةً.

وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرٍ الْآجُرِّيُّ فِي كِتَابِ صِفَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ عِيسَى ابْنِ بِنْتِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ غُنَيْمِ بْنِ بِسْطَامٍ الْمَدِينِيِّ، قَالَ: رَأَيْتُ قَبْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي إِمَارَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَرَأَيْتُهُ مُرْتَفِعًا نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِ أَصَابِعَ، وَرَأَيْتُ قَبْرَ أَبِي بَكْرٍ وَرَاءَ قَبْرِهِ، وَرَأَيْتُ قَبْرَ عُمَرَ وَرَاءَ قَبْرِ أَبِي بَكْرٍ أَسْفَلَ مِنْهُ. ثُمَّ الِاخْتِلَافُ فِي ذَلِكَ فِي أَيِّهِمَا أَفْضَلُ لَا فِي أَصْلِ الْجَوَازِ، وَرَجَّحَ الْمُزَنِيُّ التَّسْنِيمَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى بِأَنَّ الْمُسَطَّحَ يُشْبِهُ مَا يُصْنَعُ لِلْجُلُوسِ بِخِلَافِ الْمُسَنَّمِ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ قُدَامَةَ بِأَنَّهُ يُشْبِهُ أَبْنِيَةَ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَهُوَ مِنْ شِعَارِ أَهْلِ الْبِدَعِ فَكَانَ التَّسْنِيمُ أَوْلَى. وَيُرَجِّحُ التَّسْطِيحَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ أَنَّهُ أَمَرَ بِقَبْرٍ فَسُوِّيَ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ بِتَسْوِيَتِهَا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا فَرْوَةُ) هُوَ ابْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ، وَعَلِيٌّ هُوَ ابْنُ مُسْهِرٍ، وَثَبَتَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ.

قَوْلُهُ: (لَمَّا سَقَطَ عَلَيْهِمُ الْحَائِطُ) أَيْ: حَائِطُ حُجْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَفِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ عَنْهُمْ: وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْآجُرِّيُّ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي قَالَ: كَانَ النَّاسُ يُصَلُّونَ إِلَى الْقَبْرِ فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَرُفِعَ حَتَّى لَا يُصَلِّيَ إِلَيْهِ أَحَدٌ، فَلَمَّا هُدِمَ بَدَتْ قَدَمٌ بِسَاقٍ وَرُكْبَةٍ، فَفَزِعَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَأَتَاهُ عُرْوَةُ، فَقَالَ: هَذَا سَاقُ عُمَرَ وَرُكْبَتُهُ، فَسُرِّيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَرَوَى الْآجُرِّيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ، عَنْ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ، قَالَ: كَتَبَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ - وَكَانَ قَدِ اشْتَرَى حُجَرَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنِ اهْدِمْهَا وَوَسِّعْ بِهَا الْمَسْجِدَ، فَقَعَدَ عُمَرُ فِي نَاحِيَةٍ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَدْمِهَا، فَمَا رَأَيْتُهُ بَاكِيًا أَكْثَرَ مِنْ يَوْمَئِذٍ. ثُمَّ بَنَاهُ كَمَا أَرَادَ. فَلَمَّا أَنْ بَنَى الْبَيْتَ عَلَى الْقَبْرِ وَهَدَمَ الْبَيْتَ الْأَوَّلَ ظَهَرَتِ الْقُبُورُ الثَّلَاثَةُ، وَكَانَ الرَّمْلُ الَّذِي عَلَيْهَا قَدِ انْهَارَ، فَفَزِعَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَرَادَ أَنْ يَقُومَ فَيُسَوِّيَهَا بِنَفْسِهِ، فَقُلْتُ لَهُ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ، إِنَّكَ إِنْ قُمْتَ قَامَ النَّاسُ مَعَكَ، فَلَوْ أَمَرْتَ رَجُلًا أَنْ يُصْلِحَهَا، وَرَجَوْتُ أَنَّهُ يَأْمُرُنِي بِذَلِكَ، فَقَالَ: يَا مُزَاحِمُ - يَعْنِي مَوْلَاهُ - قُمْ فَأَصْلِحْهَا. قَالَ رَجَاءٌ: وَكَانَ قَبْرُ أَبِي بَكْرٍ عِنْدَ وَسَطِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَعُمَرَ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ، رَأْسُهُ عِنْدَ وَسَطِهِ.

وَهَذَا ظَاهِرُهُ يُخَالِفُ حَدِيثَ الْقَاسِمِ، فَإِنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ، وَإِلَّا فَحَدِيثُ الْقَاسِمِ أَصَحُّ. وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ: أَبُو بَكْرٍ عَنْ يَمِينِهِ، وَعُمَرُ عَنْ يَسَارِهِ. فَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ، وَيُمْكِنُ تَأْوِيلُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 257

قَوْلُهُ: (وَعَنْ هِشَامٍ) هُوَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الِاعْتِصَامِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ هِشَامٍ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدَةَ، عَنْ هِشَامٍ، وَزَادَ فِيهِ: وَكَانَ فِي بَيْتِهَا مَوْضِعُ قَبْرٍ.

قَوْلُهُ: (لَا أُزَكَّى) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْكَافِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، أَيْ: لَا يُثْنَى عَلَيَّ بِسَبَبِهِ، وَيُجْعَلُ لِي بِذَلِكَ مَزِيَّةٌ وَفَضْلٌ وَأَنَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. يَحْتَمِلُ أَنْ لَا أَكُونَ كَذَلِكَ، وَهَذَا مِنْهَا عَلَى سَبِيلِ التَّوَاضُعِ وَهَضْمِ النَّفْسِ بِخِلَافِ قَوْلِهَا لِعُمَرَ: كُنْتُ أُرِيدُهُ لِنَفْسِي، فَكَأَنَّ اجْتِهَادَهَا فِي ذَلِكَ تَغَيَّرَ، أَوْ لَمَّا قَالَتْ ذَلِكَ لِعُمَرَ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ لَهَا مَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ الْجَمَلِ فَاسْتَحْيَتْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ تُدْفَنَ هُنَاكَ، وَقَدْ قَالَ عَنْهَا عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَهُوَ أَحَدُ مَنْ حَارَبَهَا يَوْمَئِذٍ: إِنَّهَا زَوْجَةُ نَبِيِّكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي كِتَابِ الْفِتَنِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ كَمَا قَالَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.

قَوْلُهُ: (رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ سَيَأْتِي فِي مَنَاقِبِ عُثْمَانَ، وَزَادَ فِيهِ: وَقُلْ: يَقْرَأُ عَلَيْكِ عُمَرُ السَّلَامَ، وَلَا تَقُلْ: أَمِيُرُ الْمُؤْمِنِينَ وَفِي أَوَّلِهِ قَدْرُ وَرَقَةٍ فِي سِيَاقِ مَقْتَلِهِ، وَفِي آخِرِهِ قَدْرُ صَفْحَةٍ فِي قِصَّةِ بَيْعَةِ عُثْمَانَ. قَالَ ابْنُ التِّينِ. قَوْلُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ عُمَرَ: كُنْتُ أُرِيدُهُ لِنَفْسِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَا يَسَعُ إِلَّا مَوْضِعَ قَبْرٍ وَاحِدٍ، فَهُوَ يُغَايِرُ قَوْلَهَا عِنْدَ وَفَاتِهَا: لَا تَدْفِنِّي عِنْدَهُمْ؛ فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ بَقِيَ مِنَ الْبَيْتِ مَوْضِعٌ لِلدَّفْنِ. وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا: أَنَّهَا كَانَتْ أَوَّلًا تَظُنُّ أَنَّهُ لَا يَسَعُ إِلَّا قَبْرًا وَاحِدًا، فَلَمَّا دُفِنَ ظَهَرَ لَهَا أَنَّ هُنَاكَ وُسْعًا لِقَبْرٍ آخَرَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: إِنَّمَا اسْتَأْذَنَهَا عُمَرُ؛ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ كَانَ بَيْتَهَا، وَكَانَ لَهَا فِيهِ حَقٌّ، وَكَانَ لَهَا أَنْ تُؤْثِرَ بِهِ عَلَى نَفْسِهَا، فَآثَرَتْ عُمَرَ. وَفِيهِ الْحِرْصُ عَلَى مُجَاوَرَةِ الصَّالِحِينَ فِي الْقُبُورِ طَمَعًا فِي إِصَابَةِ الرَّحْمَةِ إِذَا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ، وَفِي دُعَاءِ مَنْ يَزُورُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ. وَفِي قَوْلِ عُمَرَ: قُلْ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ، فَإِنْ أَذِنَتْ. أَنَّ مَنْ وَعَدَ عِدَةً جَازَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا، وَلَا يُلْزَمُ بِالْوَفَاءِ. وَفِيهِ أَنَّ مَنْ بَعَثَ رَسُولًا فِي حَاجَةٍ مُهِمَّةٍ أَنَّ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ الرَّسُولَ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَيْهِ، وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ مِنْ قِلَّةِ الصَّبْرِ، بَلْ مِنَ الْحِرْصِ عَلَى الْخَيْرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌97 - بَاب مَا يُنْهَى مِنْ سَبِّ الْأَمْوَاتِ

1393 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا. رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ الْأَعْمَشِ، تَابَعَهُ عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ وَابْنُ عَرْعَرَةَ وَابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ.

[الحديث 1393 - طرفه في: 6516]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُنْهَى مِنْ سَبِّ الْأَمْوَاتِ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: لَفْظُ التَّرْجَمَةِ يُشْعِرُ بِانْقِسَامِ السَّبِّ إِلَى مَنْهِيٍّ وَغَيْرِ مَنْهِيٍّ، وَلَفْظُ الْخَبَرِ مَضْمُونُهُ النَّهْيُ عَنِ السَّبِّ مُطْلَقًا. وَالْجَوَابُ أَنَّ عُمُومَهُ مَخْصُوصٌ بِحَدِيثِ أَنَسٍ السَّابِقِ، حَيْثُ قَالَ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ثَنَائِهِمْ بِالْخَيْرِ وَبِالشَّرِّ: وَجَبَتْ، وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ. وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ اللَّامَ فِي الْأَمْوَاتِ عَهْدِيَّةٌ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ مِمَّا يُتَقَرَّبُ إِلَى اللَّهِ بِسَبِّهِمْ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ وَجَبَتْ يَحْتَمِلُ أَجْوِبَةً، الْأَوَّلَ: أَنَّ الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُ عَنْهُ بِالشَّرِّ كَانَ مُسْتَظْهِرًا بِهِ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ: لَا غِيبَةَ لِفَاسِقٍ، أَوْ كَانَ مُنَافِقًا. ثَانِيَهَا: يُحْمَلُ النَّهْيُ عَلَى مَا بَعْدَ الدَّفْنِ، وَالْجَوَازُ عَلَى مَا قَبْلَهُ؛ لِيَتَّعِظَ بِهِ مَنْ يَسْمَعُهُ. ثَالِثَهَا يَكُونُ النَّهْيُ الْعَامُّ مُتَأَخِّرًا، فَيَكُونُ نَاسِخًا، وَهَذَا ضَعِيفٌ. وَقَالَ ابْنُ رَشِيدٍ مَا مُحَصِّلُهُ: إِنَّ السَّبَّ يَنْقَسِمُ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ، وَفِي حَقِّ

ص: 258

الْمُسْلِمِينَ، أَمَّا الْكَافِرُ فَيُمْنَعُ إِذَا تَأَذَّى بِهِ الْحَيُّ الْمُسْلِمُ، وَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَحَيْثُ تَدْعُو الضَّرُورَةُ إِلَى ذَلِكَ، كَأَنْ يَصِيرَ مِنْ قَبِيلِ الشَّهَادَةِ، وَقَدْ يَجِبُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمَيِّتِ، كَمَنْ عُلِمَ أَنَّهُ أَخَذَ مَالَهُ بِشَهَادَةِ زُورٍ، وَمَاتَ الشَّاهِدُ؛ فَإِنَّ ذِكْرَ ذَلِكَ يَنْفَعُ الْمَيِّتَ إِنْ عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَالَ يُرَدُّ إِلَى صَاحِبِهِ.

قَالَ: وَلِأَجْلِ الْغَفْلَةِ عَنْ هَذَا التَّفْصيلِ ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْبُخَارِيَّ سَهَا عَنْ حَدِيثِ الثَّنَاءِ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَإِنَّمَا قَصَدَ الْبُخَارِيُّ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْجَائِزَ كَانَ عَلَى مَعْنَى الشَّهَادَةِ، وَهَذَا الْمَمْنُوعُ هُوَ عَلَى مَعْنَى السَّبِّ، وَلَمَّا كَانَ الْمَتْنُ قَدْ يُشْعِرُ بِالْعُمُومِ أَتْبَعَهُ بِالتَّرْجَمَةِ الَّتِي بَعْدَهُ. وَتَأَوَّلَ بَعْضُهُمُ التَّرْجَمَةَ الْأُولَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ خَاصَّةً. وَالْوَجْهُ عِنْدِي حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ إِلَّا مَا خَصَّصَهُ الدَّلِيلُ. بَلْ لِقَائِلٍ أَنْ يَمْنَعَ أَنَّ مَا كَانَ عَلَى جِهَةِ الشَّهَادَةِ وَقَصْدِ التَّحْذِيرِ يُسَمَّى سَبًّا فِي اللُّغَةِ. وَقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: سَبُّ الْأَمْوَاتِ يَجْرِي مَجْرَى الْغِيبَةِ، فَإِنْ كَانَ أَغْلَبُ أَحْوَالِ الْمَرْءِ الْخَيْرَ - وَقَدْ تَكُونُ مِنْهُ الْفَل تَةُ - فَالِاغْتِيَابُ لَهُ مَمْنُوعٌ، وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا مُعْلِنًا فَلَا غِيبَةَ لَهُ، فَكَذَلِكَ الْمَيِّتُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَلَى عُمُومِهِ فِيمَا بَعْدَ الدَّفْنِ، وَالْمُبَاحُ ذِكْرُ الرَّجُلِ بِمَا فِيهِ قَبْلَ الدَّفْنِ؛ لِيَتَّعِظَ بِذَلِكَ فُسَّاقُ الْأَحْيَاءِ، فَإِذَا صَارَ إِلَى قَبْرِهِ أُمْسِكَ عَنْهُ لِإِفْضَائِهِ إِلَى مَا قَدَّمَ. وَقَدْ عَمِلَتْ عَائِشَةُ رَاوِيَةُ هَذَا الْحَدِيثِ بِذَلِكَ فِي حَقِّ مَنِ اسْتَحَقَّ عِنْدَهَا اللَّعْنُ، فَكَانَتْ تَلْعَنُهُ وَهُوَ حَيٌّ، فَلَمَّا مَاتَ تَرَكَتْ ذَلِكَ وَنَهَتْ عَنْ لَعْنِهِ، كَمَا سَأَذْكُرُهُ.

قَوْلُهُ: (أَفْضَوْا) أَيْ: وَصَلُوا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى مَنْعِ سَبِّ الْأَمْوَاتِ مُطْلَقًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ عُمُومَهُ مَخْصُوصٌ، وَأَصَحُّ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ: إِنَّ أَمْوَاتَ الْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ يَجُوزُ ذِكْرُ مَسَاوِيهِمْ لِلتَّحْذِيرِ مِنْهُمْ وَالتَّنْفِيرِ عَنْهُمْ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ جَرْحِ الْمَجْرُوحِينَ مِنَ الرُّوَاةِ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا.

قَوْلُهُ: (وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَنَسٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ) أَيْ مُتَابِعَيْنِ لِشُعْبَةَ، وَأَنَسٍ وَالِدِ مُحَمَّدٍ كَالْجَادَّةِ، وَهُوَ كُوفِيٌّ سَكَنَ الدِّينَوَرَ، وَثَّقَهُ أَبُو زُرْعَةَ وَغَيْرُهُ، وَرَوَى عَنْهُ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى الرَّازِيُّ. وَأَمَّا ابْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ فَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ، فَقَالَ: إِنَّهُ صَدُوقٌ، إِلَّا أَنَّهُ يَرْوِي عَنْ قَوْمٍ ضُعَفَاءَ. وَاخْتَلَفَ كَلَامُ غَيْرِهِ فِيهِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الصَّحِيحِ غَيْرُ هَذَا الْمَوْضِعِ الْوَاحِدِ. وَوَقَعَ لَنَا أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِزِيَادَةٍ فِيهِ، أَخْرَجَهُ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي كِتَابِ أَخْبَارِ الْبَصْرَةِ. عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ الرِّفَاعِيِّ عَنْهُ بِهَذَا السَّنَدِ إِلَى مُجَاهِدٍ: إِنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا فَعَلَ يَزِيدُ الْأَرْجِيُّ لَعَنَهُ اللَّهُ؟ قَالُوا: مَاتَ. قَالَتْ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ. قَالُوا: مَا هَذَا؟ فَذَكَرَتِ الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ مَسْرُوقٍ: إِنَّ عَلِيًّا بَعَثَ يَزِيدَ بْنَ قَيْسٍ الْأَرْجِيِّ فِي أَيَّامِ الْجَمَلِ بِرِسَالَةٍ، فَلَمْ تَرُدَّ عَلَيْهِ جَوَابًا، فَبَلَغَهَا أَنَّهُ عَابَ عَلَيْهَا ذَلِكَ فَكَانَتْ تَلْعَنُهُ، ثُمَّ لَمَّا بَلَغَهَا مَوْتُهُ نَهَتْ عَنْ لَعْنِهِ، وَقَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ نَهَانَا عَنْ سَبِّ الْأَمْوَاتِ. وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِالْقِصَّةِ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ) وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الرِّقَاقِ عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (وَمُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ، وَابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) لَمْ أَرَهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَرْعَرَةَ مَوْصُولًا، وَطَرِيقُ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ ذَكَرَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ. وَوَصَلَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، وَهُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ عَنْهُ.

‌98 - بَاب ذِكْرِ شِرَارِ الْمَوْتَى

1394 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ أَبُو لَهَبٍ - عَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ - لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ، فَنَزَلَتْ:{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}

[الحديث 1394 - أطرافه في: 3525، 3526، 4770، 4801، 4971، 4972، 4973]

ص: 259

قَوْلُهُ: (بَابُ ذِكْرِ شِرَارِ الْمَوْتَى) تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ مِنْ شَرْحِ ذَلِكَ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ. وَحَدِيثُ الْبَابِ أَوْرَدَهُ هُنَا مُخْتَصَرًا، وَسَيَأْتِي مُطَوَّلًا مَعَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ الشُّعَرَاءِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَ كِتَابُ الْجَنَائِزِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى مِائَتَيْ حَدِيثٍ وَعَشَرَةِ أَحَادِيثَ، الْمُعَلَّقُ مِنْ ذَلِكَ وَالْمُتَابَعَةُ سِتَّةٌ وَخَمْسُونَ حَدِيثًا، وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ. الْمُكَرَّرُ مِنْ ذَلِكَ فِيهِ وَفِيمَا مَضَى مِائَةُ حَدِيثٍ وَتِسْعَةُ أَحَادِيثَ، وَالْخَالِصُ مِائَةُ حَدِيثٍ وَحَدِيثٍ. وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ حَدِيثًا، وَهِيَ: حَدِيثُ عَائِشَةَ: أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى فَرَسِهِ. وَحَدِيثُ أُمِّ الْعَلَاءِ فِي قِصَّةِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ: أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ، فَأُصِيبَ، وَحَدِيثُهُ: مَا مِنَ النَّاسِ مِنْ مُسْلِمٍ يُتَوَفَّى لَهُ ثَلَاثَةٌ. وَحَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ. وَحَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ بِبُرْدَةٍ مَنْسُوجَةٍ. وَحَدِيثُ أَنَسٍ: شَهِدْنَا بِنْتًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ: إِذَا وُضِعَتِ الْجِنَازَةُ وَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ. وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى الْجِنَازَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ قَتْلَى أُحُدٍ: زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ. وَحَدِيثُهُ فِي قِصَّةِ اسْتِشْهَادِ أَبِيهِ وَدَفْنِهِ، وَحَدِيثُ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ فِي تَحْرِيمِ مَكَّةَ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ الْغُلَامِ الْيَهُودِيِّ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ.

وَقَدْ وَهِمَ الْمِزِّيُّ تَبَعًا لِأَبِي مَسْعُودٍ فِي جَعْلِهِ مِنَ الْمُتَّفِقِ، وَقَدْ تَعَقَّبَهُ الْحُمَيْدِيُّ عَلَى أَبِي مَسْعُودٍ فَأَجَادَ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي يَخْنُقُ نَفْسَهُ كَمَا أَوْضَحْتُهُ فِيمَا مَضَى، وَحَدِيثُ عُمَرَ: أَيُّمَا مُسْلِمٍ شَهِدَ لَهُ أَرْبَعَةٌ بِخَيْرٍ. وَحَدِيثُ بِنْتِ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ فِي التَّعَوُّذِ، وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ لَمَّا تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ، وَحَدِيثُ سَمُرَةَ فِي الرُّؤْيَا بِطُولِهِ، لَكِنْ عِنْدَ مُسْلِمٍ طَرَفٌ يَسِيرٌ مِنْ أَوَّلِهِ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الِاثْنَيْنِ. وَحَدِيثُهَا فِي وَصِيَّتِهَا أَنْ لَا تُدْفَنَ مَعَهُمْ، وَحَدِيثُ عُمَرَ فِي قِصَّةِ وَصِيَّتِهِ عِنْدَ قَتْلِهِ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ: لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ. وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ أَبِي لَهَبٍ. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ الْمَوْقُوفَةِ عَلَى الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ أَثَرًا، مِنْهَا سِتَّةٌ مَوْصُولَةٌ، وَالْبَقِيَّةُ مُعَلَّقَةٌ. وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

ص: 260

بسم الله الرحمن الرحيم

‌24 - كِتَاب الزَّكَاةِ

‌1 - بَاب وُجُوبِ الزَّكَاةِ

وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: حَدَّثَنِي أَبُو سُفْيَانَ رضي الله عنه، فَذَكَرَ حَدِيثَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّلَةِ وَالْعَفَافِ

1395 -

حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ زَكَرِيَّاءَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذًا رضي الله عنه إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ: ادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ، تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ.

[الحديث 1395 - أطرافه في: 1458، 1496، 2448، 4347، 7372]

1396 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنه "أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ قَالَ مَا لَهُ مَا لَهُ وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: أَرَبٌ مَا لَهُ تَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَصِلُ الرَّحِمَ"

وَقَالَ بَهْزٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ وَأَبُوهُ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُمَا سَمِعَا مُوسَى بْنَ طَلْحَةَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ أَخْشَى أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ غَيْرَ مَحْفُوظٍ إِنَّمَا هُوَ عَمْرٌو

[الحديث 1396 - طرفاه في: 5982، 5983]

1397 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ بْنِ حَيَّانَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه "أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ قَالَ تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا فَلَمَّا وَلَّى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا"

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي حَيَّانَ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو زُرْعَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا

1398 -

حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا أَبُو جَمْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما

ص: 261

يَقُولُ قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا الْحَيَّ مِنْ رَبِيعَةَ قَدْ حَالَتْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ كُفَّارُ مُضَرَ وَلَسْنَا نَخْلُصُ إِلَيْكَ إِلاَّ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَمُرْنَا بِشَيْءٍ نَأْخُذُهُ عَنْكَ وَنَدْعُو إِلَيْهِ مَنْ وَرَاءَنَا قَالَ آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ الإِيمَانِ بِاللَّهِ وَشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَعَقَدَ بِيَدِهِ هَكَذَا وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ وَالْمُزَفَّتِ وَقَالَ سُلَيْمَانُ وَأَبُو النُّعْمَانِ عَنْ حَمَّادٍ الإِيمَانِ بِاللَّهِ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ"

1399 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ "لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنْ الْعَرَبِ فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ"

[الحديث 1399 - أطرافه في: 1457، 6924، 7284]

1400 -

"فَقَالَ وَاللَّهِ لَاقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ قَدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ"

[الحديث 1400 - أطرافه في: 1456، 6925، 7285]

قَوْلُهُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم - كِتَابُ الزَّكَاةِ) الْبَسْمَلَةُ ثَابِتَةٌ فِي الْأَصْلِ، وَلِأَكْثَرِ الرُّوَاةِ بَابُ بَدَلَ كِتَابُ، وَسَقَطَ ذَلِكَ لِأَبِي ذَرٍّ فَلَمْ يَقُلْ: بَابٌ وَلَا كِتَابٌ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: كِتَابُ الزَّكَاة - بَابُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ. وَالزَّكَاةُ فِي اللُّغَةِ: النَّمَاءُ، يُقَالُ: زَكَا الزَّرْعُ إِذَا نَمَا، وَتَرِدُ أَيْضًا فِي الْمَالِ، وَتَرِدُ أَيْضًا بِمَعْنَى التَّطْهِيرِ. وَشَرْعًا بِالِاعْتِبَارَيْنِ مَعًا: أَمَّا بِالْأَوَّلِ فَلِأَنَّ إِخْرَاجَهَا سَبَبٌ لِلنَّمَاءِ فِي الْمَالِ، أَوْ بِمَعْنَى أَنَّ الْأَجْرَ بِسَبَبِهَا يَكْثُرُ، أَوْ بِمَعْنَى أَنَّ مُتَعَلِّقَهَا الْأَمْوَالُ ذَاتُ النَّمَاءِ كَالتِّجَارَةِ وَالزِّرَاعَةِ. وَدَلِيلُ الْأَوَّلِ: مَا نَقَصَ مَالٌ مِنْ صَدَقَةٍ. وَلِأَنَّهَا يُضَاعَفُ ثَوَابُهَا كَمَا جَاءَ: إِنَّ اللَّهَ يُرَبِّي الصَّدَقَةَ. وَأَمَّا بِالثَّانِي فَلِأَنَّهَا طُهْرَةٌ لِلنَّفْسِ مِنْ رَذِيلَةِ الْبُخْلِ، وَتَطْهِيرٌ مِنَ الذُّنُوبِ.

وَهِيَ الرُّكْنُ الثَّالِثِ مِنَ الْأَرْكَانِ الَّتِي بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَيْهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: تُطْلَقُ الزَّكَاةُ عَلَى الصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ وَالْمَنْدُوبَةِ وَالنَّفَقَةِ وَالْحَقِّ وَالْعَفْوِ. وَتَعْرِيفُهَا فِي الشَّرْعِ: إِعْطَاءُ جُزْءٍ مِنَ النِّصَابِ الْحَوْلِيِّ إِلَى فَقِيرٍ وَنَحْوِهِ غَيْرِ هَاشِمِيٍّ، وَلَا مُطَّلِبِيٍّ. ثُمَّ لَهَا رُكْنٌ وَهُوَ الْإِخْلَاصُ، وَشَرْطٌ هُوَ السَّبَبُ وَهُوَ مِلْكُ النِّصَابِ الْحَوْلِيِّ، وَشَرْطُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ. وَلَهَا حُكْمٌ وَهُوَ سُقُوطُ الْوَاجِبِ فِي الدُّنْيَا وَحُصُولِ الثَّوَابِ فِي الْأُخْرَى. وَحِكْمَةُ وَهِيَ التَّطْهِيرُ مِنَ الْأَدْنَاسِ وَرَفْعِ الدَّرَجَةِ وَاسْتِرْقَاقُ الْأَحْرَارِ. انْتَهَى. وَهُوَ جَيِّدٌ لَكِنْ فِي شَرْطِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ اخْتِلَافٌ. وَالزَّكَاةُ أَمْرٌ مَقْطُوعٌ بِهِ فِي الشَّرْعِ يُسْتَغْنَى عَنْ تَكَلُّفِ الِاحْتِجَاجِ لَهُ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي فُرُوعِهِ، وَأَمَّا أَصْلُ فَرْضِيَّةِ الزَّكَاةِ فَمَنْ جَحَدَهَا كَفَرَ. وَإِنَّمَا تَرْجَمَ الْمُصَنِّفُ بِذَلِكَ عَلَى عَادَتِهِ فِي إِيرَادِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا وَالْمُخْتَلَفُ

ص: 262

فِيهَا.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُ اللَّهِ) هُوَ بِالرَّفْعِ. قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: هُوَ دَلِيلٌ عَلَى مَا قُلْنَاهُ مِنَ الْوُجُوبِ. ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ سِتَّةَ أَحَادِيثَ: أَوَّلُهَا حَدِيثُ أَبِي سُفْيَانَ - هُوَ ابْنُ حَرْبٍ - الطَّوِيلُ فِي قِصَّةِ هِرَقْلَ، أَوْرَدَهُ هُنَا مُعَلَّقًا، وَاقْتَصَرَ مِنْهُ عَلَى قَوْلِهِ: يَأْمُرُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّلَةِ وَالْعَفَافِ. وَدَلَالَتُهُ عَلَى الْوُجُوبِ ظَاهِرَةٌ.

ثَانِيهَا: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي بَعْثِ مُعَاذٍ إِلَى الْيَمَنِ، وَدَلَالَتُهُ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ أَوْضَحُ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ.

ثَالِثُهَا: حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ فِي سُؤَالِ الرَّجُلِ عَنِ الْعَمَلِ الَّذِي يَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ، وَأُجِيبُ بِأَنْ: تُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصِلَ الرَّحِمَ. وَفِي دَلَالَتِهِ عَلَى الْوُجُوبِ غُمُوضٌ. وَقَدْ أُجِيبَ عَنْهُ بِأَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ سُؤَالَهُ عَنِ الْعَمَلِ الَّذِي يُدْخِلُ الْجَنَّةَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُجَابَ بِالنَّوَافِلِ قَبْلَ الْفَرَائِضِ، فَتُحْمَلَ عَلَى الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ. ثَانِي الْأَجْوِبَةِ: أَنَّ الزَّكَاةَ قَرِينَةُ الصَّلَاةِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي الْبَابِ مِنْ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ، وَقَدْ قَرَنَ بَيْنَهُمَا فِي الذِّكْرِ هُنَا. ثَالِثُهَا: أَنَّهُ وَقَفَ دُخُولَ الْجَنَّةِ عَلَى أَعْمَالٍ مَنْ جُمْلَتِهَا أَدَاءُ الزَّكَاةِ، فَيَلْزَمُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ يَدْخُلْ، وَمَنْ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ دَخَلَ النَّارَ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ. رَابِعُهَا: أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى الْقِصَّةِ الَّتِي فِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ، وَالْقِصَّةُ الَّتِي فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي يُعْقِبُهُ وَاحِدَةً، فَأَرَادَ أَنْ يُفَسِّرَ الْأَوَّلَ بِالثَّانِي؛ لِقَوْلِهِ فِيهِ: وَتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ. وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَجْوِبَةِ. وَقَدْ أَكْثَرَ الْمُصَنِّفُ مِنِ اسْتِعْمَالِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ.

رَابِعُ الْأَحَادِيثِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ.

خَامِسُهَا: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ أَيْضًا.

سَادِسُهَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ أَبِي بَكْرٍ فِي قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَاحْتِجَاجِهِ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ عِصْمَةَ النَّفْسِ وَالْمَالِ تَتَوَقَّفُ عَلَى أَدَاءِ الْحَقِّ، وَحَقُّ الْمَالِ الزَّكَاةُ.

فَأُمًّا حَدِيثُ أَبِي سُفْيَانَ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي بَدْءِ الْوَحْيِ.

وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي بَعْثِ مُعَاذٍ فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الزَّكَاةِ قَبْلَ أَبْوَابِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ بِسِتَّةِ أَبْوَابٍ، وَقَوْلُهُ فِي أَوَّلِهِ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ: ادْعُهُمْ. هَكَذَا أَوْرَدَهُ فِي التَّوْحِيدِ مُخْتَصَرًا فِي أَوَّلِهِ، وَاخْتَصَرَ أَيْضًا مِنْ آخِرِهِ، وَأَوْرَدَهُ فِي التَّوْحِيدِ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ مِثْلَهُ، لَكِنَّهُ قَرَنَهُ بِرِوَايَةِ غَيْرِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ، وَلَفْظُهُ فِي أَوَّلِهِ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَادْعُهُمْ. وَفِي آخِرِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ فُقَرَائِهِمْ: فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ فِي ذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَإِيَّاكَ وَدَعْوَةَ الْمَظْلُومِ؛ فَإِنَّهَا لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ حِجَابٌ. وَكَذَا قَالَ فِي الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا: فَإِنْ أَطَاعُوا لَكَ فِي ذَلِكَ. وَالَّذِي عِنْدَ الْبُخَارِيِّ هُنَا: فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ. وَسَتَأْتِي هَذِهِ الزِّيَادَةُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَعَ شَرْحِهَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَالَ بَهْزٌ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ وَأَبُوهُ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُمَا سَمِعَا مُوسَى بْنَ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: أَخْشَى أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ غَيْرَ مَحْفُوظٍ، إِنَّمَا هُوَ عَمْرٌو.

وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ فَقَوْلُهُ فِيهِ: عَنِ ابْنِ عُثْمَانَ. الْإِبْهَامُ فِيهِ مِنَ الرَّاوِي عَنْ شُعْبَةَ، وَذَلِكَ أَنَّ اسْمَ هَذَا الرَّجُلِ عَمْرٌو، وَكَانَ شُعْبَةُ يُسَمِّيهِ مُحَمَّدًا، وَكَانَ الْحُذَّاقُ مِنْ أَصْحَابِهِ يُبْهِمُونَهُ، كَمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَفْصِ بْنِ عَمْرٍو، كَمَا سَيَأْتِي فِي الْأَدَبِ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ، عَنْ شُعْبَةَ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: مُحَمَّدٌ، كَمَا قَالَ شُعْبَةُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي طَرِيقِ بَهْزٍ الَّتِي عَلَّقَهَا الْمُصَنِّفُ هُنَا، وَوَصَلَهُ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ الْآتِي عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ بَهْزِ بْنِ أَسَدٍ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ بَهْزٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ) هُوَ الْأَنْصَارِيُّ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ الْآتِي ذِكْرُهَا: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ طَلْحَةَ، حَدَّثَنِي أَبُو أَيُّوبَ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ رَجُلًا) هَذَا الرَّجُلُ حَكَى ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ لَهُ أَنَّهُ أَبُو أَيُّوبَ الرَّاوِي، وَغَلَّطَهُ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ. وَفِي التَّغْلِيطِ نَظَرٌ، إِذْ لَا مَانِعَ أَنْ يُبْهِمَ الرَّاوِي نَفْسَهُ لِغَرَضٍ لَهُ، وَلَا يُقَالُ يُبْعِدُ، لِوَصْفِهِ فِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ بِكَوْنِهِ أَعْرَابِيًّا، لِأَنَّا نَقُولُ: لَا مَانِعَ مِنْ تَعَدُّدِ الْقِصَّةِ، فَيَكُونُ السَّائِلُ فِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ هُوَ نَفْسُهُ؛ لِقَوْلِهِ: إِنَّ رَجُلًا، وَالسَّائِلُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ

ص: 263

أَعْرَابِيٌّ آخَرُ قَدْ سُمِّيَ فِيمَا رَوَاهُ الْبَغَوِيُّ، وَابْنُ السَّكَنِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وأَبُو مُسْلِمٍ الْكَجِّيُّ فِي السُّنَنِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جُحَادَةَ وَغَيْرِهِ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْيَشْكُرِيِّ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ، قَالَ: انْطَلَقْتُ إِلَى الْكُوفَةِ فَدَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا رَجُلٌ مِنْ قَيْسٍ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ الْمُنْتَفِقِ، وَهُوَ يَقُولُ: وُصِفَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَطَلَبْتُهُ فَلَقِيتُهُ بِعَرَفَاتٍ، فَزَاحَمْتُ عَلَيْهِ، فَقِيلَ لِي: إِلَيْكَ عَنْهُ، فَقَالَ: دَعُوا الرَّجُلَ، أَرَبٌ مَا لَهُ. قَالَ: فَزَاحَمْتُ عَلَيْهِ حَتَّى خَلَصْتُ إِلَيْهِ، فَأَخَذْتُ بِخِطَامِ رَاحِلَتِهِ فَمَا غَيَّرَ عَلَيَّ، قَالَ: شَيْئَيْنِ أَسْأَلُكَ عَنْهُمَا: مَا يُنْجِينِي مِنَ النَّارِ؟ وَمَا يُدْخِلنِي الْجَنَّةَ؟ قَالَ: فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ بِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، فَقَالَ: لَئِنْ كُنْتَ أَوْجَزْتَ الْمَسْأَلَةَ لَقَدْ أَعْظَمْتَ وَطَوَّلْتَ، فَاعْقِلْ عَلَيَّ، اعْبُدِ اللَّهَ لَا تُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وَأَقِمِ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَأَدِّ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَصُمْ رَمَضَانَ.

وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْيَشْكُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: غَدَوْتُ، فَإِذَا رَجُلٌ يُحَدِّثُهُمْ. قَالَ: وَقَالَ جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَأَلَ أَعْرَابِيٌّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. ثُمَّ ذَكَرَ الِاخْتِلَافَ فِيهِ عَنِ الْأَعْمَشِ، وَأَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ فِيهِ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ سَعْدِ بْنِ الْأَخْرَمِ، عَنْ أَبِيهِ، وَالصَّوَابُ: الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْيَشْكُرِيُّ. وَزَعَمَ الصَّيْرَفِيُّ أَنَّ اسْمَ ابْنِ الْمُنْتَفِقِ هَذَا لَقِيطُ بْنُ صَبِرَةَ وَافِدُ بَنِي الْمُنْتَفِقِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ السَّائِلَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ هُوَ السَّائِلُ فِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ؛ لِأَنَّ سِيَاقَهُ شَبِيهٌ بِالْقِصَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا أَبُو هُرَيْرَةَ، لَكِنْ قَوْلَهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: أَرَبٌ مَا لَهُ. فِي رِوَايَةِ أَبِي أَيُّوبَ دُونَ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَكَذَا حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بِلَفْظِ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا عَرَضَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي سَفَرٍ، فَأَخَذَ بِخِطَامِ نَاقَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي. فَذَكَرَهُ. وَهَذَا شَبِيهٌ بِقِصَّةِ سُؤَالِ ابْنِ الْمُنْتَفِقِ. وَأَيْضًا فَأَبُو أَيُّوبَ لَا يَقُولُ عَنْ نَفْسِهِ: إِنَّ أَعْرَابِيًّا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ وَقَعَ نَحْوُ هَذَا السُّؤَالِ لِصَخْرِ بْنِ الْقَعْقَاعِ الْبَاهِلِيِّ، فِي حَدِيثِ الطَّبَرَانِيِّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ قَزَعَةَ بْنِ سُوَيْدٍ الْبَاهِلِيِّ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنِي خَالِي، وَاسْمُهُ صَخْرُ بْنُ الْقَعْقَاعِ، قَالَ: لَقِيتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ، فَأَخَذْتُ بِخِطَامِ نَاقَتِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يُقَرِّبُنِي مِنَ الْجَنَّةِ؟ وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ؟. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.

قَوْلُهُ: (قَالَ: مَا لَهُ مَا لَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَرَبٌ مَا لَهُ؟) كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَمْ يَذْكُرْ فَاعِلَ قَالَ: مَا لَهُ مَا لَهُ، وَفِي رِوَايَةِ بَهْزٍ الْمُعَلَّقَةِ هُنَا الْمَوْصُولَةِ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ: قَالَ الْقَوْمُ: مَا لَهُ مَا لَهُ؟. قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: هُوَ اسْتِفْهَامٌ وَالتَّكْرَارُ لِلتَّأْكِيدِ. وَقَوْلُهُ: أَرَبٌ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالرَّاءِ مُنَوَّنًا، أَيْ: حَاجَةٌ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، اسْتَفْهَمَ أَوَّلًا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ، فَقَالَ: لَهُ أَرَبٌ. انْتَهَى. وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ فَاعِلَ (قَالَ) النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّاهُ، بَلِ الْمُسْتَفْهِمُ الصَّحَابَةُ وَالْمُجِيبُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. وَمَا زَائِدَةٌ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَهُ حَاجَةٌ مَا. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: الْمَعْنَى لَهُ حَاجَةٌ مُهِمَّةٌ مُفِيدَةٌ جَاءَتْ بِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ بِالسُّؤَالِ أَنَّ لَهُ حَاجَةً. وَرُوِيَ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ بِلَفْظِ الْفِعْلِ الْمَاضِي، وَظَاهِرُهُ الدُّعَاءُ وَالْمَعْنَى التَّعَجُّبُ مِنَ السَّائِلِ. وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: يُقَالُ: أَرِبَ الرَّجُلُ فِي الْأَمْرِ إِذَا بَلَغَ فِيهِ جَهْدَهُ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: أَرِبَ فِي الشَّيْءِ صَارَ مَاهِرًا فِيهِ فَهُوَ أَرِيبٌ، وَكَأَنَّهُ تَعَجَّبَ مِنْ حُسْنِ فِطْنَتِهِ وَالتَّهَدِّي إِلَى مَوْضِعِ حَاجَتِهِ. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ الْمُشَارِ إِلَيْهَا: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ وُفِّقَ، أو لَقَدْ هُدِيَ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: قَوْلُهُ: أَرِبَ مِنَ الْآرَابِ، وَهِيَ الْأَعْضَاءُ، أَيْ: سَقَطَتْ أَعْضَاؤُهُ وَأُصِيبَ بِهَا كَمَا يُقَالُ: تَرِبَتْ يَمِينُكَ وَهُوَ مِمَّا جَاءَ بِصِيغَةِ الدُّعَاءِ، وَلَا يُرَادُ حَقِيقَتُهُ.

وَقِيلَ: لَمَّا رَأَى الرَّجُلَ يُزَاحِمُهُ دَعَا عَلَيْهِ، لَكِنْ دُعَاؤُهُ عَلَى الْمُؤْمِنِ طُهْرٌ لَهُ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ. وَرُوِيَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَالتَّنْوِينِ؛ أَيْ: هُوَ أَرِبٌ، أَيْ: حَاذِقٌ فَطِنٌ. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ. وَجَزَمَ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَحْفُوظَةً. وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ

ص: 264

رِوَايَةٍ لِأَبِي ذَرٍّ: أَرَبَ بِفَتْحِ الْجَمِيعِ، وَقَالَ: لَا وَجْهَ لَهُ، قُلْتُ: وَقَعَتْ فِي الْأَدَبِ مِنْ طَرِيقِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَحْدَهُ.

وَقَوْلُهُ: يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ بِضَمِّ اللَّامِ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ جَرِّ صِفَةٍ لِقَوْلِهِ: بِعَمَلٍ وَيَجُوزُ الْجَزْمُ جَوَابًا لِلْأَمْرِ. وَرَدَّهُ بَعْضُ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: بِعَمَلٍ يَصِيرُ غَيْرَ مَوْصُوفٍ مَعَ أَنَّهُ نَكِرَةٌ فَلَا يُفِيدُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مَوْصُوفٌ تَقْدِيرًا؛ لِأَنَّ التَّنْكِيرَ لِلتَّعْظِيمِ فَأَفَادَ، وَلِأَنَّ جَزَاءَ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ إِنْ عَمِلْتُهُ يُدْخِلُنُي.

قَوْلُهُ: (وَتَصِلِ الرَّحِمَ) أَيْ: تُوَاسِي ذَوِي الْقَرَابَةِ فِي الْخَيْرَاتِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ أَنْ تُحْسِنَ إِلَى أَقَارِبِكَ ذَوِي رَحِمِكَ بِمَا تَيَسَّرَ عَلَى حَسَبِ حَالِكَ وَحَالِهِمْ مِنْ إِنْفَاقٍ أَوْ سَلَامٍ أَوْ زِيَارَةٍ أَوْ طَاعَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَخَصَّ هَذِهِ الْخَصْلَةَ مِنْ بَيْنِ خِلَالِ الْخَيْرِ نَظَرًا إِلَى حَالِ السَّائِلِ، كَأَنَّهُ كَانَ لَا يَصِلُ رَحِمَهُ، فَأَمَرَهُ بِهِ لِأَنَّهُ الْمُهِمُّ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ. وَيُؤْخَذُ مِنْهُ تَخْصِيصُ بَعْضِ الْأَعْمَالِ بِالْحَضِّ عَلَيْهَا بِحَسَبِ حَالِ الْمُخَاطَبِ وَافْتِقَارِهِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِمَّا سِوَاهَا، إِمَّا لِمَشَقَّتِهَا عَلَيْهِ، وَإِمَّا لِتَسْهِيلِهِ فِي أَمْرِهَا.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ الْمُصَنِّفُ.

قَوْلُهُ: (أَخْشَى أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ غَيْرَ مَحْفُوظٍ، إِنَّمَا هُوَ عَمْرٌو) وَجَزَمَ فِي التَّارِيخِ بِذَلِكَ، وَكَذَا قَالَ مُسْلِمٌ فِي شُيُوخِ شُعْبَةَ، وَالدَّارَقُطْنِيِّ فِي الْعِلَلِ وَآخَرُونَ: الْمَحْفُوظُ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ وَهْمٌ مِنْ شُعْبَةَ، وَأَنَّ الصَّوَابَ عَمْرٌو، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي حَيَّانَ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو زُرْعَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا.

وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كَوْنِ الْأَعْرَابِيِّ السَّائِلِ فِيهِ، هَلْ هُوَ السَّائِلُ فِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ أَوْ لَا، وَالْأَعْرَابِيُّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مَنْ سَكَنَ الْبَادِيَةَ كَمَا تَقَدَّمَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ بْنِ حَيَّانَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ) قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَقَعَ عِنْدَ الْأَصِيلِيِّ، عَنْ أَبِي أَحْمَدَ الْجُرْجَانِيِّ هُنَا: عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حَيَّانَ، أَوْ: عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي حَيَّانَ. وَهُوَ خَطَأٌ، إِنَّمَا هُوَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ بْنِ حَيَّانَ، كَمَا لِغَيْرِهِ مِنَ الرُّوَاةِ.

قَوْلُهُ: (وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ وَتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ) قِيلَ: فَرَّقَ بَيْنَ الْقَيْدَيْنِ كَرَاهِيَةً لِتَكْرِيرِ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ، وَقِيلَ: عَبَّرَ فِي الزَّكَاةِ بِالْمَفْرُوضَةِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ؛ فَإِنَّهَا زَكَاةٌ لُغَوِيَّةٌ، وَقِيلَ: احْتَرَزَ مِنَ الزَّكَاةِ الْمُعَجَّلَةِ قَبْلَ الْحَوْلِ؛ فَإِنَّهَا زَكَاةٌ وَلَيْسَتْ مَفْرُوضَةً.

قَوْلُهُ فِيهِ: (وَتَصُومُ رَمَضَانَ) لَمْ يَذْكُرِ الْحَجَّ؛ لِأَنَّهُ كَانَ حِينَئِذٍ حَاجًّا، وَلَعَلَّهُ ذَكَرَهُ لَهُ فَاخْتَصَرَهُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا) زَادَ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَفَّانَ بِهَذَا السَّنَدِ: شَيْئًا أَبَدًا، وَلَا أُنْقِصُ مِنْهُ. وَبَاقِي الْحَدِيثِ مِثْلُهُ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ:(مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا) إِمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اطَّلَعَ عَلَى ذَلِكَ فَأَخْبَرَ بِهِ، أَوْ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: إِنْ دَامَ عَلَى فِعْلِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا: إِنْ تَمَسَّكَ بِمَا أُمِرَ بِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ - وَكَذَا حَدِيثُ طَلْحَةَ فِي قِصَّةِ الْأَعْرَابِيِّ وَغَيْرِهِمَا - دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ تَرْكِ التَّطَوُّعَاتِ، لَكِنْ مَنْ دَاوَمَ عَلَى تَرْكِ السُّنَنِ كَانَ نَقْصًا فِي دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ تَرْكُهَا تَهَاوُنًا بِهَا وَرَغْبَةً عَنْهَا كَانَ ذَلِكَ فِسْقًا، يَعْنِي لِوُرُودِ الْوَعِيدِ عَلَيْهِ، حَيْثُ قَالَ صلى الله عليه وسلم: مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي. وَقَدْ كَانَ صَدْرُ الصَّحَابَةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ يُوَاظِبُونَ عَلَى السُّنَنِ مُوَاظَبَتَهُمْ عَلَى الْفَرَائِضِ، وَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا فِي اغْتِنَامِ ثَوَابِهِمَا. وَإِنَّمَا احْتَاجَ الْفُقَهَاءُ إِلَى التَّفْرِقَةِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوبِ الْإِعَادَةِ وَتَرْكِهَا وَوُجُوبِ الْعِقَابِ عَلَى التَّرْكِ وَنَفْيِهِ، وَلَعَلَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الْقِصَصِ كَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ فَاكْتَفَى مِنْهُمْ بِفِعْلِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ فِي تِلْكَ الْحَالِ؛ لِئَلَّا يَثْقُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَيَمَلُّوا، حَتَّى إِذَا انْشَرَحَتْ صُدُورُهُمْ لِلْفَهْمِ عَنْهُ وَالْحِرْصِ عَلَى تَحْصِيلِ ثَوَابِ الْمَنْدُوبَاتِ سَهُلَتْ عَلَيْهِمُ. انْتَهَى.

وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا فِي شَرْحِ حَدِيثِ طَلْحَةَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، عَنْ يَحْيَى) هُوَ الْقَطَّانُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي حَيَّانَ) هُوَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ بْنِ حَيَّانَ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَأَفَادَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ تَصْرِيحَ أَبِي حَيَّانَ بِسَمَاعِهِ

ص: 265

لَهُ مِنْ أَبِي زُرْعَةَ، وَبَطَلَ التَّرَدُّدُ الَّذِي وَقَعَ عِنْدَ الْجُرْجَانِيِّ، لَكِنْ لَمْ يَذْكُرْ يَحْيَى الْقَطَّانُ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ أَبَا هُرَيْرَةَ كَمَا هُوَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهَا مِنَ الرِّوَايَاتِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَثَبَتَ ذِكْرُهُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَهُوَ خَطَأٌ فَقَدْ ذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي التَّتَبُّعِ أَنَّ رِوَايَةَ الْقَطَّانِ مُرْسَلَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي الْمُقَدِّمَةِ.

وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْإِيمَانِ. وَحَجَّاجٌ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ هُنَا، هُوَ ابْنُ مِنْهَالٍ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ سُلَيْمَانُ، وَأَبُو النُّعْمَانِ، عَنْ حَمَّادٍ) يَعْنِي ابْنَ زَيْدٍ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ فِي طَرِيقِ حَجَّاجٍ: (الْإِيمَانُ بِاللَّهِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) أَيْ: وَافَقَا حَجَّاجًا عَلَى سِيَاقِهِ إِلَّا فِي إِثْبَاتِ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ: وَشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَحَذَفَاهَا وَهُوَ أَصْوَبُ، فَأَمَّا سُلَيْمَانُ فَهُوَ ابْنُ حَرْبٍ، وَقَدْ وَصَلَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَهُ هَذَا عَنْهُ فِي الْمَغَازِي. وَأَمَّا أَبُو النُّعْمَانِ، فَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ، وَقَدْ وَصَلَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَهُ هَذَا عَنْهُ فِي الْخَمْسِ.

وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ أَبِي بَكْرٍ فِي قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي شَرْحِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي بَابِ قَوْلِهِ:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ فِي كِتَابِ أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّينَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ:(لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ) كَانَ تَامَّةٌ بِمَعْنَى حَصَلَ، وَالْمُرَادُ بِهِ: قَامَ مَقَامَهُ.

(تَكْمِيلٌ): اخْتُلِفَ فِي أَوَّلِ وَقْتِ فَرْضِ الزَّكَاةِ، فَذَهَبَ الْأَكْثَرُ إِلَى أَنَّهُ وَقَعَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، فَقِيلَ: كَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ قَبْلَ فَرْضِ رَمَضَانَ، أَشَارَ إِلَيْهِ النَّوَوِيُّ فِي بَابِ السِّيَرِ مِنَ الرَّوْضَةِ، وَجَزَمَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي التَّارِيخِ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي التَّاسِعَةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، وَفِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ، وَفِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ ذِكْرُ الزَّكَاةِ، وَكَذَا مُخَاطَبَةُ أَبِي سُفْيَانَ مَعَ هِرَقْلَ، وَكَانَتْ فِي أَوَّلِ السَّابِعَةِ، وَقَالَ فِيهَا: يَأْمُرُنَا بِالزَّكَاةِ، لَكِنْ يُمْكِنُ تَأْوِيلَ كُلِّ ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي فِي آخِرِ الْكَلَامِ، وَقَوَّى بَعْضُهُمْ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ الْأَثِيرِ بِمَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ ثَعْلَبَةَ بْنِ حَاطِبٍ الْمُطَوَّلَةِ فَفِيهَا: لَمَّا أُنْزِلَتْ آيَةُ الصَّدَقَةِ بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَامِلًا، فَقَالَ: مَا هَذِه إِلَّا جِزْيَةٌ، أَوْ أُخْتُ الْجِزْيَةِ. وَالْجِزْيَةُ إِنَّمَا وَجَبَتْ فِي التَّاسِعَةِ، فَتَكُونُ الزَّكَاةُ فِي التَّاسِعَةِ، لَكِنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ.

وَادَّعَى ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ أَنَّ فَرْضَهَا كَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَاحْتَجَّ بِمَا أَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ فِي قِصَّةِ هِجْرَتِهِمْ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَفِيهَا أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ لِلنَّجَاشِيِّ فِي جُمْلَةِ مَا أَخْبَرَهُ بِهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ. انْتَهَى، وَفِي اسْتِدْلَالُهُ بِذَلِكَ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ لَمْ تَكُنْ فُرِضَتْ بَعْدُ، وَلَا صِيَامَ رَمَضَانَ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مُرَاجَعَةُ جَعْفَرٍ لَمْ تَكُنْ فِي أَوَّلِ مَا قَدِمَ عَلَى النَّجَاشِيِّ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ بَعْدَ مُدَّةٍ قَدْ وَقَعَ فِيهَا مَا ذُكِرَ مِنْ قِصَّةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَبَلَغَ ذَلِكَ جَعْفَر، فَقَالَ: يَأْمُرُنَا. بِمَعْنَى يَأْمُرُ بِهِ أُمَّتَهُ، وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا، وَأَوْلَى مَا حُمِلَ عَلَيْهِ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ هَذَا - إِنْ سَلِمَ مِنْ قَدْحٍ فِي إِسْنَادِهِ - أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: يَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ. أَيْ: فِي الْجُمْلَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَلَا بِالصِّيَامِ صِيَامَ رَمَضَانَ، وَلَا بِالزَّكَاةِ هَذِهِ الزَّكَاةَ الْمَخْصُوصَةَ ذَاتِ النِّصَابِ وَالْحَوْلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الزَّكَاةِ كَانَ قَبْلَ التَّاسِعَةِ حَدِيثُ أَنَسٍ الْمُتَقَدِّمُ فِي الْعِلْمِ فِي قِصَّةِ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، وَقَوْلُهُ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ. آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْخُذَ هَذِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَتَقْسِمَهَا عَلَى فُقَرَائِنَا. وَكَانَ قُدُومُ ضِمَامٍ سَنَةَ خَمْسٍ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَإِنَّمَا الَّذِي وَقَعَ فِي التَّاسِعَةِ بَعْثُ الْعُمَّالِ لِأَخْذِ الصَّدَقَاتِ، وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي تَقَدُّمَ فَرِيضَةِ الزَّكَاةِ قَبْلَ ذَلِكَ.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الزَّكَاةِ وَقَعَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى أَنَّ صِيَامَ رَمَضَانَ إِنَّمَا فُرِضَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ الدَّالَّةَ عَلَى فَرْضِيَّتِهِ مَدَنِيَّةٌ بِلَا خِلَافٍ، وَثَبَتَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ أَيْضًا وَالنَّسَائِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الزَّكَاةُ، ثُمَّ نَزَلَتْ فَرِيضَةُ

ص: 266

الزَّكَاةِ فَلَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا وَنَحْنُ نَفْعَلُهُ. إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ إِلَّا أَبَا عَمَّارٍ الرَّاوِي لَهُ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، وَهُوَ كُوفِيٌّ اسْمُهُ عَرِيبٌ - بِالْمُهْمَلَةِ الْمَفْتُوحَةِ - ابْنُ حُمَيْدٍ، وَقَدْ وَثَّقَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَعِينٍ، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ فَرْضَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ كَانَ قَبْلَ فَرْضِ الزَّكَاةِ، فَيَقْتَضِي وُقُوعَهَا بَعْدَ فَرْضِ رَمَضَانَ، وَذَلِكَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَوَقَعَ فِي تَارِيخِ الْإِسْلَامِ: فِي السَّنَةِ الْأُولَى فُرِضَتِ الزَّكَاةُ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ الْمَذْكُورَ مِنْ طَرِيقِ الْمَغَازِي لِابْنِ إِسْحَاقَ مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْهُ، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الزَّكَاةِ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ أَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ لَكِنْ مِنْ طَرِيقِ سَلَمَةَ بْنِ الْفَضْلِ عَنْهُ، وَفِي سَلَمَةَ مَقَالٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌2 - بَاب الْبَيْعَةِ عَلَى إِيتَاءِ الزَّكَاةِ

{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ}

1401 -

حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ قَيْسٍ قَالَ: قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: بَايَعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْبَيْعَةِ عَلَى إِيتَاءِ الزَّكَاةِ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: هَذِهِ التَّرْجَمَةُ أَخَصُّ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا، لِتَضَمُّنِهَا أَنَّ بَيْعَةَ الْإِسْلَامِ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْتِزَامِ إِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَأَنَّ مَانِعَهَا نَاقِضٌ لِعَهْدِهِ مُبْطِلٌ لِبَيْعَتِهِ، فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الْإِيجَابِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا تَضَمَّنَتْهُ بَيْعَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاجِبٌ، وَلَيْسَ كُلُّ وَاجِبٍ تَضَمَّنَتْهُ بَيْعَتُهُ، وَمَوْضِعُ التَّخْصِيصِ الِاهْتِمَامُ وَالِاعْتِنَاءُ بِالذِّكْرِ حَالَ الْبَيْعَةِ. قَالَ: وَأَتْبَعَ الْمُصَنِّفُ التَّرْجَمَةَ بِالْآيَةِ مُعْتَضِدًا بِحُكْمِهَا؛ لِأَنَّهَا تَضَمَّنَتْ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي التَّوْبَةِ مِنَ الْكُفْرِ وَيَنَالُ أُخُوَّةَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدِّينِ إِلَّا مَنْ أَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ. انْتَهَى.

وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ جَرِيرٍ مُسْتَوْفًى فِي آخِرِ كِتَابِ الْإِيمَانِ.

‌3 - بَاب إِثْمِ مَانِعِ الزَّكَاةِ،

وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:

{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ}

1402 -

حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ هُرْمُزَ الْأَعْرَجَ، حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ قَالَ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: تَأْتِي الْإِبِلُ عَلَى صَاحِبِهَا عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ إِذَا هُوَ لَمْ يُعْطِ فِيهَا حَقَّهَا تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا، وَتَأْتِي الْغَنَمُ عَلَى صَاحِبِهَا عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ إِذَا لَمْ يُعْطِ فِيهَا حَقَّهَا تَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا، قَالَ: وَمِنْ حَقِّهَا أَنْ تُحْلَبَ عَلَى الْمَاءِ، قَالَ: وَلَا يَأْتِي أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِشَاةٍ يَحْمِلُهَا عَلَى رَقَبَتِهِ لَهَا يُعَارٌ فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ بَلَّغْتُ، وَلَا يَأْتِي بِبَعِيرٍ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ لَهُ رُغَاءٌ فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ بَلَّغْتُ.

[الحديث 1402 - أطرافه في: 2378، 3073، 9658]

ص: 267

1403 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ يَعْنِي بِشِدْقَيْهِ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا مَالُكَ أَنَا كَنْزُكَ ثُمَّ تَلَا [آل عمران 180] {ولا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} الْآيَة"

[الحديث 1403 - أطرافه في: 4565، 4659، 6957]

قَوْلُهُ: (بَابُ إِثْمِ مَانِعِ الزَّكَاةِ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: هَذِهِ التَّرْجَمَةُ أَخَصُّ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا؛ لِتَضَمُّنِ حَدِيثِهَا تَعْظِيمَ إِثْمِ مَانِعِ الزَّكَاةِ، وَالتَّنْصِيصَ عَلَى عَظِيمِ عُقُوبَتِهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَتَبَرِّي نَبِيِّهِ مِنْهُ بِقَوْلِهِ لَهُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا. وَذَلِكَ مُؤْذِنٌ بِانْقِطَاعِ رَجَائِهِ، وَإِنَّمَا تَتَفَاوَتُ الْوَاجِبَاتُ بِتَفَاوُتِ الْمَثُوبَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ، فَمَا شُدِّدَتْ عُقُوبَتُهُ كَانَ إِيجَابُهُ آكَدُ مِمَّا جَاءَ فِيهِ مُطْلَقُ الْعُقُوبَةِ، وَعَبَّرَ الْمُصَنِّفُ بِالْإِثْمِ؛ لِيَشْمَلَ مَنْ تَرَكَهَا جَحْدًا أَوْ بُخْلًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} الْآيَةَ) فِيهِ تَلْمِيحٌ إِلَى تَقْوِيَةِ قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ: إِنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ وَالْمُؤْمِنِينَ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِالْكُفَّارِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ ذَلِكَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ: أَنَا مَالُكَ، أَنَا كَنْزُكَ. وَقَدْ وَقَعَ نَحْوُ ذَلِكَ أَيْضًا فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَالطَّبَرَانِيِّ فِي مُسْنَدِ الشَّامِيِّينَ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبٍ أَيْضًا فِي آخِرِ الْحَدِيثِ، وَأَفْرَدَ الْبُخَارِيُّ الْجُمْلَةَ الْمَحْذُوفَةَ فَذَكَرَهَا فِي تَفْسِيرِ بَرَاءَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِاخْتِصَارٍ.

(تَنْبِيهٌ): الْمُرَادُ بِسَبِيلِ اللَّهِ فِي الْآيَةِ الْمَعْنَى الْأَعَمُّ لَا خُصُوصُ أَحَدِ السِّهَامِ الثَّمَانِيَةِ الَّتِي هِيَ مَصَارِفُ الزَّكَاةِ، وَإِلَّا لَاخْتَصَّ بِالصَّرْفِ إِلَيْهِ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ.

قَوْلُهُ: (تَأْتِي الْإِبِلُ عَلَى صَاحِبِهَا) يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا سَيَأْتِي.

قَوْلُهُ: (عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ) أَيْ: مِنَ الْعِظَمِ وَالسِّمَنِ وَمِنَ الْكَثْرَةِ؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ عِنْدَهُ عَلَى حَالَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَتَأْتِي عَلَى أَكْمَلِهَا؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَنْكَى لَهُ لِشِدَّةِ ثِقَلِهَا.

قَوْلُهُ: (إِذَا هُوَ لَمْ يُعْطِ فِيهَا حَقَّهَا) أَيْ: لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا. وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ بِهَذَا اللَّفْظِ.

قَوْلُهُ: (تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا) فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي تَرْكِ الْحِيَلِ: فَتَخْبِطُ وَجْهَهُ بِأَخْفَافِهَا. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ: مَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ لَا يُؤَدِّي حَقَّهَا مِنْهَا إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ، أَوْفَرَ مَا كَانَتْ، لَا يَفْقِدُ مِنْهَا فَصِيلًا وَاحِدًا، تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا، وَتَعَضُّهُ بِأَفْوَاهِهَا، كُلَّمَا مَرَّتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا رُدَّتْ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ بَيْنَ الْعِبَادِ، وَيَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ. وَلِلْمُصَنِّفِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: إِلَّا أُتِيَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمَ مَا كَانَتْ وَأَسْمَنَهُ. (تَنْبِيهٌ): كَذَا فِي أَصْلِ مُسْلِمٍ: كُلَّمَا مَرَّتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا رُدَّتْ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا. قَالَ عِيَاضٌ: قَالُوا هُوَ تَغْيِيرٌ وَتَصْحِيفٌ، وَصَوَابُهُ مَا فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَهُ مِنْ طَرِيقِ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ: كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ رُدَّ عَلَيْهِ أُولَاهَا. وَبِهَذَا يَنْتَظِمُ الْكَلَامُ، وَكَذَا وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ أَيْضًا، وَأَقَرَّهُ النَّوَوِيُّ عَلَى هَذَا، وَحَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ وَأَوْضَحَ وَجْهَ الرَّدِّ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يُرَدُّ الْأَوَّلَ الَّذِي قَدْ مَرَّ قَبْلُ، وَأَمَّا الْآخِرُ فَلَمْ يَمُرَّ بَعْدُ، فَلَا يُقَالُ فِيهِ: رُدَّ. ثُمَّ أَجَابَ بِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ أَوَّلَ الْمَاشِيَةِ إِذَا وَصَلَتْ إِلَى آخِرِهَا تَمْشِي عَلَيْهِ تَلَاحَقَتْ بِهَا أُخْرَاهَا، ثُمَّ إِذَا أَرَادَتِ الْأُولَى الرُّجُوعَ بَدَأَتِ الْأُخْرَى بِالرُّجُوعِ فَجَاءَتِ الْأُخْرَى أَوَّلَ، حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى آخِرِ الْأُولَى.

وَكَذَا وَجَّهَهُ الطِّيبِيُّ فَقَالَ: إِنَّ الْمَعْنَى أَنَّ أُولَاهَا إِذَا مَرَّتْ عَلَى التَّتَابُعِ إِلَى أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى الْأُخْرَى، ثُمَّ رُدَّتِ الْأُخْرَى مِنْ هَذِهِ الْغَايَةِ،

ص: 268

وَتَبِعَهَا مَا يَلِيهَا إِلَى أَنْ تَنْتَهِيَ أَيْضًا إِلَى الْأُولَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ فِي الْغَنَمِ: (تَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا وَتَنْطِحُهُ بِقُرُونِهَا) بِكَسْرِ الطَّاءِ مِنْ تَنْطِحُهُ، وَيَجُوزُ الْفَتْحُ. زَادَ رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ الْمَذْكُورَةِ: لَيْسَ فِيهَا عَقْصَاءُ وَلَا جَلْحَاءُ وَلَا عَضْبَاءُ، تَنْطِحُهُ بِقُرُونِهَا. وَزَادَ فِيهِ ذِكْرُ الْبَقَرِ أَيْضًا، وَذُكِرَ فِي الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ مَا ذُكِرَ فِي الْإِبِلِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ الْبَقَرِ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ أَيْضًا فِي بَابٍ مُفْرَدٍ.

قَوْلُهُ: (قَالَ: وَمِنْ حَقِّهَا أَنْ تُحْلَبَ عَلَى الْمَاءِ) بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ، أَيْ: لِمَنْ يَحْضُرُهَا مِنَ الْمَسَاكِينِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْحَلْبَ بِمَوْضِعِ الْمَاءِ؛ لِيَكُونَ أَسْهَلَ عَلَى الْمُحْتَاجِ مِنْ قَصْدِ الْمَنَازِلِ وَأَرْفَقَ بِالْمَاشِيَةِ. وَذَكَرَهُ الدَّاوُدِيُّ بِالْجِيمِ، وَفَسَّرَهُ بِالْإِحْضَارِ إِلَى الْمُصَدِّقِ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ دِحْيَةَ، وَجَزَمَ بِأَنَّهُ تَصْحِيفٌ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُمَرَ الْغُدَانِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَا يُوهِمُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مَرْفُوعَةٌ، وَلَفْظُهُ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا حَقُّهَا؟ قَالَ: إِطْرَاقُ فَحْلِهَا، وَإِعَارَةُ دَلْوِهَا وَمِنْحَتِهَا، وَحَلَبُهَا عَلَى الْمَاءِ، وَحَمْلٌ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَسَيَأْتِي فِي أَوَاخِرِ الشِّرْبِ هَذِهِ الْقِطْعَةُ وَحْدَهَا مَرْفُوعَةً مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

قَوْلُهُ: (وَلَا يَأْتِي أَحَدُكُمْ) فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ شُعَيْبٍ: أَلَا لَا يَأْتِيَنَّ أَحَدُكُمْ وَهَذَا حَدِيثٌ آخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِالْغُلُولِ مِنَ الْغَنَائِمِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ مُفْرَدًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَوَاخِرِ الْجِهَادِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: لَهَا يُعَارُ بِتَحْتَانِيَّةٍ مَضْمُومَةٍ، ثُمَّ مُهْمَلَةٍ: صَوْتُ الْمَعْزِ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، والْكُشْمِيهَنِيِّ هُنَا: ثُغَاءٌ بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ، ثُمَّ مُعْجَمَةٌ بِغَيْرِ رَاءٍ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ التِّينِ، وَهُوَ صِيَاحُ الْغَنَمِ. وَحَكَى ابْنُ التِّينِ، عَنِ الْقَزَّازِ أَنَّهُ رَوَاهُ تُعَارُ بِمُثَنَّاةٍ وَمُهْمَلَةٍ، ولَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقَوْلُهُ: رُغَاءٌ بِضَمِّ الرَّاءِ وَمُعْجَمَةٍ: صَوْتُ الْإِبِلِ، وَفِي الْحَدِيثِ: إِنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْبَهَائِمَ؛ لِيُعَاقِبَ بِهَا مَانِعَ الزَّكَاةِ. وَفِي ذَلِكَ مُعَامَلَةٌ لَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ مَنْعَ حَقِّ اللَّهِ مِنْهَا، وَهُوَ الِارْتِفَاقُ وَالِانْتِفَاعُ بِمَا يَمْنَعُهُ مِنْهَا، فَكَانَ مَا قَصَدَ الِانْتِفَاعَ بِهِ أَضَرُّ الْأَشْيَاءِ عَلَيْهِ. وَالْحِكْمَةُ فِي كَوْنِهَا تُعَادُ كُلُّهَا مَعَ أَنَّ حَقَّ اللَّهِ فِيهَا إِنَّمَا هُوَ فِي بَعْضِهَا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي جَمِيعِ الْمَالِ غَيْرُ مُتَمَيِّزٍ، وَلِأَنَّ الْمَالَ لَمَّا لَمْ تَخْرُجْ زَكَاتُهُ غَيْرُ مُطَهَّرٍ، وَفِيهِ أَنَّ فِي الْمَالِ حَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ، وَأَجَابَ الْعُلَمَاءُ عَنْهُ بِجَوَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ كَانَ قَبْلَ فَرْضِ الزَّكَاةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا سَيَأْتِي مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي الْكَنْزِ، لَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّ فَرْضَ الزَّكَاةِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى إِسْلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ.

ثَانِي الْأَجْوِبَةِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَقِّ الْقَدْرُ الزَّائِدُ عَلَى الْوَاجِبِ وَلَا عِقَابَ بِتَرْكِهِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ اسْتِطْرَادًا، لَمَّا ذُكِرَ حَقُّهَا بَيْنَ الْكَمَالِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَصْلٌ يَزُولُ الذَّمُّ بِفِعْلِهِ وَهُوَ الزَّكَاةُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ مَا إِذَا كَانَ هُنَاكَ مُضْطَرٌّ إِلَى شُرْبِ لَبَنِهَا فَيُحْمَلُ الْحَدِيثُ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ. وَقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: فِي الْمَالِ حَقَّانِ فَرْضُ عَيْنٍ وَغَيْرُهُ، فَالْحَلْبُ مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي هِيَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.

(تَنْبِيهٌ): زَادَ النَّسَائِيُّ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ، قَالَ: وَيَكُونُ كَنْزُ أَحَدِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعُ يَفِرُّ مِنْهُ صَاحِبُهُ وَيَطْلُبهُ: أَنَا كَنْزُكَ، فَلَا يَزَالُ حَتَّى يُلْقِمَهُ إِصْبَعَهُ. وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ قَدْ أَفْرَدَ الْبُخَارِيُّ بَعْضَهَا كَمَا قَدَّمْنَا إِلَى قَوْلِهِ: أَقْرَعُ وَلَمْ يَذْكُرْ بَقِيَّتَهُ، وَكَأَنَّهُ اسْتَغْنَى عَنْهُ بِطَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ ثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي صَالِحٍ) كَذَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَتَابَعَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَسَاقَهُ مُطَوَّلًا، وَكَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ، عَنْ عَبْد اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَلْيَةَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، لَكِنَّهُ وَقَفَهُ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، وَخَالَفَهُمْ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، فَرَوَاهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَرَجَّحَهُ، لَكِنْ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: رِوَايَةُ عَبْدِ الْعَزِيزِ خَطَأٌ بَيِّنٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَا رَوَاهُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ أَصْلًا. انْتَهَى. وَفِي هَذَا التَّعْلِيلِ نَظَرٌ، وَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ شَيْخَانِ؟ نَعَمِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّ رِوَايَةَ عَبْدِ الْعَزِيزِ

ص: 269

شَاذَّةٌ؛ لِأَنَّهُ سَلَكَ الْجَادَّةَ، وَمَنْ عَدَلَ عَنْهَا دَلَّ عَلَى مَزِيدِ حِفْظِهِ.

قَوْلُهُ: (مَثَّلَ لَهُ) أَيْ صَوَّرَ، أَوْ ضَمَّنَ مَثَّلَ مَعْنَى التَّصْيِيرِ، أَيْ: صَيَّرَ مَالَهُ عَلَى صُورَةِ شُجَاعٍ، وَالْمُرَادُ بِالْمَالِ النَّاضُّ، كَمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ:(بَرَاءَةٌ)، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ، فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ. وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِاحْتِمَالِ اجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ مَعًا، فَرِوَايَةُ ابْنِ دِينَارٍ تُوَافِقُ الْآيَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا، وَهِيَ {سَيُطَوَّقُونَ} وَرِوَايَةُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ تُوَافِقُ قَوْلَهُ تَعَالَى:{يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ} الْآيَةَ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: خَصَّ الْجَنْبَ وَالْجَبِينَ وَالظَّهْرَ، لِأَنَّهُ جَمَعَ الْمَالَ، وَلَمْ يَصْرِفْهُ فِي حَقِّهِ؛ لِتَحْصِيلِ الْجَاهِ وَالتَّنَعُّمِ بِالْمَطَاعِمِ وَالْمَلَابِسِ، أَوْ لِأَنَّهُ أَعْرَضَ عَنِ الْفَقِيرِ وَوَلَّاهُ ظَهْرَهُ، أَوْ لِأَنَّهَا أَشْرَفُ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْأَعْضَاءِ الرَّئِيسَةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا الْجِهَاتُ الْأَرْبَعُ الَّتِي هِيَ مُقَدَّمُ الْبَدَنِ وَمُؤَخَّرُهُ وَجَنْبَاهُ، نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ. وَالْمُرَادُ بِالشُّجَاعِ - وَهُوَ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ جِيمٍ - الْحَيَّةُ الذَّكَرُ. وَقِيلَ: الَّذِي يَقُومُ عَلَى ذَنَبِهِ وَيُوَاثِبُ الْفَارِسَ، وَالْأَقْرَعُ الَّذِي تُقْرَعُ رَأْسُهُ، أَيْ. تُمْعَطُ لِكَثْرَةِ سُمِّهِ. وَفِي كِتَابِ أَبِي عَبِيدٍ. سُمِّيَ أَقْرَعَ؛ لِأَنَّ شَعْرَ رَأْسِهِ يَتَمَعَّطُ لِجَمْعِهِ السُّمَّ فِيهِ. وَتَعَقَّبَهُ الْقَزَّازُ بِأَنَّ الْحَيَّةَ لَا شَعْرَ بِرَأْسِهَا، فَلَعَلَّهُ يَذْهَبُ جِلْدُ رَأْسِهِ.

وَفِي تَهْذِيبِ الْأَزْهَرِيِّ: سُمِّيَ أَقْرَعَ؛ لِأَنَّهُ يَقْرِي السُّمَّ وَيَجْمَعُهُ فِي رَأْسِهِ حَتَّى تَتَمَعَّطَ فَرْوَةُ رَأْسِهِ، قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:

قَرَى السُّمَّ حَتَّى انمار فَرْوَةُ رَأْسِهِ

عَنِ الْعَظْمِ صِلٌّ قاتل اللَّسْعِ مَارِدُهُ

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْأَقْرَعُ مِنَ الْحَيَّاتِ الَّذِي ابْيَضَّ رَأْسُهُ مِنَ السُّمِّ، وَمِنَ النَّاسِ الَّذِي لَا شَعْرَ بِرَأْسِهِ.

قَوْلُهُ: (لَهُ زَبِيبَتَانِ) تَثْنِيَةُ زَبِيبَةٍ بِفَتْحِ الزَّايِ وَمُوَحَّدَتَيْنِ، وَهُمَا الزُّبْدَتَانِ اللَّتَانِ فِي الشِّدْقَيْنِ، يُقَالُ: تَكَلَّمَ حَتَّى زَبَدَ شِدْقَاهُ، أَيْ: خَرَجَ الزَّبَدُ مِنْهُمَا، وَقِيلَ: هُمَا النُّكْتَتَانِ السَّوْدَاوَانِ فَوْقَ عَيْنَيْهِ، وَقِيلَ: نُقْطَتَانِ يَكْتَنِفَانِ فَاهُ، وَقِيلَ: هُمَا فِي حَلْقِهِ بِمَنْزِلَةِ زَنَمَتَيِ الْعَنْزِ، وَقِيلَ: لَحْمَتَانِ عَلَى رَأْسِهِ مِثْلُ الْقَرْنَيْنِ، وَقِيلَ: نَابَانِ يَخْرُجَانِ مِنْ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (يُطَوَّقُهُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْوَاوِ الثَّقِيلَةِ، أَيْ: يَصِيرُ لَهُ ذَلِكَ الثُّعْبَانُ طَوْقًا.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ) فَاعِلُ يَأْخُذُ هُوَ الشُّجَاعُ، وَالْمَأْخُوذُ يَدُ صَاحِبِ الْمَالِ، كَمَا وَقَعَ مُبَيَّنًا فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الْآتِيَةِ فِي تَرْكِ الْحِيَلِ بِلَفْظِ: لَا يَزَالُ يَطْلُبُهُ حَتَّى يَبْسُطَ يَدَهُ فَيُلْقِمَهَا فَاهُ.

قَوْلُهُ: (بِلِهْزِمَتَيْهِ) بِكَسْرِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْهَاءِ بَعْدَهَا زَايٌ مَكْسُورَةٌ، وَقَدْ فُسِّرَ فِي الْحَدِيثِ بِالشِّدْقَيْنِ، وَفِي الصِّحَاحِ: هُمَا الْعَظْمَانِ النَّاتِئَانِ فِي اللَّحْيَيْنِ تَحْتَ الْأُذُنَيْنِ. وَفِي الْجَامِعِ: هُمَا لَحْمُ الْخَدَّيْنِ الَّذِي يَتَحَرَّكُ إِذَا أَكَلَ الْإِنْسَانُ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا مَالُكَ، أَنَا كَنْزُكَ) وَفَائِدَةُ هَذَا الْقَوْلِ الْحَسْرَةُ وَالزِّيَادَةُ فِي التَّعْذِيبِ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُ النَّدَمُ، وَفِيهِ نَوْعٌ مِنَ التَّهَكُّمِ. وَزَادَ فِي تَرْكِ الْحِيَلِ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَفِرُّ مِنْهُ صَاحِبُهُ وَيَطْلُبُهُ. وَفِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ: يَتْبَعُهُ فَيَقُولُ: أَنَا كَنْزُكَ الَّذِي تَرَكْتَهُ بَعْدَكَ، فَلَا يَزَالُ يَتْبَعُهُ حَتَّى يُلْقِمَهُ يَدَهُ فَيَمْضُغَهَا ثُمَّ يَتْبَعُهُ سَائِرُ جَسَدِهِ. وَلِمُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: يَتْبَعُ صَاحِبَهُ حَيْثُ ذَهَبَ وَهُوَ يَفِرُّ مِنْهُ، فَإِذَا رَأَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي فِيهِ، فَجَعَلَ يَقْضِمُهَا كَمَا يَقْضِمُ الْفَحْلُ. وَلِلطَّبَرَانِيِّ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ يَنْقُرُ رَأْسَهُ وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ اللَّهَ يُصَيِّرُ نَفْسَ الْمَالِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: إِلَّا مُثِّلَ لَهُ كَمَا هُنَا، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَيْ صُوِّرَ أَوْ نُصِبَ وَأُقِيمَ، مِنْ قَوْلِهِمْ: مَثَلَ قَائِمًا، أَيْ: مُنْتَصِبًا.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ تَلَا {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} الْآيَةَ) فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَالْحُمَيْدِيِّ: ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَذَكَرَ الْآيَةَ، وَنَحْوِهِ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ: قَرَأَ مِصْدَاقَهُ: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . وَفِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ تَقْوِيَةٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِالتَّطْوِيقِ فِي الْآيَةِ

ص: 270

الْحَقِيقَةُ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّ مَعْنَاهُ سَيُطَوَّقُونَ الْإِثْمَ. وَفِي تِلَاوَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْآيَةَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالتَّفْسِيرِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ الَّذِينَ كَتَمُوا صِفَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِيمَنْ لَهُ قَرَابَةٌ لَا يَصِلُهُمْ، قَالَهُ مَسْرُوقٌ.

‌4 - بَاب مَا أُدِّيَ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ

لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ

1404 -

وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ:، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: مَنْ كَنَزَهَا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا فَوَيْلٌ لَهُ، إِنَّمَا كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تُنْزَلَ الزَّكَاةُ، فَلَمَّا أُنْزِلَتْ جَعَلَهَا اللَّهُ طُهْرًا لِلْأَمْوَالِ.

[الحديث 1404 - طرفه في: 4661]

1405 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يَزِيدَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ أَخْبَرَنَا الأَوْزَاعِيُّ أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ أَنَّ عَمْرَو بْنَ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِيهِ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ رضي الله عنه يَقُولُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ"

[الحديث 1405 - أطرافه في: 1447، 1459، 1484]

1406 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ سَمِعَ هُشَيْمًا أَخْبَرَنَا حُصَيْنٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ "مَرَرْتُ بِالرَّبَذَةِ فَإِذَا أَنَا بِأَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه فَقُلْتُ لَهُ مَا أَنْزَلَكَ مَنْزِلكَ هَذَا قَالَ كُنْتُ بِالشَّأْمِ فَاخْتَلَفْتُ أَنَا وَمُعَاوِيَةُ فِي {الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قَالَ مُعَاوِيَةُ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ فَقُلْتُ نَزَلَتْ فِينَا وَفِيهِمْ فَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فِي ذَاكَ وَكَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ رضي الله عنه يَشْكُونِي فَكَتَبَ إِلَيَّ عُثْمَانُ أَنْ اقْدَمْ الْمَدِينَةَ فَقَدِمْتُهَا فَكَثُرَ عَلَيَّ النَّاسُ حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْنِي قَبْلَ ذَلِكَ فَذَكَرْتُ ذَاكَ لِعُثْمَانَ فَقَالَ لِي إِنْ شِئْتَ تَنَحَّيْتَ فَكُنْتَ قَرِيبًا فَذَاكَ الَّذِي أَنْزَلَنِي هَذَا الْمَنْزِلَ وَلَوْ أَمَّرُوا عَلَيَّ حَبَشِيًّا لَسَمِعْتُ وَأَطَعْتُ"

[الحديث 1406 - طرفه في: 466]

1407 -

حَدَّثَنَا عَيَّاشٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ عَنْ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ جَلَسْتُ ح و حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَلَاءِ بْنُ الشِّخِّيرِ أَنَّ الأَحْنَفَ بْنَ قَيْسٍ حَدَّثَهُمْ قَالَ "جَلَسْتُ إِلَى مَلإ مِنْ قُرَيْشٍ فَجَاءَ رَجُلٌ خَشِنُ الشَّعَرِ وَالثِّيَابِ

ص: 271

وَالْهَيْئَةِ حَتَّى قَامَ عَلَيْهِمْ فَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ بَشِّرْ الْكَانِزِينَ بِرَضْفٍ يُحْمَى عَلَيْهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ثُمَّ يُوضَعُ عَلَى حَلَمَةِ ثَدْيِ أَحَدِهِمْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ نُغْضِ كَتِفِهِ وَيُوضَعُ عَلَى نُغْضِ كَتِفِهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ حَلَمَةِ ثَدْيِهِ يَتَزَلْزَلُ ثُمَّ وَلَّى فَجَلَسَ إِلَى سَارِيَةٍ وَتَبِعْتُهُ وَجَلَسْتُ إِلَيْهِ وَأَنَا لَا أَدْرِي مَنْ هُوَ فَقُلْتُ لَهُ لَا أُرَى الْقَوْمَ إِلاَّ قَدْ كَرِهُوا الَّذِي قُلْتَ قَالَ إِنَّهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا"

1408 -

قَالَ لِي خَلِيلِي قَالَ قُلْتُ مَنْ خَلِيلُكَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَا أَبَا ذَرٍّ أَتُبْصِرُ أُحُدًا قَالَ فَنَظَرْتُ إِلَى الشَّمْسِ مَا بَقِيَ مِنْ النَّهَارِ وَأَنَا أُرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُرْسِلُنِي فِي حَاجَةٍ لَهُ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ كُلَّهُ إِلاَّ ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ" وَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَعْقِلُونَ إِنَّمَا يَجْمَعُونَ الدُّنْيَا لَا وَاللَّهِ لَا أَسْأَلُهُمْ دُنْيَا وَلَا أَسْتَفْتِيهِمْ عَنْ دِينٍ حَتَّى أَلْقَى اللَّهَ"

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا أُدِّيَ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ) قَالَ ابنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُ: وَجْهُ اسْتِدْلَالِ الْبُخَارِيِّ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ أَنَّ الْكَنْزَ الْمَنْفِيَّ هُوَ الْمُتَوَعَّدُ عَلَيْهِ الْمُوجِبُ لِصَاحِبِهِ النَّارَ، لَا مُطْلَقُ الْكَنْزِ الَّذِي هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَحَدِيثُ: لَا صَدَقَةَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ. مَفْهُومُهُ أَنَّ مَا زَادَ عَلَى الْخَمْسِ فَفِيهِ الصَّدَقَةُ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ كُلَّ مَالٍ أُخْرِجَتْ مِنْهُ الصَّدَقَةُ فَلَا وَعِيدَ عَلَى صَاحِبِهِ، فَلَا يُسَمَّى مَا يَفْضُلُ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ الصَّدَقَةُ كَنْزًا. وَقَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: وَجْهُ التَّمَسُّكِ بِهِ أَنَّ مَا دُونَ الْخَمْسِ، وَهُوَ الَّذِي لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ قَدْ عُفِيَ عَنِ الْحَقِّ فِيهِ، فَلَيْسَ بِكَنْزٍ قَطْعًا، وَاللَّهُ قَدْ أَثْنَى عَلَى فَاعِلِ الزَّكَاةِ، وَمَنْ أُثْنِيَ عَلَيْهِ فِي وَاجِبِ حَقِّ الْمَالِ لَمْ يَلْحَقْهُ ذَمٌّ مِنْ جِهَةِ مَا أُثْنِيَ عَلَيْهِ فِيهِ وَهُوَ الْمَالُ. انْتَهَى.

وَيَتَلَخَّصُ أَنْ يُقَالَ: مَا لَمْ تَجِبْ فِيهِ الصَّدَقَةُ لَا يُسَمَّى كَنْزًا؛ لِأَنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، فَلْيَكُنْ مَا أُخْرِجَتْ مِنْهُ الزَّكَاةُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عُفِيَ عَنْهُ بِإِخْرَاجِ مَا وَجَبَ مَنْهُ، فَلَا يُسَمَّى كَنْزًا. ثُمَّ إِنَّ لَفْظَ التَّرْجَمَةِ لَفْظُ حَدِيثٍ رُوِيَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَخْرَجَهُ مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْهُ مَوْقُوفًا، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ عَنْهُ، وَوَصَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، وَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِمَحْفُوظٍ. وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: كُلُّ مَا أَدَّيْتَ زَكَاتَهُ وَإِنْ كَانَ تَحْتَ سَبْعِ أَرَضِينَ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ، وَكُلُّ مَا لَا تُؤَدَّى زَكَاتُهُ فَهُوَ كَنْزٌ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. أَوْرَدَهُ مَرْفُوعًا، ثُمَّ قَالَ: لَيْسَ بِمَحْفُوظٍ، وَالْمَشْهُورُ وَقْفُهُ. وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَنْزِ مَعْنَاهُ الشَّرْعِيُّ. وَفِي الْبَابِ عَنْ جَابِرٍ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ بِلَفْظِ: إِذَا أَدَّيْتَ زَكَاةَ مَالِكَ فَقَدْ أَذْهَبْتَ عَنْكَ شَرَّهُ. وَرَجَّحَ أَبُو زُرْعَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَقْفَهُ كَمَا عِنْدَ الْبَزَّارِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ: إِذَا أَدَّيْتَ زَكَاةَ مَالِكَ فَقَدْ قَضَيْتَ مَا عَلَيْكَ. وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَهُوَ عَلَى شَرْطِ ابْنِ حِبَّانَ. وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ أَيْضًا، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فِي سَنَدِهِ مَقَالٌ. وَذَكَرَ شَيْخُنَا

(1)

التِّرْمِذِيِّ أَنَّ سَنَدَهُ جَيِّدٌ.

(1)

هو الحافظ العراقي. ولفظه عند أبي داود "عن أم سلمة أنها كانت تلبس أوضاحا من ذهب فقالت: يارسول الله، أكنز هو؟ فقال: ما بلغ أن تؤدي زكاته فزكي، فليس بكنز". اهـ وسنده جيد كما قال العراقي. وهوحجة ظاهرة على أن الكنز المتوعد عليه بالعذاب هو المال الذي لا تؤدى زكاته. والله أعلم

ص: 272

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مَوْقُوفًا بِلَفْظِ التَّرْجَمَةِ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْرِضِ الزَّكَاةَ إِلَّا لِيُطَيِّبَ مَا بَقِيَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ، وَفِيهِ قِصَّةٌ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْكَنْزَ الْمَذْمُومَ مَا لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ. وَيَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: إِذَا أَدَّيْتَ زَكَاةَ مَالِكَ فَقَدْ قَضَيْتَ مَا عَلَيْكَ. فَذَكَرَ بَعْضَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الطُّرُقِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الزُّهْدِ كَأَبِي ذَرٍّ، وَسَيَأْتِي شَرْحُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ فِي هَذَا الْبَابِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبٍ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ وَقَدْ وَصَلَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، وَهُوَ الذُّهْلِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ شَبِيبٍ بِإِسْنَادِهِ. وَوَقَعَ لَنَا بِعُلُوٍّ فِي جُزْءِ الذُّهْلِيِّ وَسِيَاقُهُ أَتَمُّ مِمَّا فِي الْبُخَارِيِّ، وَزَادَ فِيهِ سُؤَالَ الْأَعْرَابِيِّ: أَتَرِثُ الْعَمَّةُ؟ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَا أَدْرِي. فَلَمَّا أَدْبَرَ قَبَّلَ ابْنُ عُمَرَ يَدَيْهِ

(1)

، ثُمَّ قَالَ: نِعْمَ مَا قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ - يَعْنِي نَفْسَهُ - سُئِلَ عَمَّا لَا يَدْرِي، فَقَالَ: لَا أَدْرِي. وَزَادَ فِي آخِرِهِ - بَعْدَ قَوْلِهِ: طُهْرَةٌ لِلْأَمْوَالِ - ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ: مَا أُبَالِي لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا أَعْلَمُ عَدَدَهُ أُزَكِّيهِ، وَأَعْمَلُ فِيهِ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ.

قَوْلُهُ: (مَنْ كَنَزَهَا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا) أَفْرَدَ الضَّمِيرَ، إِمَّا عَلَى سَبِيلِ تَأْوِيلِ الْأَمْوَالِ، أَوْ عَوْدًا إِلَى الْفِضَّةِ، لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهَا أَكْثَرُ، أَوْ كَانَ وُجُودُهَا فِي زَمَنِهِمْ أَكْثَرُ مِنَ الذَّهَبِ، أَوْ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِبَيَانِ حَالِهَا عَنْ بَيَانِ حَالِ الذَّهَبِ، وَالْحَامِلُ عَلَى ذَلِكَ رِعَايَةُ لَفْظِ الْقُرْآنِ حَيْثُ قَالَ: يُنْفِقُونَهَا، قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: أَفْرَدَ ذَهَابًا إِلَى الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جُمْلَةٌ وَافِيَةٌ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَلَا يُنْفِقُونَهَا، وَالذَّهَبُ كَذَلِكَ، وَهُوَ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

وَإِنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ

أَيْ وَقَيَّارٌ كَذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (إِنَّمَا كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الزَّكَاةُ) هَذَا مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْوَعِيدَ عَلَى الِاكْتِنَازِ - وَهُوَ حَبْسُ مَا فَضَلَ عَنِ الْحَاجَةِ عَنِ الْمُوَاسَاةِ بِهِ - كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِفَرْضِ الزَّكَاةِ لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ الْفُتُوحَ، وَقُدِّرَتْ نُصُبُ الزَّكَاةِ، فَعَلَى هَذَا: الْمُرَادُ بِنُزُولِ الزَّكَاةِ بَيَانُ نُصُبِهَا وَمَقَادِيرِهَا لَا إِنْزَالُ أَصْلِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقوَلُ ابْنِ عُمَرَ: لَا أُبَالِي لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا، كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى قَوْلِ أَبِي ذَرٍّ الْآتِي آخِرَ الْبَابِ. وَالْجَمْعُ بَيْنَ كَلَامِ ابْنِ عُمَرَ وَحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ أَنْ يُحْمَلَ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ عَلَى مَالٍ تَحْتَ يَدِ الشَّخْصِ لِغَيْرِهِ فَلَا يَجِبُ أَنْ يَحْبِسَهُ عَنْهُ، أَوْ يَكُونَ لَهُ لَكِنَّهُ مِمَّنْ يُرْجَى فَضْلُهُ وَتُطْلَبُ عَائِدَتُهُ كَالْإِمَامِ الْأَعْظَمِ فَلَا يَجِبُ أَنْ يَدَّخِرَ عَنِ الْمُحْتَاجِينَ مِنْ رَعِيَّتِهِ شَيْئًا، وَيُحْمَلَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ عَلَى مَالٍ يَمْلِكُهُ قَدْ أَدَّى زَكَاتَهُ فَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ لِيَصِلَ بِهِ قَرَابَتَهُ وَيَسْتَغْنِيَ بِهِ عَنْ مَسْأَلَةِ النَّاسِ، وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ يَحْمِلُ الْحَدِيثَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، فَلَا يَرَى بِادِّخَارِ شَيْءٍ أَصْلًا. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَرَدَتْ عَنْ أَبِي ذَرٍّ آثَارٌ كَثِيرَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَالٍ مَجْمُوعٍ يَفْضُلُ عَنِ الْقُوتِ وَسَدَادِ الْعَيْشِ فَهُوَ كَنْزٌ يُذَمُّ فَاعِلُهُ، وَأَنَّ آيَةَ الْوَعِيدِ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ، وَخَالَفَهُ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَحَمَلُوا الْوَعِيدَ عَلَى مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَأَصَحُّ مَا تَمَسَّكُوا بِهِ حَدِيثُ طَلْحَةَ وَغَيْرِهِ فِي قِصَّةِ الْأَعْرَابِيِّ حَيْثُ قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ. انْتَهَى.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ لَهُ ابْنُ بَطَّالٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} ؛ أَيْ مَا فَضَلَ عَنِ الْكِفَايَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ ثُمَّ نُسِخَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي الْمُسْنَدِ مِنْ طَرِيقِ يَعْلَى بْنِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ أَبُو ذَرٍّ يَسْمَعُ الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِ الشِّدَّةُ، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى قَوْمِهِ، ثُمَّ يُرَخِّصُ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلَا يَسْمَعُ الرُّخْصَةَ، وَيَتَعَلَّقُ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ:

أَحَدَهَا حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ فِي تَقْدِيرِ نُصُبِ زَكَاةِ الْوَرِقِ

(1)

في المخطوطة "يده"

ص: 273

وَغَيْرِهِ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ) تَعَقَّبَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَأَبُو مَسْعُودٍ بِأَنَّ عَبْدَ الْوَهَّابِ بْنَ نَجْدَةَ خَالَفَ إِسْحَاقَ بْنَ يَزِيدَ شَيْخَ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، فَقَالَ: عَنْ شُعَيْبٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَحَمَّادٌ. وَرَوَاهُ دَاوُدُ بْنُ رَشِيدٍ، وَهِشَامُ بْنُ خَالِدٍ جَمِيعًا عَنْ شُعَيْبِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى غَيْرَ مَنْسُوبٍ، وَقَالَ: الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ رَوَاهُ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْيَمَانِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ مَشْهُورٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ رَوَاهُ عَنْهُ الْخَلْقُ، وَقَدْ رَوَاهُ دَاوُدُ بْنُ رَشِيدٍ، عَنْ شُعَيْبٍ، فَقَالَ: عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ. انْتَهَى. وَقَدْ تَابَعَ إِسْحَاقُ بْنُ يَزِيدَ، سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدِّمَشْقِيَّ، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ إِسْحَاقَ، أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ، وَذَلِكَ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ عِنْدَ شُعَيْبٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، لَكِنْ دَلَّتْ رِوَايَةُ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَلَى أَنَّ رِوَايَةَ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ مَوْهُومَةٌ أَوْ مُدَلَّسَةٌ، وَلِذَلِكَ عَدَلَ عَنْهَا الْبُخَارِيُّ، وَاقْتَصَرَ عَلَى طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِيهِ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ) فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرٍو، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى بَعْدَ بِضْعَةٍ وَعِشْرِينَ بَابًا.

ثَانِيَهَا حَدِيثَ أَبِي ذَرٍّ مَعَ مُعَاوِيَةَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَلِيٌّ سَمِعَ هُشَيْمًا) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ عَنْ مَشَايِخِهِ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي هَاشِمٍ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ طِبْرَاخٍ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَآخِرُهُ مُعْجَمَةٌ، وَوَقَعَ فِي أَطْرَافِ الْمِزِّيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَدِينِيِّ، وَهُوَ خَطَأٌ.

قَوْلُهُ: (عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ) هُوَ التَّابِعِيُّ الْكَبِيرُ الْكُوفِيُّ أَحَدُ الْمُخَضْرَمِينَ.

قَوْلُهُ: (بِالرَّبَذَةِ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَالْمُعْجَمَةِ مَكَانٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، نَزَلَ بِهِ أَبُو ذَرٍّ فِي عَهْدِ عُثْمَانَ وَمَاتَ بِهِ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ سَبَبُ نُزُولِهِ، وَإِنَّمَا سَأَلَهُ زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ عَنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ مُبْغِضِي عُثْمَانَ كَانُوا يُشَنِّعُونَ عَلَيْهِ أَنَّهُ نَفَى أَبَا ذَرٍّ، وَقَدْ بَيَّنَ أَبُو ذَرٍّ أَنَّ نُزُولَهُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ كَانَ بِاخْتِيَارِهِ. نَعَمْ أَمَرَهُ عُثْمَانُ بِالتَّنَحِّي عَنِ الْمَدِينَةِ لِدَفْعِ الْمَفْسَدَةِ الَّتِي خَافَهَا عَلَى غَيْرِهِ مِنْ مَذْهَبِهِ الْمَذْكُورِ، فَاخْتَارَ الرَّبَذَةَ، وَقَدْ كَانَ يَغْدُو إِلَيْهَا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، كَمَا رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ، وَفِيهِ قِصَّةٌ لَهُ فِي التَّيَمُّمِ. وَرَوَيْنَا فِي فَوَائِدِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ جَذْلَمٍ بِإِسْنَادِهِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِي ذَرٍّ عَلَى عُثْمَانَ، فَحَسَرَ عَنْ رَأْسِهِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَنَا مِنْهُمْ يَعْنِي الْخَوَارِجَ. فَقَالَ. إِنَّمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْكَ لِتُجَاوِرَنَا بِالْمَدِينَةِ. فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِي ذَلِكَ، ائْذَنْ لِي بِالرَّبَذَةِ. قَالَ: نَعَمْ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ دُونَ آخِرِهِ، وَقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ مَا أَنَا مِنْهُمْ: وَلَا أُدْرِكُهُمْ، سِيمَاهُمُ التَّحْلِيقُ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، وَاللَّهِ لَوْ أَمَرْتنِي أَنْ أَقُومَ مَا قَعَدْتُ.

وَفِي طَبَقَاتِ ابْنِ سَعْدٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: إِنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ قَالُوا لِأَبِي ذَرٍّ وَهُوَ بِالرَّبَذَةِ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ فَعَلَ بِكَ وَفَعَلَ، هَلْ أَنْتَ نَاصِبٌ لَنَا رَايَةً - يَعْنِي فَنُقَاتِلُهُ - فَقَالَ: لَا، لَوْ أَنَّ عُثْمَانَ سَيَّرَنِي مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ لَسَمِعْتُ وَأَطَعْتُ.

قَوْلُهُ: (كُنْتُ بِالشَّامِ) يَعْنِي بِدِمَشْقَ، وَمُعَاوِيَةُ إِذْ ذَاكَ عَامِلُ عُثْمَانَ عَلَيْهَا. وَقَدْ بَيَّنَ السَّبَبَ فِي سُكْنَاهُ الشَّامَ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي أَبُو ذَرٍّ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا بَلَغَ الْبِنَاءُ - أَيْ بِالْمَدِينَةِ - سَلْعًا فارْتَحِلْ إِلَى الشَّامِ، فَلَمَّا بَلَغَ الْبِنَاءُ سَلْعًا قَدِمْتُ الشَّامَ فَسَكَنْتُ بِهَا. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ نَحْوَهُ. وَعِنْدَهُ أَيْضًا بِإِسْنَادٍ فِيهِ ضَعْفٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اسْتَأْذَنَ أَبُو ذَرٍّ عَلَى عُثْمَانَ فَقَالَ: إِنَّهُ يُؤْذِينَا، فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ لَهُ عُثْمَانُ: أَنْتَ الَّذِي تَزْعُمُ أَنَّكَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي مَنْ بَقِيَ عَلَى الْعَهْدِ الَّذِي عَاهَدْتُهُ عَلَيْهِ، وَأَنَا بَاقٍ عَلَى عَهْدِهِ. قَالَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَلْحَقَ بِالشَّامِ. وَكَانَ يُحَدِّثُهُمْ وَيَقُولُ: لَا يَبِيتَنَّ عِنْدَ أَحَدِكُمْ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ إِلَّا مَا يُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ يَعُدُّهُ لِغَرِيمٍ، فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى عُثْمَانَ:

ص: 274

إِنْ كَانَ لَكَ بِالشَّامِ حَاجَةٌ فَابْعَثْ إِلَى أَبِي ذَرٍّ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ أَنِ اقْدَمْ عَلَيَّ، فَقَدِمَ.

قَوْلُهُ: (فِي وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ بَرَاءَةٌ مِنْ طَرِيقِ جَرِيرٍ، عَنْ حُصَيْنٍ بِلَفْظِ: فَقَرَأْتُ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.

قَوْلُهُ: (نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ) فِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ مَا هَذِهِ فِينَا.

قَوْلُهُ: (فَكَثُرَ عَلَيَّ النَّاسُ حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْنِي) فِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ: أَنَّهُمْ كَثُرُوا عَلَيْهِ يَسْأَلُونَهُ عَنْ سَبَبِ خُرُوجِهِ مِنَ الشَّامِ، قَالَ: فَخَشِيَ عُثْمَانُ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَا خَشِيَهُ مُعَاوِيَةُ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ.

قَوْلُهُ: (إِنْ شِئْتَ تَنَحَّيْتُ) فِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ: فَقَالَ لَهُ: تَنَحَّ قَرِيبًا. قَالَ: وَاللَّهِ لَنْ أَدَعَ مَا كُنْتُ أَقُولُهُ. وَكَذَا لِابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ وَرْقَاءَ، عَنْ حُصَيْنٍ بِلَفْظِ وَاللَّهِ لَا أَدَعُ مَا قُلْتُ.

قَوْلُهُ: (حَبَشِيًّا) فِي رِوَايَةِ وَرْقَاءَ عَبْدًا حَبَشِيًّا وَلِأَحْمَدَ، وَأَبِي يَعْلَى مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَرْبِ بْنِ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عَمِّهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: كَيْفَ تَصْنَعُ إِذَا أُخْرِجْتَ مِنْهُ؟ أَيِ الْمَسْجِدُ النَّبَوِيُّ، قَالَ: آتِي الشَّامَ. قَالَ: كَيْفَ تَصْنَعُ إِذَا أُخْرِجْتَ مِنْهَا؟ قَالَ: أَعُودُ إِلَيْهِ، أَيِ الْمَسْجِدَ، قَالَ: كَيْفَ تَصْنَعُ إِذَا أُخْرِجْتَ مِنْهُ؟ قَالَ: أَضْرِبُ بِسَيْفِي، قَالَ: أَدُلُّكَ

(1)

عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْ ذَلِكَ وَأَقْرَبُ رُشْدًا، قَالَ: تَسْمَعُ وَتُطِيعُ وَتَنْسَاقُ لَهُمْ حَيْثُ سَاقُوكَ، وَعِنْدَ أَحْمَدَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ نَحْوَهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ إِنْكَارَ أَبِي ذَرٍّ كَانَ عَلَى السَّلَاطِينِ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ الْمَالَ لِأَنْفُسِهِمْ، وَلَا يُنْفِقُونَهُ فِي وَجْهِهِ. وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ بِالْإِبْطَالِ، لِأَنَّ السَّلَاطِينَ حِينَئِذٍ كَانُوا مِثْلَ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَخُونُوا. قُلْتُ: لِقَوْلِهِ مَحْمَلٌ، وَهُوَ أَنَّهُ أَرَادَ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ حِينَئِذٍ مَنْ يَفْعَلُهُ.

وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ: أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ لِاتِّفَاقِ أَبِي ذَرٍّ، وَمُعَاوِيَةَ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَفِيهِ مُلَاطَفَةُ الْأَئِمَّةِ لِلْعُلَمَاءِ، فَإِنَّ مُعَاوِيَةَ لَمْ يَجْسُرْ عَلَى الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ حَتَّى كَاتَبَ مَنْ هُوَ أَعْلَى مِنْهُ فِي أَمْرِهِ، وَعُثْمَانُ لَمْ يَحْنَقْ عَلَى أَبِي ذَرٍّ مَعَ كَوْنِهِ كَانَ مُخَالِفًا لَهُ فِي تَأْوِيلِهِ، وَفِيهِ التَّحْذِيرُ مِنَ الشِّقَاقِ وَالْخُرُوجِ عَلَى الْأَئِمَّةِ، وَالتَّرْغِيبُ فِي الطَّاعَةِ لِأُولِي الْأَمْرِ، وَأَمْرُ الْأَفْضَلِ بِطَاعَةِ الْمَفْضُولِ خَشْيَةَ الْمَفْسَدَةِ، وَجَوَازُ الِاخْتِلَافِ فِي الِاجْتِهَادِ، وَالْأَخْذُ بِالشِّدَّةِ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَإِنْ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى فِرَاقِ الْوَطَنِ، وَتَقْدِيمِ دَفْعِ الْمَفْسَدَةِ عَلَى جَلْبِ الْمَصْلَحَةِ لِأَنَّ فِي بَقَاءِ أَبِي ذَرٍّ بِالْمَدِينَةِ مَصْلَحَةٌ كَبِيرَةٌ مِنْ بَثِّ عِلْمِهِ فِي طَالِبِ الْعِلْمِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَرَجَحَ عِنْدَ عُثْمَانَ دَفْعُ مَا يُتَوَقَّعُ مِنَ الْمَفْسَدَةِ مِنَ الْأَخْذِ بِمَذْهَبِهِ الشَّدِيدِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالرُّجُوعِ عَنْهُ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَانَ مُجْتَهِدًا.

قَالَ لِي خَلِيلِي قَالَ قُلْتُ مَنْ خَلِيلُكَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَا أَبَا ذَرٍّ أَتُبْصِرُ أُحُدًا قَالَ فَنَظَرْتُ إِلَى الشَّمْسِ مَا بَقِيَ مِنْ النَّهَارِ وَأَنَا أُرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُرْسِلُنِي فِي حَاجَةٍ لَهُ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ كُلَّهُ إِلَّا ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ وَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَعْقِلُونَ إِنَّمَا يَجْمَعُونَ الدُّنْيَا لَا وَاللَّهِ لَا أَسْأَلُهُمْ دُنْيَا وَلَا أَسْتَفْتِيهِمْ عَنْ دِينٍ حَتَّى أَلْقَى اللَّهَ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَيَّاشٌ) هُوَ ابْنُ الْوَلِيدِ الرَّقَّامُ، وَعَبْدُ الْأَعْلَى هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، وَالْجُرَيْرِيُّ بِضَمِّ الْجِيمِ هُوَ سَعِيدٌ، وَأَبُو الْعَلَاءِ هُوَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ. وَأَرْدَفَ الْمُصَنِّفُ هَذَا الْإِسْنَادَ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَإِنْ كَانَ أَنْزَلَ مِنْهُ لِتَصْرِيحِ عَبْدِ الصَّمَدِ، وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ فِيهِ بِتَحْدِيثِ أَبِي الْعَلَاءِ، لِلْجُرَيْرِيِّ، وَالْأَحْنَفِ، لِأَبِي الْعَلَاءِ. وَقَدْ رَوَى الْأَسْوَدُ بْنُ شَيْبَانَ، عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ يَزِيدَ الْمَذْكُورِ عَنْ أَخِيهِ مُطَرِّفٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ طَرَفًا مِنْ آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِعِلَّةٍ لِحَدِيثِ الْأَحْنَفِ، لِأَنَّ حَدِيثَ الْأَحْنَف أَتَمُّ سِيَاقًا وَأَكْثَرُ فَوَائِدَ، وَلَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ لِيَزِيدَ فِيهِ شَيْخَانِ.

قَوْلُهُ: (جَلَسْتُ إِلَى مَلَأٍ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ، فَبَيْنَمَا أَنَا فِي حَلْقَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ.

قَوْلُهُ: (خَشِنُ الشَّعْرِ إِلَخْ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِمُعْجَمَتَيْنِ مِنَ الْخُشُونَةِ، وَلِلْقَابِسِيِّ بِمُهْمَلَتَيْنِ مِنَ الْحُسْنِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: أَخْشَنُ الثِّيَابِ أَخْشَنُ الْجَسَدِ أَخْشَنُ الْوَجْهِ، فَقَامَ عَلَيْهِمْ وَلِيَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنِ الْأَحْنَفِ: قَدِمْتُ

(1)

في المخطوطة "ألا أدلك".

ص: 275

الْمَدِينَةَ فَدَخَلْتُ مَسْجِدَهَا إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ آدَمُ طِوَالٌ أَبْيَضُ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَقَالُوا: هَذَا أَبُو ذَرٍّ.

قَوْلُهُ: (بَشِّرِ الْكَانِزِينَ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ بَشِّرِ الْكَنَّازِينَ.

قَوْلُهُ: (بِرَضْفٍ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا فَاءٌ هِيَ الْحِجَارَةُ الْمُحْمَاةُ وَاحِدُهَا رَضْفَةٌ.

قَوْلُهُ: (نُغْضُ) بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ، بَعْدَهَا ضَادٌ مُعْجَمَةٌ: الْعَظْمُ الدَّقِيقُ الَّذِي عَلَى طَرَفِ الْكَتِفِ أَوْ عَلَى الْكَتِفِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هُوَ الشَّاخِصُ مِنْهُ، وَأَصْلُ النُّغْضِ الْحَرَكَةُ، فَسُمِّيَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ نُغْضًا لِأَنَّهُ يَتَحَرَّكُ بِحَرَكَةِ الْإِنْسَانِ.

قَوْلُهُ: (يَتَزَلْزَلُ) أَيْ يَضْطَرِبُ وَيَتَحَرَّكُ، فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: فَيَتَجَلْجَلُ بِجِيمَيْنِ، وَزَادَ إِسْمَاعِيلُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: فَوَضَعَ الْقَوْمُ رُءُوسَهُمْ، فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ رَجَعَ إِلَيْهِ شَيْئًا. قَالَ: فَأَدْبَرَ، فَاتَّبَعْتُهُ حَتَّى جَلَسَ إِلَى سَارِيَةٍ.

قَوْلُهُ: (وَأَنَا لَا أَدْرِي مَنْ هُوَ) زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ خُلَيْدٍ الْعَصَرِيِّ، عَنِ الْأَحْنَفِ: فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا أَبُو ذَرٍّ، فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: مَا شَيْءٌ سَمِعْتُكَ تَقُولُهُ؟ قَالَ: مَا قُلْتُ إِلَّا شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّهِمْ صلى الله عليه وسلم. وَفِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ رَدٌّ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى أَبِي ذَرٍّ، فَلَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ. وَلِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ الْبَاهِلِيِّ، عَنِ الْأَحْنَفِ: كُنْتُ بِالْمَدِينَةِ، فَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ يَفِرُّ مِنْهُ النَّاسُ حِينَ يَرَوْنَهُ، قُلْتُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَبُو ذَرٍّ. قُلْتُ: مَا نَفَّرَ النَّاسَ عَنْكَ؟ قَالَ: إِنِّي أَنْهَاهُمْ عَنِ الْكُنُوزِ الَّتِي كَانَ يَنْهَاهُمْ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (إِنَّهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا) بَيَّنَ وَجْهَ ذَلِكَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ حَيْثُ قَالَ: إِنَّمَا يَجْمَعُونَ الدُّنْيَا. وَقَوْلُهُ: لَا أَسْأَلُهُمْ دُنْيَا فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ الْمَذْكُورَةِ: فَقُلْتُ: مَا لَكَ وَلِإِخْوَانِكَ مِنْ قُرَيْشٍ، لَا تَعْتَرِيهِمْ وَلَا تُصِيبُ مِنْهُمْ؟ قَالَ: وَرَبِّكَ لَا أَسْأَلُهُمْ دُنْيَا. . إِلَخْ.

قَوْلُهُ: (قُلْتُ: وَمَنْ خَلِيلُكَ؟ قَالَ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاعِلُ قَالَ هُوَ أَبُو ذَرٍّ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ، كَأَنَّهُ قَالَ: خَلِيلِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَسَقَطَ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوْ قَالَ: فَقَطْ، وَكَأَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ ظَنَّهَا مُكَرَّرَةً فَحَذَفَهَا وَلَا بُدَّ مِنَ إِثْبَاتِهَا.

قَوْلُهُ: (يَا أَبَا ذَرٍّ أَتُبْصِرُ أَحَدًا) وَهُوَ حَدِيثٌ مُسْتَقِلٌّ سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ، وَعَلَى مَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مِنْ قَوْلِهِ: إِلَّا ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنَّمَا أَوْرَدَهُ أَبُو ذَرٍّ، لِلْأَحْنَفِ لِتَقْوِيَةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ ذَمِّ اكْتِنَازِ الْمَالِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْوُجُوبِ، وَمِنْ ثَمَّ عَقَّبَهُ الْمُصَنِّفُ بِالتَّرْجَمَةِ الَّتِي تَلِيهِ فقالَ: قَوْلُهُ: (وَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَعْقِلُونَ) هُوَ مِنْ كَلَامِ أَبِي ذَرٍّ كَرَّرَهُ تَأْكِيدًا لِكَلَامِهِ، وَلِرَبْطِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ.

‌5 - بَاب إِنْفَاقِ الْمَالِ فِي حَقِّهِ

1409 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنِي قَيْسٌ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِنْفَاقِ الْمَالِ فِي حَقِّهِ) وَأَوْرَدَ فِيهِ الْحَدِيثَ الدَّالَّ عَلَى التَّرْغِيبِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ أَدَلِّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ أَحَادِيثَ الْوَعِيدِ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَنْ لَا يُؤَدِّي الزَّكَاةَ، وَأَمَّا حَدِيثُ: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي أُحُدًا ذَهَبًا. فَمَحْمُولٌ عَلَى الْأَوْلَوِيَّةِ، لِأَنَّ جَمْعَ الْمَالِ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا لَكِنِ الْجَامِعُ مَسْئُولٌ عَنْهُ، وَفِي الْمُحَاسَبَةِ خَطَرٌ وَإِنْ كَانَ التَّرْكُ أَسْلَمَ، وَمَا وَرَدَ مِنَ التَّرْغِيبِ فِي تَحْصِيلِهِ وَإِنْفَاقِهِ فِي حَقِّهِ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَنْ وَثِقَ بِأَنَّهُ يَجْمَعُهُ مِنَ الْحَلَالِ الَّذِي يَأْمَنُ خَطَرَ الْمُحَاسَبَةِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ إِذَا أَنْفَقَهُ حَصَلَ لَهُ ثَوَابُ ذَلِكَ النَّفْعِ الْمُتَعَدِّي، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يُحَصِّلْ شَيْئًا كَمَا تَقَدَّمَ شَاهِدُهُ فِي حَدِيثِ: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ الْبَابِ مُسْتَوْفًى فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْعِلْمِ، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ

ص: 276

الْمُنِيرِ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ حُجَّةٌ عَلَى جَوَازِ إِنْفَاقِ جَمِيعِ الْمَالِ وَبَذْلِهِ فِي الصِّحَّةِ وَالْخُرُوجِ عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ، مَا لَمْ يُؤَدِّ إِلَى حِرْمَانِ الْوَارِثِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا مَنَعَ مِنْهُ الشَّرْعُ.

‌6 - بَاب الرِّيَاءِ فِي الصَّدَقَةِ

لِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} - إِلَى قَوْلِهِ -: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما {صَلْدًا} : لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ {وَابِلٌ}: مَطَرٌ شَدِيدٌ، وَالطَّلُّ: النَّدَى.

قَوْلُهُ: (بَابُ الرِّيَاءِ فِي الصَّدَقَةِ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ إِبْطَالَ الرِّيَاءِ لِلصَّدَقَةِ، فَيُحْمَلُ عَلَى مَا تَمَحَّضَ مِنْهَا لِحُبِّ الْمَحْمَدَةِ وَالثَّنَاءِ مِنَ الْخَلْقِ، بِحَيْثُ لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَتَصَدَّقْ بِهَا.

قَوْلُهُ: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} - إِلَى قَوْلِهِ -: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَبَّهَ مُقَارَنَةَ الْمَنِّ وَالْأَذَى لِلصَّدَقَةِ أَوِ اتِّبَاعِهَا بِذَلِكَ بِإِنْفَاقِ الْكَافِرِ الْمُرَائِي الَّذِي لَا يَجِدُ بَيْنَ يَدَيْهِ شَيْئًا مِنْهُ، وَمُقَارَنَةُ الرِّيَاءِ مِنَ الْمُسْلِمِ لِصَدَقَتِهِ أَقْبَحُ مِنْ مُقَارَنَةِ الْإِيذَاءِ، وَأَوْلَى أَنْ يُشَبَّهَ بِإِنْفَاقِ الْكَافِرِ الْمُرَائِي فِي إِبْطَالِ إِنْفَاقِهِ اهـ. وَقَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: اقْتَصَرَ الْبُخَارِيُّ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ عَلَى الْآيَةِ، وَمُرَادُهُ أَنَّ الْمُشَبَّهَ بِالشَّيْءِ يَكُونُ أَخْفَى مِنَ الْمُشَبَّهِ بِهِ، لِأَنَّ الْخَفِيَّ رُبَّمَا شُبِّهَ بِالظَّاهِرِ لِيَخْرُجَ مِنْ حَيِّزِ الْخَفَاءِ إِلَى الظُّهُورِ. وَلَمَّا كَانَ الْإِنْفَاقُ رِيَاءً مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ ظَاهِرًا فِي إِبْطَالِ الصَّدَقَةِ شُبِّهَ بِهِ الْإِبْطَالُ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى، أَيْ حَالَةُ هَؤُلَاءِ فِي الْإِبْطَالِ كَحَالَةِ هَؤُلَاءِ، هَذَا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرَاعَى حَالُ التَّفْصِيلِ أَيْضًا لِأَنَّ حَالَ الْمَانِّ شَبِيهٌ بِحَالِ الْمُرَائِي، لِأَنَّهُ لَمَّا مَنَّ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ وَجْهَ اللَّهِ، وَحَالُ الْمُؤْذِي يُشْبِهُ حَالَ الْفَاقِدِ لِلْإِيمَانِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، لِأَنَّ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ لِلْمُؤْذِي نَاصِرًا يَنْصُرُهُ لَمْ يُؤْذِهِ، فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ حَالَةَ الْمُرَائِي أَشَدُّ مِنْ حَالَةِ الْمَانِّ وَالْمُؤْذِي. انْتَهَى. وَيَتَلَخَّصُ أَنْ يُقَالَ: لَمَّا كَانَ الْمُشَبَّهُ بِهِ أَقْوَى مِنَ الْمُشَبَّهِ، وَإِبْطَالُ الصَّدَقَةِ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى قَدْ شُبِّهَ بِإِبْطَالِهَا بِالرِّيَاءِ فِيهَا كَانَ أَمْرُ الرِّيَاءِ أَشَدَّ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَلْدًا لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ) وَصَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَكَذَا فِي قَوْلِهِ:{فَتَرَكَهُ صَلْدًا} أَيْ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِأَعْمَالِ الْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ: {لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} يَوْمَئِذٍ كَمَا تَرَكَ هَذَا الْمَطَرُ الصَّفَا نَقِيًّا لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَمِنْ طَرِيقِ أَسْبَاطٍ، عَنِ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عِكْرِمَةُ: وَابِلٌ مَطَرٌ شَدِيدٌ، وَالطَّلُّ النَّدَى) وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ، عَنْ عُثْمَانَ بِنِ غِيَاثٍ سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ قَالَ فِي قَوْلِهِ: وَابِلٌ، قَالَ: مَطَرٌ شَدِيدٌ، وَالطَّلُّ: النَّدَى.

‌7 - بَاب لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ وَلَا يَقْبَلُ إِلَّا مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ

لِقَوْلِهِ: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ}

‌8 - باب الصَّدَقَةِ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ

لِقَوْلِهِ [البقرة 276 - 277]:

ص: 277

{وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ - إلى قوله - وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}

1410 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ أَبَا النَّضْرِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلاَّ الطَّيِّبَ وَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ" تَابَعَهُ سُلَيْمَانُ عَنْ ابْنِ دِينَارٍ وَقَالَ وَرْقَاءُ عَنْ ابْنِ دِينَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرَوَاهُ مُسْلِمُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَسُهَيْلٌ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم"

[الحديث 1410 - طرفه في: 7430]

قَوْلُهُ: (بَابُ لَا تُقْبَلُ صَدَقَةٌ مِنْ غُلُولٍ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي: لَا يَقْبَلُ اللَّهُ وَهَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ سَبَقَ بَاقِيهِ فِي تَرْجَمَتِهِ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ. وَأَخْرَجَهُ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي كَامِلٍ أَحَدِ مَشَايِخِ مُسْلِمٍ فِيهِ بِلَفْظِ: لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً إِلَّا بِطُهُورٍ، وَلَا صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ. وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْمَلِيحِ عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا: لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ، وَلَا صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.

قَوْلُهُ: (وَلَا يَقْبَلُ إِلَّا مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ) هَذَا لِلْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ، وَهُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، الْآتِي بَعْدَهُ.

قَوْلُهُ: (لِقَوْلِهِ: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} - إِلَى قَوْلِهِ -: حَلِيمٌ) قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: جَرَى الْمُصَنِّفُ عَلَى عَادَتِهِ فِي إِيثَارِ الْخَفِيِّ عَلَى الْجَلِيِّ، وَذَلِكَ أَنَّ فِي الْآيَةِ أَنَّ الصَّدَقَةَ لَمَّا تَبِعَتْهَا سَيِّئَةُ الْأَذَى بَطَلَتْ، وَالْغُلُولُ أَذًى إِنْ قَارَنَ الصَّدَقَةَ أَبْطَلَهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، أَوْ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْمَعْصِيَةَ اللَّاحِقَةَ لِلطَّاعَةِ بَعْدَ تَقَرُّرِهَا تُبْطِلُ الطَّاعَةَ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَتِ الصَّدَقَةُ بِعَيْنِ الْمَعْصِيَةِ، لِأَنَّ الْغَالَّ فِي دَفْعِهِ الْمَالَ إِلَى الْفَقِيرِ غَاصِبٌ مُتَصَرِّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، فَكَيْفَ تَقَعُ الْمَعْصِيَةُ طَاعَةً مُعْتَبَرَةً وَقَدْ أَبْطَلَتِ الْمَعْصِيَةُ الطَّاعَةَ الْمُحَقَّقَةَ مِنْ أَوَّلِ أَمْرِهَا؟ وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ رَشِيدٍ بِأَنَّهُ يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ الْأَذَى أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِهَةِ الْمُتَصَدِّقِ لِلْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ أَوِ إِيذَائِهِ لِغَيْرِهِ كَمَا فِي الْغُلُولِ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى، وَقَدْ لَا يُسَلَّمُ هَذَا فِي مَعْنَى الْآيَةِ لِبُعْدِهِ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَذَى فِي الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ مَا يَكُونُ مِنْ جِهَةِ الْمَسْئُولِ لِلسَّائِلِ، فَإِنَّهُ عُطِفَ عَلَى الْمَنِّ وَجُمِعَ مَعَهُ بِالْوَاوِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ قَصَدَ أَنَّ الْمُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ إِذَا عَلِمَ أَنَّ الْمُتَصَدَّقَ بِهِ غُلُولٌ أَوْ غَصْبٌ أَوْ نَحْوُهُ تَأَذَّى بِذَلِكَ وَلَمْ يَرْضَ بِهِ، كَمَا قَاءَ أَبُو بَكْرٍ اللَّبَنَ لَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ وَجْهٍ غَيْرِ طَيِّبٍ، وَقَدْ صَدَقَ عَلَى الْمُتَصَدِّقِ أَنَّهُ مُؤْذٍ لَهُ بِتَعْرِيضِهِ لِكُلِّ مَا لَوْ عَلِمَهُ لَمْ يَقْبَلْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ} فَسَّرَهُ بِالرَّدِّ الْجَمِيلِ، وَقَوْلِهِ:{وَمَغْفِرَةٌ} أَيْ: عَفْوٌ عَنِ السَّائِلِ إِذَا وَجَدَ مِنْهُ مَا يَثْقُلُ عَلَى الْمَسْئُولِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ عَفْوٌ مِنَ اللَّهِ بِسَبَبِ الرَّدِّ الْجَمِيلِ، وَقِيلَ: عَفْوٌ مِنْ جِهَةِ السَّائِلِ أَيْ مَعْذِرَةٌ مِنْهُ لِلْمَسْئُولِ لِكَوْنِهِ رَدَّهُ رَدًّا جَمِيلًا. وَالثَّانِي أَظْهَرُ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الصَّدَقَةَ تَحْبُطُ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى بَعْدَ أَنْ تَقَعَ سَالِمَةً، لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَعَلَّ قَبُولَهَا مَوْقُوفٌ عَلَى سَلَامَتِهَا مِنَ الْمَنِّ وَالْأَذَى، فَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ عُدِمَ الشَّرْطُ فَعُدِمَ الْمَشْرُوطُ فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْإِبْطَالِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(تَنْبِيهَانِ): الْأَوَّلُ دَلَّ قَوْلُهُ: لَا تُقْبَلُ صَدَقَةٌ

ص: 278

مِنْ غُلُولٍ أَنَّ الْغَالَّ لَا تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ إِلَّا بِرَدِّ الْغُلُولِ إِلَى أَصْحَابِهِ بِأَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ

(1)

إِذَا جَهِلَهُمْ مَثَلًا، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ حَقِّ الْغَانِمِينَ، فَلَوْ جُهِلَتْ أَعْيَانُهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِالصَّدَقَةِ عَلَى غَيْرِهِمْ.

الثَّانِي: وَقَعَ هُنَا لِلْمُسْتَمْلِي، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ، وَابْنِ شَبُّوَيْهِ

بَابُ الصَّدَقَةِ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} - إِلَى قَوْلِهِ - {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} وَعَلَى هَذَا فَتَخْلُو التَّرْجَمَةُ الَّتِي قَبْلَ هَذَا مِنَ الْحَدِيثِ، وَتَكُونُ كَالَّتِي قَبْلَهَا فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الْآيَةِ، لَكِنْ تَزِيدُ عَلَيْهَا بِالْإِشَارَةِ إِلَى لَفْظِ الْحَدِيثِ الَّذِي فِي التَّرْجَمَةِ. وَمُنَاسَبَةُ الْحَدِيثِ لِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ ظَاهِرَةٌ، وَمُنَاسَبَتُهُ لِلَّتِي قَبْلَهَا مِنْ جِهَةِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، لِأَنَّهُ دَلَّ بِمَنْطُوقِهِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، فَمَفْهُومُهُ أَنَّ مَا لَيْسَ بِطَيِّبٍ لَا يُقْبَلُ، وَالْغُلُولُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ غَيْرِ الطَّيِّبِ فَلَا يُقْبَلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ إِنْ كَانَ بَابُ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ فَالْجُمْلَةُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ، وَالتَّقْدِيرُ: هَذَا بَابُ فَضْلِ الصَّدَقَةِ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَإِنْ كَانَ مُنَوَّنًا فَمَا بَعْدَهُ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: الصَّدَقَةُ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ مَقْبُولَةٌ أَوْ يُكْثِرُ اللَّهُ ثَوَابَهَا. وَمَعْنَى الْكَسْبِ الْمَكْسُوبُ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ تَعَاطِي التَّكَسُّبِ أَوْ حُصُولِ الْمَكْسُوبِ بِغَيْرِ تَعَاطٍ كَالْمِيرَاثِ. وَكَأَنَّهُ ذَكَرَ الْكَسْبَ لِكَوْنِهِ الْغَالِبَ فِي تَحْصِيلِ الْمَالِ، وَالْمُرَادُ بِالطَّيِّبِ الْحَلَالُ، لِأَنَّهُ صِفَةُ الْكَسْبِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَصْلُ الطَّيِّبِ الْمُسْتَلَذُّ بِالطَّبْعِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْمُطْلَقِ بِالشَّرْعِ وَهُوَ الْحَلَالُ، وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} بَعْدَ قَوْلِهِ: الصَّدَقَةُ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ.

فَقَدِ اعْتَرَضَهُ ابْنُ التِّينِ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ تَكْثِيرَ أَجْرِ الصَّدَقَةِ لَيْسَ عِلَّةً لِكَوْنِ الصَّدَقَةِ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، بَلِ الْأَمْرُ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الصَّدَقَةَ مِنَ الْكَسْبِ الطَّيِّبِ سَبَبٌ لِتَكْثِيرِ الْأَجْرِ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَكَانَ الْأَبْيَنُ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} وَقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: لَمَّا كَانَتِ الْآيَةُ مُشْتَمِلَةً عَلَى أَنَّ الرِّبَا يَمْحَقُهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ حَرَامٌ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ الَّتِي تُتَقَبَّلُ لَا تَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْمَمْحُوقِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَفْظُ الصَّدَقَاتِ وَإِنْ كَانَ أَعَمَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْكَسْبِ الطَّيِّبِ وَمِنْ غَيْرِهِ، لَكِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِالصَّدَقَاتِ الَّتِي مِنَ الْكَسْبِ الطَّيِّبِ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ، نَحْوَ:{وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}

قَوْلُهُ: (بِعَدْلِ تَمْرَةٍ) أَيْ بِقِيمَتِهَا، لِأَنَّهُ بِالْفَتْحِ الْمِثْلُ، وَبِالْكَسْرِ الْحِمْلُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ، هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: بِالْفَتْحِ الْمِثْلُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَبِالْكَسْرِ مِنْ جِنْسِهِ، وَقِيلَ: بِالْفَتْحِ مِثْلُهُ فِي الْقِيمَةِ، وَبِالْكَسْرِ فِي النَّظَرِ. وَأَنْكَرَ الْبَصْرِيُّونَ هَذِهِ التَّفْرِقَةَ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: هُمَا بِمَعْنًى كَمَا أَنَّ لَفْظَ الْمِثْلِ لَا يَخْتَلِفُ. وَضُبِطَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ لِلْأَكْثَرِ بِالْفَتْحِ.

قَوْلُهُ: (وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ) فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ الْآتِي ذِكْرُهَا: وَلَا يَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ إِلَّا الطَّيِّبُ. وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ لِتَقْرِيرِ مَا قَبْلَهُ، زَادَ سُهَيْلٌ فِي رِوَايَتِهِ الْآتِي ذِكْرُهَا: فَيَضَعُهَا فِي حَقِّهَا. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَإِنَّمَا لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّدَقَةَ بِالْحَرَامِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِلْمُتَصَدِّقِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَالْمُتَصَدَّقُ بِهِ مُتَصَرَّفٌ فِيهِ، فَلَوْ قُبِلَ مِنْهُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مَأْمُورًا مَنْهِيًّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مُحَالٌ.

قَوْلُهُ: (يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ) فِي رِوَايَةِ سُهَيْلٍ: إِلَّا أَخَذَهَا بِيَمِينِهِ. وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ الْآتِي ذِكْرُهَا: فَيَقْبِضُهَا وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ الْبَزَّارِ: فَيَتَلَقَّاهَا الرَّحْمَنُ بِيَدِهِ.

قَوْلُهُ: (فَلُوَّهُ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَضَمِّ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ، وَهُوَ الْمُهْرُ لِأَنَّهُ يُفْلَى أَيْ: يُفْطَمُ، وَقِيلَ: هُوَ كُلُّ فَطِيمٍ مِنْ ذَاتِ حَافِرٍ، وَالْجَمْعُ أَفْلَاءٌ كَعَدُوٍّ وَأَعْدَاءٍ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: إِذَا فَتَحْتَ الْفَاءَ شَدَّدْتَ الْوَاوَ، وَإِذَا كَسَرْتَهَا سَكَّنْتَ اللَّامَ كَجِرْوٍ. وَضَرَبَ بِهِ الْمَثَلَ لِأَنَّهُ يَزِيدُ زِيَادَةً بَيِّنَةً، وَلِأَنَّ الصَّدَقَةَ نِتَاجُ الْعَمَلِ، وَأَحْوَجُ مَا يَكُونُ النِّتَاجُ إِلَى التَّرْبِيَةِ إِذَا كَانَ فَطِيمًا، فَإِذَا أَحْسَنَ الْعِنَايَةَ بِهِ انْتَهَى إِلَى حَدِّ الْكَمَالِ، وَكَذَلِكَ عَمَلُ ابْنِ آدَمَ - لَا سِيَّمَا

(1)

كذا في الأصل الذي بأيدينا، ولعله "لا بأن يتصدق به" فتأمل، والله أعلم

ص: 279

الصَّدَقَةُ - فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا تَصَدَّقَ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ لَا يَزَالُ نَظَرُ اللَّهِ إِلَيْهَا يُكْسِبُهَا نَعْتَ الْكَمَالِ حَتَّى تَنْتَهِيَ بِالتَّضْعِيفِ إِلَى نِصَابٍ تَقَعُ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَدَّمَ نِسْبَةَ مَا بَيْنَ التَّمْرَةِ إِلَى الْجَبَلِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ: فَلُوَّهُ أَوْ مُهْرَهُ، وَلِعَبْدِ الرَّزَّاقِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْقَاسِمِ: مُهْرَهُ أَوْ فَصِيلَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عِنْدَ الْبَزَّارِ: مُهْرَهُ أَوْ رَضِيعَهُ أَوْ فَصِيلَهُ، وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَلُوَّهُ أَوْ قَالَ: فَصِيلَهُ، وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ أَوْ لِلشَّكِّ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ وَشِبْهُهُ إِنَّمَا عَبَّرَ بِهِ عَلَى مَا اعْتَادُوا فِي خِطَابِهِمْ لِيَفْهَمُوا عَنْهُ فَكَنَّى عَنْ قَبُولِ الصَّدَقَةِ بِالْيَمِينِ، وَعَنْ تَضْعِيفِ أَجْرِهَا بِالتَّرْبِيَةِ. وَقَالَ عِيَاضٌ: لَمَّا كَانَ الشَّيْءُ الَّذِي يُرْتَضَى يُتَلَقَّى بِالْيَمِينِ، وَيُؤْخَذُ بِهَا اسْتُعْمِلَ فِي مِثْلِ هَذَا، وَاسْتُعِيرَ لِلْقَبُولِ لِقَوْلِ الْقَائِلِ:

تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ

أَيْ هُوَ مُؤَهَّلٌ لِلْمَجْدِ وَالشَّرَفِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا الْجَارِحَةَ

(1)

، وَقِيلَ: عَبَّرَ بِالْيَمِينِ عَنْ جِهَةِ الْقَبُولِ، إِذِ الشِّمَالُ بِضِدِّهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ يَمِينُ الَّذِي تُدْفَعُ إِلَيْهِ الصَّدَقَةُ، وَأَضَافَهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِضَافَةَ مِلْكٍ وَاخْتِصَاصٍ لِوَضْعِ هَذِهِ الصَّدَقَةِ فِي يَمِينِ الْآخِذِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: الْمُرَادُ سُرْعَةُ الْقَبُولِ، وَقِيلَ: حُسْنُهُ. وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: الْكِنَايَةُ عَنِ الرِّضَا وَالْقَبُولِ بِالتَّلَقِّي بِالْيَمِينِ لِتَثْبِيتِ الْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ مِنَ الْأَذْهَانِ وَتَحْقِيقِهَا فِي النُّفُوسِ تَحْقِيقَ الْمَحْسُوسَاتِ، أَيْ لَا يَتَشَكَّكُ فِي الْقَبُولِ كَمَا لَا يَتَشَكَّكُ مَنْ عَايَنَ التَّلَقِّيَ لِلشَّيْءِ بِيَمِينِهِ، لَا أَنَّ التَّنَاوُلَ كَالتَّنَاوُلِ الْمَعْهُودِ، وَلَا أَنَّ الْمُتَنَاوِلَ بِهِ جَارِحَةٌ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ: قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ نُؤْمِنُ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ، وَلَا نَتَوَهَّمُ فِيهَا تَشْبِيهًا وَلَا نَقُولُ كَيْفَ، هَكَذَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَنْكَرَتِ الْجَهْمِيَّةُ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ. انْتَهَى. وَسَيَأْتِي الرَّدُّ عَلَيْهِمْ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ) وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْجَبَلِ. وَلِابْنِ جَرِيرٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْقَاسِمِ: حَتَّى يُوَافِيَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهِيَ أَعْظَمُ مِنْ أُحُدٍ. يَعْنِي التَّمْرَةَ. وَهِيَ فِي رِوَايَةِ الْقَاسِمِ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ بِلَفْظِ: حَتَّى إِنَّ اللُّقْمَةَ لَتَصِيرُ مِثْلَ أُحُدٍ، قَالَ: وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ جَرِيرٍ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ تِلَاوَةَ الْآيَةِ مِنْ كَلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَزَادَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ أَيْضًا: فَتَصَدَّقُوا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِعِظَمِهَا أَنَّ عَيْنَهَا تَعْظُمُ لِتَثْقُلَ فِي الْمِيزَانِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُعَبَّرًا بِهِ عَنْ ثَوَابِهَا.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ سُلَيْمَانُ) هُوَ ابْنُ بِلَالٍ (عَنِ ابْنِ دِينَارٍ) أَيْ: عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهَذِهِ الْمُتَابَعَةُ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ فِي التَّوْحِيدِ فَقَالَ: وَقَالَ خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ فَسَاقَ مِثْلَهُ، إِلَّا أَنَّ فِيهِ مُخَالَفَةً فِي اللَّفْظِ يَسِيرَةً، وَقَدْ وَصَلَهُ أَبُو عَوَانَةَ، وَالْجَوْزَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَخْلَدٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ. وَوَقَعَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ كُلَّهُ، وَهَذَا إِنْ كَانَ أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ حَفِظَهُ فَلِسُلَيْمَانَ فِيهِ شَيْخَانِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، وَسُهَيْلٌ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، وَقَدْ غَفَلَ صَاحِبُ الْأَطْرَافِ فَسَوَّى بَيْنَ رِوَايَتَيِ الصَّحِيحَيْنِ فِي هَذَا وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ وَرْقَاءُ) هُوَ ابْنُ عُمَرَ (عَنِ ابْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) يَعْنِي أَنَّ وَرْقَاءَ خَالَفَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَسُلَيْمَانَ، فَجَعَلَ شَيْخَ ابْنِ دِينَارٍ فِيهِ سَعِيدَ بْنَ يَسَارٍ بَدَلَ أَبِي صَالِحٍ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى رِوَايَةِ وَرْقَاءَ هَذِهِ مَوْصُولَةً، وَقَدْ أَشَارَ الدَّاوُدِيُّ

(1)

هذ التأويلات ليس لها وجه، والصواب إجراء الحديث على ظاهره، وليس في ذلك بحمد الله محذوف عند أهل السنة والجماعة لأن عقيدتهم الإيمان بما جاء في الكتاب والسنة الصحيحة من أسماء الله سبحانه وصفاته، وإثبات ذلك لله على وجه الكمال مع تنزيهه تعالى عن مشابهة المخلوقات، وهذا هو الحق الذي لا يجوز العدول عنه. وفي هذا الحديث دلالة على إثبات اليمين لله سبحانه وعلى أنه يقبل الصدقة عن الكسب الطيب ويضاعفها. وانظر ما يأتي من كلام الإمام الترمذي يتضح لك ما ذكرته آنفا. والله الموفق

ص: 280

إِلَى أَنَّهَا وَهَمٌ لِتَوَارُدِ الرُّوَاةِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ دُونَ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، وَلَيْسَ مَا قَالَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّهُ مَحْفُوظٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا. نَعَمْ رِوَايَةُ وَرْقَاءَ شَاذَّةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُخَالَفَةِ سُلَيْمَانَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(تَنْبِيهٌ): وَقَفْتُ عَلَى رِوَايَةِ وَرْقَاءَ مَوْصُولَةً، وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ.

قَوْلُهُ: (وَرَوَاهُ مُسْلِمُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَسُهَيْلٌ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) أَمَّا رِوَايَةُ مُسْلِمٍ فَرُوِّينَاهَا مَوْصُولَةً فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ لِيُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ الْقَاضِي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سَلَمَةَ، هُوَ ابْنُ أَبِي الْحُسَامِ عَنْهُ بِهِ، وَأَمَّا رِوَايَةُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَسُهَيْلٍ فَوَصَلَهُمَا مُسْلِمٌ، وَقَدْ قَدَّمْتُ مَا فِي سِيَاقِ الثَّلَاثَةِ مِنْ فَائِدَةٍ وَزِيَادَةٍ.

‌9 - بَاب الصَّدَقَةِ قَبْلَ الرَّدِّ

1411 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا مَعْبَدُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ: سَمِعْتُ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: تَصَدَّقُوا، فَإِنَّهُ يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ يَمْشِي الرَّجُلُ بِصَدَقَتِهِ فَلَا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا، يَقُولُ الرَّجُلُ: لَوْ جِئْتَ بِهَا بِالْأَمْسِ لَقَبِلْتُهَا فَأَمَّا الْيَوْمَ فَلَا حَاجَةَ لِي بِهَا.

[الحديث 1411 - طرفاه في: 1424، 7120]

1412 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمْ الْمَالُ فَيَفِيضَ حَتَّى يُهِمَّ رَبَّ الْمَالِ مَنْ يَقْبَلُ صَدَقَتَهُ وَحَتَّى يَعْرِضَهُ فَيَقُولَ الَّذِي يَعْرِضُهُ عَلَيْهِ لَا أَرَبَ لِي"

1413 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ أَخْبَرَنَا سَعْدَانُ بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو مُجَاهِدٍ حَدَّثَنَا مُحِلُّ بْنُ خَلِيفَةَ الطَّائِيُّ قَالَ سَمِعْتُ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ رضي الله عنه يَقُولُ "كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَهُ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا يَشْكُو الْعَيْلَةَ وَالآخَرُ يَشْكُو قَطْعَ السَّبِيلِ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَمَّا قَطْعُ السَّبِيلِ فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي عَلَيْكَ إِلاَّ قَلِيلٌ حَتَّى تَخْرُجَ الْعِيرُ إِلَى مَكَّةَ بِغَيْرِ خَفِيرٍ وَأَمَّا الْعَيْلَةُ فَإِنَّ السَّاعَةَ لَا تَقُومُ حَتَّى يَطُوفَ أَحَدُكُمْ بِصَدَقَتِهِ لَا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا مِنْهُ ثُمَّ لَيَقِفَنَّ أَحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حِجَابٌ وَلَا تَرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ لَهُ ثُمَّ لَيَقُولَنَّ لَهُ أَلَمْ أُوتِكَ مَالًا فَلَيَقُولَنَّ بَلَى ثُمَّ لَيَقُولَنَّ أَلَمْ أُرْسِلْ إِلَيْكَ رَسُولاً فَلَيَقُولَنَّ بَلَى فَيَنْظُرُ عَنْ يَمِينِهِ فَلَا يَرَى إِلاَّ النَّارَ ثُمَّ يَنْظُرُ عَنْ شِمَالِهِ فَلَا يَرَى إِلاَّ النَّارَ فَلْيَتَّقِيَنَّ أَحَدُكُمْ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ"

[الحديث 1413 - أطرافه في: 1417، 3595، 6023، 6540، 6563، 7443، 7512]

1414 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَطُوفُ الرَّجُلُ فِيهِ بِالصَّدَقَةِ مِنْ الذَّهَبِ ثُمَّ لَا يَجِدُ أَحَدًا يَأْخُذُهَا مِنْهُ وَيُرَى الرَّجُلُ الْوَاحِدُ يَتْبَعُهُ أَرْبَعُونَ امْرَأَةً يَلُذْنَ بِهِ مِنْ قِلَّةِ الرِّجَالِ وَكَثْرَةِ النِّسَاءِ"

ص: 281

قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّدَقَةِ قَبْلَ الرَّدِّ، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ مَا مُلَخَّصُهُ: مَقْصُودُهُ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ الْحَثُّ عَلَى التَّحْذِيرِ مِنَ التَّسْوِيفِ بِالصَّدَقَةِ، لِمَا فِي الْمُسَارَعَةِ إِلَيْهَا مِنْ تَحْصِيلِ النُّمُوِّ الْمَذْكُورِ. قِيلَ: لِأَنَّ التَّسْوِيفَ بِهَا قَدْ يَكُونُ ذَرِيعَةً إِلَى عَدَمِ الْقَابِلِ لَهَا إِذْ لَا يَتِمُّ مَقْصُودُ الصَّدَقَةِ إِلَّا بِمُصَادَفَةِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا، وَقَدْ أَخْبَرَ الصَّادِقُ أَنَّهُ سَيَقَعُ فَقْدُ الْفُقَرَاءِ الْمُحْتَاجِينَ إِلَى الصَّدَقَةِ بِأَنْ يُخْرِجَ الْغَنِيُّ صَدَقَتَهُ فَلَا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ مَنْ أَخْرَجَ صَدَقَتَهُ مُثَابٌ عَلَى نِيَّتِهِ وَلَوْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَقْبَلُهَا، فَالْجَوَابُ أَنَّ الْوَاجِدَ يُثَابُ ثَوَابَ الْمُجَازَاةِ وَالْفَضْلِ، وَالنَّاوِي يُثَابُ ثَوَابَ الْفَضْلِ فَقَطْ، وَالْأَوَّلُ أَرْبَحُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ فِي كُلٍّ مِنْهَا الْإِنْذَارُ بِوُقُوعِ فِقْدَانِ مَنْ يَقْبَلُ الصَّدَقَةَ.

أَوَّلَهُا حَدِيثُ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ، وَهُوَ الْخُزَاعِيُّ.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّهُ يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ) سَيَأْتِي بَعْدَ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ - مِنْ وَجْهٍ آخَرَ - بِلَفْظِ: فَسَيَأْتِي.

قَوْلُهُ: (يَقُولُ الرَّجُلُ) أَيِ الَّذِي يُرِيدُ الْمُتَصَدِّقُ أَنْ يُعْطِيَهُ إِيَّاهَا.

قَوْلُهُ: (فَأَمَّا الْيَوْمَ فَلَا حَاجَةَ لِي بِهَا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فِيهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ فِي زَمَنِ كَثْرَةِ الْمَالِ وَفَيْضِهِ قُرْبَ السَّاعَةِ كَمَا قَالَ ابنُ بَطَّالٍ، وَمِنْ ثَمَّ أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ كَمَا سَيَأْتِي، وَهُوَ بَيِّنٌ مِنْ سِيَاقِ

1412 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمْ الْمَالُ، فَيَفِيضَ حَتَّى يُهِمَّ رَبَّ الْمَالِ مَنْ يَقْبَلُ صَدَقَتَهُ، وَحَتَّى يَعْرِضَهُ فَيَقُولَ الَّذِي يَعْرِضُهُ عَلَيْهِ: لَا أَرَبَ لِي.

حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ، وَقَدْ سَاقَهُ فِي الْفِتَنِ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ هُنَا مُطَوَّلًا، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَوْلُهُ: (حَتَّى يَهُمَّ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ الْهَاءِ، وَ (رَبَّ الْمَالِ) مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ وَفَاعِلُهُ قَوْلُهُ:(مَنْ يَقْبَلُهُ) يُقَالُ: هَمَّهُ الشَّيْءُ أَحْزَنَهُ. وَيُرْوَى بِضَمِّ أَوَّلِهِ، يُقَالُ: أَهَمَّهُ الْأَمْرُ أَقْلَقَهُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: ضَبَطُوهُ بِوَجْهَيْنِ، أَشْهَرُهُمَا بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْهَاءِ، وَرَبُّ الْمَالِ مَفْعُولٌ، وَالْفَاعِلُ مَنْ يَقْبَلُ أَيْ: يُحْزِنُهُ، وَالثَّانِي بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ الْهَاءِ، وَرَبُّ الْمَالِ فَاعِلٌ، وَمَنْ مَفْعُولٌ أَيْ يَقْصُدُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (لَا أَرَبَ لِي) زَادَ فِي الْفِتَنِ: بِهِ، أَيْ: لَا حَاجَةَ لِي بِهِ لِاسْتِغْنَائِي عَنْهُ.

ثَالِثُهَا حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى. وَشَاهِدُهُ هُنَا قَوْلُهُ فِيهِ:(فَإِنَّ السَّاعَةَ لَا تَقُومُ حَتَّى يَطُوفَ أَحَدُكُمْ بِصَدَقَتِهِ لَا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا مِنْهُ) وَهُوَ مُوَافِقٌ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَمُشْعِرٌ بِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ. وَحَدِيثُ أَبِي مُوسَى الْآتِي بَعْدَهُ مُشْعِرٌ بِذَلِكَ أَيْضًا، وَقَدْ أَشَارَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ - كَمَا سَيَأْتِي فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ - إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ فِي زَمَانِهِ وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ أَمْرِ الْفُتُوحِ، فَانْتَفَى قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: إِنَّمَا يَقَعُ ذَلِكَ بَعْدَ نُزُولِ عِيسَى حِينَ تُخْرِجُ الْأَرْضُ بَرَكَاتِهَا حَتَّى تُشْبِعَ الرُّمَّانَةُ أَهْلَ الْبَيْتِ وَلَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ كَافِرٌ. وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى اتِّقَاءِ النَّارِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ.

رَابِعُهَا حَدِيثُ أَبِي مُوسَى: قَوْلُهُ: (مِنَ الذَّهَبِ) خَصَّهُ بِالذِّكْرِ مُبَالَغَةً فِي عَدَمِ مَنْ يَقْبَلُ الصَّدَقَةَ، وَكَذَا قَوْلُهُ: يَطُوفُ ثُمَّ لَا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا وَقَوْلُهُ: (وَيَرَى الرَّجُلَ إِلَخْ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ رَفْعِ الْعِلْمِ مِنْ كِتَابِ الْعِلْمِ.

‌10 - بَاب اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، وَالْقَلِيلِ مِنْ الصَّدَقَةِ

{وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ: {مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}

1415 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ الْحَكَمُ - هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ -، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الصَّدَقَةِ كُنَّا نُحَامِلُ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ، فَقَالُوا: مُرَاءٍ، وَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ فَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ صَاعِ هَذَا، فَنَزَلَتْ:{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ} الْآيَةَ.

ص: 282

[الحديث 1415 - أطرافه في: 1416، 2273، 4668، 4669]

1416 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ انْطَلَقَ أَحَدُنَا إِلَى السُّوقِ فَيُحَامِلُ فَيُصِيبُ الْمُدَّ وَإِنَّ لِبَعْضِهِمْ الْيَوْمَ لَمِائَةَ أَلْفٍ"

1417 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَعْقِلٍ قَالَ سَمِعْتُ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ رضي الله عنه قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ"

1418 -

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ "دَخَلَتْ امْرَأَةٌ مَعَهَا ابْنَتَانِ لَهَا تَسْأَلُ فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي شَيْئًا غَيْرَ تَمْرَةٍ فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ فَدَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْنَا فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: "مَنْ ابْتُلِيَ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنْ النَّارِ"

[الحديث 1418 - طرفه في: 5995]

قَوْلُهُ: (بَابُ اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، وَالْقَلِيلُ مِنَ الصَّدَقَةِ، {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ} - إِلَى قَوْلِهِ - {فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ وَغَيْرُهُ: جَمَعَ الْمُصَنِّفُ بَيْنَ لَفْظِ الْخَبَرِ وَالْآيَةِ لِاشْتِمَالِ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى الْحَثِّ عَلَى الصَّدَقَةِ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا، فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَمْوَالَهُمْ، يَشْمَلُ قَلِيلَ النَّفَقَةِ وَكَثِيرِهَا، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ: لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا عَنْ طِيبٍ نَفْسٍ. فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ، إِذْ لَا قَائِلَ بِحِلِّ الْقَلِيلِ دُونَ الْكَثِيرِ. وَقَوْلُهُ: اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، يَتَنَاوَلُ الْكَثِيرَ وَالْقَلِيلَ أَيْضًا، وَالْآيَةُ أَيْضًا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى قَلِيلِ الصَّدَقَةِ وَكثَيْرِهَا مِنْ جِهَةِ التَّمْثِيلِ الْمَذْكُورِ فِيهَا بِالطَّلِّ وَالْوَابِلِ، فَشُبِّهَتِ الصَّدَقَةُ بِالْقَلِيلِ بِإِصَابَةِ الطَّلِّ، وَالصَّدَقَةُ بِالْكَثِيرِ بِإِصَابَةِ الْوَابِلِ.

وَأَمَّا ذِكْرُ الْقَلِيلِ مِنَ الصَّدَقَةِ بَعْدَ ذِكْرِ شِقِّ التَّمْرَةِ فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، وَلِهَذَا أَوْرَدَ فِي الْبَابِ حَدِيثَ أَبِي مَسْعُودٍ الَّذِي كَانَ سَبَبًا لِنُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ} وَقَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: مَثَلُ تَضْعِيفِ أُجُورِ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ كَمَثَلِ تَضْعِيفِ ثِمَارِ الْجَنَّةِ بِالْمَطَرِ، إِنْ قَلِيلًا فَقَلِيلٌ، وَإِنْ كَثِيرًا فَكَثِيرٌ. وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ أَتْبَعَ الْآيَةَ الْأُولَى الَّتِي ضُرِبَتْ مَثَلًا بِالرَّبْوَةِ بِالْآيَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي تَضَمَّنَتْ ضَرْبَ الْمَثَلِ لِمَنْ عَمِلَ عَمَلًا يَفْقِدُهُ أَحْوَجُ مَا كَانَ إِلَيْهِ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى اجْتِنَابِ الرِّيَاءِ فِي الصَّدَقَةِ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} يُشْعِرُ بِالْوَعِيدِ بَعْدَ الْوَعْدِ، فَأَوْضَحَهُ بِذِكْرِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ، وَكَأَنَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي اقْتِصَارِهِ عَلَى بَعْضِهَا اخْتِصَارًا.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ:

أَحَدَهَا حَدِيثُ أَبِي مَسْعُودٍ مِنْ وَجْهَيْنِ تَامًّا وَمُخْتَصَرًا.

قَوْلُهُ: (عَنْ سُلَيْمَانَ) هُوَ الْأَعْمَشُ، وَأَبُو مَسْعُودٍ هُوَ الْأَنْصَارِيُّ الْبَدْرِيُّ.

قَوْلُهُ: (لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الصَّدَقَةِ) كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} الْآيَةَ.

قَوْلُهُ: (كُنَّا نُحَامِلُ) أَيْ: نَحْمِلُ عَلَى ظُهُورِنَا بِالْأُجْرَةِ، يُقَالُ: حَامَلْتُ بِمَعْنَى حَمَلْتُ كَسَافَرْتُ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُرِيدُ نَتَكَلَّفُ الْحَمْلَ بِالْأُجْرَةِ لِنَكْتَسِبَ مَا نَتَصَدَّقُ بِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ حَيْثُ قَالَ: انْطَلَقَ أَحَدُنَا إِلَى السُّوقِ فَيُحَامِلَ، أَيْ: يَطْلُبُ الْحَمْلَ بِالْأُجْرَةِ.

قَوْلُهُ: (فَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ)

ص: 283

هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، كَمَا سَيَأْتِي فِي التَّفْسِيرِ، وَالشَّيْءُ الْمَذْكُورُ كَانَ ثَمَانِيَةَ آلَافٍ أَوْ أَرْبَعَةَ آلَافٍ.)

قَوْلُهُ: (وَجَاءَ رَجُلٌ) هُوَ أَبُو عَقِيلٍ بِفَتْحِ الْعَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي فِي التَّفْسِيرِ، وَنَذْكُرُ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الِاخْتِلَافَ فِي اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ، وَمَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ أَيْضًا مِنَ الصَّحَابَةِ كَأَبِي خَيْثَمَةَ، وَأَنَّ الصَّاعَ إِنَّمَا حَصَلَ لِأَبِي عَقِيلٍ لِكَوْنِهِ أَجَّرَ نَفْسَهُ عَلَى النَّزْحِ مِنَ الْبِئْرِ بِالْحَبْلِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالُوا) سُمِّيَ مِنَ اللَّامِزِينَ فِي مَغَازِي الْوَاقِدِيِّ مُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ نَبْتَلَ بِنُونٍ وَمُثَنَّاةٍ مَفْتُوحَتَيْنِ، بَيْنَهُمَا مُوَحَّدَةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ لَامٌ.

قَوْلُهُ: (يَلْمِزُونَ) أَيْ يَعِيبُونَ، وَشَاهِدُ التَّرْجَمَةِ قَوْلُهُ:{وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ} .

قَوْلُهُ: (سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى) أَيْ: ابْنُ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ.

قَوْلُهُ: (فَيُحَامِلُ) بِضَمِّ التَّحْتَانِيَّةِ وَاللَّامُ مَضْمُومَةٌ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ مِنَ الْمُفَاعَلَةِ. وَيُرْوَى بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَفَتْحِ اللَّامِ أَيْضًا، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ زَائِدَةَ الْآتِيَةِ فِي التَّفْسِيرِ: فَيَحْتَالُ أَحَدُنَا حَتَّى يَجِيءَ بِالْمُدِّ.

قَوْلُهُ: (فَيُصِيبُ الْمُدَّ) أَيْ: فِي مُقَابَلَةِ أُجْرَتِهِ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ.

قَوْلُهُ: (وَإِنَّ لِبَعْضِهِمُ الْيَوْمَ لَمِائَةَ أَلْفٍ) زَادَ فِي التَّفْسِيرِ كَأَنَّهُ يُعَرِّضُ بِنَفْسِهِ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ قِلَّةِ الشَّيْءِ، وَإِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ بَعْدَهُ مِنَ التَّوَسُّعِ لِكَثْرَةِ الْفُتُوحِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَكَانُوا فِي الْعَهْدِ الْأَوَّلِ يَتَصَدَّقُونَ بِمَا يَجِدُونَ وَلَوْ جَهِدُوا، وَالَّذِينَ أَشَارَ إِلَيْهِمْ آخِرًا بِخِلَافِ ذَلِكَ. (تَنْبِيهٌ): وَقَعَ بِخَطِّ مُغَلْطَايْ فِي شَرْحِهِ: وَإِنَّ لِبَعْضِهِمُ الْيَوْمَ ثَمَانِيَةَ آلَافٍ وَهُوَ تَصْحِيفٌ.

ثَانِيَهَا حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، وَهُوَ بِلَفْظِ التَّرْجَمَةِ، وَهُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِهِ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَبِشِقِّ) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ: نِصْفُهَا أَوْ جَانِبُهَا، أَيْ: وَلَوْ كَانَ الِاتِّقَاءُ بِالتَّصَدُّقِ بِشِقِّ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّهُ يُفِيدُ. وَفِي الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ مَرْفُوعًا: اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ النَّارِ حِجَابًا، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ: لِيَتَّقِ أَحَدُكُمْ وَجْهَهُ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ: يَا عَائِشَةُ، اسْتَتِرِي مِنَ النَّارِ، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنَّهَا تَسُدُّ مِنَ الْجَائِعِ مَسَدَّهَا مِنَ الشَّبْعَانِ، وَلِأَبِي يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ نَحْوُهُ، وَأَتَمُّ مِنْهُ بِلَفْظِ: تَقَعُ مِنَ الْجَائِعِ مَوْقِعُهَا مِنَ الشَّبْعَانِ، وَكَأَنَّ الْجَامِعَ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ حَلَاوَتُهَا، وَفِي الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى الصَّدَقَةِ بِمَا قَلَّ وَمَا جَلَّ، وَأَنْ لَا يَحْتَقِرَ مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ، وَأَنَّ الْيَسِيرَ مِنَ الصَّدَقَةِ يَسْتُرُ الْمُتَصَدِّقَ مِنَ النَّارِ.

ثَالِثُهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ، وَسَيَأْتِي فِي الْأَدَبِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِسَنَدِهِ، وَفِيهِ التَّقْيِيدُ بِالْإِحْسَانِ، وَلَفْظُهُ: مَنِ ابْتُلِيَ مِنَ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْأُمَّ الْمَذْكُورَةَ لَمَّا قَسَمَتِ التَّمْرَةَ بَيْنَ ابْنَتَيْهَا صَارَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا شِقُّ تَمْرَةٍ، وَقَدْ دَخَلَتْ فِي عُمُومِ خَبَرِ الصَّادِقِ أَنَّهَا مِمَّنْ سُتِرَ مِنَ النَّارِ لِأَنَّهَا مِمَّنِ ابْتُلِيَ بِشَيْءٍ مِنَ الْبَنَاتِ فَأَحْسَنَ، وَمُنَاسَبَةُ فِعْلِ عَائِشَةَ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَالْقَلِيلُ مِنَ الصَّدَقَةِ، وَلِلْآيَةِ مِنْ قَوْلِهِ:{وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ} لِقَوْلِهَا فِي الْحَدِيثِ: فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي غَيْرَ تَمْرَةٍ، وَفِيهِ شِدَّةُ حِرْصِ عَائِشَةَ عَلَى الصَّدَقَةِ امْتِثَالًا لِوَصِيَّتِهِ صلى الله عليه وسلم لَهَا حَيْثُ قَالَ: لَا يَرْجِعُ مِنْ عِنْدِكِ سَائِلٌ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ. رَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.

‌11 - بَاب فَضْلِ صَدَقَةِ الشَّحِيحِ الصَّحِيحِ

لِقَوْلِهِ: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} الآية.

وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ} الآية.

1419 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ، حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا

ص: 284

أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا قَالَ أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى وَلَا تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ قُلْتَ لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ"

[الحديث 1419 - طرفه في: 2748]

قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ صَدَقَةِ الشَّحِيحِ الصَّحِيحِ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ، وَصَدَقَةُ الشَّحِيحِ الصَّحِيحِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} الْآيَةَ، فَعَلَى الْأَوَّلِ الْمُرَادُ فَضْلُ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ وَاضِحٌ، وَعَلَى الثَّانِي كَأَنَّهُ تَرَدَّدَ فِي إِطْلَاقِ أَفْضَلِيَّةِ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَأَوْرَدَ التَّرْجَمَةَ بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ مَا مُلَخَّصُهُ: مُنَاسَبَةُ الْآيَةِ لِلتَّرْجَمَةِ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ التَّحْذِيرُ مِنَ التَّسْوِيفِ بِالْإِنْفَاقِ اسْتِبْعَادًا لِحُلُولِ الْأَجَلِ وَاشْتِغَالًا بِطُولِ الْأَمَلِ، وَالتَّرْغِيبُ فِي الْمُبَادَرَةِ بِالصَّدَقَةِ قَبْلَ هُجُومِ الْمَنِيَّةِ وَفَوَاتِ الْأُمْنِيَةِ. وَالْمُرَادُ بِالصِّحَّةِ فِي الْحَدِيثِ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي مَرَضٍ مَخُوفٍ فَيَتَصَدَّقُ عِنْدَ انْقِطَاعِ أَمَلِهِ مِنَ الْحَيَاةِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي آخِرِهِ بِقَوْلِهِ: وَلَا تُمْهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ، وَلَمَّا كَانَتْ مُجَاهَدَةُ النَّفْسِ عَلَى إِخْرَاجِ الْمَالِ مَعَ قِيَامِ مَانِعِ الشُّحِّ دَالًّا عَلَى صِحَّةِ الْقَصْدِ وَقُوَّةِ الرَّغْبَةِ فِي الْقُرْبَةِ كَانَ ذَلِكَ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ نَفْسَ الشُّحِّ هُوَ السَّبَبُ فِي هَذِهِ الْأَفْضَلِيَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ تَقْدِيمُ آيَةِ الْمُنَافِقِينَ عَلَى آيَةِ الْبَقَرَةِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ بِالْعَكْسِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ) هُوَ ابْنُ زِيَادٍ.

قَوْلُهُ: (جَاءَ رَجُلٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَتِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَبَا ذَرٍّ، فَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ عَنْهُ أَنَّهُ سَأَلَ: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ، لَكِنَّ فِي الْجَوَابِ: جُهْدٌ مِنْ مُقِلٍّ، أَوْ سَرٍّ إِلَى فَقِيرٍ، وَكَذَا رَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ سَأَلَ فَأُجِيبُ.

قَوْلُهُ: (أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا) فِي الْوَصَايَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ.

قَوْلُهُ: (أَنْ تَصَّدَّقَ) بِتَشْدِيدِ الصَّادِ وَأَصْلُهُ تَتَصَدَّقَ، فَأُدْغِمَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ.

قَوْلُهُ: (وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ) فِي الْوَصَايَا: وَأَنْتَ صَحِيحٌ حَرِيصٌ. قَالَ صَاحِبُ الْمُنْتَهَى: الشُّحُّ بُخْلٌ مَعَ حِرْصٍ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ: الشُّحُّ مُثَلَّثُ الشِّينِ وَالضَّمُّ أَعْلَى. وَقَالَ صَاحِبُ الْجَامِعِ: كَأَنَّ الْفَتْحَ فِي الْمَصْدَرِ وَالضَّمَّ فِي الِاسْمِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِيهِ أَنَّ الْمَرَضَ يُقَصِّرُ يَدَ الْمَالِكِ عَنْ بَعْضِ مِلْكِهِ، وَأَنَّ سَخَاوَتَهُ بِالْمَالِ فِي مَرَضِهِ لَا تَمْحُو عَنْهُ سِيمَةَ الْبُخْلِ، فَلِذَلِكَ شَرَطَ صِحَّةَ الْبَدَنِ فِي الشُّحِّ بِالْمَالِ، لِأَنَّهُ فِي الْحَالَتَيْنِ يَجِدُ لِلْمَالِ وَقْعًا فِي قَلْبِهِ لِمَا يَأْمُلُهُ مِنَ الْبَقَاءِ فَيَحْذَرُ مَعَهُ الْفَقْرَ، وَأَحَدُ الْأَمْرَيْنِ لِلْمُوصِي وَالثَّالِثُ لِلْوَارِثِ، لِأَنَّهُ إِذَا شَاءَ أَبْطَلَهُ. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الثَّالِثُ لِلْمُوصِي أَيْضًا لِخُرُوجِهِ عَنِ الِاسْتِقْلَالِ بِالتَّصَرُّفِ فِيمَا يَشَاءُ، فَلِذَلِكَ نَقَصَ ثَوَابُهُ عَنْ حَالِ الصِّحَّةِ. قَالَ ابنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُ: لَمَّا كَانَ الشُّحُّ غَالِبًا فِي الصِّحَّةِ فَالسَّمَاحُ فِيهِ بِالصَّدَقَةِ أَصْدَقُ فِي النِّيَّةِ وَأَعْظَمُ لِلْأَجْرِ، بِخِلَافِ مَنْ يَئِسَ مِنَ الْحَيَاةِ، وَرَأَى مَصِيرَ الْمَالِ لِغَيْرِهِ.

قَوْلُهُ: (وَتَأْمُلُ) بِضَمِّ الْمِيمِ أَيْ: تَطْمَعُ.

قَوْلُهُ: (إِذَا بَلَغَتْ) أَيِ: الرُّوحُ، وَالْمُرَادُ قَارَبَتْ بُلُوغَهُ، إِذْ لَوْ بَلَغَتْهُ حَقِيقَةً لَمْ يَصِحَّ شَيْءٌ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ. وَلَمْ يَجْرِ لِلرُّوحِ ذِكْرٌ اغْتِنَاءً بِدَلَالَةِ السِّيَاقِ. وَالْحُلْقُومُ مَجْرَى النَّفَسِ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْعِلْمِ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

باب

1420 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ فِرَاسٍ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ

ص: 285

عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ بَعْضَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قُلْنَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّنَا أَسْرَعُ بِكَ لُحُوقًا؟ قَالَ: أَطْوَلُكُنَّ يَدًا، فَأَخَذُوا قَصَبَةً يَذْرَعُونَهَا، فَكَانَتْ سَوْدَةُ أَطْوَلَهُنَّ يَدًا، فَعَلِمْنَا بَعْدُ أَنَّمَا كَانَتْ طُولَ يَدِهَا الصَّدَقَةُ، وَكَانَتْ أَسْرَعَنَا لُحُوقًا بِهِ، وَكَانَتْ تُحِبُّ الصَّدَقَةَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَبِهِ جَزَمَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَسَقَطَ لِأَبِي ذَرٍّ، فَعَلَى رِوَايَتِهِ هُوَ مِنْ تَرْجَمَةِ فَضْلِ صَدَقَةِ الصَّحِيحِ، وَعَلَى رِوَايَةِ غَيْرِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْفَصْلِ مِنْهُ، وَأَوْرَدَ فِيهِ الْمُصَنِّفُ قِصَّةَ سُؤَالِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ: أَيَّتُهُنَّ أَسْرَعُ لُحُوقًا بِهِ، وَفِيهِ قَوْلُهُ لَهُنَّ: أَطْوَلُكُنَّ يَدًا. الْحَدِيثَ. وَوَجْهُ تَعَلُّقِهِ بِمَا قَبْلَهُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ تَضَمَّنَ أَنَّ الْإِيثَارَ وَالِاسْتِكْثَارَ مِنَ الصَّدَقَةِ فِي زَمَنِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْعَمَلِ سَبَبٌ لِلَّحَاقِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَذَلِكَ الْغَايَةُ فِي الْفَضِيلَةِ، أَشَارَ إِلَى هَذَا الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ. وقَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ أَنَّهُ تَبَيَّنَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُرَادَ بِطُولِ الْيَدِ الْمُقْتَضِي لِلَّحَاقِ بِهِ الطَّوْلُ

(1)

، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَتَأَتَّى لِلصَّحِيحِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِالْمُدَاوَمَةِ فِي حَالِ الصِّحَّةِ، وَبِذَلِكَ يَتِمُّ الْمُرَادُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ بَعْضَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِ السَّائِلَةِ مِنْهُنَّ عَنْ ذَلِكَ، إِلَّا عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ حَمَّادٍ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ: قَالَتْ: فَقُلْتُ. بِالْمُثَنَّاةِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ: فَقُلْنَ بِالنُّونِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (أَسْرَعُ بِكَ لُحُوقًا) مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: يَدًا، وَأَطُولُكُنَّ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ.

قَوْلُهُ: (فَأَخَذُوا قَصَبَةً يَذْرَعُونَهَا) أَيْ: يُقَدِّرُونَهَا بِذِرَاعِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ بِلَفْظِ جَمْعِ الْمُذَكَّرِ بِالنَّظَرِ إِلَى لَفْظِ الْجَمْعِ لَا بِلَفْظِ جَمَاعَةِ النِّسَاءِ، وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:

وَإِنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمْ

أَنَّهُ ذَكَرَهُ بِلَفْظِ جَمْعِ الْمُذَكَّرِ تَعْظِيمًا. وَقَوْلُهُ: أَطُولُكُنَّ يُنَاسِبُ ذَلِكَ، وَإِلَّا لَقَالَ: طُولَاكُنَّ.

قَوْلُهُ: (فَكَانَتْ سَوْدَةُ) زَادَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ عَفَّانَ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ: بِنْتُ زَمْعَةَ بْنِ قَيْسٍ.

قَوْلُهُ: (أَطْوَلُهُنَّ يَدًا) فِي رِوَايَةِ عَفَّانَ: ذِرَاعًا، وَهِيَ تُعِينُ أَنَّهُنَّ فَهِمْنَ مِنْ لَفْظِ الْيَدِ الْجَارِحَةَ.

قَوْلُهُ: (فَعَلِمْنَا بَعْدُ) أَيْ: لَمَّا مَاتَتْ أَوَّلُ نِسَائِهِ بِهِ لُحُوقًا.

قَوْلُهُ: (إِنَّمَا) بِالْفَتْحِ، وَالصَّدَقَةُ بِالرَّفْعِ، وَطُولَ يَدِهَا بِالنَّصْبِ لِأَنَّهُ الْخَبَرُ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَتْ أَسْرَعَنَا) كَذَا وَقَعَ فِي الصَّحِيحِ بِغَيْرِ تَعْيِينٍ، وَوَقَعَ فِي التَّارِيخِ الصَّغِيرِ لِلْمُصَنِّفِ عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ: فَكَانَتْ سَوْدَةُ أَسْرَعَنَا إِلَخْ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ الْعَبَّاسِ الدُّورِيِّ، عَنْ مُوسَى، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ عَفَّانَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَابْنِ سَعْدٍ عَنْهُ: قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: قَالَ لَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ - يَعْنِي الْوَاقِدِيَّ - هَذَا الْحَدِيثُ: وُهِلَ فِي سَوْدَةَ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، فَهِيَ أَوَّلُ نِسَائِهِ بِهِ لُحُوقًا، وَتُوُفِّيَتْ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ وَبَقِيَتْ سَوْدَةُ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَتْ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ. قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: هَذَا الْحَدِيثُ سَقَطَ مِنْهُ ذِكْرُ زَيْنَبَ لِاتِّفَاقِ أَهْلِ السِّيَرِ عَلَى أَنَّ زَيْنَبَ أَوَّلُ مَنْ مَاتَ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، يَعْنِي أَنَّ الصَّوَابَ: وَكَانَتْ زَيْنَبُ أَسْرَعَنَا إِلَخْ، وَلَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ تِلْكَ الرِّوَايَاتُ الْمُتَقَدِّمَةُ الْمُصَرَّحُ فِيهَا بِأَنَّ الضَّمِيرَ لِسَوْدَةَ. وَقَرَأْتُ بِخَطِّ الْحَافِظِ أَبِي عَلِيٍّ الصَّدَفِيِّ: ظَاهِرُ هَذَا اللَّفْظِ أَنَّ سَوْدَةَ كَانْتَ أَسْرَعَ، وَهُوَ خِلَافُ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ زَيْنَبَ أَوَّلُ مَنْ مَاتَ مِنَ الْأَزْوَاجِ، ثُمَّ نَقَلَهُ عَنْ مَالِكٍ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنِ الْوَاقِدِيِّ، قَالَ: وَيُقَوِّيهِ رِوَايَةُ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ.

وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: هَذَا الْحَدِيثُ غَلَطٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَالْعَجَبُ مِنَ الْبُخَارِيِّ، كَيْفَ لَمْ يُنَبِّهْ عَلَيْهِ وَلَا أَصْحَابُ التَّعَالِيقِ، وَلَا عَلِمَ بِفَسَادِ

(1)

هو بفتح الطاء أي الجود وسعة العطاء. والله أعلم

ص: 286

ذَلِكَ الْخَطَّابِيُّ، فَإِنَّهُ فَسَّرَهُ، وَقَالَ: لُحُوقُ سَوْدَةَ بِهِ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ. وَكُلُّ ذَلِكَ وَهَمٌ، وَإِنَّمَا هِيَ زَيْنَبُ، فَإِنَّهَا كَانَتْ أَطْوَلَهُنَّ يَدًا بِالْعَطَاءِ كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ، عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظِ: فَكَانَتْ أَطْوَلَنَا يَدًا زينب، لِأَنَّهَا كَانَتْ تَعْمَلُ وَتَتَصَدَّقُ. انْتَهَى. وَتَلَقَّى مُغَلْطَايْ كَلَامَ ابْنِ الْجَوْزِيِّ، فَجَزَمَ بِهِ وَلَمْ يَنْسُبْهُ لَهُ. وَقَدْ جَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، فَقَالَ الطِّيبِيُّ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِيمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ: الْمُرَادُ الْحَاضِرَاتُ مِنْ أَزْوَاجِهِ دُونَ زَيْنَبَ، وَكَانَتْ سَوْدَةُ أَوَّلُهُنَّ مَوْتًا. قُلْتُ: وَقَدْ وَقَعَ نَحْوُهُ فِي كَلَامِ مُغَلْطَايْ، لَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَى هَذَا أَنَّ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ حَمَّادٍ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ أَنَّ نِسَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اجْتَمَعْنَ عِنْدَهُ لَمْ تُغَادِرْ مِنْهُنَّ وَاحِدَةٌ، ثُمَّ هُوَ مَعَ ذَلِكَ إِنَّمَا يَتَأَتَّى عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي وَفَاةِ سَوْدَةَ، فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى سَعِيدِ بْنِ هِلَالٍ، أَنَّهُ قَالَ: مَاتَتْ سَوْدَةُ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ، وَجَزَمَ الذَّهَبِيُّ فِي التَّارِيخِ الْكَبِيرِ بِأَنَّهَا مَاتَتْ فِي آخِرِ خِلَافَةِ عُمَرَ، وَقَالَ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ: أَنَّهُ الْمَشْهُورُ. وَهَذَا يُخَالِفُ مَا أَطْلَقَهُ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ حَيْثُ قَالَ: أَجْمَعَ أَهْلُ السِّيَرِ عَلَى أَنَّ زَيْنَبَ أَوَّلُ مَنْ مَاتَ مِنْ أَزْوَاجِهِ. وَسَبَقَهُ إِلَى نَقْلِ الِاتِّفَاقِ ابْنُ بَطَّالٍ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ النَّقْلَ مُقَيَّدٌ بِأَهْلِ السِّيَرِ، فَلَا يَرِدُ نَقْلُ قَوْلِ مَنْ خَالَفَهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّقْلِ مِمَّنْ لَا يَدْخُلُ فِي زُمْرَةِ أَهْلِ السِّيَرِ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْوَاقِدِيِّ الَّذِي تَقَدَّمَ فَلَا يَصِحُّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ بَطَّالٍ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: فَكَانَتْ لِزَيْنَبَ وَذَكَرْتُ مَا يُعَكِّرُ عَلَيْهِ، لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرُهُ بِسَوْدَةَ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ لِكَوْنِ غَيْرِهَا لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ، فَلَمَّا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى قِصَّةِ زَيْنَبَ وَكَوْنِهَا أَوَّلَ الْأَزْوَاجِ لُحُوقًا بِهِ جَعَلَ الضَّمَائِرَ كُلَّهَا لِسَوْدَةَ، وَهَذَا عِنْدِي مِنْ أَبِي عَوَانَةَ، فَقَدْ خَالَفَهُ فِي ذَلِكَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ فِرَاسٍ كَمَا قَرَأْتُ بِخَطِّ ابْنِ رَشِيدٍ أَنَّهُ قَرَأَهُ بِخَطِّ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ الْوَرْدِ، وَلَمْ أَقِفْ إِلَى الْآنَ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ هَذِهِ، لَكِنْ رَوَى يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ فِي زِيَادَاتِ الْمَغَازِي وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ بِإِسْنَادِهِ عَنْهُ، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ التَّصْرِيحَ بِأَنَّ ذَلِكَ لِزَيْنَبَ، لَكِنْ قَصَّرَ زَكَرِيَّا فِي إِسْنَادِهِ فَلَمْ يَذْكُرْ مَسْرُوقًا وَلَا عَائِشَةَ، وَلَفْظُهُ: قُلْنَ النِّسْوَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّنَا أَسْرَعُ بِكَ لُحُوقًا؟ قَالَ: أَطْوَلُكُنَّ يَدًا. فَأَخَذْنَ يَتَذَارَعْنَ أَيَّتُهُنَّ أَطْوَلُ يَدًا، فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ زَيْنَبُ عَلِمْنَ أَنَّهَا كَانَتْ أَطْوَلَهُنَّ يَدًا فِي الْخَيْرِ وَالصَّدَقَةِ. وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا مَا رَوَى الْحَاكِمُ فِي الْمَنَاقِبِ مِنْ مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَزْوَاجِهِ: أَسْرَعُكُنَّ لُحُوقًا بِي أَطْوَلُكُنَّ يَدًا.

قَالَتْ عَائِشَةُ: فَكُنَّا إِذَا اجْتَمَعْنَا فِي بَيْتِ إِحْدَانَا بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَمُدُّ أَيْدِيَنَا فِي الْجِدَارِ نَتَطَاوَلُ، فَلَمْ نَزَلْ نَفْعَلُ ذَلِكَ حَتَّى تُوُفِّيَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ - وَكَانَتِ امْرَأَةً قَصِيرَةً، وَلَمْ تَكُنْ أَطْوَلَنَا - فَعَرَفْنَا حِينَئِذٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا أَرَادَ بِطُولِ الْيَدِ الصَّدَقَةَ، وَكَانَتْ زَيْنَبُ امْرَأَةَ صِنَاعَةٍ بِالْيَدِ، وَكَانَتْ تَدْبُغُ وَتَخْرُزُ وَتَصَدَّقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قَ لَ الْحَاكِمُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. انْتَهَى.

وَهِيَ رِوَايَةٌ مُفَسِّرَةٌ مُبَيِّنَةٌ مُرَجِّحَةٌ لِرِوَايَةِ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ فِي أَمْرِ زَيْنَبَ، قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ عَائِشَةَ لَا تَعْنِي سَوْدَةَ قَوْلُهَا فَعَلِمْنَا بَعْدُ إِذْ قَدْ أَخْبَرَتْ عَنْ سَوْدَةَ بِالطُّولِ الْحَقِيقِيِّ، وَلَمْ تَذْكُرْ سَبَبَ الرُّجُوعِ عَنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ إِلَّا الْمَوْتَ، فَإِذَا طَلَبَ السَّامِعُ سَبَبَ الْعُدُولِ لَمْ يَجِدْ إِلَّا الْإِضْمَارَ مَعَ أَنَّهُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى، فَعَلِمْنَا بَعْدُ أَنَّ الْمُخْبَرَ عَنْهَا إِنَّمَا هِيَ الْمَوْصُوفَةُ بِالصَّدَقَةِ لِمَوْتِهَا قَبْلَ الْبَاقِيَاتِ، فَيَنْظُرُ السَّامِعُ وَيَبْحَثُ فَلَا يَجِدُ إِلَّا زَيْنَبَ، فَيَتَعَيَّنُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ إِضْمَارِ مَا لَا يَصْلُحُ غَيْرُهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: وَجْهُ الْجَمْعِ أَنَّ قَوْلَهَا: فَعَلِمْنَا بَعْدُ يُشْعِرُ إِشْعَارًا قَوِيًّا أَنَّهُنَّ حَمَلْنَ طُولَ الْيَدِ عَلَى ظَاهِرِهِ، ثُمَّ عَلِمْنَ بَعْدَ ذَلِكَ خِلَافَهُ، وَأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ كَثْرَةِ الصَّدَقَةِ، وَالَّذِي عَلِمْنَهُ آخِرًا خِلَافَ مَا اعْتَقَدْنَهُ أَوَّلًا، وَقَدِ انْحَصَرَ الثَّانِي فِي زَيْنَبَ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهَا أَوَّلُهُنَّ

ص: 287

مَوْتًا، فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمُرَادَةُ. وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الضَّمَائِرِ بَعْدَ قَوْلِهِ: فَكَانَتْ وَاسْتَغْنَى عَنْ تَسْمِيَتِهَا لِشُهْرَتِهَا بِذَلِكَ. انْتَهَى. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ فِي الْحَدِيثِ اخْتِصَارًا أَوِ اكْتِفَاءً بِشُهْرَةِ الْقِصَّةِ لِزَيْنَبَ، وَيُؤَوَّلُ الْكَلَامُ بِأَنَّ الضَّمِيرَ رَجَعَ إِلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي عَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا أَوَّلُ مَنْ يَلْحَقُ بِهِ، وَكَانَتْ كَثِيرَةَ الصَّدَقَةِ.

قُلْتُ: الْأَوَّلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَكَأَنَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي كَوْنِ الْبُخَارِيِّ حَذَفَ لَفْظَ سَوْدَةَ مِنْ سِيَاقِ الْحَدِيثِ لَمَّا أَخْرَجَهُ فِي الصَّحِيحِ لِعِلْمِهِ بِالْوَهْمِ فِيهِ، وَإِنَّهُ لَمَّا سَاقَهُ فِي التَّارِيخِ بِإِثْبَاتِ ذِكْرِهَا ذَكَرَ مَا يَرُدُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ أَيْضًا، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ عُمَرَ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَكَانَتْ أَوَّلَ نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لُحُوقًا بِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى تَارِيخِ وَفَاتِهَا فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ، وَأَنَّهُ سَنَةَ عِشْرِينَ. وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ بَرْزَةَ بِنْتِ رَافِعٍ قَالَتْ: لَمَّا خَرَجَ الْعَطَاءُ أَرْسَلَ عُمَرُ إِلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ بِالَّذِي لَهَا، فَتَعَجَّبَتْ وَسَتَرَتْهُ بِثَوْبٍ، وَأَمَرَتْ بِتَفْرِقَتِهِ، إِلَى أَنْ كُشِفَ الثَّوْبُ فَوَجَدَتْ تَحْتَهُ خَمْسَةً وَثَمَانِينَ دِرْهَمًا، ثُمَّ قَالَتْ: اللَّهُمَّ لَا يُدْرِكُنِي عَطَاءٌ لِعُمَرَ بَعْدَ عَامِي هَذَا، فَمَاتَتْ، فَكَانَتْ أَوَّلَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لُحُوقًا بِهِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ مَعْنٍ قَالَ: كَانَتْ زَيْنَبُ أَوَّلَ نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لُحُوقًا بِهِ. فَهَذِهِ رِوَايَاتٌ يُعَضِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَيَحْصُلُ مِنْ مَجْمُوعِهَا أَنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ وَهْمًا. وَقَدْ سَاقَهُ يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ عَنْهُ مُخْتَصَرًا، وَلَفْظُهُ: فَأَخَذْنَ قَصَبَةً يَتَذَارَعْنَهَا، فَمَاتَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ، وَكَانَتْ كَثِيرَةَ الصَّدَقَةِ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ قَالَ: أَطْوَلُكُنَّ يَدًا بِالصَّدَقَةِ.

هَذَا لَفَظَهُ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ مُدْرِكٍ عَنْهُ، وَلَفْظُهُ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ، وَهُوَ الْحَرَّانِيُّ عَنْهُ: فَأَخَذْنَ قَصَبَةً فَجَعَلْنَ يَذْرَعْنَهَا، فَكَانَتْ سَوْدَةُ أَسْرَعَهُنَّ بِهِ لُحُوقًا، وَكَانَتْ أَطْوَلَهُنَّ يَدًا، وَكَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ كَثْرَةِ الصَّدَقَةِ. وَهَذَا السِّيَاقُ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ إِلَّا أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ دُخُولِ الْوَهْمِ عَلَى الرَّاوِي فِي التَّسْمِيَةِ خَاصَّةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي الْحَدِيثِ عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ ظَاهِرٌ، وَفِيهِ جَوَازُ إِطْلَاقِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ بِغَيْرِ قَرِينَةٍ وَهُوَ لَفْظُ أَطُولُكُنَّ، إِذَا لَمْ يَكُنْ مَحْذُورٌ. قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: لَمَّا كَانَ السُّؤَالُ عَنْ آجَالٍ مُقَدَّرَةٍ لَا تُعْلَمُ إِلَّا بِالْوَحْيِ أَجَابَهُنَّ بِلَفْظٍ غَيْرِ صَرِيحٍ، وَأَحَالَهُنَّ عَلَى مَا لَا يَتَبَيَّنُ إِلَّا بِآخَرَ. وَسَاغَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ لَيْسَ مِنَ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ. وَفِيهِ أَنَّ مَنْ حَمَلَ الْكَلَامَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَحَقِيقَتِهِ لَمْ يُلَمْ، وَإِنْ كَانَ مُرَادُ الْمُتَكَلِّمِ مَجَازَهُ، لِأَنَّ نِسْوَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَمَلْنَ طُولَ الْيَدِ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِنَّ. وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ عَنْ مَيْمُونَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُنَّ: لَيْسَ ذَلِكَ أَعْنِي، إِنَّمَا أَعْنِي أَصْنَعُكُنَّ يَدًا. فَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَلَوْ كَانَ ثَابِتًا لَمْ يَحْتَجْنَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى ذَرْعِ أَيْدِيهِنَّ كَمَا تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ.

وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ لِلْمَعَانِي لَا لِلْأَلْفَاظِ، لِأَنَّ النِّسْوَةَ فَهِمْنَ مِنْ طُولِ الْيَدِ الْجَارِحَةَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِالطُّولِ كَثْرَةُ الصَّدَقَةِ، وَمَا قَالَهُ لَا يُمْكِنُ اطِّرَادُهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌12 - بَاب صَدَقَةِ الْعَلَانِيَةِ

وَقَوْلِهِ عز وجل: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً} - إِلَى قَوْلِهِ - {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}

‌13 - بَاب صَدَقَةِ السِّرِّ

وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا صَنَعَتْ يَمِينُهُ.

قَوْلِهِ تعالى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} الْآيَةَ

ص: 288

قَوْلُهُ: (بَابُ صَدَقَةِ الْعَلَانِيَةِ، وَقَوْلُهُ عز وجل:{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً} - إِلَى قَوْلِهِ - {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} ، سَقَطَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ لِلْمُسْتَمْلِي وَثَبَتَتْ لِلْبَاقِينَ، وَبِهِ جَزَمَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِيهَا لِمَنْ ثَبَّتَهَا حَدِيثٌ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ فِيهَا شَيْءٌ عَلَى شَرْطِهِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ، فَعِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ فِيهِ ضَعْفٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، كَانَ عِنْدَهُ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ، فَأَنْفَقَ بِاللَّيْلِ وَاحِدًا وَبِالنَّهَارِ وَاحِدًا وَفِي السِّرِّ وَاحِدًا وَفِي الْعَلَانِيَةِ وَاحِدًا، وَذَكَرَهُ الْكَلْبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَزَادَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: أَمَا إِنَّ ذَلِكَ لَكَ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَصْحَابِ الْخَيْلِ الَّذِينَ يَرْبُطُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ، وَعَنْ قَتَادَةَ وَغَيْرِهِ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ أَنْفَقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا تَقْتِيرٍ، ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي إِبَاحَةِ الِارْتِفَاقِ بِالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، لِأَنَّهُ يَرْتَفِقُ بِهَا كُلُّ مَارٍّ فِي لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فِي سِرٍّ وَعَلَانِيَةٍ وَكَانَتْ أَعَمَّ.

قَوْلُهُ: (بَابُ صَدَقَةِ السِّرِّ، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا صَنَعَتْ يَمِينُهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} الْآيَةَ، وَإِذَا تَصَدَّقَ عَلَى غَنِيٍّ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ) ثُمَّ سَاقَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ الَّذِي خَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ سَارِقٍ، ثُمَّ زَانِيَةٍ، ثُمَّ غَنِيٍّ، كَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ: بَابُ إِذَا تَصَدَّقَ عَلَى غَنِيٍّ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ. وَكَذَا هُوَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، ثُمَّ سَاقَ الْحَدِيثَ. وَمُنَاسَبَتُهُ ظَاهِرَةٌ، وَيَكُونُ قَدِ اقْتَصَرَ فِي تَرْجَمَةِ صَدَقَةِ السِّرِّ عَلَى الْحَدِيثِ الْمُعَلَّقِ عَلَى الْآيَةِ، وَعَلَى مَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ فَيَحْتَاجُ إِلَى مُنَاسَبَةٍ بَيْنَ تَرْجَمَةِ صَدَقَةِ السِّرِّ وَحَدِيثِ الْمُتَصَدِّقِ، وَوَجْهُهَا أَنَّ الصَّدَقَةَ الْمَذْكُورَةَ وَقَعَتْ بِاللَّيْلِ لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ. بَلْ وَقَعَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ لِقَوْلِهِ فِيهِ: لِأَتَصَدَّقَنَّ اللَّيْلَةَ. كَمَا سَيَأْتِي، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ صَدَقَتَهُ كَانَتْ سِرًّا إِذْ لَوْ كَانَتْ بِالْجَهْرِ نَهَارًا لَمَا خَفِيَ عَنْهُ حَالُ الْغَنِيِّ، لِأَنَّهَا فِي الْغَالِبِ لَا تَخْفَى، بِخِلَافِ الزَّانِيَةِ وَالسَّارِقِ، وَلِذَلِكَ خُصَّ الْغَنِيُّ بِالتَّرْجَمَةِ دُونَهُمَا.

وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُعَلَّقُ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ سَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ بِتَمَامِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ مَنْ جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ وَهُوَ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ إِخْفَاءِ الصَّدَقَةِ، وَأَمَّا الْآيَةُ فَظَاهِرَةٌ فِي تَفْضِيلِ صَدَقَةِ السِّرِّ أَيْضًا، وَلَكِنْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، وَنَقَلَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْإِعْلَانَ فِي صَدَقَةِ الْفَرْضِ أَفْضَلُ مِنَ الْإِخْفَاءِ، وَصَدَقَةُ التَّطَوُّعِ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ. وَخَالَفَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ فَقَالَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الصَّدَقَةِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، قَالَ: فَالْمَعْنَى إِنْ تُؤْتُوهَا أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ ظَاهِرَةً فَلَكُمْ فَضْلٌ، وَإِنْ تُؤْتُوهَا فُقَرَاءَكُمْ سِرًّا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ. قَالَ: وَكَانَ يَأْمُرُ بِإِخْفَاءِ الصَّدَقَةِ مُطْلَقًا. وَنَقَلَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ أَنَّ إِخْفَاءَ الزَّكَاةِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَفْضَلَ، فَأَمَّا بَعْدَهُ فَإِنَّ الظَّنَّ يُسَاءُ بِمَنْ أَخْفَاهَا، فَلِهَذَا كَانَ إِظْهَارُ الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ أَفْضَلَ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُشْبِهُ فِي زَمَانِنَا أَنْ يَكُونَ الْإِخْفَاءُ بِصَدَقَةِ الْفَرْضِ أَفْضَلَ، فَقَدْ كَثُرَ الْمَانِعُ لَهَا، وَصَارَ إِخْرَاجُهَا عُرْضَةً لِلرِّيَاءِ. انْتَهَى. وَأَيْضًا فَكَانَ السَّلَفُ يُعْطُونَ زَكَاتَهُمْ لِلسُّعَاةِ، وَكَانَ مَنْ أَخْفَاهَا اتُّهِمَ بِعَدَمِ الْإِخْرَاجِ، وَأَمَّا الْيَوْمَ فَصَارَ كُلُّ أَحَدٍ يُخْرِجُ زَكَاتَهُ بِنَفْسِهِ فَصَارَ إِخْفَاؤُهَا أَفْضَلَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: لَوْ قِيلَ إِنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ لَمَا كَانَ بَعِيدًا، فَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ مَثَلًا جَائِرًا وَمَالَ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ مَخْفِيًّا فَالْإِسْرَارُ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ الْمُتَطَوِّعُ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ وَيُتَّبَعُ وَتَنْبَعِثُ الْهِمَمُ عَلَى التَّطَوُّعِ بِالْإِنْفَاقِ وَسَلِمَ قَصْدُهُ فَالْإِظْهَارُ أَوْلَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 289

‌14 - بَاب إِذَا تَصَدَّقَ عَلَى غَنِيٍّ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ

1421 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ سَارِقٍ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدِّقَ عَلَى سَارِقٍ، فَقَالَ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ زَانِيَةٍ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى زَانِيَةٍ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، عَلَى زَانِيَةٍ، لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدَيْ غَنِيٍّ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ، تُصُدِّقَ عَلَى غَنِيٍّ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، عَلَى سَارِقٍ، وَعَلَى زَانِيَةٍ، وَعَلَى غَنِيٍّ، فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ: أَمَّا صَدَقَتُكَ عَلَى سَارِقٍ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعِفَّ عَنْ سَرِقَتِهِ، وَأَمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا أَنْ تَسْتَعِفَّ عَنْ زِنَاهَا، وَأَمَّا الْغَنِيُّ فَلَعَلَّهُ يَعْتَبِرُ، فَيُنْفِقُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا تَصَدَّقَ عَلَى غَنِيٍّ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ) أَيْ: فَصَدَقَتُهُ مَقْبُولَةٌ.

قَوْلُهُ: (عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ فِي الْغَرَائِبِ لِلدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ هُرْمُزَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ رَجُلٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنِ الْأَعْرَجِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ.

قَوْلُهُ: (لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ) فِي رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِي الْيَمَانِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ: لَأَتَصَدَّقَنَّ اللَّيْلَةَ. وَكَرَّرَ كَذَلِكَ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ وَرْقَاءَ، وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عَقَبَةَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ. وَقَوْلُهُ: لَأَتَصَدَّقَنَّ مِنْ بَابِ الِالْتِزَامِ كَالنَّذْرِ مَثَلًا، وَالْقَسَمُ فِيهِ مُقَدَّرٌ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَاللَّهِ لَأَتَصَدَّقَنَّ.

قَوْلُهُ: (فَوَضَعَهَا فِي يَدِ سَارِقٍ) أَيْ: وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ سَارِقٌ.

قَوْلُهُ: (فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدِّقَ عَلَى سَارِقٍ) فِي رِوَايَةِ أَبِي أُمَيَّةَ: تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى سَارقٍ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ لَهِيعَةَ: تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى فُلَانٍ السَّارِقِ. وَلَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ تَسْمِيَةَ أَحَدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِمْ. وَقَوْلُهُ: تُصُدِّقَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ) أَيْ: لَا لِي لِأَنَّ صَدَقَتِي وَقَعَتْ بِيَدِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا فَلَكَ الْحَمْدُ حَيْثُ كَانَ ذَلِكَ بِإِرَادَتِكَ لَا بِإِرَادَتِي، فَإِنَّ إِرَادَةَ اللَّهِ كُلَّهَا جَمِيلَةٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَمَّا عَزَمَ عَلَى أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى مُسْتَحِقٍّ فَوَضَعَهَا بِيَدِ زَانِيَةٍ حَمِدَ اللَّهَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُقَدِّرْ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى مَنْ هُوَ أَسْوَأُ حَالًا مِنْهَا، أَوْ أَجْرَى الْحَمْدَ مَجْرَى التَّسْبِيحِ فِي اسْتِعْمَالِهِ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ مَا يُتَعَجَّبُ مِنْهُ تَعْظِيمًا لِلَّهِ، فَلَمَّا تَعَجَّبُوا مِنْ فِعْلِهِ تَعَجَّبَ هُوَ أَيْضًا فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، عَلَى زَانِيَةٍ، أَيْ: الَّتِي تَصَدَّقْتُ عَلَيْهَا، فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ. انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى بُعْدُ هَذَا الْوَجْهِ، وَأَمَّا الَّذِي قَبْلَهُ فَأَبْعَدُ مِنْهُ. وَالَّذِي يَظْهَرُ الْأَوَّلُ وَأَنَّهُ سَلَّمَ وَفَوَّضَ وَرَضِيَ بِقَضَاءِ اللَّهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، لِأَنَّهُ الْمَحْمُودُ عَلَى جَمِيعِ الْحَالِ، لَا يُحْمَدُ عَلَى الْمَكْرُوهِ سِوَاهُ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا رَأَى مَا لَا يُعْجِبُهُ قَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى كُلِّ حَالٍ.

قَوْلُهُ: (فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ) فِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ فِي مُسْنَدِ الشَّامِيِّينَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ، عَنْ أَبِي الْيَمَانِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ: فَسَاءَهُ ذَلِكَ فَأَتَى فِي مَنَامِهِ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ عَنْهُ، وَكَذَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ شُعَيْبٍ وَفِيهِ تَعْيِينُ أَحَدِ الِاحْتِمَالَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ التِّينِ وَغَيْرُهُ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: قَوْلُهُ أُتِيَ أَيْ: أُرِيَ فِي الْمَنَامِ أَوْ سَمِعَ هَاتِفًا مَلَكًا أَوْ غَيْرَهُ أَوْ أَخْبَرَهُ نَبِيٌّ أَوْ أَفْتَاهُ عَالِمٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَوْ أَتَاهُ مَلَكٌ فَكَلَّمَهُ، فَقَدْ كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ تُكَلِّمُ

ص: 290

بَعْضَهُمْ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ. وَقَدْ ظَهَرَ بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ أَنَّهَا كُلَّهَا لَمْ تَقَعْ إِلَّا النَّقْلَ الْأَوَّلَ.

قَوْلُهُ: (أَمَّا صَدَقَتُكَ عَلَى سَارِقٍ) زَادَ أَبُو أُمَيَّةَ: فَقَدْ قُبِلَتْ. وَفِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، وَابْنِ لَهِيعَةَ: أَمَّا صَدَقَتُكَ فَقَدْ قُبِلَتْ. وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ قَبِلَ صَدَقَتَكَ. وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ كَانَتْ عِنْدَهُمْ مُخْتَصَّةً بِأَهْلِ الْحَاجَةِ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ، وَلِهَذَا تَعَجَّبُوا مِنَ الصَّدَقَةِ عَلَى الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ. وَفِيهِ أَنَّ نِيَّةَ الْمُتَصَدِّقِ إِذَا كَانَتْ صَالِحَةً قُبِلَتْ صَدَقَتُهُ وَلَوْ لَمْ تَقَعِ الْمَوْقِعَ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْإِجْزَاءِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي زَكَاةِ الْفَرْضِ، وَلَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى الْإِجْزَاءِ وَلَا عَلَى الْمَنْعِ، وَمِنْ ثَمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ التَّرْجَمَةَ بِلَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ وَلَمْ يَجْزِمْ بِالْحُكْمِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْخَبَرَ إِنَّمَا تَضَمَّنَ قِصَّةً خَاصَّةً وَقَعَ الِاطِّلَاعُ فِيهَا عَلَى قَبُولِ الصَّدَقَةِ بِرُؤْيَا صَادِقَةٍ اتِّفَاقِيَّةٍ، فَمِنْ أَيْنَ يَقَعُ تَعْمِيمُ الْحُكْمِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ التَّنْصِيصَ فِي هَذَا الْخَبرِ عَلَى رَجَاءِ الِاسْتِعْفَافِ هُوَ الدَّالُّ عَلَى تَعْدِيَةِ الْحُكْمِ، فَيَقْتَضِي ارْتِبَاطُ الْقَبُولِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ. وَفِيهِ فَضْلُ صَدَقَةِ السِّرِّ، وَفَضْلُ الْإِخْلَاصِ، وَاسْتِحْبَابُ إِعَادَةِ الصَّدَقَةِ إِذَا لَمْ تَقَعِ الْمَوْقِعَ، وَأَنَّ الْحُكْمَ لِلظَّاهِرِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ سِوَاهُ، وَبَرَكَةُ التَّسْلِيمِ وَالرِّضَا، وَذَمُّ التَّضَجُّرِ بِالْقَضَاءِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَا تَقْطَعِ الْخِدْمَةَ، وَلَوْ ظَهَرَ لَكَ عَدَمُ الْقَبُولِ.

‌15 - بَاب إِذَا تَصَدَّقَ عَلَى ابْنِهِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ

1422 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْجُوَيْرِيَةِ أَنَّ مَعْنَ بْنَ يَزِيدَ رضي الله عنه حَدَّثَهُ قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَأَبِي وَجَدِّي، وَخَطَبَ عَلَيَّ فَأَنْكَحَنِي وَخَاصَمْتُ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبِي يَزِيدُ أَخْرَجَ دَنَانِيرَ يَتَصَدَّقُ بِهَا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ فَجِئْتُ فَأَخَذْتُهَا فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا إِيَّاكَ أَرَدْتُ، فَخَاصَمْتُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لَكَ مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ، وَلَكَ مَا أَخَذْتَ يَا مَعْنُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا تَصَدَّقَ) أَيِ الشَّخْصُ (عَلَى ابْنِهِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: لَمْ يَذْكُرْ جَوَابَ الشَّرْطِ اخْتِصَارًا، وَتَقْدِيرُهُ جَازَ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ لِعَدَمِ شُعُورِهِ كَالْأَجْنَبِيِّ. وَمُنَاسَبَةُ التَّرْجَمَةِ لِلْخَبَرِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ يَزِيدَ أَعْطَى مَنْ يَتَصَدَّقُ عَنْهُ وَلَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ، وَكَانَ هُوَ السَّبَبُ فِي وُقُوعِ الصَّدَقَةِ فِي يَدِ وَلَدِهِ، قَالَ: وَعَبَّرَ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ بِنَفْيِ الشُّعُورِ وَفِي الَّتِي قَبْلَهَا بِنَفْيِ الْعِلْمِ، لِأَنَّ الْمُتَصَدِّقَ فِي السَّابِقَةِ بَذَلَ وُسْعَهُ فِي طَلَبِ إِعْطَاءِ الْفَقِيرِ فَأَخْطَأَ اجْتِهَادُهُ، فَنَاسَبَ أَنْ يَنْفِيَ عَنْهُ الْعِلْمَ، وَأَمَّا هَذَا فَبَاشَرَ التَّصَدُّقَ غَيْرُهُ، فَنَاسَبَ أَنْ يَنْفِيَ عَنْ صَاحِبِ الصَّدَقَةِ الشُّعُورَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ) هُوَ الْفِرْيَابِيُّ، وَأَبُو الْجُوَيْرِيَةِ بِالْجِيمِ مُصَغَّرًا اسْمُهُ حِطَّانُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَكَانَ سَمَاعُهُ منْ مَعْنٍ، وَمَعْنٌ أَمِيرٌ عَلَى غَزَاةٍ بِالرُّومِ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ، كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْجُوَيْرِيَةِ.

قَوْلُهُ: (أَنَا وَأَبِي وَجَدِّي) اسْمُ جَدِّهِ الْأَخْنَسُ بْنُ حَبِيبٍ السُّلَمِيُّ كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَوَقَعَ فِي الصَّحَابَةِ لِمُطَيَّنٍ، وَتَبِعَهُ الْبَارُودِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَنْدَهْ، وَأَبُو نُعَيْمْ أَنَّ اسْمَ جَدِّ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ ثَوْرٌ، فَتَرْجَمُوا فِي كُتُبِهِمْ بِثَوْرٍ، وَسَاقُوا حَدِيثَ الْبَابِ مِنْ طَرِيقِ الْجَرَّاحِ وَالِدِ وَكِيعٍ، عَنْ أَبِي الْجُوَيْرِيَةِ، عَنْ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ ثَوْرٍ السُّلَمِيِّ، أَخْرَجَهُ مُطَيَّنٌ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ وَكِيعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، وَرَوَاهُ الْبَارُودِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ، عَنْ مُطَيَّنٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَنْدَهْ، عَنِ الْبَارُودِيِّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ، عَنِ الطَّبَرَانِيِّ، وَجُمْهُورُ الرُّوَاةِ عَنْ أَبِي الْجُوَيْرِيَةِ، لَمْ يُسَمُّوا جَدَّ مَعْنٍ، بَلْ تَفَرَّدَ سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ بِذَلِكَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَأَظُنُّهُ كَانَ فِيهِ عَنْ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ أَبِي ثَوْرٍ السُّلَمِيِّ فَتَصَحَّفْتُ أَدَاةَ الْكُنْيَةِ بِابْنٍ، فَإِنَّ مَعْنًا كَانَ يُكَنَّى أَبَا ثَوْرٍ، فَقَدْ ذَكَرَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ فِي تَارِيخِهِ أَنَّ مَعْنَ بْنَ يَزِيدَ، وَابْنَهُ ثَوْرًا قُتِلَا يَوْمَ مَرْجِ رَاهِطٍ مَعَ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ. وَجَمَعَ ابْنُ حِبَّانَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ بِوَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ فِي

ص: 291

الصَّحَابَةِ: ثَوْرٌ السُّلَمِيُّ جَدُّ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ الْأَخْنَسِ السُّلَمِيِّ لِأُمِّهِ. فَإِنْ كَانَ ضَبَطَهُ فَقَدْ زَالَ الْإِشْكَالُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَرُوِيَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، أَنَّ مَعْنَ بْنَ يَزِيدَ شَهِدَ بَدْرًا هُوَ وَأَبُوهُ وَجَدُّهُ، وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَخْنَسِ السُّلَمِيِّ أَنَّهُ أَسْلَمَ فَأَسْلَمَ مَعَهُ جَمِيعُ أَهْلِهِ إِلَّا امْرَأَةً وَاحِدَةً أَبَتْ أَنْ تُسْلِمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم:{وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} فَهَذَا دَالٌّ عَلَى أَنَّ إِسْلَامَهُ كَانَ مُتَأَخِّرًا، لِأَنَّ الْآيَةَ مُتَأَخِّرَةُ الْإِنْزَالِ عَنْ بَدْرٍ قَطْعًا. وَقَدْ فَرَّقَ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ فِي الصَّحَابَةِ بَيْنَ يَزِيدَ بْنِ الْأَخْنَسِ وَبَيْنَ يَزِيدَ وَالِدِ مَعْنٍ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ هُوَ.

قَوْلُهُ: (وَخَطَبَ عَلَيَّ فَأَنْكَحَنِي) أَيْ: طَلَبَ لِيَ النِّكَاحَ فَأُجِيبَ، يُقَالُ: خَطَبَ الْمَرْأَةَ إِلَى وَلِيِّهَا إِذَا أَرَادَهَا الْخَاطِبُ لِنَفْسِهِ، وَعَلَى فُلَانٍ إِذَا أَرَادَهَا لِغَيْرِهِ، وَالْفَاعِلُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، لِأَنَّ مَقْصُودَ الرَّاوِي بَيَانُ أَنْوَاعِ عَلَاقَاتِهِ بِهِ مِنَ الْمُبَايَعَةِ وَغَيْرِهَا. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ الْمَخْطُوبَةِ، وَلَوْ وَرَدَ أَنَّهَا وَلَدَتْ مِنْهُ لَضَاهَى بَيْتَ الصَّدِيقِ فِي الصُّحْبَةِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِمْ أَرْبَعَةً فِي نَسَقٍ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، فَرَوَى الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ أَنَّ حَارِثَةَ قَدِمَ فَأَسْلَمَ، وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ فِي الْمَغَازِي أَنَّ أُسَامَةَ وُلِدَ لَهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ تَتَبَّعْتُ نَظَائِرَ لِذَلِكَ أَكْثَرُهَا فِيهِ مَقَالٌ ذَكَرْتُهَا فِي النُّكَتِ عَلَى عُلُومِ الْحَدِيثِ لِابْنِ الصَّلَاحِ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ أَبِي يَزِيدُ) بِالرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ.

قَوْلُهُ: (فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَجُلٍ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، وَفِي السِّيَاقِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: وَأَذِنَ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى مُحْتَاجٍ إِلَيْهَا إِذْنًا مُطْلَقًا.

قَوْلُهُ: (فَجِئْتُ فَأَخَذْتُهَا) أَيْ: مِنَ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التَّصَدُّقِ بِهَا بِإِذْنِهِ لَا بِطَرِيقِ الِاعْتِدَاءِ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَمْزَةَ السُّكَّرِيِّ، عَنْ أَبِي الْجُوَيْرِيَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: قُلْتُ: مَا كَانَتْ خُصُومَتُكَ؟ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يَغْشَى الْمَسْجِدَ فَيَتَصَدَّقُ عَلَى رِجَالٍ يَعْرِفُهُمْ، فَظَنَّ أَنِّي بَعْضُ مَنْ يَعْرِفُ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (فَأَتَيْتُهُ) الضَّمِيرُ لِأَبِيهِ أَيْ: فَأَتَيْتُ أَبِي بِالدَّنَانِيرِ الْمَذْكُورَةِ.

قَوْلُهُ: (وَاللَّهِ مَا إِيَّاكَ أَرَدْتُ) يَعْنِي لَوْ أَرَدْتُ أَنَّكَ تَأْخُذُهَا لَنَاوَلْتُهَا لَكَ وَلَمْ أُوَكِّلْ فِيهَا، أَوْ كَأَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْوَلَدِ لَا تُجْزِئُ، أَوْ يَرَى أَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ أَفْضَلُ.

قَوْلُهُ: (فَخَاصَمْتُهُ) تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ أَوَّلًا: وَخَاصَمْتُ إِلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (لَكَ مَا نَوَيْتَ) أَيْ: إِنَّكَ نَوَيْتَ أَنْ تَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى مَنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا، وَابْنُكَ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا فَوَقَعَتِ الْمَوْقِعَ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِكَ أَنَّهُ يَأْخُذُهَا.

قَوْلُهُ: (وَلَكَ مَا أَخَذْتَ يَا مَعْنُ) أَيْ: لِأَنَّكَ أَخَذْتَهَا مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهِ مَا إِيَّاكَ أَرَدْتُ؛ أَيْ: إِنِّي أَخْرَجْتُكَ بِنِيَّتِي، وَإِنَّمَا أَطْلَقْتُ لِمَنْ تُجْزِئُ عَنِّي الصَّدَقَةُ وَلَمْ تَخْطُرْ أَنْتَ بِبَالِي، فَأَمْضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْإِطْلَاقَ، لِأَنَّهُ فَوَّضَ لِلْوَكِيلِ بِلَفْظٍ مُطْلَقٍ فَنَفَّذَ فِعْلَهُ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْعَمَلِ بِالْمُطْلَقَاتِ عَلَى إِطْلَاقِهَا وَإِنِ احْتَمَلَ أَنَّ الْمُطْلَقَ لَوْ خَطَرَ بِبَالِهِ فَرْدٌ مِنَ الْأَفْرَادِ لَقَيَّدَ اللَّفْظَ بِهِ، وَاللَّهَ أَعْلَمُ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ دَفْعِ الصَّدَقَةِ إِلَى كُلِّ أَصْلٍ وَفَرْعٍ، وَلَوْ كَانَ مِمَّنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهَا وَاقِعَةُ حَالٍ فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَعْنٌ كَانَ مُسْتَقِلًّا لَا يَلْزَمُ أَبَاهُ يَزِيدَ نَفَقَتُهُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبْسُوطًا فِي بَابِ الزَّكَاةِ عَلَى الزَّوْجِ بَعْدَ ثَلَاثِينَ بَابًا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِيهِ جَوَازُ الِافْتِخَارِ بِالْمَوَاهِبِ الرَّبَّانِيَّةِ وَالتَّحَدُّثِ بِنِعَمِ اللَّهِ. وَفِيهِ جَوَازُ التَّحَاكُمِ بَيْنَ الْأَبِ وَالِابْنِ، وَأَنَّ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِهِ لَا يَكُونُ عُقُوقًا. وَجَوَازُ الِاسْتِخْلَافِ فِي الصَّدَقَةِ وَلَا سِيَّمَا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ، لِأَنَّ فِيهِ نَوْعُ إِسْرَارٍ. وَفِيهِ أَنَّ لِلمتَّصَدُّقِ أَجْرَ مَا نَوَاهُ سَوَاءٌ صَادَفَ الْمُسْتَحِقَّ أَوْ لَا. وَأَنَّ الْأَبَ لَا رُجُوعَ لَهُ فِي الصَّدَقَةِ عَلَى وَلَدِهِ بِخِلَافِ الْهِبَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌16 - بَاب الصَّدَقَةِ بِالْيَمِينِ

1423 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ،

ص: 292

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَدْلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّدَقَةِ بِالْيَمِينِ) أَيْ: حُكْمُ، أَوْ بَابٌ بِالتَّنْوِينِ، وَالتَّقْدِيرُ أَيْ فَاضِلَةٌ أَوْ يُرْغَبُ فِيهَا.

ثُمَّ أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ. وَفِي قَوْلِهِ: حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى كَمَا بَيَّنْتُهُ قَرِيبًا.

1424 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي مَعْبَدُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ سَمِعْتُ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ الْخُزَاعِيَّ رضي الله عنه يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: تَصَدَّقُوا، فَسَيَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ يَمْشِي الرَّجُلُ بِصَدَقَتِهِ فَيَقُولُ الرَّجُلُ: لَوْ جِئْتَ بِهَا بِالْأَمْسِ لقَبِلْتُهَا مِنْكَ فَأَمَّا الْيَوْمَ فَلَا حَاجَةَ لِي فِيهَا.

ثُمَّ أَوْرَدَ فِيهِ أَيْضًا حَدِيثَ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي بَابِ الصَّدَقَةِ قَبْلَ الرَّدِّ وَفِيهِ: يَمْشِي الرَّجُلُ بِصَدَقَتِهِ فَيَقُولُ الرَّجُلُ: لَوْ جِئْتَ بِهَا أَمْسِ لِقَبِلْتُهَا مِنْكَ. قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: مُطَابَقَةُ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ اشْتَرَكَ مَعَ الَّذِي قَبْلَهُ فِي كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا حَامِلًا لِصَدَقَتِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ حَامِلًا بِنَفْسِهِ كَانَ أَخْفَى لَهَا، فَكَانَ فِي مَعْنَى: لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ. وَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ فِي هَذَا عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي هَذَا أَيْ: الْمُنَاوَلَةُ بِالْيَمِينِ، قَالَ: وَيُقَوِّي أَنَّ ذَلِكَ مَقْصِدُهُ إِتْبَاعَهُ بِالتَّرْجَمَةِ الَّتِي بَعْدَهَا حَيْثُ قَالَ: مَنْ أَمَرَ خَادِمَهُ بِالصَّدَقَةِ وَلَمْ يُنَاوِلْ بِنَفْسِهِ. وَكَأَنَّهُ قَصَدَ فِي هَذَا مَنْ حَمَلَهَا بِنَفْسِهِ.

‌17 - بَاب مَنْ أَمَرَ خَادِمَهُ بِالصَّدَقَةِ وَلَمْ يُنَاوِلْ بِنَفْسِهِ

وَقَالَ أَبُو مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هُوَ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقِينَ

1425 -

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَنْفَقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ، وَلِزَوْجِهَا أَجْرُهُ بِمَا كَسَبَ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ، لَا يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ أَجْرَ بَعْضٍ شَيْئًا.

[الحديث 1425 - أطرافه في: 1439، 1440، 1441، 2065]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أَمَرَ خَادِمَهُ بِالصَّدَقَةِ وَلَمْ يُنَاوِلْ بِنَفْسِهِ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: فَائِدَةُ قَوْلِهِ: وَلَمْ يُنَاوِلْ بِنَفْسِهِ. التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُغْتَفَرُ، وَأَنَّ قَوْلَهُ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ: الصَّدَقَةُ بِالْيَمِينِ. لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْمَنْعُ مِنَ إِعْطَائِهَا بِيَدِ الْغَيْرِ وَإِنْ كَانَتِ الْمُبَاشَرَةُ أَوْلَى.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو مُوسَى) هُوَ الْأَشْعَرِيُّ.

قَوْلُهُ: (هُوَ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَيْنِ) ضُبِطَ فِي جَمِيعِ رِوَايَاتِ الصَّحِيحَيْنِ بِفَتْحِ الْقَافِ عَلَى التَّثْنِيَةِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَيَجُوزُ الْكَسْرُ عَلَى الْجَمْعِ أَيْ: هُوَ مُتَصَدِّقٌ مِنَ الْمُتَصَدِّقِينَ. وَهَذَا التَّعْلِيقُ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ وَصَلَهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَبْوَابٍ بِلَفْظِ: الْخَازِنِ وَالْخَازِنُ خَادِمُ الْمَالِكِ فِي الْخَزْنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ خَادِمُهُ

ص: 293

حَقِيقَةً. ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ هُنَا حَدِيثَ عَائِشَةَ: إِذَا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا. الْحَدِيثَ. قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: نَبَّهَ بِالتَّرْجَمَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُفَسَّرٌ بِهَا، لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْخَازِنِ وَالْخَادِمِ وَالْمَرْأَةِ أَمِينٌ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ إِلَّا بِإِذْنِ الْمَالِكِ نَصًّا أَوْ عُرْفًا إِجْمَالًا أَوْ تَفْصِيلًا. انْتَهَى. وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ بَعْدَ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ.

‌18 - بَاب لَا صَدَقَةَ إِلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى

وَمَنْ تَصَدَّقَ وَهُوَ مُحْتَاجٌ أَوْ أَهْلُهُ مُحْتَاجٌ أَوْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَالدَّيْنُ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى مِنْ الصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ وَالْهِبَةِ، وَهُوَ رَدٌّ عَلَيْهِ، لَيْسَ لَهُ أَنْ يُتْلِفَ أَمْوَالَ النَّاسِ، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا بِالصَّبْرِ فَيُؤْثِرَ عَلَى نَفْسِهِ وَلَوْ كَانَ بِهِ خَصَاصَةٌ، كَفِعْلِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه حِينَ تَصَدَّقَ بِمَالِهِ، وَكَذَلِكَ آثَرَ الْأَنْصَارُ الْمُهَاجِرِينَ وَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَيِّعَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِعِلَّةِ الصَّدَقَةِ، وَقَالَ كَعْبُ رضي الله عنه قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ، قُلْتُ: فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ

1426 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ.

[الحديث 1426 - أطرافه في: 1428، 5355، 5356]

1427 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ"

1428 -

وَعَنْ وُهَيْبٍ قَالَ أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا

1429 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ح و حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَذَكَرَ الصَّدَقَةَ وَالتَّعَفُّفَ وَالْمَسْأَلَةَ الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى فَالْيَدُ الْعُلْيَا هِيَ الْمُنْفِقَةُ وَالسُّفْلَى هِيَ السَّائِلَةُ"

قَوْلُهُ: (بَابٌ لَا صَدَقَةَ إِلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى) أَوْرَدَ فِي الْبَابِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى وَهُوَ مُشْعِرٌ بِأَنَّ النَّفْيَ فِي اللَّفْظِ الْأَوَّلِ لِلْكَمَالِ لَا لِلْحَقِيقَةِ، فَالْمَعْنَى لَا صَدَقَةَ كَامِلَةً إِلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَقَدْ أَوْرَدَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ بِلَفْظِ: إِنَّمَا الصَّدَقَةُ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى لَفْظِ التَّرْجَمَةِ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ التَّرْجَمَةِ، قَالَ: لَا صَدَقَةَ إِلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى. الْحَدِيثَ.

ص: 294

وَكَذَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ تَعْلِيقًا فِي الْوَصَايَا، وَسَاقَهُ مُغَلْطَايْ بِإِسْنَادٍ لَهُ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِهِ، وَلَيْسَ هُوَ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ الَّذِي سَاقَهُ مِنْهُ، فَلَا يُغْتَرُّ بِهِ وَلَا بِمَنْ تَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَمَنْ تَصَدَّقَ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى آخِرِ التَّرْجَمَةِ) كَأَنَّهُ أَرَادَ تَفْسِيرَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ بِأَنَّ شَرْطَ الْمُتَصَدِّقِ أَنْ لَا يَكُونَ مُحْتَاجًا لِنَفْسِهِ أَوْ لِمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ. وَيَلْتَحِقُ بِالتَّصَدُّقِ سَائِرُ التَّبَرُّعَاتِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَهُوَ رَدٌّ عَلَيْهِ فَمُقْتَضَاهُ أَنَّ ذَا الدَّيْنِ الْمُسْتَغْرِقِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ التَّبَرُّعُ، لَكِنَّ مَحِلَّ هَذَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ إِذَا حَجَرَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ بِالْفَلَسِ، وَقَدْ نَقَلَ فِيهِ صَاحِبُ الْمُغْنِي وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ، فَيُحْمَلُ إِطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ عَلَيْهِ. وَاسْتَدَلَّ لَهُ الْمُصَنِّفُ بِالْأَحَادِيثِ الَّتِي عَلَّقَهَا.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا بِالصَّبْرِ. فَهُوَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَكَلَامُ ابْنِ التِّينِ يُوهِمُ أَنَّهُ بَقِيَّةُ الْحَدِيثِ فَلَا يُغْتَرَّ بِهِ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَرَادَ أَنْ يَخُصَّ بِهِ عُمُومَ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُخْتَصُّ بِالْمُحْتَاجِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الْمُحْتَاجِ أَوْ مَنْ تَلْزَمُهُ النَّفَقَةُ أَوْ صَاحِبُ الدَّيْنِ مَعْرُوفًا بِالصَّبْرِ. وَيُقَوِّي الْأَوَّلَ التَّمْثِيلُ الَّذِي مَثَّلَ بِهِ مِنْ فِعْلِ أَبِي بَكْرٍ وَالْأَنْصَارِ، قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمِدْيَانَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ وَيَتْرُكَ قَضَاءَ الدَّيْنِ، فَتَعَيَّنَ حَمْلُ ذَلِكَ عَلَى الْمُحْتَاجِ. وَحَكَى ابْنُ رَشِيدٍ، عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يُتَصَوَّرُ فِي الْمِدْيَانِ فِيمَا إِذَا عَامَلَهُ الْغُرَمَاءُ عَلَى أَنْ يَأْكُلَ مِنَ الْمَالِ فَلَوْ آثَرَ بِقُوتِهِ وَكَانَ صَبُورًا جَازَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِلَّا كَانَ إِيثَارُهُ سَبَبًا فِي أَنْ يَرْجِعَ لِاحْتِيَاجِهِ فَيَأْكُلَ فَيُتْلِفَ أَمْوَالَهُمْ فَيُمْنَعَ. وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَقَدِ اشْتَمَلَتِ التَّرْجَمَةُ عَلَى خَمْسَةِ أَحَادِيثَ مُعَلَّقَةٍ، وَفِي الْبَابِ أَرْبَعَةُ أَحَادِيثَ مَوْصُولَةٍ. فَأَمَّا الْمُعَلَّقَةُ فَأَوَّلَهَا قَوْلُهُ: وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ وَهُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ لِأَبِي هُرَيْرَةَ مَوْصُولٌ عِنْدَهُ فِي الِاسْتِقْرَاضِ. ثَانِيهَا قَوْلُهُ: كَفِعْلِ أَبِي بَكْرٍ حِينَ تَصَدَّقَ بِمَالِهِ.

هَذَا مَشْهُورٌ فِي السِّيَرِ، وَوَرَدَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَتَصَدَّقَ، فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا، فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي، وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟ قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. الْحَدِيثُ تَفَرَّدَ بِهِ هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدٍ، وَهِشَامٌ صَدُوقٌ فِيهِ مَقَالٌ مِنْ جِهَةِ حِفْظِهِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ: قَالَ الْجُمْهُورُ مَنْ تَصَدَّقَ بِمَالِهِ كُلِّهِ فِي صِحَّةِ بَدَنِهِ وَعَقْلِهِ حَيْثُ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ وَكَانَ صَبُورًا عَلَى الْإِضَاقَةِ، وَلَا عِيَالَ لَهُ أَوْ لَهُ عِيَالٌ يَصْبِرُونَ أَيْضًا فَهُوَ جَائِزٌ، فَإِنْ فُقِدَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ كُرِهَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَرْدُودٌ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ حَيْثُ رَدَّ عَلَى غَيْلَانَ الثَّقَفِيِّ قِسْمَةَ مَالِهِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْتَجَّ لَهُ بِقِصَّةِ الْمُدَبَّرِ الْآتِي ذِكْرُهُ، فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم بَاعَهُ وَأَرْسَلَ ثَمَنَهُ إِلَى الَّذِي دَبَّرَهُ لِكَوْنِهِ كَانَ مُحْتَاجًا. وَقَالَ آخَرُونَ: يَجُوزُ مِنَ الثُّلْثِ وَيُرَدُّ عَلَيْهِ الثُّلْثَانِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَمَكْحُولٍ. وَعَنْ مَكْحُولٍ أَيْضًا يُرَدُّ مَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَالصَّوَابُ عِنْدنَا الْأَوَّلُ مِنْ حَيْثُ الْجَوَازِ، وَالْمُخْتَارُ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِحْبَابِ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ مِنَ الثُّلْثِ جَمْعًا بَيْنَ قِصَّةِ أَبِي بَكْرٍ وَحَدِيثِ كَعْبٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثَالِثُهَا قَوْلُهُ: وَكَذَلِكَ آثَرَ الْأَنْصَارُ الْمُهَاجِرِينَ هُوَ مَشْهُورٌ أَيْضًا فِي السِّيَرِ، وَفِيهِ أَحَادِيثُ مَرْفُوعَةٌ: مِنْهَا حَدِيثُ أَنَسٍ: قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْمَدِينَةَ وَلَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ، فَقَاسَمَهُمُ الْأَنْصَارُ. وَسَيَأْتِي مَوْصُولًا فِي الْهِبَةِ. وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ الْأَنْصَارِيِّ الَّذِي آثَرَ ضَيْفَهُ بِعَشَائِهِ وَعَشَاءِ أَهْلِهِ، وَسَيَأْتِي مَوْصُولًا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْحَشْرِ. رَابِعُهَا قَوْلُهُ: وَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ. هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِتَمَامِهِ فِي آخِرِ صِفَةِ الصَّلَاةِ. خَامِسُهَا قَوْلُهُ: وَقَالَ كَعْبٌ. يَعْنِي ابْنَ مَالِكٍ إِلَخْ، وَهُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ فِي قِصَّةِ تَوْبَتِهِ، وَسَيَأْتِي بِتَمَامِهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ التَّوْبَةِ.

وَأَمَّا الْمَوْصُولَةُ فَأَوَّلُهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: خَيْرُ

ص: 295

الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى. فَعَبْدُ اللَّهِ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَيُونُسُ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ. وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا وَقَعَ مِنْ غَيْرِ مُحْتَاجٍ إِلَى مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَفْظُ الظَّهْرِ يَرِدُ فِي مِثْلِ هَذَا إِشْبَاعًا لِلْكَلَامِ، وَالْمَعْنَى أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا أَخْرَجَهُ الْإِنْسَانُ مِنْ مَالِهِ بَعْدَ أَنْ يَسْتَبْقِيَ مِنْهُ قَدْرَ الْكِفَايَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَهُ: وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: الْمُرَادُ غِنًى يَسْتَظْهِرُ بِهِ عَلَى النَّوَائِبِ الَّتِي تَنُوبُهُ. وَنَحْوُهُ قَوْلُهُمْ: رَكِبَ مَتْنَ السَّلَامَةِ. وَالتَّنْكِيرُ فِي قَوْلِهِ: غِنًى لِلتَّعْظِيمِ، هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا أَغْنَيْتَ بِهِ مَنْ أَعْطَيْتَهُ عَنِ الْمَسْأَلَةِ، وَقِيلَ: عَنْ لِلسَّبَبِيَّةِ وَالظَّهْرُ زَائِدٌ، أَيْ: خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ سَبَبُهَا غِنًى فِي الْمُتَصَدِّقِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: مَذْهَبُنَا أَنَّ التَّصَدُّقَ بِجَمِيعِ الْمَالِ مُسْتَحَبٌّ لِمَنْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ وَلَا لَهُ عِيَالٌ لَا يَصْبِرُونَ، وَيَكُونُ هُوَ مِمَّنْ يَصْبِرُ عَلَى الْإِضَاقَةِ وَالْفَقْرِ، فَإِنْ لَمْ يَجْمَعْ هَذِهِ الشُّرُوطَ فَهُوَ مَكْرُوهٌ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ: يُرَدُّ عَلَى تَأْوِيلِ الْخَطَّابِيِّ بِالْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي فَضْلِ الْمُؤْثِرِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَمِنْهَا حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ: أفَضْلُ الصَّدَقَةِ جُهْدٌ مِنْ مُقِلٍّ.

وَالْمُخْتَارُ أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا وَقَعَ بَعْدَ الْقِيَامِ بِحُقُوقِ النَّفْسِ وَالْعِيَالِ بِحَيْثُ لَا يَصِيرُ الْمُتَصَدِّقُ مُحْتَاجًا بَعْدَ صَدَقَتِهِ إِلَى أَحَدٍ، فَمَعْنَى الْغِنَى فِي هَذَا الْحَدِيثِ حُصُولُ مَا تُدْفَعُ بِهِ الْحَاجَةُ الضَّرُورِيَّةُ كَالْأَكْلِ عِنْدَ الْجُوعِ الْمُشَوِّشِ الَّذِي لَا صَبْرَ عَلَيْهِ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَالْحَاجَةُ إِلَى مَا يَدْفَعُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ الْأَذَى، وَمَا هَذَا سَبِيلُهُ فَلَا يَجُوزُ الْإِيثَارُ بِهِ بَلْ يَحْرُمُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا آثَرَ غَيْرَهُ بِهِ أَدَّى إِلَى إِهْلَاكِ نَفْسِهِ أَوِ الْإِضْرَارِ بِهَا أَوْ كَشْفِ عَوْرَتِهِ، فَمُرَاعَاةُ حَقِّهِ أَوْلَى عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَإِذَا سَقَطَتْ هَذِهِ الْوَاجِبَاتُ صَحَّ الْإِيثَارُ وَكَانَتْ صَدَقَتُهُ هِيَ الْأَفْضَلُ لِأَجْلِ مَا يَتَحَمَّلُ مِنْ مَضَضِ الْفَقْرِ وَشِدَّةِ مَشَقَّتِهِ، فَبِهَذَا يَنْدَفِعُ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

قَوْلُهُ: (وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ) فِيهِ تَقْدِيمُ نَفَقَةِ نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ، لِأَنَّهَا مُنْحَصِرَةٌ فِيهِ بِخِلَافِ نَفَقَةِ غَيْرِهِمْ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي النَّفَقَاتِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ثَانِيهَا: حَدِيثُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ: الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى. الْحَدِيثَ، وَشَاهِدُ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ قَوْلُهُ فِيهِ: وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى. وَهِشَامٌ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: وَمَنْ يَسْتَعِفَّ يُعِفَّهُ اللَّهُ يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ بَعْدَ أَبْوَابٍ.

ثَالِثُهَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ بِهَذَا أَيْ: بِحَدِيثِ حَكِيمٍ، أَوْرَدَهُ مَعْطُوفًا عَلَى إِسْنَادِ حَدِيثِ حَكِيمٍ بِلَفْظِ: وَعَنْ وُهَيْبٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ حَمَلَهُ عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنْهُ بِالطَّرِيقَيْنِ مَعًا، وَكَأَنَّ هِشَامًا حَدَّثَ بِهِ وُهَيْبًا تَارَةً عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَكِيمٍ، وَتَارَةً عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَوْ حَدَّثَهُ بِهِ عَنْهُمَا مَجْمُوعًا فَفَرَّقَهُ وُهَيْبٌ أَوِ الرَّاوِي عَنْهُ. وَقَدْ وَصَلَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ طَرِيقِ وُهَيْبٍ، الْإِسْمَاعِيلِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ يَاسِينَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا حِبَّانُ - هُوَ ابْنُ هِلَالٍ - حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ مِثْلَ حَدِيثِ حَكِيمٍ.

رَابِعُهَا: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ مِنْ وَجْهَيْنِ فِي ذِكْرِ الْيَدِ الْعُلْيَا، وَإِنَّمَا أَوْرَدَهُ لِيُفَسِّرَ بِهِ مَا أُجْمِلَ فِي حَدِيثِ حَكِيمٍ، قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ حَدِيثَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ لَمَّا اشْتَمَلَ عَلَى شَيْئَيْنِ: حَدِيثِ الْيَدِ الْعُلْيَا وَحَدِيثِ: لَا صَدَقَةَ إِلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى، ذَكَرَ مَعَهُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى الشَّيْءِ الْأَوَّلِ تَكْثِيرًا لِطُرُقِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُنَاسَبَةُ حَدِيثِ: الْيَدِ الْعُلْيَا لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ إِطْلَاقَ كَوْنِ الْيَدِ الْعُلْيَا هِيَ الْمُنْفِقَةُ، مَحَلُّهُ مَا إِذَا كَانَ الْإِنْفَاقُ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ بِالشَّرْعِ كَالْمِدْيَانِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، فَعُمُومُهُ مَخْصُوصٌ بِقَوْلِهِ: لَا صَدَقَةَ إِلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(تَنْبِيهٌ): لَمْ يَسُقِ الْبُخَارِيُّ مَتْنَ طَرِيقِ حَمَّادٍ، عَنْ أَيُّوبَ، وَعَطَفَ عَلَيْهِ طَرِيقَ مَالِكٍ، فَرُبَّمَا أَوْهَمَ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا سَنَذْكُرُهُ عَنْ أَبِي دَاوُدَ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ: لَمْ تَخْتَلِفِ الرُّوَاةُ عَنْ مَالِكٍ أَيْ: فِي سِيَاقِهِ، كَذَا قَالَ، وَفِيهِ

ص: 296

نَظَرٌ كَمَا سَيَأْتِي. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَقَعَ تَفْسِيرُ الْيَدِ الْعُلْيَا وَالسُّفْلَى فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ هَذَا، وَهُوَ نَصٌّ يَرْفَعُ الْخِلَافَ وَيَدْفَعُ تَعَسُّفَ مَنْ تَعَسَّفَ فِي تَأْوِيلِهِ ذَلِكَ. انْتَهَى. لَكِنِ ادَّعَى أَبُو الْعَبَّاسِ الدَّانِيُّ فِي أَطْرَافِ الْمُوَطَّأِ أَنَّ التَّفْسِيرَ الْمَذْكُورَ مُدْرَجٌ فِي الْحَدِيثِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مُسْتَنَدًا لِذَلِكَ. ثُمَّ وَجَدْتُ فِي كِتَابِ الْعَسْكَرِيِّ فِي الصَّحَابَةِ بِإِسْنَادٍ لَهُ فِيهِ انْقِطَاعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ: إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَلَا أَحْسَبُ الْيَدَ السُّفْلَى إِلَّا السَّائِلَةَ، وَلَا الْعُلْيَا إِلَّا الْمُعْطِيَةَ. فَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ التَّفْسِيرَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عُمَرَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ الْعُلْيَا هِيَ الْمُنْفِقَةُ.

قَوْلُهُ: (وَذَكَرَ الصَّدَقَةَ وَالتَّعَفُّفَ وَالْمَسْأَلَةَ) كَذَا لِلْبُخَارِيِّ بِالْوَاوِ قَبْلَ الْمَسْأَلَةِ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ مَالِكٍ: وَالتَّعَفُّفَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ وَلِأَبِي دَاوُدَ وَالتَّعَفُّفَ مِنْهَا أَيْ: مِنْ أَخْذِ الصَّدَقَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ يَحُضُّ الْغَنِيَّ عَلَى الصَّدَقَةِ وَالْفَقِيرَ عَلَى التَّعَفُّفِ عَنِ الْمَسْأَلَةِ أَوْ يَحُضُّهُ عَلَى التَّعَفُّفِ وَيَذُمُّ الْمَسْأَلَةَ.

قَوْلُهُ: (فَالْيَدُ الْعُلْيَا هِيَ الْمُنْفِقَةُ) قَالَ أَبُو دَاوُدَ قَالَ الْأَكْثَرُ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ: الْمُنْفِقَةُ، وَقَالَ وَاحِدٌ عَنْهُ: الْمُتَعَفِّفَةُ، وَكَذَا قَالَ عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ أَيُّوبَ. انْتَهَى. فَأَمَّا الَّذِي قَالَ عَنْ حَمَّادٍ: الْمُتَعَفِّفَةُ بِالْعَيْنِ وَفَاءَيْنِ، فَهُوَ مُسَدَّدٌ، كَذَلِكَ رُوِّينَاهُ عَنْهُ فِي مُسْنَدِهِ رِوَايَةَ مُعَاذِ بْنِ الْمُثَنَّى عَنْهُ، وَمِنْ طَرِيقِهِ أَخْرَجَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ، وَقَدْ تَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ كَمَا رُوِّينَاهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ لِيُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ الْقَاضِي حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ. وَأَمَّا رِوَايَةُ عَبْدِ الْوَارِثِ فَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهَا مَوْصُولَةً. وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ حَمَّادٍ بِلَفْظِ: وَالْيَدُ الْعُلْيَا يَدُ الْمُعْطِي. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ رَوَاهُ عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ: الْمُتَعَفِّفَةُ فَقَدْ صَحَّفَ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَرَوَاهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ فَاخْتُلِفَ عَلَيْهِ أَيْضًا، فَقَالَ حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ عَنْهُ الْمُنْفِقَةُ كَمَا قَالَ مَالِكٌ. قُلْتُ: وَكَذَلِكَ قَالَ فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْهُ، أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِهِ، قَالَ: وَرَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ مُوسَى فَقَالَ: الْمُنْفِقَةُ.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: رِوَايَةُ مَالِكٍ أَوْلَى وَأَشْبَهُ بِالْأُصُولِ. وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ طَارِقٍ الْمُحَارِبِيِّ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، قَالَ: قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَإِذَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ النَّاسَ، وَهُوَ يَقُولُ: يَدُ الْمُعْطِي الْعُلْيَا. انْتَهَى. وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبَزَّارِ مِنْ طَرِيقِ ثَعْلَبَةَ بْنِ زَهْدَمٍ مِثْلُهُ، وَلِلطَّبَرَانِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ مَرْفُوعًا: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ يَدِ الْمُعْطِي، وَيَدُ الْمُعْطِي فَوْقَ يَدِ الْمُعْطَى، وَيَدُ الْمُعْطَى أَسْفَلُ الْأَيْدِي. وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَدِيٍّ الْجُذَامِيِّ مَرْفُوعًا مِثْلُهُ، وَلِأَبِي دَاوُدَ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْأَحْوَصِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا: الْأَيْدِي ثَلَاثَةٌ: فَيَدُ اللَّهِ الْعُلْيَا، وَيَدُ الْمُعْطِي الَّتِي تَلِيهَا، وَيَدُ السَّائِلِ السُّفْلَى. وَلِأَحْمَدَ، وَالْبَزَّارِ مِنْ حَدِيثِ عَطِيَّةَ السَّعْدِيِّ: الْيَدُ الْمُعْطِيَةُ هِيَ الْعُلْيَا، وَالسَّائِلَةُ هِيَ السُّفْلَى. فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ مُتَضَافِرَةٌ عَلَى أَنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا هِيَ الْمُنْفِقَةُ الْمُعْطِيَةُ، وَأَنَّ السُّفْلَى هِيَ السَّائِلَةُ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ: الْيَدُ السُّفْلَى الْآخِذَةُ سَوَاءٌ كَانَ بِسُؤَالٍ أَمْ بِغَيْرِ سُؤَالٍ، وَهَذَا أَبَاهُ قَوْمٌ، وَاسْتَنَدُوا إِلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ تَقَعُ فِي يَدِ اللَّهِ قَبْلَ يَدِ الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: التَّحْقِيقُ أَنَّ السُّفْلَى يَدُ السَّائِلِ، وَأَمَّا يَدُ الْآخِذِ فَلَا، لِأَنَّ يَدَ اللَّهِ هِيَ الْمُعْطِيَةُ، وَيَدَ اللَّهِ هِيَ الْآخِذَةُ، وَكِلْتَاهُمَا عُلْيَا وَكِلْتَاهُمَا يَمِينٌ. انْتَهَى.

وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْبَحْثَ إِنَّمَا هُوَ فِي أَيْدِي الْآدَمِيِّينَ، وَأَمَّا يَدُ اللَّهِ تَعَالَى فَبِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مَالِكَ كُلِّ شَيْءٍ نُسِبَتْ يَدُهُ إِلَى الْإِعْطَاءِ، وَبِاعْتِبَارِ قَبُولِهِ لِلصَّدَقَةِ وَرِضَاهُ بِهَا نُسِبَتْ يَدُهُ إِلَى الْأَخْذِ، وَيَدُهُ الْعُلْيَا عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَأَمَّا يَدُ الْآدَمِيِّ فَهِيَ أَرْبَعَةٌ: يَدُ الْمُعْطِي، وَقَدْ تَضَافَرَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّهَا عُلْيَا. ثَانِيهَا يَدُ السَّائِلِ، وَقَدْ تَضَافَرَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّهَا سُفْلَى سَوَاءٌ أَخَذَتْ أَمْ لَا، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِكَيْفِيَّةِ الْإِعْطَاءِ وَالْأَخْذِ غَالِبًا، وَلِلْمُقَابَلَةِ بَيْنَ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ الْمُشْتَقِّ مِنْهُمَا. ثَالِثُهَا يَدُ

ص: 297

الْمُتَعَفِّفِ عَنِ الْأَخْذِ وَلَوْ بَعْدَ أَنْ تُمَدَّ الْيَدُ يَدُ الْمُعْطِي مَثَلًا، وَهَذِهِ تُوصَفُ بِكَوْنِهَا عُلْيَا عُلُوًّا مَعْنَوِيًّا. رَابِعُهَا يَدُ الْآخِذِ بِغَيْرِ سُؤَالٍ، وَهَذِهِ قَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا، فَذَهَبَ جَمْعٌ إِلَى أَنَّهَا سُفْلَى، وَهَذَا بِالنَّظَرِ إِلَى الْأَمْرِ الْمَحْسُوسِ، وَأَمَّا الْمَعْنَوِيُّ فَلَا يَطَّرِدُ فَقَدْ تَكُونُ عُلْيَا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ كَلَامُ مَنْ أَطْلَقَ كَوْنَهَا عُلْيَا. قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: الْيَدُ الْمُتَصَدِّقَةُ أَفْضَلُ مِنَ السَّائِلَةِ لَا الْآخِذَةُ بِغَيْرِ سُؤَالٍ، إِذْ مُحَالٌ أَنْ تَكُونَ الْيَدُ الَّتِي أُبِيحَ لَهَا اسْتِعْمَالُ فِعْلٍ بِاسْتِعْمَالِهِ، دُونَ مَنْ فُرِضَ عَلَيْهِ إِتْيَانُ شَيْءٍ فَأَتَى بِهِ أَوْ تَقَرَّبَ إِلَى رَبِّهِ مُتَنَفِّلًا، فَرُبَّمَا كَانَ الْآخِذُ لِمَا أُبِيحُ لَهُ أَفْضَلَ وَأَوْرَعَ مِنَ الَّذِي يُعْطِي. انْتَهَى. وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: الْيَدُ الْعُلْيَا الْمُعْطِيَةُ وَالسُّفْلَى الْمَانِعَةُ وَلَمْ يُوَافَقْ عَلَيْهِ.

وَأَطْلَقَ آخَرُونَ مِنَ الْمُتَصَوِّفَةِ أَنَّ الْيَدَ الْآخِذَةَ أَفْضَلُ مِنَ الْمُعْطِيَةِ مُطْلَقًا، وَقَدْ حَكَى ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ ذَلِكَ عَنْ قَوْمٍ ثُمَّ قَالَ: وَمَا أَرَى هَؤُلَاءِ إِلَّا قَوْمًا اسْتَطَابُوا السُّؤَالَ فَهُمْ يَحْتَجُّونَ لِلدَّنَاءَةِ، وَلَوْ جَازَ هَذَا لَكَانَ الْمَوْلَى مِنْ فَوْقُ هُوَ الَّذِي كَانَ رَقِيقًا فَأُعْتِقَ، وَالْمَوْلَى مِنْ أَسْفَلَ هُوَ السَّيِّدُ الَّذِي أَعْتَقَهُ. انْتَهَى. وَقَرَأْتُ فِي مَطْلَعِ الْفَوَائِدِ لِلْعَلَّامَةِ جَمَالِ الدِّينِ بْنِ نُبَاتَةَ فِي تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ مَعْنًى آخَرَ، فَقَالَ: الْيَدُ هُنَا هِيَ النِّعْمَةُ، وَكَأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ الْعَطِيَّةَ الْجَزِيلَةَ خَيْرٌ مِنَ الْعَطِيَّةِ الْقَلِيلَةِ. قَالَ: وَهَذَا حَثٌّ عَلَى الْمَكَارِمِ بِأَوْجَزِ لَفْظٍ، وَيَشْهَدُ لَهُ أَحَدُ التَّأْوِيلَيْنِ فِي قَوْلِهِ: مَا أَبْقَتْ غِنًى. أَيْ: مَا حَصَلَ بِهِ لِلسَّائِلِ غِنًى عَنْ سُؤَالِهِ كَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِأَلْفٍ، فَلَوْ أَعْطَاهَا لِمِائَةِ إِنْسَانٍ لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِمُ الْغِنَى، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَعْطَاهَا لِرَجُلٍ وَاحِدٍ. قَالَ: وَهُوَ أَوْلَى مِنْ حَمْلِ الْيَدِ عَلَى الْجَارِحَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَسْتَمِرُّ إِذْ فِيمَنْ يَأْخُذُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ عِنْدَ اللَّهِ مِمَّنْ يُعْطِي. قُلْتُ: التَّفَاضُلُ هُنَا يَرْجِعُ إِلَى الْإِعْطَاءِ وَالْأَخْذِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الْمُعْطِي أَفْضَلَ مِنَ الْآخِذِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَقَدْ رَوَى إِسْحَاقُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْيَدُ الْعُلْيَا؟ قَالَ: الَّتِي تُعْطِي وَلَا تَأْخُذُ. فَقَوْلُهُ: وَلَا تَأْخُذُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْآخِذَةَ لَيْسَتْ بِعُلْيَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَكُلُّ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ الْمُتَعَسَّفَةِ تَضْمَحِلُّ عِنْدَ الْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْمُصَرِّحَةِ بِالْمُرَادِ، فَأَوْلَى مَا فُسِّرَ الْحَدِيثُ بِالْحَدِيثِ، وَمُحَصَّلُ مَا فِي الْآثَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنْ أَعْلَى الْأَيْدِي الْمُنْفِقَةُ، ثُمَّ الْمُتَعَفِّفَةُ عَنِ الْأخِذِ، ثُمَّ الْآخِذَةُ بِغَيْرِ سُؤَالٍ. وَأَسْفَلُ الْأَيْدِي السَّائِلَةُ وَالْمَانِعَةُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَفِي الْحَدِيثِ إِبَاحَةُ الْكَلَامِ لِلْخَطِيبِ بِكُلِّ مَا يَصْلُحُ مِنْ مَوْعِظَةٍ وَعِلْمٍ وَقُرْبَةٍ. وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي وُجُوهِ الطَّاعَةِ. وَفِيهِ تَفْضِيلُ الْغِنَى مَعَ الْقِيَامِ بِحُقُوقِهِ عَلَى الْفَقْرِ، لِأَنَّ الْعَطَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْغِنَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ فِي حَدِيثِ: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ. فِي أَوَاخِرِ صِفَةِ الصَّلَاةِ. وَفِيهِ كَرَاهَةُ السُّؤَالِ وَالتَّنْفِيرُ عَنْهُ، وَمَحِلُّهُ إِذَا لَمْ تَدْعُ إِلَيْهِ ضَرُورَةٌ مِنْ خَوْفِ هَلَاكٍ وَنَحْوِهِ. وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِإِسْنَادٍ فِيهِ مَقَالٌ مَرْفُوعًا: مَا الْمُعْطِي مِنْ سَعَةٍ بِأَفْضَلَ مِنَ الْآخِذِ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا. وَسَيَأْتِي حَدِيثُ حَكِيمٍ مُطَوَّلًا فِي بَابِ الِاسْتِعْفَافِ عَنِ الْمَسْأَلَةِ وَفِيهِ بَيَانُ سَبَبِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌19 - بَاب الْمَنَّانِ بِمَا أَعْطَى،

لِقَوْلِهِ: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى} الْآيَةَ

قَوْلُهُ: (بَابُ الْمَنَّانِ بِمَا أَعْطَى، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى} الْآيَةَ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ ثَبَتَتْ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَحْدَهُ بِغَيْرِ حَدِيثٍ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا: ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْمَنَّانُ الَّذِي لَا يُعْطِي شَيْئًا إِلَّا مَنَّ بِهِ. الْحَدِيثَ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ عَلَى شَرْطِهِ

ص: 298

اقْتَصَرَ عَلَى الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ. وَمُنَاسَبَةُ الْآيَةِ لِلتَّرْجَمَةِ وَاضِحَةٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ النَّفَقَةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَمَّا كَانَ الْمَانُّ بِهَا مَذْمُومًا كَانَ ذَمُّ الْمُعْطِي فِي غَيْرِهَا مِنْ بَابِ الْأَوْلَى. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْمَنُّ غَالِبًا يَقَعُ مِنَ الْبَخِيلِ وَالْمُعْجَبِ، فَالْبَخِيلُ تَعْظُمُ فِي نَفْسِهِ الْعَطِيَّةُ وَإِنْ كَانَتْ حَقِيرَةً فِي نَفْسِهَا، وَالْمُعْجَبُ يَحْمِلُهُ الْعُجْبُ عَلَى النَّظَرِ لِنَفْسِهِ بِعَيْنِ الْعَظَمَةِ، وَأَنَّهُ مُنْعِمٌ بِمَالِهِ عَلَى الْمُعْطَى، وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَمُوجِبُ ذَلِكَ كُلِّهِ الْجَهْلُ وَنِسْيَانُ نِعْمَةِ اللَّهِ فِيمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ، وَلَوْ نَظَرَ مَصِيرَهُ لِعَلِمَ أَنَّ الْمِنَّةَ لِلْآخِذِ لِمَا يَتَرَتَّبُ لَهُ مِنَ الْفَوَائِدِ.

‌20 - بَاب مَنْ أَحَبَّ تَعْجِيلَ الصَّدَقَةِ مِنْ يَوْمِهَا

1430 -

حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ الْحَارِثِ رضي الله عنه حَدَّثَهُ قَالَ: صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْعَصْرَ فَأَسْرَعَ، ثُمَّ دَخَلَ الْبَيْتَ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ خَرَجَ، فَقُلْتُ - أَوْ قِيلَ - لَهُ فَقَالَ: كُنْتُ خَلَّفْتُ فِي الْبَيْتِ تِبْرًا مِنْ الصَّدَقَةِ فَكَرِهْتُ أَنْ أُبَيِّتَهُ، فَقَسَمْتُهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أَحَبَّ تَعْجِيلَ الصَّدَقَةِ مِنْ يَوْمِهَا) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ: صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْعَصْرَ فَأَسْرَعَ، ثُمَّ دَخَلَ الْبَيْتَ، الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: كُنْتُ خَلَّفْتُ فِي الْبَيْتِ تِبْرًا مِنَ الصَّدَقَةِ فَكَرِهْتُ أَنْ أُبَيِّتَهُ فَقَسَمْتُهُ. قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: فِيهِ أَنَّ الْخَيْرَ يَنْبَغِي أَنْ يُبَادَرَ بِهِ، فَإِنَّ الْآفَاتِ تَعْرِضُ وَالْمَوَانِعَ تَمْنَعُ وَالْمَوْتَ لَا يُؤْمَنُ وَالتَّسْوِيفَ غَيْرُ مَحْمُودٍ. زَادَ غَيْرُهُ: وَهُوَ أَخْلَصُ لِلذِّمَّةِ وَأَنْفَى لِلْحَاجَةِ وَأَبْعَدُ مِنَ الْمَطْلِ الْمَذْمُومِ وَأَرْضَى لِلرَّبِّ وَأَمْحَى لِلذَّنْبِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ بَقِيَّةُ فَوَائِدِهِ فِي أَوَاخِرِ صِفَةِ الصَّلَاةِ. وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: تَرْجَمَ الْمُصَنِّفُ بِالِاسْتِحْبَابِ وَكَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ: كَرَاهَةُ تَبْيِيتِ الصَّدَقَةِ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ صَرِيحَةٌ فِي الْخَبَرِ، وَاسْتِحْبَابُ التَّعْجِيلِ مُسْتَنْبَطٌ مِنْ قَرَائِنِ سِيَاقِ الْخَبَرِ حَيْثُ أَسْرَعَ فِي الدُّخُولِ وَالْقِسْمَةِ، فَجَرَى عَلَى عَادَتِهِ فِي إِيثَارِ الْأَخْفَى عَلَى الْأَجْلَى.

قَوْلُهُ: (أَنْ أُبَيِّتَهُ) أَيْ: أَتْرُكَهُ حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيْهِ اللَّيْلُ، يُقَالُ: بَاتَ الرَّجُلُ؛ دَخَلَ فِي اللَّيْلِ. وَبَيَّتَهُ؛ تَرَكَهُ حَتَّى دَخَلَ اللَّيْلُ.

‌21 - بَاب التَّحْرِيضِ عَلَى الصَّدَقَةِ، وَالشَّفَاعَةِ فِيهَا

1431 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَدِيٌّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عِيدٍ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ قَبْلُ وَلَا بَعْدُ، ثُمَّ مَالَ عَلَى النِّسَاءِ - وَمَعَهُ بِلَالٌ - فَوَعَظَهُنَّ، وَأَمَرَهُنَّ أَنْ يَتَصَدَّقْنَ، فَجَعَلَتْ الْمَرْأَةُ تُلْقِي الْقُلْبَ وَالْخُرْصَ.

1432 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا أَبُو بُرْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ حَدَّثَنَا أَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا جَاءَهُ السَّائِلُ أَوْ طُلِبَتْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ قَالَ اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم مَا شَاءَ"

[الحديث 1432 - أطرافه في: 6027، 6028، 7476]

1433 -

حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ فَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ رضي الله عنها قَالَتْ:

ص: 299

قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا تُوكِي فَيُوكَى عَلَيْكِ.

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَبْدَةَ، وَقَالَ: لَا تُحْصِي فَيُحْصِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ.

[الحديث 1433 - أطرافه في: 1434، 2590، 2591]

قَوْلُهُ: (بَابُ التَّحْرِيضِ عَلَى الصَّدَقَةِ وَالشَّفَاعَةِ فِيهَا) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ يَجْتَمِعُ التَّحْرِيضُ وَالشَّفَاعَةُ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا إِيصَالُ الرَّاحَةِ لِلْمُحْتَاجِ، وَيَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّ التَّحْرِيضَ مَعْنَاهُ التَّرْغِيبُ بِذِكْرِ مَا فِي الصَّدَقَةِ مِنَ الْأَجْرِ، وَالشَّفَاعَةُ فِيهَا مَعْنَى السُّؤَالِ وَالتَّقَاضِي لِلْإِجَابَةِ. انْتَهَى. وَيَفْتَرِقَانِ بِأَنَّ الشَّفَاعَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي خَيْرٍ، بِخِلَافِ التَّحْرِيضِ، وَبِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ بِغَيْرِ تَحْرِيضٍ.

وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ: أَوَّلَهَا حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَحْرِيضِ النِّسَاءِ عَلَى الصَّدَقَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَبْسُوطًا فِي الْعِيدَيْنِ. وَقَوْلُهُ هُنَا: عَنْ عَدِيٍّ هُوَ ابْنُ ثَابِتٍ، وَقَوْلُهُ الْقُلْبُ بِضَمِّ الْقَافِ وَسُكُونِ اللَّامِ، آخِرُهَا مُوَحَّدَةٌ هُوَ السُّوَارُ، وَقِيلَ: هُوَ مَخْصُوصٌ بِمَا كَانَ مِنْ عَظْمٍ. وَالْخُرْصُ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ هِيَ الْحَلْقَةُ.

ثَانِيَهَا حَدِيثَ أَبِي مُوسَى: اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا. وقَدْ أُورِدَ فِي بَابِ الشَّفَاعَةِ مِنْ كِتَابِ الْأَدَبِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَعَبْدُ الْوَاحِدِ فِي الْإِسْنَادِ هُوَ ابْنُ زِيَادٍ، قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: الْمَعْنَى اشْفَعُوا يَحْصُلْ لَكُمُ الْأَجْرُ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ قُضِيَتِ الْحَاجَةُ أَوْ لَا.

ثَالِثَهَا حَدِيثُ أَسْمَاءَ، وَهِيَ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ: لَا تُوكِي فَيُوكَى عَلَيْكَ. كَذَا عِنْدَهُ بِفَتْحِ الْكَافِ وَلَمْ يَذْكُرِ الْفَاعِلَ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: لَا تُحْصِي فَيُحْصِي اللَّهُ عَلَيْكَ. فَأَبْرَزَ الْفَاعِلَ، وَكِلَاهُمَا بِالنَّصْبِ لِكَوْنِهِ جَوَابَ النَّهْيِ وَبِالْفَاءِ.

قَوْلُهُ: (عَبْدَةَ) هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ، وَهِشَامٌ هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ، وَفَاطِمَةُ هِيَ بِنْتُ الْمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَهِيَ زَوْجُ هِشَامٍ، وَأَسْمَاءُ جَدَّتُهُمَا لِأَبَوَيْهِمَا. وَقَوْلُهُ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ، عَنْ عَبْدَةَ أَيْ: بِإِسْنَادِهِ الْمَذْكُورِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ كَانَ عِنْدَ عَبْدَةَ، عَنْ هِشَامٍ بِاللَّفْظَيْنِ، فَحَدَّثَ بِهِ تَارَةً هَكَذَا وَتَارَةً هَكَذَا، وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامٍ بِاللَّفْظَيْنِ مَعًا، وَسَيَأْتِي فِي الْهِبَةِ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامٍ بِاللَّفْظَيْنِ، لَكِنْ بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ بَدَلَ الْكَافَ، وَهُوَ بِمَعْنَاهُ، يُقَالُ: أَوْعَيْتُ الْمَتَاعَ فِي الْوِعَاءِ أُوعِيهِ؛ إِذَا جَعَلْتُهُ فِيهِ، وَوَعَيْتُ الشَّيْءَ حَفِظْتُهُ، وَإِسْنَادُ الْوَعْيِ إِلَى اللَّهِ مَجَازٌ عَنِ الْإِمْسَاكِ

(1)

، وَالْإِيكَاءُ شَدُّ رَأْسِ الْوِعَاءِ بِالْوِكَاءِ، وَهُوَ الرِّبَاطُ الَّذِي يُرْبَطُ بِهِ، وَالْإِحْصَاءُ مَعْرِفَةُ قَدْرِ الشَّيْءِ وَزْنًا أَوْ عَدَدًا، وَهُوَ مِنْ بَابِ الْمُقَابَلَةِ، وَالْمَعْنَى النَّهْيُ عَنْ مَنْعِ الصَّدَقَةِ خَشْيَةَ النَّفَاذِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ الْأَسْبَابِ لِقَطْعِ مَادَّةِ الْبَرَكَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ يُثِيبُ عَلَى الْعَطَاءِ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَمَنْ لَا يُحَاسَبُ عِنْدَ الْجَزَاءِ لَا يُحْسَبُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْعَطَاءِ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ يَرْزُقُهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ فَحَقُّهُ أَنْ يُعْطِيَ وَلَا يَحْسِبَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْإِحْصَاءِ عَدُّ الشَّيْءِ لِأَنْ يُدَّخَرَ وَلَا يُنْفَقَ مِنْهُ، وَأَحْصَاهُ اللَّهُ: قَطَعَ الْبَرَكَةَ عَنْهُ، أَوْ حَبَسَ مَادَّةَ الرِّزْقِ أَوِ الْمُحَاسَبَةَ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ. وَسَيَأْتِي ذِكْرُ سَبَبِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ مَعَ بَقِيَّةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: قَدْ تَخْفَى مُنَاسَبَةُ حَدِيثِ أَسْمَاءَ لِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ، وَلَيْسَ بِخَافٍ عَلَى الْفَطِنِ مَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّحْرِيضِ وَالشَّفَاعَةِ مَعًا، فَإِنَّهُ يَصْلُحُ أَنْ يُقَالَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، وَهَذِهِ هِيَ النُّكْتَةُ فِي خَتْمِ الْبَابِ بِهِ.

(1)

هذا خطأ لا يليق من الشارح والصواب إثباب وصف الله بذلك حقيقة، على الوجه اللائق به سبحانه كسائر الصفات. وهو سبحانه يجازي العامل بمثل عمله، فمن مكر مكر به ومن خادع خدمه، وهكذا من أوعى أوعى الله عليه. وهذا قول أهل السنة والجماعة فالزمه تفز بالنجاة والسلامة. والله الموفق

ص: 300

‌22 - بَاب الصَّدَقَةِ فِيمَا اسْتَطَاعَ

1434 -

حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لَا تُوعِي فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ، ارْضَخِي مَا اسْتَطَعْتِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّدَقَةِ فِيمَا اسْتَطَاعَ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَسْمَاءَ الْمَذْكُورِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ، وَسَاقَهُ هُنَا عَلَى لَفْظِ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ لِخُلُوِّ طَرِيقِ أَبِي عَاصِمٍ مِنَ التَّقْيِيدِ بِالِاسْتِطَاعَةِ، وَسَيَأْتِي فِي الْهِبَةِ بِلَفْظِ أَبِي عَاصِمٍ، وَسِيَاقُهُ أَتَمُّ.

وقَوْلُهُ: ارْضَخِي بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ مِنَ الرَّضْخِ بِمُعْجَمَتَيْنِ، وَهُوَ الْعَطَاءُ الْيَسِيرُ، فَالْمَعْنَى أَنْفِقِي بِغَيْرِ إِجْحَافٍ مَا دُمْتِ قَادِرَةً مُسْتَطِيعَةً.

‌23 - بَاب الصَّدَقَةُ تُكَفِّرُ الْخَطِيئَةَ

1435 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: أَيُّكُمْ يَحْفَظُ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْفِتْنَةِ؟ قَالَ: قُلْتُ: أَنَا أَحْفَظُهُ كَمَا قَالَ، قَالَ: إِنَّكَ عَلَيْهِ لَجَرِيءٌ، فَكَيْفَ قَالَ؟ قُلْتُ: فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْمَعْرُوفُ - قَالَ سُلَيْمَانُ: قَدْ كَانَ يَقُولُ: الصَّلَاةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ - قَالَ: لَيْسَ هَذِهِ أُرِيدُ، وَلَكِنِّي أُرِيدُ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ، قَالَ: قُلْتُ لَيْسَ عَلَيْكَ بِهَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بَأْسٌ، بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابٌ مُغْلَقٌ، قَالَ: فَيُكْسَرُ الْبَابُ أَوْ يُفْتَحُ؟ قَالَ قُلْتُ: لَا، بَلْ يُكْسَرُ، قَالَ: فَإِنَّهُ إِذَا كُسِرَ لَمْ يُغْلَقْ أَبَدًا، قَالَ قُلْتُ: أَجَلْ، قَالَ: فَهِبْنَا أَنْ نَسْأَلَهُ مَنْ الْبَابُ، فَقُلْنَا لِمَسْرُوقٍ: سَلْهُ، قَالَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: عُمَرُ رضي الله عنه، قَالَ قُلْنَا: فَعَلِمَ عُمَرُ مَنْ تَعْنِي؟ قَالَ: نَعَمْ، كَمَا أَنَّ دُونَ غَدٍ لَيْلَةً، وَذَلِكَ أَنِّي حَدَّثْتُهُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالْأَغَالِيطِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّدَقَةِ تُكَفِّرُ الْخَطِيئَةَ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ حُذَيْفَةَ: فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصَّدَقَةُ. الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ الصَّلَاةِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مَبْسُوطًا فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌24 - بَاب مَنْ تَصَدَّقَ فِي الشِّرْكِ ثُمَّ أَسْلَمَ

1436 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ أَشْيَاءَ كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ عَتَاقَةٍ وَمِنْ وَصِلَةِ رَحِمٍ، فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَجْرٍ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ خَيْرٍ.

[الحديث 1436 - أطرافه في: 2220، 2538، 5992]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ تَصَدَّقَ فِي الشِّرْكِ ثُمَّ أَسْلَمَ) أَيْ: هَلْ يُعْتَدُّ لَهُ بِثَوَابِ ذَلِكَ أَوْ لَا؟ قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: لَمْ يُبَتَّ الْحُكْمُ

ص: 301

مِنْ أَجْلِ قُوَّةِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ. قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ: إِذَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ. وَأَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ أَنَّ اللَّهَ يُضِيفُ إِلَى حَسَنَاتِهِ فِي الْإِسْلَامِ ثَوَابَ مَا كَانَ صَدَرَ مِنْهُ فِي الْكُفْرِ تَفَضُّلًا وَإِحْسَانًا.

قَوْلُهُ: (أَتَحَنَّثُ) بِالْمُثَلَّثَةِ أَيْ: أَتَقَرَّبُ، وَالْحِنْثُ فِي الْأَصْلِ الْإِثْمُ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أُلْقِي عَنِّي الْإِثْمَ. وَلَمَّا أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الْأَدَبِ عَنْ أَبِي الْيَمَانِ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ فِي آخِرِهِ: وَيُقَالُ أَيْضًا عَنْ أَبِي الْيَمَانِ: أَتَحَنَّتُ يَعْنِي بِالْمُثَنَّاةِ. وَنُقِلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: أَنَّ التَّحَنُّثُ التَّبَرُّرُ. قَالَ: وَتَابَعَهُ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ. وَحَدِيثُ هِشَامٍ أَوْرَدَهُ فِي الْعِتْقِ بِلَفْظِ: كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا. يَعْنِي أَتَبَرَّرُ بِهَا. قَالَ عِيَاضٌ: رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الرُّوَاةِ فِي الْبُخَارِيِّ بِالْمُثَلَّثَةِ وَبِالْمُثَنَّاةِ، وَبِالْمُثَلَّثَةِ أَصَحُّ رِوَايَةً وَمَعْنًى.

قَوْلُهُ: (مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ عَتَاقَةٍ أَوْ صِلَةٍ) كَذَا هُنَا بِلَفْظِ: أَوْ وَفِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ الْمَذْكُورَةِ بِالْوَاوِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَسَقَطَ لَفْظُ الصَّدَقَةِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، وَفِي رِوَايَةِ هِشَامٍ الْمَذْكُورَةِ أَنَّهُ أَعْتَقَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِائَتَيْ رَقَبَةٍ، وَحَمَلَ عَلَى مِائَتَيْ بَعِيرٍ. وَزَادَ فِي آخِرِهِ: فَوَاللَّهِ لَا أَدَعُ شَيْئًا صَنَعْتُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِلَّا فَعَلْتُ فِي الْإِسْلَامِ مِثْلَهُ.

قَوْلُهُ: (أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ خَيْرٍ) قَالَ الْمَازِرِيُّ: ظَاهِرُهُ أَنَّ الْخَيْرَ الَّذِي أَسْلَفَهُ كُتِبَ لَهُ، وَالتَّقْدِيرُ: أَسْلَمْتَ عَلَى قَبُولِ مَا سَلَفَ لَكَ مِنْ خَيْرٍ. وَقَالَ الْحَرْبِيُّ: مَعْنَاهُ مَا تَقَدَّمَ لَكَ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي عَمِلْتَهُ هُوَ لَكَ، كَمَا تَقُولُ: أَسْلَمْتُ عَلَى أَنْ أَحُوزَ لِنَفْسِي أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّ الْكَافِرَ لَا يُثَابُ فَحُمِلَ مَعْنَى الْحَدِيثِ عَلَى وُجُوهٍ أُخْرَى

(1)

مِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّكَ بِفِعْلِكَ ذَلِكَ اكْتَسَبْتَ طِبَاعًا جَمِيلَةً فَانْتَفَعْتَ بِتِلْكَ الطِّبَاعِ فِي الْإِسْلَامِ، وَتَكُونُ تِلْكَ الْعَادَةُ قَدْ مَهَّدَتْ لَكَ مَعُونَةً عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ، أَوْ أَنَّكَ اكْتَسَبْتَ بِذَلِكَ ثَنَاءً جَمِيلًا، فَهُوَ بَاقٍ لَكَ فِي الْإِسْلَامِ، أَوْ أَنَّكَ بِبَرَكَةِ فِعْلِ الْخَيْرِ هُدِيتَ إِلَى الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْمَبَادِئَ عُنْوَانُ الْغَايَاتِ، أَوْ أَنَّكَ بِتِلْكَ الْأَفْعَالِ رُزِقْتَ الرِّزْقَ الْوَاسِعَ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: قِيلَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَرَّى عَنْ جَوَابِهِ، فَإِنَّهُ سَأَلَ: هَلْ لِي فِيهَا مِنْ أَجْرٍ؟ فَقَالَ: أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ خَيْرٍ. وَالْعِتْقُ فِعْلُ خَيْرٍ، وكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّكَ فَعَلْتَ الْخَيْرَ، وَالْخَيْرُ يُمْدَحُ فَاعِلُهُ وَيُجَازَى عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: إَنَّ الْكَافِرَ يُثَابُ فِي الدُّنْيَا بِالرِّزْقِ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ مِنْ حَسَنَةٍ.

‌25 - بَاب أَجْرِ الْخَادِمِ إِذَا تَصَدَّقَ بِأَمْرِ صَاحِبِهِ غَيْرَ مُفْسِدٍ

1437 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا تَصَدَّقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ كَانَ لَهَا أَجْرُهَا، وَلِزَوْجِهَا بِمَا كَسَبَ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِك.

(1)

هذ المحامل ضعيفة، والصواب ما قاله الماوردي والحربي في معنى الحديث، وهو دليل على أن ما فعله الكافر من الحسنات يقبل منه إذا مات عل الإسلام. والله أعلم

ص: 302

قَوْلُهُ: (بَابُ أَجْرِ الْخَادِمِ إِذَا تَصَدَّقَ بِأَمْرِ صَاحِبِهِ غَيْرَ مُفْسِدٍ) قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيمَا إِذَا تَصَدَّقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهُ، لَكِنْ فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ الَّذِي لَا يُؤْبَهُ لَهُ وَلَا يَظْهَرُ بِهِ النُّقْصَانُ. وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى مَا إِذَا أَذِنَ الزَّوْجُ وَلَوْ بِطَرِيقِ الْإِجْمَالِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْبُخَارِيِّ، وَلِذَلِكَ قَيَّدَ التَّرْجَمَةَ بِالْأَمْرِ بِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَحْمُولًا عَلَى الْعَادَةِ، وَأَمَّا التَّقْيِيدُ بِغَيْرِ الْإِفْسَادِ فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِنَفَقَةِ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ وَالْخَازِنِ النَّفَقَةُ عَلَى عِيَالِ صَاحِبِ الْمَالِ فِي مَصَالِحِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِأَنْ يَفْتَئِتُوا عَلَى رَبِّ الْبَيْتِ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى الْفُقَرَاءِ بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَالْخَادِمِ فَقَالَ: الْمَرْأَةُ لَهَا حَقٌّ فِي مَالِ الزَّوْجِ وَالنَّظَرِ فِي بَيْتِهَا فَجَازَ لَهَا أَنْ تَتَصَدَّقَ، بِخِلَافِ الْخَادِمِ فَلَيْسَ لَهُ تَصَرُّفٌ فِي مَتَاعِ مَوْلَاهُ فَيُشْتَرَطُ الْإِذْنُ فِيهِ، وَهُوَ مُتَعَقَّبٌ بِأَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا اسْتَوْفَتْ حَقَّهَا فَتَصَدَّقَتْ مِنْهُ فَقَدْ تَخَصَّصَتْ بِهِ، وَإِنْ تَصَدَّقَتْ مِنْ غَيْرِ حَقِّهَا رَجَعَتِ الْمَسْأَلَةُ كَمَا كَانَتْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَيْنِ: أَحَدَهُمَا حَدِيثَ عَائِشَةَ وَسَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.

1438 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْخَازِنُ الْمُسْلِمُ الْأَمِينُ الَّذِي يُنْفِذُ - وَرُبَّمَا قَالَ: يُعْطِي - مَا أُمِرَ بِهِ كَامِلًا مُوَفَّرًا طَيِّبًا بِهِ نَفْسُهُ فَيَدْفَعُهُ إِلَى الَّذِي أُمِرَ لَهُ بِهِ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَيْنِ.

ثَانِيَهُمَا: حَدِيثَ أَبِي مُوسَى، وَقَدْ قُيِّدَ الْخَازِنُ فِيهِ بِكَوْنِهِ مُسْلِمًا فَأَخْرَجَ الْكَافِرَ، لِأَنَّهُ لَا نِيَّةَ لَهُ، وَبِكَوْنِهِ أَمِينًا فَأَخْرَجَ الْخَائِنَ لِأَنَّهُ مَأْزُورٌ. وَرُتِّبَ الْأَجْرُ عَلَى إِعْطَائِهِ مَا يُؤْمَرُ بِهِ غَيْرُ نَاقِصٍ لِكَوْنِهِ خَائِنًا أَيْضًا، وَبِكَوْنِ نَفْسِهِ بِذَلِكَ طَيِّبَةً لِئَلَّا يَعْدَمَ النِّيَّةَ فَيَفْقِدَ الْأَجْرَ وَهِيَ قُيُودٌ لَا بُدَّ مِنْهَا.

قَوْلُهُ: (الَّذِي يُنَفِّذُ) بِفَاءٍ مَكْسُورَةٍ مُثَقَّلَةٍ وَمُخَفَّفَةٍ.

‌26 - بَاب أَجْرِ الْمَرْأَةِ إِذَا تَصَدَّقَتْ أَوْ أَطْعَمَتْ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ

1439 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، وَالْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَعْنِي إِذَا تَصَدَّقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا.

1440 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِذَا أَطْعَمَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ لَهَا أَجْرُهَا وَلَهُ مِثْلُهُ وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ، لَهُ بِمَا اكْتَسَبَ وَلَهَا بِمَا أَنْفَقَتْ.

1441 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا أَنْفَقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ فَلَهَا أَجْرُهَا، وَلِلزَّوْجِ بِمَا اكْتَسَبَ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ أَجْرِ الْمَرْأَةِ إِذَا تَصَدَّقَتْ أَوْ أَطْعَمَتْ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ) قَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُهُ فِي الَّذِي قَبْلَهُ، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِالْأَمْرِ كَمَا قَيَّدَ الَّذِي قَبْلَهُ فَقِيلَ: إِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَالْخَادِمِ بِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَهَا أَنْ تَتَصَرَّفَ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا بِمَا لَيْسَ فِيهِ إِفْسَادٌ لِلرِّضَا بِذَلِكَ فِي الْغَالِبِ، بِخِلَافِ الْخَادِمِ وَالْخَازِنِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ حَدِيثِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: إِذَا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ كَسْبِ زَوْجِهَا مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ فَلَهَا نِصْفُ أَجْرِهِ. وَسَيَأْتِي فِي الْبُيُوعِ، وَأَوْرَدَ فِيهِ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ عَائِشَةَ الْمَذْكُورَ مِنْ ثَلَاثَةِ طُرُقٍ تَدُورُ عَلَى أَبِي وَائِلٍ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْهَا: أَوَّلُهَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، وَالْأَعْمَشُ عَنْهُ، وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ بِتَمَامِهِ، ثَانِيهَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ وَحْدَهُ. ثَالِثُهَا

ص: 303

جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ وَحْدَهُ، وَلَفْظُ الْأَعْمَشِ: إِذَا أَطْعَمَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا. وَلَفْظُ مَنْصُورٍ: إِذَا أَنْفَقَتْ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا. وَقَدْ أَوْرَدَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ وَلَفْظُهُ.

إِذَا تَصَدَّقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا كُتِبَ لَهَا أَجْرٌ وَلِزَوْجِهَا مِثْلُ ذَلِكَ وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ لَا يُنْقِصُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ أَجْرِ صَاحِبِهِ شَيْئًا، لِلزَّوْجِ بِمَا اكْتَسَبَ وَلَهَا بِمَا أَنْفَقَتْ غَيْرَ مُفْسِدَةٍ، وَلِشُعْبَةَ فِيهِ إِسْنَادٌ آخَرُ أَوْرَدَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَيْضًا مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَائِشَةَ، لَيْسَ فِيهِ مَسْرُوقٌ وَقَدْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِالْإِسْنَادَيْنِ وَقَالَ: إِنَّ رِوَايَةَ مَنْصُورٍ، وَالْأَعْمَشِ بِذِكْرِ مَسْرُوقٍ فِيهِ أَصَحُّ.

قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: (وَلَهُ مِثْلُهُ) أَيْ: مِثْلُ أَجْرِهَا (وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ) أَيْ بِالشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى، وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي تَسَاوِيَهُمْ فِي الْأَجْرِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْمِثْلِ حُصُولَ الْأَجْرِ فِي الْجُمْلَةِ وَإِنْ كَانَ أَجْرُ الْكَاسِبِ أَوْفَرَ، لَكِنَّ التَّعْبِيرَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي ذَكَرْتُهُ بِقَوْلِهِ: فَلَهَا نِصْفُ أَجْرِهِ يُشْعِرُ بِالتَّسَاوِي، وَقَدْ سَبَقَ قَبْلُ بِسِتَّةِ أَبْوَابٍ مِنْ طَرِيقِ جَرِيرٍ أَيْضًا، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: لَا يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ أَجْرَ بَعْضٍ. وَالْمُرَادُ عَدَمُ الْمُسَاهَمَةِ وَالْمُزَاحَمَةِ فِي الْأَجْرِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ مُسَاوَاةُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي الْحَدِيثِ فَضْلُ الْأَمَانَةِ، وَسَخَاوَةُ النَّفْسِ، وَطِيبُ النَّفْسِ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ، وَالْإِعَانَةُ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ.

‌27 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقَ مَالٍ خَلَفًا

1442 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي أَخِي، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي مُزَرِّدٍ، عَنْ أَبِي الْحُبَابِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} الْآيَةَ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: أَدْخَلَ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ بَيْنَ أَبْوَابِ التَّرْغِيبِ فِي الصَّدَقَةِ لِيُفْهَمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْخَاصَّ بِهَا التَّرْغِيبُ فِي الْإِنْفَاقِ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ، وَأنَّ ذَلِكَ مَوْعُودٌ عَلَيْهِ بِالْخَلَفِ فِي الْعَاجِلِ زِيَادَةً عَلَى الثَّوَابِ الْآجِلِ.

قَوْلُهُ: (اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقَ مَالٍ خَلَفًا) قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْآيَةِ وَحَذْفُ أَدَاةِ الْعَطْفِ كَثِيرٌ، وَهُوَ مَذْكُورٌ عَلَى سَبِيلِ الْبَيَانِ لِلْحُسْنَى، أَيْ: تَيْسِيرُ الْحُسْنَى لَهُ إِعْطَاءُ الْخَلَفِ. قُلْتُ: قَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: أَعْطَى مِمَّا عِنْدَهُ وَاتَّقَى رَبَّهُ، وَصَدَّقَ بِالْخَلَفِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ حَكَى عَنْ غَيْرِهِ أَقْوَالًا أُخْرَى قَالَ: وَأَشْبَهُهَا بِالصَّوَابِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَهُوَ بَيِّنٌ فِيمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ: حَدَّثَنِي خَالِدٌ الْعَصْرِيُّ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا، نَحْوَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} - إِلَى قَوْلِهِ - {لِلْعُسْرَى} وَهُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ آخِرِهِ. وقَوْلُهُ: مُنْفِقَ مَالٍ؛ بِالْإِضَافَةِ. وَلِبَعْضِهِمْ: مُنْفِقًا مَالًا خَلَفًا، وَمَالًا مَفْعُولُ مُنْفِقَ، بِدَلِيلِ رِوَايَةِ الْإِضَافَةِ وَلَوْلَاهَا احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولَ أَعْطَى، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ سِيَاقَ الْحَدِيثِ لِلْحَضِّ عَلَى إِنْفَاقِ الْمَالِ، فَنَاسَبَ أَنْ

ص: 304

يَكُونَ مَفْعُولُ مُنْفِقَ، وَأَمَّا الْخَلَفُ فَإِبْهَام هُ أَوْلَى لِيَتَنَاوَلَ الْمَالَ وَالثَّوَابَ وَغَيْرَهُمَا، وَكَمْ مِنْ مُتَّقٍ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ لَهُ الْخَلَفُ الْمَالِيُّ فَيَكُونُ خِلْفَهُ الثَّوَابُ الْمُعَدُّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ يَدْفَعُ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مَا يُقَابِلُ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي أَخِي) هُوَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، وَسُلَيْمَانُ هُوَ ابْنُ بِلَالٍ، وَأَبُو الْحُبَابِ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَمُوَحَّدَتَيْنِ، الْأُولَى خَفِيفَةٌ، وَسَمَّاهُ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ سَعِيدَ بْنَ يَسَارٍ وَهُوَ عَمُّ مُعَاوِيَةَ الرَّاوِي عَنْهُ، وَمُزَرِّدٌ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الزَّايِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ الثَّقِيلَةِ، وَاسْمُ أَبِي مُزَرِّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَهَذَا الْإِسْنَادُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (مَا مِنْ يَوْمٍ) فِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ: مَا مِنْ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ إِلَّا وَبِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ يَسْمَعُهُ خَلْقُ اللَّهِ كُلُّهُمْ، إِلَّا الثَّقَلَيْنِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ، إِنَّ مَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى، وَلَا غَرَبَتْ شَمْسُهُ إِلَّا وَبِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ. فَذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.

قَوْلُهُ: (إِلَّا مَلَكَانِ) فِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ: إِلَّا وَبِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَانِ. وَالْجَنْبَةُ بِسُكُونِ النُّونِ: النَّاحِيَةُ. وَقَوْلُهُ: خَلَفًا؛ أَيْ: عِوَضًا.

قَوْلُهُ: (أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا) التَّعْبِيرُ بِالْعَطِيَّةِ فِي هَذَا لِلْمُشَاكَلَةِ، لِأَنَّ التَّلَفَ لَيْسَ بِعَطِيَّةٍ. وَأَفَادَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْكَلَامَ الْمَذْكُورَ مُوَزَّعٌ بَيْنَهُمَا، فَنُسِبَ إِلَيْهِمَا فِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ نِسْبَةَ الْمَجْمُوعِ إِلَى الْمَجْمُوعِ، وَتَضَمَّنَتِ الْآيَةُ الْوَعْدَ بِالتَّيْسِيرِ لِمَنْ يُنْفِقُ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ، وَالْوَعِيدَ بِالتَّعْسِيرِ لِعَكْسِهِ. وَالتَّيْسِيرُ الْمَذْكُورُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِأَحْوَالِ الدُّنْيَا أَوْ لِأَحْوَالِ الْآخِرَةِ، وَكَذَا دُعَاءُ الْمَلَكِ بِالْخَلَفِ يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ، وَأَمَّا الدُّعَاءُ بِالتَّلَفِ فَيَحْتَمِلُ تَلَفَ ذَلِكَ الْمَالِ بِعَيْنِهِ أَوْ تَلَفَ نَفْسِ صَاحِبِ الْمَالِ، وَالْمُرَادُ بِهِ فَوَاتُ أَعْمَالِ الْبِرِّ بِالتَّشَاغُلِ بِغَيْرِهَا. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْإِنْفَاقُ الْمَمْدُوحُ مَا كَانَ فِي الطَّاعَاتِ وَعَلَى الْعِيَالِ وَالضِّيفَانِ وَالتَّطَوُّعَاتِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهُوَ يَعُمُّ الْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ، لَكِنَّ الْمُمْسِكَ عَنِ الْمَنْدُوبَاتِ لَا يَسْتَحِقُّ هَذَا الدُّعَاءَ إِلَّا أَنْ يَغْلِبَ عَلَيْهِ الْبُخْلُ الْمَذْمُومُ بِحَيْثُ لَا تَطِيبُ نَفْسُهُ بِإِخْرَاجِ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ وَلَوْ أَخْرَجَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى: طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌28 - بَاب مَثَلِ الْمُتَصَدِّقِ وَالْبَخِيلِ

1443 -

حَدَّثَنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ.

وَحَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُنْفِقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ مِنْ ثُدِيِّهِمَا إِلَى تَرَاقِيهِمَا، فَأَمَّا الْمُنْفِقُ فَلَا يُنْفِقُ إِلَّا سَبَغَتْ - أَوْ وَفَرَتْ - عَلَى جِلْدِهِ حَتَّى تُخْفِيَ بَنَانَهُ وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ، وَأَمَّا الْبَخِيلُ فَلَا يُرِيدُ أَنْ يُنْفِقَ شَيْئًا إِلَّا لَزِقَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا، فَهُوَ يُوَسِّعُهَا وَلَا تَتَّسِعُ.

تَابَعَهُ الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ طَاوُسٍ فِي الْجُبَّتَيْنِ.

[الحديث 1443 - أطرافه في: 1444 - 2917، 5269، 5797]

1444 -

وَقَالَ حَنْظَلَةُ عَنْ طَاوُسٍ: جُنَّتَانِ.

وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي جَعْفَرٌ عَنْ ابْنِ هُرْمُزَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: جُنَّتَانِ.

ص: 305

قَوْلُهُ: (بَابُ مَثَلُ الْمُتَصَدِّقِ وَالْبَخِيلِ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: قَامَ التَّمْثِيلُ فِي خَبَرِ الْبَابِ مَقَامَ الدَّلِيلِ عَلَى تَفْضِيلِ الْمُتَصَدِّقِ عَلَى الْبَخِيلِ، فَاكْتَفَى الْمُصَنِّفُ بِذَلِكَ عَنْ أَنْ يُضَمِّنَ التَّرْجَمَةَ مَقَاصِدَ الْخَبَرِ عَلَى التَّفْصِيلِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُوسَى) هُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ التَّبُوذَكِيُّ، وَابْنُ طَاوُسٍ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَلَمْ يَسُقِ الْمَتْنَ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ الْأُولَى هُنَا، وَقَدْ أَوْرَدَهُ فِي الْجِهَادِ عَنْ مُوسَى بِهَذَا الْإِسْنَادِ فَسَاقَهُ بِتَمَامِهِ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ) هُوَ ابْنُ هُرْمُزَ الْأَعْرَجُ.

قَوْلُهُ: (مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُنْفِقِ) وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ: مَثَلُ الْمُنْفِقِ وَالْمُتَصَدِّقِ. قَالَ عِيَاضٌ: وَهُوَ وَهَمٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَذَفَ مُقَابِلَهُ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ، قُلْتُ: قَدْ رَوَاهُ الْحُمَيْدِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ وَغَيْرُهُمْ فِي مَسَانِيدِهِمْ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، فَقَالُوا فِي رِوَايَتِهِمْ: مَثَلُ الْمُنْفِقِ وَالْبَخِيلِ كَمَا فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، وَهُوَ الصَّوَابُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَاوُسٍ: ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَثَلَ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ، أَخْرَجَهَا الْمُصَنِّفُ فِي اللِّبَاسِ.

قَوْلُهُ: (عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ) كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِضَمِّ الْجِيمِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ، وَمَنْ رَوَاهُ فِيهَا بِالنُّونِ فَقَدْ صَحَّفَ، وَكَذَا رِوَايَةُ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ، وَرَوَاهُ حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ الْجُمَحِيُّ، عَنْ طَاوُسٍ بِالنُّونِ وَرُجِّحَتْ لِقَوْلِهِ: مِنْ حَدِيدٍ، وَالْجُنَّةُ فِي الْأَصْلِ الْحِصْنُ، وَسُمِّيَتْ بِهَا الدِّرْعُ لِأَنَّهَا تُجِنُّ صَاحِبَهَا أَيْ: تُحَصِّنُهُ، وَالْجُبَّةُ بِالْمُوَحَّدَةِ ثَوْبٌ مَخْصُوصٌ، وَلَا مَانِعَ مِنَ إِطْلَاقِهِ عَلَى الدِّرْعِ. وَاخْتُلِفَ فِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهَا بِالْمُوَحَّدَةِ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (مِنْ ثُدَيِّهِمَا) بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ جَمْعُ ثَدْيٍ، وَ (تَرَاقِيهِمَا) بِمُثَنَّاةٍ وَقَافٍ جَمْعُ تَرْقُوَةٍ.

قَوْلُهُ: (سَبَغَتْ) أَيْ: امْتَدَّتْ وَغَطَّتْ.

قَوْلُهُ: (أَوْ وَفَرَتْ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَهُوَ بِتَخْفِيفِ الْفَاءِ مِنَ الْوُفُورِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ: انْبَسَطَتْ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ: اتَّسَعَتْ عَلَيْهِ. وَكُلُّهَا مُتَقَارِبَةٌ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى تُخْفِيَ بَنَانَهُ) أَيْ: تَسْتُرُ أَصَابِعَهُ، وَفِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ: حَتَّى تُجِنَّ، بِكَسْرِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ وَهِيَ بِمَعْنَى تُخْفِي، وَذَكَرَهَا الْخَطَّابِيُّ فِي شَرْحِهِ لِلْبُخَارِيِّ كَرِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ، وَبَنَانُهُ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَنُونَيْنِ، الْأُولَى خَفِيفَةٌ: الْإِصْبَعُ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ: ثِيَابُهُ بِمُثَلَّثَةٍ وَبَعْدَ الْأَلِفِ مُوَحَّدَةٌ وَهُوَ تَصْحِيفٌ. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ: حَتَّى تُغَشِّيَ - بِمُعْجَمَتَيْنِ - أَنَامِلَهُ.

قَوْلُهُ: (وَتَعْفُو أَثَرَهُ) بِالنَّصْبِ أَيْ: تَسْتُرُ أَثَرَهُ، يُقَالُ: عَفَا الشَّيْءُ وَعَفَوْتُهُ أَنَا لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ، وَيُقَالُ: عَفَتِ الدَّارُ إِذَا غَطَّاهَا التُّرَابُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الصَّدَقَةَ تَسْتُرُ خَطَايَاهُ كَمَا يُغَطِّي الثَّوْبُ الَّذِي يُجَرُّ عَلَى الْأَرْضِ أَثَرَ صَاحِبِهِ إِذَا مَشَى بِمُرُورِ الذَّيْلِ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (لَزِقَتْ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: انْقَبَضَتْ وَفِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ: غَاصَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: قَلَصَتْ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ، وَالْمُفَادُ وَاحِدٌ لَكِنَّ الْأُولَى نَظَرَ فِيهَا إِلَى صُورَةِ الضِّيقِ وَالْأَخِيرَةِ نَظَرَ فِيهَا إِلَى سَبَبِ الضِّيقِ، وَزَعَمَ ابْنُ التِّينِ أَنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْبَخِيلَ يُكْوَى بِالنَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ: وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ، فَشَبَّهَهُمَا بِرَجُلَيْنِ أَرَادَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَلْبَسَ دِرْعًا يَسْتَتِرُ بِهِ مِنْ سِلَاحِ عَدُّوِهِ، فَصَبَّهَا عَلَى رَأْسِهِ لِيَلْبَسَهَا، وَالدُّرُوعُ أَوَّلُ مَا تَقَعُ عَلَى الصَّدْرِ وَالثَّدْيَيْنِ إِلَى أَنْ يُدْخِلَ الْإِنْسَانُ يَدَيْهِ فِي كُمَّيْهَا، فَجَعَلَ الْمُنْفِقَ كَمَنْ لَبِسَ دِرْعًا سَابِغَةً فَاسْتَرْسَلَتْ عَلَيْهِ حَتَّى سَتَرَتْ جَمِيعَ بَدَنِهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: حَتَّى تَعْفُوَ أَثَرَهُ؛ أَيْ: تَسْتُرُ جَمِيعَ بَدَنِهِ، وَجُعِلَ الْبَخِيلُ كَمَثَلِ رَجُلٍ غُلَّتْ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ، كُلَّمَا أَرَادَ لُبْسَهَا اجْتَمَعَتْ فِي عُنُقِهِ فَلَزِمَتْ تَرْقُوَتَهُ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: قَلَصَتْ؛ أَيْ: تَضَامَّتْ وَاجْتَمَعَتْ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الْجَوَادَ إِذَا هَمَّ بِالصَّدَقَةِ انْفَسَحَ لَهَا صَدْرُهُ وَطَابَتْ نَفْسُهُ فَتَوَسَّعَتْ فِي الْإِنْفَاقِ، وَالْبَخِيلُ إِذَا حَدَّثَ نَفْسَهُ بِالصَّدَقَةِ شَحَّتْ نَفْسُهُ فَضَاقَ صَدْرُهُ وَانْقَبَضَتْ يَدَاهُ، {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ يَسْتُرُ الْمُنْفِقَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، بِخِلَافِ الْبَخِيلِ فَإِنَّهُ

ص: 306

يَفْضَحُهُ.

وَمَعْنَى تَعْفُو أَثَرَهُ تَمْحُو خَطَايَاهُ، وَتَعَقَّبَهُ عِيَاضٌ بِأَنَّ الْخَبَرَ جَاءَ عَلَى التَّمْثِيلِ لَا عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْ كَائِنٍ، قَالَ: وَقِيلَ: هُوَ تَمْثِيلٌ لِنَمَاءِ الْمَالِ بِالصَّدَقَةِ، وَالْبُخْلِ بِضِدِّهِ. وَقِيلَ: تَمْثِيلٌ لِكَثْرَةِ الْجُودِ وَالْبُخْلِ، وَأَنَّ الْمُعْطِيَ إِذَا أَعْطَى انْبَسَطَتْ يَدَاهُ بِالْعَطَاءِ وَتَعَوَّدَ ذَلِكَ، وَإِذَا أَمْسَكَ صَارَ ذَلِكَ عَادَةً، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَيَّدَ الْمُشَبَّهَ بِهِ بِالْحَدِيدِ إِعْلَامًا بِأَنَّ الْقَبْضَ وَالشِّدَّةَ مِنْ جِبِلَّةِ الْإِنْسَانِ، وَأَوْقَعَ الْمُتَصَدِّقَ مَوْقِعَ السَّخِيِّ لِكَوْنِهِ جَعَلَهُ فِي مُقَابَلَةِ الْبَخِيلِ إِشْعَارًا بِأَنَّ السَّخَاءَ هُوَ مَا أَمَرَ بِهِ الشَّارِعَ وَنَدَبَ إِلَيْهِ مِنَ الْإِنْفَاقِ لَا مَا يَتَعَانَاهُ الْمُسْرِفُونَ.

قَوْلُهُ: (فَهُوَ يُوَسِّعُهَا وَلَا تَتَّسِعُ)، وَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَهُوَ يُوَسِّعُهَا وَلَا تَتَّسِعُ، وَهَذَا يُوهِمُ أَنْ يَكُونَ مُدْرَجًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِرَفْعِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي طَرِيقِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَفِي رِوَايَةِ ابْنِ طَاوُسٍ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الْجِهَادِ فَسَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: فَيَجْتَهِدُ أَنْ يُوَسِّعَهَا وَلَا تَتَّسِعُ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَهُ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ عِنْدَهُمَا: فَأَنَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: بِأُصْبُعِهِ هَكَذَا فِي جَيْبِهِ فَلَوْ رَأَيْتُهُ يُوَسِّعُهَا وَلَا تَتَّسِعُ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ فِي هذا الْحَدِيثِ وَأَمَّا الْبَخِيلُ فَإِنَّهَا لَا تَزْدَادُ عَلَيْهِ إِلَّا اسْتِحْكَامًا وَهَذَا بِالْمَعْنَى.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ طَاوُسٍ) وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي اللِّبَاسِ مِنْ طَرِيقِهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ حَنْظَلَةُ، عَنْ طَاوُسٍ) ذَكَرَهُ فِي اللِّبَاسِ أَيْضًا تَعْلِيقًا بِلَفْظِ: وَقَالَ حَنْظَلَةُ: سَمِعْتُ طَاوُسًا، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ الْأَزْرَقِ عَنْ حَنْظَلَةَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي جَعْفَرٌ) هُوَ ابْنُ رَبِيعَةَ، وَابْنُ هُرْمُزَ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجُ، وَلَمْ تَقَعْ لي رِوَايَةُ اللَّيْثِ مَوْصُولَةٌ إِلَى الْآنَ، وَقَدْ رَأَيْتُهُ عَنْهُ بِإِسْنَادٍ آخَرَ أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ عِيسَى بْنِ حَمَّادٍ عَنِ اللَّيْثِ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ بِسَنَدِهِ.

‌29 - بَاب صَدَقَةِ الْكَسْبِ وَالتِّجَارَةِ،

لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} - إِلَى قَوْلِهِ - {أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}

قَوْلُهُ: (بَابُ صَدَقَةِ الْكَسْبِ وَالتِّجَارَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} الْآيَةَ - إِلَى قَوْلِهِ - {حَمِيدٌ} هَكَذَا أَوْرَدَ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ مُقْتَصِرًا عَلَى الْآيَةِ بِغَيْرِ حَدِيثٍ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا رَوَاهُ شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} قَالَ: مِنَ التِّجَارَةِ الْحَلَالِ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ آدَمَ عَنْهُ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ هُشَيْمٍ، عَنْ شُعْبَةَ وَلَفْظُهُ:{مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} قَالَ: مِنَ التِّجَارَةِ، {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} قَالَ: مِنَ الثِّمَارِ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ الْهُذَلِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عُبَيْدَةَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ فِي قَوْلِهِ:{وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} قَالَ: يَعْنِي مِنَ الْحَبِّ وَالتَّمْرِ، كُلُّ شَيْءٍ عَلَيْهِ زَكَاةٌ، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: لَمْ يُقَيِّدِ الْكَسْبَ فِي التَّرْجَمَةِ بِالطَّيِّبِ كَمَا فِي الْآيَةِ اسْتِغْنَاءً عَنْ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَ فِي تَرْجَمَةِ: بَابُ الصَّدَقَةِ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ.

‌30 - بَاب عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَعْمَلْ بِالْمَعْرُوفِ

1445 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ، فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: يَعْمَلُ بِيَدِهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ،

ص: 307

قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ، قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: فَلْيَعْمَلْ بِالْمَعْرُوفِ؟ وَلْيُمْسِكْ عَنْ الشَّرِّ، فَإِنَّهَا لَهُ صَدَقَةٌ.

قَوْلُهُ: (بَابٌ: عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيُعْمِلْ بِالْمَعْرُوفِ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: نَصَبَ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ عَلَمًا عَلَى الْخَبَرِ مُقْتَصِرًا عَلَى بَعْضِ مَا فِيهِ إِيجَازًا.

قَوْلُهُ: (سَعِيدُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ) أَيْ: ابْنُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ. وَوَقَعَ التَّصْرِيحُ بِهِ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ.

قَوْلُهُ: (عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ) أَيْ: عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ الْمُتَأَكِّدِ أَوْ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَالْعِبَارَةُ صَالِحَةٌ لِلْإِيجَابِ وَالِاسْتِحْبَابِ، كَقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: عَلَى الْمُسْلِمِ سِتُّ خِصَالٍ، فَذَكَرَ مِنْهَا مَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ اتِّفَاقًا، وَزَادَ أَبُو هُرَيْرَةَ فِي حَدِيثِهِ تَقْيِيدَ ذَلِكَ بِكُلِّ يَوْمٍ، كَمَا سَيَأْتِي فِي الصُّلْحِ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ عَنْهُ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا: يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، وَالسُّلَامَى بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ: الْمَفْصِلُ، وَلَهُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: خَلَقَ اللَّهُ كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْ بَنِي آدَمَ عَلَى سِتِّينَ وَثَلَاثِمَائَةِ مَفْصِلٍ.

قَوْلُهُ: (فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) كَأَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْ لَفْظِ الصَّدَقَةِ الْعَطِيَّةَ، فَسَأَلُوا عَمَّنْ لَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ، فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّدَقَةِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَلَوْ بِإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَهَلْ تَلْتَحِقُ هَذِهِ الصَّدَقَةُ بِصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ الَّتِي تُحْسَبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْفَرْضِ الَّذِي أَخَلَّ بِهِ؟ فِيهِ نَظَرٌ، الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهَا غَيْرُهَا لِمَا تَبَيَّنَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ الْمَذْكُورِ أَنَّهَا شُرِعَتْ بِسَبَبِ عِتْقِ الْمَفَاصِلِ حَيْثُ قَالَ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ: فَإِنَّهُ يُمْسِي يَوْمَئِذٍ وَقَدْ زَحْزَحَ نَفْسَهُ عَنِ النَّارِ.

قَوْلُهُ: (الْمَلْهُوفُ) أَيِ: الْمُسْتَغِيثُ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَظْلُومًا أَوْ عَاجِزًا.

قَوْلُهُ: (فَلْيَعْمَلْ بِالْمَعْرُوفِ) فِي رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ فِي الْأَدَبِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ شُعْبَةَ: فَلْيَأْمُرْ بِالْخَيْرِ أَوْ بِالْمَعْرُوفِ. زَادَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ شُعْبَةَ: وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ.

قَوْلُهُ: (وَلْيُمْسِكْ) فِي رِوَايَتِهِ فِي الْأَدَبِ قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ: فَلْيُمْسِكْ عَنِ الشَّرِّ كَذَا وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ شُعْبَةَ، وَهُوَ أَصَحُّ سِيَاقًا، فَظَاهِرُ سِيَاقِ الْبَابِ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالْإِمْسَاكَ عَنِ الشَّرِّ رُتْبَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْإِمْسَاكُ هُوَ الرُّتْبَةُ الْأَخِيرَةُ.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّهَا) كَذَا وَقَعَ هُنَا بِضَمِيرِ الْمُؤَنَّثِ، وَهُوَ بِاعْتِبَارِ الْخَصْلَةِ مِنَ الْخَيْرِ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَدَبِ: فَإِنَّهُ - أَيِ الْإِمْسَاكُ - لَهُ، أَيْ: لِلْمُمْسِكِ، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: إِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ لِلْمُمْسِكِ عَنِ الشَّرِّ إِذَا نَوَى بِالْإِمْسَاكِ الْقُرْبَةَ، بِخِلَافِ مَحْضِ التَّرْكِ، وَالْإِمْسَاكُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَنْ غَيْرِهِ، فَكَأَنَّهُ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِالسُّلَامَةِ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ شَرُّهُ لَا يَتَعَدَّى نَفْسَهُ فَقَدْ تَصَدَّقَ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنْ مَنَعَهَا مِنَ الْإِثْمِ، قَالَ: وَلَيْسَ مَا تَضَمَّنَهُ الْخَبَرُ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ تَرْتِيبًا، وَإِنَّمَا هُوَ لِلْإِيضَاحِ لِمَا يَفْعَلُهُ مَنْ عَجَزَ عَنْ خَصْلَةٍ مِنَ الْخِصَالِ الْمَذْكُورَةِ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ خَصْلَةً أُخْرَى، فَمَنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِيَدِهِ فَيَتَصَدَّقَ، وَأَنْ يُغِيثَ الْمَلْهُوفَ، وَأَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيُمْسِكَ عَنِ الشَّرِّ فَلْيَفْعَلِ الْجَمِيعَ، وَمَقْصُودُ هَذَا الْبَابِ أَنَّ أَعْمَالَ الْخَيْرِ تُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الصَّدَقَاتِ فِي الْأَجْرِ وَلَا سِيَّمَا فِي حَقِّ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا. وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الصَّدَقَةَ فِي حَقِّ الْقَادِرِ عَلَيْهَا أَفْضَلُ مِنَ الْأَعْمَالِ الْقَاصِرَةِ، وَمُحَصَّلُ مَا ذُكِرَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، وَهِيَ إِمَّا بِالْمَالِ أَوْ غَيْرِهِ، وَالْمَالُ إِمَّا حَاصِلٌ أَوْ مُكْتَسَبٌ، وَغَيْرُ الْمَالِ إِمَّا فِعْلٌ، وَهُوَ الْإِغَاثَةُ، وَإِمَّا تَرْكٌ، وَهُوَ الْإِمْسَاكُ.

انْتَهَى، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي جَمْرَةَ نَفَعَ اللَّهُ بِهِ: تَرْتِيبُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ نَدَبَ إِلَى الصَّدَقَةِ، وَعِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهَا نَدَبَ إِلَى مَا يَقْرُبُ مِنْهَا أَوْ يَقُومُ مَقَامَهَا وَهُوَ الْعَمَلُ وَالِانْتِفَاعُ، وَعِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ ذَلِكَ نَدَبَ إِلَى مَا يَقُومُ مَقَامَهُ وَهُوَ الْإِغَاثَةُ، وَعِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ

ص: 308

نَدَبَ إِلَى فِعْلِ الْمَعْرُوفِ، أَيْ: مِنْ سِوَى مَا تَقَدَّمَ كَإِمَاطَةِ الْأَذَى، وَعِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ نَدَبَ إِلَى الصَّلَاةِ، فَإِنْ لَمْ يُطِقْ فَتَرْكُ الشَّرِّ، وَذَلِكَ آخِرُ الْمَرَاتِبِ. قَالَ: وَمَعْنَى الشَّرِّ هُنَا مَا مَنَعَهُ الشَّرْعُ، فَفِيهِ تَسْلِيَةٌ لِلْعَاجِزِ عَنْ فِعْلِ الْمَنْدُوبَاتِ إِذَا كَانَ عَجْزُهُ عَنْ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ. قُلْتُ: وَأَشَارَ بِالصَّلَاةِ إِلَى مَا وَقَعَ فِي آخِرِ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ عِنْدَ مُسْلِمٍ: وَيُجْزِئُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ رَكْعَتَا الضُّحَى. وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّ هَذِهِ الصَّدَقَةَ لَا يُكَمِّلُ مِنْهَا مَا يَخْتَلُّ مِنَ الْفَرْضِ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ لَا تُكَمِّلُ الصَّلَاةَ وَلَا الْعَكْسُ. فَدَلَّ عَلَى افْتِرَاقِ الصَّدَقَتَيْنِ.

وَاسْتُشْكِلَ الْحَدِيثُ مَعَ تَقَدُّمِ ذِكْرِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَهُوَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، فَكَيْفَ تُجْزِئُ عَنْهُ صَلَاةُ الضُّحَى وَهِيَ مِنَ التَّطَوُّعَاتِ؟ وَأُجِيبَ بِحَمْلِ الْأَمْرِ هُنَا عَلَى مَا إِذَا حَصَلَ مِنْ غَيْرِهِ، فَسَقَطَ بِهِ الْفَرْضُ، وَكَأَنَّ فِي كَلَامِهِ هُوَ زِيَادَةٌ فِي تَأْكِيدِ ذَلِكَ فَلَوْ تَرَكَهُ أَجْزَأَتْ عَنْهُ صَلَاةُ الضُّحَى، كَذَا قِيلَ وَفِيهِ نَظَرٌ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ صَلَاةَ الضُّحَى تَقُومُ مَقَامَ الثَّلَاثِمَائَةِ وَسِتِّينَ حَسَنَةً الَّتِي يُسْتَحَبُّ لِلْمَرْءِ أَنْ يَسْعَى فِي تَحْصِيلِهَا كُلَّ يَوْمٍ لِيُعْتِقَ مَفَاصِلَهُ الَّتِي هِيَ بِعَدَدِهَا، لَا أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ صَلَاةَ الضُّحَى تُغْنِي عَنِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَمَلٌ بِجَمِيعِ الْجَسَدِ، فَتَتَحَرَّكُ الْمَفَاصِلُ كُلُّهَا فِيهَا بِالْعِبَادَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِكَوْنِ الرَّكْعَتَيْنِ تَشْتَمِلَانِ عَلَى ثَلَاثِمَائِةٍ وَسِتِّينَ مَا بَيْنَ قَوْلٍ وَفِعْلٍ إِذَا جَعَلْتَ كُلَّ حَرْفٍ مِنَ الْقِرَاءَةِ مَثَلًا صَدَقَةً، وَكَأَنَّ صَلَاةَ الضُّحَى خُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهَا أَوَّلَ تَطَوُّعَاتِ النَّهَارِ بَعْدَ الْفَرْضِ وَرَاتِبَتِهِ، وَقَدْ أَشَارَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ إِلَى أَنَّ صَدَقَةَ السُّلَامَى نَهَارِيَّةٌ لِقَوْلِهِ: يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: كُلُّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: فَيُمْسِي وَقَدْ زَحْزَحَ نَفْسَهُ عَنِ النَّارِ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْأَحْكَامَ تَجْرِي عَلَى الْغَالِبِ، لِأَنَّ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَأْخُذُ الصَّدَقَةَ الْمَأْمُورَ بِصَرْفِهَا، وَقَدْ قَالَ: عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ.

وَفِيهِ مُرَاجَعَةُ الْعَالِمِ فِي تَفْسِيرِ الْمُجْمَلِ وَتَخْصِيصِ الْعَامِّ، وَفِيهِ فَضْلُ التَّكَسُّبِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِعَانَةِ، وَتَقْدِيمُ النَّفْسِ عَلَى الْغَيْرِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّفْسِ ذَاتُ الشَّخْصِ وَمَا يَلْزَمُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌31 - بَاب قَدْرُ كَمْ يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ، وَمَنْ أَعْطَى شَاةً

1446 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ: بُعِثَ إِلَى نُسَيْبَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ بِشَاةٍ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها مِنْهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ فَقُلْتُ: لَا، إِلَّا مَا أَرْسَلَتْ بِهِ نُسَيْبَةُ مِنْ تِلْكَ الشَّاةِ. فَقَالَ: هَاتِ، فَقَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَدْرُ كَمْ يُعْطِي مِنَ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ، وَمَنْ أَعْطَى شَاةً) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أُمِّ عَطِيَّةَ فِي إِهْدَائِهَا الشَّاةَ الَّتِي تُصُدِّقَ بِهَا عَلَيْهَا، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: عَطْفُ الصَّدَقَةَ عَلَى الزَّكَاةِ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، إِذْ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الزَّكَاةِ لَأَفْهَمَ أَنَّ غَيْرَهَا بِخِلَافِهَا، وَحَذَفَ مَفْعُولَ يُعْطِي اخْتِصَارًا لِكَوْنِهِمْ ثَمَانِيَةَ أَصْنَافٍ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ كَرِهَ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ قَدْرَ النِّصَابِ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَا بَأْسَ بِهِ. انْتَهَى. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَفْظُ الصَّدَقَةِ يَعُمُّ الْفَرْضَ وَالنَّفْلَ، وَالزَّكَاةُ كَذَلِكَ لَكِنَّهَا لَا تُطْلَقُ غَالِبًا إِلَّا عَلَى الْمَفْرُوضِ دُونَ التَّطَوُّعِ فَهِيَ أَخَصُّ مِنَ الصَّدَقَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَفْظُ الصَّدَقَةِ مِنْ حَيْثُ الْإِطْلَاقِ عَلَى الْفَرْضِ مُرَادِفُ الزَّكَاةِ لَا مِنْ حَيْثُ الْإِطْلَاقِ عَلَى النَّفْلِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْأَحَادِيثِ لَفْظُ الصَّدَقَةِ عَلَى الْمَفْرُوضَةِ، وَلَكِنَّ الْأَغْلَبَ التَّفْرِقَةُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 309

قَوْلُهُ: (بَعَثَ إِلَى نُسَيْبَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ) هِيَ أُمُّ عَطِيَّةَ، كَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ السَّكَنِ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ، عَنِ الْبُخَارِيِّ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَكَانَ السِّيَاقُ يَقْتَضِي أَنْ يَقُولَ: بَعَثَ إِلَيَّ بِلَفْظِ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْمَجْرُورِ كَمَا وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ خَالِدٍ، لَكِنَّهُ فِي هَذَا السِّيَاقِ وَضَعَ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ، إِمَّا تَجْرِيدًا، وَإِمَّا الْتِفَاتًا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَابِ إِذَا حُوِّلَتِ الصَّدَقَةُ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الزَّكَاةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌32 - بَاب زَكَاةِ الْوَرِقِ

1447 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ مِنْ الْإِبِلِ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ.

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو سَمِعَ أَبَاهُ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ زَكَاةِ الْوَرِقِ) أَيْ: الْفِضَّةِ، يُقَالُ: وَرِقَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَبِكَسْرِهَا وَبِكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِهَا، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَمَّا كَانَتِ الْفِضَّةُ هِيَ الْمَالُ الَّذِي يَكْثُرُ دَوَرَانُهُ فِي أَيْدِي النَّاسِ وَيَرُوجُ بِكُلِّ مَكَانٍ كَانَ أَوْلَى بِأَنْ يُقَدَّمَ عَلَى ذِكْرِ تَفَاصِيلِ الْأَمْوَالِ الزَّكَوِيَّةِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ) فِي مُوَطَّأِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ يَحْيَى حَدَّثَهُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِيهِ) فِي مُسْنَدِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ: سَأَلْتُ عَمْرَو بْنَ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ الْمَازِنِيَّ فَحَدَّثَنِي عَنْ أَبِيهِ، وَفِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَهُوَ الْأَنْصَارِيُّ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ عَقِبَ هَذَا الْإِسْنَادِ التَّصْرِيحُ بِسَمَاعِ عَمْرٍو، وَهُوَ ابْنُ يَحْيَى الْمَذْكُورُ لَهُ مِنْ أَبِيهِ، وَهَذَا هُوَ السِّرُّ فِي إِيرَادِهِ لِلْإِسْنَادِ خَاصَّةً، وَقَدْ حَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ حَدِيثَ الْبَابِ لَمْ يَأْتِ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْأَغْلَبُ، إِلَّا أَنَّنِي وَجَدْتُهُ مِنْ رِوَايَةِ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرٍ. انْتَهَى. وَرِوَايَةُ سُهَيْلٍ فِي الْأَمْوَالِ لِأَبِي عُبَيْدٍ، وَرِوَايَةُ مُسْلِمٍ

(1)

فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ جَابِرٍ، وَجَاءَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَعَائِشَةَ، وَأَبِي رَافِعٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ، أَخْرَجَ أَحَادِيثَ الْأَرْبَعَةِ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو عُبَيْدٍ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (خَمْسِ ذَوْدٍ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ.

قَوْلُهُ: (خَمْسِ أَوَاقٍ) زَادَ مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ، وَهُوَ مُطَابِقٌ لِلَفْظِ التَّرْجَمَةِ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ بِالتَّرْجَمَةِ مَا أُبْهِمَ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ اعْتِمَادًا عَلَى الطَّرِيقِ الْأُخْرَى، وَأَوَاقٍ بِالتَّنْوِينِ وَبِإِثْبَاتِ التَّحْتَانِيَّةِ مُشَدَّدًا وَمُخَفَّفًا جَمْعُ أُوقِيَّةٍ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ، وَحَكَى اللِّحْيَانِيُّ: وَقِيَّةً بِحَذْفِ الْأَلِفِ وَفَتْحِ الْوَاوِ، وَمِقْدَارُ الْأُوقِيَّةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا بِالِاتِّفَاقِ، وَالْمُرَادُ بِالدِّرْهَمِ الْخَالِصُ مِنَ الْفِضَّةِ سَوَاءٌ كَانَ مَضْرُوبًا أَوْ غَيْرَ مَضْرُوبٍ، قَالَ عِيَاضٌ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: إِنَّ الدِّرْهَمَ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومَ الْقَدْرِ حَتَّى جَاءَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ

(1)

كذا في المخطوطة وطبعة بولاق. والصواب "ورواية ابن مسلم" كما يعلم من السياق. والله أعلم.

ص: 310

مَرْوَانَ، فَجَمَعَ الْعُلَمَاءَ فَجَعَلُوا كُلَّ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ سَبْعَةَ مَثَاقِيلَ، قَالَ: وَهَذَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ صلى الله عليه وسلم أَحَالَ بِنِصَابِ الزَّكَاةِ عَلَى أَمْرٍ مَجْهُولٍ وَهُوَ مُشْكِلٌ، وَالصَّوَابُ أَنَّ مَعْنَى مَا نُقِلَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهَا مِنْ ضَرْبِ الْإِسْلَامِ، وَكَانَتْ مُخْتَلِفَةً فِي الْوَزْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَدَدِ، فَعَشَرَةٌ مَثَلًا وَزْنُ عَشَرَةٍ، وَعَشَرَةٌ وَزْنُ ثَمَانِيَةٍ، فَاتَّفَقَ الرَّأْيُ عَلَى أَنْ تُنْقَشَ بِكِتَابَةٍ عَرَبِيَّةٍ وَيَصِيرُ وَزْنُهَا وَزْنًا وَاحِدًا.

وَقَالَ غَيْرُهُ: لَمْ يَتَغَيَّرِ الْمِثْقَالُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ، وَأَمَّا الدِّرْهَمُ فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي أَنَّ نِصَابَ الزَّكَاةِ مِائَتَا دِرْهَمٍ يَبْلُغُ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ مِثْقَالًا مِنَ الْفِضَّةِ الْخَالِصَةِ إِلَّا ابْنَ حَبِيبٍ الْأَنْدَلُسِيَّ، فَإِنَّهُ انْفَرَدَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ كُلَّ أَهْلِ بَلَدٍ يَتَعَامَلُونَ بِدَرَاهِمِهِمْ. وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ اخْتِلَافًا فِي الْوَزْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى دَرَاهِمِ الْأَنْدَلُسِ وَغَيْرِهَا مِنْ دَرَاهِمِ الْبِلَادِ، وَكَذَا خَرَقَ الْمَرِّيسِيُّ الْإِجْمَاعَ فَاعْتَبَرَ النِّصَابَ بِالْعَدَدِ لَا الْوَزْنِ، وَانْفَرَدَ السَّرْخَسِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِحِكَايَةِ وَجْهٍ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الدَّرَاهِمَ الْمَغْشُوشَةَ إِذَا بَلَغَتْ قَدْرًا لَوْ ضُمَّ إِلَيْهِ قِيمَةُ الْغِشِّ مِنْ نُحَاسٍ مَثَلًا لَبَلَغَ نِصَابًا، فَإِنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِيهِ كَمَا نُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ فِيمَا إِذَا نَقَصَ مِنَ النِّصَابِ وَلَوْ حَبَّةٌ وَاحِدَةٌ، خِلَافًا لِمَنْ سَامَحَ بِنَقْصٍ يَسِيرٍ كَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ.

قَوْلُهُ: (أَوْسُقٍ) جَمْعُ وَسْقٍ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا كَمَا حَكَاهُ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ وَجَمْعُهُ حِينَئِذٍ أَوْسَاقٌ كَحِمْلٍ وَأَحْمَالٍ، وَقَدْ وَقَعَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، وَهُوَ سِتُّونَ صَاعًا بِالِاتِّفَاقِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ نَحْوُ هَذَا الْحَدِيثِ وَفِيهِ: وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا، وَأَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا لَكِنْ قَالَ: سِتُّونَ مَخْتُومًا

(1)

وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَيْضًا وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا، وَلَمْ يَقَعْ فِي الْحَدِيثِ بَيَانُ الْمَكِيلِ بِالْأَوْسُقِ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوْسُقٍ مِنْ تَمْرٍ وَلَا حَبٍّ صَدَقَةٌ.

وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: لَيْسَ فِي حَبٍّ وَلَا تَمْرٍ صَدَقَةٌ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، وَلَفَظُ دُونَ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ بِمَعْنَى أَقَلَّ، لَا أَنَّهُ نَفَى عَنْ غَيْرِ الْخَمْسِ الصَّدَقَةَ كَمَا زَعَمَ بَعْضُ مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ، وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الزُّرُوعَ لَا زَكَاةَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ تَجِبُ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْحَدِيثُ لِلْقَدْرِ الزَّائِدِ عَلَى الْمَحْدُودِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا فِي الْأَوْسَاقِ عَلَى أَنَّهُ لَا وَقَصَ فِيهَا، وَأَمَّا الْفِضَّةُ فَقَالَ الْجُمْهُورُ هُوَ كَذَلِكَ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا شَيْءَ فِيمَا زَادَ عَلَى مِائَتَيْ دِرْهَمٍ حَتَّى يَبْلُغَ النِّصَابَ، وَهُوَ أَرْبَعُونَ فَجَعَلَ لَهَا وَقَصًا كَالْمَاشِيَةِ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ الطَّبَرَانِيُّ بِالْقِيَاسِ عَلَى الثِّمَارِ وَالْحُبُوبِ، وَالْجَامِعُ كَوْنُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مُسْتَخْرَجَيْنِ مِنَ الْأَرْضِ بِكُلْفَةٍ وَمُؤْنَةٍ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَمَا زَادَ.

(فَائِدَةٌ): أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى اشْتِرَاطِ الْحَوْلِ فِي الْمَاشِيَةِ وَالنَّقْدِ دُونَ الْمُعَشَّرَاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌33 - بَاب الْعَرْضِ فِي الزَّكَاةِ

وَقَالَ طَاوُسٌ قَالَ مُعَاذٌ رضي الله عنه لِأَهْلِ الْيَمَنِ: ائْتُونِي بِعَرْضٍ ثِيَابٍ خَمِيصٍ أَوْ لَبِيسٍ فِي الصَّدَقَةِ مَكَانَ الشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ، أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ، وَخَيْرٌ لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وَأَمَّا خَالِدٌ فَقَدْ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتُدَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ،

(1)

ثم روى أبو داود بعد ما ذكر اللفظ المذكور عن إبراهيم النخعي ما نصه قال: الوسق ستون صاعا مختوما بالحجاجي. وبما قاله إبراهيم المذكورين يعرف معنى قوله "مختوما" في الرواية التي ذكرها الشارح. والله أعلم

ص: 311

وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ، فَلَمْ يَسْتَثْنِ صَدَقَةَ الْفَرْضِ مِنْ غَيْرِهَا فَجَعَلَتْ الْمَرْأَةُ تُلْقِي خُرْصَهَا وَسِخَابَهَا، وَلَمْ يَخُصَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ مِنْ الْعُرُوضِ.

1448 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي ثُمَامَةُ أَنَّ أَنَسًا رضي الله عنه حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه كَتَبَ لَهُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم: وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ مَخَاضٍ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ بِنْتُ لَبُونٍ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ عَلَى وَجْهِهَا وَعِنْدَهُ ابْنُ لَبُونٍ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ وَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ.

1449 -

حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَصَلَّى قَبْلَ الْخُطْبَةِ فَرَأَى أَنَّهُ لَمْ يُسْمِعْ النِّسَاءَ، فَأَتَاهُنَّ وَمَعَهُ بِلَالٌ نَاشِرَ ثَوْبِهِ فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ أَنْ يَتَصَدَّقْنَ، فَجَعَلَتْ الْمَرْأَةُ تُلْقِي، وَأَشَارَ أَيُّوبُ إِلَى أُذُنِهِ وَإِلَى حَلْقِهِ.

[الحديث 1448 - أطرافه في: 1450، 1451، 1452، 1453، 1454، 6487، 3106، 5878، 6955]

قَوْلُهُ: (بَابُ الْعَرْضِ فِي الزَّكَاةِ) أَيْ: جَوَازُ أَخْذِ الْعَرْضِ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا عَدَا النَّقْدَيْنِ، قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: وَافَقَ الْبُخَارِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْحَنَفِيَّةَ مَعَ كَثْرَةِ مُخَالَفَتِهِ لَهُمْ، لَكِنْ قَادَهُ إِلَى ذَلِكَ الدَّلِيلُ، وَقَدْ أَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْ قِصَّةِ مُعَاذٍ، وَعَنِ الْأَحَادِيثِ كَمَا سَيَأْتِي عَقِبَ كُلٍّ مِنْهَا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ طَاوُسٌ: قَالَ مُعَاذٌ لِأَهْلِ الْيَمَنِ) هَذَا التَّعْلِيقُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ إِلَى طَاوُسٍ، لَكِنْ طَاوُسٌ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ مُعَاذٍ فَهُوَ مُنْقَطِعٌ، فَلَا يُغْتَرُّ بِقَوْلِ مَنْ قَالَ: ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ بِالتَّعْلِيقِ الْجَازِمِ فَهُوَ صَحِيحٌ عِنْدَهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُفِيدُ إِلَّا الصِّحَّةَ إِلَى مَنْ عُلِّقَ عَنْهُ، وَأَمَّا بَاقِي الْإِسْنَادِ فَلَا، إِلَّا أَنَّ إِيرَادَهُ لَهُ فِي مَعْرِضِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ يَقْتَضِي قُوَّتَهُ عِنْدَهُ، وَكَأَنَّهُ عَضَّدَهُ عِنْدَهُ الْأَحَادِيثُ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي الْبَابِ، وَقَدْ رُوِّينَا أَثَرَ طَاوُسٍ الْمَذْكُورِ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ لِيَحْيَى بْنِ آدَمَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ فَرَّقَهُمَا كِلَاهُمَا عَنْ طَاوُسٍ.

وَقَوْلُهُ: خَمِيصٍ قَالَ الدَّاوُدِيُّ، وَالْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُمَا: ثَوْبٌ خَمِيسٌ بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ هُوَ ثَوْبٌ طُولُهُ خَمْسَةُ أَذْرُعٍ، وَقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ أَوَّلَ مَنْ عَمِلَهُ الْخَمِيسُ مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ الْيَمَنِ، وَقَالَ عِيَاضٌ: ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ بِالصَّادِ، وَأَمَّا أَبُو عُبَيْدَةَ فَذَكَرَهُ بِالسِّينِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كَأَنَّ مُعَاذًا عَنَى الصَّفِيقَ مِنَ الثِّيَابِ، وَقَالَ عِيَاضٌ: قَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ ثَوْبَ خَمِيصٍ أَيْ: خَمِيصَةً، لَكِنْ ذَكَرَهُ عَلَى إِرَادَةِ الثَّوْبِ.

وَقَوْلُهُ: لَبِيسٍ أَيْ: مَلْبُوسٍ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ.

وَقَوْلُهُ: فِي الصَّدَقَةِ يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الْخَرَاجِ، وَحَكَى الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ فِيهِ: مِنَ الْجِزْيَةِ بَدَلَ الصَّدَقَةِ، فَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ سَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ، لَكِنَّ الْمَشْهُورَ الْأَوَّلُ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ طَاوُسٍ: أَنَّ مُعَاذًا كَانَ يَأْخُذُ الْعُرُوضَ فِي الصَّدَقَةِ، وَأَجَابَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: ائْتُونِي بِهِ آخُذْهُ مِنْكُمْ مَكَانَ الشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ الَّذِي آخُذُهُ شِرَاءً بِمَا آخُذُهُ فَيَكُونُ بِقَبْضِهِ قَدْ بَلَغَ مَحِلَّهُ، ثُمَّ يَأْخُذُ مَكَانَهُ مَا يَشْتَرِيهِ مِمَّا هُوَ أَوْسَعُ عِنْدَهُمْ وَأَنْفَعُ لِلْآخِذِ، قَالَ: وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مِنَ الزَّكَاةِ لَمْ تَكُنْ مَرْدُودَةً عَلَى الصَّحَابَةِ، وَقَدْ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَيَرُدَّهَا

ص: 312

عَلَى فُقَرَائِهِمْ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ أَنَّهُ كَانَ يَحْمِلُ الزَّكَاةَ إِلَى الْإِمَامِ لِيَتَوَلَّى قِسْمَتَهَا، وَقَدِ احْتَجَّ بِهِ مَنْ يُجِيزُ نَقْلَ الزَّكَاةِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ خِلَافِيَّةٌ أَيْضًا، وَقِيلَ فِي الْجَوَابِ عَنْ قِصَّةِ مُعَاذٍ: إِنَّهَا اجْتِهَادٌ مِنْهُ فَلَا حُجَّةَ فِيهَا، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ كَانَ أَعْلَمَ النَّاسِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَقَدْ بَيَّنَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَرْسَلَهُ إِلَى الْيَمَنِ مَا يَصْنَعُ، وَقِيلَ: كَانَتْ تِلْكَ وَاقِعَةَ حَالٍ لَا دَلَالَةَ فِيهَا، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ عَلِمَ بِأَهْلِ الْمَدِينَةِ حَاجَةً لِذَلِكَ، وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِ عَمَلِهِ ذَلِكَ.

وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ الْمَالِكِيُّ: كَانُوا يُطْلِقُونَ عَلَى الْجِزْيَةِ اسْمَ الصَّدَقَةِ فَلَعَلَّ هَذَا مِنْهَا، وَتُعُقِّبَ بِقَوْلِهِ: مَكَانَ الشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ، وَمَا كَانَتِ الْجِزْيَةُ حِينَئِذٍ مِنْ أُولَئِكَ مِنْ شَعِيرٍ وَلَا ذُرَةٍ إِلَّا مِنَ النَّقْدَيْنِ.

وَقَوْلُهُ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ أَرَادَ مَعْنَى تَسَلُّطِ السُّهُولَةِ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يُقَلْ: أَهْوَنُ لَكُمْ.

وَقَوْلُهُ: وَخَيْرٌ لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ أَيْ: أَرْفَقُ بِهِمْ، لِأَنَّ مُؤْنَةَ النَّقْلِ ثَقِيلَةٌ، فَرَأَى الْأَخَفَّ فِي ذَلِكَ خَيْرًا مِنَ الْأَثْقَلِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وَأَمَّا خَالِدٌ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ لِأَبِي هُرَيْرَةَ أَوَّلُهُ: أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِصَدَقَةٍ، فَقِيلَ: مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي مَوْصُولًا فِي بَابِ قَوْلِ اللَّهِ: وَفِي الرِّقَابِ مَعَ بَقِيَّةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ فَلَمْ يَسْتَثْنِ صَدَقَةَ الْفَرْضِ مِنْ غَيْرِهَا، فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تُلْقِي خُرْصَهَا وَسِخَابَهَا، وَلَمْ يَخُصَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ مِنَ الْعُرُوضِ) أَمَّا الْحَدِيثُ فَطَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ لِابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ بِمَعْنَاهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْعِيدَيْنِ، وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِهِ مِنْ طَرِيقِ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَوَّلُهُ: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تُلْقِي خُرْصَهَا وَسِخَابَهَا، وَالْخُرْصُ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ: الْحَلْقَةُ الَّتِي تُجْعَلُ فِي الْأُذُنِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مَوْصُولًا فِي آخِرِ الْبَابِ لَكِنْ لَفْظُهُ: فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تُلْقِي، وَأَشَارَ أَيُّوبُ إِلَى أُذُنِهِ وَحَلْقِهِ، وَقَدْ وَقَعَ تَفْسِيرُ ذَلِكَ بِمَا ذَكَرَهُ فِي التَّرْجَمَةِ مِنْ قَوْلِهِ: تُلْقِي خُرْصَهَا وَسِخَابَهَا، لِأَنَّ الْخُرْصَ مِنَ الْأُذُنِ وَالسِّخَابِ مِنَ الْحَلْقِ، وَالسِّخَابُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ وَآخِرُهُ مُوَحَّدَةٌ: الْقِلَادَةُ، وَقَوْلُهُ: فَلَمْ يَسْتَثْنِ، وَقَوْلُهُ: فَلَمْ يَخُصَّ كُلٌّ مِنَ الْكَلَامَيْنِ لِلْبُخَارِيِّ، ذَكَرَهُمَا بَيَانًا لِكَيْفِيَّةِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَدَاءِ الْعَرْضِ فِي الزَّكَاةِ، وَهُوَ مَصِيرٌ مِنْهُ إِلَى أَنَّ مَصَارِفَ الصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ كَمَصَارِفِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ بِجَامِعِ مَا فِيهِمَا مِنْ قَصْدِ الْقُرْبَةِ، وَالْمَصْرُوفُ إِلَيْهِمْ بِجَامِعِ الْفَقْرِ وَالِاحْتِيَاجِ، إِلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الدَّلِيلُ، وَأَمَّا مِنْ وَجْهِهِ فَقَالَ: لَمَّا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم النِّسَاءَ بِالصَّدَقَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ -

وَأَمْرُهُ عَلَى الْوُجُوبِ - صَارَتْ صَدَقَةً وَاجِبَةً، فَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلْإِيجَابِ هُنَا لَكَانَ مُقَدَّرًا، وَكَانَتِ الْمُجَازَفَةُ فِيهِ وَقَبُولُ مَا تَيَسَّرَ غَيْرَ جَائِزٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَمَسَّكَ بِقَوْلِهِ: تَصَدَّقْنَ، فَإِنَّهُ مُطْلَقٌ يَصْلُحُ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الصَّدَقَاتِ وَاجِبِهَا وَنَفْلِهَا، وَجَمِيعُ أَنْوَاعِ الْمُتَصَدَّقِ بِهِ عَيْنًا وَعَرْضًا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ لِلْمُبَالَغَةِ أَيْ: وَلَوْ لَمْ تَجِدْنَ إِلَّا ذَلِكَ، وَمَوْضِعُ الِاسْتِدْلَالِ مِنْهُ لِلْعَرْضِ قَوْلُهُ: وَسِخَابُهَا، لِأَنَّهُ قِلَادَةٌ تُتَّخَذُ مِنْ مِسْكٍ وَقَرَنْفُلٍ وَنَحْوِهُمَا تُجْعَلُ فِي الْعُنُقِ، وَالْبُخَارِيُّ فِيمَا عُرِفَ بِالِاسْتِقْرَاءِ مِنْ طَرِيقَتِهِ يَتَمَسَّكُ بِالْمُطْلَقَاتِ تَمَسُّكَ غَيْرِهِ بِالْعُمُومَاتِ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُ فَذَكَرَ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ الصَّدَقَاتِ، وَسَيَأْتِي مُعْظَمُهُ فِي بَابِ زَكَاةِ الْغَنَمِ وَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ قَبُولُ مَا هُوَ أَنْفَسُ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْمُتَصَدِّقِ وَإِعْطَاؤُهُ التَّفَاوُتَ مِنْ جِنْسٍ غَيْرِ الْجِنْسِ الْوَاجِبِ، وَكَذَا الْعَكْسُ، لَكِنْ أَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَكَانَ كَذَلِكَ يَنْظُرُ إِلَى مَا بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ فِي الْقِيمَةِ، فَكَانَ الْعَرْضُ

(1)

يَزِيدُ تَارَةً وَيَنْقُصُ أُخْرَى لِاخْتِلَافِ ذَلِكَ فِي الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ، فَلَمَّا قَدَّرَ الشَّارِعُ التَّفَاوُتَ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْوَاجِبَ فِي

(1)

كذا في النسخ، ولعله"فإن العرض"

ص: 313

الْأَصْلِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، وَلَوْلَا تَقْدِيرُ الشَّارِعِ بِذَلِكَ لَتَعَيَّنَتْ بِنْتُ الْمَخَاضِ مَثَلًا وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُبَدَّلَ بِنْتُ لَبُونٍ مَعَ التَّفَاوُتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌34 - بَاب لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ

وَيُذْكَرُ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ

1450 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي ثُمَامَةُ أَنَّ أَنَسًا رضي الله عنه حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه كَتَبَ لَهُ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مُتَفَرِّقٍ بِتَقْدِيمِ التَّاءِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: لَمْ يُقَيِّدِ الْمُصَنِّفُ التَّرْجَمَةَ بِقَوْلِهِ: خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ، لِاخْتِلَافِ نَظَرِ الْعُلَمَاءِ فِي الْمُرَادِ بِذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي.

قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلُهُ) أَيْ: مِثْلُ لَفْظِ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ، وَهُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْهُ مَوْصُولًا، وَسُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ ضَعِيفٌ فِي الزُّهْرِيِّ، وَقَدْ خَالَفَهُ مَنْ هُوَ أَحْفَظُ مِنْهُ فِي الزُّهْرِيِّ، فَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَقَالَ: إِنَّ فِيهِ تَقْوِيَةً لِرِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، لِأَنَّهُ قَالَ عَنِ الزُّهْرِيِّ: قَالَ: أَقْرَأَنِيهَا سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَوَعَيْتُهَا عَلَى وَجْهِهَا، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّ ابْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ بِهِ، وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ لَمْ يَجْزِمْ بِهِ الْبُخَارِيُّ، لَكِنْ أَوْرَدَهُ شَاهِدًا لِحَدِيثِ أَنَسٍ الَّذِي وَصَلَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْبَابِ وَلَفْظُهُ: وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ بِتَقْدِيمِ التَّاءِ أَيْضًا، وَزَادَ: خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ، وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْخَشْيَةِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ، وَفِي الْبَابِ عَنْ عَلِيٍّ عِنْدَ أَصْحَابِ السُّنَنِ، وَعَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ قَالَ: أَتَانَا مُصَدِّقُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَرَأْتُ فِي عَهْدِهِ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ: مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ النَّفَرُ الثَّلَاثَةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَرْبَعُونَ شَاةً وَجَبَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ فَيَجْمَعُونَهَا حَتَّى لَا تَجِبَ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ فِيهَا إِلَّا شَاةٌ وَاحِدَةٌ، أَوْ يَكُونُ لِلْخَلِيطَيْنِ مِائَتَا شَاةٍ وَشَاتَانِ، فَيَكُونُ عَلَيْهِمَا فِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ فَيُفَرِّقُونَهَا حَتَّى لَا يَكُونَ عَلَى كُلٍّ

وَاحِدٍ إِلَّا شَاةً وَاحِدَةً، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ خِطَابٌ لِرَبِّ الْمَالِ مِنْ جِهَةٍ وَلِلسَّاعِي مِنْ جِهَةٍ، فَأُمِرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ لَا يُحْدِثَ شَيْئًا مِنَ الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ، فَرَبُّ الْمَالِ يَخْشَى أَنْ تَكْثُرَ الصَّدَقَةُ فَيَجْمَعَ أَوْ يُفَرِّقَ لِتَقِلَّ، وَالسَّاعِي يَخْشَى أَنْ تَقِلَّ الصَّدَقَةُ فَيَجْمَعَ أَوْ يُفَرِّقَ لِتَكْثُرَ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ: خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ أَيْ: خَشْيَةَ أَنْ تَكْثُرَ الصَّدَقَةُ أَوْ خَشْيَةَ أَنْ تَقِلَّ الصَّدَقَةُ، فَلَمَّا كَانَ مُحْتَمِلًا لِلْأَمْرَيْنِ لَمْ يَكُنِ الْحَمْلُ عَلَى أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، فَحُمِلَ عَلَيْهِمَا مَعًا، لَكِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى الْمَالِكِ أَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ دُونَ النِّصَابِ مِنَ الْفِضَّةِ وَدُونَ النِّصَابِ مِنَ الذَّهَبِ مَثَلًا أَنَّهُ لَا يَجِبُ ضَمُّ بَعْضِهِ إِلَى بَعْضٍ حَتَّى يَصِيرَ نِصَابًا كَامِلًا فَتَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ يُضَمُّ عَلَى الْأَجْزَاءِ كَالْمَالِكِيَّةِ أَوْ عَلَى الْقِيَمِ كَالْحَنَفِيَّةِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ لِأَحْمَدَ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ مَاشِيَةٌ بِبَلَدٍ لَا تَبْلُغُ النِّصَابَ كَعِشْرِينَ شَاةً مَثَلًا بِالْكُوفَةِ وَمِثْلُهَا بِالْبَصْرَةِ أَنَّهَا لَا تُضَمُّ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهَا مِلْكَ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَتُؤْخَذُ مِنْهَا الزَّكَاةُ لِبُلُوغِهَا النِّصَابَ، قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ، فَقَالُوا: يُجْمَعُ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ أَمْوَالُهُ

ص: 314

وَلَوْ كَانَتْ فِي بُلْدَانٍ شَتَّى، وَيُخْرَجُ مِنْهَا الزَّكَاةُ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى إِبْطَالِ الْحِيَلِ وَالْعَمَلِ عَلَى الْمَقَاصِدِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهَا بِالْقَرَائِنِ، وَأَنَّ زَكَاةَ الْعَيْنِ لَا تَسْقُطُ بِالْهِبَةِ مَثَلًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌35 - بَاب مَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ

وَقَالَ طَاوُسٌ وَعَطَاءٌ: إِذَا عَلِمَ الْخَلِيطَانِ أَمْوَالَهُمَا فَلَا يُجْمَعُ مَالُهُمَا

وَقَالَ سُفْيَانُ لَا تَجِبُ حَتَّى يَتِمَّ لِهَذَا أَرْبَعُونَ شَاةً وَلِهَذَا أَرْبَعُونَ شَاةً

1451 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي ثُمَامَةُ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه كَتَبَ لَهُ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ) اخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْخَلِيطِ كَمَا سَيَأْتِي، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ الشَّرِيكُ قَالَ: وَلَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ فِيمَا يَمْلِكُ إِلَّا مِثْلُ الَّذِي كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ خَلْطٌ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ جَرِيرٍ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَفْرِيقُهَا مِثْلَ جَمْعِهَا فِي الْحُكْمِ لَبَطَلَتْ فَائِدَةُ الْحَدِيثِ، وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ أَمْرٍ لَوْ فَعَلَهُ كَانَتْ فِيهِ فَائِدَةٌ قَبْلَ النَّهْيِ، وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ لَمَا كَانَ لِتَرَاجُعِ الْخَلِيطَيْنِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ مَعْنًى.

قَوْلُهُ: (يَتَرَاجَعَانِ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ شَاةً مَثَلًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِشْرُونَ قَدْ عَرَفَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَيْنَ مَالِهِ فَيَأْخُذُ الْمُصَدِّقُ مِنْ أَحَدِهِمَا شَاةً فَيَرْجِعُ الْمَأْخُوذُ مِنْ مَالِهِ عَلَى خَلِيطِهِ بِقِيمَةِ نِصْفِ شَاةٍ، وَهَذِهِ تُسَمَّى خُلْطَةَ الْجِوَارِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ طَاوُسٌ، وَعَطَاءٌ إِلَخْ) هَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: إِذَا كَانَ الْخَلِيطَانِ يَعْلَمَانِ أَمْوَالَهُمَا لَمْ يُجْمَعْ مَالُهُمَا فِي الصَّدَقَةِ، قَالَ - يَعْنِي ابْنَ جُرَيْجٍ - فَذَكَرْتُهُ لِعَطَاءٍ فَقَالَ: مَا أَرَاهُ إِلَّا حَقًّا، وَهَكَذَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ شَيْخِهِ، وَقَالَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: نَاسٌ خُلَطَاءُ لَهُمْ أَرْبَعُونَ شَاةً؟ قَالَ: عَلَيْهِمْ شَاةٌ، قُلْتُ: فَلِوَاحِدٍ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ وَلِآخَرَ شَاةٌ؟ قَالَ: عَلَيْهِمَا شَاةٌ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ سُفْيَانُ: لَا تَجِبُ حَتَّى يَتِمَّ لِهَذَا أَرْبَعُونَ شَاةً، وَلِهَذَا أَرْبَعُونَ شَاةً) قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ الثَّوْرِيِّ: قَوْلُنَا: لَا يَجِبُ عَلَى الْخَلِيطَيْنِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يَتِمَّ لِهَذَا أَرْبَعُونَ وَلِهَذَا أَرْبَعُونَ. انْتَهَى، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ: إِذَا بَلَغَتْ مَاشِيَتُهُمَا النِّصَابَ زَكَّيَا، وَالْخُلْطَةُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَجْتَمِعَا فِي الْمَسْرَحِ وَالْمَبِيتِ وَالْحَوْضِ وَالْفَحْلِ، وَالشَّرِكَةُ أَخَصُّ مِنْهَا، وَفِي جَامِعِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ: مَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بِالسَّوِيَّةِ، قُلْتُ لِعُبَيْدِ اللَّهِ: مَا يَعْنِي بِالْخَلِيطَيْنِ؟ قَالَ: إِذَا كَانَ الْمُرَاحُ وَاحِدًا وَالرَّاعِي وَاحِدًا وَالدَّلْوُ وَاحِدًا.

ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ الْمَذْكُورِ، وَفِيهِ لَفْظُ التَّرْجَمَةِ، وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْخَلِيطِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ الشَّرِيكُ، وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الشَّرِيكَ قَدْ لَا يَعْرِفُ عَيْنَ مَالِهِ، وَقَدْ قَالَ: إِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَلِيطَ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ شَرِيكًا قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ} وَقَدْ بَيَّنَهُ قَبْلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} وَاعْتَذَرَ بَعْضُهُمْ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَبْلُغْهُمْ هَذَا الْحَدِيثُ، أَوْ رَأَوْا أَنَّ الْأَصْلَ قَوْلُهُ: لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ، وَحُكْمُ الْخُلْطَةِ بِغَيْرِ هَذَا الْأَصْلِ فَلَمْ يَقُولُوا بِهِ.

ص: 315

‌36 - بَاب زَكَاةِ الْإِبِلِ

ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَأَبُو ذَرٍّ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنهم عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

1452 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه: أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْهِجْرَةِ فَقَالَ: وَيْحَكَ، إِنَّ شَأْنَهَا شَدِيدٌ، فَهَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ تُؤَدِّي صَدَقَتَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ الْبِحَارِ فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَتِرَكَ مِنْ عَمَلِكَ شَيْئًا.

[الحديث 1452 - أطرافه: 2633، 3923، 6165]

قَوْلُهُ: (بَابُ زَكَاةِ الْإِبِلِ) سَقَطَ لَفْظُ بَابِ مِنْ رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَالْحَمَوِيِّ.

قَوْلُهُ: (ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَأَبُو ذَرٍّ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنهم، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَمَّا حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ، فَقَدْ ذَكَرَهُ مُطَوَّلًا كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ عَنْهُ، وَلِأَبِي بَكْرٍ حَدِيثٌ آخَرُ تَقَدَّمَ أَيْضًا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِقِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ فَسَيَأْتِي بَعْدَ سِتَّةِ أَبْوَابٍ مِنْ رِوَايَةِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْهُ فِي وَعِيدِ مَنْ لَا يُؤَدِّي زَكَاةَ إِبِلِهِ وَغَيْرِهَا وَيَأْتِي مَعَهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا فِي ذَلِكَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي سَأَلَ عَنْ شَأْنِ الْهِجْرَةِ، وَمَوْضِعِ الْحَاجَةِ مِنْهُ قَوْلُهُ: فَهَلْ لَكَ مِنَ إِبِلٍ تُؤَدِّي صَدَقَتَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْهِجْرَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَحْكَامٌ مُتَعَدِّدَةٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ، مِنْهَا إِيجَابُ الزَّكَاةِ، وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الصَّلَاةِ فِي قِتَالِ مَانِعِيهَا حَتَّى لَوْ مَنَعُوا عَقَالًا، وَهُوَ الَّذِي تُرْبَطُ بِهِ الْإِبِلُ، وَتَسْمِيَتُهَا فَرِيضَةً وَذَلِكَ أَعْلَى الْوَاجِبَاتِ، وَتَوَّعَدَ مَنْ لَمْ يُؤَدِّهَا بِالْعُقُوبَةِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ كَمَا فِي حَدِيثَيْ أَبِي ذَرٍّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فَضْلُ أَدَاءِ زَكَاةِ الْإِبِلِ، وَمُعَادَلَةُ إِخْرَاجِ حَقِّ اللَّهِ مِنْهَا لِفَضْلِ الْهِجْرَةِ، فَإِنَّ فِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اسْتِقْرَارَهُ بِوَطَنِهِ إِذَا أَدَّى زَكَاةَ إِبِلِهِ يَقُومُ لَهُ مَقَامَ ثَوَابِ هِجْرَتِهِ وَإِقَامَتِهِ بِالْمَدِينَةِ.

‌37 - بَاب مَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ بِنْتِ مَخَاضٍ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ

1453 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي ثُمَامَةُ أَنَّ أَنَسًا رضي الله عنه حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه كَتَبَ لَهُ فَرِيضَةَ الصَّدَقَةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم: مَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ مِنْ الْإِبِلِ صَدَقَةُ الْجَذَعَةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْحِقَّةُ وَيَجْعَلُ مَعَهَا شَاتَيْنِ إِنْ اسْتَيْسَرَتَا لَهُ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ الْحِقَّةُ وَعِنْدَهُ الْجَذَعَةُ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْجَذَعَةُ وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ، وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ إِلَّا بِنْتُ لَبُونٍ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ بِنْتُ لَبُونٍ وَيُعْطِي شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ لَبُونٍ وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْحِقَّةُ وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ، وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ لَبُونٍ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ بِنْتُ مَخَاضٍ وَيُعْطِي مَعَهَا عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ.

ص: 316

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ بِنْتِ مَخَاضٍ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ) أَوْرَدَ فِيهِ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ الْمَذْكُورِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا تَرْجَمَ بِهِ، وَقَدْ أَوْرَدَ الْحُكْمَ الَّذِي تَرْجَمَ بِهِ فِي بَابِ الْعَرْضِ فِي الزَّكَاةِ، وَحَذَفَهُ هُنَا، فَقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: هَذِهِ غَفْلَةٌ مِنْهُ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ رَشِيدٍ وَقَالَ: بَلْ هِيَ غَفْلَةٌ مِمَّنْ ظَنَّ بِهِ الْغَفْلَةَ، وَإِنَّمَا مَقْصِدُهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى مَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ هِيَ وَلَا ابْنُ لَبُونٍ، لَكِنْ عِنْدَهُ مَثَلًا حِقَّةٌ، وَهِيَ أَرْفَعُ مِنْ بِنْتِ مَخَاضٍ، لِأَنَّ بَيْنَهُمَا بِنْتَ لَبُونٍ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ بَيْنَ بِنْتِ اللَّبُونِ وَبِنْتِ الْمَخَاضِ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا وَقَعَ ذِكْرُهُ فِي الْحَدِيثِ مِنْ سِنٍّ يَزِيدُ أَوْ يَنْقُصُ إِنَّمَا ذَكَرَ فِيهِ مَا يَلِيهَا لَا مَا يَقَعُ بَيْنَهُمَا بِتَفَاوُتِ دَرَجَةٍ، فَأَشَارَ الْبُخَارِيُّ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَنْبَطُ مِنَ الزَّائِدِ وَالنَّاقِصِ وَالْمُنْفَصِلِ مَا يَكُونُ مُنْفَصِلًا بِحِسَابِ ذَلِكَ، فَعَلَى هَذَا مَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ مَخَاضٍ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ إِلَّا حِقَّةٌ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ الْمُصَدِّقُ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا أَوْ أَرْبَعَ شِيَاهٍ جُبْرَانًا أَوْ بِالْعَكْسِ، فَلَوْ ذَكَرَ اللَّفْظَ الَّذِي تَرْجَمَ بِهِ لَمَا أَفْهَمَ هَذَا الْغَرَضَ، فَتَدَبَّرْهُ.

انْتَهَى، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: مَنْ أَمْعَنَ النَّظَرَ فِي تَرَاجِمِ هَذَا الْكِتَابِ وَمَا أَوْدَعَهُ فِيهَا مِنْ أَسْرَارِ الْمَقَاصِدِ اسْتَبْعَدَ أَنْ يَغْفُلَ أَوْ يُهْمِلَ أَوْ يَضَعَ لَفْظًا بِغَيْرِ مَعْنًى أَوْ يَرْسُمَ فِي الْبَابِ خَبَرًا يَكُونُ غَيْرُهُ بِهِ أَقْعَدَ وَأَوْلَى، وَإِنَّمَا قَصَدَ بِذِكْرِ مَا لَمْ يُتَرْجِمْ بِهِ أَنْ يُقَرِّرَ أَنَّ الْمَفْقُودَ إِذَا وَجَدَ الْأَكْمَلَ مِنْهُ أَوِ الْأَنْقَصَ شُرِعَ الْجُبْرَانُ كَمَا شُرِعَ ذَلِكَ فِيمَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الْخَبَرُ مِنْ ذِكْرِ الْأَسْنَانِ، فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ فَقْدِ بِنْتِ الْمَخَاضِ وَوُجُودِ الْأَكْمَلِ مِنْهَا، قَالَ: وَلَوْ جُعِلَ الْعُمْدَةُ فِي هَذَا الْبَابِ الْخَبَرَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى ذِكْرِ فَقْدِ بِنْتِ الْمَخَاضِ لَكَانَ نَصًّا فِي التَّرْجَمَةِ ظَاهِرًا، فَلَمَّا تَرَكَهُ وَاسْتَدَلَّ بِنَظِيرِهِ أَفْهَمَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْإِلْحَاقِ بِنَفْيِ الْفَرْقِ وَتَسْوِيَتِهِ بَيْنَ فَقْدِ بِنْتِ الْمَخَاضِ وَوُجُودِ الْأَكْمَلِ مِنْهَا وَبَيْنَ فَقْدِ الْحِقَّةِ وَوُجُودِ الْأَكْمَلِ مِنْهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌38 - بَاب زَكَاةِ الْغَنَمِ

1454 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى الْأَنْصَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه كَتَبَ لَهُ هَذَا الْكِتَابَ لَمَّا وَجَّهَهُ إِلَى الْبَحْرَيْنِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَالَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ، فَمَنْ سُئِلَهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِهَا فَلْيُعْطِهَا، وَمَنْ سُئِلَ فَوْقَهَا فَلَا يُعْطِ: فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ فَمَا دُونَهَا مِنْ الْغَنَمِ مِنْ كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إِلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ أُنْثَى، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَثَلَاثِينَ إِلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ أُنْثَى، فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ أُنْثَى، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ إِلَى سِتِّينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ طَرُوقَةُ الْجَمَلِ، فَإِذَا بَلَغَتْ وَاحِدَةً وَسِتِّينَ إِلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ - يَعْنِي سِتًّا وَسَبْعِينَ - إِلَى تِسْعِينَ فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ إِحْدَى وَتِسْعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الْجَمَلِ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلَّا أَرْبَعٌ مِنْ الْإِبِلِ فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا مِنْ الْإِبِلِ فَفِيهَا شَاةٌ، وَفِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ فِي سَائِمَتِهَا إِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ شَاةٌ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ إِلَى مِائَتَيْنِ شَاتَانِ، فَإِذَا زَادَتْ

ص: 317

عَلَى مِائَتَيْنِ إِلَى ثَلَاثِمِائَةٍ فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ،

فَإِذَا زَادَتْ عَلَى ثَلَاثِمِائَةٍ فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ، فَإِذَا كَانَتْ سَائِمَةُ الرَّجُلِ نَاقِصَةً مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةً وَاحِدَةً فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا، وَفِي الرِّقَّةِ رُبْعُ الْعُشْرِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ إِلَّا تِسْعِينَ وَمِائَةً فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ زَكَاةِ الْغَنَمِ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: حَذَفَ وَصْفَ الْغَنَمِ بِالسَّائِمَةِ وَهُوَ ثَابِتٌ فِي الْخَبَرِ، إِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ هَذَا الْمَفْهُومَ أَوْ لِتَرَدُّدِهِ مِنْ جِهَةِ تَعَارُضِ وُجُوهِ النَّظَرِ فِيهِ عِنْدَهُ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ خِلَافِيَّةٌ شَهِيرَةٌ، وَالرَّاجِحُ فِي مَفْهُومِ الصِّفَةِ أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ تُنَاسِبُ الْحُكْمَ مُنَاسَبَةَ الْعِلَّةِ لِمَعْلُولِهَا اعْتُبِرَتْ وَإِلَّا فَلَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ السَّوْمَ يُشْعِرُ بِخِفَّةِ الْمُؤْنَةَ وَدَرْءِ الْمَشَقَّةِ بِخِلَافِ الْعَلَفِ فَالرَّاجِحُ اعْتِبَارُهُ هُنَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي ثُمَامَةُ) هُوَ عَمُّ الرَّاوِي عَنْهُ لِأَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُثَنَّى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَهَذَا الْإِسْنَادُ مُسَلْسَلٌ بِالْبَصْرِيِّينَ مِنْ آلِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُثَنَّى اخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ ابْنِ مَعِينٍ فَقَالَ مَرَّةً: صَالِحٌ، وَمَرَّةً: لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقَوَّاهُ أَبُو زُرْعَةَ، وَأَبُو حَاتِمٍ، وَالْعِجْلِيُّ، وَأَمَّا النَّسَائِيُّ فَقَالَ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَقَالَ الْعُقَيْلِيُّ: لَا يُتَابَعُ فِي أَكْثَرِ حَدِيثِهِ. انْتَهَى، وَقَدْ تَابَعَهُ عَلَى حَدِيثِهِ هَذَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، فَرَوَاهُ عَنْ ثُمَامَةَ أَنَّهُ أَعْطَاهُ كِتَابًا زَعَمَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَهُ لِأَنَسٍ، وَعَلَيْهِ خَاتَمُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ بَعَثَهُ مُصَدِّقًا، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، هَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْهُ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ قَالَ: أَخَذْتُ هَذَا الْكِتَابَ مِنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ فَذَكَرَهُ، وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ: أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ أَخَذْنَا هَذَا الْكِتَابَ مِنْ ثُمَامَةَ يُحَدِّثُهُ عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَهُ، فَوَضَحَ أَنَّ حَمَّادًا سَمِعَهُ مِنْ ثُمَامَةَ وَأَقْرَأَهُ الْكِتَابَ فَانْتَفَى تَعْلِيلُ مَنْ أَعَلَّهُ بِكَوْنِهِ مُكَاتَبَةً، وَانْتَفَى تَعْلِيلُ مَنْ أَعَلَّهُ بِكَوْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى لَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه كَتَبَ لَهُ هَذَا الْكِتَابَ لَمَّا وَجَّهَهُ إِلَى الْبَحْرِينِ) أَيْ: عَامِلًا عَلَيْهَا، وَهِيَ اسْمٌ لِإِقْلِيمٍ مَشْهُورٍ يَشْتَمِلُ عَلَى مُدُنٍ مَعْرُوفَةٍ قَاعِدَتُهَا هَجَرُ، وَهَكَذَا يَنْطِقُ بِهِ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ وَالنِّسْبَةُ إِلَيْهِ بَحْرَانِيٌّ.

قَوْلُهُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذِهِ) قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى إِثباتِ الْبَسْمَلَةِ فِي ابْتِدَاءِ الْكُتُبِ، وَعَلَى أَنَّ الِابْتِدَاءَ بِالْحَمْدِ لَيْسَ بِشَرْطٍ.

قَوْلُهُ: (هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ) أَيْ: نُسْخَةُ فَرِيضَةِ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَفِيهِ أَنَّ اسْمَ الصَّدَقَةِ يَقَعُ عَلَى الزَّكَاةِ خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.

قَوْلُهُ: (الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمُسْلِمِينَ) ظَاهِرٌ فِي رَفْعِ الْخَبَرِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّهُ لَيْسَ مَوْقُوفًا عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَقَدْ صَرَّحَ بِرَفْعِهِ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهَا، وَمَعْنَى فَرَضَ هُنَا أَوْجَبَ أَوْ شَرَعَ؛ يَعْنِي بأْمُرُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ قُدِّرَ، لِأَنَّ إِيجَابَهَا ثَابِتٌ فِي الْكِتَابِ، فَفَرْضُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهَا بَيَانُهُ لِلْمُجْمَلِ مِنَ الْكِتَابِ بِتَقْدِيرِ الْأَنْوَاعِ وَالْأَجْنَاسِ، وَأَصْلُ الْفَرْضِ قَطْعُ الشَّيْءِ الصُّلْبِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي التَّقْدِيرِ لِكَوْنِهِ مُقْتَطَعًا مِنَ الشَّيْءِ الَّذِي يُقَدَّرُ مِنْهُ، وَيَرِدُ بِمَعْنَى الْبَيَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} وَبِمَعْنَى الْإِنْزَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} وَبِمَعْنَى الْحِلِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْرُجُ مِنْ مَعْنَى التَّقْدِيرِ، وَوَقَعَ اسْتِعْمَالُ الْفَرْضِ بِمَعْنَى اللُّزُومِ حَتَّى كَادَ يَغْلِبُ عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يَخْرُجُ أَيْضًا عَنْ مَعْنَى التَّقْدِيرِ، وَقَدْ قَالَ الرَّاغِبُ: كُلُّ شَيْءٍ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ فَرَضَ عَلَى فُلَانٍ فَهُوَ بِمَعْنَى الْإِلْزَامِ، وَكُلُّ شَيْءٍ فَرَضَ لَهُ فَهُوَ بِمَعْنَى لَمْ يُحَرِّمْهُ عَلَيْهِ.

وَذَكَرَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} أَيْ: أَوْجَبَ عَلَيْكَ الْعَمَلَ بِهِ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ الْجُمْهُورِ: إِنَّ الْفَرْضَ مُرَادِفٌ لِلْوُجُوبِ، وَتَفْرِيقُ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ بِاعْتِبَارِ مَا يَثْبُتَانِ بِهِ لَا مُشَاحَةَ فِيهِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي حَمْلِ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّفْظَ السَّابِقَ لَا يُحْمَلُ عَلَى الِاصْطِلَاحِ الْحَادِثِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (عَلَى الْمُسْلِمِينَ) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ

ص: 318

الْكَافِرَ لَيْسَ مُخَاطَبًا بِذَلِكَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ كَوْنُهَا لَا تَصِحُّ مِنْهُ، لَا أَنَّهُ لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهَا وَهُوَ مَحِلُّ النِّزَاعِ.

قَوْلُهُ: (وَالَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ) كَذَا فِي كَثِيرٍ مِنْ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ، وَوَقَعَ فِي كَثِيرٍ مِنْهَا بِحَذْفِ بِهَا وَأَنْكَرَهَا النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهَا الَّتِي أَمَرَ بِغَيْرِ وَاوٍ عَلَى أَنَّهَا بَدَلٌ مِنَ الْأُولَى.

قَوْلُهُ: (فَمَنْ سُئِلَهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِهَا فَلْيُعْطِهَا) أَيْ: عَلَى هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ الْمُبَيَّنَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى دَفْعِ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ إِلَى الْإِمَامِ.

قَوْلُهُ: (وَمَنْ سُئِلَ فَوْقَهَا فَلَا يُعْطِ) أَيْ: مَنْ سُئِلَ زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ فِي سِنٍّ أَوْ عَدَدٍ فَلَهُ الْمَنْعُ، وَنَقَلَ الرَّافِعِيُّ الِاتِّفَاقَ عَلَى تَرْجِيحِهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ فَلْيُمْنَعِ السَّاعِي، وَلْيَتَوَلَّ هُوَ إِخْرَاجَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِسَاعٍ آخَرَ، فَإِنَّ السَّاعِيَ الَّذِي طَلَبَ الزِّيَادَةَ يَكُونُ بِذَلِكَ مُتَعَدِّيًا وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا، لَكِنَّ مَحِلَّ هَذَا إِذَا طَلَبَ الزِّيَادَةَ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ.

قَوْلُهُ: (فِي كُلِّ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْإِبِلِ فَمَا دُونَهَا) أَيْ: إِلَى خَمْسٍ.

قَوْلُهُ: (مِنَ الْغَنَمِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ السَّكَنِ بِإِسْقَاطِ مِنْ وَصَوَّبَهَا بَعْضُهُمْ، وَقَالَ عِيَاضٌ: مَنْ أَثْبَتَهَا فَمَعْنَاهُ زَكَاتُهَا أَيِ الْإِبِلُ: مِنَ الْغَنَمِ، وَمِنْ لِلْبَيَانِ لَا لِلتَّبْعِيضِ. وَمَنْ حَذَفَهَا فَالْغَنَمُ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ مُضْمَرٌ فِي قَوْلِهِ: فِي كُلِّ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَمَا بَعْدَهُ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ الْخَبَرَ لِأَنَّ الْغَرَضَ بَيَانُ الْمَقَادِيرِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ، وَالزَّكَاةُ إِنَّمَا تَجِبُ بَعْدَ وُجُودِ النِّصَابِ فَحَسُنَ التَّقْدِيمُ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى تَعَيُّنِ إِخْرَاجِ الْغَنَمِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، فَلَوْ أَخْرَجَ بَعِيرًا عَنِ الْأَرْبَعِ وَالْعِشْرِينَ لَمْ يُجْزِهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ: يُجْزِئُهُ لِأَنَّهُ يُجْزِئُ عَنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، فَمَا دُونَهَا أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَجِبَ مِنْ جِنْسِ الْمَالِ، وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْهُ رِفْقًا بِالْمَالِكِ، فَإِذَا رَجَعَ بِاخْتِيَارِهِ إِلَى الْأَصْلِ أَجْزَأَهُ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْبَعِيرِ مَثَلًا دُونَ قِيمَةِ أَرْبَعِ شِيَاهٍ فَفِيهِ خِلَافٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَالْأَقْيَسُ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ، وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: فِي كُلِّ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ عَلَى أَنَّ الْأَرْبَعَ مَأْخُوذَةٌ عَنِ الْجَمْعِ، وَإِنْ كَانَتِ الْأَرْبَعُ الزَّائِدَةُ عَلَى الْعِشْرِينَ وَقَصًا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْبُوَيْطِيِّ، وَقَالَ فِي غَيْرِهِ: إِنَّهُ عَفْوٌ، وَيَظْهَرُ أَثَرُ الْخِلَافِ فِيمَنْ لَهُ - مَثَلًا - تِسْعٌ مِنَ الْإِبِلِ فَتَلِفَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ بَعْدَ الْحَوْلِ وَقَبْلَ التَّمَكُّنِ - حَيْثُ قُلْنَا: إِنَّهُ شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ - وَجَبَتْ عَلَيْهِ شَاةٌ بِلَا خِلَافٍ، وَكَذَا إِنْ قُلْنَا: التَّمَكُّنُ شَرْطٌ فِي الضَّمَانِ، وَقُلْنَا: الْوَقَصُ عَفْوٌ، وَإِنْ قُلْنَا: يَتَعَلَّقُ بِهِ الْفَرْضُ وَجَبَ خَمْسَةُ أَتْسَاعِ شَاةٍ، وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَةً كَالْأَوَّلِ.

(تَنْبِيهٌ): الْوَقَصُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالْقَافِ، وَيَجُوزُ إِسْكَانُهَا وَبِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ بَدَلَ الصَّادِ: هُوَ مَا بَيْنَ الْفَرْضَيْنِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَاسْتَعْمَلَهُ الشَّافِعِيُّ فِيمَا دُونَ النِّصَابِ الْأَوَّلِ أَيْضًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ) فِيهِ أَنَّ فِي هَذَا الْقَدْرِ بِنْتُ مَخَاضٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ إِلَّا مَا جَاءَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ خَمْسَ شِيَاهٍ، فَإِذَا صَارَتْ سِتًّا وَعِشْرِينَ كَانَ فِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ. أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا وَإِسْنَادُ الْمَرْفُوعِ ضَعِيفٌ.

قَوْلُهُ: (إِلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيمَا بَيْنَ الْعَدَدَيْنِ شَيْءٌ غَيْرَ بِنْتِ مَخَاضٍ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: كَالْحَنَفِيَّةِ تَسْتَأْنِفُ الْفَرِيضَةَ فَيَجِبُ فِي كُلِّ خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ شَاةٌ مُضَافَةٌ إِلَى بِنْتِ الْمَخَاضِ.

قَوْلُهُ: (فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ أُنْثَى) زَادَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ فِي رِوَايَتِهِ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِنْتُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ، وَقَوْلُهُ أُنْثَى، وَكَذَا قَوْلُهُ ذَكَرٌ لِلتَّأْكِيدِ أَوْ لِتَنْبِيهِ رَبِّ الْمَالِ لِيَطِيبَ نَفْسًا بِالزِّيَادَةِ، وَقِيلَ: احْتُرِزَ بِذَلِكَ مِنَ الْخُنْثَى وَفِيهِ بُعْدٌ. وَبِنْتُ الْمَخَاضِ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْمُعْجَمَةِ الْخَفِيفَةِ وَآخِرُهُ مُعْجَمَةٌ هِيَ الَّتِي أَتَى عَلَيْهَا حَوْلٌ، وَدَخَلَتْ فِي الثَّانِي، وَحَمَلَتْ أُمُّهَا، وَالْمَاخِضُ الْحَامِلُ، أَيْ: دَخْلَ وَقْتُ حَمْلِهَا وَإِنْ لَمْ تَحْمِلْ. وَابْنُ اللَّبُونِ الَّذِي دَخَلَ فِي ثَالِثِ سَنَةٍ فَصَارَتْ أُمُّهُ لَبُونًا بِوَضْعِ الْحَمْلِ.

قَوْلُهُ: (إِلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ) إِلَى للْغَايَةِ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ مَا قَبْلَ الْغَايَةِ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ الْمَقْصُودُ بَيَانُهُ بِخِلَافِ مَا بَعْدَهَا فَلَا يَدْخُلُ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَقَدْ

ص: 319

دَخَلَتْ هُنَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ، فَعُلِمَ أَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ مَا قَبْلَهَا.

قَوْلُهُ: (حِقَّةٌ طَرُوقَةُ الْجَمَلِ) حِقَّةٌ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ، وَالْجَمْعُ حِقَاقٌ بِالْكَسْرِ وَالتَّخْفِيفِ، وَطَرُوقَةٌ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ أَيْ: مَطْرُوقَةٌ وَهِيَ فَعُولَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ كَحَلُوبَةٍ بِمَعْنَى مَحْلُوبَةٍ، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا بَلَغَتْ أَنْ يَطْرُقَهَا الْفَحْلُ، وَهِيَ الَّتِي أَتَتْ عَلَيْهَا ثَلَاثُ سِنِينَ، وَدَخَلَتْ فِي الرَّابِعَةِ.

قَوْلُهُ: (جَذَعَةٌ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْمُعْجَمَةِ وَهِيَ الَّتِي أَتَتْ عَلَيْهَا أَرْبَعٌ، وَدَخَلَتْ فِي الْخَامِسَةِ.

قَوْلُهُ: (فَإِذَا بَلَغَتْ يَعْنِي سِتًّا وَسَبْعِينَ) كَذَا فِي الْأَصْلِ بِزِيَادَةِ يَعْنِي، وَكَأَنَّ الْعَدَدَ حُذِفَ مِنَ الْأَصْلِ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فَذَكَرَهُ بَعْضُ رُوَاتِهِ وَأَتَى بِلَفْظِ يَعْنِي لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّهُ مَزِيدٌ، أَوْ شَكَّ أَحَدُ رُوَاتِهِ فِيهِ. وَقَدْ ثَبَتَ بِغَيْرِ لَفْظِ يَعْنِي فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ الْأَنْصَارِيِّ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ فِيهِ مِنَ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِإِثْبَاتِهِ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ) أَيْ: وَاحِدَةً فَصَاعِدًا، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَعَنِ الْإِصْطَخْرِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ تَجِبُ ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ؛ لِزِيَادَةِ بَعْضٍ وَاحِدَةً، لِصِدْقِ الزِّيَادَةِ، وَتُتَصَوَّرُ الْمَسْأَلَةُ فِي الشَّرِكَةِ، وَيَرُدُّهُ مَا فِي كِتَابِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ: إِذَا كَانَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ وَمِائَةً، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَزَكَاتُهُ بِالْإِبِلِ خَاصَّةً، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ رَجَعَتْ إِلَى فَرِيضَةِ الْغَنَمِ، فَيَكُونُ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ وَشَاةٌ.

قَوْلُهُ: (فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ فَفِيهَا شَاةٌ، وَفِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ إِلَخْ)

(تَنْبِيهٌ): اقْتَطَعَ الْبُخَارِيُّ مِنْ بَيْنِ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ قَوْلَهُ: وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ مِنَ الْإِبِلِ صَدَقَةُ الْجَذَعَةِ إِلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَقَدْ ذُكِرَ آخِرُهُ فِي بَابِ الْعَرْضِ فِي الزَّكَاةِ وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ فِيهِ: يُقْبَلُ مِنْهُ بِنْتُ مَخَاضٍ، وَيُعْطِي مَعَهَا عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ عَلَى وَجْهِهَا وَعِنْدَهُ ابْنُ لَبُونٍ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ وَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ، وَهَذَا الْحُكْمُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَلَوْ لَمْ يَجِدْ وَاحِدًا مِنْهُمَا فَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ أَيُّهُمَا شَاءَ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقِيلَ: يَتَعَيَّنُ شِرَاءُ بِنْتِ مَخَاضٍ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، وَقَوْلُهُ: وَيُعْطِي مَعَهَا عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ، هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَعَنِ الثَّوْرِيِّ عَشْرَةً وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ إِسْحَاقَ، وَعَنْ مَالِكٍ يُلْزَمُ رَبُّ الْمَالِ بِشِرَاءِ ذَلِكَ السِّنِّ بِغَيْرِ جُبْرَانٍ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الشَّارِعُ جَعَلَ الشَّاتَيْنِ أَوِ الْعِشْرِينَ دِرْهَمًا تَقْدِيرًا فِي الْجُبْرَانِ لِئَلَّا يَكِلَ الْأَمْرَ إِلَى اجْتِهَادِ السَّاعِي لِأَنَّهُ يَأْخُذُهَا عَلَى الْمِيَاهِ حَيْثُ لَا حَاكِمَ وَلَا مُقَوِّمَ غَالِبًا، فَضَبَطَهُ بِشَيْءٍ يَرْفَعُ التَّنَازُعَ كَالصَّاعِ فِي الْمُصَرَّاةِ وَالْغُرَّةِ فِي الْجَنِينِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَبَيْنَ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ قَوْلُهُ:(وَفِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ) وَسَيَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَى مَا حَذَفَهُ مِنْهُ أَيْضًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ قَرِيبًا.

قَوْلُهُ: (إِذَا كَانَتْ) فِي رِوَايَةٍ الْكُشْمِيهَنِيِّ إِذَا بَلَغَتْ.

قَوْلُهُ: (فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ) فِي كِتَابِ عُمَرَ: فَإِذَا كَانَتْ إِحْدَى وَعِشْرِينَ حَتَّى تَبْلُغَ مِائَتَيْنِ فَفِيهَا شَاتَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ الْإِصْطَخْرِيِّ فِي ذَلِكَ وَالتَّعْقِبُ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (فَإِذَا زَادَتْ عَلَى ثَلَاثِمِائَةٍ فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ) مُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَا تَجِبُ الشَّاةُ الرَّابِعَةُ حَتَّى تُوَفَّى أَرْبَعَمِائَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، قَالُوا: فَائِدَةُ ذِكْرِ الثَّلَاثِمِائَةِ لِبَيَانِ النِّصَابِ الَّذِي بَعْدَهُ لِكَوْنِ مَا قَبْلَهُ مُخْتَلِفًا، وَعَنْ بَعْضِ الْكُوفِيِّينَ كَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: إِذَا زَادَتْ عَلَى الثَّلَاثِمِائَةِ وَاحِدَةً وَجَبَ الْأَرْبَعُ.

قَوْلُهُ: (فَفِي كُلِّ مِائَةِ شَاةٍ شَاةٌ، فَإِذَا كَانَتْ سَائِمَةَ الرَّجُلِ).

(تَنْبِيهٌ): اقْتَطَعَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ بَيْنِ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ قَوْلَهُ: وَلَا يُخْرِجُ فِي الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ إِلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، وَاقْتَطَعَ مِنْهُ أَيْضًا قَوْلَهُ: وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ إِلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ فِي بَابِهِ، وَكَذَا قَوْلَهُ: وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ إِلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ فِي بَابِهِ، وَيَلِي هَذَا قَوْلُهُ هُنَا: فَإِذَا كَانَتْ سَائِمَةَ الرَّجُلِ إِلَخْ. وَهَذَا حَدِيثٌ وَاحِدٌ يَشْتَمِلُ عَلَى هَذِهِ الْأَحْكَامِ الَّتِي فَرَّقَهَا

ص: 320

الْمُصَنِّفُ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ غَيْرَ مُرَاعٍ لِلتَّرْتِيبِ فِيهَا، بَلْ بِحَسَبِ مَا ظَهَرَ لَهُ مِنْ مُنَاسَبَةِ إِيرَادِ التَّرَاجِمِ الْمَذْكُورَةِ.

قَوْلُهُ: (وَفِي الرِّقَةِ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ: الْفِضَّةُ الْخَالِصَةُ سَوَاءٌ كَانَتْ مَضْرُوبَةً أَوْ غَيْرَ مَضْرُوبَةٍ، قِيلَ: أَصْلُهَا الْوَرِقُ، فَحُذِفَتِ الْوَاوُ وَعُوِّضَتِ الْهَاءُ، وَقِيلَ: يُطْلَقُ عَلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِخِلَافِ الْوَرِقِ فَعَلَى هَذَا فَقِيلَ: إِنَّ الْأَصْلَ فِي زَكَاةِ النَّقْدَيْنِ نِصَابُ الْفِضَّةِ، فَإِذَا بَلَغَ الذَّهَبُ مَا قِيمَتُهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فِضَّةً خَالِصَةً وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ وَهُوَ رُبْعُ الْعُشْرِ، وَهَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ.

قَوْلُهُ: (فَإِذاْ لَمْ تَكُنْ) أَيِ الْفِضَّةُ (إِلَّا تِسْعِينَ وَمِائَةً) يُوهِمُ أَنَّهَا إِذَا زَادَتْ عَلَى التِّسْعِينَ وَمِائَةٍ قَبْلَ بُلُوغِ الْمِائَتَيْنِ أَنَّ فِيهَا صَدَقَةً، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ التِّسْعِينَ لِأَنَّهُ آخِرُ عَقْدٍ قَبْلَ الْمِائَةِ، وَالْحِسَابُ إِذَا جَاوَزَ الْآحَادَ كَانَ تَرْكِيبُهُ بِالْعُقُودِ كَالْعَشَرَاتِ وَالْمِئِينَ وَالْأُلُوفِ، فَذَكَرَ التِّسْعِينَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنْ لَا صَدَقَةَ فِيمَا نَقَصَ عَنِ الْمِائَتَيْنِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ الْمَاضِي: لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ.

قَوْلُهُ: (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ) أَيْ: إِلَّا أَنْ يَتَبَرَّعَ مُتَطَوِّعًا.

‌39 - بَاب لَا تُؤْخَذُ فِي الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ وَلَا ذَاتُ عَوَارٍ وَلَا تَيْسٌ إِلَّا مَا شَاءَ الْمُصَدِّقُ

1455 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي ثُمَامَةُ أَنَّ أَنَسًا رضي الله عنه حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه كَتَبَ لَهُ الصَّدَقَةَ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم وَلَا يُخْرَجُ فِي الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ وَلَا ذَاتُ عَوَارٍ، وَلَا تَيْسٌ إِلَّا مَا شَاءَ الْمُصَدِّقُ.

قَوْلُهُ: (بَابٌ لَا يُؤْخَذُ فِي الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ - إِلَى قَوْلِهِ - مَا شَاءَ الْمُصَدِّقُ) اخْتُلِفَ فِي ضَبْطِهِ، فَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ بِالتَّشْدِيدِ، وَالْمُرَادُ الْمَالِكُ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ، وَتَقْدِيرُ الْحَدِيثِ: لَا تُؤْخَذُ هَرِمَةٌ وَلَا ذَاتُ عَيْبٍ أَصْلًا، وَلَا يُؤْخَذُ التَّيْسُ وَهُوَ فَحْلُ الْغَنَمِ إِلَّا بِرِضَا الْمَالِكِ لِكَوْنِهِ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَفِي أَخْذِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ إِضْرَارٌ بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَعَلَى هَذَا فَالِاسْتِثْنَاءُ مُخْتَصٌّ بِالثَّالِثِ، وَمِنْهُمْ مَنْ ضَبَطَهُ بِتَخْفِيفِ الصَّادِ وَهُوَ السَّاعِي، وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى التَّفوِيضِ إِلَيْهِ فِي اجْتِهَادِهِ لِكَوْنِهِ يَجْرِي مَجْرَى الْوَكِيلِ فَلَا يَتَصَرَّفُ بِغَيْرِ الْمَصْلَحَةِ فَيَتَقَيَّدُ بِمَا تَقْتَضِيهِ الْقَوَاعِدُ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْبُوَيْطِيِّ، وَلَفْظُهُ: وَلَا تُؤْخَذُ ذَاتُ عَوَارٍ وَلَا تَيْسٌ وَلَا هَرِمَةٌ إِلَّا أَنْ يَرَى الْمُصَدِّقُ أَنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ لِلْمَسَاكِينِ فَيَأْخُذُهُ عَلَى النَّظَرِ. انْتَهَى. وَهَذَا أَشْبَهُ بِقَاعِدَةِ الشَّافِعِيِّ فِي تَنَاوُلِ الِاسْتِثْنَاءِ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ، فَلَوْ كَانَتِ الْغَنَمُ كُلُّهَا مَعِيبَةً مَثَلًا أَوْ تُيُوسًا أَجْزَأَهُ أَنْ يُخْرِجَ مِنْهَا، وَعَنِ الْمَالِكِيَّةِ يَلْزَمُ الْمَالِكَ أَنْ يَشْتَرِيَ شَاةً مُجْزِئَةً تَمَسُّكًا بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَهُمْ كَالْأَوَّلِ.

قَوْلُهُ: (هَرِمَةٌ) بِفَتْحِ الْهَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ: الْكَبِيرَةُ الَّتِي سَقَطَتْ أَسْنَانُهَا.

قَوْلُهُ: (ذَاتُ عَوَارٍ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَبِضَمِّهَا، أَيْ: مَعِيبَةٌ، وَقِيلَ: بِالْفَتْحِ الْعَيْبُ، وَبِالضَّمِّ: الْعَوَرُ، وَاخْتُلِفَ فِي ضَبْطِهَا فَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ مَا يَثْبُتُ بِهِ الرَّدُّ فِي الْبَيْعِ، وَقِيلَ: مَا يَمْنَعُ الْإِجْزَاءُ فِي الْأُضْحِيَّةِ، وَيَدْخُلُ فِي الْمَعِيبِ الْمَرِيضُ وَالذُّكُورَةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأُنُوثَةِ وَالصَّغِيرُ سِنًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى سِنٍّ أَكْبَرَ مِنْهُ.

‌40 - بَاب أَخْذِ الْعَنَاقِ فِي الصَّدَقَةِ

1456 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ

ص: 321

عَنْهُ: وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا.

1457 -

قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُ أَنَّ اللَّهَ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه بِالْقِتَالِ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ.

قَوْلُهُ: (بَابُ أَخْذِ الْعَنَاقِ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ، أَوْرَدَ فِيهِ طَرَفًا مِنْ قِصَّةِ عُمَرَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ فِي قِتَالِ مَانِعِ الزَّكَاةِ وَفِيهِ قَوْلُهُ: لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا. وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ السَّابِقَةِ إِلَى جَوَازِ أَخْذِ الصَّغِيرَةِ مِنَ الْغَنَمِ فِي الصَّدَقَةِ، لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ لَا عَيْبَ فِيهَا سِوَى صِغَرِ السِّنِّ، فَهِيَ أَوْلَى أَنْ تُؤْخَذَ مِنَ الْهَرِمَةِ إِذَا رَأَى السَّاعِي ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ السِّرُّ فِي اخْتِيَارِ لَفْظِ الْأَخْذِ فِي التَّرْجَمَةِ دُونَ الْإِعْطَاءِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةَ، فَقَالُوا: مَعْنَاهُ كَانُوا يُؤَدُّونَ عَنْهَا مَا يَلْزَمُ أَدَاؤُهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَا يُؤَدِّي عَنْهَا إِلَّا مِنْ غَيْرِهَا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعَنَاقِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْجَذَعَةُ مِنَ الْغَنَمِ وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ فِي أَثْنَاءِ الْإِسْنَادِ: (وَقَالُ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ. . . إِلَخْ) وَصَلَهُ الذُّهَلِيُّ فِي الزَّهْرِيَّاتِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ اللَّيْثِ، وَلِلَّيْثِ فِيهِ إِسْنَادٌ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى، سَتَأْتِي فِي كِتَابِ الْمُرْتَدِّينَ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ.

‌41 - بَاب لَا تُؤْخَذُ كَرَائِمُ أَمْوَالِ النَّاسِ فِي الصَّدَقَةِ

1458 -

حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا رضي الله عنه عَلَى الْيَمَنِ، قَالَ: إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللَّهِ فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ، فَإِذَا فَعَلُوا الصَّلَاةَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِذَا أَطَاعُوا بِهَا فَخُذْ مِنْهُمْ وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ.

قَوْلُهُ: (لَا تُؤْخَذُ كَرَائِمُ أَمْوَالِ النَّاسِ فِي الصَّدَقَةِ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ مُقَيِّدَةٌ لِمُطْلَقِ الْحَدِيثِ، لِأَنَّ فِيهِ: وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ. بِغَيْرِ تَقْيِيدٍ بِالصَّدَقَةِ، وَأَمْوَالُ النَّاسِ يَسْتَوِي التَّوَقِّي لَهَا بَيْنَ الْكَرَائِمِ وَغَيْرِهَا، فَقَيَّدَهَا فِي التَّرْجَمَةِ بِالصَّدَقَةِ وَهُوَ بَيِّنٌ مَنْ سِيَاقِ الْحَدِيثِ، لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي شَأْنِ الصَّدَقَةِ، وَالْكَرَائِمُ جَمْعُ كَرِيمَةٍ، يُقَالُ: نَاقَةٌ كَرِيمَةٌ أَيْ: غَزِيرَةُ اللَّبَنِ، وَالْمُرَادُ نَفَائِسُ الْأَمْوَالِ مِنْ أَيِّ صِنْفٍ كَانَ، وَقِيلَ لَهُ: نَفِيسٌ؛ لِأَنَّ نَفْسَ صَاحِبِهِ تَتَعَلَّقُ بِهِ، وَأَصْلُ الْكَرِيمَةِ كَثِيرَةُ الْخَيْرِ. وَقِيلَ لِلْمَالِ النَّفِيسِ: كَرِيمٌ؛ لِكَثْرَةِ مَنْفَعَتِهِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ قُبَيْلَ أَبْوَابِ زَكَاةِ الْفِطْرِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌42 - بَاب لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ

1459 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ الْمَازِنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ التَّمْرِ صَدَقَةٌ،

ص: 322

وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنْ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ مِنْ الْإِبِلِ صَدَقَةٌ.

قَوْلُهُ: (بَابُ لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ) الذَّوْدُ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: أَضَافَ خَمْسَ إِلَى ذَوْدٍ، وَهُوَ مُذَكَّرٌ، لِأَنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ، وَأَضَافَهُ إِلَى الْجَمْعِ، لِأَنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْمُفْرَدِ وَالْجَمْعِ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ قُتَيْبَةَ: إِنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ فَقَطْ، فَلَا يَدْفَعُ مَا نَقَلَهُ غَيْرُهُ أَنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْجَمْعِ. انْتَهَى. وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّ الذَّوْدَ مِنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ، وَأَنَّهُ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: مِنَ الثِّنْتَيْنِ إِلَى الْعَشَرَةِ. قَالَ: وَهُوَ يَخْتَصُّ بِالْإِنَاثِ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: تَقُولُ ثَلَاثُ ذَوْدٍ، لِأَنَّ الذَّوْدَ مُؤَنَّثٌ، وَلَيْسَ بِاسْمٍ كُسِّرَ عَلَيْهِ مُذَكَّرٌ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَصْلُهُ ذَادَ يَذُودُ إِذَا دَفَعَ شَيْئًا فَهُوَ مَصْدَرٌ، وَكَأَنَّ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ دَفَعَ عَنْ نَفْسِهِ مَعَرَّةَ الْفَقْرِ وَشِدَّةَ الْفَاقَةِ وَالْحَاجَةِ. وَقَوْلُهُ: مِنَ الْإِبِلِ بَيَانٌ لِلذَّوْدِ. وَأَنْكَرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ أَنْ يُرَادَ بِالذَّوْدِ الْجَمْعُ، وَقَالَ: لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ خَمْسُ ذَوْدٍ كَمَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: خَمْسُ ثَوْبٍ. وَغَلَّطَهُ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، لَكِنْ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ: تَرَكُوا الْقِيَاسَ فِي الْجَمْعِ، فَقَالُوا: خَمْسَ ذَوْدٍ لِخَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ، كَمَا قَالُوا: ثَلَاثُمِائَةٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الذَّوْدَ وَاحِدٌ فِي لَفْظِهِ، وَالْأَشْهَرُ مَا قَالَهُ الْمُتَقَدِّمُونَ: إِنَّهُ لَا يُقْصَرُ عَلَى الْوَاحِدِ.

قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ أَيْضًا: هَذِهِ التَّرْجَمَةُ تَتَعَلَّقُ بِزَكَاةِ الْإِبِلِ، وَإِنَّمَا اقْتَطَعَهَا مِنْ ثَمَّ، لِأَنَّ التَّرْجَمَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ مَسُوقَةٌ لِلْإِيجَابِ وَهَذِهِ لِلنَّفْيِ، فَلِذَلِكَ فَصَلَ بَيْنَهُمَا بِزَكَاةِ الْغَنَمِ وَتَوَابِعِهِ. كَذَا قَالَ، وَلَا يَخْفَى تَكَلُّفُهُ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ لَهَا تَعَلُّقًا بِالْغَنَمِ الَّتِي تُعْطَى فِي الزَّكَاةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْخَمْسِ شَاةٌ، وَتَعَلُّقُهَا بِزَكَاةِ الْإِبِلِ ظَاهِرٌ، فَلَهَا تَعَلُّقٌ بِهِمَا كَالَّتِي قَبْلَهَا.

قَوْلُهُ: (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ الْمَازِنِيِّ) كَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ، وَالْمَعْرُوفُ أَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، نُسِبَ إِلَى جَدِّهِ، وَنُسِبَ جَدُّهُ إِلَى جَدِّهِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِيهِ) كَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ. وَرَوَى إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ هَذَا عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى، وَعَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ. وَنَقَلَ الْبَيْهَقِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهَلِيِّ أَنَّ مُحَمَّدًا سَمِعَهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَنْفُسٍ، وَأَنَّ الطَّرِيقَيْنِ مَحْفُوظَانِ. وَقَدْ سَبَقَ بَاقِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ الْبَابِ فِي بَابِ زَكَاةِ الْوَرِقِ.

‌43 - بَاب زَكَاةِ الْبَقَرِ

وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَأَعْرِفَنَّ مَا جَاءَ اللَّهَ رَجُلٌ بِبَقَرَةٍ لَهَا خُوَارٌ وَيُقَالُ: جُؤَارٌ {تَجْأَرُونَ} تَرْفَعُونَ أَصْوَاتَكُمْ كَمَا تَجْأَرُ الْبَقَرَةُ

1460 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَيْهِ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ - أَوْ وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ أَوْ كَمَا حَلَفَ - مَا مِنْ رَجُلٍ تَكُونُ لَهُ إِبِلٌ أَوْ بَقَرٌ أَوْ غَنَمٌ لَا يُؤَدِّي حَقَّهَا إِلَّا أُتِيَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمَ مَا تَكُونُ وَأَسْمَنَهُ تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا كُلَّمَا جَازَتْ أُخْرَاهَا رُدَّتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ، رَوَاهُ بُكَيْرٌ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

[الحديث 1460 - طرفه في: 6638]

قَوْلُهُ: (بَابُ زَكَاةِ الْبَقَرِ) الْبَقَرُ اسْمُ جِنْسٍ يَكُونُ لِلْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ، اشْتُقَّ مِنْ: بَقَرْتُ الشَّيْءَ إِذَا شَقَقْتُهُ، لِأَنَّهَا تَبْقُرُ

ص: 323

الْأَرْضَ بِالْحِرَاثَةِ. قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: أَخَّرَ زَكَاةَ الْبَقَرِ لِأَنَّهَا أَقَلُّ النَّعَمِ وُجُودًا وَنَصْبًا، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْبَابِ شَيْئًا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِنِصَابِهَا لِكَوْنِ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ عَلَى شَرْطِهِ، فَتَقْدِيرُ التَّرْجَمَةِ إِيجَابُ زَكَاةِ الْبَقَرِ، لِأَنَّ جُمْلَةَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْبَابِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْوَعِيدِ عَلَى تَرْكِهَا، إِذْ لَا يَتَوَعَّدُ عَلَى تَرْكِ غَيْرِ الْوَاجِبِ. قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: وَهَذَا الدَّلِيلُ يَحْتَاجُ إِلَى مُقَدِّمَةٍ، وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْبَقَرِ حَقٌّ وَاجِبٌ سِوَى الزَّكَاةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ فِي أَوَائِلِ الزَّكَاةِ حَيْثُ قَالَ: بَابُ إِثْمِ مَانِعِ الزَّكَاةِ وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ، لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْبَقَرِ، وَمِنْ ثَمَّ أَوْرَدَ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثَ أَبِي ذَرٍّ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ ذِكْرَ الْبَقَرِ وَقَعَ أَيْضًا فِي طَرِيقٍ أُخْرَى فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَزَعَمَ ابْنُ بَطَّالٍ أَنَّ حَدِيثَ مُعَاذٍ الْمَرْفُوعَ: إِنَّ فِي كُلِّ ثَلَاثِينَ بَقَرَةً تَبِيعًا وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً. مُتَّصِلٌ صَحِيحٌ، وَإنَّ مِثْلَهُ فِي كِتَابِ الصَّدَقَاتِ لِأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَفِي كَلَامِهِ نَظَرٌ: أَمَّا حَدِيثُ مُعَاذٍ فَأَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ.

وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَفِي الْحُكْمِ بِصِحَّتِهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ مَسْرُوقًا لَمْ يَلْقَ مُعَاذًا وَإِنَّمَا حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ لِشَوَاهِدِهِ، فَفِي الْمُوَطَّأِ مِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ، عَنْ مُعَاذٍ نَحْوُهُ، وَطَاوُسٌ، عَنْ مُعَاذٍ مُنْقَطِعٌ أَيْضًا، وَفِي الْبَابِ عَنْ عَلِيٍّ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ مِثْلَهُ فِي كِتَابِ الصَّدَقَةِ لِأَبِي بَكْرٍ، فَوَهِمَ مِنْهُ لِأَنَّ ذِكْرَ الْبَقْرِ لَمْ يَقَعْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ، نَعَمْ هُوَ فِي كِتَابِ عُمَرَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ) هُوَ السَّاعِدِيُّ، وَهَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ مَوْصُولًا مِنْ طُرُقٍ، وَهَذَا الْقَدْرُ وَقَعَ عِنْدَهُ مَوْصُولًا فِي كِتَابِ تَرْكِ الْحِيَلِ فِي أَثْنَاءِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ: (لَأَعْرِفَنَّ) أَيْ: لَأَعْرِفَنَّكُمْ غَدًا هَذِهِ الْحَالَةَ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: لَا أَعْرِفَنَّ بِحَرْفِ النَّفْيِ أَيْ: مَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونُوا عَلَى هَذِهِ الْحَالِ فَأَعْرِفَكُمْ بِهَا.

قَوْلُهُ: (مَا جَاءَ اللَّهَ رَجُلٌ) مَا مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ: مَجِيءُ رَجُلٍ إِلَى اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (لَهَا خُوَارٌ) بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ: صَوْتُ الْبَقَرِ.

قَوْلُهُ: (وَيُقَالُ: جُؤَارٌ) هَذَا كَلَامُ الْبُخَارِيِّ، يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْحَرْفَ جَاءَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ، وَبِالْجِيمِ وَالْوَاوِ الْمَهْمُوزَةِ، ثُمَّ فَسَّرَهُ، فَقَالَ: تَجْأَرُونَ تَرْفَعُونَ أَصْوَاتَكُمْ، وَهَذِهِ عَادَةُ الْبُخَارِيِّ إِذَا مَرَّتْ بِهِ لَفْظَةٌ غَرِيبَةٌ تُوَافِقُ كَلِمَةً فِي الْقُرْآنِ نَقَلَ تَفْسِيرَ تِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي مِنَ الْقُرْآنِ، وَالتَّفْسِيرُ الْمَذْكُورُ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ، وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يَجْأَرُونَ قَالَ: يَسْتَغِيثُونَ. وَقَالَ الْقَزَّازُ: الْخُوَارُ بِالْمُعْجَمَةِ، وَالْجُؤَارُ بِالْجِيمِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ فِي الْبَقَرِ. وَقَالَ ابْنُ سِيدَهْ: خَارَ الرَّجُلُ: رَفَعَ صَوْتَهُ بِتَضَرُّعٍ.

قَوْلُهُ: (عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ) هُوَ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَيْهِ) هُوَ مَقُولُ الْمَعْرُورِ، وَالضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى أَبِي ذَرٍّ وَهُوَ الْحَالِفُ، وَقَوْلُهُ:(أَوْ كَمَا حَلَفَ) يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَضْبُطِ اللَّفْظَ الَّذِي حَلَفَ بِهِ. وَقَوْلُهُ: أَعْظَمَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ (وَأَسْمَنَهُ) عَطَفَهُ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: (جَازَتْ) أَيْ: مَرَّتْ، وَ (رُدَّتْ) أَيْ: أُعِيدَتْ.

قَوْلُهُ: (لَا يُؤَدِّي حَقَّهَا) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، وَأَبِي مُعَاوِيَةَ، كِلَاهُمَا عَنِ الْأَعْمَشِ: لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهَا؛ وَهُوَ أَصْرَحُ فِي مَقْصُودِ التَّرْجَمَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ الْمَتْنِ فِي أَوَائِلِ الزَّكَاةِ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: يَكُونُ لَهُ إِبِلٌ أَوْ بَقَرٌ عَلَى اسْتِوَاءِ زَكَاةِ الْبَقَرِ وَالْإِبِلِ فِي النِّصَابِ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ قَرَنَ مَعَهُ الْغَنَمَ وَلَيْسَ نِصَابُهَا مِثْلَ نِصَابِ الْإِبِلِ اتِّفَاقًا.

(تَنْبِيهٌ): أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي أَوَّلِ هَذَا الْحَدِيثِ قِصَّةً فِيهَا: هُمُ الْأَكْثَرُونَ أَمْوَالًا، إِلَّا مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا. وَقَدْ أَفْرَدَ الْبُخَارِيُّ هَذِهِ الْقِطْعَةَ فَأَخْرَجَهَا فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَاكَ الْقَدْرَ الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا.

قَوْلُهُ: (رَوَاهُ بُكَيْرٌ) يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ، وَمُرَادُ الْبُخَارِيِّ بِذَلِكَ مُوَافَقَةُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ لِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ فِي ذِكْرِ الْبَقَرِ، لِأَنَّ الْحَدِيثَيْنِ مُسْتَوَيَانِ فِي جَمِيعِ مَا وَرَدَا فِيهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مَوْصُولًا مِنْ طَرِيقِ بُكَيْرٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مُطَوَّلًا.

ص: 324

‌44 - بَاب الزَّكَاةِ عَلَى الْأَقَارِبِ

وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَهُ أَجْرَانِ: أَجْرُ الْقَرَابَةِ وَالصَّدَقَةِ

1461 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالًا مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ. قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى يَقُولُ:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: بَخٍ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ.

تَابَعَهُ رَوْحٌ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى وَإِسْمَاعِيلُ عَنْ مَالِكٍ رَايِحٌ.

[الحديث 1461 - أطرافه في: 2718، 2758، 27582769، 4555، 5611]

1462 -

حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ أَخْبَرَنِي زَيْدٌ هُوَ ابْنُ أَسْلَمَ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه "خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَضْحًى أَوْ فِطْرٍ إِلَى الْمُصَلَّى ثُمَّ انْصَرَفَ فَوَعَظَ النَّاسَ وَأَمَرَهُمْ بِالصَّدَقَةِ فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ تَصَدَّقُوا فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ فَقُلْنَ وَبِمَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ ثُمَّ انْصَرَفَ فَلَمَّا صَارَ إِلَى مَنْزِلِهِ جَاءَتْ زَيْنَبُ امْرَأَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ تَسْتَأْذِنُ عَلَيْهِ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ زَيْنَبُ فَقَالَ أَيُّ الزَّيَانِبِ فَقِيلَ امْرَأَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ نَعَمْ ائْذَنُوا لَهَا فَأُذِنَ لَهَا قَالَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّكَ أَمَرْتَ الْيَوْمَ بِالصَّدَقَةِ وَكَانَ عِنْدِي حُلِيٌّ لِي فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ فَزَعَمَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ وَوَلَدَهُ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَلَيْهِمْ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صَدَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتِ بِهِ عَلَيْهِمْ"

قَوْلُهُ: (بَابُ الزَّكَاةِ عَلَى الْأَقَارِبِ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: وَوَجْهُ اسْتِدْلَالِهِ لِذَلِكَ بِأَحَادِيثَ الْبَابِ أَنَّ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ عَلَى الْأَقَارِبِ لَمَّا لَمْ يَنْقُصْ أَجْرُهَا بِوُقُوعِهَا مَوْقِعَ الصَّدَقَةِ وَالصِّلَةِ مَعًا كَانَتْ صَدَقَةُ الْوَاجِبِ كَذَلِكَ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ عَلَى مَنْ يَلْزَمُ الْمَرْءَ نَفَقَتُهُ أَنْ تَكُونَ الصَّدَقَةُ الْوَاجِبَةُ كَذَلِكَ. وَقَدِ اعْتَرَضَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ ب أَنَّ الَّذِي فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرَهَا مُطْلَقُ الصَّدَقَةِ لَا الصَّدَقَةُ الْوَاجِبَةُ، فَلَا يَتِمُّ اسْتِدْلَالُهُ إِلَّا إِنْ أَرَادَ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى أَنَّ الْأَقَارِبَ فِي الزَّكَاةِ أَحَقُّ بِهَا إِذْ رَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَرْفَ الصَّدَقَةِ الْمُتَطَوَّعِ بِهَا إِلَى الْأَقَارِبِ أَفْضَلُ فذَلِكَ حِينَئِذٍ لَهُ وَجْهٌ. وقَالَ ابْنُ

ص: 325

رَشِيدٍ: قَدْ يُؤْخَذُ مَا اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ فِيمَا فَهِمَهُ مِنَ الْآيَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّفَقَةَ فِي قَوْلِهِ:{حَتَّى تُنْفِقُوا} أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا، فَعَمِلَ بِهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا فِي بَقِيَّةِ مُفْرَدَاتِهِ، وَلَا يُعَارِضُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} الْآيَةَ، لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى حَصْرِ الصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ فِي الْمَذْكُورِينَ. وَأَمَّا صَنِيعُ أَبِي طَلْحَةَ فَيَدُلُّ عَلَى تَقْدِيمِ ذَوِي الْقُرْبَى إِذَا اتَّصَفُوا بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ أَهْلِ الصَّدَقَةِ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ مَنْ يُسْتَثْنَى مِنَ الْأَقَارِبِ فِي الصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ بَعْدَ بَابَيْنِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَهُ أَجْرَانِ أَجْرُ الْقَرَابَةِ وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ فِيهِ لِامْرَأَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَسَيَأْتِي مَوْصُولًا بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَيْنِ: حَدِيثُ أَنَسٍ فِي تَصَدُّقِ أَبِي طَلْحَةَ بِأَرْضِهِ، وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فِي قِصَّةِ امْرَأَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْوَقْفِ.

وقَوْلُهُ فِيهِ: بَيْرَحَاءَ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَبِالْمُهْمَلَةِ وَالْمَدِّ، وَجَاءَ فِي ضَبْطِهِ أَوْجُهٌ كَثِيرَةٌ جَمَعَهَا ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ، فَقَالَ: يُرْوَى بِفَتْحِ الْبَاءِ وَبِكَسْرِهَا وَبِفَتْحِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا وَبِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ، فَهَذِهِ ثَمَانِ لُغَاتٍ. وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بَرِيحَا بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَتَقْدِيمِهَا عَلَى التَّحْتَانِيَّةِ، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ: بَارِيحَا مِثْلُهُ لَكِنْ بِزِيَادَةِ أَلِفٍ، وَقَالَ الْبَاجِيُّ: أَفْصَحُهَا بِفَتْحِ الْبَاءِ وَسُكُونِ الْيَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ مَقْصُورٌ، وَكَذَا جَزَمَ بِهِ الصَّغَانِيُّ، وَقَالَ: إِنَّهُ فَيْعَلَى مِنَ الْبَرَاحِ، قَالَ: وَمَنْ ذَكَرَهُ بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَظَنَّ أَنَّهَا بِئْرٌ مِنْ آبَارِ الْمَدِينَةِ فَقَدْ صَحَّفَ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ رَوْحٌ) يَعْنِي عَنْ مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: رَابِحٌ بِالْمُوَحَّدَةِ، وَسَيَأْتِي مِنْ طَرِيقِهِ مَوْصُولًا فِي الْبُيُوعِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَإِسْمَاعِيلُ، عَنْ مَالِكٍ: رَايِحٌ) يَعْنِي بِالتَّحْتَانِيَّةِ، أَمَّا رِوَايَةُ يَحْيَى فَسَتَأْتِي مَوْصُولَةً فِي الْوَكَالَةِ وَعَزَاهَا مُغَلْطَايْ لِتَخْرِيجِ الدَّارَقُطْنِيِّ فَأَبْعَدَ، وَأَمَّا رِوَايَةُ إِسْمَاعِيلَ، وَهُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ فَوَصَلَهَا الْمُصَنِّفُ فِي التَّفْسِيرِ، وَقَدْ وَهِمَ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ فَقَالَ: رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى بِالْمُوَحَّدَةِ، وَكَأَنَّهُ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْأَنْدَلُسِيُّ، بِالنَّيْسَابُورِيِّ، فَالَّذِي عَنَاهُ هُوَ الْأَنْدَلُسِيُّ وَالَّذِي عَنَاهُ الْبُخَارِيُّ، النَّيْسَابُورِيَّ، قَالَ الدَّانِيُّ فِي أَطْرَافِهِ: رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى الْأَنْدَلُسِيُّ بِالْمُوَحَّدَةِ، وَتَابَعَهُ جَمَاعَةٌ، وَرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى النَّيْسَابُورِيُّ بِالْمُثَنَّاةِ، وَتَابَعَهُ إِسْمَاعِيلُ، وَابْنُ وَهْبٍ، وَرَوَاهُ الْقَعْنَبِيُّ بِالشَّكِّ اهـ. وَرِوَايَةُ الْقَعْنَبِيِّ وَصَلَهَا الْبُخَارِيُّ فِي الْأَشْرِبَةِ بِالشَّكِّ كَمَا قَالَ، وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى وَاضِحَةٌ مِنَ الرِّبْحِ، أَيْ: ذُو رِبْحٍ، وَقِيلَ: هُوَ فَاعِلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ: هُوَ مَالٌ مَرْبُوحٌ فِيهِ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَمَعْنَاهَا رَائِحٌ عَلَيْهِ أَجْرُهُ، قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وَالْمَعْنَى أَنَّ مَسَافَتَهُ قَرِيبَةٌ، وَذَلِكَ أَنْفَسُ الْأَمْوَالِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يَرُوحُ بِالْأَجْرِ وَيَغْدُو بِهِ، وَاكْتَفَى بِالرَّوَاحِ عَنِ الْغُدُوِّ. وَادَّعَى الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَنَّ مَنْ رَوَاهَا بِالتَّحْتَانِيَّةِ فَقَدْ صَحَّفَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى صَدْرِهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْحَيْضِ، وَبَقِيَّةُ مَا فِيهِ مِنْ قِصَّةِ امْرَأَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ بَعْدَ بَابَيْنِ مُسْتَوْفًى، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَوْلُهُ فِيهِ: فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ زَيْنَبُ الْقَائِلُ هُوَ بِلَالٌ كَمَا سَيَأْتِي، وَقَوْلُهُ ائْذَنُوا لَهَا، فَأَذِنَ لَهَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِلَخْ لَمْ يُبَيِّنْ أَبُو سَعِيدٍ مِمَّنْ سَمِعَ ذَلِكَ، فَإِنْ يَكُنْ حَاضِرًا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَالَ الْمُرَاجَعَةِ الْمَذْكُورَةِ فَهُوَ مِنْ مُسْنَدِهِ، وَإِلَّا فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَمْلُهُ عَنْ زَيْنَبَ صَاحِبَةِ الْقِصَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌45 - بَاب لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي فَرَسِهِ صَدَقَةٌ

1463 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ

ص: 326

مَالِكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي فَرَسِهِ وَغُلَامِهِ صَدَقَةٌ.

‌46 - بَاب لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ صَدَقَةٌ

1464 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ خُثَيْمِ بْنِ عِرَاكٍ بن مالك عن أبيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ صَدَقَةٌ فِي عَبْدِهِ وَلَا فِي فَرَسِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابٌ: لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي فَرَسِهِ صَدَقَةٌ) وَقَالَ فِي الَّذِي يَلِيهِ (لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ صَدَقَةٌ) ثُمَّ أَوْرَدَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ التَّرْجَمَتَيْنِ مَجْمُوعًا مِنْ طَرِيقَيْنِ، لَكِنْ فِي الْأُولَى بِلَفْظِ: غُلَامِهِ بَدَلَ عَبْدِهِ، قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: أَرَادَ بِذَلِكَ الْجِنْسَ فِي الْفَرَسِ وَالْعَبْدِ لَا الْفَرْدَ الْوَاحِدَ، إِذْ لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ فِي الْعَبْدِ الْمُتَصَرِّفِ وَالْفَرَسِ الْمُعَدِّ لِلرُّكُوبِ، وَلَا خِلَافَ أَيْضًا أَنَّهَا لَا تُؤْخَذُ مِنَ الرِّقَابِ، وَإِنَّمَا قَالَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ: يُؤْخَذُ مِنْهَا بِالْقِيمَةِ. وَلَعَلَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ إِلَى حَدِيثِ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا: قَدْ عَفَوْتُ عَنِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ فَهَاتُوا صَدَقَةَ الرِّقَةِ. الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إِذَا كَانَتِ الْخَيْلُ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا نَظَرَا إِلَى النَّسْلِ، فَإِذَا انْفَرَدَتْ فَعَنْهُ رِوَايَتَانِ، ثُمَّ عِنْدَهُ أَنَّ الْمَالِكَ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يُخْرِجَ عَنْ كُلِّ فَرَسٍ دِينَارًا أَوْ يُقَوَّمَ وَيُخْرِجَ رُبْعَ الْعُشْرِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ. وَأُجِيبَ بِحَمْلِ النَّفْيِ فِيهِ عَلَى الرَّقَبَةِ لَا عَلَى الْقِيمَةِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ بِعَدَمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِمَا مُطْلَقًا، وَلَوْ كَانَا لِلتِّجَارَةِ، وَأُجِيبُوا بِأَنَّ زَكَاةَ التِّجَارَةِ ثَابِتَةٌ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ، فَيُخَصُّ بِهِ عُمُومُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌47 - بَاب الصَّدَقَةِ عَلَى الْيَتَامَى

1465 -

حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ هِلَالِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ، حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رضي الله عنه يُحَدِّثُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَلَسَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمِنْبَرِ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ فَقَالَ: إِنَّ مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ فَسَكَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. فَقِيلَ لَهُ: مَا شَأْنُكَ تُكَلِّمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَلَا يُكَلِّمُكَ؟ فَرَأَيْنَا أَنَّهُ يُنْزَلُ عَلَيْهِ، قَالَ: فَمَسَحَ عَنْهُ الرُّحَضَاءَ فَقَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ - وَكَأَنَّهُ حَمِدَهُ - فَقَالَ: إِنَّهُ لَا يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ، وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ أَوْ يُلِمُّ، إِلَّا آكِلَةَ الْخَضْرَاءِ، أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَدَّتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ عَيْنَ الشَّمْسِ فَثَلَطَتْ وَبَالَتْ وَرَتَعَتْ، وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ مَا أَعْطَى مِنْهُ الْمِسْكِينَ وَالْيَتِيمَ وَابْنَ السَّبِيلِ - أَوْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّهُ مَنْ يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، وَيَكُونُ شَهِيدًا عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّدَقَةِ عَلَى الْيَتَامَى) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: عَبَّرَ بِالصَّدَقَةِ دُونَ الزَّكَاةِ لِتَرَدُّدِ الْخَبَرِ بَيْنَ صَدَقَةِ الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ، لِكَوْنِ ذِكْرِ الْيَتِيمِ جَاءَ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْمِسْكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، وَهُمَا مِنْ مَصَارِفِ الزَّكَاةِ.

وَقَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: لَمَّا

ص: 327

قَالَ بَابٌ لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي فَرَسِهِ صَدَقَةٌ عُلِمَ أَنَّهُ يُرِيدُ الْوَاجِبَةَ إِذْ لَا خِلَافَ فِي التَّطَوُّعِ، فَلَمَّا قَالَ الصَّدَقَةُ عَلَى الْيَتَامَى أَحَالَ عَلَى مَعْهُودٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا هِشَامٌ) هُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ (عَنْ يَحْيَى) هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْمَتْنِ مُسْتَوْفًى فِي الرِّقَاقِ.

وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ: (إِنَّ مِمَّا أَخَافُ) فِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ إِنِّي مِمَّا أَخَافُ، وَقَوْلُهُ:(فَرَأَيْنَا أَنَّهُ يُنْزَلُ عَلَيْهِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَأُرِينَا بِتَقْدِيمِ الْهَمْزَةِ، وَقَوْلُهُ:(إِلَّا آكِلَةَ الْخَضِرِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ الْخَضِرَاءِ بِزِيَادَةِ أَلِفٍ، وَقَوْلُهُ: (أَوْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَكٌّ مِنْ يَحْيَى. وَسَيَأْتِي فِي الْجِهَادِ مِنْ طَرِيقِ فُلَيْحٍ، عَنْ هِلَالٍ بِلَفْظِ: فَجَعَلَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ.

‌48 - بَاب الزَّكَاةِ عَلَى الزَّوْجِ وَالْأَيْتَامِ فِي الْحَجْرِ

قَالَهُ أَبُو سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

1466 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي شَقِيقٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما، قَالَ: فَذَكَرْتُهُ لِإِبْرَاهِيمَ فَحَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بِمِثْلِهِ سَوَاءً قَالَتْ: كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ، وَكَانَتْ زَيْنَبُ تُنْفِقُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَأَيْتَامٍ فِي حَجْرِهَا، فَقَالَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ: سَلْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيَجْزِي عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَيْكَ وَعَلَى أَيْتَامِي فِي حَجْرِي مِنْ الصَّدَقَةِ؟ فَقَالَ: سَلِي أَنْتِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَانْطَلَقْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَوَجَدْتُ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى الْبَابِ حَاجَتُهَا مِثْلُ حَاجَتِي، فَمَرَّ عَلَيْنَا بِلَالٌ فَقُلْنَا: سَلْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَيَجْزِي عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَى زَوْجِي وَأَيْتَامٍ لِي فِي حَجْرِي، وَقُلْنَا: لَا تُخْبِرْ بِنَا، فَدَخَلَ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: مَنْ هُمَا؟ قَالَ: زَيْنَبُ، قَالَ: أَيُّ الزَّيَانِبِ؟ قَالَ: امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: نَعَمْ، وَلَهَا أَجْرَانِ: أَجْرُ الْقَرَابَةِ وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ.

1467 -

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِيَ أَجْرٌ أَنْ أُنْفِقَ عَلَى بَنِي أَبِي سَلَمَةَ؟ إِنَّمَا هُمْ بَنِيَّ. فَقَالَ أَنْفِقِي عَلَيْهِمْ فَلَكِ أَجْرُ مَا أَنْفَقْتِ عَلَيْهِمْ"

[الحديث 1466 - طرفه في: 5369]

قَوْلُهُ: (بَابُ الزَّكَاةِ عَلَى الزَّوْجِ وَالْأَيْتَامِ فِي الْحِجْرِ، قَالَهُ أَبُو سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُشِيرُ إِلَى حَدِيثِهِ السَّابِقِ مَوْصُولًا فِي: بَابِ الزَّكَاةِ عَلَى الْأَقَارِبِ، وَسَنَذْكُرُ مَا فِيهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ.

قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: أَعَادَ الْأَيْتَامَ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ لِعُمُومِ الْأُولَى وَخُصُوصِ الثَّانِيَةِ، وَمَحْمَلُ الْحَدِيثَيْنِ فِي وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ بِهِمَا عَلَى الْعُمُومِ لِأَنَّ الْإِعْطَاءَ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ) هُوَ ابْنُ أَبِي ضِرَارٍ - بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ - الْخُزَاعِيُّ، ثُمَّ الْمُصْطَلِقِيُّ أَخُو جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لَهُ صُحْبَةٌ، وَرَوَى هُنَا عَنْ صَحَابِيَّةٍ، فَفِي الْإِسْنَادِ تَابِعِيٌّ عَنْ تَابِعِيٍّ الْأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقٍ، وَصَحَابِيٌّ عَنْ صَحَابِيٍّ عَمْرٌو عَنْ زَيْنَبَ، وَهِيَ بِنْتُ مُعَاوِيَةَ - وَيُقَالُ: بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاوِيَةَ - ابْنِ عَتَّابٍ الثَّقَفِيَّةُ، وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا: رَائِطَةُ، وَقَعَ ذَلِكَ فِي: صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ فِي نَحْوِ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَيُقَالُ: هُمَا ثِنْتَانِ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَمِمَّنْ جَزَمَ بِهِ ابْنُ سَعْدٍ، وَقَالَ الْكَلَابَاذِيُّ: رَائِطَةُ هِيَ الْمَعْرُوفَةُ بِزَيْنَبَ، وَبِهَذَا جَزَمَ الطَّحَاوِيُّ فَقَالَ: رَائِطَةُ هِيَ زَيْنَبُ لَا يُعْلَمُ

ص: 328

أَنَّ لِعَبْدِ اللَّهِ امْرَأَةً فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَيْرُهَا، وَوَقَعَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، عَنْ هَنَّادٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْمُصْطَلِقِ، عَنِ ابْنِ أَخِي زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ، فَزَادَ فِي الْإِسْنَادِ رَجُلًا، وَالْمَوْصُوفُ بِكَوْنِهِ ابْنَ أَخِي زَيْنَبَ هُوَ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ نَفْسُهُ، وَكَأنَ أَبَاهُ كَانَ أَخَا زَيْنَبَ لِأُمِّهَا، لِأَنَّهَا ثَقَفِيَّةٌ وَهُوَ خُزَاعِيٌّ.

وَوَقَعَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ ابْنِ أَخِي زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ زَيْنَبَ، فَجَعَلَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، هَكَذَا جَزَمَ بِهِ الْمِزِّيُّ، وَعَقَدَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِي الْأَطْرَافِ تَرْجَمَةً لَمْ يَزِدْ فِيهَا عَلَى مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى ذَلِكَ فِي التِّرْمِذِيِّ، بَلْ وَقَفْتُ عَلَى عِدَّةِ نُسَخٍ مِنْهُ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، وَقَدْ حَكَى ابْنُ الْقَطَّانِ الْخِلَافَ فِيهِ عَلَى أَبِي مُعَاوِيَةَ، وَشُعْبَةَ، وَخَالَفَ التِّرْمِذِيَّ فِي تَرْجِيحِ رِوَايَةِ شُعْبَةَ فِي قَوْلِهِ: عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنِ ابْنِ أَخِي زَيْنَبَ لِانْفِرَادِ أَبِي مُعَاوِيَةَ بِذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: لَا يَضُرُّهُ الِانْفِرَادُ لِأَنَّهُ حَافِظٌ، وَقَدْ وَافَقَهُ حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَقَدْ زَادَ فِي الْإِسْنَادِ رَجُلًا، لَكِنْ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُتَوَقَّفَ فِي صِحَّةِ الْإِسْنَادِ لِأَنَّ ابْنَ أَخِي زَيْنَبَ حِينَئِذٍ لَا يُعْرَفُ حَالُهُ. وَقَدْ حَكَى التِّرْمِذِيُّ فِي: الْعِلَلِ الْمُفْرَدَاتِ أَنَّهُ سَأَلَ الْبُخَارِيَّ عَنْهُ، فَحَكَمَ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ بِالْوَهْمِ، وَأَنَّ الصَّوَابَ رِوَايَةُ الْجَمَاعَةِ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ ابْنِ أَخِي زَيْنَبَ. قُلْتُ: وَوَافَقَهُ مَنْصُورٌ عَنْ شَقِيقٍ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَلَعَلَّ أَبَا وَائِلٍ حَمَلَهُ عَنِ الْأَبِ وَالِابْنِ، وَإِلَّا فَالْمَحْفُوظُ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَلَى الصَّوَابِ، فَقَالَ: عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ: فَذَكَرْتُهُ لِإِبْرَاهِيمَ) الْقَائِلُ هُوَ الْأَعْمَشُ، وَإِبْرَاهِيمُ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ النَّخَعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَفِي هَذِهِ الطَّرِيقِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ، وَرِجَالُ الطَّرِيقَيْنِ كُلُّهُمْ كُوفِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ فَرَأَيْتُ. . . إِلَخْ) فِي هَذَا زِيَادَةٌ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمُتَقَدِّمِ، وَبَيَانُ السَّبَبِ فِي سُؤَالِهَا ذَلِكَ. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَةِ الْأَيْتَامِ الَّذِينَ كَانُوا فِي حِجْرِهَا.

قَوْلُهُ: (فَوَجَدْتُ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ) فِي رِوَايَةِ الطَّيَالِسِيِّ الْمَذْكُورَةِ: فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهَا زَيْنَبُ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، وَزَادَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: انْطَلَقَتِ امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ - يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ - وَامْرَأَةُ أَبِي مَسْعُودٍ، يَعْنِي عُقْبَةَ بْنَ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيَّ. قُلْتُ: لَمْ يَذْكُرِ ابْنُ سَعْدٍ، لِأَبِي مَسْعُودٍ امْرَأَةً أَنْصَارِيَّةً سِوَى هُزَيْلَةَ بِنْتِ ثَابِتِ بْنِ ثَعْلَبَةَ الْخَزْرَجِيَّةَ، فَلَعَلَّ لَهَا اسْمَيْنِ، أَوْ وَهِمَ مَنْ سَمَّاهَا زَيْنَبَ انْتِقَالًا مِنَ اسْمِ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى اسْمِهَا.

قَوْلُهُ: (وَأَيْتَامٍ لِي فِي حِجْرِي) فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ الْمَذْكُورَةِ: عَلَى أَزْوَاجِنَا وَأَيْتَامٍ فِي حُجُورِنَا. وَفِي رِوَايَةِ الطَّيَالِسِيِّ الْمَذْكُورَةِ أَنَّهُمْ بَنُو أَخِيهَا وَبَنُو أُخْتِهَا. وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَلْقَمَةَ لِإِحْدَاهُمَا فَضْلُ مَالٍ وَفِي حِجْرِهَا بَنُو أَخٍ لَهَا أَيْتَامٌ، وَلِلْأُخْرَى فَضْلُ مَالٍ وَزَوْجٌ خَفِيفُ ذَاتِ الْيَدِ وَهَذَا الْقَوْلُ كِنَايَةً عَنِ الْفَقْرِ.

قَوْلُهُ: (وَلَهَا أَجْرَانِ: أَجْرُ الْقَرَابَةِ وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ) أَيْ: أَجْرُ صِلَةِ الرَّحِمِ وَأَجْرُ مَنْفَعَةِ الصَّدَقَةِ، وَهَذَا ظَاهِرُهُ أَنَّهَا لَمْ تُشَافِهْهُ بِالسُّؤَالِ وَلَا شَافَهَهَا بِالْجَوَابِ، وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ السَّابِقِ بِبَابَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا شَافَهَتْهُ وَشَافَهَهَا لِقَوْلِهَا فِيهِ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّكَ أَمَرْتَ. وَقَوْلُهُ فِيهِ: صَدَقَ زَوْجُكِ. فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَا قِصَّتَيْنِ، وَيَحْتَمِلُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَنْ يُقَالَ: تُحْمَلُ هَذِهِ الْمُرَاجَعَةُ عَلَى الْمَجَازِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ عَلَى لِسَانِ بِلَالٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ دَفْعِ الْمَرْأَةِ زَكَاتَهَا إِلَى زَوْجِهَا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ وَصَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ وَعَنْ أَحْمَدَ، كَذَا أَطْلَقَ بَعْضُهُمْ وَرِوَايَةُ الْمَنْعِ عَنْهُ مُقَيَّدَةٌ بِالْوَارِثِ، وَعِبَارَةُ الْجَوْزَقِيِّ: وَلَا لِمَنْ تَلْزَمُهُ مَؤنَتُهُ، فَشَرَحَهُ ابْنُ قُدَامَةَ بِمَا قَيَّدْتُهُ، قَالَ: وَالْأَظْهَرُ الْجَوَازُ مُطْلَقًا

ص: 329

إِلَّا لِلْأَبَوَيْنِ وَالْوَلَدِ، وَحَمَلُوا الصَّدَقَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى الْوَاجِبَةِ لِقَوْلِهَا: أَتُجْزِئُ عَنِّي وَبِهِ جَزَمَ الْمَازِرِيُّ، وَتَعَقَّبَهُ عِيَاضٌ بِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ وَكَوْنَ صَدَقَتِهَا كَانَتْ مِنْ صِنَاعَتِهَا يَدُلَّانِ عَلَى التَّطَوُّعِ، وَبِهِ جَزَمَ النَّوَوِيُّ وَتَأَوَّلُوا قَوْلَهُ: أَتُجْزِئُ عَنِّي؛ أَيْ: فِي الْوِقَايَةِ مِنَ النَّارِ، كَأَنَّهَا خَافَتْ أَنَّ صَدَقَتَهَا عَلَى زَوْجِهَا لَا تُحَصِّلُ لَهَا الْمَقْصُودَ.

وَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ مِنَ الصِّنَاعَةِ احْتَجَّ بِهِ الطَّحَاوِيُّ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ رَائِطَةَ امْرَأَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهَا كَانَتِ امْرَأَةً صَنْعَاءَ الْيَدَيْنِ، فَكَانَتْ تُنْفِقُ عَلَيْهِ وَعَلَى وَلَدِهِ، قَالَ: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا صَدَقَةُ تَطَوُّعٍ، وَأَمَّا الْحُلِيُّ فَإِنَّمَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى مَنْ لَا يُوجِبُ فِيهِ الزَّكَاةَ، وَأَمَّا مَنْ يُوجِبُ فَلَا. وَقَدْ رَوَى الثَّوْرِيُّ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، قَالَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ لِامْرَأَتِهِ فِي حُلِيِّهَا: إِذَا بَلَغَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَفِيهِ الزَّكَاةُ. فَكَيْفَ يُحْتَجُّ عَلَى الطَّحَاوِيِّ بِمَا لَا يَقُولُ بِهِ، لَكِنْ تَمَسَّكَ الطَّحَاوِيُّ بِقَوْلِهَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ السَّابِقِ: وَكَانَ عِنْدِي حُلِيٌّ لِي فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ. لِأَنَّ الْحُلِيَّ وَلَوْ قِيلَ: بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ إِلَّا أَنَّهَا لَا تَجِبُ فِي جَمِيعِهِ، كَذَا قَالَ: وَهُوَ مُتَعَقَّبٌ، لِأَنَّهَا وَإِنْ لَمْ تَجِبْ فِي عَيْنِهِ فَقَدْ تَجِبُ فِيهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ قَدْرُ النِّصَابِ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهَا إِخْرَاجُهُ، وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَذْكُورِ: زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتِ بِهِ عَلَيْهِمْ. دَالٌّ عَلَى أَنَّهَا صَدَقَةُ تَطَوُّعٍ، لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ، وَفِي هَذَا الِاحْتِجَاجِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الَّذِي يَمْتَنِعُ إِعْطَاؤُهُ مِنَ الصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ مَنْ يَلْزَمُ الْمُعْطِيَ نَفَقَتَهُ، وَالْأُمُّ لَا يَلْزَمُهَا نَفَقَةُ وَلَدِهَا مَعَ وُجُودِ أَبِيهِ. وَقَالَ ابْنُ التَّيْمِيِّ: قَوْلُهُ: وَوَلَدَكِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْإِضَافَةَ لِلتَّرْبِيَةِ لَا لِلْوِلَادَةِ، فَكَأَنَّهُ وَلَدُهُ مِنْ غَيْرِهَا.

وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: اعْتَدَ مَنْ مَنَعَهَا مِنَ إِعْطَائِهَا زَكَاتَهَا لِزَوْجِهَا بِأَنَّهَا تَعُودُ إِلَيْهَا فِي النَّفَقَةِ، فَكَأَنَّهَا مَا خَرَجَتْ عَنْهَا، وَجَوَابُهُ: أَنَّ احْتِمَالَ رُجُوعِ الصَّدَقَةِ إِلَيْهَا وَاقِعٌ فِي التَّطَوُّعِ أَيْضًا، وَيُؤَيِّدُ الْمَذْهَبَ الْأَوَّلَ أَنَّ تَرْكَ الِاسْتِفْصَالِ يُنَزَّلُ الْعُمُومِ، فَلَمَّا ذُكِرَتِ الصَّدَقَةُ وَلَمْ يَسْتَفْصِلْهَا عَنْ تَطَوُّعٍ وَلَا وَاجِبٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: تُجْزِئُ عَنْكِ فَرْضًا كَانَ أَوْ تَطَوُّعًا. وَأَمَّا وَلَدُهَا فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهَا تُعْطِي وَلَدَهَا مِنْ زَكَاتِهَا، بَلْ مَعْنَاهُ إِذَا أَعْطَتْ زَوْجَهَا فَأَنْفَقَهُ عَلَى وَلَدِهَا أَحَقَّ مِنَ الْأَجَانِبِ، فَالْإِجْزَاءُ يَقَعُ بِالْإِعْطَاءِ لِلزَّوْجِ وَالْوُصُولِ إِلَى الْوَلَدِ بَعْدَ بُلُوغِ الزَّكَاةِ مَحِلَّهَا. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُمَا قَضِيَّتَانِ: إِحْدَاهُمَا فِي سُؤَالِهَا عَنْ تَصَدُّقِهَا بِحُلِّيِّهَا عَلَى زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ، وَالْأُخْرَى فِي سُؤَالِهَا عَنِ النَّفَقَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى الصَّدَقَةِ عَلَى الْأَقَارِبِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ فِي الْوَاجِبَةِ عَلَى مَنْ لَا يَلْزَمُ الْمُعْطِيَ نَفَقَتُهُ مِنْهُمْ، وَاخْتُلِفَ فِي عِلَّةِ الْمَنْعِ، فَقِيلَ: لِأَنَّ أَخْذَهُمْ لَهَا يُصَيِّرُهُمْ أَغْنِيَاءَ فَيَسْقُطُ بِذَلِكَ نَفَقَتُهُمْ عَنِ الْمُعْطِي، أَوْ لِأَنَّهُمْ أَغْنِيَاءُ بِإِنْفَاقِهِ عَلَيْهِمْ، وَالزَّكَاةُ لَا تُصْرَفُ لِغَنِيٍّ. وَعَنِ الْحَسَنِ، وَطَاوُسٍ: لَا يُعْطِي قَرَابَتَهُ مِنَ الزَّكَاةِ شَيْئًا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ لَا يُعْطِي زَوْجَتَهُ مِنَ الزَّكَاةِ، لِأَنَّ نَفَقَتَهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ فَتَسْتَغْنِي بِهَا عَنِ الزَّكَاةِ، وَأَمَّا إِعْطَاؤُهَا لِلزَّوْجِ فَاخْتُلِفَ فِيهِ كَمَا سَبَقَ.

وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى صِلَةِ الرَّحِمِ وَجَوَازِ تَبَرُّعِ الْمَرْأَةِ بِمَالِهَا بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا. وَفِيهِ عِظَةُ النِّسَاءِ، وَتَرْغِيبُ وَلِيِّ الْأَمْرِ فِي أَفْعَالِ الْخَيْرِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَالتَّحَدُّثُ مَعَ النِّسَاءِ الْأَجَانِبِ عِنْدَ أَمْنِ الْفِتْنَةِ، وَالتَّخْوِيفُ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ بِالذُّنُوبِ وَمَا يُتَوَقَّعُ بِسَبَبِهَا مِنَ الْعَذَابِ. وَفِيهِ فُتْيَا الْعَالِمِ مَعَ وُجُودِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، وَطَلَبُ التَّرَقِّي فِي تَحَمُّلِ الْعِلْمِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَيْسَ إِخْبَارُ بِلَالٍ بِاسْمِ الْمَرْأَتَيْنِ بَعْدَ أَنِ اسْتَكْتَمَتَاهُ بِإِذَاعَةِ السِرِّ وَلَا كَشْفِ أَمَانَةٍ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمَا لَمْ تُلْزِمَاهُ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا عُلِمَ أَنَّهُمَا رَأَتَا أَنْ لَا ضَرُورَةَ

(1)

تُحْوِجُ إِلَى كِتْمَانِهِمَا.

ثَانِيهِمَا: أَنَّهُ أَخْبَرَ بِذَلِكَ جَوَابًا لِسُؤَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِكَوْنِ

(1)

كذا في الأصلين اللذين بأيدينا، وفيه إشكال، ولعل الصواب "وإنما علم أن لا ضرورة"والله أعلم

ص: 330

إِجَابَتِهِ أَوْجَبَ مِنَ التَّمَسُّكِ بِمَا أَمَرَتَاهُ بِهِ مِنَ الْكِتْمَانِ، وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ الْتَزَمَ لَهُمَا بِذَلِكَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَا سَأَلَتَاهُ، وَلَا يَجِبُ إِسْعَافُ كُلِّ سَائِلٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدَةُ) هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ، وَهِشَامٌ هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ. وَفِي الْإِسْنَادِ تَابِعِيٌّ عَنْ تَابِعِيٍّ: هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ، وَصَحَابِيَّةٌ عَنْ صَحَابِيَّةٍ: زَيْنَبُ عَنْ أُمِّهَا.

قَوْلُهُ: (عَلَى بَنِي أَبِي سَلَمَةَ) أَيْ: ابْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ، وَكَانَ زَوْجَ أُمِّ سَلَمَةَ قَبْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَتَزَوَّجَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَلَهَا مِنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَمْرُ، وَمُحَمَّدُ وَزَيْنَبُ وَدُرَّةُ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الَّذِي كَانَتْ تُنْفِقُهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الزَّكَاةِ، فَكَانَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ مِنَ الْحَدِيثِ حُصُولُ الْإِنْفَاقِ عَلَى الْأَيْتَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (فَلَكِ أَجْرُ مَا أَنْفَقْتِ عَلَيْهِمْ) رَوَاهُ الْأَكْثَرُ بِالْإِضَافَةِ عَلَى أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً، وَجَوَّزَ أَبُو جَعْفَرٍ الْغَرْنَاطِيُّ نَزِيلُ حَلَبَ تَنْوِينَ أَجْرُ عَلَى أَنْ تَكُونَ مَا ظَرْفِيَّةً، ذَكَرَ ذَلِكَ لَنَا عَنْهُ الشَّيْخُ بُرْهَانُ الدِّينِ الْمُحَدِّثُ بِحَلَبَ.

‌49 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ}

وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يُعْتِقُ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ وَيُعْطِي فِي الْحَجِّ وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنْ اشْتَرَى أَبَاهُ مِنْ الزَّكَاةِ جَازَ وَيُعْطِي فِي الْمُجَاهِدِينَ وَالَّذِي لَمْ يَحُجَّ ثُمَّ تَلَا: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} الْآيَةَ فِي أَيِّهَا أَعْطَيْتَ أَجْزَأَتْ.

وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِنَّ خَالِدًا احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.

وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي لَاسٍ حَمَلَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ لِلْحَجِّ.

1468 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالصَّدَقَةِ فَقِيلَ: مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ، وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا قَدْ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتُدَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَعَمُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهِيَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ وَمِثْلُهَا مَعَهَا.

تَابَعَهُ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ، وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ هِيَ عَلَيْهِ وَمِثْلُهَا مَعَهَا.

وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: حُدِّثْتُ عَنِ الْأَعْرَجِ مِثْلِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: اقْتَطَعَ الْبُخَارِيُّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنَ التَّفْسِيرِ لِلِاحْتِيَاجِ إِلَيْهَا فِي بَيَانِ مَصَارِيفِ الزَّكَاةِ.

قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُعْتِقُ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ وَيُعْطِي فِي الْحَجِّ) وَصَلَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي: كِتَابِ الْأَمْوَالِ مِنْ طَرِيقِ حَسَّانَ بْنِ أَبِي الْأَشْرَسِ، عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا أَنْ يُعْطِيَ الرَّجُلَ مِنْ زَكَاةِ م الِهِ فِي الْحَجِّ، وَأَنْ يُعْتِقَ مِنْهُ الرَّقَبَةَ، أَخْرَجَهُ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْهُ، وَأَخْرَجَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَعْتِقْ مِنْ زَكَاةِ مَالِكَ.، وَتَابَعَ أَبَا مُعَاوِيَةَ عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، رُوِّينَاهُ فِي فَوَائِدِ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ رِوَايَةَ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَلِيٍّ الْمَرْوَزِيِّ عَنْهُ، عَنْ عَبْدَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ ابْنِ أَبِي الْأَشْرَسِ، وَلَفْظُهُ: كَانَ يُخْرِجُ زَكَاتَهُ ثُمَّ يَقُولُ: جَهِّزُوا مِنْهَا إِلَى الْحَجِّ. وَقَالَ الْمَيْمُونِيُّ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ

ص: 331

يَشْتَرِي الرَّجُلُ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ الرِّقَابَ فَيُعْتِقُ، وَيَجْعَلُ فِي ابْنِ السَّبِيلِ؟ قَالَ: نَعَمْ، ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ ذَلِكَ، وَلَا أَعْلَمُ شَيْئًا يَدْفَعُهُ. وَقَالَ الْخَلَّالُ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ هَاشِمٍ، قَالَ: قَالَ أَحْمَدُ: كُنْتُ أَرَى أَنْ يُعْتِقَ مِنَ الزَّكَاةِ، ثُمَّ كَفَفْتُ عَنْ ذَلِكَ لِأَنِّي لَمْ أَرَهُ يَصِحُّ. قَالَ حَرْبٌ: فَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: هُوَ مُضْطَرِبٌ. انْتَهَى. وَإِنَّمَا وَصَفَهُ بِالِاضْطِرَابِ لِلِاخْتِلَافِ فِي إِسْنَادِهِ عَلَى الْأَعْمَشِ كَمَا تَرَى، وَلِهَذَا لَمْ يَجْزِمْ بِهِ الْبُخَارِيُّ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَفِي الرِّقَابِ} فَقِيلَ: الْمُرَادُ شِرَاءُ الرَّقَبَةِ لِتُعْتَقَ، وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ، وَاخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ وَقَوْلُ إِسْحَاقَ، وَإِلَيْهِ مَالَ الْبُخَارِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: أَعْلَى مَا جَاءَ فِيهِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ وَأَعْلَمُ بِالتَّأْوِيلِ. وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا فِي الْمُكَاتَبِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَاللَّيْثِ وَالْكُوفِيِّينَ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ. وَفِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ، أَنَّ سَهْمَ الرِّقَابِ يُجْعَلُ نِصْفَيْنِ: نَصِفٌ لِكُلِّ مُكَاتَبٍ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ، وَنِصْفٌ يَشْتَرِى بِهَا رِقَاب مِمَّنْ صَلَّى وَصَامَ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ فِي الْأَمْوَالِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ كَتَبَ ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَاحْتَجَّ لِلْأَوَّلِ بِأَنَّهَا لَوِ اخْتَصَّتْ بِالْمُكَاتَبِ لَدَخَلَ فِي حُكْمِ الْغَارِمِينَ، لِأَنَّهُ غَارِمٌ، وَبِأَنَّ شِرَاءَ الرَّقِيقِ لِيُعْتَقَ أَوْلَى مِنْ إِعَانَةِ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّهُ قَدْ يُعَانُ وَلَا يُعْتَقُ، وَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَالزَّكَاةُ لَا تُصْرَفُ لِلْعَبْدِ، وَلِأَنَّ الشِّرَاءَ يَتَيَسَّرُ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ، وَلِأَنَّ وَلَاءَهُ يَرْجِعُ لِلسَّيِّدِ فَيَأْخُذُ الْمَالَ، وَالْوَلَاءُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَإِنَّ عِتْقَهُ يَتَنَجَّزُ وَيَصِيرُ وَلَاؤُهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا الْأَخِيرُ عَلَى طَرِيقَةِ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ: يَرِدُ وَلَاؤُهُ فِي شِرَاءِ الرِّقَابِ لِلْعِتْقِ أَيْضًا. وَعَنْ مَالِكٍ: الْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ تَمَسُّكًا بِالْعُمُومِ. وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ الْعَنْبَرِيُّ: يُجْعَلُ فِي بَيْتِ الْمَالِ.

وَأَمَّا سَبِيلُ اللَّهِ، فَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْغَازِي غَنِيًّا كَانَ أَوْ فَقِيرًا إِلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: يَخْتَصُّ بِالْغَازِي الْمُحْتَاجِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ الْحَجُّ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَثَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَمَا إِنَّ الْحَجَّ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ. أَخْرَجَهُ أَبُو عُبَيْدٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْهُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: إِنْ ثَبَتَ حَدِيثُ أَبِي لَاسٍ - يَعْنِي الْآتِي فِي هَذَا الْبَابِ - قُلْتُ بِذَلِكَ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ كَانُوا فُقَرَاءَ وَحَمَلُوا عَلَيْهَا خَاصَّةً. وَلَمْ يَتَمَلَّكُوهَا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَسَنُ. . . إِلَخْ) هَذَا صَحِيحٌ عَنْهُ، أَخْرَجَ أَوَّلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِهِ، وَهُوَ مَصِيرٌ مِنْهُ إِلَى الْقَوْلِ بِالْمَسْأَلَتَيْنِ مَعًا: الاعتناق مِنَ الزَّكَاةِ، وَالصَّرْفِ مِنْهَا فِي الْحَجِّ، إِلَّا أَنَّ تَنْصِيصَهُ عَلَى شِرَاءِ الْأَبِ لَمْ يُوَافِقْهُ عَلَيْهِ الْبَاقُونَ لِأَنَّهُ يَعْتِقُ عَلَيْهِ وَلَا يَصِيرُ وَلَاؤُهُ لِلْمُسْلِمِينَ فَيَسْتَعِيدُ الْمَنْفَعَةَ وَيُوَفِّرُ مَا كَانَ يُخْرِجُهُ مِنْ خَالِصِ مَالِهِ لِدَفْعِ عَارِ اسْتِرْقَاقِ أَبِيهِ. وَقَوْلُهُ: فِي أَيِّهَا أَعْطَيْتَ جَزَتْ كَذَا فِي الْأَصْلِ بِغَيْرِ هَمْزٍ أَيْ: قَضَتْ، وَفِيهِ مَصِيرٌ مِنْهُ إِلَى أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ: لِلْفُقَرَاءِ لِبَيَانِ الْمَصْرِفِ لَا لِلتَّمْلِيكِ، فَلَوْ صَرَفَ الزَّكَاةَ فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ كَفَى.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِنَّ خَالِدًا إِلَخْ) سَيَأْتِي مَوْصُولًا فِي هَذَا الْبَابِ.

قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي لَاسٍ) بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ، خُزَاعِيٌّ اخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ فَقِيلَ: زِيَادٌ، وَقِيلَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَنَمَةَ بِمُهْمَلَةٍ وَنُونٍ مَفْتُوحَتَيْنِ، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ. لَهُ صُحْبَةٌ وَحَدِيثَانِ هَذَا أَحَدُهُمَا. وَقَدْ وَصَلَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ طَرِيقِهِ، وَلَفْظُ أَحْمَدَ: عَلَى إِبِلٍ مِنَ إِبِلِ الصَّدَقَةِ ضِعَافٌ لِلْحَجِّ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا نَرَى أَنْ تَحْمِلَ هَذِهِ. فَقَالَ: إِنَّمَا يَحْمِلُ اللَّهُ. الْحَدِيثَ. وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، إِلَّا أَنَّ فِيهِ عَنْعَنَةَ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَلِهَذَا تَوَقَّفَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي ثُبُوتِهِ.

قَوْلُهُ: (عَنِ الْأَعْرَجِ) فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ شُعَيْبٍ مِمَّا حَدَّثَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجُ مِمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ سَمَعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ: قَالَ عُمَرُ: فَذَكَرَهُ، صَرَّحَ بِالتَّحْدِيثِ فِي الْإِسْنَادِ، وَزَادَ فِيهِ عُمَرَ، وَالْمَحْفُوظُ أَنَّهُ مِنْ مُسْنَدِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَإِنَّمَا جَرَى لِعُمَرَ فِيهِ ذِكْرٌ فَقَطْ.

قَوْلُهُ: (أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالصَّدَقَةِ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ وَرْقَاءَ، عَنْ أَبِي

ص: 332

الزِّنَادِ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عُمَرَ سَاعِيًا عَلَى الصَّدَقَةِ. وَهُوَ مُشْعِرٌ بِأَنَّهَا صَدَقَةُ الْفَرْضِ، لِأَنَّ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ لَا يُبْعَثُ عَلَيْهَا السُّعَاةُ. وَقَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ الْمَالِكِيُّ: الْأَلْيَقُ أَنَّهَا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ، لِأَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِهَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ مَنَعُوا الْفَرْضَ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُمْ مَا مَنَعُوهُ كُلُّهُمْ جَحْدًا وَلَا عِنَادًا، أَمَّا ابْنُ جَمِيلٍ فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ مُنَافِقًا، ثُمَّ تَابَ بَعْدَ ذَلِكَ، كَذَا حَكَاهُ الْمُهَلَّبُ، وَجَزَمَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي تَعْلِيقِهِ أَنَّ فِيهِ نَزَلَتْ:{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} الْآيَةَ. انْتَهَى. وَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ثَعْلَبَةَ، وَأَمَّا خَالِدٌ فَكَانَ مُتَأَوِّلًا بِإِجْزَاءِ مَا حَبَسَهُ عَنِ الزَّكَاةِ، وَكَذَلِكَ الْعَبَّاسُ لِاعْتِقَادِهِ مَا سَيَأْتِي التَّصْرِيحُ بِهِ، وَلِهَذَا عَذَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَالِدًا، وَالْعَبَّاسَ، وَلَمْ يَعْذُرِ ابْنَ جَمِيلٍ.

قَوْلُهُ: (فَقِيلَ مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ) قَائِلُ ذَلِكَ عُمَرُ كَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى قِصَّةِ الْعَبَّاسِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ عِنْدَ أَبِي عُبَيْدٍ: فَقَالَ بَعْضُ مَنْ يَلْمِزُ أَيْ: يَعِيبُ. وَابْنُ جَمِيلٍ لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ، لَكِنْ وَقَعَ فِي تَعْلِيقِ الْقَاضِي الْحُسَيْنِ الْمَرْوَزِيِّ الشَّافِعِيِّ، وَتَبِعَهُ الرُّويَانِيُّ أَنَّ اسْمَهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَوَقَعَ فِي شَرْحِ الشَّيْخِ سِرَاجِ الدِّينِ بْنِ الْمُلَقِّنِ أَنَّ ابْنَ بَزِيزَةَ سَمَّاهُ حُمَيْدًا، وَلَمْ أَرَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ ابْنِ بَزِيزَةَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَبُو جَهْمِ بْنُ حُذَيْفَةَ بَدَلَ ابْنِ جَمِيلٍ، وَهُوَ خَطَأٌ لِإِطْبَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى ابْنِ جَمِيلٍ، وَقَوْلُ الْأَكْثَرِ: أَنَّهُ كَانَ أَنْصَارِيًّا، وَأَمَّا أَبُو جَهْمِ بْنُ حُذَيْفَةَ فَهُوَ قُرَشِيٌّ فَافْتَرَقَا، وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ أَبَا عُبَيْدٍ الْبَكْرِيَّ ذَكَرَ فِي شَرْحِ الْأَمْثَالِ لَهُ أَنَّهُ أَبُو جَهْمِ بْنُ جَمِيلٍ.

قَوْلُهُ: (وَالْعَبَّاسُ) زَادَ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ عِنْدَ أَبِي عُبَيْدٍ: أَنْ يُعْطُوا الصَّدَقَةَ قَالَ: فَخَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَبَّ عَنِ اثْنَيْنِ: الْعَبَّاسِ، وَخَالِدٍ.

قَوْلُهُ: (مَا يَنْقِمُ) بِكَسْرِ الْقَافِ أَيْ: مَا يُنْكِرُ أَوْ يَكْرَهُ، وَقَوْلُهُ: فَأَغْنَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِنَّمَا ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَفْسَهُ، لِأَنَّهُ كَانَ سَبَبًا لِدُخُولِهِ فِي الْإِسْلَامِ، فَأَصْبَحَ غَنِيًّا بَعْدَ فَقْرِهِ بِمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَأَبَاحَ لِأُمَّتِهِ مِنَ الْغَنَائِمِ، وَهَذَا السِّيَاقُ مِنْ بَابِ تَأْكِيدِ الْمَدْحِ بِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ إِلَّا مَا ذَكَرَ مِنْ أَنَّ اللَّهَ أَغْنَاهُ فَلَا عُذْرَ لَهُ، وَفِيهِ التَّعْرِيضُ بِكُفْرَانِ النِّعَمِ وَتَقْرِيعٌ بِسُوءِ الصَّنِيعِ فِي مُقَابَلَةِ الْإِحْسَانِ.

قَوْلُهُ: (احْتَبَسَ) أَيْ: حَبَسَ.

قَوْلُهُ: (وَأَعْتُدَهُ) بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ جَمْعُ عَتَدٍ بِفَتْحَتَيْنِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: أَعْتَادَهُ وَهُوَ جَمْعُهُ أَيْضًا، قَيلَ: هُوَ مَا يَعُدُّهُ الرَّجُلُ مِنَ الدَّوَابِّ وَالسِّلَاحِ، وَقِيلَ: الْخَيْلُ خَاصَّةً، يُقَالُ: فَرَسٌ عَتِيدٌ، أَيْ: صُلْبٌ أَوْ مُعَدٌّ لِلرُّكُوبِ أَوْ سَرِيعُ الْوُثُوبِ، أَقْوَالٌ. وَقِيلَ: إِنَّ لِبَعْضِ رُوَاةِ الْبُخَارِيِّ: وَأَعْبُدَهُ بِالْمُوَحَّدَةِ جَمْعُ عَبْدٍ، حَكَاهُ عِيَاضٌ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ.

قَوْلُهُ: (فَهِيَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ وَمِثْلُهَا مَعَهَا) كَذَا فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، وَلَمْ يَقُلْ وَرْقَاءُ وَلَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: صَدَقَةٌ فَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى يَكُونُ صلى الله عليه وسلم أَلْزَمُهُ بِتَضْعِيفِ صَدَقَتِهِ

(1)

لِيَكُونَ أَرْفَعَ لِقَدْرِهِ وَأَنْبَهَ لِذِكْرِهِ وَأَنْفَى لِلذَّمِّ عَنْهُ، فَالْمَعْنَى فَهُي صَدَقَةٌ ثَابِتَةٌ عَلَيْهِ، سَيَصَّدَّقُ بِهَا وَيُضِيفُ إِلَيْهَا مِثْلَهَا كَرَمًا، وَدَلَّتْ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم الْتَزَمَ بِإِخْرَاجِ ذَلِكَ عَنْهُ لِقَوْلِهِ: فَهِيَ عَلَيَّ. وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى سَبَبِ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ الْعَمَّ صِنْوُ الْأَبِ تَفْضِيلًا لَهُ وَتَشْرِيفًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَحَمَّلَ عَنْهُ بِهَا، فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الزَّكَاةَ تَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ كَمَا هُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ رِوَايَةِ: عَلَيَّ، وَرِوَايَةِ: عَلَيْهِ، بِأَنَّ الْأَصْلَ رِوَايَةُ: عَلَيَّ. وَرِوَايَةُ: عَلَيْهِ مِثْلُهَا إِلَّا أَنَّ فِيهَا زِيَادَةُ هَاءِ السَّكْتِ، حَكَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، عَنِ ابْنِ نَاصِرٍ، وَقِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: عَلَيَّ؛ أَيْ: هِيَ عِنْدِي قَرْضٌ لِأَنَّنِي اسْتَسْلَفْتُ مِنْهُ صَدَقَةَ عَامَيْنِ، وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِيمَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثٍ عَلِيٍّ، وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ، وَفِي الدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّا كُنَّا احْتَجْنَا فَتَعَجَّلْنَا مِنَ

(1)

هذا فيه نظر، وظاهر الحديث يدل على أنه صلى الله عليه وسلم تركها له وتحملها عنه وسمى ذلك صدقه تجوزا وتسامحا في اللفظ، ويدل على ذلك رواية مسلم فهي "علي ومثلها" فتأمل

ص: 333

الْعَبَّاسِ صَدَقَةَ مَالِهِ سَنَتَيْنِ.

وَهَذَا مُرْسَلٌ، وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا مَوْصُولًا بِذِكْرِ طَلْحَةَ فِيهِ، وَإِسْنَادُ الْمُرْسَلِ أَصَحُّ، وَفِي الدَّارَقُطْنِيِّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ عُمَرَ سَاعِيًا، فَأَتَى الْعَبَّاسَ فَأَغْلَظَ لَهُ، فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ الْعَبَّاسَ قَدْ أَسْلَفَنَا زَكَاةَ مَالِهِ الْعَامَ، وَالْعَامَ الْمُقْبِلَ. وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا هُوَ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ نَحْوَ هَذَا، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ أَيْضًا، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَعَجَّلَ مِنَ الْعَبَّاسِ صَدَقَتَهُ سَنَتَيْنِ. وَفِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ ذَكْوَانَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَلَوْ ثَبَتَ لَكَانَ رَافِعًا لِلْإِشْكَالِ، وَلَرَجَحَ بِهِ سِيَاقُ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَلَى بَقِيَّةِ الرِّوَايَاتِ، وَفِيهِ رَدٌّ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ قِصَّةَ التَّعْجِيلِ إِنَّمَا وَرَدَتْ فِي وَقْتٍ غَيْرِ الْوَقْتِ الَّذِي بَعَثَ فِيهِ عُمَرَ لِأَخْذِ الصَّدَقَةِ، وَلَيْسَ ثُبُوتُ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي تَعْجِيلِ صَدَقَةِ الْعَبَّاسِ بِبَعِيدٍ فِي النَّظَرِ بِمَجْمُوعِ هَذِهِ الطُّرُقِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى اسْتَسْلَفَ مِنْهُ قَدْرَ صَدَقَةِ عَامَيْنِ ; فَأَمَرَ أَنْ يُقَاصَّ بِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَاسْتُبْعِدَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَقَعَ لَكَانَ صلى الله عليه وسلم أَعْلَمَ عُمَرَ بِأَنَّهُ لَا يُطَالِبُ الْعَبَّاسَ، وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ.

وَمَعْنَى عَلَيْهِ عَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ أَيْ: لَازِمَةٌ لَهُ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَقْبِضُهَا، لِأَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَيْهِ حَرَامٌ لِكَوْنِهِ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ رِوَايَةَ الْبَابِ عَلَى ظَاهِرِهَا، فَقَالَ: كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ بِلَفْظِ: فَهِيَ لَهُ بَدَلَ عَلَيْهِ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: اللَّامُ هُنَا بِمَعْنَى عَلَى لِتَتَّفِقَ الرِّوَايَاتُ، وَهَذَا أَوْلَى، لِأَنَّ الْمَخْرَجَ وَاحِدٌ، وَإِلَيْهِ مَالَ ابْنُ حِبَّانَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهَا فَهِيَ لَهُ أَيْ: الْقَدْرُ الَّذِي كَانَ يُرَادُ مِنْهُ أَنْ يُخْرِجَهُ، لِأَنَّنِي الْتَزَمْتُ عَنْهُ بِإِخْرَاجِهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ أَخَّرَهَا عَنْهُ ذَلِكَ الْعَامَ إِلَى عَامٍ قَابِلٍ فَيَكُونُ عَلَيْهِ صَدَقَةُ عَامَيْنِ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ اسْتَدَانَ حِينَ فَادَى عَقِيلًا وَغَيْرَهُ، فَصَارَ مِنْ جُمْلَةِ الْغَارِمِينَ، فَسَاغَ لَهُ أَخْذُ الزَّكَاةِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. وَأَبْعَدُ الْأَقْوَالِ كُلِّهَا قَوْلُ مَنْ قَالَ: كَانَ هَذَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ فِيهِ التَّأْدِيبُ بِالْمَالِ، فَأَلْزَمَ الْعَبَّاسَ بِامْتِنَاعِهِ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ بِأَنْ يُؤَدِّيَ ضِعْفَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، لِعَظَمَةِ قَدْرِهِ وَجَلَالَتِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:{يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} الْآيَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُهُ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ.

وَاسْتَدَلَّ بِقِصَّةِ خَالِدٍ عَلَى جَوَازِ إِخْرَاجِ مَالِ الزَّكَاةِ فِي شِرَاءِ السِّلَاحِ وَغَيْرِهِ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ وَالْإِعَانَةِ بِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَجَازَ لِخَالِدٍ أَنْ يُحَاسِبَ نَفْسَهُ بِمَا حَبَسَهُ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ كَمَا سَبَقَ، وَهِيَ طَرِيقَةُ الْبُخَارِيِّ. وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقْبَلْ أَخْبَارَ مَنْ أَخْبَرَهُ بِمَنْعِ خَالِدٍ حَمْلًا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِالْمَنْعِ، وَإِنَّمَا نَقَلُوهُ عَنْهُ بِنَاءً عَلَى مَا فَهِمُوهُ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: تَظْلِمُونَهُ؛ أَيْ بِنِسْبَتِكُمْ إِيَّاهُ إِلَى الْمَنْعِ وَهُوَ لَا يَمْنَعُ، وَكَيْفَ يَمْنَعُ الْفَرْضَ وَقَدْ تَطَوَّعَ بِتَحْبِيسِ سِلَاحِهِ وَخَيْلِهِ؟ ثَانِيهَا: أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّهَا لِلتِّجَارَةِ فَطَالَبُوهُ بِزَكَاةِ قِيمَتِهَا، فَأَعْلَمَهُمْ عليه الصلاة والسلام بِأَنَّهُ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيمَا حَبَسَ، وَهَذَا يَحْتَاجُ لِنَقْلٍ خَاصٍّ فَيَكُونُ فِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ أَسْقَطَ الزَّكَاةَ عَنِ الْأَمْوَالِ الْمُحَبَّسَةِ، وَلِمَنْ أَوْجَبَهَا فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ.

ثَالِثُهَا: أَنَّهُ كَانَ نَوَى بِإِخْرَاجِهَا عَنْ مِلْكِهِ الزَّكَاةَ عَنْ مَالِهِ، لِأَنَّ أَحَدَ الْأَصْنَافِ سَبِيلُ اللَّهِ وَهُمُ الْمُجَاهِدُونَ، وَهَذَا يَقُولُهُ مَنْ يُجِيزُ إِخْرَاجَ الْقِيَمِ فِي الزَّكَاةِ كَالْحَنَفِيَّةِ وَمَنْ يُجِيزُ التَّعْجِيلَ كَالشَّافِعِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ اسْتِدْلَالُ الْبُخَارِيِّ بِهِ عَلَى إِخْرَاجِ الْعُرُوضِ فِي الزَّكَاةِ.

وَاسْتَدَلَّ بِقِصَّةِ خَالِدٍ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَحْبِيسِ الْحَيَوَانِ وَالسِّلَاحِ، وَأَنَّ الْوَقْفَ يَجُوزُ بَقَاؤُهُ تَحْتَ يَدِ مُحْتَبِسِهِ، وَعَلَى جَوَازِ إِخْرَاجِ الْعُرُوضِ فِي الزَّكَاةِ - وَقَدْ سَبَقَ مَا فِيهِ - وَعَلَى صَرْفِ الزَّكَاةِ إِلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنَ الثَّمَانِيَةِ. وَتَعَقَّبَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ جَمِيعَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْقِصَّةَ وَاقِعَةُ عَيْنٍ، مُحْتَمِلَةٌ لِمَا ذُكِرَ وَلِغَيْرِهِ، فَلَا يَنْهَضُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ، قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَحْبِيسُ خَالِدٍ إِرْصَادًا وَعَدَمَ تَصَرُّفٍ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى ذَلِكَ التَّحْبِيسِ فَلَا يَتَعَيَّنُ الِاسْتِدْلَالُ بِذَلِكَ

ص: 334

لِمَا ذُكِرَ. وَفِي الْحَدِيثِ: بَعْثُ الْإِمَامِ الْعُمَّالَ لِجِبَايَةِ الزَّكَاةِ، وَتَنْبِيهُ الْغَافِلِ عَلَى مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ مِنْ نِعْمَةِ الْغِنَى بَعْدَ الْفَقْرِ لِيَقُومَ بِحَقِّ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَالْعَتَبُ عَلَى مَنْ مَنَعَ الْوَاجِبَ، وَجَوَازُ ذِكْرِهِ فِي غَيْبَتِهِ بِذَلِكَ، وَتَحَمُّلُ الْإِمَامِ عَنْ بَعْضِ رَعِيَّتِهِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَالِاعْتِذَارُ عَنْ بَعْضِ الرَّعِيَّةِ بِمَا يَسُوغُ الِاعْتِذَارُ بِهِ. وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

‌50 - بَاب الِاسْتِعْفَافِ عَنْ الْمَسْأَلَةِ

1469 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه: إِنَّ نَاسًا مِنْ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَاهُمْ ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ: مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ.

[الحديث 1469 - طرفه في: 6470]

1470 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَانْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلًا فَيَسْأَلَهُ أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ"

[الحديث 1470 - أطرفاه في: 1480، 2074، 2374]

1471 -

حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَانْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ"

[الحديث 1471 - طرفاه في: 2075، 2373]

1472 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رضي الله عنه قَالَ "سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَانِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ثُمَّ قَالَ يَا حَكِيمُ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى قَالَ حَكِيمٌ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا" فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه يَدْعُو حَكِيمًا إِلَى الْعَطَاءِ فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ رضي الله عنه دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا فَقَالَ عُمَرُ إِنِّي أُشْهِدُكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى حَكِيمٍ أَنِّي أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ مِنْ هَذَا الْفَيْءِ فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى تُوُفِّيَ"

[الحديث 1472 - أطرافه في: 2750، 3134، 6441]

ص: 335

قَوْلُهُ: (بَابُ الِاسْتِعْفَافِ عَنِ الْمَسْأَلَةِ) أَيْ: فِي شَيْءٍ مِنْ غَيْرِ الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ.

وَذَكَرَ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ: أَحَدُهَا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ نَاسًا مِنَ الْأَنْصَارِ) لَمْ يَتَعَيَّنْ لِي أَسْمَاؤُهُمْ، إِلَّا أَنَّ النَّسَائِيَّ رَوَى مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ رَاوِي هَذَا الْحَدِيثِ خُوطِبَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَفْظُهُ فَفِي حَدِيثِهِ: سَرَّحَتْنِي أُمِّي إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي لِأَسْأَلَهُ مِنْ حَاجَةٍ شَدِيدَةٍ، فَأَتَيْتُهُ وَقَعَدْتُ، فَاسْتَقْبَلَنِي فَقَالَ: مَنِ اسْتَغْنَى أَغْنَاهُ اللَّهُ. الْحَدِيثَ وَزَادَ فِيهِ: وَمَنْ سَأَلَ وَلَهُ أُوقِيَّةٌ فَقَدْ أَلْحَفَ. فَقُلْتُ: نَاقَتِي خَيْرٌ مِنْ أُوقِيَّةٍ، فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَسْأَلْهُ. وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ: أَنَّهُ مِمَّنْ خُوطِبَ بِبَعْضِ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ أَنْصَارِيًّا إِلَّا بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ.

قَوْلُهُ: (فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ) أَيْ: أَحْبِسُهُ وَأَخْبَؤُهُ وَأَمْنَعُكُمْ إِيَّاهُ مُنْفَرِدًا بِهِ عَنْكُمْ، وَفِيهِ: مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ السَّخَاءِ وَإِنْفَاذِ أَمْرِ اللَّهِ، وَفِيهِ: إِعْطَاءُ السَّائِلِ مَرَّتَيْنِ، وَالِاعْتِذَارُ إِلَى السَّائِلِ، وَالْحَضُّ عَلَى التَّعَفُّفِ. وَفِيهِ جَوَازُ السُّؤَالِ لِلْحَاجَةِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى تَرْكَهُ وَالصَّبْرَ حَتَّى يَأْتِيَهُ رِزْقُهُ بِغَيْرِ مَسْأَلَةٍ.

وَقَوْلُهُ: (وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ يَسْتَعِفَّ.

ثَانِيهَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ بِمَعْنَاهُ، وَفِي رِوَايَةِ الزُّبَيْرِ زِيَادَةٌ: فَيَبِيعَهَا فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ. وَذَلِكَ مُرَادٌ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَأْتِي رَجُلًا. وَفِي حَدِيثِ الزُّبَيْرِ يَسْأَلُ النَّاسَ. وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَزَادَ فِي أَوَّلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَوْلَهُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ فَفِيهِ الْقَسَمُ عَلَى الشَّيْءِ الْمَقْطُوعِ بِصِدْقِهِ لِتَأْكِيدِهِ فِي نَفْسِ السَّامِعِ، وَفِيهِ الْحَضُّ عَلَى التَّعَفُّفِ عَنِ الْمَسْأَلَةِ وَالتَّنَزُّهِ عَنْهَا وَلَوِ امْتَهَنَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ وَارْتَكَبَ الْمَشَقَّةَ فِي ذَلِكَ، وَلَوْلَا قُبْحُ الْمَسْأَلَةِ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ لَمْ يُفَضَّلْ ذَلِكَ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ لِمَا يَدْخُلُ عَلَى السَّائِلِ مَنْ ذُلِّ السُّؤَالِ وَمِنْ ذُلِّ الرَّدِّ إِذَا لَمْ يُعْطَ وَلِمَا يَدْخُلُ عَلَى الْمَسْئُولِ مِنَ الضِّيقِ فِي مَالِهِ إِنْ أَعْطَى كُلَّ سَائِلٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: خَيْرٌ لَهُ) فَلَيْسَتْ بِمَعْنَى أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ، إِذْ لَا خَيْرَ فِي السُّؤَالِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاكْتِسَابِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ سُؤَالَ مَنْ هَذَا حَالُهُ حَرَامٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْخَيْرِ فِيهِ بِحَسَبِ اعْتِقَادِ السَّائِلِ وَتَسْمِيَتِهِ الَّذِي يُعْطَاهُ خَيْرًا، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ شَرٌّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثَالِثُهَا: حَدِيثُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ:

قَوْلُهُ: (إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ) أَنَّثَ الْخَبَرَ لِأَنَّ الْمُرَادَ الدُّنْيَا.

قَوْلُهُ: (خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ) شَبَّهَهُ - بِالرَّغْبَةِ فِيهِ، وَالْمَيْلِ إِلَيْهِ، وَحِرْصِ النُّفُوسِ عَلَيْهِ - بِالْفَاكِهَةِ الْخَضْرَاءِ الْمُسْتَلَذَّةِ، فَإِنَّ الْأَخْضَرَ مَرْغُوبٌ فِيهِ عَلَى انْفِرَادِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْيَابِسِ، وَالْحُلْوَ مَرْغُوبٌ فِيهِ عَلَى انْفِرَادِهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَامِضِ، فَالْإِعْجَابُ بِهِمَا إِذَا اجْتَمَعَا أَشَدُّ.

قَوْلُهُ: (بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ) أَيْ: بِغَيْرِ شَرَهٍ وَلَا إِلْحَاحٍ؛ أَيْ: مَنْ أَخْذَهُ بِغَيْرِ سُؤَالٍ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآخِذِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُعْطِي؛ أَيْ: بِسَخَاوَةِ نَفْسِ الْمُعْطِي؛ أَيْ: انْشِرَاحِهِ بِمَا يُعْطِيهِ.

قَوْلُهُ: (كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ) أَيْ: الَّذِي يُسَمَّى جُوعُهُ كَذَّابًا، لِأَنَّهُ مِنْ عِلَّةٍ بِهِ وَسَقَمٍ، فَكُلَّمَا أَكَلَ ازْدَادَ سَقَمًا وَلَمْ يَجِدْ شِبَعًا.

قَوْلُهُ: (الْيَدُ الْعُلْيَا) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي بَابٌ: لَا صَدَقَةَ إِلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى.

قَوْلُهُ: (لَا أَرْزَأُ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الزَّايِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ أَيْ: لَا أَنْقُصُ مَالَهُ بِالطَّلَبِ مِنْهُ، وَفِي رِوَايَةٍ لِإِسْحَاقَ: قُلْتُ: فَوَاللَّهِ لَا تَكُونُ يَدَيَّ بَعْدَكَ تَحْتَ يَدٍ مِنْ أَيْدِي الْعَرَبِ. وَإِنَّمَا امْتَنَعَ حَكِيمٌ مِنْ أَخْذِ الْعَطَاءِ مَعَ أَنَّهُ حَقُّهُ لِأَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يَقْبَلَ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا فَيَعْتَادَ الْأَخْذَ فَتَتَجَاوَزَ بِهِ نَفْسُهُ إِلَى مَا لَا يُرِيدُهُ، فَفَطَمَهَا عَنْ ذَلِكَ، وَتَرَكَ مَا يَرِيبُهُ إِلَى مَا لَا يَرِيبُهُ، وَإِنَّمَا أَشْهَدَ عَلَيْهِ عُمَرَ، لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ لَا يَنْسُبَهُ أَحَدٌ لَمْ يَعْرِفْ بَاطِنَ الْأَمْرِ إِلَى مَنْعِ حَكِيمٍ مِنْ حَقِّهِ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى تُوُفِّيَ) زَادَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ مُرْسَلًا أَنَّهُ مَا أَخَذَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَلَا عُمَرَ وَلَا عُثْمَانَ وَلَا مُعَاوِيَةَ دِيوَانًا وَلَا غَيْرَهُ حَتَّى مَاتَ لِعَشْرِ سِنِينَ مَعَ إِمَارَةِ مُعَاوِيَةَ.

قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: فِي حَدِيثِ حَكِيمٍ فَوَائِدُ:

مِنْهَا: أَنَّهُ قَدْ يَقَعُ الزُّهْدُ مَعَ الْأَخْذِ، فَإِنَّ سَخَاوَةَ النَّفْسِ هُوَ زُهْدُهَا، تَقُولُ: سَخَتْ بِكَذَا؛ أَيْ: جَادَتْ. وَسَخَتْ عَنْ كَذَا؛ أَيْ: لَمْ

ص: 336

تَلْتَفِتْ إِل يْهِ. وَمِنْهَا أَنَّ الْأَخْذَ مَعَ سَخَاوَةِ النَّفْسِ يُحَصِّلُ أَجْرَ الزُّهْدِ وَالْبَرَكَةَ فِي الرِّزْقِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الزُّهْدَ يُحَصِّلُ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَفِيهِ ضَرْبُ الْمَثَلِ لِمَا لَا يَعْقِلُهُ السَّامِعُ مِنَ الْأَمْثِلَةِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنَ النَّاسِ لَا يَعْرِفُ الْبَرَكَةُ إِلَّا فِي الشَّيْءِ الْكَثِيرِ فَبَيَّنَ بِالْمِثَالِ الْمَذْكُورِ أَنَّ الْبَرَكَةَ هِيَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَضَرَبَ لَهُمُ الْمَثَلَ بِمَا يَعْهَدُونَ، فَالْآكِلُ إِنَّمَا يَأْكُلُ لِيَشْبَعَ، فَإِذَا أَكَلَ وَلَمْ يَشْبَعْ كَانَ عَنَاءً فِي حَقِّهِ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ، وَكَذَلِكَ الْمَالُ لَيْسَتِ الْفَائِدَةُ فِي عَيْنِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ لِمَا يَتَحَصَّلُ بِهِ مِنَ الْمَنَافِعِ، فَإِذَا كَثُرَ عِنْدَ الْمَرْءِ بِغَيْرِ تَحْصِيلِ مَنْفَعَةٍ كَانَ وُجُودُهُ كَالْعَدَمِ. وَفِيهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ لَا يُبَيِّنَ لِلطَّالِبِ مَا فِي مَسْأَلَتِهِ مِنَ الْمَفْسَدَةِ إِلَّا بَعْدَ قَضَاءِ حَاجَتِهِ لِتَقَعَ مَوْعِظَتُهُ لَهُ الْمَوْقِعَ، لِئَلَّا يَتَخَيَّلَ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِمَنْعِهِ مِنْ حَاجَتِهِ. وَفِيهِ جَوَازُ تَكْرَارِ السُّؤَالِ ثَلَاثًا، وَجَوَازُ الْمَنْعِ فِي الرَّابِعَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا أَنَّ سُؤَالَ الْأَعْلَى لَيْسَ بِعَارٍ، وَأَنَّ رَدَّ السَّائِلِ بَعْدَ ثَلَاثٍ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ، وَأَنَّ الْإِجْمَالَ فِي الطَّلَبِ مَقْرُونٌ بِالْبَرَكَةِ. وَقَدْ زَادَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي آخِرِهِ: فَمَاتَ حِينَ مَاتَ، وَإِنَّهُ لَمِنْ أَكْثَرِ قُرَيْشٍ مَالًا.

وَفِيهِ أَيْضًا سَبَبُ ذَلِكَ وَهُوَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ دُونَ مَا أَعْطَى أَصْحَابَهُ، فَقَالَ حَكِيمٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ تَقْصُرَ بِي دُونَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، فَزَادَهُ، ثُمَّ اسْتَزَادَهُ حَتَّى رَضِيَ. فَذَكَرَ نَحْوَ الْحَدِيثِ.

‌51 - بَاب مَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلَا إِشْرَافِ نَفْسٍ

{وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}

1473 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِينِي الْعَطَاءَ فَأَقُولُ: أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّي فَقَالَ: خُذْهُ إِذَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ شَيْءٌ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ فَخُذْهُ، وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ.

[الحديث 1473 - طرفاه في: 7163، 7164]

قَوْلُهُ: (بَابٌ: مَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلَا إِشْرَافِ نَفْسٍ. وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) وفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي تَقْدِيمُ الْآيَةِ، وَسَقَطَتْ لِلْأَكْثَرِ، وَمُطَابَقَتُهَا لِحَدِيثِ الْبَابِ مِنْ جِهَةِ دَلَالَتِهَا عَلَى مَدْحِ مَنْ يُعْطِي السَّائِلَ وَغَيْرَ السَّائِلِ، وَإِذَا كَانَ الْمُعْطِي مَمْدُوحًا فَعَطِيَّتُهُ مَقْبُولَةٌ وَآخِذُهَا غَيْرُ مَلُومٍ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالتَّفْسِيرِ فِي الْمُرَادِ بِالْمَحْرُومِ: فَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ الْمُتَعَفِّفُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ، وَأَخْرَجَ فِيهِ أَقْوَالًا أُخَرَ، وَعَلَى التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ تَنْطَبِقُ التَّرْجَمَةُ. وَالْإَشْرَافُ بِالْمُعْجَمَةِ التَّعَرُّضُ لِلشَّيْءِ وَالْحِرْصُ عَلَيْهِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَشْرَفَ عَلَى كَذَا إِذَا تَطَاوَلَ لَهُ، وَقِيلَ: لِلْمَكَانِ الْمُرْتَفِعِ شَرَفٌ لِذَلِكَ. وَتَقْدِيرُ جَوَابِ الشَّرْطِ: فَلْيَقْبَلْ، أَيْ: مَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَعَ انْتِفَاءِ الْقَيْدَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فَلْيَقْبَلْ. وَإِنَّمَا حَذَفَهُ لِلْعِلْمِ بِهِ. وَأَوْرَدَهَا بِلَفْظِ الْعُمُومِ وَإِنْ كَانَ الْخَبَرُ وَرَدَ فِي الْإِعْطَاءِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، لِأَنَّ الصَّدَقَةَ لِلْفَقِيرِ فِي مَعْنَى الْعَطَاءِ لِلْغَنِيِّ إِذَا انْتَفَى الشَّرْطَانِ.

قَالَ أَبُو دَاوُدَ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنِ إِشْرَافِ النَّفْسِ فَقَالَ: بِالْقَلْبِ. وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْهُ فَقَالَ: هُوَ أَنْ يَقُولَ مَعَ نَفْسِهِ يَبْعَثُ إِلَيَّ فَلَانٌ بِكَذَا. وَقَالَ الْأَثْرَمُ: يَضِيقُ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (فَأَقُولُ أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّي) زَادَ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ الْآتِيَةِ فِي الْأَحْكَامِ: حَتَّى أَعْطَانِي مَرَّةً مَالًا، فَقُلْتُ: أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّي، فَقَالَ: خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ وَتَصَدَّقْ بِهِ. وَذَكَرَ

ص: 337

شُعَيْبٌ فِيهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ إِسْنَادًا آخَرَ قَالَ: أَخْبَرَنِي السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ أَنَّ حُوَيْطِبَ بْنَ عَبَدِ الْعُزَّى أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ السَّعْدِيِّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ فِي خِلَافَتِهِ، فَذَكَرَ قِصَّةً فِيهَا هَذَا الْحَدِيثُ. وَالسَّائِبُ فَمَنْ فَوْقَهُ صَحَابَةٌ، فَفِيهِ أَرْبَعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي نَسَقٍ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِالْإِسْنَادَيْنِ، لَكِنْ قَالَ فِيهِ: عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُعْطِي عُمَرَ، فَذَكَرَهُ، جَعَلَهُ مِنْ مُسْنَدِ ابْنِ عُمَرَ. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ السَّعْدِيِّ، عَنْ عُمَرَ، لَكِنْ قَالَ فِيهِ ابْنُ السَّاعِدِيِّ، وَزَادَ فِيهِ: أَنَّ عَطِيَّةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ بِسَبَبِ الْعِمَالَةِ. وَلِهَذَا قَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَيْسَ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي الصَّدَقَاتِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْأَمْوَالِ الَّتِي يَقْسِمُهَا الْإِمَامُ، وَلَيْسَتْ هِيَ مِنْ جِهَةِ الْفَقْرِ وَلَكِنْ مِنَ الْحُقُوقِ، فَلَمَّا قَالَ عُمَرُ: أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّي لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَعْطَاهُ لِمَعْنًى غَيْرَ الْفَقْرِ قَالَ: وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ: خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الصَّدَقَاتِ.

وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: فَخُذْهُ بَعْدَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهُ أَمْرُ نَدْبٍ، فَقِيلَ: هُوَ نَدْبٌ لِكُلِّ مَنْ أُعْطِيَ عَطِيَّةً أَبَى قَبُولَهَا كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ يَعْنِي بِالشَّرْطَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ. وَقِيلَ: هُوَ مَخْصُوصٌ بِالسُّلْطَانِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ سَمُرَةَ فِي السُّنَنِ: إِلَّا أَنْ يَسْأَلَ ذَا سُلْطَانٍ. وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: يَحْرُمُ قَبُولُ الْعَطِيَّةِ مِنَ السُّلْطَانِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: يُكْرَهُ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا كَانَتِ الْعَطِيَّةُ مِنَ السُّلْطَانِ الْجَائِرِ، وَالْكَرَاهَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْوَرَعِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ تَصَرُّفِ السَّلَفِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالتَّحْقِيقُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَنْ عَلِمَ كَوْنَ مَالِهِ حَلَالًا فَلَا تُرَدُّ عَطِيَّتُهُ، وَمَنْ عَلِمَ كَوْنَ مَالِهِ حَرَامًا فَتَحْرُمُ عَطِيَّتُهُ، وَمَنْ شَكَّ فِيهِ فَالِاحْتِيَاطُ رَدُّهُ وَهُوَ الْوَرَعُ، وَمَنْ أَبَاحَهُ أَخَذَ بِالْأَصْلِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَاحْتَجَّ مَنْ رَخَّصَ فِيهِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي الْيَهُودِ: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} وَقَدْ رَهَنَ الشَّارِعُ دِرْعَهُ عِنْدَ يَهُودِيٍّ مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْهُمْ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ أَكْثَرَ أَمْوَالِهِمْ مِنْ ثَمَنِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْمُعَامَلَاتِ الْفَاسِدَةِ. وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ: أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَ بَعْضَ رَعِيَّتِهِ إِذَا رَأَى لِذَلِكَ وَجْهًا، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَحْوَجَ إِلَيْهِ مِنْهُ، وَأَنَّ رَدَّ عَطِيَّةِ الْإِمَامِ لَيْسَ مِنَ الْأَدَبِ، وَلَا سِيَّمَا مِنَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} الْآيَةَ.

‌52 - بَاب مَنْ سَأَلَ النَّاسَ تَكَثُّرًا

1474 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: سَمِعْتُ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ.

1475 -

وَقَالَ: إِنَّ الشَّمْسَ تَدْنُو يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَبْلُغَ الْعَرَقُ نِصْفَ الْأُذُنِ فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ اسْتَغَاثُوا بِآدَمَ ثُمَّ بِمُوسَى ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَزَادَ عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ فَيَشْفَعُ لِيُقْضَى بَيْنَ الْخَلْقِ فَيَمْشِي حَتَّى يَأْخُذَ بِحَلْقَةِ الْبَابِ فَيَوْمَئِذٍ يَبْعَثُهُ اللَّهُ مَقَامًا مَحْمُودًا يَحْمَدُهُ أَهْلُ الْجَمْعِ كُلُّهُمْ.

وَقَالَ مُعَلًّى: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ أَخِي الزُّهْرِيِّ، عَنْ حَمْزَةَ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْأَلَةِ.

[الحديث 1475 - طرفه في: 4718]

ص: 338

قَوْلُهُ: (بَابٌ: مَنْ سَأَلَ النَّاسَ تَكَثُّرًا) أَيْ: فَهُوَ مَذْمُومٌ، قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ فِي النَّهْيِ عَنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ الَّذِي أَوْرَدَهُ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ أَصْرَحُ فِي مَقْصُودِ التَّرْجَمَةِ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ، وَإِنَّمَا آثَرَهُ عَلَيْهِ لِأَنَّ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يُتَرْجِمَ بِالْأَخْفَى، أَوْ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالسُّؤَالِ فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ النَّهْيُ عَنِ الْمَسَائِلِ الْمُشْكِلَةِ كَالْأُغْلُوطَاتِ، أَوِ السُّؤَالِ عَمَّا لَا يُعنِي، أَوْ عَمَّا لَمْ يَقَعْ مِمَّا يُكْرَهُ وُقُوعُهُ، قَالَ: وَأَشَارَ مَعَ ذَلِكَ إِلَى حَدِيثٍ لَيْسَ عَلَى شَرْطِهِ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَبَشِيِّ بْنِ جُنَادَةَ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ وَفِيهِ: وَمَنْ سَأَلَ النَّاسَ لِيُثْرِيَ مَالَهُ كَانَ خُمُوشًا فِي وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيُقِلَّ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيُكْثِرْ. انْتَهَى.

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَا هُوَ مُطَابِقٌ لِلَفْظِ التَّرْجَمَةِ، فَاحْتِمَالُ كَوْنِهِ أَشَارَ إِلَيْهِ أَوْلَى، وَلَفَظُهُ: مَنْ سَأَلَ النَّاسَ تَكَثُّرًا فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا، الْحَدِيثَ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَسْأَلُ لِيَجْمَعَ الْكَثِيرَ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ) فِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ الْآتِيَةِ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (مُزْعَةُ لَحْمٍ) مُزْعَةٌ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَحُكِيَ كَسْرُهَا، وَسُكُونُ الزَّايِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ أَيْ: قِطْعَةٌ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: ضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالزَّايِ، وَالَّذِي أَحْفَظُهُ عَنِ الْمُحَدِّثِينَ الضَّمُّ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَأْتِي سَاقِطًا لَا قَدْرَ لَهُ وَلَا جَاهَ، أَوْ يُعَذَّبُ فِي وَجْهِهِ حَتَّى يَسْقُطَ لَحْمُهُ لِمُشَاكَلَةِ الْعُقُوبَةِ فِي مَوَاضِعِ الْجِنَايَةِ مِنَ الْأَعْضَاءِ لِكَوْنِهِ أَذَلَّ وَجْهَهُ بِالسُّؤَالِ، أَوْ أَنَّهُ يُبْعَثُ وَوَجْهُهُ عَظْمٌ كُلُّهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ شِعَارُهُ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ. انْتَهَى.

وَالْأَوَّلُ صَرْفٌ لِلْحَدِيثِ عَنْ ظَاهِرِهِ، وَقَدْ يُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ مَسْعُودِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا: لَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَسْأَلُ وَهُوَ غَنِيٌّ حَتَّى يَخْلُقَ وَجْهَهُ فَلَا يَكُونُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ وَجْهٌ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مِنَ الْحُسْنِ شَيْءٌ، لِأَنَّ حُسْنَ الْوَجْهِ هُوَ بِمَا فِيهِ مِنَ اللَّحْمِ. وَمَالَ الْمُهَلَّبُ إِلَى حَمْلِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَإِلَى أَنَّ السِّرَّ فِيهِ أَنَّ الشَّمْسَ تَدْنُو يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَإِذَا جَاءَ لَا لَحْمَ بِوَجْهِهِ كَانَتْ أَذِيَّةُ الشَّمْسِ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ، قَالَ: وَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ سَأَلَ تَكَثُّرًا وَهُوَ غَنِيٌّ لَا تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ، وَأَمَّا مَنْ سَأَلَ وَهُوَ مُضْطَرٌّ فَذَلِكَ مُبَاحٌ لَهُ فَلَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ. انْتَهَى. وَبِهَذَا تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ إِيرَادِ هَذَا الطَّرَفِ مِنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ عَقِبَ هَذَا الْحَدِيثِ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: لَفْظُ الْحَدِيثِ دَالٌّ عَلَى ذَمِّ تَكْثِيرِ السُّؤَالِ، وَالتَّرْجَمَةُ لِمَنْ سَأَلَ تَكَثُّرًا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمُتَوَعَّدُ عَلَيْهِ عَلَى مَا تَشْهَدُ بِهِ الْقَوَاعِدُ هُوَ السَّائِلَ عَنْ غِنًى وَأَنَّ سُؤَالَ ذِي الْحَاجَةِ مُبَاحٌ، نَزَّلَ الْبُخَارِيُّ الْحَدِيثَ عَلَى مَنْ يَسْأَلُ لِيُكْثِرَ مَالَهُ.

قوله: (بِآدَمَ ثُمَّ بِمُوسَى) هَذَا فِيهِ اخْتِصَارٌ، وَسَيَأْتِي فِي الرِّقَاقِ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ الطَّوِيلِ ذَكَرَ مَنْ يَقْصِدُونَهُ بَيْنَ آدَمَ وَمُوسَى، وَبَيْنَ مُوسَى وَمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَكَذَا الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ مَا فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَى الشَّرْحِ.

قَوْلُهُ: (وَزَادَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ) كَذَا عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ، وَسَقَطَ قَوْلُهُ: ابْنُ صَالِحٍ مِنْ رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ، وَلِهَذَا جَزَمَ خَلَفٌ، وَأَبُو نُعَيْمٍ بِأَنَّهُ ابْنُ صَالِحٍ، وَقَدْ رُوِّينَاهُ فِي الْإِيمَانِ لِابْنِ مَنْدَهْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ جَمِيعًا عَنِ اللَّيْثِ، وَسَاقَهُ بِلَفْظِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ وَقَدْ رَوَاهُ مَوْصُولًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ وَحْدَهُ الْبَزَّارُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيِّ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ مُطَّلِبِ بْنِ شُعَيْبٍ، وَابْنُ مَنْدَهْ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ عُثْمَانَ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ، فَذَكَروَهُ، وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ: اسْتَغَاثُوا بِآدَمَ: فَيَقُولُ: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ. وَتَابَعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ صَالِحٍ عَلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، عَنِ اللَّيْثِ، أَخْرَجَهُ ابْنُ مَنْدَهْ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (بِحَلْقَةِ الْبَابِ) أَيْ: بَابِ الْجَنَّةِ، أَوْ هُوَ مَجَازٌ عَنِ الْقُرْبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَقَامُ الْمَحْمُودُ هُوَ الشَّفَاعَةُ الْعُظْمَى الَّتِي اخْتُصَّ بِهَا، وَهِيَ إِرَاحَةُ أَهْلِ الْمَوْقِفِ مِنْ أَهْوَالِ الْقَضَاءِ بَيْنَهُمْ وَالْفَرَاغُ مِنْ حِسَابِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِأَهْلِ الْجَمْعِ أَهْلُ الْحَشْرِ

ص: 339

لِأَنَّهُ يَوْمٌ يُجْمَعُ فِيهِ النَّاسُ كُلُّهُمْ. وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَى الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ سُبْحَانَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُعَلَّى) بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ، وَتَشْدِيدِ اللَّامِ الْمَفْتُوحَةِ، وَهُوَ ابْنُ أَسَدٍ، وَقَدْ وَصَلَهُ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ فِي تَارِيخِهِ عَنْهُ، وَمِنْ طَرِيقهِ الْبَيْهَقِيُّ، وَآخِرُ حَدِيثِهِ: مُزْعَةُ لَحْمٍ. وَفِيهِ قِصَّةٌ لِحَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مَعَ أَبِيهِ فِي ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَيَّدَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: فِي الْمَسْأَلَةِ أَيْ: فِي الشِّقِّ الْأَوَّلِ مِنَ الْحَدِيثِ دُونَ الزِّيَادَةِ، وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا فِي مُعْجَمِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْأَعْرَابِيِّ. قَالَ: حَدَّثَنَا حَمْدَانُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ مُعَلَّى بْنِ أَسَدٍ بِهِ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ يَخْتَصُّ بِمَنْ أَكْثَرَ السُّؤَالَ لَا مَنْ نَدَرَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ سُؤَالِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ، لِأَنَّ لَفْظَ النَّاسِ يَعُمُّ، قَالَهُ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ، وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّالِحِينَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا احْتَاجَ سَأَلَ ذِمِّيًّا لِئَلَّا يُعَاقَبُ الْمُسْلِمُ بِسَبَبِهِ لَوْ رَدَّهُ.

‌53 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} وَكَمْ الْغِنَى

وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: وَلَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ

{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}

1476 -

حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ الْأُكْلَةَ وَالْأُكْلَتَانِ وَلَكِنْ الْمِسْكِينُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ غِنًى وَيَسْتَحْيِي أَوْ لَا يَسْأَلُ النَّاسَ إِلْحَافًا.

[الحديث 1476 - طرفاه في: 1479، 4539]

1477 -

حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ ابْنِ أَشْوَعَ عَنْ الشَّعْبِيِّ حَدَّثَنِي كَاتِبُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنْ اكْتُبْ إِلَيَّ بِشَيْءٍ سَمِعْتَهُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَتَبَ إِلَيْهِ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا قِيلَ وَقَالَ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ"

1478 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ غُرَيْرٍ الزُّهْرِيُّ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَهْطًا وَأَنَا جَالِسٌ فِيهِمْ قَالَ فَتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ رَجُلاً لَمْ يُعْطِهِ وَهُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَيَّ فَقُمْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَارَرْتُهُ فَقُلْتُ: مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ وَاللَّهِ إِنِّي لَارَاهُ مُؤْمِنًا قَالَ أَوْ مُسْلِمًا قَالَ فَسَكَتُّ قَلِيلاً ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ فِيهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ وَاللَّهِ إِنِّي لَارَاهُ مُؤْمِنًا قَالَ أَوْ مُسْلِمًا قَالَ فَسَكَتُّ قَلِيلاً ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ فِيهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ وَاللَّهِ إِنِّي لَارَاهُ مُؤْمِنًا قَالَ أَوْ مُسْلِمًا يَعْنِي فَقَالَ إِنِّي لَاعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يُكَبَّ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ" وَعَنْ أَبِيهِ عَنْ صَالِحٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي

ص: 340

يُحَدِّثُ بِهَذَا فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ فَجَمَعَ بَيْنَ عُنُقِي وَكَتِفِي ثُمَّ قَالَ "أَقْبِلْ أَيْ سَعْدُ إِنِّي لَاعْطِي الرَّجُلَ" قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ {فَكُبْكِبُوا} قُلِبُوا {مُكِبًّا} أَكَبَّ الرَّجُلُ إِذَا كَانَ فِعْلُهُ غَيْرَ وَاقِعٍ عَلَى أَحَدٍ فَإِذَا وَقَعَ الْفِعْلُ قُلْتَ كَبَّهُ اللَّهُ لِوَجْهِهِ وَكَبَبْتُهُ أَنَا

1479 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ وَلَكِنْ الْمِسْكِينُ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ وَلَا يُفْطَنُ بِهِ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ وَلَا يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ"

1480 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَانْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ ثُمَّ يَغْدُوَ أَحْسِبُهُ قَالَ إِلَى الْجَبَلِ فَيَحْتَطِبَ فَيَبِيعَ فَيَأْكُلَ وَيَتَصَدَّقَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ" قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ أَكْبَرُ مِنْ الزُّهْرِيِّ وَهُوَ قَدْ أَدْرَكَ ابْنَ عُمَرَ

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} وَكَمِ الْغِنَى؟ وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ لِقَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا} الْآيَةَ) هَذِهِ اللَّامُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: لِقَوْلِ اللَّهِ لَامُ التَّعْلِيلِ لِأَنَّهُ أَوْرَدَ الْآيَةَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ فِي التَّرْجَمَةِ: وَكَمِ الْغِنَى، وَكَأَنَّهُ يَقُولُ: وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: وَلَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ مُبَيِّنٌ لِقَدْرِ الْغِنَى، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الصَّدَقَةَ لِلْفُقَرَاءِ الْمَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، أَيْ: مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ بِغَنِيٍّ وَمَنْ كَانَ بِخِلَافِهَا فَهُوَ غَنِيٌّ، فَحَاصِلُهُ أَنَّ شَرْطَ السُّؤَالِ عَدَمُ وِجْدَانِ الْغِنَى لِوَصْفِ اللَّهِ الْفُقَرَاءَ بِقَوْلِهِ:{لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ} إِذْ مَنِ اسْتَطَاعَ ضَرْبًا فِيهَا فَهُوَ وَاجِدٌ لِنَوْعٍ مِنَ الْغِنَى، وَالْمُرَادُ بِالَّذِينِ أَحُصِرُوا الَّذِينَ حَصَرَهُمُ الْجِهَادُ، أَيْ: مَنَعَهُمُ الِاشْتِغَالُ بِهِ مِنَ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ - أَيْ: التِّجَارَةِ - لِاشْتِغَالِهِمْ بِهِ عَنِ التَّكَسُّبِ، قَالَ ابْنُ عُلَيَّةَ: كُلُّ مُحِيطٍ يَحْصُرُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ الصَّادِ، وَالْأَعْذَارُ الْمَانِعَةُ تُحْصِرُ بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ وَكَسْرِ الصَّادِ أَيْ: تَجْعَلُ الْمَرْءَ كَالْمُحَاطِ بِهِ، وَلِلْفُقَرَاءِ: يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ الْإِنْفَاقُ الْمُقَدَّمُ ذِكْرُهُ لِهَؤُلَاءِ. انْتَهَى. وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي التَّرْجَمَةِ: وَكَمِ الْغِنَى فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ حَدِيثًا صَرِيحًا فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ شَيْءٌ عَلَى شَرْطِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُسْتَفَادَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ.

فَإِنَّ مَعْنَاهُ لَا يَجِدُ شَيْئًا يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ حَاجَتِهِ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ كَانَ غَنِيًّا. وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: مَنْ سَأَلَ النَّاسَ وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَسْأَلَتُهُ فِي وَجْهِهِ خُمُوشٌ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا يُغْنِيهِ؟ قَالَ: خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ قِيمَتُهَا مِنَ الذَّهَبِ وَفِي إِسْنَادِهِ حَكِيمُ بْنُ جُبَيْرٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ شُعْبَةُ مِنْ أَجْلِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَحَدَّثَ بِهِ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ حَكِيمٍ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ شُعْبَةَ لَا يُحَدِّثُ عَنْهُ، قَالَ: لَقَدْ حَدَّثَنِي بِهِ زُبَيْدٌ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ يَعْنِي شَيْخَ حَكِيمٍ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا، وَنَصَّ أَحْمَدُ فِي عِلَلِ الْخَلَّالِ وَغَيْرِهَا عَلَى أَنَّ رِوَايَةَ زُبَيْدٍ مَوْقُوفَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ قَرِيبًا مِنْ عِنْدِ النَّسَائِيِّ فِي بَابِ الِاسْتِعْفَافِ وَفِيهِ: مَنْ سَأَلَ وَلَهُ أُوقِيَّةٌ فَقَدْ أَلْحَفَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِلَفْظِ: فَهُوَ مُلْحِفٌ وَفِي الْبَابِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عِنْدَ النَّسَائِيِّ بِلَفْظِ: فَهُوَ الْمُلْحِفُ، وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ لَهُ صُحْبَةٌ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ قَالَ فِيهِ: مَنْ سَأَلَ مِنْكُمْ وَلَهُ أُوقِيَّةٌ أَوْ عَدْلُهَا فَقَدْ سَأَلَ إِلْحَافًا.

ص: 341

أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَعَنْ سَهْلِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ سَأَلَ وَعِنْدَهُ مَا يُغْنِيهِ فَإِنَّمَا يَسْتَكْثِرُ مِنَ النَّارِ.

فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا يُغْنِيهِ؟ قَالَ: قَدْرُ مَا يُغَدِّيهِ وَيُعَشِّيهِ: أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا كَالثَّوْرِيِّ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ. قَالَ: وَوَسَّعَ قَوْمٌ فِي ذَلِكَ فَقَالُوا: إِذَا كَانَ عِنْدَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ أَكْثَرُ وَهُوَ مُحْتَاجٌ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الزَّكَاةِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. انْتَهَى. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ غَنِيًّا بِالدِّرْهَمِ مَعَ الْكَسْبِ، وَلَا يُغْنِيهِ الْأَلْفُ مَعَ ضَعْفِهِ فِي نَفْسِهِ وَكَثْرَةِ عِيَالِهِ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ مَذَاهِبُ أُخْرَى: أَحَدُهَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّ الْغَنِيَّ مَنْ مَلَكَ نِصَابًا، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَخْذُ الزَّكَاةِ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي بَعْثِ مُعَاذٍ إِلَى الْيَمَنِ، وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ: تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ. فَوَصَفَ مَنْ تُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِنْهُ بِالْغِنَى، وَقَدْ قَالَ: لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ.

ثَانِيهَا: أَنَّ حَدَّهُ مَنْ وَجَدَ مَا يُغَدِّيهِ وَيُعَشِّيهِ، عَلَى ظَاهِرِ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ، حَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: وَجْهُهُ مَنْ لَا يَجِدُ غَدَاءً وَلَا عَشَاءً عَلَى دَائِمِ الْأَوْقَاتِ.

ثَالِثُهَا: أَنَّ حَدَّهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدِ بْنِ سَلَّامٍ عَلَى ظَاهِرِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ تَصَرُّفِ الْبُخَارِيِّ لِأَنَّهُ أَتْبَعَ ذَلِكَ قَوْلَهُ:(لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) وَقَدْ تَضَمَّنَ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ أَنَّ مَنْ سَأَلَ وَعِنْدَهُ هَذَا الْقَدْرُ فَقَدْ سَأَلَ إِلْحَافًا.

ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ: أَوَّلُهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي ذِكْرِ الْمِسْكِينِ أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ، وَالْمِسْكِينُ مِفْعِيلٌ مِنَ السُّكُونِ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، قَالَ: فَكَأَنَّهُ مِنْ قِلَّةِ الْمَالِ سَكَنَتْ حَرَكَاتُهُ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى:{أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} أَيْ: لَاصِقٌ بِالتُّرَابِ.

قَوْلُهُ: (الْأُكْلَةُ وَالْأُكْلَتَانِ) بِالضَّمِّ فِيهِمَا، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ الْآتِيَةِ آخِرَ الْبَابِ: اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ. وَزَادَ فِيهِ: الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْأُكْلَةُ بِالضَّمِّ: اللُّقْمَةُ، وَبِالْفَتْحِ: الْمَرَّةُ مِنَ الْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ.

قَوْلُهُ: (لَيْسَ لَهُ غِنًى) زَادَ فِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ غِنًى يُغْنِيهِ، وَهَذِهِ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الْيَسَارِ الْمَنْفِيِّ، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ حُصُولِ الْيَسَارِ لِلْمَرْءِ أَنْ يَغْنَى بِهِ بِحَيْثُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ، وَكَأَنَّ الْمَعْنَى نَفْيُ الْيَسَارِ الْمُقَيَّدِ بِأَنَّهُ يُغْنِيهِ مَعَ وُجُودِ أَصْلِ الْيَسَارِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}

قَوْلُهُ: (وَيَسْتَحِي) زَادَ فِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ: وَلَا يَفْطَنُ بِهِ. وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: لَهُ فَيَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ، وَلَا يَقُومُ فَيَسْأَلَ النَّاسَ. وَهُوَ بِنَصْبِ يَتَصَدَّقَ وَيَسْأَلَ، وَمَوْضِعُ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ قَوْلُهُ: لَيْسَ لَهُ غِنًى. وَقَدْ أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَظْهَرُ تَعَلُّقُهَا بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ أَكْثَرُ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ، وَلَفْظُهُ هُنَاكَ: إِنَّمَا الْمِسْكِينُ الَّذِي يَتَعَفَّفُ، اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ - يَعْنِي - قَوْلَهُ:{لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} كَذَا وَقَعَ فِيهِ بِزِيَادَةِ يَعْنِي، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِدُونِهَا، وَكَذَلِكَ وَقَعَ فِيهِ

(1)

بِزِيَادَةِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ.

ثَانِيهَا: حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ، وَابْنِ أَشْوَعَ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، وَزَادَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ ابْنُ الْأَشْوَعِ، وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْأَشْوَعِ نُسِبَ لِجَدِّهِ، وَكَاتِبُ الْمُغِيرَةِ هُوَ وَرَّادٌ.

قَوْلُهُ: (وَإِضَاعَةَ الْأَمْوَالِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ الْمَالِ وَمَوْضِعُ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ قَوْلُهُ: وَكَثْرَةُ السُّؤَالِ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: فَهِمَ مِنْهُ الْبُخَارِيُّ سُؤَالَ النَّاسِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ السُّؤَالَ عَنِ الْمُشْكِلَاتِ، أَوْ عَمَّا لَا حَاجَةَ لِلسَّائِلِ بِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ صلى الله عليه وسلم: ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ. قُلْتُ: وَحَمْلُهُ عَلَى الْمَعْنَى الْأَعَمِّ أَوْلَى، وَيَسْتَقِيمُ مُرَادُ الْبُخَارِيِّ مَعَ ذَلِكَ. وَقَدْ مَضَى بَعْضُ شَرْحِهِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْأَدَبِ وَفِي الرِّقَاقِ مُسْتَوْفًى، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ثَالِثُهَا: حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَوْرَدَهُ بِإِسْنَادَيْنِ، وَمَوْضِعُ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ قَوْلُهُ فِي

(1)

كذا في الأصلين اللذين بأيدينا، وفي الكلام نقص وتحريف، فليتأمل وليحرر

ص: 342

الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ: فَجَمَعَ بَيْنَ عُنُقِي وَكَتِفِي، ثُمَّ قَالَ: أَقْبِلْ أَيْ سَعْدُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ، وَأَنَّهُ أَمْرٌ بِالْإِقْبَالِ أَوْ بِالْقَبُولِ، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ إِقْبَالًا أَيْ سَعْدُ. عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ أَيْ أَتُقَابِلُنِي قُبَالًا بِهَذِهِ الْمُعَارَضَةِ؟ وَسِيَاقُهُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَرِهَ مِنْهُ إِلْحَاحَهُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَشْفُوعَ لَهُ تَرَكَ السُّؤَالَ فَمُدِحَ.

قَوْلُهُ: (وَعَنْ أَبِيهِ عَنْ صَالِحٍ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنِ الْحَسَنِ الْحَلْوَانِيِّ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ.

قَوْلُهُ: (أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ الْمُصَنِّفُ.

قَوْلُهُ: {فَكُبْكِبُوا} إِلَخْ) تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي الْإِيمَانِ، وَجَرَى الْمُصَنِّفُ عَلَى عَادَتِهِ فِي إِيرَادِ تَفْسِيرِ اللَّفْظَةِ الْغَرِيبَةِ إِذَا وَافَقَ مَا فِي الْحَدِيثِ مَا فِي الْقُرْآنِ. وقَوْلُهُ:(غَيْرَ وَاقِعٍ) أَيْ: لَازِمًا وَ (إِذَا وَقَعَ) أَيْ: إِذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا، وَالْغَرَضُ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مِنَ النَّوَادِرِ حَيْثُ كَانَ الثُّلَاثِيُّ مُتَعَدِّيًا، وَالْمَزِيدُ فِيهِ لَازِمًا عَكْسُ الْقَاعِدَةِ التَّصْرِيفِيَّةِ، قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَلِفُ أُكَبُّ لِلصَّيْرُورَةِ.

قَوْلُهُ: (صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ) يَعْنِي الْمَذْكُورَ فِي الْإِسْنَادَيْنِ.

قَوْلُهُ: (أَكْبَرُ عنَ الزُّهْرِيِّ) يَعْنِي فِي السِّنِّ، وَمِثْلُ هَذَا جَاءَ عَنْ أَحْمَدَ، وَابْنِ مَعِينٍ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: كَانَ أَسَنَّ مِنَ الزُّهْرِيِّ، فَإِنَّ مَوْلِدَهُ سَنَةَ خَمْسِينَ، وَقِيلَ: بَعْدَهَا، وَمَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةً، وَقِيلَ: سَنَةَ أَرْبَعٍ، وَأَمَّا صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ فَمَاتَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ وَمِائَةً، وَقِيلَ: قَبْلَهَا. وَذَكَرَ الْحَاكِمُ فِي مِقْدَارِ عُمْرِهِ سِنًّا

(1)

تَعَقَبُّوهُ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: أَدْرَكَ ابْنَ عُمَرَ يَعْنِي أَدْرَكَ السَّمَاعَ مِنْهُ، وَأَمَّا الزُّهْرِيُّ فَمُخْتَلَفٌ فِي لُقِيِّهِ لَهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يَلْقَهُ، وَإِنَّمَا يَرْوِي عَنِ ابْنِهِ سَالِمٍ عَنْهُ، وَالْحَدِيثَانِ اللَّذَانِ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَهُمَا مِنَ ابْنِ عُمَرَ ثَبَتَ ذِكْرُ سَالِمٍ بَيْنَهُمَا فِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

رَابِعُهَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الدَّالُّ عَلَى ذَمِّ السُّؤَالِ وَمَدْحِ الِاكْتِسَابِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ الِاسْتِعْفَافِ عَنِ الْمَسْأَلَةِ.

وَفِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمَسْكَنَةَ إِنَّمَا تُحْمَدُ مَعَ الْعِفَّةِ عَنِ السُّؤَالِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْحَاجَةِ، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الْحَيَاءِ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ، وَحُسْنُ الْإِرْشَادِ لِوَضْعِ الصَّدَقَةِ، وَأَنْ يَتَحَرَّى وَضْعَهَا فِيمَنْ صِفَتُهُ التَّعَفُّفُ دُونَ الْإِلْحَاحِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ لِمَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْفَقِيرَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْمِسْكِينِ، وَأَنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي لَهُ شَيْءٌ لَكِنَّهُ لَا يَكْفِيهِ، وَالْفَقِيرُ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ كَمَا تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} فَسَمَّاهُمْ مَسَاكِينَ مَعَ أَنَّ لَهُمْ سَفِينَةً يَعْمَلُونَ فِيهَا، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ، وَعَكَسَ آخَرُونَ فَقَالُوا: الْمِسْكِينُ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْفَقِيرِ، وَقَالَ آخَرُونَ: هُمَا سَوَاءٌ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَصْحَابِ مَالِكٍ، وَقِيلَ: الْفَقِيرُ الَّذِي يَسْأَلُ، وَالْمِسْكِينُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ، حَكَاهُ ابْنُ بَطَّالٍ، وَظَاهِرُهُ أَيْضًا أَنَّ الْمِسْكِينَ مَنِ اتَّصَفَ بِالتَّعَفُّفِ وَعَدَمِ الْإِلْحَافِ فِي السُّؤَالِ، لَكِنْ قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: مَعْنَاهُ الْمِسْكِينُ الْكَامِلُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ أَصْلِ الْمَسْكَنَةِ عَنِ الطَّوَافِ، بَلْ هِيَ كَقَوْلِهِ: أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ؟ الْحَدِيثَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ} الْآيَةَ، وَكَذَا قَرَّرَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌54 - بَاب خَرْصِ التمَرِ

1481 -

حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ بَكَّارٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى، عَنْ عَبَّاسٍ السَّاعِدِيِّ، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَزْوَةَ تَبُوكَ فَلَمَّا جَاءَ وَادِيَ الْقُرَى إِذَا امْرَأَةٌ فِي حَدِيقَةٍ لَهَا فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ: اخْرُصُوا وَخَرَصَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشَرَةَ أَوْسُقٍ فَقَالَ لَهَا: أَحْصِي مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَلَمَّا أَتَيْنَا تَبُوكَ

(1)

في مخطوطة الرياض"شيئا"

ص: 343

قَالَ: أَمَا إِنَّهَا سَتَهُبُّ اللَّيْلَةَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ فَلَا يَقُومَنَّ أَحَدٌ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ بَعِيرٌ فَلْيَعْقِلْهُ فَعَقَلْنَاهَا وَهَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ فَقَامَ رَجُلٌ فَأَلْقَتْهُ بِجَبَلِ طَيِّءٍ وَأَهْدَى مَلِكُ أَيْلَةَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَغْلَةً بَيْضَاءَ وَكَسَاهُ بُرْدًا وَكَتَبَ لَهُ بِبَحْرِهِمْ فَلَمَّا أَتَى وَادِيَ الْقُرَى قَالَ لِلْمَرْأَةِ: كَمْ جَاءَ حَدِيقَتُكِ؟ قَالَتْ: عَشَرَةَ أَوْسُقٍ خَرْصَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي مُتَعَجِّلٌ إِلَى الْمَدِينَةِ فَمَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَعَجَّلَ مَعِي فَلْيَتَعَجَّلْ فَلَمَّا - قَالَ ابْنُ بَكَّارٍ كَلِمَةً مَعْنَاهَا - أَشْرَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ قَالَ: هَذِهِ طَابَةُ فَلَمَّا رَأَى أُحُدًا قَالَ: هَذَا جُبَيْلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ دُورِ الْأَنْصَارِ قَالُوا بَلَى قَالَ: دُورُ بَنِي النَّجَّارِ ثُمَّ دُورُ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ ثُمَّ دُورُ بَنِي سَاعِدَةَ أَوْ دُورُ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَفِي كُلِّ دُورِ الْأَنْصَارِ يَعْنِي خَيْرًا.

[الحديث 1481 - أطرافه في: 1872، 3161، 3791، 4422]

1482 -

وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ حَدَّثَنِي عَمْرٌو ثُمَّ دَارُ بَنِي الْحَارِثِ ثُمَّ بَنِي سَاعِدَةَ

وَقَالَ سُلَيْمَانُ عَنْ سَعْدِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ عَنْ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ" قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ كُلُّ بُسْتَانٍ عَلَيْهِ حَائِطٌ فَهُوَ حَدِيقَةٌ وَمَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَائِطٌ لَمْ يُقَلْ حَدِيقَةٌ.

قَوْلُهُ: (بَابُ خَرْصِ التَّمْرِ) أَيْ مَشْرُوعِيَّتُهُ، وَالْخَرْصُ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ، وَحُكِيَ كَسْرُهَا وَبِسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ هُوَ حَزْرُ مَا عَلَى النَّخْلِ مِنَ الرُّطَبِ تَمْرًا، حَكَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ تَفْسِيرَهُ أَنَّ الثِّمَارَ إِذَا أُدْرِكَتْ مِنَ الرُّطَبِ وَالْعِنَبِ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ بَعَثَ السُّلْطَانُ خَارِصًا يَنْظُرُ فَيَقُولُ: يُخْرَجُ مِنْ هَذَا كَذَا وَكَذَا زَبِيبًا، وَكَذَا وَكَذَا تَمْرًا، فَيُحْصِيهِ، وَيَنْظُرُ مَبْلَغَ الْعُشْرِ فَيُثْبِتُهُ عَلَيْهِمْ، وَيُخَلِّي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الثِّمَارِ، فَإِذَا جَاءَ وَقْتُ الْجِذَاذِ أُخِذَ مِنْهُمُ الْعُشْرُ. انْتَهَى. وَفَائِدَةُ الْخَرْصِ التَّوْسِعَةُ عَلَى أَرْبَابِ الثِّمَارِ فِي التَّنَاوُلِ مِنْهَا وَالْبَيْعِ مِنْ زَهْوِهَا وَإِيثَارِ الْأَهْلِ وَالْجِيرَانِ وَالْفُقَرَاءِ، لِأَنَّ فِي مَنْعِهِمْ مِنْهَا تَضْيِيقًا لَا يَخْفَى. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَنْكَرَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ الْخَرْصَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا كَانَ يَفْعَلُ تَخْوِيفًا لِلْمُزَارِعِينَ لِئَلَّا يَخُونُوا، لَا لِيُلْزَمَ بِهِ الْحُكْمُ لِأَنَّهُ تَخْمِينٌ وَغُرُورٌ، أَوْ كَانَ يَجُوزُ قَبْلَ تَحْرِيمِ الرِّبَا وَالْقِمَارِ. وَتَعَقَّبَهُ الْخَطَّابِيُّ بِأَنَّ تَحْرِيمَ الرِّبَا وَالْمَيْسِرِ مُتَقَدِّمٌ، وَالْخَرْصُ عُمِلَ بِهِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى مَاتَ، ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَلَا مِنَ التَّابِعِينَ تَرْكُهُ إِلَّا عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ تَخْمِينٌ وَغُرُورٌ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ اجْتِهَادٌ فِي مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ التَّمْرِ وَإِدْرَاكِهِ بِالْخَرْصِ الَّذِي هُوَ نَوْعٌ مِنَ الْمَقَادِيرِ.

وَحَكَى أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ قَوْمٍ مِنْهُمْ أَنَّ الْخَرْصَ كَانَ خَاصًّا بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لِأَنَّهُ كَانَ يُوَفَّقُ مِنَ الصَّوَابِ مَا لَا يُوَفَّقُ لَهُ غَيْرُهُ، وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ غَيْرِهِ لَا يُسَدَّدُ لِمَا كَانَ يُسَدَّدُ لَهُ سَوَاءٌ أَنْ تَثْبُتَ بِذَلِكَ الْخُصُوصِيَّةُ وَلَوْ كَانَ الْمَرْءُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الِاتِّبَاعُ إِلَّا فِيمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يُسَدَّدُ فِيهِ كَتَسْدِيدِ الْأَنْبِيَاءِ لَسَقَطَ الِاتِّبَاعُ، وَتَرِدُ هَذِهِ الْحُجَّةُ أَيْضًا بِإِرْسَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْخَرَّاصَ فِي زَمَانِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَاعْتَلَّ الطَّحَاوِيُّ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ لِلثَّمَرَةِ آفَةٌ فَتُتْلِفُهَا فَيَكُونَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ صَاحِبِهَا مَأْخُوذًا بَدَلًا مِمَّا لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْقَائِلِينَ بِهِ لَا يُضَمِّنُونَ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ مَا تَلِفَ بَعْدَ الْخَرْصِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ الْعِلْمُ أَنَّ الْمَخْرُوصَ إِذَا أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ قَبْلَ الْجِذَاذِ فَلَا ضَمَانَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى) هُوَ الْمَازِنِيُّ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ وُهَيْبٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَبَّاسٍ السَّاعِدِيِّ) هُوَ ابْنُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ

ص: 344

سَهْلِ بْنِ بَكَّارٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، عَنِ الْعَبَّاسِ السَّاعِدِيِّ، يَعْنِي ابْنَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ وُهَيْبٍ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ سَهْلٍ السَّاعِدِيُّ.

قَوْلُهُ: (غَزْوَةُ تَبُوكَ) سَيَأْتِي شَرْحُهَا فِي الْمَغَازِي.

قَوْلُهُ: (فَلَمَّا جَاءَ وَادِي الْقُرَى) هِيَ مَدِينَةٌ قَدِيمَةٌ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ سَيَأْتِي ذِكْرُهَا فِي الْبُيُوعِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ قُرْقُولٍ فَقَالَ: إِنَّهَا مِنْ أَعْمَالِ الْمَدِينَةِ.

قَوْلُهُ: (إِذَا امْرَأَةٌ فِي حَدِيقَةٍ لَهَا) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ لَكِنْ بِشَرْطِ الْإِفَادَةِ، قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: لَا يَمْتَنِعُ الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَةِ الْمَحْضَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، بَلْ إِذَا لَمْ تَحْصُلْ فَائِدَةٌ، فَلَوِ اقْتَرَنَ بِالنَّكِرَةِ الْمَحْضَةِ قَرِينَةٌ يَتَحَصَّلُ بِهَا الْفَائِدَةُ جَازَ الِابْتِدَاءُ بِهَا نَحْوُ انْطَلَقْتُ فَإِذَا سَبْعٌ فِي الطَّرِيقِ. . . إِلَخْ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَأَتَيْنَا عَلَى حَدِيقَةِ امْرَأَةٍ. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهَا فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ.

قَوْلُهُ: (اخْرُصُوا) بِضَمِّ الرَّاءِ، زَادَ سُلَيْمَانُ: فَخَرَصْنَا وَلَمْ أَقِفْ عَلَى أَسْمَاءِ مَنْ خَرَصَ مِنْهُمْ.

قَوْلُهُ: (وَخَرَصَ) فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ: وَخَرَصَهَا.

قَوْلُهُ: (أَحْصِي) أَيْ: احْفَظِي عَدَدَ كَيْلِهَا، وَفِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ: أَحْصِيهَا حَتَّى نَرْجِعَ إِلَيْكِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَصْلُ الْإِحْصَاءِ الْعَدَدُ بِالْحَصَى، لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُحْسِنُونَ الْكِتَابَةَ، فَكَانُوا يَضْبُطُونَ الْعَدَدَ بِالْحَصَى.

قَوْلُهُ: (سَتَهُبُّ اللَّيْلَةَ) زَادَ سُلَيْمَانُ: عَلَيْكُمْ.

قَوْلُهُ: (فَلَا يَقُومَنَّ أَحَدٌ) فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ: فَلَا يَقُمْ فِيهَا أَحَدٌ مِنْكُمْ.

قَوْلُهُ: (فَلْيَعْقِلْهُ) أَيْ: يَشُدُّهُ بِالْعِقَالِ وَهُوَ الْحَبْلُ، وَفِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ: فَلْيَشُدَّ عِقَالَهُ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي الْمَغَازِي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ: وَلَا يَخْرُجَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمُ اللَّيْلَةَ إِلَّا وَمَعَهُ صَاحِبٌ لَهُ.

قَوْلُهُ: (فَقَامَ رَجُلٌ فَأَلْقَتْهُ بِجَبَلِ طَيٍّ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: بِجَبَلَيْ طَيٍّ. وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَفَّانَ، عَنْ وُهَيْبٍ: وَلَمْ يَقُمْ فِيهَا أَحَدٌ غَيْرُ رَجُلَيْنِ أَلْقَتْهُمَا بِجَبَلِ طَيٍّ وَفِيهِ نَظَرٌ بَيَّنَتْهُ رِوَايَةُ ابْنِ إِسْحَاقَ وَلَفْظُهُ: فَفَعَلَ النَّاسُ مَا أَمَرَهُمْ إِلَّا رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي سَاعِدَةَ خَرَجَ أَحَدُهُمَا لِحَاجَتِهِ، وَخَرَجَ آخَرُ فِي طَلَبِ بَعِيرٍ لَهُ، فَأَمَّا الَّذِي ذَهَبَ لِحَاجَتِهِ، فَإِنَّهُ خُنِقَ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَأَمَّا الَّذِي ذَهَبَ فِي طَلَبِ بَعِيرِهِ، فَاحْتَمَلَتْهُ الرِّيحُ حَتَّى طَرَحَتْهُ بِجَبَلِ طَيٍّ، فَأَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَلَمْ أَنْهَكُمْ أَنْ يَخْرُجَ رَجُلٌ إِلَّا وَمَعَهُ صَاحِبٌ لَهُ. ثُمَّ دَعَا لِلَّذِي أُصِيبَ عَلَى مَذْهَبِهِ فَشُفِيَ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَإِنَّهُ وَصَلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَدِمَ مِنْ تَبُوكَ: وَالْمُرَادُ بِجَبَلَيْ طَيٍّ الْمَكَانُ الَّذِي كَانَتِ الْقَبِيلَةُ الْمَذْكُورَةُ تَنْزِلُهُ، وَاسْمُ الْجَبَلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ: أَجَأٌ بِهَمْزَةٍ وَجِيمٍ مَفْتُوحَتَيْنِ بَعْدَهُمَا هَمْزَةٌ بِوَزْنِ قَمَرٍ، وَقَدْ لَا تُهْمَزُ فَيَكُونُ بِوَزْنِ عَصَا وَسَلْمَى وَهُمَا مَشْهُورَانِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُمَا سُمِّيَا بِاسْمِ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنَ الْعَمَالِيقِ. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ الرَّجُلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ وَأَظُنُّ تَرْكُ ذِكْرِهِمَا وَقَعَ عَمْدًا، فَقَدْ وَقَعَ فِي آخِرِ حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ حَدَّثَهُ أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ سَهْلٍ سَمَّى الرَّجُلَيْنِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَكْتَمَنِي إِيَّاهُمَا، قَالَ: وَأَبَى عَبْدُ اللَّهِ أَنْ يُسَمِّيَهُمَا لَنَا.

قَوْلُهُ: (وَأَهْدَى مَلِكُ أَيْلَةَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا لَامٌ مَفْتُوحَةٌ بَلْدَةٌ قَدِيمَةٌ بِسَاحِلِ الْبَحْرِ، تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي بَابِ الْجُمُعَةِ فِي الْقُرَى وَالْمُدُنِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: وَجَاءَ رَسُولُ ابْنِ الْعَلْمَاءِ صَاحِبِ أَيْلَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِكِتَابٍ، وَأَهْدَى لَهُ بَغْلَةً بَيْضَاءَ. وَفِي مَغَازِي ابْنِ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى تَبُوكَ أَتَاهُ يُوحَنَّا بْنُ رُوبَةَ صَاحِبُ أَيْلَةَ، فَصَالَحَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَعْطَاهُ الْجِزْيَةَ. وَكَذَا رَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي الْهَدَايَا مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ، فَاسْتُفِيدَ مِنْ ذَلِكَ اسْمُهُ وَاسْمُ أَبِيهِ، فَلَعَلَّ الْعَلْمَاءَ اسْمُ أُمِّهِ، وَيُوحَنَّا بِضَمِّ التَّحْتَانِيَّةِ، وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ، وَرُوبَةُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ، وَاسْمُ الْبَغْلَةِ الْمَذْكُورَةِ دُلْدُلٌ، هَكَذَا جَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ، وَنَقَلَ عَنِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ لَهُ بَغْلَةٌ سِوَاهَا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْحَاكِمَ أَخْرَجَ فِي الْمُسْتَدْرَكِ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ كِسْرَى أَهْدَى لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَغْلَةً فَرَكِبَهَا بِحَبْلٍ مِنْ شَعْرٍ، ثُمَّ أَرْدَفَنِي خَلْفَهُ. الْحَدِيثَ،

ص: 345

وَهَذِهِ غَيْرُ دُلْدُلٍ. وَيُقَالُ: إِنَّ النَّجَاشِيَّ أَهْدَى لَهُ بَغْلَةً، وَأَنَّ صَاحِبَ دَوْمَةَ الْجَنْدَلِ أَهْدَى لَهُ بَغْلَةً، وَأَنَّ دُلْدُلَ إِنَّمَا أَهْدَاهَا لَهُ الْمُقَوْقِسُ. وَذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّ الَّتِي كَانَتْ تَحْتَهُ يَوْمَ حُنَيْنٍ تُسَمَّى فِضَّةَ، وَكَانَتْ شَهْبَاءَ، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي هَذِهِ الْبَغْلَةِ أَنَّ فَرْوَةَ أَهْدَاهَا لَهُ.

قَوْلُهُ: (وَكَتَبَ لَهُ بِبَحْرِهِمْ) أَيْ: بِبَلَدِهِمْ، أَوِ الْمُرَادُ بِأَهْلِ بَحْرِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا سُكَّانًا بِسَاحِلِ الْبَحْرِ، أَيْ أَنَّهُ أَقَرَّهُ عَلَيْهِمْ بِمَا الْتَزَمُوهُ مِنَ الْجِزْيَةِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: بِبَحْرَتِهِمْ؛ أَيْ بَلْدَتِهِمْ، وَقِيلَ: الْبَحْرَةُ الْأَرْضُ. وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ الْكِتَابَ، وَهُوَ بَعْدَ الْبَسْمَلَةِ: هَذِهِ أَمَنَةٌ مِنَ اللَّهِ وَمُحَمَّدٍ النَّبِيِّ رَسُولِ اللَّهِ لِيُوحَنَّا بْنِ رُوبَةَ وَأَهْلِ أَيْلَةَ سُفُنُهُمْ وَسَيَّارَتُهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، لَهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ وَمُحَمَّدٍ النَّبِيِّ. وَسَاقَ بَقِيَّةَ الْكِتَابِ.

قَوْلُهُ: (كَمْ جَاءَ حَدِيقَتُكَ) أَيْ: تَمْرُ حَدِيقَتِكَ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: فَسَأَلَ الْمَرْأَةَ عَنْ حَدِيقَتِهَا كَمَ بَلَغَ ثَمَرُهَا؟. وَقَوْلُهُ: عَشْرَةً بِالنَّصْبِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ أَوْ عَلَى الْحَالِ، وَقَوْلُهُ: خَرْصَ بِالنَّصْبِ أَيْضًا إِمَّا بَدَلًا وَإِمَّا بَيَانًا، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ فِيهِمَا، وَتَقْدِيرُهُ: الْحَاصِلُ عَشْرَةُ أَوْسُقٍ، وَهُوَ خَرْصُ رَسُولِ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (فَلَمَّا قَالَ ابْنُ بَكَّارٍ كَلِمَةً مَعْنَاهَا أَشْرَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ) ابْنُ بَكَّارٍ هُوَ سَهْلٌ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ، فَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ شَكَّ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ فَقَالَ هَذَا، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ عَنْ فَارُوقٍ، عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، عَنْ سَهْلٍ فَذَكَرَهَا بِهَذَا اللَّفْظِ سَوَاءٍ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَدِينَةِ فِي فَضْلِ الْمَدِينَةِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَنْصَارِ فِي مَنَاقِبِ الْأَنْصَارِ، فَإِنَّهُ سَاقَ ذَلِكَ هُنَاكَ أَتَمَّ مِمّ اهُنَا. وَقَوْلُهُ: طَابَةُ هُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَدِينَةِ كَطَيْبَةَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، حَدَّثَنِي عَمْرٌو) يَعْنِي ابْنُ يَحْيَى بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَهَذِهِ الطَّرِيقُ مَوْصُولَةٌ فِي فضَائِلِ الْأَنْصَارِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ سُلَيْمَانُ) هُوَ ابْنُ بِلَالٍ الْمَذْكُورُ، وَسَعْدُ بْنُ سَعِيدٍ هُوَ الْأَنْصَارِيُّ أَخُو يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَعَبَّاسٌ هُوَ ابْنُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَهِيَ مَوْصُولَةٌ فِي فَوَائِدِ عَلِيِّ بْنِ خُزَيْمَةَ. قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيُّ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَيْ: ابْنُ بِلَالٍ، حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ فَذَكَرَهُ، وَأَوَّلُهُ: أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِذَا دَنَا مِنَ الْمَدِينَةِ أَخَذَ طَرِيقَ غُرَابٍ، لِأَنَّهَا أَقْرَبُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَتَرَكَ الْأُخْرَى. فَسَاقَ الْحَدِيثَ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَوَّلَهُ، وَاسْتُفِيدَ مِنْهُ بَيَانُ قَوْلِهِ: إِنِّي مُتَعَجِّلٌ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَمَنْ أَحَبَّ فَلْيَتَعَجَّلْ مَعِيَ. أَيْ إِنِّي سَالِكٌ الطَّرِيقَ الْقَرِيبَةَ فَمَنْ أَرَادَ فَلْيَأْتِ مَعِيَ، يَعْنِي مِمَّنْ لَهُ اقْتِدَارٌ عَلَى ذَلِكَ دُونَ بَقِيَّةِ الْجَيْشِ. وَظَهَرَ أَنَّ عُمَارَةَ بْنَ غَزِيَّةَ خَالَفَ عَمْرَو بْنَ يَحْيَى فِي إِسْنَادِ الْحَدِيثِ، فَقَالَ عَمْرٌو: عَنْ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ، وَقَالَ عُمَارَةُ: عَنْ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِيهِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَسْلُكَ طَرِيقَ الْجَمْعِ بِأَنْ يَكُونَ عَبَّاسٌ أَخَذَ الْقَدْرَ الْمَذْكُورَ - وَهُوَ: أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ - عَنْ أَبِيهِ وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ مَعًا، أَوْ حَمَلَ الْحَدِيثَ عَنْهُمَا مَعًا، أَوْ كُلُّهُ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ وَمُعْظَمُهُ عَنْ أَبِيهِ، وَكَانَ يُحَدِّثُ بِهِ تَارَةً عَنْ هَذَا وَتَارَةً عَنْ هَذَا، وَلِذَلِكَ كَانَ لَا يَجْمَعُهُمَا.

وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ الْمَذْكُورَةِ: عَبَّاسُ بْنُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَوْ عَبَّاسٌ، عَنْ سَهْلٍ. فَتَرَدَّدَ فِيهِ: هَلْ هُوَ مُرْسَلٌ، أَوْ رَوَاهُ عَنْ أَبِيهِ فَيُوَافِقُ قَوْلَ عُمَارَةَ، لَكِنَّ سِيَاقَ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى أَتَمُّ مِنْ سِيَاقِ غَيْرِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَشْرُوعِيَّةُ الْخَرْصِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِيهِ أَوَّلَ الْبَابِ، وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهِ: هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ، فَحَكَى الصَّيْمَرِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَجْهًا بِوُجُوبِهِ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ مُسْتَحَبٌّ إِلَّا إِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ لِمَحْجُورٍ مَثَلًا، أَوْ كَانَ شُرَكَاؤُهُ غَيْرَ مُؤْتَمَنِينَ فَيَجِبُ لِحِفْظِ مَالِ الْغَيْرِ، وَاخْتُلِفَ أَيْضًا: هَلْ يَخْتَصُّ بِالنَّخْلِ أَوْ يُلْحَقُ بِهِ الْعِنَبُ أَوْ يَعُمُّ كُلُّ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ رَطِبًا وَجَافًّا؟ وَبِالْأَوَّلِ قَالَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي وَبَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَالثَّانِي قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَإِلَى الثَّالِثِ نَحَا الْبُخَارِيُّ. وَهَلْ يَمْضِي قَوْلُ الْخَارِصِ أَوْ يَرْجِعُ إِلَى مَا آلَ إِلَيْهِ الْحَالُ بَعْدَ الْجَفَافِ؟ الْأَوَّلُ: قَوْلُ مَالِكٍ وَطَائِفَةٍ، وَالثَّانِي: قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ. وَهَلْ يَكْفِي خَارِصٌ وَاحِدٌ عَارِفٌ ثِقَةٌ أَوْ لَا بُدَّ مِنَ

ص: 346

اثْنَيْنِ؟ وَهُمَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْأَوَّلِ. وَاخْت لِفَ أَيْضًا: هَلْ هُوَ اعْتِبَارٌ أَوْ تَضْمِينٌ؟ وَهُمَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ أَظْهَرُهُمَا الثَّانِي، وَفَائِدَتُهُ جَوَازُ التَّصَرُّفِ فِي جَمِيعِ الثَّمَرَةِ وَلَوْ أَتْلَفَ الْمَالِكُ الثَّمَرَةَ بَعْدَ الْخَرْصِ أُخِذَتْ مِنْهُ الزَّكَاةُ بِحِسَابِ مَا خَرَصَ.

وَفِيهِ أَشْيَاءُ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ كَالْإِخْبَارِ عَنِ الرِّيحِ وَمَا ذَكَرَ فِي تِلْكَ الْقِصَّةِ، وَفِيهِ تَدْرِيبُ الْأَتْبَاعِ وَتَعْلِيمُهُمْ، وَأَخْذُ الْحَذَرِ مِمَّا يُتَوَقَّعُ الْخَوْفُ مِنْهُ، وَفَضْلُ الْمَدِينَةِ وَالْأَنْصَارِ، وَمَشْرُوعِيَّةُ الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الْفُضَلَاءِ بِالْإِجْمَالِ وَالتَّعْيِينِ، وَمَشْرُوعِيَّةُ الْهَدِيَّةِ وَالْمُكَافَأَةِ عَلَيْهَا.

(تَكْمِيلٌ): فِي السُّنَنِ وَصَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ مَرْفُوعًا: إِذَا خَرَصْتُمْ فَخُذُوا وَدَعُوا الثُّلُثَ، فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا الثُّلُثَ فَدَعُوا الرُّبُعَ، وَقَالَ بِظَاهِرِهِ اللَّيْثُ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ وَغَيْرُهُمْ، وَفَهِمَ مِنْهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ أَنَّهُ الْقَدْرُ الَّذِي يَأْكُلُونَهُ بِحَسَبِ احْتِيَاجِهِمْ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يُتْرَكُ قَدْرُ احْتِيَاجِهِمْ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَسُفْيَانُ: لَا يُتْرَكُ لَهُمْ شَيْءٌ. وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ الشَّافِعِيِّ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالْمُتَحَصَّلُ مِنْ صَحِيحِ النَّظَرِ أَنْ يُعْمَلَ بِالْحَدِيثِ وَهُوَ قَدْرُ الْمُؤْنَةِ، وَلَقَدْ جَرَّبْنَاهُ فَوَجَدْنَاهُ كَذَلِكَ فِي الْأَغْلَبِ مِمَّا يُؤْكَلُ رَطْبًا.

قَوْلُهُ: (وقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ

(1)

) هُوَ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ الْإِمَامُ الْمَشْهُورُ صَاحِبُ الْغَرِيبِ وَكَلَامُهُ هَذَا فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ لَهُ، وَقَالَ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ: هُوَ مِنَ الرِّيَاضِ كُلُّ أَرْضٍ اسْتَدَارَتْ، وَقِيلَ: كُلُّ أَرْضٍ ذَاتِ شَجَرٍ مُثْمِرٍ وَنَخْلٍ، وَقِيلَ: كُلُّ حُفْرَةٍ تَكُونُ فِي الْوَادِي يُحْتَبَسُ فِيهَا الْمَاءُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَاءٌ فَهُوَ حَدِيقَةٌ، وَيُقَالُ: الْحَدِيقَةُ أَعْمَقُ مِنَ الْغَدِيرِ وَالْحَدِيقَةُ الْقِطْعَةُ مِنَ الزَّرْعِ يَعْنِي أَنَّهُ مِنَ الْمُشْتَرَكِ.

‌55 - بَاب الْعُشْرِ فِيمَا يُسْقَى مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ وَبِالْمَاءِ الْجَارِي

وَلَمْ يَرَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي الْعَسَلِ شَيْئًا

1483 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ.

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: هَذَا تَفْسِيرُ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَمْ يُوَقِّتْ فِي الْأَوَّلِ يَعْنِي حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ وَبَيَّنَ فِي هَذَا وَوَقَّتَ وَالزِّيَادَةُ مَقْبُولَةٌ وَالْمُفَسَّرُ يَقْضِي عَلَى الْمُبْهَمِ إِذَا رَوَاهُ أَهْلُ الثَّبَتِ كَمَا رَوَى الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُصَلِّ فِي الْكَعْبَةِ. وَقَالَ بِلَالٌ: قَدْ صَلَّى فَأُخِذَ بِقَوْلِ بِلَالٍ وَتُرِكَ قَوْلُ الْفَضْلِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْعُشْرِ فِيمَا يُسْقَى مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ وَالْمَاءِ الْجَارِي) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: عَدَلَ عنْ لَفْظِ الْعُيُونِ الْوَاقِعِ فِي الْخَبَرِ إِلَى الْمَاءِ الْجَارِي لِيُجْرِيَهُ مُجْرَى التَّفْسِيرِ لِلْمَقْصُودِ مِنْ مَاءِ الْعُيُونِ، وَأَنَّهُ الْمَاءُ الَّذِي يَجْرِي بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ نَضْحٍ وَلِيُبَيِّنَ أَنَّ الَّذِي يَجْرِي بِنَفْسِهِ مِنْ نَهْرٍ أَوْ غَدِيرٍ حُكْمُهُ حُكْمُ مَا يَجْرِي مِنَ الْعُيُونِ. انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا فِي بَعْضِ طُرُقِهِ، فَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ: فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالْأَنْهَارُ وَالْعُيُونُ الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَرَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي الْعَسَلِ شَيْئًا) أَيْ: زَكَاةً، وَصَلَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، قَالَ: جَاءَ كِتَابٌ مِنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ

(1)

كذا في نسخة الشارح وفي نسخة أخرى "قال عبد الله" يعني البخاري، قاله القسطلاني. فتنبه

ص: 347

إِلَى أَبِي، وَهُوَ بِمِنًى: أَنْ لَا تَأْخُذَ مِنَ الْخَيْلِ وَلَا مِنَ الْعَسَلِ صَدَقَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: بَعَثَنِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَلَى الْيَمَنِ، فَأَرَدْتُ أَنْ آخُذَ مِنَ الْعَسَلِ الْعُشْرَ، فَقَالَ مُغِيرَةُ بْنُ حَكِيمٍ الصَّنْعَانِيُّ: لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، فَكَتَبْتَ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَالَ: صَدَقَ، هُوَ عَدْلُ رِضَا، لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ وَجَاءَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَا يُخَالِفُهُ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ كِتَابِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ قَالَ: ذَكَرَ لِي بَعْضُ مَنْ لَا أَتَّهِمُ مِنْ أَهْلِي أَنَّهُ تَذَاكَرَ هُوَ وَعُرْوَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّعْدِيُّ فَزَعَمَ عُرْوَةُ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَسْأَلُهُ عَنْ صَدَقَةِ الْعَسَلِ، فَزَعَمَ عُرْوَةُ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّا قَدْ وَجَدْنَا بَيَانَ صَدَقَةِ الْعَسَلِ بِأَرْضِ الطَّائِفِ فَخُذْ مِنْهُ الْعُشْرَ. انْتَهَى. وَهَذَا إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ لِجَهَالَةِ الْوَاسِطَةِ، وَالْأَوَّلُ أَثْبَتُ، وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ إِلَى تَضْعِيفِ مَا رُوِيَ: أَنَّ فِي الْعَسَلِ الْعُشْرَ. وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ.

كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ أَنْ يُؤْخَذَ مِنَ الْعَسَلِ الْعُشْرُ: وَفِي إِسْنَادِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَرَّرٍ، وَهُوَ بِمُهْمَلَاتٍ وَزْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ: عَبْدُ اللَّهِ مَتْرُوكٌ، وَلَا يَصِحُّ فِي زَكَاةِ الْعَسَلِ شَيْءٌ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا يَصِحُّ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ. قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: حَدِيثُ إِنَّ فِي الْعَسَلِ الْعُشْرَ ضَعِيفٌ، وَفِي أَنْ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ الْعُشْرُ ضَعِيفٌ، إِلَّا عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. انْتَهَى. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ: أَنَّ مُعَاذًا لَمَّا أَتَى الْيَمَنَ قَالَ: لَمْ أُؤْمَرْ فِيهِمَا بِشَيْءٍ يَعْنِي الْعَسَلَ وَأَوْقَاصَ الْبَقَرِ، وَهَذَا مُنْقَطِعٌ، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: جَاءَ هِلَالٌ أَحَدُ بَنِي مُتْعَانَ - أَيْ: بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ - إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعُشُورِ نَحْلٍ لَهُ، وَكَانَ سَأَلَهُ أَنْ يَحْمِيَ لَهُ وَادِيًا فَحَمَاهُ لَهُ، فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ كَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ: إِنْ أَدَّى إِلَيْكَ عُشُورَ نَحْلِهِ فَاحْمِ لَهُ سَلَبَهُ، وَإِلَّا فَلَا.

وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ إِلَى عَمْرٍو

(1)

وَتَرْجَمَةُ عَمْرٍو قَوِيَّةٌ عَلَى الْمُخْتَارِ لَكِنْ حَيْثُ لَا تَعَارُضَ، وَقَدْ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هِلَالًا أَعْطَى ذَلِكَ تَطَوُّعًا، فَعِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ صَالِحِ بْنِ دِينَارٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ يَنْهَاهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْعَسَلِ صَدَقَةً إِلَّا إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَهَا، فَجَمَعَ عُثْمَانُ أَهْلَ الْعَسَلِ، فَشَهِدُوا أَنَّ هِلَالَ بْنَ سَعْدٍ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِعَسَلٍ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: صَدَقَةٌ فَأَمَرَ بِرَفْعِهَا وَلَمْ يَذْكُرْ عُشُورًا. لَكِنَّ الْإِسْنَادَ الْأَوَّلَ أَقْوَى، إِلَّا أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الْحِمَى كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَيْسَ فِي الْعَسَلِ خَبَرٌ يَثْبُتُ وَلَا إِجْمَاعٌ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ: يَجِبُ الْعُشْرُ فِيمَا أُخِذَ مِنْ غَيْرِ أَرْضِ الْخَرَاجِ. وَمَا نَقَلَهُ عَنِ الْجُمْهُورِ مُقَابِلُهُ قَوْلُ التِّرْمِذِيَّ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِيهِ، وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.

وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَيْسَ فِي الْعَسَلِ شَيْءٌ، وَأَشَارَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِهِ إِلَى أَنَّ الَّذِي نَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَقْوَى، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: مُنَاسَبَةُ أَثَرِ عُمَرَ فِي الْعَسَلِ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا عُشْرَ فِيهِ، لِأَنَّهُ خَصَّ الْعُشْرَ أَوْ نِصْفَهُ بِمَا يُسْقَى، فَأَفْهَمَ أَنَّ مَا لَا يُسْقَى لَا يُعَشَّرُ، زَادَ ابْنُ رَشِيدٍ: فَإِنْ قِيلَ الْمَفْهُومُ إِنَّمَا يَنْفِي الْعُشْرَ أَوْ نِصْفَهُ لَا مُطْلَقَ الزَّكَاةِ، فَالْجَوَابُ أَنَّ النَّاسَ قَائِلَانِ: مُثْبِتٌ لِلْعُشْرِ وَنَافٍ لِلزَّكَاةِ أَصْلًا، فَتَمَّ الْمُرَادُ. قَالَ: وَوَجْهُ إِدْخَالِهِ الْعَسَلَ أَيْضًا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى الْخِلَافِ فِيهِ، وَأَنَّهُ لَا يَرَى فِيهِ زَكَاةً وَإِنْ كَانَتِ النَّحْلُ تَتَغَذَّى مِمَّا يُسْقَى مِنَ السَّمَاءِ لَكِنَّ الْمُتَوَلِّدَ بِالْمُبَاشَرَةِ كَالزَّرْعِ لَيْسَ كَالْمُتَوَلِّدِ بِوَاسِطَةِ حَيَوَانٍ كَاللَّبَنِ، فَإِنَّهُ مُتَوَلِّدٌ عَنِ الرَّعْيِ وَلَا زَكَاةَ

(1)

مراده أن إسناد هذا الحديث إلى عمرو بن شعيب صحيح وأما رواية عمرو عن أبيه عن جده فمختلف فيها بين أهل الحديث، والصواب أنها حجة ما لم يخالفها ما هو أقوى منها، كما أشار إليه الشارح، وقد ذكر ذلك غيره من أهل العلم، وصرح به العلامة ابن القيم في بعض كتبه. والله أعلم

ص: 348

فِيهِ.

قَوْلُهُ: (عَثَرِيًّا) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُثَلَّثَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ تَشْدِيدُ الْمُثَلَّثَةِ، وَرَدَّهُ ثَعْلَبٌ وَحَكَى ابْنُ عُدَيْسٍ فِي الْمُثَلَّثِ فِيهِ ضَمَّ أَوَّلِهِ وَإِسْكَانَ ثَانِيهِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هُوَ الَّذِي يَشْرَبُ بِعُرُوقِهِ مِنْ غَيْرِ سَقْيٍ، زَادَ ابْنُ قُدَامَةَ، عَنِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى: وَهُوَ الْمُسْتَنْقَعُ فِي بِرْكَةٍ وَنَحْوِهَا، يُصَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَاءِ الْمَطَرِ فِي سَوَاقٍ تُشَقُّ لَهُ، قَالَ: وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْعَاثُورِ، وَهِيَ السَّاقِيَةُ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا الْمَاءُ، لِأَنَّ الْمَاشِيَ يَعْثُرُ فِيهَا. قَالَ: وَمِنْهُ الَّذِي يَشْرَبُ مِنَ الْأَنْهَارِ بِغَيْرِ مُؤْنَةٍ، أَوْ يَشْرَبُ بِعُرُوقِهِ كَأَنْ يُغْرَسَ فِي أَرْضٍ يَكُونُ الْمَاءُ قَرِيبًا مِنْ وَجْهِهَا فَيَصِلُ إِلَيْهِ عُرُوقُ الشَّجَرِ فَيَسْتَغْنِي عَنِ السَّقْيِ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ أَوْلَى مِنَ إِطْلَاقِ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّ الْعَثَرِيَّ مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ، لِأَنَّ سِيَاقَ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى الْمُغَايَرَةِ، وَكَذَا قَوْلُ مَنْ فَسَّرَ الْعَثَرِيَّ بِأَنَّهُ الَّذِي لَا حَمْلَ لَهُ، لِأَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهِ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا نَعْلَمُ فِي هَذِهِ التَّفْرِقَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا خِلَافًا.

قَوْلُهُ: (بِالنَّضْحِ) بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ، أَيْ: بِالسَّانِيَةِ، وَهِيَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْإِبِلُ الَّتِي يُسْتَقَى عَلَيْهَا، وَذَكَرَ الْإِبِلَ كَالْمِثَالِ، وَإِلَّا فَالْبَقْرُ وَغَيْرُهَا كَذَلِكَ فِي الْحُكْمِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: هَذَا تَفْسِيرُ الْأَوَّلِ. . . إِلَخْ) هَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ هَذَا الْكَلَامُ عَقِبَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي الْعَثَرِيِّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ عَقِبَ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَهُوَ الَّذِي وَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ أَيْضًا، وَجَزَمَ أَبُو عَلِيٍّ الصَّدَفِيُّ بِأَنَّ ذِكْرَهُ عَقِبَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ قِبَلِ بَعْضِ نُسَّاخِ الْكِتَابِ. انْتَهَى. وَلَمْ يَقِفِ الصَّغَانِيُّ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ، فَجَزَمَ بِأَنَّهُ وَقَعَ هُنَا فِي جَمِيعِهَا، قَالَ: وَحَقُّهُ أَنْ يُذْكَرَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، قُلْتُ: وَلِذِكْرِهِ عَقِبَ كُلٍّ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ وَجْهٌ، لَكِنَّ تَعْبِيرَهُ بِالْأَوَّلِ يُرَجِّحُ كَوْنَهُ بَعْدَ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُفَسَّرُ للَّذِي قَبْلَهُ وَهُوَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، فَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ بِعُمُومِهِ ظَاهِرٌ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ النِّصَابِ، وَفِي إِيجَابِ الزَّكَاةِ فِي كُلِّ مَا يُسْقَى بِمُؤْنَةٍ وَبِغَيْرِ مُؤنَةٍ، وَلَكِنَّهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مُخْتَصٌّ بِالْمَعْنَى الَّذِي سِيقَ لِأَجْلِهِ، وَهُوَ التَّمْيِيزُ بَيْنَ مَا يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ أَوْ نِصْفُ الْعُشْرِ بِخِلَافِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، فَإِنَّهُ مُسَاقٌ لِبَيَانِ جِنْسِ الْمُخْرَجِ مِنْهُ وَقَدْرِهِ، فَأَخَذَ بِهِ الْجُمْهُورُ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي بَسْطُ الْقَوْلِ فِيهِ بَعْدُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَدْ جَزَمَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِأَنَّ كَلَامَ الْبُخَارِيِّ وَقَعَ عَقِبَ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَدَلَّ حَدِيثُ الْبَابِ عَلَى التَّفْرِقَةِ فِي الْقَدْرِ الْمُخْرَجِ الَّذِي يُسْقَى بِنَضْحٍ أَوْ بِغَيْرِ نَضْحٍ، فَإِنْ وُجِدَ مَا يُسْقَى بِهِمَا فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعُشْرِ إِذَا تَسَاوَى ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ كَانَ حُكْمُ الْأَقَلِّ تَبَعًا لِلْأَكْثَرِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَالثَّانِي يُؤْخَذُ بِالْقِسْطِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ أَمْكَنَ فَصْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُخِذَ بِحِسَابِهِ، وَعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ صَاحِبِ مَالِكٍ: الْعِبْرَةُ بِمَا تَمَّ بِهِ الزَّرْعُ وَانْتَهَى وَلَوْ كَانَ أَقَلَّ، قَالَهُ ابْنُ التِّينِ عَنْ حِكَايَةِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ عَنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(تَنْبِيهٌ): قَالَ النَّسَائِيُّ عَقِبَ تَخْرِيجِ هَذَا الْحَدِيثِ: رَوَاهُ نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ، قَالَ: وَسَالِمٌ أَجَلُّ مِنْ نَافِعٍ، وَقَوْلُ نَافِعٍ أَوْلَى بِالصَّوَابِ. وَقَوْلُهُ بَعْدَهُ:(هَذَا تَفْسِيرُ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَمْ يُوَقِّتْ فِي الْأَوَّلِ) أَيْ: لَمْ يَذْكُرْ حَدًّا لِلنِّصَابِ، وَقَوْلُهُ:(وَبَيَّنَ فِي هَذَا) يَعْنِي فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ.

قَوْلُهُ: (وَالزِّيَادَةُ مَقْبُولَةٌ) أَيْ: مِنَ الْحَافِظِ، وَالثَّبَتُ بِتَحْرِيكِ الْمُوَحَّدَةِ: الثَّبَاتُ وَالْحُجَّةُ.

قَوْلُهُ: (وَالْمُفَسَّرُ يَقْضِي عَلَى الْمُبْهَمِ): أَيْ: الْخَاصُّ يَقْضِي عَلَى الْعَامِّ، لِأَنَّ فِيمَا سَقَتْ عَامٌّ يَشْمَلُ النِّصَابَ وَدُونَهُ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ خَاصٌّ بِقَدْرِ النِّصَابِ، وَأَجَابَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ مَحِلَّ ذَلِكَ مَا إِذَا كَانَ الْبَيَانُ وَفْقَ الْمُبِينِ لَا زَائِدًا عَلَيْهِ وَلَا نَاقِصًا عَنْهُ، أَمَّا إِذَا انْتَفَى شَيْءٌ مِنْ أَفْرَادِ الْعَامِّ مَثَلًا، فَيُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِهِ كَحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ هَذَا، فَإِنَّهُ دَلَّ عَلَى النِّصَابِ فِيمَا يَقْبَلُ التَّوْسِيقُ، وَسَكَتَ عَمَّا لَا يَقْبَلُ التَّوْسِيقُ فَيُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِعُمُومِ قَوْلِهِ: فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ. أَيْ: مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّوْسِيقُ فِيهِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ، وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ

ص: 349

بِمَا رُوِيَ مَرْفُوعًا: لَا زَكَاةَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيٍّ وَطَلْحَةَ وَمُعَاذٍ مَرْفُوعًا، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا يَصِحُّ فِيهِ شَيْءٌ إِلَّا مُرْسَلُ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا هِيَ فِيمَا يُكَالُ مِمَّا يُدَّخَرُ لِلِاقْتِيَاتِ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَعَنْ أَحْمَدَ: يُخْرِجُ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ لَاقْتَياتُ. وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَأَبِي يُوسُفَ. وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِمَّا أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ، إِلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: تَجِبُ فِي جَمِيعِ مَا يُقْصَدُ بِزِرَاعَتِهِ نَمَاءُ الْأَرْضِ إِلَّا الْحَطَبَ وَالْقَصَبَ وَالْحَشِيشَ وَالشَّجَرَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ ثَمَرٌ. انْتَهَى.

وَحَكَى عِيَاضٌ، عَنْ دَاوُدَ أَنَّ كُلَّ مَا يَدْخُلُ فِيهِ الْكَيْلُ يُرَاعَى فِيهِ النِّصَابُ، وَمَا لَا يَدْخُلُ فِيهِ الْكَيْلُ فَفِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ الزَّكَاةُ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَقْوَى الْمَذَاهِبِ وَأَحْوَطُهَا لِلْمَسَاكِينِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ التَّمَسُّكُ بِالْعُمُومِ، قَالَ: وَقَدْ زَعَمَ الْجُوَيْنِيُّ أَنَّ الْحَدِيثَ إِنَّمَا جَاءَ لِتَفْصِيلِ مَا تُقِلُّ مِمَّا تَكْثُرُ مُؤْنَتُهُ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ يَقْتَضِي الْوَجْهَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (كَمَا رَوَى إِلَخْ) أَيْ: كَمَا أَنَّ الْمُثْبِتَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي فِي حَدِيثَيِ الْفَضْلِ، وَبِلَالٍ، وَحَدِيثُ الْفَضْلِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، وَحَدِيثُ بِلَالٍ سَيَأْتِي مَوْصُولًا فِي كِتَابِ الْحَجِّ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(تَكْمِيلٌ): اخْتُلِفَ فِي هَذَا النِّصَابِ: هَلْ هُوَ تَحْدِيدٌ أَوْ تَقْرِيبٌ؟ وَبِالْأَوَّلِ جَزَمَ أَحْمَدُ، وَهُوَ أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ، إِلَّا إِنْ كَانَ نَقْصًا يَسِيرًا جِدًّا مِمَّا لَا يَنْضَبِطُ فَلَا يَضُرُّ، قَالَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، وَصَحَّحَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ تَقْرِيبٌ، وَاتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيمَا زَادَ عَلَى الْخَمْسَةِ أَوْسُقٍ بِحِسَابِهِ وَلَا وَقَصَ فِيهَا.

‌56 - بَاب لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ

1484 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَيْسَ فِيمَا أَقَلُّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ، وَلَا فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةٍ مِنْ الْإِبِلِ الذَّوْدِ صَدَقَةٌ، وَلَا فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنْ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ.

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: هَذَا تَفْسِيرُ الْأَوَّلِ إِذَا قَالَ: لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ وَيُؤْخَذُ أَبَدًا فِي الْعِلْمِ بِمَا زَادَ أَهْلُ الثَّبَتِ أَوْ بَيَّنُوا.

قَوْلُهُ: (بَابُ لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي بَابِ زَكَاةِ الْوَرِقِ وَذُكِرَ فِيهِ قَدْرُ الْوَسْقِ وَقَوْلُهُ هُنَا: لَيْسَ فِيمَا أَقَلُّ مَا زَائِدَةٌ، وَأَقَلُّ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ بِفِي، وَقَدْ ذَكَرَهُ بَعْدَهُ بِلَفْظِ: وَلَيْسَ فِي أَقَلَّ.

‌57 - بَاب أَخْذِ صَدَقَةِ التَّمْرِ عِنْدَ صِرَامِ النَّخْلِ وَهَلْ يُتْرَكُ الصَّبِيُّ فَيَمَسُّ تَمْرَ الصَّدَقَةِ

1485 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْأَسَدِيُّ، حَدَّثَنَي أَبِي، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُؤْتَى بِالتَّمْرِ عِنْدَ صِرَامِ النَّخْلِ فَيَجِيءُ هَذَا بِتَمْرِهِ، وَهَذَا مِنْ تَمْرِهِ حَتَّى يَصِيرَ عِنْدَهُ كَوْمًا مِنْ تَمْرٍ فَجَعَلَ الْحَسَنُ، وَالْحُسَيْنُ رضي الله عنهما يَلْعَبَانِ بِذَلِكَ التَّمْرِ فَأَخَذَ

ص: 350

أَحَدُهُمَا تَمْرَةً فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْرَجَهَا مِنْ فِيهِ فَقَالَ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ آلَ مُحَمَّدٍ لَا يَأْكُلُونَ الصَّدَقَةَ.

[الحديث 1485 - طرفاه في: 1491، 3072]

قَوْلُهُ: (بَابُ أَخْذِ صَدَقَةِ التَّمْرِ عِنْدَ صِرَامِ النَّخْلِ، وَهَلْ يُتْرَكُ الصَّبِيُّ فَيَمَسُّ تَمْرَ الصَّدَقَةِ) الصِّرَامُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ الْجِدَادُ وَالْقِطَافُ وَزْنًا وَمَعْنًى

(1)

وَقَدِ اشْتَمَلَ هَذَا الْبَابُ عَلَى تَرْجَمَتَيْنِ، أَمَّا الْأُولَى فَلَهَا تَعَلُّقٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْحَقِّ فِيهَا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ الْوَاجِبَةُ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ أَنَسٍ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: هُوَ شَيْءٌ سِوَى الزَّكَاةِ، أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَغَيْرُهُ، وَحَدِيثُ الْبَابِ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ غَيْرُ الزَّكَاةِ، وَكَأَنَّهُ الْمُرَادُ بِمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ مِنْ كُلِّ جَادٍّ عَشْرَةُ أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ بِقِنْوٍ يُعَلَّقُ فِي الْمَسْجِدِ لِلْمَسَاكِينِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي بَابِ الْقِسْمَةِ وَتَعْلِيقِ الْقِنْوِ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ.

وَأَمَّا التَّرْجَمَةُ الثَّانِيَةُ فَرَبَطَهَا بِالتَّرْكِ إِشَارَةً مِنْهُ إِلَى أَنَّ الصِّبَا وَإِنْ كَانَ مَانِعًا مِنْ تَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَى الصَّبِيِّ فَلَيْسَ مَانِعًا مِنْ تَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَى الْوَلِيِّ بِتَأْدِيبِهِ وَتَعْلِيمِهِ. وَأَوْرَدَهَا بِلَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ خَاصًّا بِمَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ تَنَاوُلُ الصَّدَقَةِ.

قَوْلُهُ: (كَوْمٌ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَسُكُونِ الْوَاوِ مَعْرُوفٌ، وَأَصْلُهُ الْقِطْعَةُ الْعَظِيمَةُ مِنَ الشَّيْءِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مَا اجْتَمَعَ مِنَ التَّمْرِ كَالْعُرْمَةِ، وَيُرْوَى كَوْمًا بِالنَّصْبِ، أَيْ: حَتَّى يَصِيرَ التَّمْرُ عِنْدَهُ كَوْمًا.

قَوْلُهُ: (فَأَخَذَ أَحَدَهُمَا) سَيَأْتِي بَعْدَ بَابَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ بِلَفْظِ: فَأَخَذَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ.

قَوْلُهُ: (فَجَعَلَهُ) أَيِ الْمَأْخُوذُ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فَجَعَلَهَا أَيِ التَّمْرَةَ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ قَرِيبًا، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ قَوْلُهُ: عِنْدَ صِرَامِ النَّخْلِ؛ أَيْ: بَعْدَ أَنْ يَصِيرَ تَمْرًا لِأَنَّ النَّخْلَ قَدْ يُصْرَمُ وَهُوَ رَطْبٌ فَيُتْمَرُ فِي الْمِرْبَدِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَتَطَاوَلُ فَحَسُنَ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى الصِّرَامِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} فَإِنَّ الْمُرَادَ بَعْدَ أَنْ يُدَاسَ وَيُنَقَّى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌58 - بَاب مَنْ بَاعَ ثِمَارَهُ أَوْ نَخْلَهُ أَوْ أَرْضَهُ أَوْ زَرْعَهُ وَقَدْ وَجَبَ فِيهِ الْعُشْرُ أَوْ الصَّدَقَةُ

فَأَدَّى الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِهِ

أَوْ بَاعَ ثِمَارَهُ وَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الصَّدَقَةُ

وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا تَبِيعُوا الثَّمَرَةَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا

فَلَمْ يَحْظُرْ الْبَيْعَ بَعْدَ الصَّلَاحِ عَلَى أَحَدٍ وَلَمْ يَخُصَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ مِمَّنْ لَمْ تَجِبْ

1486 -

حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا وَكَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ صَلَاحِهَا قَالَ: حَتَّى تَذْهَبَ عَاهَتُهُ.

[الحديث 1486 - أطرافه في: 2183، 2194، 2199، 2247، 2249]

1487 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا.

[الحديث 1487 - أطرافه في: 2189، 2196، 2381]

(1)

ضبط الجميع في القاموس بالكسر والفتح وقال في الجذاذ بالذال المعجمة: إنه مثلث الجيم. فتنبه. والله أعلم

ص: 351

1488 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِيَ قَالَ: حَتَّى تَحْمَارَّ.

[الحديث 1488 - أطرافه في: 2195، 2197، 2198، 2208]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ بَاعَ ثِمَارَهُ أَوْ أَرْضَهُ أَوْ نَخْلَهُ أَوْ زَرْعَهُ، وَقَدْ وَجَبَ فِيهِ الْعُشْرُ أَوِ الصَّدَقَةُ فَأَدَّى الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ بَاعَ ثِمَارَهُ وَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الصَّدَقَةُ. . . إِلَخْ) ظَاهِرُ سِيَاقِ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ أَنَّ الْمُصَنِّفَ يَرَى جَوَازَ بَيْعِ الثَّمَرَةِ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، وَلَوْ وَجَبَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ بِالْخَرْصِ مَثَلًا لِعُمُومِ قَوْلِهِ: حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا. وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ، وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بَعْدَ الْخَرْصِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمَسَاكِينِ بِهَا، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَقَائِلُ هَذَا حَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى الْجَوَازِ بَعْدَ الصَّلَاحِ وَقَبْلَ الْخَرْصِ جَمْعًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: الْعُشْرُ أَوِ الصَّدَقَةُ، فَمِنَ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ جَعَلَ فِي الثِّمَارِ الْعُشْرَ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ نِصَابٍ، وَلَمْ يَرِدْ أَنَّ الصَّدَقَةَ تَسْقُطُ بِالْبَيْعِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَأَدَّى الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِهِ. فَلِأَنَّهُ إِذَا بَاعَ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فَقَدْ فَعَلَ أَمْرًا جَائِزًا كَمَا تَقَدَّمَ فَتَعَلَّقَتِ الزَّكَاةُ بِذِمَّتِهِ، فَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهَا مَنْ غَيْرِهِ أَوْ يُخْرِجَ قِيمَتَهَا عَلَى رَأْيِ مَنْ يُجِيزُهُ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْبُخَارِيِّ كَمَا سَبَقَ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَمْ يَخُصَّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ مِمَّنْ لَمْ تَجِبْ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْحَقَّ يَتَعَلَّقُ بِالصَّلَاحِ، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَقْتَضِي أَنَّ وُجُوبَ الْإِيتَاءِ إِنَّمَا هُوَ يَوْمَ الْحَصَادِ عَلَى رَأْيِ مَنْ جَعَلَهَا فِي الزَّكَاةِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا تَعَرَّضَتِ الْآيَةُ لِبَيَانِ زَمَنِ الْإِيتَاءِ لَا لِبَيَانِ زَمَانِ الْوُجُوبِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ اعْتَمَدَ فِي تَصْحِيحِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ اسْتِعْمَالَ الْخَرْصِ عِنْدَ الصَّلَاحِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمَسَاكِينِ، فَطَوَاهَا بِتَقْدِيمِهِ حُكْمَ الْخَرْصِ فِيمَا سَبَقَ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ رَشِيدٍ، وَقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: أَرَادَ الْبُخَارِيُّ الرَّدَّ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ بِفَسَادِ الْبَيْعِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ، وَيُؤْخَذُ الْعُشْرُ مِنْهُ وَيَرْجِعُ هُوَ عَلَى الْبَائِعِ، وَعَنْ مَالِكٍ الْعُشْرُ عَلَى الْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ، وَعَنْ أَحْمَدَ الصَّدَقَةُ عَلَى الْبَائِعِ مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَا تَبِيعُوا الثَّمَرَةَ) أَسْنَدَهُ فِي الْبَابِ بِمَعْنَاهُ، وَأَمَّا هَذَا اللَّفْظُ فَمَذْكُورٌ عِنْدَهُ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ كِتَابِ الْبَيْعِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ هُنَاكَ عَلَى حَدِيثِهِ، وَعَلَى حَدِيثِ أَنَسٍ أَيْضًا.

وقَوْلُهُ: (وَكَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ صَلَاحِهَا قَالَ: حَتَّى تَذْهَبَ عَاهَتُهُ) أَيِ: الثَّمَرُ. وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: عَاهَتُهَا، وَهُوَ مَقُولُ ابْنِ عُمَرَ، بَيَّنَهُ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ وَلَفْظُهُ: فَقِيلَ لِابْنِ عُمَرَ: مَا صَلَاحُهُ؟ قَالَ: تَذْهَبُ عَاهَتُهُ.

‌59 - بَاب هَلْ يَشْتَرِي صَدَقَتَهُ وَلَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِيَ صَدَقَة غَيْرُهُ

لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا نَهَى الْمُتَصَدِّقَ خَاصَّةً عَنْ الشِّرَاءِ وَلَمْ يَنْهَ غَيْرَهُ

1489 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ تَصَدَّقَ بِفَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَوَجَدَهُ يُبَاعُ فَأَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأْمَرَهُ فَقَالَ: لَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ، فَبِذَلِكَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما لَا يَتْرُكُ أَنْ يَبْتَاعَ شَيْئًا تَصَدَّقَ بِهِ إِلَّا جَعَلَهُ صَدَقَةً.

[الحديث 1489 - أطرافه في: 2775، 2971، 3002]

ص: 352

1490 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ رضي الله عنه يَقُولُ: حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَضَاعَهُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهُ - وَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَبِيعُهُ بِرُخْصٍ - فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لَا تَشْتَرِي وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي صَدَقَتهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ.

[الحديث 1490 - أطرافه في: 2623، 2636، 2970، 3003]

قَوْلُهُ: (بَابُ: هَلْ يَشْتَرِي الرَّجُلُ صَدَقَتَهُ؟) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: أَوْرَدَ التَّرْجَمَةَ بِالِاسْتِفْهَامِ، لِأَنَّ تَنْزِيلَ حَدِيثِ الْبَابِ عَلَى سَبَبِهِ يَضْعُفُ مَعَهُ تَعْمِيمُ الْمَنْعِ لِاحْتِمَالِ تَخْصِيصِهِ بِالشِّرَاءِ بِدُونِ الْقِيمَةِ لِقَوْلِهِ: وَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَبِيعُهُ بِرُخْصٍ. وَكَذَا إِطْلَاقُ الشَّارِعِ الْعَوْدَ عَلَيْهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ فِي مَعْنَى رُجُوعِ بَعْضِهَا إِلَيْهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، قَالَ: وَقُصِدَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ التَّرْجَمَةُ الَّتِي قَبْلَهَا مِنْ جَوَازِ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ شِرَاءِ الرَّجُلِ صَدَقَتَهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا دَقِيقٌ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَصَدَّقَ ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا لِلنَّهْيِ الثَّابِتِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ فَسَادُ الْبَيْعِ إِلَّا إِنْ ثَبَتَ الْإِجْمَاعُ عَلَى جَوَازِهِ.

قَوْلُهُ: (وَلَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِيَ صَدَقَةَ غَيْرِهِ) قَدِ اسْتُدِلَّ لَهُ بِمَا ذُكِرَ، وَمُرَادُهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ: لَا تَعُدْ. وَقَوْلُهُ: الْعَائِدُ فِي صَدَقَتِهِ. وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ تَعْمِيمَ الْمَنْعِ لَقَالَ: لَا تَشْتَرُوا الصَّدَقَةَ مَثَلًا، وَسَيَأْتِي لِذَلِكَ مَزِيدُ بَيَانٍ فِي بَابِ إِذَا حُوِّلَتِ الصَّدَقَةُ. ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ عُمَرَ فِي تَصَدُّقِهِ بِالْفَرَسِ، وَاسْتِئْذَانِهِ فِي شِرَائِهِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقَيْنِ، فَسِيَاقُ الْأُولَى يَقْتَضِي أَنَّهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَالثَّانِيَةُ أَنَّهُ مِنْ مُسْنَدِ عُمَرَ، وَرَجَّحَ الدَّارَقُطْنِيُّ الْأُولَى، لَكِنْ حَيْثُ جَاءَ مِنْ طَرِيقِ سَالِمٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الرُّوَاةِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَهُوَ مِنْ مُسْنَدِهِ، وَأَمَّا رِوَايَةُ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ فَهِيَ عَنْ عُمَرَ نَفْسِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (تَصَدَّقَ بِفَرَسٍ) أَيْ حَمَلَ عَلَيْهِ رَجُلًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَا فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ مَلَّكَهُ لَهُ، وَلِذَلِكَ سَاغَ لَهُ بَيْعُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كَانَ عُمَرُ قَدْ حَبَسَهُ، وَإِنَّمَا سَاغَ لِلرَّجُلِ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ حَصَلَ فِيهِ هُزَالٌ، عَجَزَ لِأَجْلِهِ عَنِ اللَّحَاقِ بِالْخَيْلِ، وَضَعُفَ عَنْ ذَلِكَ، وَانْتَهَى إِلَى حَالَةِ عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَأَجَازَ ذَلِكَ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَمْلُ تَمْلِيكٍ قَوْلُهُ: وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ. وَلَوْ كَانَ حَبْسًا لَعَلَّة بِهِ.

وقَوْلُهُ فِيهَا: فَأَضَاعَهُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ. أَيْ بِتَرْكِ الْقِيَامِ عَلَيْهِ بِالْخِدْمَةِ وَالْعَلَفِ وَنَحْوِهِمَا، وَقَالَ فِي الْأُولَى: فَوَجَدَهُ يُبَاعُ.

قَوْلُهُ: (وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ) هُوَ مُبَالَغَةٌ فِي رُخْصِهِ، وَهُوَ الْحَامِلُ لَهُ عَلَى شِرَائِهِ.

قَوْلُهُ: (وَلَا تَعُدْ) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: وَلَا تَعُودَنَّ وَسَمَّى شِرَاءَهُ بِرُخْصٍ عَوْدًا فِي الصَّدَقَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْغَرَضَ مِنْهَا ثَوَابُ الْآخِرَةِ، فَإِذَا اشْتَرَاهَا بِرُخْصٍ فَكَأَنَّهُ اخْتَارَ عَرَضَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، مَعَ أَنَّ الْعَادَةَ تَقْتَضِي بَيْعَ مِثْلِ ذَلِكَ بِرُخْصٍ لِغَيْرِ الْمُتَصَدِّقِ، فَكَيْفَ بِالْمُتَصَدِّقِ فَيَصِيرُ رَاجِعًا فِي ذَلِكَ الْمِقْدَارِ الَّذِي سُومِحَ فِيهِ.

(فَائِدَةٌ) أَفَادَ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ أَنَّ اسْمَ هَذَا الْفَرَسِ الْوَرْدُ، وَأَنَّهُ كَانَ لِتَمِيمٍ الدَّارِيِّ، فَأَهْدَاهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَعْطَاهُ لِعُمَرَ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ الرَّجُلِ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْقَيْءَ حَرَامٌ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ سِيَاقِ الْحَدِيثِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ التَّشْبِيهُ لِلتَّنْفِيرِ خَاصَّةً لِكَوْنِ الْقَيْءِ مِمَّا يُسْتَقْذَرُ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ، وَيَلْتَحِقُ بِالصَّدَقَةِ الْكَفَّارَةُ وَالنَّذْرُ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْقُرُبَاتِ. وَأَمَّا إِذَا وَرِثَهُ فَلَا كَرَاهَةَ. وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ: يَتَصَدَّقُ بِهِ.

قَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الْأُولَى: وَلِهَذَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يَتْرُكُ أَنْ يَبْتَاعَ شَيْئًا تَصَدَّقَ بِهِ إِلَّا جَعَلَهُ صَدَقَةً. كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَعَلَى حَرْفِ لَا تَضْبِيبٌ وَلَا أَدْرِي مَا وَجْهُهُ. وَبِإِثْبَاتِ النَّفْيِ يَتِمُّ الْمَعْنَى أَيْ كَانَ

ص: 353

إِذَا اتَّفَقَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ شَيْئًا مِمَّا تَصَدَّقَ بِهِ لَا يَتْرُكُهُ فِي مِلْكِهِ حَتَّى يَتَصَدَّقَ بِهِ، وَكَأَنَّهُ فَهِمَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ شِرَاءِ الصَّدَقَةِ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا لَا لِمَنْ يَرُدُّهَا صَدَقَةً. وَفِي الْحَدِيثِ كَرَاهَةُ الرُّجُوعِ فِي الصَّدَقَةِ وَفَضْلُ الْحَمْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْإِعَانَةُ عَلَى الْغَزْوِ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّ الْحَمْلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَمْلِيكٌ، وَأَنَّ لِلْمَحْمُولِ بَيْعَهُ وَالِانْتِفَاعَ بِثَمَنِهِ. وَسَيَأْتِي تَكْمِيلُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي أَبْوَابِ الْهِبَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌60 - بَاب مَا يُذْكَرُ فِي الصَّدَقَةِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

1491 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: أَخَذَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رضي الله عنهما تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: كِخْ كِخْ لِيَطْرَحَهَا ثُمَّ قَالَ: أَمَا شَعَرْتَ أَنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ؟

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُذْكَرُ مِنَ الصَّدَقَةِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَآلِهِ) لَمْ يُعَيِّنِ الْحُكْمَ لِشُهْرَةِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ. وَالنَّظَرُ فِيهِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: أَوَّلُهَا الْمُرَادُ بِالْآلِ هُنَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ عَلَى الْأَرْجَحِ مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ، وَسَيَأْتِي دَلِيلُهُ فِي أَبْوَابِ الْخُمُسِ فِي آخِرِ الْجِهَادِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَشْرَكَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى، وَلَمْ يُعْطِ أَحَدًا مِنْ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ غَيْرَهُمْ، وَتِلْكَ الْعَطِيَّةُ عِوَضٌ عُوِّضُوهُ بَدَلًا عَمَّا حُرِمُوهُ مِنَ الصَّدَقَةِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ: بَنُو هَاشِمٍ فَقَطْ. وَعَنْ أَحْمَدَ فِي بَنِي الْمُطَّلِبِ رِوَايَتَانِ، وَعَنِ الْمَالِكِيَّةِ فِيمَا بَيْنَ هَاشِمٍ، وَغَالِبِ بْنِ فِهْرٍ قَوْلَانِ، فَعَنْ أَصْبَغَ مِنْهُمْ هُمْ بَنُو قُصَيٍّ، وَعَنْ غَيْرِهِ بَنُو غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ.

ثَانِيهَا: كَانَ يَحْرُمُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَدَقَةُ الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ، كَمَا نَقَلَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْخَطَّابِيُّ الْإِجْمَاعَ، لَكِنْ حَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي التَّطَوُّعِ قَوْلًا، وَكَذَا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ، وَلَفْظُهُ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ: لَا يَحِلُّ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَهْلِ بَيْتِهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَزَكَاةُ الْأَمْوَالِ، وَالصَّدَقَةُ يَصْرِفُهَا الرَّجُلُ عَلَى مُحْتَاجٍ يُرِيدُ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ، فَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا، أَلَيْسَ يُقَالُ: كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَيْسَ مَا نُقِلَ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ بِوَاضِحِ الدَّلَالَةِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ مَا لَيْسَ مِنْ صَدَقَةِ الْأَمْوَالِ كَالْقَرْضِ وَالْهَدِيَّةِ وَفِعْلِ الْمَعْرُوفِ كَانَ غَيْرَ مُحَرَّمٍ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يَحْرُمُ عَلَيْهِ كُلُّ مَا كَانَ مِنَ الْأَمْوَالِ مُتَقَوِّمًا، وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ الْعَامَّةُ كَمِيَاهِ الْآبَارِ وَكَالْمَسَاجِدِ، وَسَيَأْتِي دَلِيلُ تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ مُطْلَقًا فِي اللُّقَطَةِ، وَاخْتُلِفَ هَلْ كَانَ تَحْرِيمُ الصَّدَقَةِ مِنْ خَصَائِصِهِ دُونَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ كُلُّهُمْ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ؟

ثَالِثُهَا: هَلْ يَلْتَحِقُ بِهِ آلُهُ فِي ذَلِكَ أَمْ لَا؟ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ بَنِي هَاشِمٍ لَا تَحِلُّ لَهُمُ الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ. كَذَا قَالَ، وَقَدْ نَقَلَ الطَّبَرِيُّ الْجَوَازَ أَيْضًا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَقِيلَ عَنْهُ: يَجُوزُ لَهُمْ إِذَا حَرَّمُوا سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى حَكَاهُ الطَّحَاوِيُّ وَنَقَلَهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عَنِ الْأَبْهَرِيِّ مِنْهُمْ، وَهُوَ وَجْهٌ لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يَحِلُّ مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ لَا مِنْ غَيْرِهِمْ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ مَشْهُورَةٍ: الْجَوَازُ، الْمَنْعُ، جَوَازُ التَّطَوُّعِ دُونَ الْفَرْضِ، عَكْسُهُ، وَأَدِلَّةُ الْمَنْعِ ظَاهِرَةٌ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ وَمِنْ غَيْرِهِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى:{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} وَلَوْ أَحَلَّهَا لِآلِهِ لَأَوْشَكَ أَنْ يَطْعَنُوا فِيهِ، وَلِقَوْلِهِ:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} وَثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: الصَّدَقَةُ أَوْسَاخُ النَّاسِ. كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا جَوَازُ التَّطَوُّعِ دُونَ الْفَرْضِ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمُصَحَّحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَأَمَّا عَكْسُهُ فَقَالُوا: إِنَّ الْوَاجِبَ حَقٌّ لَازِمٌ لَا يَلْحَقُ بِآخِذِهِ ذِلَّةٌ بِخِلَافِ التَّطَوُّعِ، وَوَجْهُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ مُوجِبَ الْمَنْعِ رَفْعُ يَدِ الْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى، فَأَمَّا الْأَعْلَى عَلَى مِثْلِهِ فَلَا، وَلَمْ أَرَ لِمَنْ أَجَازَ مُطْلَقًا دَلِيلًا إِلَّا مَا تَقَدَّمَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: أَخَذَ الْحَسَنُ) فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ سَمِعَ

ص: 354

أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقْسِمُ تَمْرًا مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ وَالْحَسَنُ فِي حِجْرِهِ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ.

قَوْلُهُ: (فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ) زَادَ أَبُو مُسْلِمٍ الْكَجِّيُّ مِنْ طَرِيقِ الرَّبِيعِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ: فَلَمْ يَفْطِنْ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى قَامَ وَلُعَابُهُ يَسِيلُ، فَضَرَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شِدْقَهُ. وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ: فَلَمَّا فَرَغَ حَمَلَهُ عَلَى عَاتِقِهِ، فَسَالَ لُعَابُهُ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَإِذَا تَمْرَةٌ فِي فِيهِ.

قَوْلُهُ: (كَخْ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِهَا وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ مُثَقَّلًا وَمُخَفَّفًا، وَبِكَسْرِ الْخَاءِ مُنَوَّنَةٌ وَغَيْرُ مُنَوَّنَةٍ، فَيَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ سِتُّ لُغَاتٍ، وَالثَّانِيَةُ تَوْكِيدٌ لِلْأُولَى، وَهِيَ كَلِمَةٌ تُقَالُ لِرَدْعِ الصَّبِيِّ عِنْدَ تَنَاوُلِهِ مَا يُسْتَقْذَرُ، قِيلَ: عَرَبِيَّةٌ، وَقِيلَ: أَعْجَمِيَّةٌ، وَزَعَمَ الدَّاوُدِيُّ أَنَّهَا مُعَرَّبَةٌ، وَقَدْ أَوْرَدَهَا الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ مَنْ تَكَلَّمَ بِالْفَارِسِيَّةِ.

قَوْلُهُ: (لِيَطْرَحْهَا) زَادَ مُسْلِمٌ ارْمِ بِهَا وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ يَلُوكُ تَمْرَةً فَحَرَّكَ خَدَّهُ، وَقَالَ: أَلْقِهَا يَا بُنَيَّ، أَلْقِهَا يَا بُنَيَّ. وَيُجْمَعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ: كَخْ كَخْ. بِأَنَّهُ كَلَّمَهُ أَوَّلًا بِهَذَا، فَلَمَّا تَمَادَى قَالَ لَهُ: كَخْ كَخْ إِشَارَةً إِلَى اسْتِقْذَارِ ذَلِكَ لَهُ، وَيَحْتَمِلُ الْعَكْسُ بِأَنْ يَكُونَ كَلَّمَهُ أَوَّلًا بِذَلِكَ فَلَمَّا تَمَادَى نَزَعَهَا مِنْ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (أَنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: إِنَّا لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ. وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ: إِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لِآلِ مُحَمَّدٍ. وَكَذَا عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالطَّحَاوِيِّ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ نَفْسِهِ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَمَرَّ عَلَى جَرِينٍ مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ، فَأَخَذْتُ مِنْهُ تَمْرَةً فَأَلْقَيْتُهَا فِي فِيَّ فَأَخَذَهَا بِلُعَابِهَا، فَقَالَ: إِنَّا آلَ مُحَمَّدٍ لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ. وَإِسْنَادُهُ قَوِيٌّ. وَلِلطَّبَرَانِيِّ، وَالطَّحَاوِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي لَيْلَى الْأَنْصَارِيِّ نَحْوُهُ، وَفِي الْحَدِيثِ دَفْعُ الصَّدَقَاتِ إِلَى الْإِمَامِ، وَالِانْتِفَاعُ بِالْمَسْجِدِ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ، وَجَوَازُ إِدْخَالِ الْأَطْفَالِ الْمَسَاجِدَ وَتَأْدِيبِهِمْ بِمَا يَنْفَعُهُمْ، وَمَنْعِهِمْ مِمَّا يَضُرُّهُمْ، وَمِنْ تَنَاوُلِ الْمُحَرَّمَاتِ وَإِنْ كَانُوا غَيْرَ مُكَلَّفِينَ لِيَتَدَرَّبُوا بِذَلِكَ. وَاسْتَنْبَطَ بَعْضُهُمْ مِنْهُ مَنْعَ وَلِيِّ الصَّغِيرَةِ إِذَا اعْتَدَّتْ مِنَ الزِّينَةِ، وَفِيهِ الْإِعْلَامُ بِسَبَبِ النَّهْيِ وَمُخَاطَبَةِ مَنْ لَا يُمَيِّزُ لِقَصْدِ إِسْمَاعِ مَنْ يُمَيِّزُ، لِأَنَّ الْحَسَنَ إِذْ ذَاكَ كَانَ طِفْلًا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَمَا شَعَرْتَ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فِي الْجِهَادِ: أَمَا تَعْرِفُ وَلِمُسْلِمٍ: أَمَا عَلِمْتَ فَهُوَ شَيْءٌ يُقَالُ عِنْدَ الْأَمْرِ الْوَاضِحِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُخَاطَبُ بِذَلِكَ عَالِمًا، أَيْ كَيْفَ خَفِيَ عَلَيْكَ هَذَا مَعَ ظُهُورِهِ، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي الزَّجْرِ مِنْ قَوْلِهِ: لَا تَفْعَلْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ بَعْضِ فَوَائِدِهِ قَبْلَ بَابَيْنِ.

‌61 - بَاب الصَّدَقَةِ عَلَى مَوَالِي أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

1492 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: وَجَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَاةً مَيِّتَةً أُعْطِيَتْهَا مَوْلَاةٌ لِمَيْمُونَةَ مِنْ الصَّدَقَةِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: هَلَّا انْتَفَعْتُمْ بِجِلْدِهَا قَالُوا: إِنَّهَا مَيْتَةٌ قَالَ: إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا.

[الحديث 1492 - أطرافه في: 2221، 5031، 5032]

1493 -

حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا الْحَكَمُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها "أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ بَرِيرَةَ لِلْعِتْقِ وَأَرَادَ مَوَالِيهَا أَنْ يَشْتَرِطُوا وَلَاءَهَا فَذَكَرَتْ عَائِشَةُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "اشْتَرِيهَا فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ قَالَتْ وَأُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِلَحْمٍ فَقُلْتُ هَذَا مَا تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ فَقَالَ هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ"

ص: 355

قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّدَقَةِ عَلَى مَوَالِي أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُتَرْجَمْ لِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا لِمَوَالِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ فِيهِ شَيْءٌ، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ أَنَّهُنَّ - أَيِ الْأَزْوَاجَ - لَا يَدْخُلْنَ فِي ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَفِيهِ نَظَرٌ فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّ الْخَلَّالَ أَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنَّا آلَ مُحَمَّدٍ لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ. قَالَ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهَا. قُلْتُ: وَإِسْنَادُهُ إِلَى عَائِشَةَ حَسَنٌ، وأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا، وَهَذَا لَا يَقْدَحُ فِيمَا نَقَلَهُ ابْنُ بَطَّالٍ، وَرَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي رَافِعٍ مَرْفُوعًا: إِنَّا لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ، وَأَنَّ مَوَالِيَ الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. وَبِهِ قَالَ: أَحْمَدُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ، كَابْنِ الْمَاجِشُونِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: يَجُوزُ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْهُمْ حَقِيقَةً، وَلِذَلِكَ لَمْ يُعَوَّضُوا بِخُمُسِ الْخُمُسِ، وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ قَوْلُهُ: مِنْهُمْ. أَوْ: مِنْ أَنْفُسِهِمْ.

هَلْ يَتَنَاوَلُ الْمُسَاوَاةَ فِي حُكْمِ تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ أَوْ لَا؟ وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْأَحْكَامِ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ، لَكِنَّهُ وَرَدَ عَلَى سَبَبِ الصَّدَقَةِ، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُخْرِجُ السَّبَبَ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا: هَلْ يُخَصُّ بِهِ أَوْ لَا؟ وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ لَهُمْ بِحَدِيثِ الْبَابِ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهَا لِمَوَالِي الْأَزْوَاجِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَزْوَاجَ لَيْسُوا فِي ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الْآلِ فَمَوَالِيهِمْ أَحْرَى بِذَلِكَ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: إِنَّمَا أَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ لِيُحَقِّقَ أَنَّ الْأَزْوَاجَ لَا يَدْخُلُ مَوَالِيهِنَّ فِي الْخِلَافِ وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِنَّ الصَّدَقَةُ قَوْلًا وَاحِدًا لِئَلَّا يَظُنَّ الظَّانُّ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ بَعْضُ النَّاسِ بِدُخُولِ الْأَزْوَاجِ فِي الْآلِ أَنَّهُ يَطَّرِدُ فِي مَوَالِيهنَّ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَطَّرِدُ.

ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الِانْتِفَاعِ بِجِلْدِ الشَّاةِ لِقَوْلِهِ فِيهِ: أَعْطَيْتُهَا مَوْلَاةً لِمَيْمُونَةَ مِنَ الصَّدَقَةِ. وسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي الذَّبَائِحِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ هَذِهِ الْمَوْلَاةِ.

ثَانِيهِمَا: حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ بَرِيرَةَ، وَفِيهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي اللَّحْمِ الَّذِي تُصُدِّقَ بِهِ عَلَيْهَا: هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي الْعِتْقِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(تَنْبِيهٌ): قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: هَذِهِ التَّرْجَمَةُ مُسْتَغْنًى عَنْهَا، فَإِنَّ تَسْمِيَةَ الْمَوْلَى لِغَيْرِ فَائِدَةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ لِسَوْقِ الْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ فَقَطْ. كَذَا قَالَ، وَقَدْ عَلِمْتُ مَا فِيهَا مِنَ الْفَائِدَةِ.

‌62 - بَاب إِذَا تَحَوَّلَتْ الصَّدَقَةُ

1494 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الْأَنْصَارِيَّةِ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ فَقَالَتْ: لَا إِلَّا شَيْءٌ بَعَثَتْ بِهِ إِلَيْنَا نُسَيْبَةُ مِنْ الشَّاةِ الَّتِي بَعَثَتْ بِهَا مِنْ الصَّدَقَةِ فَقَالَ: إِنَّهَا قَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا.

1495 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِلَحْمٍ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ فَقَالَ هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ وَهُوَ لَنَا هَدِيَّةٌ"

وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ سَمِعَ أَنَسًا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

[الحديث 1495 - طرفه في: 2577]

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا تَحَوَّلَتِ الصَّدَقَةُ) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ: إِذَا حُوِّلَتْ بِضَمِّ أَوَّلِهِ، أَيْ فَقَدْ جَازَ لِلْهَاشِمِيِّ تَنَاوُلُهَا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا خَالِدٌ) هُوَ الْحَذَّاءُ وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ) أَيْ مِنَ طَّعَامِ، وَقَوْلُهُ: نُسَيْبَةُ

ص: 356

- بِالنُّونِ وَالْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ مُصَغَّرٌ - اسْمُ أُمِّ عَطِيَّةَ.

قَوْلُهُ: (مِنَ الشَّاةِ الَّتِي بَعَثْتَ) بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ أَيْ بَعَثْتَ بِهَا أَنْتَ.

قَوْلُهُ: (بَلَغَتْ مَحَلَّهَا) أَيْ أَنَّهَا لَمَّا تَصَرَّفَتْ فِيهَا بِالْهَدِيَّةِ لِصِحَّةِ مِلْكِهَا لَهَا انْتَقَلَتْ عنْ حُكْمِ الصَّدَقَةِ، فَحَلَّتْ مَحَلَّ الْهَدِيَّةِ، وَكَانَتْ تَحِلُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بِخِلَافِ الصَّدَقَةِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْهِبَةِ، وَهَذَا تَقْرِيرُ ابْنِ بَطَّالٍ بَعْدَ أَنْ ضَبَطَ مَحَلَّهَا بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ بِكَسْرِهَا مِنَ الْحُلُولِ؛ أَيْ بَلَغَتْ مُسْتَقَرَّهَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَعَلَيْهِ عَوَّلَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّرْجَمَةِ. وَهَذَا نَظِيرُ قِصَّةِ بَرِيرَةَ كَمَا سَيَأْتِي بَسْطُهُ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ.

ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ بَرِيرَةَ مُخْتَصَرًا، وَقَالَ بَعْدَهُ: وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ. فَذَكَرَ الْإِسْنَادَ دُونَ الْمَتْنِ لِتَصْرِيحِ قَتَادَةَ فِيهِ بِالسَّمَاعِ. وَأَبُو دَاوُدَ هُوَ الطَّيَالِسِيُّ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ فِي مُسْنَدِهِ كَذَلِكَ، وَرَأَيْتُهُ فِي النُّسْخَةِ الَّتِي وَقَفْتُ عَلَيْهَا مِنْهُ مُعَنْعَنًا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُعَاذٍ، عَنْ شُعْبَةَ فَصَرَّحَ بِسَمَاعِ قَتَادَةَ مِنْ أَنَسٍ أَيْضًا، وَاسْتَنْبَطَ الْبُخَارِيُّ مِنْ قِصَّةِ بَرِيرَةَ وَأُمِّ عَطِيَّةَ أَنَّ لِلْهَاشِمِيِّ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِينَ إِذَا عَمِلَ عَلَى الزَّكَاةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِنَّمَا يَأْخُذُ عَلَى عَمَلِهِ، قَالَ: فَلَمَّا حَلَّ لِلْهَاشِمِيِّ أَنْ يَأْخُذَ مَا يَمْلِكُهُ بِالْهَدِيَّةِ مِمَّا كَانَ صَدَقَةً لَا بِالصَّدَقَةِ كَذَلِكَ يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ مَا يَمْلِكُهُ بِعَمَلِهِ لَا بِالصَّدَقَةِ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ لِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَ أَنْفُسِهُمْ وَبَيْنَهُ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، بَلْ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ تِلْكَ الْهَدِيَّةَ بِعَيْنِهَا خَرَجَتْ عنْ كَوْنِهَا صَدَقَةً بِتَصَرُّفِ الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ فِيهَا كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌63 - بَاب أَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ وَتُرَدَّ فِي الْفُقَرَاءِ حَيْثُ كَانُوا

1496 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ.

قَوْلُهُ: (بَابُ أَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ وَتُرَدُّ فِي الْفُقَرَاءِ حَيْثُ كَانُوا) قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: ظ اهِرُ حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّ الصَّدَقَةَ تُرَدُّ عَلَى فُقَرَاءِ مَنْ أُخِذَتْ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: اخْتَارَ الْبُخَارِيُّ جَوَازَ نَقْلِ الزَّكَاةِ مِنْ بَلَدِ الْمَالِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ، لِأَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَأَيُّ فَقِيرٍ مِنْهُمْ رُدَّتْ فِيهِ الصَّدَقَةُ فِي أَيِّ جِهَةٍ كَانَ فَقَدْ وَافَقَ عُمُومَ الْحَدِيثِ. انْتَهَى. وَالَّذِي يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ عَدَمُ النَّقْلِ، وَأَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ فَيَخْتَصُّ بِذَلِكَ فُقَرَاؤُهُمْ، لَكِنْ رَجَّحَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ الْأَوَّلَ، وَقَالَ: إِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْأَظْهَرَ إِلَّا أَنَّهُ يُقَوِّيهِ أَنَّ أَعْيَانَ الْأَشْخَاصِ الْمُخَاطَبِينَ فِي قَوَاعِدِ الشَّرْعِ الْكُلِّيَّةِ لَا تُعْتَبَرُ، فَلَا تُعْتَبَرُ فِي الزَّكَاةِ كَمَا لَا تُعْتَبَرُ فِي الصَّلَاةِ، فَلَا يَخْتَصُّ بِهِمُ الْحُكْمُ وَإِنِ اخْتَصَّ بِهِمْ خِطَابُ الْمُوَاجَهَةِ. انْتَهَى. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَأَجَازَ النَّقْلَ اللَّيْثُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُمَا، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ الشَّافِعِيِّ وَاخْتَارَهُ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْجُمْهُورِ تَرْكُ النَّقْلِ، فَلَوْ خَالَفَ وَنَقَلَ أَجْزَأَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَمْ يُجْزِئْ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْأَصَحِّ إِلَّا إِذَا فُقِدَ الْمُسْتَحِقُّونَ لَهَا، وَلَا يَبْعُدُ أَنَّهُ اخْتِيَارُ الْبُخَارِيِّ،

ص: 357

لِأَنَّ قَوْلَهُ: (حَيْثُ كَانُوا) يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لَا يَنْقُلُهَا عَنْ بَلَدٍ وَفِيهِ مَنْ هُوَ مُتَّصِفٌ بِصِفَةِ الِاسْتِحْقَاقِ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَزَكَرِيَّا بْنُ إِسْحَاقَ مَكِّيٌّ، وَكَذَا مَنْ فَوْقَهُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ يَحْيَى) فِي رِوَايَةِ وَكِيعٍ، عَنْ زَكَرِيَّا: حَدَّثَنِي يَحْيَى. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ) فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ: عَنْ يَحْيَى أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا مَعْبَدٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ. أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّوْحِيدِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ) كَذَا فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ، إِلَّا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبِي كُرَيْبٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ وَكِيعٍ، فَقَالَ فِيهِ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَعَلَى هَذَا فَهُوَ مِنْ مُسْنَدِ مُعَاذٍ، وَظَاهِرُ سِيَاقِ مُسْلِمٍ أَنَّ اللَّفْظَ مُدْرَجٌ، لَكِنْ لَمْ أَرَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَسَائِرِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ مِنْ مُسْنَدِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَدْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنْ وَكِيعٍ، فَقَالَ فِيهِ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذًا. وَكَذَا هُوَ فِي مُسْنَدِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ بِهِ.

وَكَذَا رَوَاهُ عَنْ وَكِيعٍ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَحْمَدَ، وَسَيَأْتِي فِي الْمَظَالِمِ عَنْ يَحْيَى بْنِ مُوسَى، عَنْ وَكِيعٍ كَذَلِكَ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَخْرَمِيِّ، وَجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الثَّعْلَبِيِّ، وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي خَيْثَمَةَ، وَمُوسَى بْنِ السُّدِّيِّ وَالدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيِّ، وَإِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْبَغَوِيِّ، كُلِّهِمْ عَنْ وَكِيعٍ كَذَلِكَ، فَإِنْ ثَبَتَتْ رِوَايَةُ أَبِي بَكْرٍ، فَهُوَ مِنْ مُرْسَلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لَكِنْ لَيْسَ حُضُورُ ابْنِ عَبَّاسٍ لِذَلِكَ بِبَعِيدٍ، لِأَنَّهُ كَانَ فِي أَوَاخِرِ حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ إِذْ ذَاكَ مَعَ أَبَوَيْهِ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ بَعْثُ مُعَاذٍ إِلَى الْيَمَنِ سَنَةَ عَشْرٍ قَبْلَ حَجِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي، وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ سَنَةِ تِسْعٍ عِنْدَ مُنْصَرَفِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ تَبُوكَ، رَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ عَنْهُ، ثُمَّ حَكَى ابْنُ سَعْدٍ أَنَّهُ كَانَ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ عَشْرٍ، وَقِيلَ: بَعَثَهُ عَامَ الْفَتْحِ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ عَلَى الْيَمَنِ إِلَى أَنْ قَدِمَ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ ثُمَّ تَوَجَّهَ إِلَى الشَّامِ فَمَاتَ بِهَا، وَاخْتُلِفَ هَلْ كَانَ مُعَاذٌ وَالِيًا أَوْ قَاضِيًا؟ فَجَزَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِالثَّانِي وَالْغَسَّانِيُّ بِالْأَوَّلِ.

قَوْلُهُ: (سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ) هِيَ كَالتَّوْطِئَةِ لِلْوَصِيَّةِ، لِتُسْتَجْمَعَ هِمَّتُهُ عَلَيْهَا لِكَوْنِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَهْلَ عِلْمٍ فِي الْجُمْلَةِ، فَلَا تَكُونُ الْعِنَايَةُ فِي مُخَاطَبَتِهِمْ كَمُخَاطَبَةِ الْجُهَّالِ مِنْ عَبْدَةِ الْأَوْثَانِ، وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ جَمِيعَ مَنْ يَقْدُمُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا خَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ تَفْضِيلًا لَهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ.

قَوْلُهُ: (فَإِذَا جِئْتَهُمْ) قِيلَ: عَبَّرَ بِلَفْظِ إِذَا تَفَاؤُلًا بِحُصُولِ الْوُصُولِ إِلَيْهِمْ.

قَوْلُهُ: (فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الزَّكَاةِ بِلَفْظِ: وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ. كَذَا فِي رِوَايَةِ زَكَرِيَّا بْنِ إِسْحَاقَ لَمْ يُخْتَلَفْ عَلَيْهِ فِيهَا، وَأَمَّا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ فَفِي رِوَايَةِ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْهُ: فَأَوَّلُ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللَّهِ، فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ. وَفِي رِوَايَةِ الْفَضْلِ بْنِ الْعَلَاءِ عَنْهُ: إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ، فَإِذَا عَرَفُوا ذَلِكَ. وَيُجْمَعُ بَيْنَهَا بِأَنَّ الْمُرَادَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَوْحِيدُهُ وَبِتَوْحِيدِهِ الشَّهَادَةُ لَهُ بِذَلِكَ وَلِنَبِيِّهِ بِالرِّسَالَةِ، وَوَقَعَتِ الْبُدَاءَةُ بِهِمَا لِأَنَّهُمَا أَصْلُ الدِّينِ الَّذِي لَا يَصِحُّ شَيْءٌ غَيْرُهُمَا إِلَّا بِهِمَا فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ غَيْرَ مُوَحِّدٍ فَالْمُطَالَبَةُ مُتَوَجِّهَةٌ إِلَيْهِ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الشَّهَادَتَيْنِ عَلَى التَّعْيِينِ، وَمَنْ كَانَ مُوَحِّدًا فَالْمُطَالَبَةُ بَيْنَ الْإِقْرَارِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالْإِقْرَارِ بِالرِّسَالَةِ، وَإِنْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ مَا يَقْتَضِي الْإِشْرَاكَ أَوْ يَسْتَلْزِمُهُ كَمَنْ يَقُولُ بِبُنُوَّةِ عُزَيْرٍ أَوْ يَعْتَقِدُ التَّشْبِيهَ فَتَكُونُ مُطَالَبَتُهُمْ بِالتَّوْحِيدِ لِنَفْيِ مَا يَلْزَمُ مِنْ عَقَائِدِهِمْ.

وَاسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ التَّبَرِّي مِنْ كُلِّ دِينٍ يُخَالِفُ دِينَ الْإِسْلَامِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّ مَنْ كَانَ كَافِرًا بِشَيْءٍ وَهُوَ مُؤْمِنٌ بِغَيْرِهِ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا بِتَرْكِ اعْتِقَادِ مَا كَفَرَ بِهِ،

ص: 358

وَالْجَوَابُ أَنَّ اعْتِقَادَ الشَّهَادَتَيْنِ يَسْتَلْزِمُ تَرْكَ اعْتِقَادِ التَّشْبِيهِ وَدَعْوَى بُنُوَّةِ عُزَيْرٍ وَغَيْرِهِ فَيُكْتَفَى بِذَلِكَ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْفِي فِي الْإِسْلَامِ الِاقْتِصَارُ عَلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ حَتَّى يُضِيفَ إِلَيْهَا الشَّهَادَةَ لِمُحَمَّدٍ بِالرِّسَالَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَصِيرُ بِالْأُولَى مُسْلِمًا وَيُطَالَبُ بِالثَّانِيَةِ. وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ بِالْحُكْمِ بِالرِّدَّةِ.

(تَنْبِيهَانِ) أَحَدُهُمَا: كَانَ أَصْلُ دُخُولِ الْيَهُودِيَّةِ فِي الْيَمَنِ فِي زَمَنِ أَسْعَدَ أَبِي كَرِبَ، وَهُوَ تُبَّعُ الْأَصْغَرُ، كَمَا حَكَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي أَوَائِلِ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ.

ثَانِيهِمَا: قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ: تَبَرَّأَتِ الْيَهُودُ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْعُزَيْرَ ابْنُ اللَّهِ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ كَوْنَهُ كَانَ مَوْجُودًا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لِأَنَّ ذَلِكَ نَزَلَ فِي زَمَنِهِ، وَالْيَهُودُ مَعَهُ بِالْمَدِينَةِ وَغَيْرِهَا، فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ رَدَّ ذَلِكَ وَلَا تَعَقَّبَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَائِلَ بِذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ لَا جَمِيعُهُمْ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْقَائِلَ مِنَ النَّصَارَى: إِنَّ الْمَسِيحَ ابْنُ اللَّهِ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ لَا جَمِيعُهُمْ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الطَّائِفَةُ انْقَرَضَتْ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ كَمَا انْقَلَبَ اعْتِقَادُ مُعْظَمِ الْيَهُودِ عَنِ التَّشْبِيهِ إِلَى التَّعْطِيلِ وَتَحَوَّلَ مُعْتَقَدُ النَّصَارَى فِي الِابْنِ وَالْأَبِ إِلَى أَنَّهُ مِنَ الْأُمُورِ الْمَعْنَوِيَّةِ لَا الْحِسِّيَّةِ، فَسُبْحَانَ مُقَلِّبِ الْقُلُوبِ.

قَوْلُهُ: (فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ) أَيْ شَهِدُوا وَانْقَادُوا، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ خُزَيْمَةَ: فَإِنْ هُمْ أَجَابُوا لِذَلِكَ. وَفِي رِوَايَةِ الْفَضْلِ بْنِ الْعَلَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ: فَإِذَا عَرَفُوا ذَلِكَ. وَعَدَّى أَطَاعَ بِاللَّامِ، وَإِنْ كَانَ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى انْقَادَ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَيْسُوا بِعَارِفِينَ وَإِنْ كَانُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَيُظْهِرُونَ مَعْرِفَتَهُ، لَكِنْ قَالَ حُذَّاقُ الْمُتَكَلِّمِينَ: مَا عَرَفَ اللَّهَ مَنْ شَبَّهَهُ بِخَلْقِهِ أَوْ أَضَافَ إِلَيْهِ الْيَدَ أَوْ أَضَافَ إِلَيْهِ الْوَلَدَ

(1)

فَمَعْبُودُهُمُ الَّذِي عَبَدُوهُ لَيْسَ هُوَ اللَّهُ وَإِنْ سَمَّوْهُ بِهِ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِالْفُرُوعِ حَيْثُ دُعُوا أَوَّلًا إِلَى الْإِيمَانِ فَقَطْ، ثُمَّ دُعُوا إِلَى الْعَمَلِ، وَرَتَّبَ ذَلِكَ عَلَيْهَا بِالْفَاءِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا فَأَخْبِرْهُمْ. يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يُطِيعُوا لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ مَفْهُومَ الشَّرْطِ مُخْتَلَفٌ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ، وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ التَّرْتِيبَ فِي الدَّعْوَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّرْتِيبَ فِي الْوُجُوبِ، كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ لَا تَرْتِيبَ بَيْنَهُمَا فِي الْوُجُوبِ، وَقَدْ قُدِّمَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَرُتِّبَتِ الْأُخْرَى عَلَيْهَا بِالْفَاءِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْإِتْيَانِ بِالصَّلَاةِ إِسْقَاطُ الزَّكَاةِ.

وَقِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي تَرْتِيبِ الزَّكَاةِ عَلَى الصَّلَاةِ أَنَّ الَّذِي يُقِرُّ بِالتَّوْحِيدِ وَيَجْحَدُ الصَّلَاةَ يَكْفُرُ بِذَلِكَ، فَيَصِيرُ مَالُهُ فَيْئًا فَلَا تَنْفَعُهُ الزَّكَاةُ، وَأَمَّا قَوْلُ الْخَطَّابِيِّ: إِنَّ ذِكْرَ الصَّدَقَةِ أُخِّرَ عَنْ ذِكْرِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا إِنَّمَا تَجِبُ عَلَى قَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ، وَأَنَّهَا لَا تُكَرَّرُ تَكْرَارَ الصَّلَاةِ فَهُوَ حَسَنٌ، وَتَمَامُهُ أَنْ يُقَالَ: بَدَأَ بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ، وَذَلِكَ مِنَ التَّلَطُّفِ فِي الْخِطَابِ لِأَنَّهُ لَوْ طَالَبَهُمْ بِالْجَمِيعِ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ لَمْ يَأْمَنِ النُّفْرَةَ.

قَوْلُهُ: (خَمْسَ صَلَوَاتٍ) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ لَيْسَ بِفَرْضٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ فِي مَوْضِعِهِ.

قَوْلُهُ: (فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ) قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِقْرَارَهُمْ بِوُجُوبِهَا عَلَيْهِمْ وَالْتِزَامِهِمْ لَهَا، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الطَّاعَةَ بِالْفِعْلِ، وَقَدْ يُرَجَّحُ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْمَذْكُورَ هُوَ الْإِخْبَارُ بِالْفَرِيضَةِ، فَتَعُودُ الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَيْهَا، وَيَتَرَجَّحُ الثَّانِي بِأَنَّهُمْ لَوْ أُخْبِرُوا بِالْفَرِيضَةِ فَبَادَرُوا إِلَى الِامْتِثَالِ بِالْفِعْلِ لَكَفَى وَلَمْ يُشْتَرَطِ التَّلَفُّظُ بِخِلَافِ الشَّهَادَتَيْنِ، فَالشَّرْطُ عَدَمُ الْإِنْكَارِ وَالْإِذْعَانُ لِلْوُجُوبِ. انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَمَنِ امْتَثَلَ بِالْإِقْرَارِ أَوْ بِالْفِعْلِ كَفَاهُ أَوْ بِهِمَا فَأَوْلَى،

(1)

لاشك أن من شبه الله بخلقه أو أضاف إليه الولد جاهل به سبحانه ولم يقدره حق قدره، لأنه سبحانه لا شبيه له ولم يتخذ صاحبة ولا ولدا. وأما إضافة اليد إليه شبحانه فمحل تفصيل، فمن أضافها إليه سبحانه على أنها من جنس أيدي المخلوقين فهو مشبه ضال، وأما من أضافها إليه على الوجه الذي يليق بجلاله من غير أن يشابه خلقه في ذلك فهذا حق، واثباتها لله على هذا الوجه واجب كما نطق به القرآن وصحت به السنة، وهو مذهب أهل السنة، فتنبه. والله الموفق

ص: 359

وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْفَضْلِ بْنِ الْعَلَاءِ بَعْدَ ذِكْرِ الصَّلَاةِ: فَإِذَا صَلَّوْا وَبَعْدَ ذِكْرِ الزَّكَاةِ: فَإِذَا أَقَرُّوا بِذَلِكَ فَخُذْ مِنْهُمْ.

قَوْلُهُ: (صَدَقَةً) زَادَ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَاصِمٍ عَنْ زَكَرِيَّا: فِي أَمْوَالِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الزَّكَاةِ، وَفِي رِوَايَةِ الْفَضْلِ بْنِ الْعَلَاءِ: افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ غَنِيِّهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فَقِيرِهِمْ.

قَوْلُهُ: (تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى قَبْضَ الزَّكَاةِ وَصَرْفَهَا إِمَّا بِنَفْسِهِ وَإِمَّا بِنَائِبِهِ، فَمَنِ امْتَنَعَ مِنْهَا أُخِذَتْ مِنْهُ قَهْرًا.

قَوْلُهُ: (عَلَى فُقَرَائِهِمْ) اسْتُدِلَّ بِهِ لِقَوْلِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ: إِنَّهُ يَكْفِي إِخْرَاجُ الزَّكَاةِ فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ، وَفِيهِ بَحْثٌ كَمَا قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَكَرَ الْفُقَرَاءَ لِكَوْنِهِمُ الْغَالِبَ فِي ذَلِكَ، وَلِلْمُطَابَقَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ لَا يَرَى عَلَى الْمَدْيُونِ زَكَاةَ مَا فِي يَدِهِ إِذَا لَمْ يَفْضُلْ مِنَ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ قَدْرُ نِصَابٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِغَنِيٍّ إِذَا كَانَ إِخْرَاجُ مَالِهِ مُسْتَحَقًّا لِغُرَمَائِهِ.

قَوْلُهُ: (فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ) كَرَائِمَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ لَا يَجُوزُ إِظْهَارُهُ، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَلَا يَجُوزُ حَذْفُ الْوَاوِ، وَالْكَرَائِمُ جَمْعُ كَرِيمَةٍ أَيْ نَفِيسَةٍ، فَفِيهِ تَرْكُ أَخْذِ خِيَارِ الْمَالِ، وَالنُّكْتَةُ فِيهِ أَنَّ الزَّكَاةَ لِمُوَاسَاةِ الْفُقَرَاءِ، فَلَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ الْإِجْحَافَ بِمَالِ الْأَغْنِيَاءِ إِلَّا إِنْ رَضَوْا بِذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ) أَيْ تَجَنَّبِ الظُّلْمَ لِئَلَّا يَدْعُوَ عَلَيْكَ الْمَظْلُومُ. وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ، وَالنُّكْتَةُ فِي ذِكْرِهِ عَقِبَ الْمَنْعِ مِنْ أَخْذِ الْكَرَائِمِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ أَخْذَهَا ظُلْمٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَطَفَ وَاتَّقِ عَلَى عَامِلِ إِيَّاكَ الْمَحْذُوفِ وُجُوبًا، فَالتَّقْدِيرُ: اتَّقِ نَفْسَكَ أَنْ تَتَعَرَّضَ لِلْكَرَائِمِ. وَأَشَارَ بِالْعَطْفِ إِلَى أَنَّ أَخْذَ الْكَرَائِمِ ظُلْمٌ، وَلَكِنَّهُ عَمَّمَ إِشَارَةً إِلَى التَّحَرُّزِ عَنِ الظُّلْمِ مُطْلَقًا.

قَوْلُهُ: (حِجَابٌ) أَيْ لَيْسَ لَهَا صَارِفٌ يَصْرِفُهَا وَلَا مَانِعٌ، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا مَقْبُولَةٌ وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ مَرْفُوعًا دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ، وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا فَفُجُورُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى حِجَابًا يَحْجُبُهُ عَنِ النَّاسِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ. تَذْيِيلٌ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الظُّلْمِ الْخَاصِّ مِنْ أَخْذِ الْكَرَائِمِ وَعَلَى غَيْرِهِ، وَقَوْلُهُ: فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ. تَعْلِيلٌ لِلِاتِّقَاءِ وَتَمْثِيلٌ لِلدُّعَاءِ، كَمَنْ يَقْصِدُ دَارَ السُّلْطَانِ مُتَظَلِّمًا فَلَا يُحْجَبُ، وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيدٌ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِلَّا أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا فَهُوَ مُقَيَّدٌ بِالْحَدِيثِ الْآخَرِ أَنَّ الدَّاعِيَ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ: إِمَّا أَنْ يُعَجَّلَ لَهُ مَا طَلَبَ، وَإِمَّا أَنْ يُدَّخَرَ لَهُ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ يُدْفَعَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلُهُ.

وَهَذَا كَمَا قُيِّدَ مُطْلَقُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا الدُّعَاءُ إِلَى التَّوْحِيدِ قَبْلَ الْقِتَالِ، وَتَوْصِيَةُ الْإِمَامِ عَامِلَهُ فِيمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَغَيْرِهَا، وَفِيهِ بَعْثُ السُّعَاةِ لِأَخْذِ الزَّكَاةِ، وَقَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَوُجُوبُ الْعَمَلِ بِهِ، وَإِيجَابُ الزَّكَاةِ فِي مَالِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ قَالَهُ عِيَاضٌ وَفِيهِ بَحْثٌ، وَأَنَّ الزَّكَاةَ لَا تُدْفَعُ إِلَى الْكَافِرِ لِعَوْدِ الضَّمِيرِ فِي فُقَرَائِهِمْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ سَوَاءٌ قُلْنَا بِخُصُوصِ الْبَلَدِ أَوِ الْعُمُومِ، وَأَنَّ الْفَقِيرَ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، وَأَنَّ مَنْ مَلَكَ نِصَابًا لَا يُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ جَعَلَ الْمَأْخُوذَ مِنْهُ غَنِيًّا وَقَابَلَهُ بِالْفَقِيرِ، وَمَنْ مَلَكَ النِّصَابَ فَالزَّكَاةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْهُ فَهُوَ غَنِيٌّ وَالْغِنَى مَانِعٌ مِنْ إِعْطَاءِ الزَّكَاةِ إِلَّا مَنِ اسْتُثْنِيَ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَلَيْسَ هَذَا الْبَحْثُ بِالشَّدِيدِ الْقُوَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: فِيهِ أَنَّ الْمَالَ إِذَا تَلِفَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْأَدَاءِ سَقَطَتِ الزَّكَاةُ لِإِضَافَةِ الصَّدَقَةِ إِلَى الْمَالِ، وَفِيهِ نَظَرٌ أَيْضًا.

(تَكْمِيلٌ): لَمْ يَقَعْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ذِكْرُ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ مَعَ أَنَّ بَعْثَ مُعَاذٍ كَمَا تَقَدَّمَ كَانَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ، وَأَجَابَ ابْنُ الصَّلَاحِ بِأَنَّ ذَلِكَ تَقْصِيرٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى ارْتِفَاعِ الْوُثُوقِ بِكَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ لِاحْتِمَالِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ. وَأَجَابَ الْكِرْمَانِيُّ

ص: 360

بِأَنَّ اهْتِمَامَ الشَّارِعِ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ أَكْثَرُ، وَلِهَذَا كُرِّرَا فِي الْقُرْآنِ فَمِنْ ثَمَّ لَمْ يُذْكَرِ الصَّوْمُ وَالْحَجُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَعَ أَنَّهُمَا مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، وَالسِّرُّ فِي ذَلِكَ أَنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ إِذَا وَجَبَتَا عَلَى الْمُكَلَّفِ لَا يَسْقُطَانِ عَنْهُ أَصْلًا بِخِلَافِ الصَّوْمِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَسْقُطُ بِالْفِدْيَةِ، وَالْحَجِّ فَإِنَّ الْغَيْرَ قَدْ يَقُومُ مَقَامَهُ فِيهِ كَمَا فِي الْمَعْضُوبِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ شُرِعَ. انْتَهَى. وَقَالَ شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ: إِذَا كَانَ الْكَلَامُ فِي بَيَانِ الْأَرْكَانِ لَمْ يَخْلُ الشَّارِعُ مِنْهُ بِشَيْءٍ كَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: فَإِذَا كَانَ فِي الدُّعَاءِ إِلَى الْإِسْلَامِ اكْتُفِيَ بِالْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ: الشَّهَادَةِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَلَوْ كَانَ بَعْدَ وُجُودِ فَرْضِ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ: (بَرَاءَةٌ) مَعَ أَنَّ نُزُولَهَا بَعْدَ فَرْضِ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ قَطْعًا، وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا.

أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ: وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ، قَالَ: وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْأَرْكَانَ الْخَمْسَةَ: اعْتِقَادِيٌّ وَهُوَ الشَّهَادَةُ، وَبَدَنِيٌّ وَهُوَ الصَّلَاةُ، وَمَالِيٌّ وَهُوَ الزَّكَاةُ. اقْتُصِرَ فِي الدُّعَاءِ إِلَى الْإِسْلَامِ عَلَيْهَا لِتَفَرُّعِ الرُّكْنَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ عَلَيْهَا، فَإِنَّ الصَّوْمَ بَدَنِيٌّ مَحْضٌ، وَالْحَجَّ بَدَنِيٌّ مَالِيٌّ، وَأَيْضًا فَكَلِمَةُ الْإِسْلَامِ وَهِيَ شَاقَّةٌ عَلَى الْكُفَّارِ، وَالصَّلَوَاتُ شَاقَّةٌ لِتَكَرُّرِهَا، وَالزَّكَاةُ شَاقَّةٌ لِمَا فِي جِبِلَّةِ الْإِنْسَانِ مِنْ حُبِّ الْمَالِ، فَإِذَا أَذْعَنَ الْمَرْءُ لِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ كَانَ مَا سِوَاهَا أَسْهَلَ عَلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌64 - بَاب صَلَاةِ الْإِمَامِ وَدُعَائِهِ لِصَاحِبِ الصَّدَقَةِ

وَقَوْلِهِ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ}

1497 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ قَالَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلَانٍ فَأَتَاهُ أَبِي بِصَدَقَتِهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى.

[الحديث 1497 - أطرافه في: 4166، 6323، 6359]

قَوْلُهُ: (بَابُ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَدُعَائِهِ لِصَاحِبِ الصَّدَقَةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} إِلَى قَوْلِهِ: {سَكَنٌ لَهُمْ} قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: عَطَفَ الدُّعَاءَ عَلَى الصَّلَاةِ فِي التَّرْجَمَةِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ لَفْظَ الصَّلَاةِ لَيْسَ مُحَتَّمًا بَلْ غَيْرُهُ مِنَ الدُّعَاءِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَتَهُ. انْتَهَى. وَيُؤَيِّدُ عَدَمَ الِانْحِصَارِ فِي لَفْظِ الصَّلَاةِ مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ، أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي رَجُلٍ بَعَثَ بِنَاقَةٍ حَسَنَةٍ فِي الزَّكَاةِ: اللَّهُمَّ بَارِكْ فِيهِ وَفِي إِبِلِهِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالْآيَةِ لِذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ فُهِمَ مِنْ سِيَاقِ الْحَدِيثِ مُدَاوَمَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ، فَحَمَلَهُ عَلَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} قَالَ: ادْعُ لَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: عَبَّرَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّرْجَمَةِ بِالْإِمَامِ لِيُبْطِلَ شُبْهَةَ أَهْلِ الرِّدَّةِ فِي قَوْلِهِمْ لِلصِّدِّيقِ: إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} وَهَذَا خَاصٌّ بِالرَّسُولِ، فَأَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ كُلَّ إِمَامٍ دَاخِلٌ فِي الْخِطَابِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَمْرٍو) هُوَ ابْنُ مُرَّةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَارِقٍ الْمُرَادِيُّ الْكُوفِيُّ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَّا مِنَ ابْنِ أَبِي أَوْفَى، قَالَ شُعْبَةُ: كَانَ لَا يُدَلِّسُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) سَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي بِلَفْظِ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي أَوْفَى وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى فُلَانٍ) فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ: عَلَى آلِ فُلَانٍ.

قَوْلُهُ: (عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى) يُرِيدُ أَبَا أَوْفَى نَفْسَهُ، لِأَنَّ الْآلَ يُطْلَقُ عَلَى ذَاتِ الشَّيْءِ كَقَوْلِهِ فِي قِصَّةِ أَبِي مُوسَى. لَقَدْ أُوتِيَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ: وَقِيلَ: لَا يُقَالُ ذَلِكَ إِلَّا فِي حَقِّ

ص: 361

الرَّجُلِ الْجَلِيلِ الْقَدْرِ، وَاسْمُ أَبِي أَوْفَى عَلْقَمَةُ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ الْأَسْلَمِيُّ شَهِدَ هُوَ وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بَيْعَةَ الرَّضْوَانِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَعُمِّرَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى أَنْ كَانَ آخِرَ مَنْ مَاتَ مِنَ الصَّحَابَةِ بِالْكُوفَةِ، وَذَلِكَ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَكَرِهَهُ مَالِكٌ وَالْجُمْهُورُ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَهَذَا الْحَدِيثُ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: يَدْعُو آخِذُ الصَّدَقَةِ لِلمتَّصَدُّقِ بِهَذَا الدُّعَاءِ لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَأَجَابَ الْخَطَّابِيُّ عَنْهُ قَدِيمًا بِأَنَّ أَصْلَ الصَّلَاةِ الدُّعَاءُ إِلَّا أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْمَدْعُوِّ لَهُ، فَصَلَاةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أُمَّتِهِ دُعَاءٌ لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ، وَصَلَاةُ أُمَّتِهِ عَلَيْهِ دُعَاءٌ لَهُ بِزِيَادَةِ الْقُرْبَى وَالزُّلْفَى، وَلِذَلِكَ كَانَ لَا يَلِيقُ بِغَيْرِهِ. انْتَهَى.

وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى اسْتِحْبَابِ دُعَاءِ آخِذِ الزَّكَاةِ لِمُعْطِيهَا، وَأَوْجَبَهُ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَحَكَاهُ الْحَنَّاطِيُّ وَجْهًا لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَعَلَّمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَلِأَنَّ سَائِرَ مَا يَأْخُذُهُ الْإِمَامُ مِنَ الْكَفَّارَاتِ وَالدُّيُونِ وَغَيْرِهِمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهَا الدُّعَاءُ، فَكَذَلِكَ الزَّكَاةُ، وَأَمَّا الْآيَةُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْوُجُوبُ خَاصًّا بِهِ، لِكَوْنِ صَلَاتِهِ سَكَنًا لَهُمْ بِخِلَافِ غَيْرِهِ.

‌65 - بَاب مَا يُسْتَخْرَجُ مِنْ الْبَحْرِ

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: لَيْسَ الْعَنْبَرُ بِرِكَازٍ هُوَ شَيْءٌ دَسَرَهُ الْبَحْرُ

وَقَالَ الْحَسَنُ: فِي الْعَنْبَرِ وَاللُّؤْلُؤِ الْخُمُسُ فَإِنَّمَا جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الرِّكَازِ الْخُمُسَ لَيْسَ فِي الَّذِي يُصَابُ فِي الْمَاءِ

1498 وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِأَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ.

الحديث 1498 - أطرافه في: 2063، 2291، 2404، 2430، 2734، 6261]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُسْتَخْرَجُ مِنَ الْبَحْرِ) أَيْ هَلْ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ أَوْ لَا؟ وَإِطْلَاقُ الِاسْتِخْرَاجِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِسُهُولَةٍ كَمَا يُوجَدُ فِي السَّاحِلِ، أَوْ بِصُعُوبَةٍ كَمَا يُوجَدُ بَعْدَ الْغَوْصِ وَنَحْوِهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: لَيْسَ الْعَنْبَرُ بِرِكَازٍ، إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ دَسَرَهُ الْبَحْرُ) اخْتُلِفَ فِي الْعَنْبَرِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ السَّلَمِ مِنَ الْأُمِّ: أَخْبَرَنِي عَدَدٌ مِمَّنْ أَثِقُ بِخَبَرِهِ أَنَّهُ نَبَاتٌ يَخْلُقُهُ اللَّهُ فِي جَنَبَاتِ الْبَحْرِ، قَالَ: وَقِيلَ: إِنَّهُ يَأْكُلُهُ حُوتٌ فَيَمُوتُ فَيُلْقِيهِ الْبَحْرُ فَيُؤْخَذُ فَيُشَقُّ بَطْنُهُ فَيُخْرَجُ مِنْهُ. وَحَكَى ابْنُ رُسْتُمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ يَنْبُتُ فِي الْبَحْرِ بِمَنْزِلَةِ الْحَشِيشِ فِي الْبَرِّ، وَقِيلَ: هُوَ شَجَرٌ يَنْبُتُ فِي الْبَحْرِ فَيَتَكَسَّرُ فَيُلْقِيهِ الْمَوْجُ إِلَى السَّاحِلِ، وَقِيلَ: يَخْرُجُ مِنْ عَيْنٍ، قَالَهُ ابْنُ سِينَا، قَالَ: وَمَا يُحْكَى مِنْ أَنَّهُ رَوْثُ دَابَّةٍ أَوْ قَيْؤُهَا أَوْ مِنْ زَبَدِ الْبَحْرِ بَعِيدٌ. وَقَالَ ابْنُ الْبَيْطَارِ فِي جَامِعِهِ: هُوَ رَوْثُ دَابَّةٍ بَحْرِيَّةٍ، وَقِيلَ: هُوَ شَيْءٌ يَنْبُتُ فِي قَعْرِ الْبَحْرِ، ثُمَّ حُكِيَ نَحْوُ مَا تَقَدَّمَ عَنِ الشَّافِعِيِّ. وَأَمَّا الرِّكَازُ فَبِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْكَافِ وَآخِرُهُ زَايٌ سَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَدَسَرَهُ: أَيْ دَفَعَهُ وَرَمَى بِهِ إِلَى السَّاحِلِ، وَهَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ الشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أُذَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَذَكَرَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ وَمِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ. وَصَرَّحَ فِيهِ بِسَمَاعِ أُذَيْنَةَ لَهُ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ

ص: 362

عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ مِثْلَهُ، وَأُذَيْنَةُ بِمُعْجَمَةٍ وَنُونٍ مُصَغَّرٌ تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ.

وَقَدْ جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ التَّوَقُّفُ فِيهِ، فَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ، قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ الْعَنْبَرِ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ فَفِيهِ الْخُمُسُ. وَيُجْمَعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ بِأَنَّهُ كَانَ يَشُكُّ فِيهِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنْ لَا زَكَاةَ فِيهِ فَجَزَمَ بِذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَسَنُ: فِي الْعَنْبَرِ وَاللُّؤْلُؤِ الْخُمُسُ) وَصَلَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ مِنْ طَرِيقِهِ بِلَفْظِ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: فِي الْعَنْبَرِ الْخُمُسُ، وَكَذَلِكَ اللُّؤْلُؤُ.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّمَا جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. . . إِلَخْ) سَيَأْتِي مَوْصُولًا فِي الَّذِي بَعْدَهُ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ الرَّدَّ عَلَى مَا قَالَ الْحَسَنُ، لِأَنَّ الَّذِي يُسْتَخْرَجُ مِنَ الْبَحْرِ لَا يُسَمَّى فِي لُغَةِ الْعَرَبِ رِكَازًا عَلَى مَا سَيَأْتِي شَرْحُهُ، قَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ: وَمَفْهُومُ الْحَدِيثِ أَنَّ غَيْرَ الرِّكَازِ لَا خُمُسَ فِيهِ، وَلَا سِيَّمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْعَنْبَرُ، لِأَنَّهُمَا يَتَوَلَّدَانِ مِنْ حَيَوَانِ الْبَحْرِ فَأَشْبَهَا السَّمَكَ. انْتَهَى.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّيْثُ إِلَخْ) هَكَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ أَوْرَدَهُ ثُمَّ وَصَلَهُ فِي الْبُيُوعِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَوَقَعَ هُنَا فِي رِوَايَتِنَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي ذَرٍّ مُعَلَّقًا، وَوَصَلَهُ أَبُو ذَرٍّ فَقَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ وَصِيفٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ غَسَّانَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بِهِ. وَقَرَأْتُ بِخَطِّ الْحَافِظِ أَبِي عَلِيٍّ الصَّدَفِيِّ هَذَا الْحَدِيثَ رَوَاهُ عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنِ اللَّيْثِ، فَلَعَلَّ الْبُخَارِيَّ إِنَّمَا لَمْ يُسْنِدْهُ عَنْهُ لِكَوْنِهِ مَا سَمِعَهُ عِنْهُ، أَوْ لِأَنَّهُ تَفَرَّدَ بِهِ فَلَمْ يُوَافِقْهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ. انْتَهَى. وَالْأَوَّلُ بَعِيدٌ، سَلَّمْنَا، لَكِنْ لَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ عَاصِمٌ فَقَدِ اعْتَرَفَ أَبُو عَلِيٍّ بِذَلِكَ فَقَالَ فِي آخِرٍ كَلَامِهِ: رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، عَنِ اللَّيْثِ. قُلْتُ: وَكَأَنَّهُ لَمْ يَقِفْ عَلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي وَصَلَهُ فِيهِ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: لَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ شَيْءٌ يُنَاسِبُ التَّرْجَمَةَ، رَجُلٌ اقْتَرَضَ قَرْضًا فَارْتَجَعَ قَرْضَهُ، وَكَذَا قَالَ الدَّاوُدِيُّ: حَدِيثُ الْخَشَبَةِ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي شَيْءٍ، وَأَجَابَ أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ بِأَنَّهُ أَشَارَ بِهِ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَا أَلْقَاهُ الْبَحْرُ جَازَ أَخْذُهُ وَلَا خُمُسَ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: مَوْضِعُ الِاسْتِشْهَادِ مِنْهُ أَخْذُ الرَّجُلِ الْخَشَبَةَ عَلَى أَنَّهَا حَطَبٌ، فَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ إِبَاحَةُ مَا يَلْفِظُهُ الْبَحْرُ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ مِمَّا نَشَأَ فِي الْبَحْرِ أَوْ عَطِبَ فَانْقَطَعَ مِلْكُ صَاحِبِهِ، وَكَذَلِكَ مَا لَمْ يَتَقَدَّمْ عَلَيْهِ مِلْكٌ لِأَحَدٍ مِنْ الْأَوْلَى، وَكَذَلِكَ مَا يَحْتَاجُ إِلَى مُعَانَاةٍ وَتَعَبٍ فِي اسْتِخْرَاجِهِ أَيْضًا، وَقَدْ فَرَّقَ الْأَوْزَاعِيُّ بَيْنَ مَا يُوجَدُ فِي السَّاحِلِ، فَيُخَمَّسُ أَوْ فِي الْبَحْرِ بِالْغَوْصِ أَوْ نَحْوِهِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، كَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَكَذَا الزُّهْرِيُّ وَالْحَسَنُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.

‌66 - بَاب فِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ

وَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ إِدْرِيسَ: الرِّكَازُ دِفْنُ الْجَاهِلِيَّةِ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ الْخُمُسُ وَلَيْسَ الْمَعْدِنُ بِرِكَازٍ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: فِي الْمَعْدِنِ جُبَارٌ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ وَأَخَذَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنْ الْمَعَادِنِ مِنْ كُلِّ مِائَتَيْنِ خَمْسَةً، وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا كَانَ مِنْ رِكَازٍ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ فَفِيهِ الْخُمُسُ، وَمَا كَانَ مِنْ أَرْضِ السِّلْمِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ وَجَدْتَ اللُّقَطَةَ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ فَعَرِّفْهَا وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْعَدُوِّ فَفِيهَا الْخُمُسُ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الْمَعْدِنُ رِكَازٌ مِثْلُ دِفْنِ الْجَاهِلِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ: أَرْكَزَ الْمَعْدِنُ إِذَا خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ قِيلَ لَهُ قَدْ يُقَالُ لِمَنْ وُهِبَ لَهُ شَيْءٌ أَوْ رَبِحَ رِبْحًا كَثِيرًا أَوْ كَثُرَ ثَمَرُهُ أَرْكَزْتَ ثُمَّ نَاقَضَ وَقَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ يَكْتُمَهُ فَلَا يُؤَدِّيَ الْخُمُسَ

ص: 363

1499 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ وَالْبِئْرُ جُبَارٌ وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ.

الحديث 1499 - أطرافه في: 2355، 6912، 6913]

قَوْلُهُ: (بَابٌ: فِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ) الرِّكَازُ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْكَافِ وَآخِرُهُ زَايٌ: الْمَالُ الْمَدْفُونُ مَأْخُوذٌ مِنَ الرَّكْزِ بِفَتْحِ الرَّاءِ، يُقَالُ: رَكَزَهُ يَرْكُزُهُ رَكْزًا إِذَا دَفَنَهُ فَهُوَ مَرْكُوزٌ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاخْتُلِفَ فِي الْمَعْدِنِ كَمَا سَيَأْتِي.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ إِدْرِيسَ: الرِّكَازُ دِفْنُ الْجَاهِلِيَّةِ. . . إِلَخْ) أَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَرَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ مَالِكٍ، قَالَ: الْمَعْدِنُ بِمَنْزِلَةِ الزَّرْعِ، تُؤْخَذُ مِنْهُ الزَّكَاةُ كَمَا تُؤْخَذُ مِنَ الزَّرْعِ حَتَّى يُحْصَدَ، قَالَ: وَهَذَا لَيْسَ بِرِكَازٍ، إِنَّمَا الرِّكَازُ دِفْنُ الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُطْلَبَ بِمَالٍ وَلَا يَتَكَلَّفُ لَهُ كَثِيرَ عَمَلٍ. انْتَهَى. وَهَكَذَا هُوَ فِي سَمَاعِنَا مِنْ الْمُوَطَّأِ رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، لَكِنْ قَالَ فِيهِ: عَنْ مَالِكٍ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ الْخُمُسُ. فَنَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ كَذَلِكَ، وَفِيهِ عِنْدَ أَصْحَابِهِ عَنْهُ اخْتِلَافٌ، وَقَوْلُهُ: دِفْنُ الْجَاهِلِيَّةِ بِكَسْرِ الدَّالِ وَسُكُونِ الْفَاءِ: الشَّيْءُ الْمَدْفُونُ؛ كَذِبْحٍ بِمَعْنَى مَذْبُوحٍ، وَأَمَّا بِالْفَتْحِ فَهُوَ الْمَصْدَرُ وَلَا يُرَادُ هُنَا. وَأَمَّا ابْنُ إِدْرِيسَ، فَقَالَ ابْنُ التِّينِ: قَالَ أَبُو ذَرٍّ يُقَالُ: إِنَّ إِدْرِيسَ هُوَ الشَّافِعِيُّ، وَيُقَالُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ الْأَوْدِيُّ الْكُوفِيُّ، وَهُوَ أَشْبَهُ، كَذَا قَالَ، وَقَدْ جَزَمَ أَبُو زَيْدٍ الْمَرْوَزِيُّ أَحَدُ الرُّوَاةِ عَنِ الْفَرَبْرِيِّ بِأَنَّهُ الشَّافِعِيُّ، وَتَابَعَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَجُمْهُورُ الْأَئِمَّةِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ ذَلِكَ وُجِدَ فِي عِبَارَةِ الشَّافِعِيِّ دُونَ الْأَوْدِيِّ، فَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ مِنْ طَرِيقِ الرَّبِيعِ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالرِّكَازُ الَّذِي فِيهِ الْخُمُسُ دِفْنُ الْجَاهِلِيَّةِ مَا وُجِدَ فِي غَيْرِ مِلْكٍ لِأَحَدٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ الْخُمُسُ.

فَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَاخْتَارَهُ، وَأَمَّا الْجَدِيدُ فَقَالَ: لَا يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ حَتَّى يَبْلُغَ نِصَابَ الزَّكَاةِ، وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَيْضًا، وَهُوَ مُقْتَضَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ.

قَوْلُهُ: (وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَعْدِنِ جُبَارٌ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ) أَيْ فَغَايَرَ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا وَصَلَهُ فِي آخِرِ الْبَابِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (وَأَخَذَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنَ الْمَعَادِنِ مِنْ كُلِّ مِائَتَيْنِ خَمْسَةً) وَصَلَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ نَحْوُهُ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ جَعَلَ الْمَعْدِنَ بِمَنْزِلَةِ الرِّكَازِ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْخُمُسُ، ثُمَّ عَقَّبَ بِكِتَابٍ آخَرَ فَجَعَلَ فِيهِ الزَّكَاةَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا كَانَ مِنْ رِكَازٍ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ فَفِيهِ الْخُمُسُ، وَمَا كَانَ فِي أَرْضِ السِّلْمِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمٍ، الْأَحْوَلِ عَنْهُ بِلَفْظِ: إِذَا وُجِدَ الْكَنْزُ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ فَفِيهِ الْخُمُسُ، وَإِذَا وُجِدَ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا فَرَّقَ هَذِهِ التَّفْرِقَةَ غَيْرَ الْحَسَنِ.

قَوْلُهُ: (وَإِنْ وُجِدَتِ اللُّقَطَةُ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ فَعَرَّفَهَا وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْعَدُوِّ فَفِيهَا الْخُمُسُ) لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ مَوْصُولًا وَهُوَ بِمَعْنَى مَا تَقَدَّمَ عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الْمَعْدِنُ رِكَازٌ. . . إِلَخْ) قَالَ ابْنُ التِّينِ: الْمُرَادُ بِبَعْضِ النَّاسِ أَبُو حَنِيفَةَ. قُلْتُ: وَهَذَا أَوَّلُ مَوْضِعٍ ذَكَرَهُ فِيهِ الْبُخَارِيُّ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَبَا حَنِيفَةَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْكُوفِيِّينَ مِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ، قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُمَا إِلَى أَنَّ الْمَعْدِنَ كَالرِّكَازِ، وَاحْتَجَّ لَهُمْ بِقَوْلِ الْعَرَبِ: أَرْكَزَ الرَّجُلُ إِذَا أَصَابَ رِكَازًا، وَهِيَ قِطَعٌ مِنَ الذَّهَبِ تُخْرَجُ مِنَ الْمَعَادِنِ. وَالْحُجَّةُ لِلْجُمْهُورِ تَفْرِقَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الْمَعْدِنِ وَالرِّكَازِ بِوَاوِ الْعَطْفِ

ص: 364

فَصَحَّ أَنَّهُ غَيْرُهُ، قَالَ: وَمَا أَلْزَمَ بِهِ الْبُخَارِيُّ الْقَائِلَ الْمَذْكُورَ قَدْ يُقَالُ لِمَنْ وُهِبَ لَهُ الشَّيْءُ أَوْ رَبِحَ رِبْحًا كَثِيرًا أَوْ كَثُرَ ثَمَرُهُ: أَرْكَزْتَ حُجَّةً بَالِغَةً، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الِاشْتِرَاكِ فِي الْأَسْمَاءِ الِاشْتِرَاكُ فِي الْمَعْنَى، إِلَّا إِنْ أَوْجَبَ ذَلِكَ مَنْ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمَالَ الْمَوْهُوبَ لَا يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ، وَإِنْ كَانَ يُقَالُ لَهُ: أَرْكَزَ، فَكَذَلِكَ الْمَعْدِنُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ثُمَّ نَاقَضَ إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ فَلَيْسَ كَمَا قَالَ، وَإِنَّمَا أَجَازَ لَهُ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يَكْتُمَهُ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَتَأَوَّلُ أَنَّ لَهُ حَقًّا فِي بَيْتِ الْمَالِ وَنَصِيبًا فِي الْفَيْءِ، فَأَجَازَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْخُمُسَ لِنَفْسِهِ عِوَضًا عَنْ ذَلِكَ، لَا أَنَّهُ أَسْقَطَ الْخُمُسَ عَنِ الْمَعْدِنِ اهـ. وَقَدْ نَقَلَ الطَّحَاوِيُّ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ بَطَّالٍ، وَنَقَلَ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ وَجَدَ فِي دَارِهِ مَعْدِنًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَبِهَذَا يَتَّجِهُ اعْتِرَاضُ الْبُخَارِيِّ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَعْدِنِ وَالرِّكَازِ فِي الْوُجُوبِ وَعَدَمِهِ، أَنَّ الْمَعْدِنَ يَحْتَاجُ إِلَى عَمَلٍ وَمُؤْنَةٍ وَمُعَالَجَةٍ لِاسْتِخْرَاجِهِ بِخِلَافِ الرِّكَازِ، وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ الشَّرْعِ أَنَّ مَا غَلُظَتْ مُؤْنَتُهُ خُفِّفَ عَنْهُ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ، وَمَا خَفَّتْ زِيدَ فِيهِ. وَقِيلَ: إِنَّمَا جُعِلَ فِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ، لِأَنَّهُ مَالُ كَافِرٍ، فَنُزِّلَ مَنْ وَجَدَهُ مَنْزِلَةَ الْغَنَائِمِ، فَكَانَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ. وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: كَأَنَّ الرِّكَازَ مَأْخُوذٌ مِنْ أَرْكَزْتُهُ فِي الْأَرْضِ إِذَا غَرَزْتُهُ فِيهَا، وَأَمَّا الْمَعْدِنُ فَإِنَّهُ يَنْبُتُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ وَضْعِ وَاضِعٍ. هَذِهِ حَقِيقَتُهُمَا، فَإِذَا افْتَرَقَا فِي أَصْلِهِمَا فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِهِمَا.

قَوْلُهُ: (الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ) فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: الْعَجْمَاءُ عَقْلُهَا جُبَارٌ، وَسَيَأْتِي فِي الدِّيَاتِ مَعَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَسُمِّيَتِ الْبَهِيمَةُ عَجْمَاءَ لِأَنَّهَا لَا تَتَكَلَّمُ.

قَوْلُهُ: (وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ) أَيْ هَدَرٌ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهِ، وإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّ مَنِ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِلْعَمَلِ فِي مَعْدِنٍ مَثَلًا فَهَلَكَ فَهُوَ هَدَرٌ، وَلَا شَيْءَ عَلَى مَنِ اسْتَأْجَرَهُ، وَسَيَأْتِي بَسْطُهُ فِي الدِّيَاتِ.

قَوْلُهُ: (وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ) قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الِاخْتِلَافِ فِي الرِّكَازِ، وَأَنَّ الْجُمْهُورَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ الْمَالُ الْمَدْفُونُ، لَكِنْ حَصَرَهُ الشَّافِعِيَّةُ فِيمَا يُوجَدُ فِي الْمَوَاتِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا وَجَدَهُ فِي طَرِيقٍ مَسْلُوكٍ أَوْ مَسْجِدٍ فَهُوَ لُقَطَةٌ، وَإِذَا وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ فَإِنْ كَانَ الْمَالِكُ الَّذِي وَجَدَهُ فَهُوَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ فَإِنِ ادَّعَاهُ الْمَالِكُ فَهُوَ لَهُ وَإِلَّا فَهُوَ لِمَنْ تَلَقَّاهُ عَنْهُ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْحَالُ إِلَى مَنْ أَحْيَا تِلْكَ الْأَرْضَ، قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: مَنْ قَالَ مِنَ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّ فِي الرِّكَازِ الْخُمُسَ إِمَّا مُطْلَقًا أَوْ فِي أَكْثَرِ الصُّوَرِ، فَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْحَدِيثِ، وَخَصَّهُ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا يَخْتَصُّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَاخْتَلَفُوا فِي مَصْرِفِهِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالْجُمْهُورُ: مَصْرِفُهُ مَصْرِفُ خُمُسِ الْفَيْءِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْهِ: مَصْرِفُهُ مَصْرِفُ الزَّكَاةِ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ. وَيَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ مَا إِذَا وَجَدَهُ ذِمِّيٌّ، فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ يُخْرَجُ مِنْهُ الْخُمُسُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْحَوْلُ، بَلْ يَجِبُ إِخْرَاجُ الْخُمُسِ فِي الْحَالِ. وَأَغْرَبَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ، فَحَكَى عَنِ الشَّافِعِيِّ الِاشْتِرَاطَ، وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِهِ وَلَا مِنْ كُتُبِ أَصْحَابِهِ.

‌67 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} وَمُحَاسَبَةِ الْمُصَدِّقِينَ مَعَ الْإِمَامِ

1500 -

حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه قَالَ: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا مِنْ الْأَسْدِ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ يُدْعَى ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} وَمُحَاسَبَةُ الْمُصَّدِّقِينَ مَعَ الْإِمَامِ) قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى

ص: 365

أَنَّ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا السُّعَاةُ الْمُتَوَلُّونَ لِقَبْضِ الصَّدَقَةِ. وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: حَدِيثُ الْبَابِ أَصْلٌ فِي مُحَاسَبَةِ الْمُؤْتَمَنِ، وَأَنَّ الْمُحَاسَبَةَ تَصْحِيحُ أَمَانَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ الْمَذْكُورُ صَرَفَ شَيْئًا مِنَ الزَّكَاةِ فِي مَصَارِفِهِ، فَحُوسِبَ عَلَى الْحَاصِلِ وَالْمَصْرُوفِ. قُلْتُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ مَجْمُوعِ الطُّرُقِ أَنَّ سَبَبَ مُطَالَبَتِهِ بِالْمُحَاسَبَةِ مَا وُجِدَ مَعَهُ مِنْ جِنْسِ مَالِ الصَّدَقَةِ، وَادَّعَى أَنَّهُ أُهْدِيَ إِلَيْهِ.

ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِيهِ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ فِي قِصَّةِ ابْنِ اللُّتْبِيَّةِ وَفِيهِ: فَلَمَّا جَاءَ حَاسِبُهُ. وسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ حَيْثُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مُسْتَوْفًى فِي الْأَحْكَامِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَابْنُ اللُّتْبِيَّةِ الْمَذْكُورُ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُ، وَلَمْ أَعْرِفِ اسْمَ أُمِّهِ. وَقَوْلُهُ: عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ. أَفَادَ الْعَسْكَرِيُّ بِأَنَّهُ بُعِثَ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي ذُبْيَانَ، فَلَعَلَّهُ كَانَ عَلَى الْقَبِيلَتَيْنِ. وَاللُّتْبِيَّةُ بِضَمِّ اللَّامِ وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ مِنْ بَنِي لُتْبٍ حَيٌّ مِنَ الْأَزْدِ، قَالَهُ ابْنُ دُرَيْدٍ، قِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ أُمَّهُ فَعُرِفَ بِهَا، وَقِيلَ: اللَّتَبِيَّةُ بِفَتْحِ اللَّامِ وَالْمُثَنَّاةِ.

‌68 - بَاب اسْتِعْمَالِ إِبِلِ الصَّدَقَةِ وَأَلْبَانِهَا لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ

1501 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: أَنَّ نَاسًا مِنْ عُرَيْنَةَ اجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ فَرَخَّصَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْتُوا إِبِلَ الصَّدَقَةِ فَيَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا فَقَتَلُوا الرَّاعِيَ وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأُتِيَ بِهِمْ فَقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ وَتَرَكَهُمْ بِالْحَرَّةِ يَعَضُّونَ الْحِجَارَةَ تَابَعَهُ أَبُو قِلَابَةَ وَحُمَيْدٌ وَثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ اسْتِعْمَالِ إِبِلِ الصَّدَقَةِ وَأَلْبَانِهَا لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ) قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: غَرَضُ الْمُصَنِّفِ فِي هَذَا الْبَابِ إِثْبَاتُ وَضْعِ الصَّدَقَةِ فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: يَجِبُ اسْتِيعَابُ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، وَفِيمَا قَالَ نَظَرٌ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَا أَبَاحَ لَهُمْ مِنَ الِانْتِفَاعِ إِلَّا بِمَا هُوَ قَدْرُ حِصَّتِهِمْ.

عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْخَبَرِ أَيْضًا أَنَّهُ مَلَّكَهُمْ رِقَابَهَا، وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ أَبَاحَ لَهُمْ شُرْبَ أَلْبَانِ الْإِبِلِ لِلتَّدَاوِي، فَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ الْبُخَارِيُّ جَوَازَ اسْتِعْمَالِهَا فِي بَقِيَّةِ الْمَنَافِعِ إِذْ لَا فَرْقَ، وَأَمَّا تَمْلِيكُ رِقَابِهَا فَلَمْ يَقَعْ، وَتَقْدِيرُ التَّرْجَمَةِ اسْتِعْمَالُ إِبِلِ الصَّدَقَةِ وَشُرْبُ أَلْبَانِهَا، فَاكْتَفَى عَنِ التَّصْرِيحِ بِالشُّرْبِ لِوُضُوحِهِ، فَغَايَةُ مَا يُفْهَمُ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَخُصَّ بِمَنْفَعَةِ مَالِ الزَّكَاةِ - دُونَ الرَّقَبَةِ - صِنْفًا دُونَ صِنْفٍ بِحَسَبِ الِاحْتِيَاجِ، عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْخَبَرِ أَيْضًا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ لَمْ يَصْرِفْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا لِغَيْرِ الْعُرَنِيِّينَ، فَلَيْسَتِ الدَّلَالَةُ مِنْهُ لِذَلِكَ بِظَاهِرَةٍ أَصْلًا بِخِلَافِ مَا ادَّعَى ابْنُ بَطَّالٍ أَنَّهُ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ أَبُو قِلَابَةَ وَحُمَيْدٌ وَثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ) أَمَّا مُتَابَعَةُ أَبِي قِلَابَةَ فَتَقَدَّمَتْ فِي الطَّهَارَةِ، وَأَمَّا مُتَابَعَةُ حُمَيْدٍ فَوَصَلَهَا مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَأَمَّا مُتَابَعَةُ ثَابِتٍ فَوَصَلَهَا الْمُصَنِّفُ فِي الطِّبِّ. وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ.

‌69 - بَاب وَسْمِ الْإِمَامِ إِبِلَ الصَّدَقَةِ بِيَدِهِ

1502 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: غَدَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ لِيُحَنِّكَهُ فَوَافَيْتُهُ فِي يَدِهِ الْمِيسَمُ يَسِمُ إِبِلَ الصَّدَقَةِ.

[الحديث 1502 - طرفاه في: 5542، 5824]

ص: 366

قَوْلُهُ: (بَابُ وَسْمِ الْإِمَامِ إِبِلَ الصَّدَقَةِ بِيَدِهِ) ذَكَرَ فِيهِ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، وَفِيهِ مَقْصُودُ الْبَابِ. وَسَيَأْتِي فِي الذَّبَائِحِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ رَآهُ يَسِمُ غَنَمًا فِي آذَانِهَا، وَيَأْتِي هُنَاكَ النَّهْيُ عَنِ الْوَسْمِ فِي الْوَجْهِ.

قَوْلُهُ فِي الْإِسْنَادِ: (حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ) هُوَ ابْنُ مُسْلِمٍ، وَأَبُو عَمْرٍو هُوَ الْأَوْزَاعِيُّ، كَمَا ثَبَتَ فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ.

قَوْلُهُ: (وَفِي يَدِهِ الْمِيسَمُ) بِوَزْنِ مِفْعَلٍ مَكْسُورُ الْأَوَّلِ، وَأَصْلُهُ مِوْسَمٌ لِأَنَّ فَاءَهُ وَاوٌ، لَكِنَّهَا لَمَّا سُكِّنَتْ وَكُسِرَ مَا قَبْلَهَا قُلِبَتْ يَاءً، وَهِيَ الْحَدِيدَةُ الَّتِي يُوسَمُ بِهَا، أَيْ يُعَلَّمُ، وَهُوَ نَظِيرُ الْخَاتَمِ. وَالْحِكْمَةُ فِيهِ تَمْيِيزُهَا، وَلِيَرُدَّهَا مَنْ أَخَذَهَا وَمَنِ الْتَقَطَهَا، وَلِيَعْرِفَهَا صَاحِبُهَا فَلَا يَشْتَرِيَهَا إِذَا تَصَدَّقَ بِهَا مَثَلًا لِئَلَّا يَعُودَ فِي صَدَقَتِهِ. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَصْرِيحٍ بِمَا كَانَ مَكْتُوبًا عَلَى مِيسَمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، إِلَّا أَنَّ ابْنَ الصَّبَّاغِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ نَقَلَ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّهُ يُكْتَبُ

(1)

في مِيسَمِ الزَّكَاةِ زَكَاةٌ أَوْ صَدَقَةٌ. وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ كَرِهَ الْوَسْمَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِالْمِيسَمِ لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ النَّهْيِ عَنِ الْمُثْلَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَخْصُوصٌ مِنَ الْعُمُومِ الْمَذْكُورِ لِلْحَاجَةِ كَالْخِتَانِ لِلْآدَمِيِّ.

قَالَ الْمُهَلَّبُ وَغَيْرُهُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَّخِذَ مِيسَمًا، وَلَيْسَ لِلنَّاسِ أَنْ يَتَّخِذُوا نَظِيرَهُ، وَهُوَ كَالْخَاتَمِ، وَفِيهِ اعْتِنَاءُ الْإِمَامِ بِأَمْوَالِ الصَّدَقَةِ وَتَوَلِّيهَا بِنَفْسِهِ، وَيَلْتَحِقُ بِهِ جَمِيعُ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ. وَفِيهِ جَوَازُ إِيلَامِ الْحَيَوَانِ لِلْحَاجَةِ. وَفِيهِ قَصْدُ أَهْلِ الْفَضْلِ لِتَحْنِيكِ الْمَوْلُودِ لِأَجْلِ الْبَرَكَةِ

(2)

وَفِيهِ جَوَازُ تَأْخِيرِ الْقِسْمَةِ لِأَنَّهَا لَوْ عُجِّلَتْ لَاسْتُغْنِيَ عَنِ الْوَسْمِ. وَفِيهِ مُبَاشَرَةُ أَعْمَالِ الْمِهْنَةِ وَتَرْكُ الِاسْتِنَابَةِ فِيهَا لِلرَّغْبَةِ فِي زِيَادَةِ الْأَجْرِ وَنَفْيِ الْكِبْرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌70 - بَاب فَرْضِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ

وَرَأَى أَبُو الْعَالِيَةِ وَعَطَاءٌ وَابْنُ سِيرِينَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ فَرِيضَةً

1503 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّكَنِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَهْضَمٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ.

[الحديث 1503 - أطرافه في: 1504، 1507، 1509، 1511، 1512]

قَوْلُهُ: (بَابُ فَرْضِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ) كَذَا لِلْمُسْتَمْلِي، وَاقْتَصَرَ الْبَاقُونَ عَلَى بَابٍ وَمَا بَعْدَهُ، وَلِأَبِي نُعَيْمٍ: كِتَابٌ بَدَلَ بَابٍ، وَأُضِيفَتِ الصَّدَقَةُ لِلْفِطْرِ لِكَوْنِهَا تَجِبُ بِالْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْمُرَادُ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ صَدَقَةُ النُّفُوسِ، مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْفِطْرَةِ الَّتِي هِيَ أَصْلُ الْخِلْقَةِ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ كَمَا سَيَأْتِي: زَكَاةُ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ.

قَوْلُهُ: (وَرَأَى أَبُو الْعَالِيَةِ وَعَطَاءٌ وَابْنُ سِيرِينَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ فَرِيضَةً) وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، وَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ عَنِ الْآخَرِينَ. وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ الْبُخَارِيُّ عَلَى ذِكْرِ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ لِكَوْنِهِمْ صَرَّحُوا بِفَرْضِيَّتِهَا، وَإِلَّا فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ، لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ

(1)

قال مصحح طبعة بولاق: في نسخة أخرى "كتب" بصيغة الماضي

(2)

سبق غيره مرة في الحاشية أن التماس البركة من النبي صلى الله عليه وسلم خاص به لايقاس عليه غيره، لما جعل الله في جسده من البركة، بخلاف غيره فلا يجوز التماس البركة منه سدا لذريعة الشرك وتأسيا بالصحابة فإنهم لم يفعلوا ذلك مع غيره، وهم أعلم الناس بالسنة وأسبقهم إلى كل خير رضي الله عنهم. والله أعلم

ص: 367

يَقُولُونَ بِالْوُجُوبِ دُونَ الْفَرْضِ عَلَى قَاعِدَتِهِمْ فِي التَّفْرِقَةِ. وَفِي نَقْلِ الْإِجْمَاعِ مَعَ ذَلِكَ نَظَرٌ، لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ ابْنَ عُلَيَّةَ، وَأَبَا بَكْرِ بْنَ كَيْسَانَ الْأَصَمَّ قَالَا: إِنَّ وُجُوبَهَا نُسِخَ، وَاسْتُدِلَّ لَهُمَا بِمَا رَوَى النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الزَّكَاةُ، فَلَمَّا نَزَلَتِ الزَّكَاةُ لَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا وَنَحْنُ نَفْعَلُهُ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ رَاوِيًا مَجْهُولًا، وَعَلَى تَقْدِيرِ الصِّحَّةِ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى النَّسْخِ لِاحْتِمَالِ الِاكْتِفَاءِ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ نُزُولَ فَرْضٍ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ فَرْضٍ آخَرَ. وَنَقَلَ الْمَالِكِيَّةُ عَنْ أَشْهَبَ أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَابْنِ اللَّبَّانِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَوَّلُوا قَوْلَهُ: فَرَضَ. فِي الْحَدِيثِ بِمَعْنَى قَدَّرَ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: هُوَ أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ، لَكِنْ نُقِلَ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ إِلَى الْوُجُوبِ، فَالْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى. انْتَهَى. وَيُؤَيِّدُهُ تَسْمِيَتُهَا زَكَاةً، وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: عَلَى كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ.

وَالتَّصْرِيحُ بِالْأَمْرِ بِهَا فِي حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ وَغَيْرِهِ، وَلِدُخُولِهَا فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتُوا الزَّكَاةَ، فَبَيَّنَ صلى الله عليه وسلم تَفَاصِيلَ ذَلِكَ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا زَكَاةُ الْفِطْرِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} وَثَبَتَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ إِثْبَاتُ حَقِيقَةِ الْفَلَاحِ لِمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى الْوَاجِبَاتِ، قِيلَ: وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ فِي الْآيَةِ:{وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} فَيَلْزَمُ وُجُوبُ صَلَاةِ الْعِيدِ، وَيُجَابُ بِأَنَّهُ خَرَجَ بِدَلِيلِ عُمُومِ: هُنَّ خَمْسٌ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَهْضَمٍ) بِالْجِيمِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَزْنُ جَعْفَرٍ، وَعُمَرُ بْنُ نَافِعٍ هُوَ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، ثِقَةٌ، لَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَآخَرُ فِي النَّهْيِ عَنِ الْقَزَعِ.

قَوْلُهُ: (زَكَاةَ الْفِطْرِ) زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ: مِنْ رَمَضَانَ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ وَقْتَ وُجُوبِهَا غُرُوبُ الشَّمْسِ لَيْلَةَ الْفِطْرِ، لِأَنَّهُ وَقْتُ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَقِيلَ: وَقْتُ وُجُوبِهَا طُلُوعُ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الْعِيدِ، لِأَنَّ اللَّيْلَ لَيْسَ مَحَلًّا لِلصَّوْمِ، وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ الْفِطْرُ الْحَقِيقِيُّ بِالْأَكْلِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ، وَالثَّانِي قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَاللَّيْثِ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ مَالِكٍ، وَيُقَوِّيهِ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ: وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: قِيلَ: إِنَّ الْخِلَافَ يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: الْفِطْرُ مِنْ رَمَضَانَ الْفِطْرُ الْمُعْتَادُ فِي سَائِرِ الشَّهْرِ، فَيَكُونُ الْوُجُوبُ بِالْغُرُوبِ، أَوِ الْفِطْرُ الطَّارِئُ بَعْدُ، فَيَكُونُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الِاسْتِدْلَالُ بِذَلِكَ لِهَذَا الْحُكْمِ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إِلَى الْفِطْرِ لَا تَدُلُّ عَلَى وَقْتِ الْوُجُوبِ، بَلْ تَقْتَضِي إِضَافَةَ هَذِهِ الزَّكَاةِ إِلَى الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَأَمَّا وَقْتُ الْوُجُوبِ فَيُطْلَبُ مِنْ أَمْرٍ آخَرَ، وَسَيَأْتِي شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي بَابِ الصَّدَقَةِ قَبْلَ الْعِيدِ.

قَوْلُهُ: (صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ) انْتَصَبَ صَاعًا عَلَى التَّمْيِيزِ أَوْ أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَلَمْ تَخْتَلِفِ الطُّرُقُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ، إِلَّا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ نَافِعٍ، فَزَادَ فِيهِ: السُّلْتَ وَالزَّبِيبَ، فَأَمَّا السُّلْتُ فَهُوَ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ: نَوْعٌ مِنَ الشَّعِيرِ، وَأَمَّا الزَّبِيبُ فَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، فَقَدْ حَكَمَ مُسْلِمٌ فِي كِتَابِ التَّمْيِيزِ عَلَى عَبْدِ الْعَزِيزِ فِيهِ بِالْوَهْمِ، وَسَنَذْكُرُ الْبَحْثَ فِي ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ.

قَوْلُهُ: (عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ) ظَاهِرُهُ إِخْرَاجُ الْعَبْدِ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَقُلْ بِهِ إِلَّا دَاوُدُ فَقَالَ: يَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ أَنْ يُمَكِّنَ الْعَبْدَ مِنَ الِاكْتِسَابِ لَهَا، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنَ الصَّلَاةِ، وَخَالَفَهُ أَصْحَابُهُ وَالنَّاسُ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: لَيْسَ فِي الْعَبْدِ صَدَقَةٌ إِلَّا صَدَقَةُ الْفِطْرِ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ إِلَّا صَدَقَةُ الْفِطْرِ فِي الرَّقِيقِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ عِنْدِ الْبُخَارِيِّ قَرِيبًا بِغَيْرِ الِاسْتِثْنَاءِ،، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهَا عَلَى السَّيِّدِ، وَهَلْ تَجِبُ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً

ص: 368

أَوْ تَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ ثُمَّ يَتَحَمَّلُهَا السَّيِّدُ؟ وَجْهَانِ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَإِلَى الثَّانِي نَحَا الْبُخَارِيُّ، كَمَا سَيَأْتِي فِي التَّرْجَمَةِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ.

قَوْلُهُ: (وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى) ظَاهِرُهُ وُجُوبُهَا عَلَى الْمَرْأَةِ سَوَاءٌ كَانَ لَهَا زَوْجٌ أَمْ لَا، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَاللَّيْثُ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: تَجِبُ عَلَى زَوْجِهَا إِلْحَاقًا بِالنَّفَقَةِ. وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ أَعْسَرَ وَكَانَتِ الزَّوْجَةُ أَمَةً وَجَبَتْ فِطْرَتُهَا عَلَى السَّيِّدِ بِخِلَافِ النَّفَقَةِ فَافْتَرَقَا، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُخْرِجُ عَنْ زَوْجَتِهِ الْكَافِرَةِ مَعَ أَنَّ نَفَقَتَهَا تَلْزَمُهُ، وَإِنَّمَا احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاقِرِ مُرْسَلًا نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَزَادَ فِيهِ: مِمَّنْ تَمُونُونَ وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَزَادَ فِي إِسْنَادِهِ ذِكْرَ عَلِيٍّ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ أَيْضًا. وَأَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ) ظَاهِرُهُ وُجُوبُهَا عَلَى الصَّغِيرِ، لَكِنَّ الْمُخَاطَبَ عَنْهُ وَلِيُّهُ، فَوُجُوبُهَا عَلَى هَذَا فِي مَالِ الصَّغِيرِ، وَإِلَّا فَعَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: هِيَ عَلَى الْأَبِ مُطْلَقًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: لَا تَجِبُ إِلَّا عَلَى مَنْ صَامَ، وَاسْتُدِلَّ لَهُمَا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: صَدَقَةُ الْفِطْرِ طُهْرَةٌ لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذِكْرَ التَّطْهِيرِ خَرَجَ عَلَى الْغَالِبِ كَمَا أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى مَنْ لَمْ يُذْنِبْ كَمُتَحَقِّقِ الصَّلَاحِ أَوْ مَنْ أَسْلَمَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ بِلَحْظَةٍ، وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى الْجَنِينِ، قَالَ: وَكَانَ أَحْمَدُ يَسْتَحِبُّهُ وَلَا يُوجِبُهُ، وَنَقَلَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ رِوَايَةً عَنْهُ بِالْإِيجَابِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ، لَكِنْ قَيَّدَهُ بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا مِنْ يَوْمِ حَمْلِ أُمِّهِ بِهِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْحَمْلَ غَيْرُ مُحَقَّقٍ، وَبِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى صَغِيرًا لُغَةً وَلَا عُرْفًا، وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: طُهْرَةٌ لِلصَّائِمِ. عَلَى أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ كَمَا تَجِبُ عَلَى الْغَنِيِّ، وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَفِي حَدِيثِ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي صُغيْرٍ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَعَنِ الْحَنَفِيَّةِ لَا تَجِبُ إِلَّا عَلَى مَنْ مَلَكَ نِصَابًا، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ عَلَى قَاعِدَتِهِمْ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ، وَاسْتُدِلَّ لَهُمْ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَقَدِّمِ: لَا صَدَقَةَ إِلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى.

وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فَاضِلًا عَنْ قُوتِ يَوْمِهِ وَمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ. وَقَالَ ابْنُ بَزِيزَةَ: لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى اعْتِبَارِ النِّصَابِ فِيهَا، لِأَنَّهَا زَكَاةٌ بَدَنِيَّةٌ لَا مَالِيَّةٌ.

قَوْلُهُ: (مِنَ الْمُسْلِمِينَ) فِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَالِكًا تَفَرَّدَ بِهَا، وَسَيَأْتِي بَسْطُ ذَلِكَ فِي الْأَبْوَابِ الَّذي بَعْدَهُ.

قَوْلُهُ: (وَأَمَرَ بِهَا. . . إِلَخْ) اسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى كَرَاهَةِ تَأْخِيرِهَا عَنْ ذَلِكَ، وَحَمَلَهُ ابْنُ حَزْمٍ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ بَعْدَ أَبْوَابٍ.

‌71 - بَاب صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَلَى الْعَبْدِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ

1504 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَلَى الْعَبْدِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَرَى أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ سَيِّدُهُ يَتَحَمَّلُهَا عَنْهُ، وَيُؤَيِّدُهُ عَطْفُ الصَّغِيرِ عَلَيْهِ فَإِنَّهَا تَجِبُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي يُخْرِجُهَا غَيْرُهُ.

قَوْلُهُ: (مِنَ الْمُسْلِمِينَ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ تَخْتَلِفِ الرُّوَاةُ عَنْ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ، إِلَّا أَنَّ قُتَيْبَةَ بْنَ سَعِيدٍ رَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ بِدُونِهَا، وَأَطْلَقَ أَبُو قِلَابَةَ الرِّقَاشِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ وَابْنُ الصَّلَاحِ وَمَنْ تَبِعَهُ أَنَّ مَالِكًا تَفَرَّدَ بِهَا دُونَ أَصْحَابِ نَافِعٍ، وَهُوَ مُتَعَقَّبٌ بِرِوَايَةِ عُمَرَ

ص: 369

بْنِ نَافِعٍ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ نَافِعٍ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَقَالَ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ: لَمْ يَقُلْ فِيهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ غَيْرُ مَالِكٍ وَالضَّحَّاكِ وَرِوَايَةُ عُمَرَ بْنِ نَافِعٍ تَرُدُّ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَعُمَرَ بْنِ نَافِعٍ: رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ الْعُمَرِيُّ، عَنْ نَافِعٍ فَقَالَ: عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ. وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُمَحِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ فَقَالَ فِيهِ: مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَالْمَشْهُورُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ لَيْسَ فِيهِ: مِنَ الْمُسْلِمِينَ. انْتَهَى. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَذْكُورَةِ، وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَابْنُ الْجَارُودِ طَرِيقَ عَبْدِ اللَّهِ الْعُمَرِيِّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي الْجَامِعِ بَعْدَ رِوَايَةِ مَالِكٍ: رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ نَافِعٍ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالَ فِي الْعِلَلِ الَّتِي فِي آخِرِ الْجَامِعِ: رَوَى أَيُّوبُ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ نَافِعٍ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَرَوَى بَعْضُهُمْ عَنْ نَافِعٍ مِثْلَ رِوَايَةِ مَالِكٍ مِمَّنْ لَا يُعْتَمَدُ عَلَى حِفْظِهِ. انْتَهَى.

وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ أَوْلَى مِنْ عِبَارَتِهِ الْأُولَى، وَلَكِنْ لَا يُدْرَى مَنْ عَنَى بِذَلِكَ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: رَوَاهُ ثِقَتَانِ غَيْرُ مَالِكٍ: عُمَرُ بْنُ نَافِعٍ، وَالضَّحَّاكُ. انْتَهَى. وَقَدْ وَقَعَ لَنَا مِنْ رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ غَيْرِهِمَا مِنْهُمْ كَثِيرُ بْنُ فَرْقَدٍ عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَالْحَاكِمِ. وَيُونُسُ بْنُ يَزِيدَ عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ، وَالْمُعَلَّى بْنُ إِسْمَاعِيلَ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ كِلَاهُمَا عَنْ نَافِعٍ، وَهَذِهِ الطَّرِيقُ تَرُدُّ عَلَى أَبِي دَاوُدَ فِي إِشَارَتِهِ إِلَى أَنَّ سَعِيدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ تَفَرَّدَ بِهَا عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، لَكِنْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ رُوَاتِهِ حَمَلَ لَفْظَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَلَى لَفْظِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى أَيُّوبَ أَيْضًا، كَمَا اخْتُلِفَ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: فَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ خَالِدٍ ذَكَرَ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ عَنْ يُوسُفَ الْقَاضِي، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ أَيُّوبَ، فَذَكَرَ فِيهِ: مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهُوَ خَطَأٌ وَالْمَحْفُوظُ فِيهِ عَنْ أَيُّوبَ لَيْسَ فِيهِ: مِنَ الْمُسْلِمِينَ. انْتَهَى.

وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَوْذَبٍ، عَنْ أَيُّوبَ وَقَالَ فِيهِ أَيْضًا: مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَذَكَرَ شَيْخُنَا سِرَاجُ الدِّينِ بْنُ الْمُلَقِّنِ فِي شَرْحِهِ تَبَعًا لِمُغَلْطَايْ أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى وَمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ نَافِعٍ، وَفِيهِ الزِّيَادَةُ، وَقَدْ تَتَبَّعْتُ تَصَانِيفَ الْبَيْهَقِيِّ فَلَمْ أَجِدْ فِيهَا هَذِهِ الزِّيَادَةَ مِنْ رِوَايَةِ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ. وَفِي الْجُمْلَةِ لَيْسَ فِيمَنْ رَوَى هَذِهِ الزِّيَادَةَ أَحَدٌ مِثْلَ مَالِكٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَّفِقْ عَلَى أَيُّوبَ وَعُبَيْدِ اللَّهِ فِي زِيَادَتِهَا، وَلَيْسَ فِي الْبَاقِينَ مِثْلُ يُونُسَ، لَكِنْ فِي الرَّاوِي عَنْهُ - وَهُوَ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ - مَقَالٌ.

وَاسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ عَلَى اشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ فِي وُجُوبِ زَكَاةِ الْفِطْرِ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى الْكَافِرِ عَنْ نَفْسِهِ، وَهُوَ أَمْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهَلْ يُخْرِجُهَا عَنْ غَيْرِهِ كَمُسْتَوْلَدَتِهِ الْمُسْلِمَةِ مَثَلًا؟ نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِيهِ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ، لَكِنْ فِيهِ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَهَلْ يُخْرِجُهَا الْمُسْلِمُ عَنْ عَبْدِهِ الْكَافِرِ؟ قَالَ الْجُمْهُورُ: لَا، خِلَافًا لِعَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَالْحَنَفِيَّةِ وَإِسْحَاقَ، وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ قَوْلِهِ: لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ صَدَقَةٌ إِلَّا صَدَقَةُ الْفِطْرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَأَجَابَ الْآخَرُونَ بِأَنَّ الْخَاصَّ يَقْضِي عَلَى الْعَامِّ، فَعُمُومُ قَوْلِهِ: فِي عَبْدِهِ مَخْصُوصٌ بِقَوْلِهِ: مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: قَوْلُهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ صِفَةٌ لِلْمُخْرِجِينَ لَا لِلْمُخْرَجِ عَنْهُمْ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَأْبَاهُ لِأَنَّ فِيهِ الْعَبْدَ، وَكَذَا الصَّغِيرُ فِي رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ نَافِعٍ وَهُمَا مِمَّنْ يُخْرَجُ عَنْهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ صِفَةَ الْإِسْلَامِ لَا تَخْتَصُّ بِالْمُخْرِجِينَ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ الضَّحَّاكِ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ: عَلَى كُلِّ نَفْسٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ. الْحَدِيثَ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَصَدَ بَيَانَ مِقْدَارِ الصَّدَقَةِ وَمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَقْصِدْ فِيهِ بَيَانَ مَنْ يُخْرِجُهَا

ص: 370

عَنْ نَفْسِهِ مِمَّنْ يُخْرِجُهَا عَنْ غَيْرِهِ بَلْ شَمَلَ الْجَمِيعَ. وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْآتِي، فَإِنَّهُ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُخْرِجُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَعَنْ غَيْرِهِمْ لِقَوْلِهِ فِيهِ: عَنْ كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ.

لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمُخْرِجِ وَبَيْنَ الْغَيْرِ مُلَابَسَةٌ، كَمَا بَيْنَ الصَّغِيرِ وَوَلِيِّهِ، وَالْعَبْدِ وَسَيِّدِهِ، وَالْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ حَالٌ مِنَ الْعَبْدِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ، وَتَنْزِيلُهَا عَلَى الْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ أَنَّهَا جَاءَتْ مُزْدَوَجَةً عَلَى التَّضَادِّ لِلِاسْتِيعَابِ لَا لِلتَّخْصِيصِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى فُرِضَ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا كَوْنُهَا فِيمَ وَجَبَتْ، وَعَلَى مَنْ وَجَبَتْ؟ فَيُعْلَمُ مِنْ نُصُوصٍ أُخْرَى. انْتَهَى. وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَنَّ بَعْضَهُمُ احْتَجَّ بِمَا أَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُخْرِجُ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ: حُرِّهِمْ وَعَبْدِهِمْ، صَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ، مُسْلِمِهِمْ وَكَافِرِهِمْ مِنَ الرَّقِيقِ. قَالَ: وَابْنُ عُمَرَ رَاوِي الْحَدِيثِ، وَقَدْ كَانَ يُخْرِجُ عَنْ عَبْدِهِ الْكَافِرِ، وَهُوَ أَعْرَفُ بِمُرَادِ الْحَدِيثِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُخْرِجُ عَنْهُمْ تَطَوُّعًا، وَلَا مَانِعَ مِنْهُ، وَاسْتُدِلَّ بِعُمُومِ قَوْلِهِ: مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَنَاوُلِهَا لِأَهْلِ الْبَادِيَةِ خِلَافًا لِلزُّهْرِيِّ وَرَبِيعَةَ وَاللَّيْثِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ تَخْتَصُّ بِالْحَاضِرَةِ، وَسَنَذْكُرُ بَقِيَّةَ مَا يَتَعَلَّقُ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ عَنِ الْعَبِيدِ فِي أَوَاخِرِ أَبْوَابِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌72 - بَاب صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ

1505 -

حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا نُطْعِمُ الصَّدَقَةَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ.

[الحديث 1505 - أطرافه في: 1506، 1508، 1510]

قَوْلُهُ: (بَابُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ) وْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ مُخْتَصَرًا مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ، وَهُوَ الثَّوْرِيُّ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ بَابَيْنِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ تَامًّا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، عَنِ الزَّعْفَرَانِيِّ، عَنْ قَبِيصَةَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ تَامًّا، وَقَوْلُهُ فِيهِ: كُنَّا نُطْعِمُ الصَّدَقَةَ اللَّامُ لِلْعَهْدِ عَنْ صَدَقَةِ الْفِطْرِ.

‌73 - بَاب صَدَقَةِ الْفِطْرِ صَاعا مِنْ طَعَامٍ

1506 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ الْعَامِرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رضي الله عنه يَقُولُ: كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ صَاعٌ مِنْ طَعَامٍ) فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ صَاعًا بِالنَّصْبِ، وَوَجْهُ الرَّفْعِ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّهُ الْخَبَرُ، وَأَمَّا النَّصْبُ فَبِتَقْدِيرِ فِعْلِ الْإِخْرَاجِ، أَيْ بَابُ إِخْرَاجِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ الَّذِي حُذِفَ أَوْ ذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ مِمَّا فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ.

قَوْلُهُ: (صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ) ظَاهِرُهُ أَنَّ الطَّعَامَ غَيْرُ الشَّعِيرِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ بَعْدَ بَابٍ.

‌74 - بَاب صَدَقَةِ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ

1507 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ: أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِزَكَاةِ الْفِطْرِ

ص: 371

صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ رضي الله عنه: فَجَعَلَ النَّاسُ عِدْلَهُ مُدَّيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ)، كَذَا وَقَعَ عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ بِالنَّصْبِ كَرِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ) لَمْ أَرَهُ إِلَّا بِالْعَنْعَنَةِ، وَسَمَاعُ اللَّيْثِ مِنْ نَافِعٍ صَحِيحٌ، وَلَكِنْ أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ فَرْقَدٍ، عَنْ نَافِعٍ، وَزَادَ فِيهِ: مِنَ الْمُسْلِمِينَ. كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ اللَّيْثُ سَمِعَهُ مِنْ نَافِعٍ بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَمِنْ كَثِيرِ بْنِ فَرْقَدٍ عَنْهُ بِهَا، وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْوَلِيدِ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ نَافِعٍ فِي أَوَّلِ هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: لَا تَجِبُ فِي مَالٍ صَدَقَةٌ حَتَّى يَحُولَ الْحَوْلُ عَلَيْهِ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ. الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (أَمَرَ) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى الْوُجُوبِ. وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْمِقْدَارِ لَا بِأَصْلِ الْإِخْرَاجِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَجَعَلَ النَّاسُ عِدْلَهُ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ نَظِيرَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ عَلَى هَذِهِ الْمَادَّةِ فِي بَابِ الصَّدَقَةِ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ.

قَوْلُهُ: (مُدَّيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ) أَيْ نِصْفَ صَاعٍ، وَأَشَارَ ابْنُ عُمَرَ بِقَوْلِهِ: النَّاسُ إِلَى مُعَاوِيَةَ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي حَدِيثِ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، أَخْرَجَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، وَلَفْظُهُ: صَدَقَةُ الْفِطْرِ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَلَمَّا كَانَ مُعَاوِيَةُ عَدَلَ النَّاسُ نِصْفَ صَاعِ بُرٍّ بِصَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ. وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سُفْيَانَ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ الْآتِي بَعْدَهُ، وَهُوَ أَصْرَحُ مِنْهُ، وأَمَّا مَا وَقَعَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رُوَّادٍ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ فِيهِ: فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ كَثُرَتِ الْحِنْطَةُ، فَجَعَلَ عُمَرُ نِصْفَ صَاعِ حِنْطَةٍ مَكَانَ صَاعٍ مِنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ. فَقَدْ حَكَمَ مُسْلِمٌ فِي كِتَابِ التَّمْيِيزِ عَلَى عَبْدِ الْعَزِيزِ فِيهِ بِالْوَهْمِ، وَأَوْضَحَ الرَّدَّ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَوْلُ ابْنِ عُيَيْنَةَ عِنْدِي أَوْلَى. وَزَعَمَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ الَّذِي عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ وَغَيْرُهُمَا، فَأَخْرَجَ عَنْ يَسَارِ بْنِ نُمَيْرٍ: أَنَّ عُمَرَ قَالَ لَهُ: إِنِّي أَحْلِفُ، لَا أُعْطِي قَوْمًا ثُمَّ يَبْدُو لِي فَأَفْعَلُ، فَإِذَا رَأَيْتَنِي فَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَطْعِمْ عَنِّي عَشْرَةَ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَشْعَثِ قَالَ: خَطَبَنَا عُثْمَانُ فَقَالَ: أَدُّوا زَكَاةَ الْفِطْرِ مُدَّيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ. وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.

‌75 - بَاب صَاعٍ مِنْ زَبِيبٍ

1508 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ، سَمِعَ يَزِيدَ الْعَدَنِيَّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: حَدَّثَنِي عِيَاضُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا نُعْطِيهَا فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ فَلَمَّا جَاءَ مُعَاوِيَةُ وَجَاءَتْ السَّمْرَاءُ قَالَ: أُرَى مُدًّا مِنْ هَذَا يَعْدِلُ مُدَّيْنِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ صَاعٍ مِنْ زَبِيبٍ) أَيْ إِجْزَائِهِ، وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ أَرَادَ بِتَفْرِيقِ هَذِهِ التَّرَاجِمِ الْإِشَارَةَ إِلَى تَرْجِيحِ التَّخْيِيرِ فِي هَذِهِ الْأَنْوَاعِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الْأَقِطَ، وَهُوَ ثَابِتٌ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَكَأَنَّهُ لَا يَرَاهُ مُجْزِئًا فِي حَالِ وِجْدَانِ غَيْرِهِ كَقَوْلِ أَحْمَدَ، وَحَمَلُوا الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ يُخْرِجُهُ كَانَ قُوتُهُ إِذْ ذَاكَ، أَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى غَيْرِهِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يُخَالِفُهُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِيهِ خِلَافٌ، وَزَعَمَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِأَهْلِ الْبَادِيَةِ، وَأَمَّا الْحَاضِرَةُ فَلَا يُجْزِئُ عَنْهُمْ

ص: 372

بِلَا خِلَافٍ، وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَقَالَ: قَطَعَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الْخِلَافَ فِي الْجَمِيعِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ بِلَفْظِ: أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ.

قَوْلُهُ: (كُنَّا نُعْطِيهَا) أَيْ زَكَاةَ الْفِطْرِ.

قَوْلُهُ: (فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَذَا حُكْمُهُ الرَّفْعُ لِإِضَافَتِهِ إِلَى زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم، فَفِيهِ إِشْعَارٌ بِاطِّلَاعِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ وَتَقْرِيرِهِ لَهُ، وَلَا سِيَّمَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الَّتِي كَانَتْ تُوضَعُ عِنْدَهُ وَتُجْمَعُ بِأَمْرِهِ، وَهُوَ الْآمِرُ بِقَبْضِهَا وَتَفْرِقَتِهَا.

قَوْلُهُ: (صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ) هَذَا يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ الطَّعَامِ وَبَيْنَ مَا ذُكِرَ بَعْدَهُ، وَقَدْ حَكَى الْخَطَّابِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّعَامِ هُنَا الْحِنْطَةُ، وَأَنَّهُ اسْمٌ خَاصٌّ لهِ، قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ذِكْرُ الشَّعِيرِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَقْوَاتِ، وَالْحِنْطَةِ أَعْلَاهَا، فَلَوْلَا أَنَّهُ أَرَادَهَا بِذَلِكَ لَكَانَ ذِكْرُهَا عِنْدَ التَّفْصِيلِ كَغَيْرِهَا مِنَ الْأَقْوَاتِ وَلَا سِيَّمَا حَيْثُ عُطِفَتْ عَلَيْهَا بِحَرْفِ أَوْ الْفَاصِلَةِ، وَقَالَ هُوَ وَغَيْرُهُ: وَقَدْ كَانَتْ لَفْظَه الطَّعَامِ تُسْتَعْمَلُ فِي الْحِنْطَةِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ حَتَّى إِذَا قِيلَ: اذْهَبْ إِلَى سُوقِ الطَّعَامِ فُهِمَ مِنْهُ سُوقُ الْقَمْحِ، وَإِذَا غَلَبَ الْعُرْفُ نُزِّلَ اللَّفْظُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَا غَلَبَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِيهِ كَانَ خُطُورُهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ أَقْرَبَ. انْتَهَى. وَقَدْ رَدَّ ذَلِكَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَقَالَ: ظَنَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ قَوْلَهُ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: صَاعًا مِنْ طَعَامٍ حُجَّةٌ لِمَنْ قَالَ صَاعًا مِنْ حِنْطَةٍ، وَهَذَا غَلَطٌ مِنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ أَجْمَلَ الطَّعَامَ ثُمَّ فَسَّرَهُ، ثُمَّ أَوْرَدَ طَرِيقَ حَفْصِ بْنِ مَيْسَرَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِي هَذَا، وَهِيَ ظَاهِرَةٌ فِيمَا قَالَ وَلَفْظُهُ: كُنَّا نُخْرِجُ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، وَكَانَ طَعَامَنَا الشَّعِيرُ وَالزَّبِيبُ وَالْأَقِطُ وَالتَّمْرُ. وَأَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ نَحْوَهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ عِيَاضٍ، وَقَالَ فِيهِ: وَلَا يُخْرِجُ غَيْرَهُ قَالَ وَفِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا جَاءَ مُعَاوِيَةُ وَجَاءَتِ السَّمْرَاءُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ قُوتًا لَهُمْ قَبْلَ هَذَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ كَثِيرَةً وَلَا قُوتًا، فَكَيْفَ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُمْ أَخْرَجُوا مَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا؟ انْتَهَى كَلَامُهُ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمُ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ وَذَكَرُوا عِنْدَهُ صَدَقَةَ رَمَضَانَ فَقَالَ: لَا أُخْرِجُ إِلَّا مَا كُنْتُ أُخْرِجُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: صَاعَ تَمْرٍ أَوْ صَاعَ حِنْطَةٍ أَوْ صَاعَ شَعِيرٍ أَوْ صَاعَ أَقِطٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَوْ مُدَّيْنِ مِنْ قَمْحٍ، فَقَالَ: لَا، تِلْكَ قِيمَةُ مُعَاوِيَةَ مَطْوِيَّةٌ لَا أَقْبَلُهَا، وَلَا أَعْمَلُ بِهَا. قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: ذِكْرُ الْحِنْطَةِ فِي خَبَرِ أَبِي سَعِيدٍ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، وَلَا أَدْرِي مِمَّنِ الْوَهَمُ. وَقَوْلُهُ: فَقَالَ رَجُلٌ. . . إِلَخْ دَالٌّ عَلَى أَنَّ ذِكْرَ الْحِنْطَةِ فِي أَوَّلِ الْقِصَّةِ خَطَأٌ، إِذْ لَوْ كَانَ أَبُو سَعِيدٍ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُخْرِجُونَ مِنْهَا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَاعًا لَمَا كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ لَهُ: أَوْ مُدَّيْنِ مِنْ قَمْحٍ، وَقَدْ أَشَارَ أَبُو دَاوُدَ إِلَى رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ هَذِهِ، وَقَالَ: إِنَّ ذِكْرَ الْحِنْطَةِ فِيهِ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، وَذُكِرَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ هِشَامٍ رَوَى فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ سُفْيَانَ: نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ. وَهُوَ وَهَمٌ، وَأَنَّ ابْنَ عُيَيْنَةَ حَدَّثَ بِهِ عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ عِيَاضٍ، فَزَادَ فِيهِ: أَوْ صَاعًا مِنْ دَقِيقٍ. وَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا عَلَيْهِ فَتَرَكَهُ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَذِكْرُ الدَّقِيقِ وَهَمٌ مِنَ ابْنِ عُيَيْنَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ خُزَيْمَةَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ فُضَيْلِ بْنِ غَزْوَانَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمْ تَكُنِ الصَّدَقَةُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ وَالشَّعِيرُ، وَلَمْ تَكُنِ الْحِنْطَةُ.

وَلِمُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عِيَاضٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: كُنَّا نُخْرِجُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ: صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ. وَكَأَنَّهُ سَكَتَ عَنِ الزَّبِيبِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ لِقِلَّتِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَهَذِهِ الطُّرُقُ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّعَامِ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ غَيْرُ الْحِنْطَةِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الذُّرَةُ، فَإِنَّهُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ الْحِجَازِ الْآنَ، وَهِيَ قُوتٌ غَالِبٌ لَهُمْ. وَقَدْ رَوَى الْجَوْزَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَجْلَانَ عَنْ عِيَاضٍ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، صَاعًا مِنْ سُلْتٍ أَوْ ذُرَةٍ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ. . . إِلَخْ بَعْدَ قَوْلِهِ:

ص: 373

صَاعًا مِنْ طَعَامٍ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، لَكِنَّ مَحَلَّ الْعَطْفِ أَنْ يَكُونَ الْخَاصُّ أَشْرَفَ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ هُنَا كَذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَيْضًا: لَا نَعْلَمُ فِي الْقَمْحِ خَبَرًا ثَابِتًا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنِ الْبُرُّ بِالْمَدِينَةِ ذَلِكَ الْوَقْتَ إِلَّا الشَّيْءَ الْيَسِيرَ مِنْهُ، فَلَمَّا كَثُرَ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ رَأَوْا أَنَّ نِصْفَ صَاعٍ مِنْهُ يَقُومُ مَقَامَ صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ، وَهُمُ الْأَئِمَّةُ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُعْدَلَ عَنْ قَوْلِهِمْ إِلَّا إِلَى قَوْلِ مِثْلِهِمْ. ثُمَّ أَسْنَدَ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَجَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَأُمِّهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ أَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ قَمْحٍ. انْتَهَى.

وَهَذَا مَصِيرٌ مِنْهُ إِلَى اخْتِيَارِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، لَكِنَّ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُوَافِقْ عَلَى ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ، فَلَا إِجْمَاعَ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافًا لِلطَّحَاوِيِّ. وَكَأَنَّ الْأَشْيَاءَ الَّتِي ثَبَتَ ذِكْرُهَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ لَمَّا كَانَتْ مُتَسَاوِيَةً فِي مِقْدَارِ مَا يُخْرَجُ مِنْهَا مَعَ مَا يُخَالِفُهَا فِي الْقِيمَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ إِخْرَاجُ هَذَا الْمِقْدَارِ مِنْ أَيِّ جِنْسٍ كَانَ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحِنْطَةِ وَغَيْرِهَا. هَذِهِ حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَأَمَّا مَنْ جَعَلَهُ نِصْفَ صَاعٍ مِنْهَا بَدَلَ صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ فَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ بِالِاجْتِهَادِ بِنَاءً مِنْهُ عَلَى أَنَّ قِيَمَ مَا عَدَا الْحِنْطَةِ مُتَسَاوِيَةٌ، وَكَانَتِ الْحِنْطَةُ إِذْ ذَاكَ غَالِيَةَ الثَّمَنِ، لَكِنْ يَلْزَمُ عَلَى قَوْلِهِمْ أَنْ تُعْتَبَرَ الْقِيمَةُ فِي كُلِّ زَمَانٍ، فَيَخْتَلِفُ الْحَالُ وَلَا يَنْضَبِطُ، وَرُبَّمَا لَزِمَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ إِخْرَاجُ آصُعٍ مِنْ حِنْطَةٍ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَحَظُوا ذَلِكَ مَا رَوَى جَعْفَرٌ الْفِرْيَابِيُّ فِي كِتَابِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمَّا كَانَ أَمِيرَ الْبَصْرَةِ أَمَرَهُمْ بِإِخْرَاجِ زَكَاةِ الْفِطْرِ وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهَا صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ، إِلَى أَنْ قَالَ: أَوْ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ. قَالَ: فَلَمَّا جَاءَ عَلِيٌّ وَرَأَى رُخْصَ أَسْعَارِهِمْ قَالَ: اجْعَلُوهَا صَاعًا مِنْ كُلٍّ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ إِلَى الْقِيمَةِ فِي ذَلِكَ، وَنَظَرَ أَبُو سَعِيدٍ إِلَى الْكَيْلِ كَمَا سَيَأْتِي.

وَمِنْ عَجِيبِ تَأْوِيلِهِ قَوْلُهُ: أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ مَا كَانَ يَعْرِفُ الْقَمْحَ فِي الْفِطْرَةِ، وَأنَّ الْخَبَرَ الَّذِي جَاءَ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ يُخْرِجُ صَاعًا أَنَّهُ كَانَ يُخْرِجُ النِّصْفَ الثَّانِي تَطَوُّعًا، وَأَنَّ قَوْلَهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: فَجَعَلَ النَّاسُ عِدْلَهُ مُدَّيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ. أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ الصَّحَابَةُ، فَيَكُونُ إِجْمَاعًا. وَكَذَا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أبي سَعِيدٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ: فَأَخَذَ النَّاسُ بِذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ: إِنَّ أَبَا سَعِيدٍ كَانَ يُخْرِجُ النِّصْفَ الْآخَرَ تَطَوُّعًا فَلَا يَخْفَى تَكَلُّفُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (فَلَمَّا جَاءَ مُعَاوِيَةُ) زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ: فَلَمْ نَزَلْ نُخْرِجُهُ حَتَّى قَدِمَ مُعَاوِيَةُ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا فَكَلَّمَ النَّاسَ عَلَى الْمِنْبَرِ. وَزَادَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: وَهُوَ يَوْمَئِذٍ خَلِيفَةٌ.

قَوْلُهُ: (وَجَاءَتِ السَّمْرَاءُ) أَيِ الْقَمْحُ الشَّامِيُّ.

قَوْلُهُ: (يَعْدِلُ مُدَّيْنِ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: أَرَى مُدَّيْنِ مِنْ سَمْرَاءِ الشَّامِ تَعْدِلُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، وَزَادَ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَمَّا أَنَا، فلَا أَزَالُ أُخْرِجُهُ أَبَدًا مَا عِشْتُ. وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ عِيَاضٍ: فَأَنْكَرَ ذَلِكَ أَبُو سَعِيدٍ، وَقَالَ: لَا أُخْرِجُ إِلَّا مَا كُنْتُ أُخْرِجُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: لَا أُخْرِجُ أَبَدًا إِلَّا صَاعًا. وَلِلدَّارقُطْنِيِّ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمِ: فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: مُدَّيْنِ مِنْ قَمْحٍ، فَقَالَ: لَا، تِلْكَ قِيمَةُ مُعَاوِيَةَ لَا أَقْبَلُهَا وَلَا أَعْمَلُ بِهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَمَا فِيهَا. وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ: وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ مَا ذَكَرَ النَّاسُ الْمُدَّيْنِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وَهَنِ مَا تَقَدَّمَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ، إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ مِنْ قِصَّتِهِمَا، قَالَ النَّوَوِيُّ: تَمَسَّكَ بِقَوْلِ مُعَاوِيَةَ مَنْ قَالَ بِالْمُدَّيْنِ مِنَ الْحِنْطَةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ فِعْلُ صَحَابِيٍّ قَدْ خَالَفَهُ فِيهِ أَبُو سَعِيدٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ هُوَ أَطْوَلُ صُحْبَةً مِنْهُ وَأَعْلَمُ بِحَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ صَرَّحَ مُعَاوِيَةُ بِأَنَّهُ رَأْيٌ رَآهُ لَا أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ الِاتِّبَاعِ وَالتَّمَسُّكِ بِالْآثَارِ، وَتَرْكِ الْعُدُولِ إِلَى الِاجْتِهَادِ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ، وَفِي صَنِيعِ مُعَاوِيَةَ وَمُوَافَقَةِ النَّاسِ لَهُ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ، وَهُوَ مَحْمُودٌ، لَكِنَّهُ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ.

ص: 374

‌76 - بَاب الصَّدَقَةِ قَبْلَ الْعِيدِ

1509 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَمَرَ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ.

1510 -

حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ، عَنْ زَيْدِ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا نُخْرِجُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَكَانَ طَعَامَنَا الشَّعِيرُ وَالزَّبِيبُ وَالْأَقِطُ وَالتَّمْرُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّدَقَةِ قَبْلَ الْعِيدِ) قَالَ ابْنُ التِّينِ: أَيْ قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى صَلَاةِ الْعِيدِ، وَبَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ فِي تَفْسِيرِهِ: عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: يُقَدِّمُ الرَّجُلُ زَكَاتَهُ يَوْمَ الْفِطْرِ بَيْنَ يَدَيْ صَلَاتِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ

(1)

: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: نَزَلَتْ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ.

ثُمَّ أَخْرَجَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مُطَوَّلًا فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ. وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَقَوْلُهُ فِي الْإِسْنَادِ: حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ هُوَ حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، وَزَيْدٌ، هُوَ ابْنُ أَسْلَمَ. وَدَلَّ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: يَوْمَ الْفِطْرِ أَيْ أَوَّلَهُ، وَهُوَ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الصُّبْحِ إِلَى صَلَاةِ الْعِيدِ. وَحَمَلَ الشَّافِعِيُّ التَّقْيِيدَ بِقَبْلِ صَلَاةِ الْعِيدِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ لِصِدْقِ الْيَوْمِ عَلَى جَمِيعِ النَّهَارِ، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: كَانَ يَأْمُرُنَا أَنْ نُخْرِجَهَا قَبْلَ أَنْ نُصَلِّيَ، فَإِذَا انْصَرَفَ قَسَمَهُ بَيْنَهُمْ، وَقَالَ: أَغْنُوهُمْ عَنِ الطَّلَبِ. أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَلَكِنْ أَبُو مَعْشَرٍ ضَعِيفٌ. وَوَهِمَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي عَزْوِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ لِمُسْلِمٍ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ حُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ.

‌77 - بَاب صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَلَى الْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ

وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِي الْمَمْلُوكِينَ لِلتِّجَارَةِ: يُزَكَّى فِي التِّجَارَةِ وَيُزَكَّى فِي الْفِطْرِ

1511 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: فَرَضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَدَقَةَ الْفِطْرِ - أَوْ قَالَ: رَمَضَانَ - عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ فَعَدَلَ النَّاسُ بِهِ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يُعْطِي التَّمْرَ فَأَعْوَزَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ التَّمْرِ فَأَعْطَى شَعِيرًا فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُعْطِي عَنْ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ حَتَّى إِنْ كَانَ يعْطِي عَنْ بَنِيَّ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يُعْطِيهَا الَّذِينَ يَقْبَلُونَهَا وَكَانُوا يُعْطُونَ قَبْلَ الْفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَلَى الْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ) قِيلَ: هَذِهِ التَّرْجَمَةُ تَكْرَارٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: بَابُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَلَى الْعَبْدِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَجَابَ ابْنُ رَشِيدٍ بِاحْتِمَالَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ تَقْوِيَةَ مُعَارَضَةِ الْعُمُومِ فِي قَوْلِهِ:

(1)

هذا الحديث ضعيف الإسناد، لأن كثيرا ضعيف جدا عند أهل الحديث

ص: 375

وَالْمَمْلُوكِ، لِمَفْهُومِ قَوْلِهِ: مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ أَرَادَ أَنَّ زَكَاةَ الْعَبْدِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَالٌ لَا مِنْ حَيْثُ هُوَ نَفْسٌ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ مُسْلِمُهُمْ وَكَافِرُهُمْ. وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: غَرَضُهُ مِنَ الْأُولَى أَنَّ الصَّدَقَةَ لَا تُخْرَجُ عَنْ كَافِرٍ، وَلِهَذَا قَيَّدَهَا بِقَوْلِهِ: مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَغَرَضُهُ مِنْ هَذِهِ تَمْيِيزُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ أَوْ عَنْهُ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ، وَلِذَلِكَ اسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ فِيهَا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الزُّهْرِيُّ. . . إِلَخْ) وَصَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى إِسْنَادِهِ، وَذَكَرَ بَعْضَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: لَيْسَ عَلَى الْمَمْلُوكِ زَكَاةٌ وَلَا يُزَكِّي عَنْهُ سَيِّدُهُ إِلَّا زَكَاةَ الْفِطْرِ. وَمَا نَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ عَنِ الزُّهْرِيِّ هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَنَفِيَّةُ: لَا يَلْزَمُ السَّيِّدَ زَكَاةُ الْفِطْرِ عَنْ عَبِيدِ التِّجَارَةِ، لِأَنَّ عَلَيْهِ فِيهِمُ الزَّكَاةَ، وَلَا تَجِبُ فِي مَالٍ وَاحِدٍ زَكَاتَانِ.

قَوْلُهُ: (فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُعْطِي التَّمْرَ) فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ نَافِعٍ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يُخْرِجُ إِلَّا التَّمْرَ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ، إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَإِنَّهُ أَخْرَجَ شَعِيرًا وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَارِثِ، عَنْ أَيُّوبَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا أَعْطَى أَعْطَى التَّمْرَ إِلَّا عَامًا وَاحِدًا.

قَوْلُهُ: (فَأَعْوَزَ) بِالْمُهْمَلَةِ وَالزَّايِ؛ أَيِ احْتَاجَ، يُقَالُ: أَعْوَزَنِي الشَّيْءُ إِذَا احْتَجْتُ إِلَيْهِ فَلَمْ أَقْدِرْ عَلَيْهِ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ التَّمْرَ أَفْضَلُ مَا يُخْرَجُ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَقَدْ رَوَى جَعْفَرٌ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مِجْلَزٍ، قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: قَدْ أَوْسَعَ اللَّهُ، وَالْبُرُّ أَفْضَلُ مِنَ التَّمْرِ ; أَفَلَا تُعْطِي الْبُرَّ؟ قَالَ: لَا أُعْطِي إِلَّا كَمَا كَانَ يُعْطِي أَصْحَابِي وَيُسْتَنْبَطُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُخْرِجُونَ مِنْ أَعْلَى الْأَصْنَافِ الَّتِي يُقْتَاتُ بِهَا؛ لِأَنَّ التَّمْرَ أَعْلَى مِنْ غَيْرِهِ مِمَّا ذُكِرَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَإِنْ كَانَ ابْنُ عُمَرَ فَهِمَ مِنْهُ خُصُوصِيَّةَ التَّمْرِ بِذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى إِنْ كَانَ يُعْطِي عَنْ بَنِيَّ) زَادَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: يَعْنِي بَنِي نَافِعٍ. قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: رُوِيَ بِفَتْحِ أَنْ وَكَسْرِهَا، وَشَرْطُ الْمَفْتُوحَةِ قَدْ، وَشَرْطُ الْمَكْسُورَةِ اللَّامُ، فَإِمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْحَذْفِ أَوْ تَكُونَ أَنْ مَصْدَرِيَّةً، وَكَانَ زَائِدَةً. وَقَوْلُ نَافِعٍ هَذَا هُوَ شَاهِدُ التَّرْجَمَةِ، وَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَاوِي الْحَدِيثِ، فَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُرَادِ مِنْهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَأَوْلَادُ نَافِعٍ إِنْ كَانَ رِزْقُهُمْ وَهُوَ بَعْدُ فِي الرِّقِّ فَلَا إِشْكَالَ، وَإِنْ كَانَ رِزْقُهُمْ بَعْدَ أَنْ أَعْتَقَ فَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ مِنَ ابْنِ عُمَرَ عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّعِ، أَوْ كَانَ يَرَى وُجُوبَهَا عَلَى جَمِيعِ مَنْ يُمَوِّنُهُ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ نَفَقَتُهُ وَاجِبَةً عَلَيْهِ. وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُؤَدِّي زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنْ كُلِّ مَمْلُوكٍ لَهُ فِي أَرْضِهِ وَغَيْرِ أَرْضِهِ، وَعَنْ كُلِّ إِنْسَانٍ يَعُولُهُ مِنْ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، وَعَنْ رَقِيقِ امْرَأَتِهِ، وَكَانَ لَهُ مُكَاتَبٌ فَكَانَ لَا يُؤَدِّي عَنْهُ. وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُخْرِجُ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ كُلِّهِمْ حُرِّهِمْ وَعَبْدِهِمْ صَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ مُسْلِمِهِمْ وَكَافِرِهِمْ مِنَ الرَّقِيقِ. وَهَذَا يُقَوِّي بَحْثَ ابْنِ رَشِيدٍ الْمُتَقَدِّمَ، وَقَدْ حَمَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُعْطِي عَنِ الْكَافِرِ مِنْهُمْ تَطَوُّعًا.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُعْطِيهَا لِلَّذِينَ يَقْبَلُونَهَا) أَيِ الَّذِي يُنَصِّبُهُ الْإِمَامُ لِقَبْضِهَا، وبِهِ جَزَمَ ابْنُ بَطَّالٍ. وَقَالَ ابْنُ التَّيْمِيِّ: مَعْنَاهُ مَنْ قَالَ: أَنَا فَقِيرٌ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ عَقِبَ الْحَدِيثِ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ هُوَ الْمُصَنِّفُ: كَانُوا يُعْطُونَ لِلْجَمْعِ لَا لِلْفُقَرَاءِ. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَارِثِ، عَنْ أَيُّوبَ: قُلْتُ مَتَى كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُعْطِي؟ قَالَ: إِذَا قَعَدَ الْعَامِلُ. قُلْتُ مَتَى يَقْعُدُ الْعَامِلُ؟ قَالَ: قَبْلَ الْفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ. وَلِمَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَبْعَثُ زَكَاةَ الْفِطْرِ إِلَى الَّذِي يُجْمَعُ عِنْدَهُ قَبْلَ الْفِطْرِ بِيَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ. وَأَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ عَنْهُ، وَقَالَ: هَذَا حَسَنٌ، وَأَنَا أَسْتَحِبُّهُ - يَعْنِي تَعْجِيلَهَا قَبْلَ يَوْمِ الْفِطْرِ -. انْتَهَى. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْوَكَالَةِ وَغَيْرِهَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ

ص: 376

صلى الله عليه وسلم بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ الْحَدِيثَ. وَفِيهِ أَنَّهُ أَمْسَكَ الشَّيْطَانَ ثَلَاثَ لَيَالٍ، وَهُوَ يَأْخُذُ مِنَ التَّمْرِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُعَجِّلُونَهَا. وَعَكَسَهُ الْجَوْزَقِيُّ، فَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِهَا عَنْ يَوْمِ الْفِطْرِ وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلْأَمْرَيْنِ.

‌78 - بَاب صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ

1512 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَدَقَةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَالْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ)، أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى، وَهُوَ الْقَطَّانُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَهُوَ ابْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ، عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ.

(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَ كِتَابُ الزَّكَاةِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى مِائَةِ حَدِيثٍ وَاثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ حَدِيثًا، الْمَوْصُولُ مِنْهَا مِائَةُ حَدِيثٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ حَدِيثًا، وَالْبَقِيَّةُ مُتَابَعَةٌ وَمُعَلَّقَةٌ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى مِائَةُ حَدِيثٍ سَوَاءٌ، وَالْخَالِصُ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ حَدِيثًا، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى سَبْعَةَ عَشَرَ حَدِيثًا، وَهِيَ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ مَعَ عُثْمَانَ وَمُعَاوِيَةَ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَمِّ الَّذِي يَكْنِزُ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ الْمَالُ. وَحَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: جَاءَ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا يَشْكُو الْعَيْلَةَ. وَحَدِيثُ عَائِشَةَ: أَيُّنَا أَسْرَعُ لُحُوقًا بِكَ. وَحَدِيثُ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ فِي الصَّدَقَةِ عَلَى الْوَلَدِ، وَحَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فِي إِيثَارِهِ بِمَالِهِ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: خَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى. وَحَدِيثُ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ فِي الزَّكَاةِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ. وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فِي قِصَّةِ زَيْنَبَ امْرَأَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَحَدِيثُ أَبِي لَاسٍ فِي رُكُوبِ إِبِلِ الصَّدَقَةِ، وَحَدِيثُ الزُّبَيْرِ: لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَحْتَطِبَ. وَحَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ. وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ. وَحَدِيثُ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ فِي الصَّلَاةِ فِي الْكَعْبَةِ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ الرَّجُلِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ عِشْرُونَ أَثَرًا مِنْهَا أَثَرُ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ لَمَّا أَبَى أَنْ يَأْخُذَ حَقَّهُ مِنَ الْفَيْءِ. وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

ص: 377

بسم الله الرحمن الرحيم

‌25 - كِتَاب الْحَجِّ

‌1 - بَاب وُجُوبِ الْحَجِّ وَفَضْلِهِ

وَقَوْلِ اللَّهِ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [97 آل عمران]

1513 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ الْفَضْلُ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ مِنْ خَثعَمَ فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ وَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الْآخَرِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ.

[الحديث 1513 - أطرافه في: 1854، 1855، 4399، 6228]

قَوْلُهُ: (بَابُ وُجُوبِ الْحَجِّ وَفَضْلِهِ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَسَقَطَ لِغَيْرِهِ الْبَسْمَلَةُ وَبَابٌ، وَلِبَعْضِهِمْ قَوْلُهُ: وَقَوْلِ اللَّهِ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ: كِتَابُ الْمَنَاسِكِ. وَقَدَّمَ الْمُصَنِّفُ الْحَجَّ عَلَى الصِّيَامِ لِمُنَاسَبَةٍ لَطِيفَةٍ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي الْمُقَدِّمَةِ. وَرَتَّبَهُ عَلَى مَقَاصِدَ مُتَنَاسِبَةٍ: فَبَدَأَ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَوَاقِيتِ، ثُمَّ بِدُخُولِ مَكَّةَ وَمَا مَعَهَا ثُمَّ بِصِفَةِ الْحَجِّ، ثُمَّ بِأَحْكَامِ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ بِمُحَرَّمَاتِ الْإِحْرَامِ، ثُمَّ بِفَضْلِ الْمَدِينَةِ. وَمُنَاسَبَةُ هَذَا التَّرْتِيبِ غَيْرُ خَفِيَّةٍ عَلَى الْفَطِنِ.

وَأَصْلُ الْحَجِّ فِي اللُّغَةِ الْقَصْدُ، وَقَالَ الْخَلِيلُ: كَثْرَةُ الْقَصْدِ إِلَى مُعَظَّمٍ. وَفِي الشَّرْعِ الْقَصْدُ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ بِأَعْمَالٍ مَخْصُوصَةٍ. وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَبِكَسْرِهَا لُغَتَانِ، نَقَلَ الطَّبَرِيُّ أَنَّ الْكَسْرَ لُغَةُ أَهْلِ نَجْدٍ، وَالْفَتْحَ لِغَيْرِهِمْ، وَنُقِلَ عَنْ حُسَيْنٍ الْجُعْفِيِّ أَنَّ الْفَتْحَ الِاسْمُ، وَالْكَسْرَ الْمَصْدَرُ. وَعَنْ غَيْرِهِ عَكْسُهُ. وَوُجُوبُ الْحَجِّ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَكَرَّرُ إِلَّا لِعَارِضٍ كَالنَّذْرِ. وَاخْتُلِفَ، هَلْ هُوَ عَلَى الْفَوْرِ أَوِ التَّرَاخِي؟ وَهُوَ مَشْهُورٌ. وَفِي وَقْتِ ابْتِدَاءِ فَرْضِهِ فَقِيلَ: قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَهُوَ شَاذٌّ، وَقِيلَ: بَعْدَهَا. ثُمَّ اخْتُلِفَ فِي سَنَتِهِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا سَنَةَ سِتٍّ، لِأَنَّهَا نَزَلَ فِيهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِتْمَامِ ابْتِدَاءُ الْفَرْضِ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ عَلْقَمَةَ وَمَسْرُوقٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ بِلَفْظِ: وَأَقِيمُوا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ عَنْهُمْ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْإِتْمَامِ الْإِكْمَالُ بَعْدَ الشُّرُوعِ، وَهَذَا يَقْتَضِي تَقَدُّمَ فَرْضِهِ قَبْلَ ذَلِكَ. وَقَدْ وَقَعَ فِي قِصَّةِ ضِمَامٍ ذِكْرُ الْأَمْرِ بِالْحَجِّ، وَكَانَ قُدُومُهُ عَلَى مَا ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ سَنَةَ خَمْسٍ، وَهَذَا يَدُلُّ - إِنْ ثَبَتَ - عَلَى تَقَدُّمِهِ عَلَى سَنَةِ خَمْسٍ أَوْ وُقُوعِهِ فِيهَا، وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَسْطٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ عَلَى الْعُمْرَةِ. وَأَمَّا فَضْلُهُ فَمَشْهُورٌ وَلَا سِيَّمَا فِي الْوَعِيدِ عَلَى تَرْكِهِ فِي الْآيَةِ، وَسَيَأْتِي فِي بَابٍ مُفْرَدٍ.

وَلَكِنْ لَمْ يُورِدِ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ غَيْرَ حَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ، وَشَاهِدُ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ خَفِيٌّ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ إِثْبَاتَ فَضْلِهِ مِنْ جِهَةِ تَأْكِيدِ الْأَمْرِ

ص: 378

بِهِ بِحَيْثُ إِنَّ الْعَاجِزَ عَنِ الْحَرَكَةِ إِلَيْهِ يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ غَيْرُهُ وَلَا يُعْذَرُ بِتَرْكِ ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ وَالِاخْتِلَافِ فِي إِسْنَادِهِ عَلَى الزُّهْرِيِّ فِي أَوَاخِرِ مُحَرَّمَاتِ الْإِحْرَامِ. وَالْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا تَفْسِيرُ الِاسْتِطَاعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ، وَأَنَّهَا لَا تَخْتَصُّ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ بلِ تَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ وَالْبَدَنِ، لِأَنَّهَا لَوِ اخْتَصَّتْ لَلَزِمَ الْمَعْضُوبَ أَنْ يَشُدَّ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَلَوْ شَقَّ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يَثْبُتُ الْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ ذِكْرُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَامَّةً لَيْسَتْ مُجْمَلَةً فَلَا تَفْتَقِرُ إِلَى بَيَانٍ، وَكَأَنَّهُ كَلَّفَ كُلَّ مُسْتَطِيعٍ قَدَرَ بِمَالٍ أَوْ بِبَدَنٍ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(تَقْسِيمٌ): النَّاسُ قِسْمَانِ، مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَمَنْ لَا يَجِبُ، الثَّانِي: الْعَبْدُ وَغَيْرُ الْمُكَلَّفِ وَغَيْرُ الْمُسْتَطِيعِ. ومَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِمَّا أَنْ يُجْزِئَهُ الْمَأْتِيُّ بِهِ أَوْ لَا، الثَّانِي: الْعَبْدُ وَغَيْرُ الْمُكَلَّفِ. وَالْمُسْتَطِيعُ، إِمَّا أَنْ تَصِحَّ مُبَاشَرَتُهُ مِنْهُ أَوْ لَا، الثَّانِي: غَيْرُ الْمُمَيِّزِ. وَمَنْ لَا تَصِحُّ مُبَاشَرَتُهُ إِمَّا أَنْ يُبَاشِرَ عَنْهُ غَيْرُهُ أَوْ لَا، الثَّانِي: الْكَافِرُ. فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْحَجِّ إِلَّا الْإِسْلَامُ.

‌2 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} ، {فِجَاجًا} الطُّرُقُ الْوَاسِعَةُ

1514 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَخْبَرَهُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْكَبُ رَاحِلَتَهُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ ثُمَّ يُهِلُّ حَتَّى تَسْتَوِيَ بِهِ قَائِمَةً.

1515 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا الْوَلِيدُ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ سَمِعَ عَطَاءً يُحَدِّثُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما "أَنَّ إِهْلَالَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ رَوَاهُ أَنَسٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم"

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} قِيلَ: إِنَّ الْمُصَنِّفَ أَرَادَ أَنَّ الرَّاحِلَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا لِلْوُجُوبِ، وَقَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ: فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ لِمَالِكٍ أَنَّ الرَّاحِلَةَ لَيْسَتْ مِنْ شَرْطِ السَّبِيلِ، فَإِنَّ الْمُخَالِفَ يَزْعُمُ أَنَّ الْحَجَّ لَا يَجِبُ عَلَى الرَّاجِلِ وَهُوَ خِلَافُ الْآيَةِ. انْتَهَى وَفِيهِ نَظَرٌ،، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا لَا يَرْكَبُونَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} فَأَمَرَهُمْ بِالزَّادِ، وَرَخَّصَ لَهُمْ فِي الرُّكُوبِ وَالْمَتْجَرِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا فَاتَنِي شَيْءٌ أَشَدُّ عَلَيَّ أَنْ لَا أَكُونَ حَجَجْتُ مَاشِيًا، لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ:{يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} فَبَدَأَ بِالرِّجَالِ قَبْلَ الرُّكْبَانِ.

قَوْلُهُ: (فِجَاجًا: الطُّرُقُ الْوَاسِعَةُ) قَالَ يَحْيَى الْفَرَّاءُ فِي الْمَعَانِي فِي سُورَةِ نُوحٍ: قَوْلُهُ: فِجَاجًا، وَاحِدُهَا فَجٌّ، وَهِيَ الطُّرُقُ الْوَاسِعَةُ. وَاعْتَرَضَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فَقَالَ: يُقَالُ: الْفَجُّ الطَّرِيقُ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يُسَمَّ الطَّرِيقُ فَجًّا، كَذَا قَالَ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَجَزَمَ أَبُو عُبَيْدٍ ثُمَّ الْأَزْهَرِيُّ بِأَنَّ الْفَجَّ الطَّرِيقُ الْوَاسِعُ، وَقَدْ نَقَلَ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ أَنَّ الْفَجَّ الطَّرِيقُ الْوَاسِعِ فِي جَبَلٍ أَوْ فِي قِبَلِ جَبَلٍ، وَهُوَ أَوْسَعُ مِنَ الشِّعْبِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:(فِجَاجًا) يَقُولُ: طُرُقًا مُخْتَلِفَةً. وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: طُرُقًا وَأَعْلَامًا.

ص: 379

وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي الْمَجَازِ: فَجٌّ عَمِيقٌ أَيْ بَعِيدُ الْقَعْرِ، وَهَذَا تَفْسِيرُ الْعَمِيقِ، يُقَالُ: بِئْرٌ عَمِيقَةُ الْقَعْرِ أَيْ بَعِيدَةُ الْقَعْرِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي إِهْلَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، وَحَدِيثَ جَابِرٍ نَحْوَهُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ بَعْدَ أَبْوَابٍ، وَغَرَضُهُ مِنْهُ الرَّدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْحَجَّ مَاشِيًا أَفْضَلُ لِتَقْدِيمِهِ فِي الذِّكْرِ عَلَى الرَّاكِبِ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ أَفْضَلَ لَفَعَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يُحْرِمْ حَتَّى اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: مُنَاسَبَةُ الْحَدِيثِ لِلْآيَةِ أَنَّ ذَا الْحُلَيْفَةِ فَجٌّ عَمِيقٌ وَالرُّكُوبُ مُنَاسِبٌ لِقَوْلِهِ: {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} .

وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثَيْنِ شَيْءٌ مِمَّا تَرْجَمَ الْبَابَ بِهِ، وَرُدَّ بِأَنَّ فِيهِمَا الْإِشَارَةَ إِلَى أَنَّ الرُّكُوبَ أَفْضَلُ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ الْمَشْيِ.

قَوْلُهُ: (رَوَاهُ أَنَسٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ) أَيِ إِهْلَالُهُ بَعْدَ مَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، وَسَيَأْتِي حَدِيثُ أَنَسٍ مَوْصُولًا فِي بَابِ مَنْ بَاتَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ حَتَّى أَصْبَحَ. وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ قَبْلَهُ فِي بَابِ مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: اخْتُلِفَ فِي الرُّكُوبِ وَالْمَشْيِ لِلْحُجَّاجِ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ فَقَالَ الْجُمْهُورُ: الرُّكُوبُ أَفْضَلُ لِفِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلِكَوْنِهِ أَعْوَنَ عَلَى الدُّعَاءِ وَالِابْتِهَالِ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ، وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: الْمَشْيُ أَفْضَلُ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّعَبِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَشْخَاصِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(تَنْبِيهٌ): أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى شَيْخُ الْمُصَنِّفِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَعَ هَكَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَوَافَقَهُ أَبُو عَلِيٍّ الشَّبُّوِيُّ، وَأَهْمَلَهُ الْبَاقُونَ، وَإِبْرَاهِيمُ شَيْخُهُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ وَقَعَ مُهْمَلًا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى الرَّازِيُّ وَهُوَ الْحَافِظُ الْمَعْرُوفُ بِالْفَرَّاءِ الصَّغِيرِ.

‌3 - بَاب الْحَجِّ عَلَى الرَّحْلِ

1516 -

وَقَالَ أَبَانُ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: بَعَثَ مَعَهَا أَخَاهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَأَعْمَرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ وَحَمَلَهَا عَلَى قَتَبٍ.

وَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: شُدُّوا الرِّحَالَ فِي الْحَجِّ فَإِنَّهُ أَحَدُ الْجِهَادَيْنِ.

1517 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا عَزْرَةُ بْنُ ثَابِتٍ عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ "حَجَّ أَنَسٌ عَلَى رَحْلٍ وَلَمْ يَكُنْ شَحِيحًا وَحَدَّثَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَجَّ عَلَى رَحْلٍ وَكَانَتْ زَامِلَتَهُ"

1518 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ حَدَّثَنَا أَيْمَنُ بْنُ نَابِلٍ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ "عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْتَمَرْتُمْ وَلَمْ أَعْتَمِرْ فَقَالَ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ اذْهَبْ بِأُخْتِكَ فَأَعْمِرْهَا مِنْ التَّنْعِيمِ فَأَحْقَبَهَا عَلَى نَاقَةٍ فَاعْتَمَرَتْ"

قَوْلُهُ: (بَابُ الْحَجِّ عَلَى الرَّحْلِ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، وَهُوَ لِلْبَعِيرِ كَالسَّرْجِ لِلْفَرَسِ، أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَنَّ التَّقَشُّفَ أَفْضَلُ مِنَ التَّرَفُّهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبَانُ) هُوَ ابْنُ يَزِيدَ الْعَطَّارُ، وَالْقَاسِمُ هُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. وَهَذِهِ الطَّرِيقُ وَصَلَهَا أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ حَرَمِيِّ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ أَبَانَ بْنِ يَزِيدَ الْعَطَّارِ بِهِ، وَسَمِعْنَاهُ بِعُلُوٍّ فِي فَوَائِدِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ نَجِيحٍ وَلَمْ يُخَرِّجِ الْبُخَارِيُّ، لِمَالِكِ بْنِ دِينَارٍ، وَهُوَ الزَّاهِدُ الْمَشْهُورُ الْبَصْرِيُّ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ

ص: 380

الْمُعَلَّقِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ فِيهِ: وَحَمَلَهَا عَلَى قَتَبٍ. وَهُوَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالْمُثَنَّاةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ، رَحْلٌ صَغِيرٌ عَلَى قَدْرِ السَّنَامِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي آخِرِ الْبَابِ مَوْصُولًا بِلَفْظِ: فَأَحْقَبَهَا؛ أَيْ أَرْدَفَهَا عَلَى الْحَقِيبَةِ، وَهِيَ الزُّنَّارُ الَّذِي يُجْعَلُ فِي مُؤَخَّرِ الْقَتَبِ، فَقَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ أَبَانَ: عَلَى قَتَبٍ؛ أَيْ حَمَلَهَا عَلَى مُؤَخَّرِ قَتَبٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ أَرْدَفَهَا، وَكَانَ هُوَ عَلَى قَتَبٍ، فَإِنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ. وَسَيَأْتِي بَسْطُ الْقَوْلِ فِي اعْتِمَارِ عَائِشَةَ مِنَ التَّنْعِيمِ فِي أَبْوَابِ الْعُمْرَةِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُمَرُ: شُدُّوا الرِّحَالَ فِي الْحَجِّ، فَإِنَّهُ أَحَدُ الْجِهَادَيْنِ) وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنْ عَابِسِ بْنِ رَبِيعَةَ - وَهُوَ بِمُوَحَّدَةٍ وَمُهْمَلَةٍ - أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ يَقُولُ وَهُوَ يَخْطُبُ: إِذَا وَضَعْتُمُ السُّرُوجَ فَشُدُّوا الرِّحَالَ إِلَى الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّهُ أَحَدُ الْجِهَادَيْنِ. وَمَعْنَاهُ إِذَا فَرَغْتُمْ مِنَ الْغَزْوِ فَحُجُّوا وَاعْتَمِرُوا، وَتَسْمِيَةُ الْحَجِّ جِهَادًا إِمَّا مِنْ بَابِ التَّغْلِيبِ أَوْ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَالْمُرَادُ جِهَادُ النَّفْسِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِدْخَالِ الْمَشَقَّةِ عَلَى الْبَدَنِ وَالْمَالِ، وَسَيَأْتِي فِي ثَانِي أَحَادِيثِ الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ مَا يُؤَيِّدُهُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ) هُوَ الْمُقَدَّمِيُّ، كَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ: وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ. وَقَدْ وَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو يَعْلَى وَالْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ وَغَيْرُهُمَا، قَالُوا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ بِهِ. وَعَزْرَةُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الزَّاي بَعْدَهَا رَاءٌ تَأْنِيثُ عَزْرٍ، وَهُوَ الْمَنْعُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُعَزِّرُوهُ، وَرِجَالُ هَذَا الْإِسْنَادِ كُلُّهُمْ بَصْرِيُّونَ. وَقَدْ أَنْكَرَهُ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ لَمَّا سُئِلَ عَنْهُ، فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَتْ زَامِلَتَهُ) أَيِ الرَّاحِلَةُ الَّتِي رَكِبَهَا، وَهِيَ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ، لَكِنْ دَلَّ عَلَيْهَا ذِكْرُ الرَّحْلِ، وَالزَّامِلَةُ الْبَعِيرُ الَّذِي يُحْمَلُ عَلَيْهِ الطَّعَامُ وَالْمَتَاعُ، مِنَ الزَّمْلِ، وَهُوَ الْحَمْلُ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ مَعَهُ زَامِلَةٌ تَحْمِلُ طَعَامَهُ وَمَتَاعَهُ بَلْ كَانَ ذَلِكَ مَحْمُولًا مَعَهُ عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَكَانَتْ هِيَ الرَّاحِلَةُ وَالزَّامِلَةُ. وَرَوَى سَعِيدُ ابْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَحُجُّونَ وَتَحْتَهُمْ أَزْوِدَتُهُمْ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ حَجَّ عَلَى رَحْلٍ وَلَيْسَ تَحْتَهُ شَيْءٌ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ. وَقَوْلُهُ فِيهِ: وَلَمْ يَكُنْ شَحِيحًا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ تَوَاضُعًا وَاتِّبَاعًا لَا عَنْ قِلَّةٍ وَبُخْلٍ. وَقَدْ رَوَى ابنُ مَاجَهْ هَذَا الْحَدِيثَ بِلَفْظٍ آخَرَ، لَكِنَّ إِسْنَادَهُ ضَعِيفٌ، فَذَكَرَ بَعْدَ قَوْلِهِ: عَلَى رَحْلٍ رَثٍّ وَقَطِيفَةٍ تُسَاوِي أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ - ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ حَجَّةً لَا رِيَاءَ فِيهَا، وَلَا سُمْعَةَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَمْرٌو) هُوَ ابْنُ عَلِيٍّ الْفَلَّاسُ. وَأَبُو عَاصِمٍ هُوَ النَّبِيلُ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ، وَرَوَى عَنْهُ هُنَا بِوَاسِطَةٍ، وَنَابِلٌ وَالِدُ أَيْمَنَ بِنُونٍ وَمُوَحَّدَةٍ.

قَوْلُهُ: (فَأَحْقَبَهَا عَلَى نَاقَةٍ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ نَاقَتَهُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ.

‌4 - بَاب فَضْلِ الْحَجِّ الْمَبْرُورِ

1519 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ قَالَ: إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: حَجٌّ مَبْرُورٌ.

1520 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا خَالِدٌ أَخْبَرَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ "عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ أَفَلَا نُجَاهِدُ قَالَ لَا لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ"

ص: 381

[الحديث 1520 - أطرافه في: 1861، 2784، 2875، 2876]

1521 -

حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا سَيَّارٌ أَبُو الْحَكَمِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا حَازِمٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ "مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ"

[الحديث 1521 - أطرافه في: 1819، 1820]

قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ الْحَجِّ الْمَبْرُورِ) قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: الْمَبْرُورُ الْمَقْبُولُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الَّذِي لَا يُخَالِطُهُ شَيْءٌ مِنَ الْإِثْمِ، وَرَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْأَقْوَالُ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي تَفْسِيرِهِ مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى، وَهِيَ أَنَّهُ الْحَجُّ الَّذِي وُفِّيَتْ أَحْكَامُهُ وَوَقَعَ مَوْقِعًا لِمَا طُلِبَ مِنَ الْمُكَلَّفِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ أُخَرُ مَعَ مَبَاحِثِ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ فِي بَابِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْعَمَلُ مِنْ كِتَابِ الْإِيمَانِ، مِنْهَا أَنَّهُ يَظْهَرُ بِآخِرِهِ، فَإِنْ رَجَعَ خَيْرًا مِمَّا كَانَ عُرِفَ أَنَّهُ مَبْرُورٌ. وَلِأَحْمَدَ وَالْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا بِرُّ الْحَجِّ؟ قَالَ: إِطْعَامُ الطَّعَامِ وَإِفْشَاءُ السَّلَامِ. وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، فَلَوْ ثَبَتَ لَكَانَ هُوَ الْمُتَعَيَّنُ دُونَ غَيْرِهِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ) هُوَ الْعَيْشِيُّ بِالتَّحْتَانِيَّةِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ بَصْرِيٌّ وَلَيْسَ أَخًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ الْمَرْوَزِيِّ الْفَقِيهِ الْمَشْهُورِ، وَشَيْخُهُ خَالِدٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْوَاسِطِيُّ.

قَوْلُهُ: (نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ) وَهُوَ بِفَتْحِ النُّونِ، أَيْ نَعْتَقِدُ وَنَعْلَمُ، وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ مَا يُسْمَعُ مِنْ فَضَائِلِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَقَدْ رَوَاهُ جَرِيرٌ، عَنْ صُهَيْبٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ بِلَفْظِ: فَإِنِّي لَا أَرَى عَمَلًا فِي الْقُرْآنِ أَفْضَلَ مِنَ الْجِهَادِ.

قَوْلُهُ: (لَكُنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ) اخْتُلِفَ فِي ضَبْطِ لَكُنَّ فَالْأَكْثَرُ بِضَمِّ الْكَافِ خِطَابٌ لِلنِّسْوَةِ، قَالَ الْقَابِسِيُّ: وَهُوَ الَّذِي تَمِيلُ إِلَيْهِ نَفْسِي. وَفِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ لَكِنْ بِكَسْرِ الْكَافِ وَزِيَادَةِ أَلِفٍ قَبْلَهَا بِلَفْظِ الِاسْتِدْرَاكِ، وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ فَائِدَةً، لِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى إِثْبَاتِ فَضْلِ الْحَجِّ وَعَلَى جَوَابِ سُؤَالِهَا عَنِ الْجِهَادِ، وَسَمَّاهُ جِهَادًا لِمَا فِيهِ مِنْ مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْحَجِّ فِي بَابِ حَجِّ النِّسَاءِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْمُحْتَاجُ إِلَيْهِ هُنَا كَوْنُهُ جَعَلَ الْحَجَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ:

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ أَبَا حَازِمٍ) هُوَ سَلْمَانُ، وَأَمَّا أَبُو حَازِمٍ سَلَمَةُ بْنُ دِينَارٍ صَاحِبُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فَلَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَسَيَّارٍ، أَبُو الْحَكَمِ الرَّاوِي عَنْهُ بِتَقْدِيمِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ.

قَوْلُهُ: (مَنْ حَجَّ لِلَّهِ) فِي رِوَايَةِ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ الْآتِيَةِ قُبَيْلَ جَزَاءِ الصَّيْدِ: مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ جُرَيْجٍ، عَنْ مَنْصُورٍ: مَنْ أَتَى هَذَا الْبَيْتَ. وَهُوَ يَشْمَلُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ بِلَفْظِ: مَنْ حَجَّ أَوِ اعْتَمَرَ لَكِنْ فِي الْإِسْنَادِ إِلَى الْأَعْمَشِ ضَعْفٌ.

قَوْلُهُ: (فَلَمْ يَرْفُثْ) الرَّفَثُ الْجِمَاعُ، وَيُطْلَقُ عَلَى التَّعْرِيضِ بِهِ وَعَلَى الْفُحْشِ فِي الْقَوْلِ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الرَّفَثُ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُرِيدُهُ الرَّجُلُ مِنَ الْمَرْأَةِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَخُصُّهُ بِمَا خُوطِبَ بِهِ النِّسَاءُ. وَقَالَ عِيَاضٌ: هَذَا مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ} وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ فِي الْآيَةِ الْجِمَاعُ. انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَإِلَيْهِ نَحَا الْقُرْطُبِيُّ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي الصِّيَامِ: فَإِذَا كَانَ صَوْمُ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثُ.

(فَائِدَةٌ): فَاءُ الرَّفَثِ مُثَلَّثَةٌ فِي الْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ، وَالْأَفْصَحُ الْفَتْحُ فِي الْمَاضِي، وَالضَّمُّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَفْسُقْ) أَيْ لَمْ يَأْتِ بِسَيِّئَةٍ وَلَا مَعْصِيَةٍ، وَأَغْرَبَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ، فَقَالَ: إِنَّ لَفْظَ الْفِسْقِ لَمْ يُسْمَعْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا فِي أَشْعَارِهِمْ، وَإِنَّمَا هُوَ إِسْلَامِيٌّ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْقُرْآنِ، وَحِكَايَتُهُ عَمَّنْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَصْلُهُ انْفَسَقَتِ الرُّطَبَةُ إِذَا خَرَجَتْ، فَسُمِّيَ الْخَارِجُ عَنِ الطَّاعَةِ فَاسِقًا.

قَوْلُهُ: (رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ) أَيْ بِغَيْرِ ذَنْبٍ،

ص: 382

وَظَاهِرُهُ غُفْرَانُ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ وَالتَّبِعَاتِ، وَهُوَ مِنْ أَقْوَى الشَّوَاهِدِ لِحَدِيثِ الْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ الْمُصَرِّحِ بِذَلِكَ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي تَفْسِيرِ الطَّبَرِيِّ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلَمْ يَرْفُثْ مَعْطُوفٌ عَلَى الشَّرْطِ، وَجَوَابُهُ رَجَعَ؛ أَيْ صَارَ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ خَبَرٌ لَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا؛ أَيْ صَارَ مُشَابِهًا لِنَفْسِهِ فِي الْبَرَاءَةِ عَنِ الذُّنُوبِ فِي يَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ اهـ. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ الْمَذْكُورَةِ: رَجَعَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ. وَذَكَرَ لَنَا بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الطِّيبِيَّ أَفَادَ أَنَّ الْحَدِيثَ إِنَّمَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ الْجِدَالُ، كَمَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ عَلَى طَرِيقِ الِاكْتِفَاءِ بِذِكْرِ الْبَعْضِ وَتَرْكِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا ذُكِرَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِالْقَصْدِ، لِأَنَّ وُجُودَهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي تَرْكِ مَغْفِرَةِ ذُنُوبِ الْحَاجِّ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْمُجَادَلَةَ فِي أَحْكَامِ الْحَجِّ فِيمَا يَظْهَرُ مِنَ الْأَدِلَّةِ، أَوِ الْمُجَادَلَةَ بِطَرِيقِ التَّعْمِيمِ فَلَا يُؤَثِّرُ أَيْضًا، فَإِنَّ الْفَاحِشَ مِنْهَا دَاخِلٌ فِي عُمُومِ الرَّفَثِ، وَالْحَسَنَ مِنْهَا ظَاهِرٌ فِي عَدَمِ التَّأْثِيرِ، وَالْمُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ لَا يُؤَثِّرُ أَيْضًا.

‌5 - بَاب فَرْضِ مَوَاقِيتِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ

1522 -

حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَنَّهُ أَتَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما فِي مَنْزِلِهِ وَلَهُ فُسْطَاطٌ وَسُرَادِقٌ فَسَأَلْتُهُ مِنْ أَيْنَ يَجُوزُ أَنْ أَعْتَمِرَ قَالَ: فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا وَلِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ فَرْضِ مَوَاقِيتِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ) الْمَوَاقِيتُ جَمْعُ مِيقَاتٍ، كَمَوَاعِيدَ وَمِيعَادٍ، وَمَعْنَى فَرَضَ قَدَّرَ أَوْ أَوْجَبَ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الْمُصَنِّفِ، وَأَنَّهُ لَا يُجِيزُ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مِنْ قِبَلِ الْمِيقَاتِ، وَيَزِيدُ ذَلِكَ وُضُوحًا مَا سَيَأْتِي بَعْدَ قَلِيلٍ، حَيْثُ قَالَ: مِيقَاتُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَلَا يُهِلُّونَ قِبَلَ ذِي الْحُلَيْفَةِ. وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى الْجَوَازِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَقَدْ نُقِلَ عَنْ إِسْحَاقَ وَدَاوُدَ وَغَيْرِهِمَا عَدَمُ الْجَوَازِ، وَهُوَ ظَاهِرُ جَوَابِ ابْنِ عُمَرَ، وَيُؤَيِّدُهُ الْقِيَاسُ عَلَى الْمِيقَاتِ الزَّمَانِيِّ، فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّقَدُّمُ عَلَيْهِ، وَفَرَّقَ الْجُمْهُورُ بَيْنَ الزَّمَانِيِّ وَالْمَكَانِيِّ، فَلَمْ يُجِيزُوا التَّقَدُّمَ عَلَى الزَّمَانِيِّ، وَأَجَازُوا فِي الْمَكَانِيِّ، وَذَهَبَ طَائِفَةٌ كَالْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى تَرْجِيحِ التَّقَدُّمِ، وَقَالَ مَالِكٌ يُكْرَهُ، وَسَيَأْتِي شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي تَرْجَمَةِ:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} فِي قَوْلِهِ: وَكَرِهَ عُثْمَانُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ خُرَاسَانَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ) هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ الْجُعْفِيُّ، وَرِجَالُ هَذَا الْإِسْنَادِ سِوَى ابْنِ عُمَرَ كُوفِيُّونَ، وَجُبَيْرٌ وَالِدُ زَيْدٍ - بِالْجِيمِ وَالْمُوَحَّدَةِ مُصَغَّرٌ - لَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَفِي الرُّوَاةِ زَيْدُ بْنُ جَبِيرَةَ - بِفَتْحِ الْجِيمِ وَزِيَادَةِ هَاءٍ فِي آخِرِهِ - لَمْ يُخَرِّجْ لَهُ الْبُخَارِيُّ شَيْئًا.

قَوْلُهُ: (وَلَهُ فُسْطَاطٌ وَسُرَادِقُ) الْفُسْطَاطُ مَعْرُوفٌ وَهِيَ الْخَيْمَةُ، وَأَصْلُهُ عَمُودُ الْخِبَاءِ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: لَا يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ إِلَّا إِذَا كَانَتْ مِنْ قُطْنٍ، وَهُوَ أَيْضًا مِمَّا يُغَطَّى بِهِ صَحْنُ الدَّارِ مِنَ الشَّمْسِ وَغَيْرِهَا، وَكُلُّ مَا أَحَاطَ بِشَيْءٍ فَهُوَ سُرَادِقُ، وَمِنْهُ:{أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا}

قَوْلُهُ: (فَسَأَلْتُهُ) فِيهِ الْتِفَاتٌ، لِأَنَّهُ قَالَ أَوَّلًا إِنَّهُ أَتَى ابْنَ عُمَرَ، فَكَانَ السِّيَاقُ يَقْتَضِي أَنْ يَقُولَ فَسَأَلَهُ، لَكِنْ وَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَسَأَلْتُهُ.

قَوْلُهُ: (فَرَضَهَا) أَيْ قَدَّرَهَا وَعَيَّنَهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَوْجَبَهَا وَبِهِ يَتِمُّ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَرِينَةُ قَوْلِ السَّائِلِ: مِنْ أَيْنَ يَجُوزُ لِي. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْحَدِيثِ بَعْدَ بَابٍ.

‌6 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}

1523 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ

ص: 383

رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَحُجُّونَ وَلَا يَتَزَوَّدُونَ، وَيَقُولُونَ: نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ، فَإِذَا قَدِمُوا مَكَّةَ سَأَلُوا النَّاسَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} . رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلًا.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: لَمَّا نَزَلَتْ قَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا نَجِدُ زَادًا. فَقَالَ: تَزَوَّدْ مَا تَكُفُّ بِهِ وَجْهَكَ عَنِ النَّاسِ، وَخَيْرُ مَا تَزَوَّدْتُمُ التَّقْوَى. أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بِشْرٍ) بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَبِالْمُعْجَمَةِ، وَهُوَ الْبَلْخِيُّ، وَلَمْ يُخَرِّجْ لِلْجَرِيرِيِّ الَّذِي أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ وَهُوَ مِنْ طَبَقَتِهِ، وَجَعَلَهُمَا ابْنُ طَاهِرٍ وَأَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ رَجُلًا وَاحِدًا، وَالصَّوَابُ التَّفْرِقَةُ.

قَوْلُهُ: (كَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَحُجُّونَ وَلَا يَتَزَوَّدُونَ) زَادَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَقُولُونَ: نَحُجُّ بَيْتَ اللَّهِ، أَفَلَا يُطْعِمُنَا.

قَوْلُهُ: (فَإِذَا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: مَكَّةَ، وَهُوَ أَصْوَبُ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَخْرَمِيِّ، عَنْ شَبَابَةَ.

قَوْلُهُ: (رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو) يَعْنِي ابْنَ دِينَارٍ (عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلًا) يَعْنِي لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، الْمُقْرِي؛ كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ مُرْسَلًا. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ رِوَايَةِ وَرْقَاءَ. قُلْتُ: وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى ابْنِ عُيَيْنَةَ فَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيُّ عَنْهُ مَوْصُولًا بِذِكْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ، لَكِنْ حَكَى الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنِ ابْنِ صَاعِدٍ أَنَّ سَعِيدًا حَدَّثَهُمْ بِهِ فِي كِتَابِ الْمَنَاسِكِ مَوْصُولًا قَالَ: وَحَدَّثَنَا بِهِ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، فَلَمْ يُجَاوِزْ بِهِ عِكْرِمَةَ، انْتَهَى.

وَالْمَحْفُوظُ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ لَيْسَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، لَكِنْ لَمْ يَنْفَرِدْ شَبَابَةُ بِوَصْلِهِ؛ فَقَدْ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ مِنْ طَرِيقِ الْفُرَاتِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ وَرْقَاءَ مَوْصُولًا، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا سَبَقَ. قَالَ الْمُهَلَّبُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفِقْهِ أَنَّ تَرْكَ السُّؤَالِ مِنَ التَّقْوَى، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ اللَّهَ مَدَحَ مَنْ لَمْ يَسْأَلِ النَّاسَ إِلْحَافًا، فَإِنَّ قَوْلَهُ:{فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} أَيْ تَزَوَّدُوا وَاتَّقُوا أَذَى النَّاسِ بِسُؤَالِكُمْ إِيَّاهُمْ وَالْإِثْمَ فِي ذَلِكَ، قَالَ: وَفِيهِ أَنَّ التَّوَكُّلَ لَا يَكُونُ مَعَ السُّؤَالِ، وَإِنَّمَا التَّوَكُّلُ الْمَحْمُودُ أَنْ لَا يَسْتَعِينَ بِأَحَدٍ فِي شَيْءٍ، وَقِيلَ: هُوَ قَطْعُ النَّظَرِ عَنِ الْأَسْبَابِ بَعْدَ تَهْيِئَةِ الْأَسْبَابِ كَمَا قَالَ عليه السلام: اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ.

‌7 - بَاب مُهَلِّ أَهْلِ مَكَّةَ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ

1524 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلِأَهْلِ الشَّأْمِ الْجُحْفَةَ، وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ، وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ؛ هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ، حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مُهَلُّ أَهْلِ مَكَّةَ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ) الْمُهَلُّ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْهَاءِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ مَوْضِعُ الْإِهْلَالِ، وَأَصْلُهُ رَفْعُ الصَّوْتِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى نَفْسِ الْإِحْرَامِ اتِّسَاعًا. قَالَ ابْنُ

ص: 384

الْجَوْزِيِّ: وَإِنَّمَا يَقُولُهُ بِفَتْحِ الْمِيمِ مَنْ لَا يَعْرِفُ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ الْعُكْبَرِيُّ: هُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْإِهْلَالِ، كَالْمُدْخَلِ وَالْمُخْرَجِ بِمَعْنَى الْإِدْخَالِ وَالْإِخْرَاجِ، وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِالتَّرْجَمَةِ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ؛ فَإِنَّهُ سَيَأْتِي بِلَفْظِ: مُهَلِّ. وَأَمَّا حَدِيثُ الْبَابِ فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ وَقَّتَ أَيْ حَدَّدَ، وَأَصْلُ التَّوْقِيتِ أَنْ يُجْعَلَ لِلشَّيْءِ وَقْتٌ يَخْتَصُّ بِهِ، ثُمَّ اتَّسَعَ فِيهِ فَأُطْلِقَ عَلَى الْمَكَانِ أَيْضًا. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: التَّوْقِيتُ وَالتَّأْقِيتُ أَنْ يُجْعَلَ لِلشَّيْءِ وَقْتٌ يَخْتَصُّ بِهِ، وَهُوَ بَيَانُ مِقْدَارِ الْمُدَّةِ، يُقَالُ: وَقَّتَ الشَّيْءَ بِالتَّشْدِيدِ يُوَقِّتُهُ، وَوَقَتَ بِالتَّخْفِيفِ يَقِتُهُ إِذَا بَيَّنَ مُدَّتَهُ، ثُمَّ اتَّسَعَ فِيهِ فَقِيلَ لِلْمَوْضِعِ: مِيقَاتٌ.

وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: قِيلَ: إِنَّ التَّوْقِيتَ فِي اللُّغَةِ التَّحْدِيدُ وَالتَّعْيِينُ، فَعَلَى هَذَا فَالتَّحْدِيدُ مِنْ لَوَازِمِ الْوَقْتِ، وَقَوْلُهُ هُنَا: وَقَّتَ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ التَّحْدِيدُ؛ أَيْ حَدَّ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ لِلْإِحْرَامِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ تَعْلِيقُ الْإِحْرَامِ بِوَقْتِ الْوُصُولِ إِلَى هَذِهِ الْأَمَاكِنِ بِالشَّرْطِ الْمُعْتَبَرِ. وَقَالَ عِيَاضٌ: وَقَّتَ أَيْ حَدَّدَ، وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى أَوْجَبَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} انْتَهَى. وَيُؤَيِّدُهُ الرِّوَايَةُ الْمَاضِيَةُ بِلَفْظِ: فَرَضَ.

قَوْلُهُ: (وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ)؛ أَيْ مَدِينَتَهُ عليه الصلاة والسلام.

قَوْلُهُ: (ذَا الْحُلَيْفَةِ) بِالْمُهْمَلَةِ وَالْفَاءِ مُصَغَّرًا مَكَانٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مِائَتَا مِيلٍ غَيْرِ مِيلَيْنِ؛ قَالَهُ ابْنُ حَزْمٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ: بَيْنَهُمَا عَشْرُ مَرَاحِلَ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ سِتَّةٌ أَمْيَالٍ، وَوَهِمَ مَنْ قَالَ: بَيْنَهُمَا مِيلٌ وَاحِدٌ؛ وَهُوَ ابْنُ الصَّبَّاغِ. وَبِهَا مَسْجِدٌ يُعْرَفُ بِمَسْجِدِ الشَّجَرَةِ خَرَابٌ، وَبِهَا بِئْرٌ يُقَالُ لَهَا: بِئْرُ عَلِيٍّ.

قَوْلُهُ: (الْجُحْفَةَ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، وَهِيَ قَرْيَةٌ خَرِبَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ خَمْسُ مَرَاحِلَ أَوْ سِتَّةٌ، وَفِي قَوْلِ النَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: ثَلَاثُ مَرَاحِلَ، نَظَرٌ. وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهَا مَهْيَعَةُ بِوَزْنِ عَلْقَمَةُ، وَقِيلَ: بِوَزْنِ لَطِيفَةٍ، وَسُمِّيَتِ الْجُحْفَةَ لِأَنَّ السَّيْلَ أَجْحَفَ بِهَا، قَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: كَانَ الْعَمَالِيقُ يَسْكُنُونَ يَثْرِبَ، فَوَقَعَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَنِي عَبِيلٍ - بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، وَهُمْ أخْوَةُ عَادٍ - حَرْبٌ، فَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ يَثْرِبَ، فَنَزَلُوا مَهْيَعَةَ، فَجَاءَ سَيْلٌ فَاجْتَحَفَهُمْ أَيِ اسْتَأْصَلَهُمْ، فَسُمِّيَتِ الْجُحْفَةَ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ: وَلِأَهْلِ الشَّامِ وَمِصْرَ الْجُحْفَةَ. وَالْمَكَانُ الَّذِي يُحْرِمُ مِنْهُ الْمِصْرِيُّونَ الْآنَ رَابِغُ بِوَزْنِ فَاعِلٍ؛ بِرَاءٍ وَمُوَحَّدَةٍ وَغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ، قَرِيبٌ مِنَ الْجُحْفَةِ، وَاخْتَصَّتِ الْجُحْفَةُ بِالْحُمَّى فَلَا يَنْزِلُهَا أَحَدٌ إِلَّا حُمَّ، كَمَا سَيَأْتِي فِي فَضَائِلِ الْمَدِينَةِ.

قَوْلُهُ: (وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ) أَمَّا نَجْدٌ فَهُوَ كُلُّ مَكَانٍ مُرْتَفِعٌ، وَهُوَ اسْمٌ لِعَشْرَةِ مَوَاضِعَ، وَالْمُرَادُ مِنْهَا هُنَا الَّتِي أَعْلَاهَا تِهَامَةُ وَالْيَمَنُ وَأَسْفَلُهَا الشَّامُ وَالْعِرَاقُ. وَالْمَنَازِلُ بِلَفْظِ جَمْعِ الْمَنْزِلِ، وَالْمُرَكَّبُ الْإِضَافِيُّ هُوَ اسْمُ الْمَكَانِ، وَيُقَالُ لَهُ: قَرْنٌ أَيْضًا بِلَا إِضَافَةٍ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا نُونٌ، وَضَبَطَهُ صَاحِبُ الصِّحَاحِ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَغَلَّطُوهُ، وَبَالَغَ النَّوَوِيُّ فَحَكَى الِاتِّفَاقَ عَلَى تَخْطِئَتِهِ فِي ذَلِكَ، لَكِنْ حَكَى عِيَاضٌ تَعْلِيقَ الْقَابِسِيِّ أَنَّ مَنْ قَالَهُ بِالْإِسْكَانِ أَرَادَ الْجَبَلَ، وَمَنْ قَالَهُ بِالْفَتْحِ أَرَادَ الطَّرِيقَ، وَالْجَبَلُ الْمَذْكُورُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مِنْ جِهَةِ الْمَشْرِقِ مَرْحَلَتَانِ. وَحَكَى الرُّويَانِيُّ عَنْ بَعْضِ قُدَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمَكَانَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: قَرْنٌ، مَوْضِعَانِ: أَحَدُهُمَا فِي هُبُوطٍ وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: قَرْنُ الْمَنَازِلِ. وَالْآخَرُ فِي صُعُودٍ وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: قَرْنُ الثَّعَالِبِ، وَالْمَعْرُوفُ الْأَوَّلُ. وَفِي أَخْبَارِ مَكَّةَ لِلْفَاكِهِيِّ أَنَّ قَرْنَ الثَّعَالِبِ جَبَلٌ مُشْرِفٌ عَلَى أَسْفَلِ مِنًى بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَسْجِدِ مِنًى أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَقِيلَ لَهُ: قَرْنُ الثَّعَالِبِ؛ لِكَثْرَةِ مَا كَانَ يَأْوِي إِلَيْهِ مِنَ الثَّعَالِبِ، فَظَهَرَ أَنَّ قَرْنَ الثَّعَالِبِ لَيْسَ مِنَ الْمَوَاقِيتِ، وَقَدْ وَقَعَ ذِكْرُهُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي إِتْيَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الطَّائِفَ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَرَدِّهُمْ عَلَيْهِ؛ قَالَ: فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ.

الْحَدِيثَ، ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَوَقَعَ فِي مُرْسَلِ عَطَاءٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ: وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ، وَلِمَنْ سَلَكَ نَجْدًا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ وَغَيْرِهِمْ قَرْنَ الْمَنَازِلِ. وَوَقَعَ فِي عِبَارَةِ

ص: 385

الْقَاضِي حُسَيْنٍ فِي سِيَاقِهِ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا: وَلِأَهْلِ نَجْدِ الْيَمَنِ وَنَجْدِ الْحِجَازِ قَرْنَ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِنَّمَا يُوجَدُ ذَلِكَ مِنْ مُرْسَلِ عَطَاءٍ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ؛ فَإِنَّ لِأَهْلِ الْيَمَنِ إِذَا قَصَدُوا مَكَّةَ طَرِيقَيْنِ: إِحْدَاهُمَا طَرِيقُ أَهْلِ الْجِبَالِ وَهُمْ يَصِلُونَ إِلَى قَرْنٍ أَوْ يُحَاذُونَهُ، فَهُوَ مِيقَاتُهُمْ كَمَا هُوَ مِيقَاتُ أَهْلِ الْمَشْرِقِ. وَالْأُخْرَى طَرِيقُ أَهْلِ تِهَامَةَ فَيَمُرُّونَ بِيَلَمْلَمَ أَوْ يُحَاذُونَهُ، وَهُوَ مِيقَاتُهُمْ لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهِ إِلَّا مَنْ أَتَى عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِمْ.

قَوْلُهُ: (وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ) بِفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ وَاللَّامِ وَسُكُونِ الْمِيمِ بَعْدَهَا لَامٌ مَفْتُوحَةٌ ثُمَّ ميم؛ مَكَانٌ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ بَيْنَهُمَا ثَلَاثُونَ مِيلًا، وَيُقَالُ لَهَا: أَلَمْلَمَ؛ بِالْهَمْزَةِ وَهُوَ الْأَصْلُ، وَالْيَاءُ تَسْهِيلٌ لَهَا، وَحَكَى ابْنُ السَّيِّدِ فِيهِ: يَرَمْرَمَ؛ بِرَاءَيْنِ بَدَلَ اللَّامَيْنِ.

(تَنْبِيهٌ): أَبْعَدُ الْمَوَاقِيتِ مِنْ مَكَّةَ ذُو الْحُلَيْفَةَ مِيقَاتُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَقِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ تَعْظُمَ أُجُورُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَقِيلَ: رِفْقًا بِأَهْلِ الْآفَاقِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَقْرَبُ الْآفَاقِ إِلَى مَكَّةَ، أَيْ مِمَّنْ لَهُ مِيقَاتٌ مُعَيَّنٌ.

قَوْلُهُ: (هُنَّ لَهُمْ) أَيِ الْمَوَاقِيتُ الْمَذْكُورَةُ لِأَهْلِ الْبِلَادِ الْمَذْكُورَةِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى كَمَا يَأْتِي فِي بَابِ دُخُولِ مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ بِلَفْظِ: هُنَّ لَهُنَّ؛ أَيِ الْمَوَاقِيتُ لِلْجَمَاعَاتِ الْمَذْكُورَةِ أَوْ لِأَهْلِهِنَّ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَصْلُ، وَوَقَعَ فِي بَابِ مُهَلِّ أَهْلِ الْيَمَنِ بِلَفْظِ: هُنَّ لِأَهْلِهِنَّ كَمَا شَرَحْتُهُ. وَقَوْلُهُ: هُنَّ، ضَمِيرُ جَمَاعَةِ الْمُؤَنَّثِ، وَأَصْلُهُ لِمَنْ يَعْقِلُ، وَقَدِ اسْتُعْمِلَ فِيمَا لَا يَعْقِلُ، لَكِنْ فِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ. وَقَوْلُهُ: وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ؛ أَيْ عَلَى الْمَوَاقِيتِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْبِلَادِ الْمَذْكُورَةِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَنْ دَخَلَ بَلَدًا ذَاتَ مِيقَاتٍ وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْ، فَالَّذِي لَا يَدْخُلُ لَا إِشْكَالَ فِيهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مِيقَاتٌ مُعَيَّنٌ، وَالَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ خِلَافٌ؛ كَالشَّامِيِّ إِذَا أَرَادَ الْحَجَّ فَدَخَلَ الْمَدِينَةَ فَمِيقَاتُهُ ذُو الْحُلَيْفَةِ لِاجْتِيَازِهِ عَلَيْهَا، وَلَا يُؤَخِّرَ حَتَّى يَأْتِيَ الْجُحْفَةَ الَّتِي هِيَ مِيقَاتُهُ الْأَصْلِيُّ، فَإِنْ أَخَّرَ أَسَاءَ وَلَزِمَهُ دَمٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَأَطْلَقَ النَّوَوِيُّ الِاتِّفَاقَ، وَنَفَى الْخِلَافَ فِي شَرْحَيْهِ لِمُسْلِمٍ وَالْمُهَذَّبِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَلَعَلَّهُ أَرَادَ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَإِلَّا فَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ لِلشَّامِيِّ مَثَلًا إِذَا جَاوَزَ ذَا الْحُلَيْفَةِ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ إِلَى مِيقَاتِهِ الْأَصْلِيِّ - وَهُوَ الْجُحْفَةُ - جَازَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْأَفْضَلُ خِلَافَهُ، وَبِهِ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ.

قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: قَوْلُهُ: وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةُ يَشْمَلُ مَنْ مَرَّ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ وَمَنْ لَمْ يَمُرَّ، وَقَوْلُهُ: وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ يَشْمَلُ الشَّامِيَّ إِذَا مَرَّ بِذِي الْحُلَيْفَةِ وَغَيْرِهِ، فَهُنَا عُمُومَانِ قَدْ تَعَارَضَا، انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَيَحْصُلُ الِانْفِكَاكُ عَنْهُ بِأَنَّ قَوْلَهُ: هُنَّ لَهُنَّ مُفَسِّرٌ لِقَوْلِهِ مَثَلًا: وَقَّتَ ل أَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِأَهْلِ الْمَدِينَةِ سَاكِنُوهَا وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقَ سَفَرِهِمْ فَمَرَّ عَلَى مِيقَاتِهِمْ، وَيُؤَيِّدُهُ عِرَاقِيٌّ خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ فَلَيْسَ لَهُ مُجَاوَزَةُ مِيقَاتِ الْمَدِينَةِ غَيْرَ مُحْرِمٍ، وَيَتَرَجَّحُ بِهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَيَنْتَفِي التَّعَارُضُ.

قَوْلُهُ: (مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ) فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ دُخُولِ مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ، وَسَيَأْتِي فِي تَرْجَمَةٍ مُفْرَدَةٍ.

قَوْلُهُ: (وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ)؛ أَيْ بَيْنَ الْمِيقَاتِ وَمَكَّةَ.

قَوْلُهُ: (فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ)؛ أَيْ: فَمِيقَاتُهُ مِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ الْإِحْرَامَ، إِذِ السَّفَرُ مِنْ مَكَانِهِ إِلَى مَكَّةَ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: مِيقَاتُ هَؤُلَاءِ نَفْسُ مَكَّةَ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ حَزْمٍ عَلَى أَنَّ مَنْ لَيْسَ لَهُ مِيقَاتٌ فَمِيقَاتُهُ مِنْ حَيْثُ شَاءَ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِمَنْ كَانَ دُونَ الْمِيقَاتِ، أَيْ إِلَى جِهَةِ مَكَّةَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ سَافَرَ غَيْرَ قَاصِدٍ لِلنُّسُكِ فَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ ثُمَّ بَدَا لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ النُّسُكُ أَنَّهُ يُحْرِمُ مِنْ حَيْثُ تَجَدَّدَ لَهُ الْقَصْدُ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ إِلَى الْمِيقَاتِ؛ لِقَوْلِهِ: فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى أَهْلَ مَكَّةَ) يَجُوزُ فِيهِ الرَّفْعُ وَالْكَسْرُ.

قَوْلُهُ: (مِنْ مَكَّةَ)؛ أَيْ لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى الْخُرُوجِ إِلَى الْمِيقَاتِ لِلْإِحْرَامِ مِنْهُ، بَلْ يُحْرِمُونَ مِنْ مَكَّةَ كَالْآفَاقِيِّ الَّذِي بَيْنَ الْمِيقَاتِ وَمَكَّةَ؛ فَإِنَّهُ يُحْرِمُ مِنْ مَكَانِهِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْمِيقَاتِ لِيُحْرِمَ مِنْهُ، وَهَذَا خَاصٌّ بِالْحَاجِّ، وَاخْتُلِفَ فِي

ص: 386

أَفْضَلِ الْأَمَاكِنِ الَّتِي يُحْرِمُ مِنْهَا كَمَا سَيَأْتِي فِي تَرْجَمَةٍ مُفْرَدَةٍ. وَأَمَّا الْمُعْتَمِرُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى أَدْنَى الْحِلِّ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي أَبْوَابِ الْعُمْرَةِ. قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا جَعَلَ مَكَّةَ مِيقَاتًا لِلْعُمْرَةِ، فَتَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى الْقَارِنِ. وَاخْتُلِفَ فِي الْقَارِنِ؛ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمَ الْحَاجِّ فِي الْإِهْلَالِ مِنْ مَكَّةَ، وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: يَجِبُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ إِلَى أَدْنَى الْحِلِّ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْعُمْرَةَ إِنَّمَا تَنْدَرِجُ فِي الْحَجِّ فِيمَا مَحِلُّهُ وَاحِدٌ كَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ، وَأَمَّا الْإِحْرَامُ فَمَحِلُّهُ فِيهِمَا مُخْتَلِفٌ، وَجَوَابُ هَذَا الْإِشْكَالِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْحِلِّ فِي حَقِّ الْمُعْتَمِرِ أَنْ يَرِدَ عَلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ مِنَ الْحِلِّ فَيَصِحَّ كَوْنُهُ وَافِدًا عَلَيْهِ، وَهَذَا يَحْصُلُ لِلْقَارِنِ لِخُرُوجِهِ إِلَى عَرَفَةَ - وَهِيَ مِنَ الْحِلِّ - وَرُجُوعِهِ إِلَى الْبَيْتِ لِطَوَافِ الْإِفَاضَةِ، فَحَصَلَ الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ أَيْضًا. وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ مُرِيدًا لِلنُّسُكِ فَلَمْ يُحْرِمْ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: يَأْثَمْ وَيَلْزَمُهُ دَمٌ، فَأَمَّا لُزُومُ الدَّمِ فَبِدَلِيلٍ غَيْرِ هَذَا، وَأَمَّا الْإِثْمُ فَلِتَرْكِ الْوَاجِبِ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: فَرَضَهَا، وَسَيَأْتِي بِلَفْظِ: يُهِلُّ وَهُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، وَالْأَمْرُ لَا يَرِدُ بِلَفْظِ الْخَبَرِ إِلَّا إِذَا أُرِيدَ تَأْكِيدُهُ، وَتَأْكِيدُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَسَبَقَ فِي الْعِلْمِ بِلَفْظِ: مِنْ أَيْنَ تَأْمُرُنَا أَنْ نُهِلَّ؟. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ الْمَدِينَةِ. وَذَهَبَ عَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ إِلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ، وَمُقَابِلُهُ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ لَا يَصِحُّ حَجُّهُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَوْ رَجَعَ إِلَى الْمِيقَاتِ قَبْلَ التَّلَبُّسِ بِالنُّسُكِ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: بِشَرْطِ أَنْ يَعُودَ مُلَبِّيًا، وَمَالِكٌ: بِشَرْطِ أَنْ لَا يَبْعُدَ، وَأَحْمَدُ: لَا يَسْقُطُ بِشَيْءٍ.

(تَنْبِيهٌ): الْأَفْضَلُ فِي كُلِّ مِيقَاتٍ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ طَرَفِهِ الْأَبْعَدِ مِنْ مَكَّةَ، فَلَوْ أَحْرَمَ مِنْ طَرَفِهِ الْأَقْرَبِ جَازَ.

‌8 - بَاب مِيقَاتِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَلَا يُهِلُّوا قَبْلَ ذِي الْحُلَيْفَةِ

1525 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وأَهْلُ الشَّامِ مِنْ الْجُحْفَةِ، وَأَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَبَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مِيقَاتِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَلَا يُهِلُّونَ قِبَلَ ذِي الْحُلَيْفَةِ) قَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى هَذَا فِي بَابِ فَرْضِ الْمَوَاقِيتِ، وَاسْتَنْبَطَ الْمُصَنِّفُ مِنْ إِيرَادِ الْخَبَرِ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ مَعَ إِرَادَةِ الْأَمْرِ تَعَيُّنَ ذَلِكَ، وَأَيْضًا فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ حَجَّ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَحْرَمَ قِبَلَ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَلَوْلَا تَعَيُّنُ الْمِيقَاتِ لَبَادَرُوا إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ أَشَقَّ فَيَكُونُ أَكْثَرَ أَجْرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْمَتْنِ فِي الَّذِي قَبْلَهُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (وَبَلَغَنِي. . . إِلَخْ) سَيَأْتِي مِنْ رِوَايَةِ ابْنِهِ سَالِمٍ عَنْهُ بَعْدَ بَابٍ بِلَفْظِ: زَعَمُوا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ، وَلَمْ أَسْمَعْهُ. وَتَقَدَّمَ فِي الْعِلْمِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِلَفْظِ: لَمْ أَفْقَهْ هَذِهِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَهُوَ يُشْعِرُ بِأَنَّ الَّذِي بَلَّغَ ابْنَ عُمَرَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا فِي الْبَابِ قَبْلَهُ، وَمِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَمِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَمِنْ حَدِيثِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو السَّهْمِيِّ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ.

‌9 - بَاب مُهَلِّ أَهْلِ الشَّأْمِ

1526 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ:

ص: 387

وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلِأَهْلِ الشَّأْمِ الْجُحْفَةَ، وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ، وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ؛ فَهُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ لِمَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ فَمُهَلُّهُ مِنْ أَهْلِهِ وَكَذَاكَ، حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ مُهَلِّ أَهْلِ الشَّامِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَ بَابٍ، وَحَمَّادٌ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ.

‌10 - بَاب مُهَلِّ أَهْلِ نَجْدٍ

1527 -

حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَفِظْنَاهُ مِنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ: وَقَّتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.

1528 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مُهَلُّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ذُو الْحُلَيْفَةِ، وَمُهَلُّ أَهْلِ الشَّأْمِ مَهْيَعَةُ وَهِيَ الْجُحْفَةُ، وَأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنٌ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: زَعَمُوا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ - وَلَمْ أَسْمَعْهُ: وَمُهَلُّ أَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مُهَلِّ أَهْلِ نَجْدٍ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ مِنْ طَرِيقَيْنِ إِلَى الزُّهْرِيِّ، فَعَلِيٌّ شَيْخُهُ فِي الْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ هُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ، وَأَحْمَدُ فِي الثَّانِي هُوَ ابْنُ عِيسَى كَمَا ثَبَتَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ قَرِيبًا.

‌11 - بَاب مُهَلِّ مَنْ كَانَ دُونَ الْمَوَاقِيتِ

1529 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلِأَهْلِ الشَّأْمِ الْجُحْفَةَ، وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ، وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا؛ فَهُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ مِمَّنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ فَمِنْ أَهْلِهِ، حَتَّى إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ مُهَلِّ مَنْ كَانَ دُونَ الْمَوَاقِيتِ)؛ أَيْ دُونَهَا إِلَى مَكَّةَ. أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَحَمَّادٌ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ، وَعَمْرٌو هُوَ ابْنُ دِينَارٍ.

‌12 - بَاب مُهَلِّ أَهْلِ الْيَمَنِ

1530 -

حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلِأَهْلِ الشَّأْمِ الْجُحْفَةَ، وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ، وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ؛ هُنَّ لِأَهْلِهِنَّ وَلِكُلِّ آتٍ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، فَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ

ص: 388

حَيْثُ أَنْشَأَ، حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مُهَلِّ أَهْلِ الْيَمَنِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَقَدْ سَبَقَ مَا فِيهِ.

(تَكْمِيلٌ): حَكَى الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سُئِلَ فِي أَيِّ سَنَةٍ وَقَّتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَوَاقِيتَ؟ فَقَالَ: عَامَ حَجَّ، انْتَهَى. وَقَدْ سَبَقَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي الْعِلْمِ بِلَفْظِ أَنَّ رَجُلًا قَامَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مِنْ أَيْنَ تَأْمُرُنَا أَنْ نُهِلَّ؟

‌13 - بَاب ذَاتُ عِرْقٍ لِأهْلِ الْعِرَاقِ

1531 -

حَدَّثَنا عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا فُتِحَ هَذَانِ الْمِصْرَانِ أَتَوْا عُمَرَ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّ لِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا وَهُوَ جَوْرٌ عَنْ طَرِيقِنَا، وَإِنَّا إِنْ أَرَدْنَا قَرْنًا شَقَّ عَلَيْنَا. قَالَ: فَانْظُرُوا حَذْوَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ. فَحَدَّ لَهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ ذَاتِ عِرْقٍ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ) هِيَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا قَافٌ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ فِيهِ عِرْقًا؛ وَهُوَ الْجَبَلُ الصَّغِيرُ، وَهِيَ أَرْضٌ سَبِخَةٌ تُنْبِتُ الطَّرْفَاءَ، بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ مَرْحَلَتَانِ، وَالْمَسَافَةُ اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا، وَهُوَ الْحَدُّ الْفَاصِلُ بَيْنَ نَجْدٍ وَتِهَامَةَ.

قَوْلُهُ: (لَمَّا فُتِحَ هَذَانِ الْمِصْرَانِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِضَمِّ فُتِحَ عَلَى الْبِنَاءِ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: لَمَّا فَتَحَ هَذَيْنِ الْمِصْرَيْنِ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالتَّاءِ عَلَى حَذْفِ الْفَاعِلِ، وَالتَّقْدِيرُ: لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ. وَكَذَا ثَبَتَ فِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ وَبِهِ جَزَمَ عِيَاضٌ. وَأَمَّا ابْنُ مَالِكٍ فَقَالَ: تَنَازَعَ فَتَحَ وَأَتَوْا، وَهُوَ عَلَى إِعْمَالِ الثَّانِي وَإِسْنَادِ الْأَوَّلِ إِلَى ضَمِيرِ عُمَرَ. وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ مُخْتَصَرًا، وَزَادَ فِي الْإِسْنَادِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ حَدَّ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ. وَالْمِصْرَانِ تَثْنِيَةُ مِصْرَ، وَالْمُرَادُ بِهِمَا الْكُوفَةُ وَالْبَصْرَةُ، وَهُمَا سُرَّتَا الْعِرَاقِ. وَالْمُرَادُ بِفَتْحِهِمَا غَلَبَةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَكَانِ أَرْضِهِمَا، وَإِلَّا فَهُمَا مِنْ تَمْصِيرِ الْمُسْلِمِينَ.

قَوْلُهُ: (وَهُوَ جَوْرٌ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا رَاءٌ؛ أَيْ مَيْلٌ. وَالْجَوْرُ الْمَيْلُ عَنِ الْقَصْدِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَمِنْهَا جَائِرٌ}

قَوْلُهُ: (فَانْظُرُوا حَذْوَهَا)؛ أَيِ اعْتَبِرُوا مَا يُقَابِلُ الْمِيقَاتَ مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي تَسْلُكُونَهَا مِنْ غَيْرِ مَيْلٍ فَاجْعَلُوهُ مِيقَاتًا، وَظَاهِرُهُ أَنَّ عُمَرَ حَدَّ لَهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُ، وَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الشَّعْثَاءِ قَالَ: لَمْ يُوَقِّتْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ شَيْئًا، فَاتَّخَذَ النَّاسُ بِحِيَالِ قَرْنٍ ذَاتَ عِرْقٍ. وَرَوَى أَحْمَدُ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَغَيْرِهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَذَكَرَ حَدِيثَ الْمَوَاقِيتِ وَزَادَ فِيهِ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَآثَرَ النَّاسُ ذَاتَ عِرْقٍ عَلَى قَرْنٍ. وَلَهُ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ صَدَقَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَذَكَرَ حَدِيثَ الْمَوَاقِيتِ؛ قَالَ: فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: فَأَيْنَ الْعِرَاقُ؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ عِرَاقٌ. وَسَيَأْتِي فِي الِاعْتِصَامِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمْ يَكُنْ عِرَاقٌ يَوْمَئِذٍ، وَوَقَعَ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ لِلدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ الْعِرَاقِ قَرْنًا. قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: قَالَ لِي بَعْضُهُمْ: إِنَّ مَالِكًا مَحَاهُ مِنْ كِتَابِهِ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ. قُلْتُ: وَالْإِسْنَادُ إِلَيْهِ ثِقَاتٌ أَثْبَاتٌ، وَأَخْرَجَهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ عَنْهُ، وَهُوَ غَرِيبٌ جِدًّا، وَحَدِيثُ الْبَابِ يَرُدُّهُ.

وَرَوَى الشَّافِعِيُّ مِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ قَالَ: لَمْ يُوَقِّتْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ عِرْقٍ، وَلَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ أَهْلُ الْمَشْرِقِ وَقَالَ فِي الْأُمِّ: لَمْ يَثْبُتْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ حَدَّ ذَاتَ عِرْقٍ، وَإِنَّمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ النَّاسَ. وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِيقَاتَ ذَاتِ عِرْقٍ لَيْسَ

ص: 389

مَنْصُوصًا، وَبِهِ قَطَعَ الْغَزَالِيُّ، وَالرَّافِعِيُّ فِي شَرْحِ الْمُسْنَدِ وَالنَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَكَذَا وَقَعَ فِي الْمُدَوَّنَةِ لِمَالِكٍ، وَصَحَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَجُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ وَالرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ وَالنَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ أَنَّهُ مَنْصُوصٌ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ إِلَّا أَنَّهُ مَشْكُوكٌ فِي رَفْعِهِ؛ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا يَسْأَلُ عَنِ الْمُهَلِّ، فَقَالَ: سَمِعْتُ - أَحْسِبُهُ رُفِعَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي مُسْتَخْرَجِهِ بِلَفْظِ: فَقَالَ: سَمِعْتُ، أَحْسَبُهُ يُرِيدُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ لَهِيعَةَ، وَابنِ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ؛ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، فَلَمْ يَشُكَّا فِي رَفْعِهِ.

وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَفِي حَدِيثِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو السَّهْمِيِّ كِلَاهُمَا عِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْحَدِيثِ أَصْلًا، فَلَعَلَّ مَنْ قَالَ إِنَّهُ غَيْرُ مَنْصُوصٍ لَمْ يَبْلُغْهُ أَوْ رَأَى ضَعْفَ الْحَدِيثِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلَّ طَرِيقٍ لَا يَخْلُو عَنْ مَقَالٍ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: رُوِيَتْ فِي ذَاتِ عِرْقٍ أَخْبَارٌ لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْهَا عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَمْ نَجِدْ فِي ذَاتِ عِرْقٍ حَدِيثًا ثَابِتًا، انْتَهَى. لَكِنَّ الْحَدِيثَ بِمَجْمُوعِ الطُّرُقِ يَقْوَى كَمَا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا إِعْلَالُ مَنْ أَعَلَّهُ بِأَنَّ الْعِرَاقَ لَمْ تَكُنْ فُتِحَتْ يَوْمَئِذٍ، فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هِيَ غَفْلَةٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ الْمَوَاقِيتَ لِأَهْلِ النَّوَاحِي قَبْلَ الْفُتُوحِ، لَكِنَّهُ عَلِمَ أَنَّهَا سَتُفْتَحُ، فَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، انْتَهَى. وَبِهَذَا أَجَابَ الْمَاوَرْدِيُّ وَآخَرُونَ، لَكِنْ يَظْهَرُ لِي أَنَّ مُرَادَ مِنْ قَالَ لَمْ يَكُنِ الْعِرَاقُ يَوْمَئِذٍ؛ أَيْ لَمْ يَكُنْ فِي تِلْكَ الْجِهَةِ نَاسٌ مُسْلِمُونَ، وَالسَّبَبُ فِي قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ ذَلِكَ أَنَّهُ رَوَى الْحَدِيثَ بِلَفْظِ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مِنْ أَيْنَ تَأْمُرُنَا أَنْ نُهِلَّ؟ فَأَجَابَهُ. وَكُلُّ جِهَةٍ عَيَّنَهَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ كَانَ مِنْ قِبَلِهَا نَاسٌ مُسْلِمُونَ بِخِلَافِ الْمَشْرِقِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ الْعَقِيقَ، فَقَدْ تَفَرَّدَ بِهِ يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَإِنْ كَانَ حَفِظَهُ فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ جَابِرٍ وَغَيْرِهِ بِأَجْوِبَةٍ، مِنْهَا أَنَّ ذَاتَ عِرْقٍ مِيقَاتُ الْوُجُوبِ، وَالْعَقِيقَ مِيقَاتُ الِاسْتِحْبَابِ؛ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ. وَمِنْهَا أَنَّ الْعَقِيقَ مِيقَاتٌ لِبَعْضِ الْعِرَاقِيِّينَ وَهُمْ أَهْلُ الْمَدَائِنِ، وَالْآخَرُ مِيقَاتٌ لِأَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَقَعَ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ لِأَنَسٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. وَمِنْهَا أَنَّ ذَاتَ عِرْقٍ كَانَتْ أَوَّلًا فِي مَوْضِعِ الْعَقِيقِ الْآنَ ثُمَّ حُوِّلَتْ وَقُرِّبَتْ إِلَى مَكَّةَ، فَعَلَى هَذَا فَذَاتُ عِرْقٍ وَالْعَقِيقُ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَيَتَعَيَّنُ الْإِحْرَامُ مِنَ الْعَقِيقِ، وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا قَالُوا: يُسْتَحَبُّ احْتِيَاطًا. وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ أَنَّهُ كَانَ يُحْرِمُ مِنَ الرَّبَذَةِ؛ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَخُصَيْفٌ الْجَزَرِيُّ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَهُوَ أَشْبَهُ فِي النَّظَرِ إِنْ كَانَتْ ذَاتُ عِرْقٍ غَيْرَ مَنْصُوصَةٍ، وَذَلِكَ أَنَّهَا تُحَاذِي ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَذَاتُ عِرْقٍ بَعْدَهَا، وَالْحُكْمُ فِيمَنْ لَيْسَ لَهُ مِيقَاتٌ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ أَوَّلِ مِيقَاتٍ يُحَاذِيهِ، لَكِنْ لَمَّا سَنَّ عُمَرُ ذَاتَ عِرْقٍ وَتَبِعَهُ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ الْعَمَلُ كَانَ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ.

وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ لَيْسَ لَهُ مِيقَاتٌ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ إِذَا حَاذَى مِيقَاتًا مِنْ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ الْخَمْسَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهَا مُحِيطَةٌ بِالْحَرَمِ، فَذُو الْحُلَيْفَةِ شَامِيَّةٌ، وَيَلَمْلَمُ يَمَانِيَةٌ، فَهِيَ مُقَابِلُهَا، وَإِنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا أَقْرَبَ إِلَى مَكَّةَ مِنَ الْأُخْرَى، وَقَرْنٌ شَرْقِيَّةٌ، وَالْجُحْفَةُ غَرْبِيَّةٌ، فَهِيَ مُقَابِلُهَا، وَإِنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا كَذَلِكَ، وَذَاتُ عِرْقٍ تُحَاذِي قَرْنًا، فَعَلَى هَذَا فَلَا تَخْلُو بُقْعَةٌ مِنْ بِقَاعِ الْأَرْضِ مِنْ أَنْ تُحَاذِيَ مِيقَاتًا مِنْ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ، فَبَطَلَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَنْ لَيْسَ لَهُ مِيقَاتٌ وَلَا يُحَاذِي مِيقَاتًا هَلْ يُحْرِمُ مِنْ مِقْدَارٍ أَبْعَدَ مِنَ الْمَوَاقِيتِ أَوْ أَقْرَبَهَا؟ ثُمَّ حَكَى فِيهِ خِلَافًا، وَالْفَرْضُ أَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ لَا تَتَحَقَّقُ لِمَا قُلْتُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَائِلُهُ فَرَضَهُ فِيمَنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى الْمُحَاذَاةِ كَمَنْ يَجْهَلُهَا، وَقَدْ نَقَلَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يُحْرِمَ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ اعْتِبَارًا بِقَوْلِ عُمَرَ هَذَا فِي تَوْقِيتِهِ ذَاتَ عِرْقِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ عُمَرَ إِنَّمَا حَدَّهَا

ص: 390

لِأَنَّهَا تُحَاذِي قَرْنًا، وَهَذِهِ الصُّورَةُ إِنَّمَا هِيَ حَيْثُ يَجْهَلُ الْمُحَاذَاةَ، فَلَعَلَّ الْقَائِلَ بِالْمَرْحَلَتَيْنِ أَخَذَ بِالْأَقَلِّ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَيْهِ مَشْكُوكٌ فِيهِ، لَكِنَّ مُقْتَضَى الْأَخْذِ بِالِاحْتِيَاطِ أَنْ يُعْتَبَرَ الْأَكْثَرُ الْأَبْعَدُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ مَنْ عَنْ يَمِينِ الْكَعْبَةِ وَبَيْنَ مَنْ عَنْ شِمَالِهَا؛ لِأَنَّ الْمَوَاقِيتَ الَّتِي عَنْ يَمِينِهَا أَقْرَبُ مِنَ الَّتِي عَنْ شِمَالِهَا، فَيُقَدَّرُ لِلْيَمِينِ الْأَقْرَبُ وَلِلشِّمَالِ الْأَبْعَدُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ إِنَّ مَشْرُوعِيَّةَ الْمُحَاذَاةِ مُخْتَصَّةٌ بِمَنْ لَيْسَ لَهُ أَمَامَهُ مِيقَاتٌ مُعَيَّنٌ، فَأَمَّا مَنْ لَهُ مِيقَاتٌ مُعَيَّنٌ كَالْمِصْرِيِّ مَثَلًا يَمُرُّ بِبَدْرٍ وَهِيَ تُحَاذِي ذَا الْحُلَيْفَةِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ مِنْهَا، بَلْ لَهُ التَّأْخِيرُ حَتَّى يَأْتِيَ الْجُحْفَةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(تَنْبِيهٌ): الْعَقِيقُ الْمَذْكُورُ هُنَا وَادٍ يَتَدَفَّقُ مَاؤُهُ فِي غَوْرَيْ تِهَامَةَ، وَهُوَ غَيْرُ الْعَقِيقِ الْمَذْكُورِ بَعْدَ بَابَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.

‌14 - بَاب

1532 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَاخَ بِالْبَطْحَاءِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَصَلَّى بِهَا، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَفْعَلُ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (بَابٌ) كَذَا فِي الْأُصُولِ بِغَيْرِ تَرْجَمَةٍ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْفَصْلِ مِنَ الْأَبْوَابِ الَّتِي قَبْلَهُ، وَمُنَاسَبَتُهُ لَهَا مِنْ جِهَةِ دَلَالَةِ حَدِيثِهِ عَلَى اسْتِحْبَابِ صَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ إِرَادَةِ الْإِحْرَامِ مِنَ الْمِيقَاتِ، وَقَدْ تَرْجَمَ عَلَيْهِ بَعْضُ الشَّارِحِينَ: نُزُولُ الْبَطْحَاءِ وَالصَّلَاةُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، وَحَكَى الْقُطْبُ أَنَّهُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ قَالَ: وَسَقَطَ فِي نُسْخَةِ سَمَاعِنَا لَفْظُ بَابٌ وَفِي شَرْحِ ابْنِ بَطَّالٍ: الصَّلَاةُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ.

قَوْلُهُ: (أَنَاخَ) بِالنُّونِ وَالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ؛ أَيْ أَبْرَكَ بَعِيرَهُ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ نَزَلَ بِهَا، وَالْبَطْحَاءُ قَدْ بَيَّنَ أَنَّهَا الَّتِي بِذِي الْحُلَيْفَةِ. وَقَوْلُهُ: فَصَلَّى بِهَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِلْإِحْرَامِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِلْفَرِيضَةِ، وَسَيَأْتِي مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أنَّ هَذَا النُّزُولِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي الذَّهَابِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ تَصَرُّفِ الْمُصَنِّفِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي الرُّجُوعِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي بَعْدَهُ بِلَفْظِ: وَإِذَا رَجَعَ صَلَّى بِذِي الْحُلَيْفَةِ بِبَطْنِ الْوَادِي وَبَاتَ حَتَّى أَصْبَحَ. وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ الْأَمْرَيْنِ ذَهَابًا وَإِيَابًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌15 - بَاب خُرُوجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى طَرِيقِ الشَّجَرَةِ

1533 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْرُجُ مِنْ طَرِيقِ الشَّجَرَةِ وَيَدْخُلُ مِنْ طَرِيقِ الْمُعَرَّسِ، وَإنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ يُصَلِّي فِي مسْجِدِ الشَّجَرَةِ، وَإِذَا رَجَعَ صَلَّى بِذِي الْحُلَيْفَةِ بِبَطْنِ الْوَادِي وَبَاتَ حَتَّى يُصْبِحَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ خُرُوجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى طَرِيقِ الشَّجَرَةِ)، قَالَ عِيَاضٌ: هُوَ مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ عَلَى طَرِيقِ مَنْ أَرَادَ الذَّهَابَ إِلَى مَكَّةَ مِنَ الْمَدِينَةِ، كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ فَيَبِيتُ بِهَا، وَإِذَا رَجَعَ بَاتَ بِهَا أَيْضًا، وَدَخَلَ عَلَى طَرِيقِ الْمُعَرَّسِ - بِفَتْحِ الرَّاءِ الْمُثَقَّلَةِ وَالْمُهْمَلَتَيْنِ - وَهُوَ مَكَانٌ مَعْرُوفٌ أَيْضًا، وَكُلٌّ مِنَ الشَّجَرَةِ وَالْمُعَرَّسِ عَلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، لَكِنَّ الْمُعَرَّسَ أَقْرَبُ، وَسَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ مَزِيدُ بَيَانٍ فِي ذَلِكَ. قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ ذَلِكَ كَمَا يَفْعَلُ فِي الْعِيدِ؛ يَذْهَبُ مِنْ طَرِيقٍ وَيَرْجِعُ مِنْ أُخْرَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي حِكْمَةِ ذَلِكَ مَبْسُوطًا. وَقَدْ قَالَ

ص: 391

بَعْضُهُمْ: إِنَّ نُزُولَهُ هُنَاكَ لَمْ يَكُنْ قَصْدًا، وَإِنَّمَا كَانَ اتِّفَاقًا، حَكَاهُ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي فِي أَحْكَامِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَتَعَقَّبَهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَانَ قَصْدًا لِئَلَّا يَدْخُلَ الْمَدِينَةَ لَيْلًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَبَاتَ حَتَّى يُصْبِحَ وَلِمَعْنًى فِيهِ وَهُوَ التَّبَرُّكُ بِهِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.

وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ حَدِيثِ البابِ فِي أَوَاخِرِ أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ، وَسِيَاقُهُ هُنَاكَ أَبْسَطُ مِنْ هَذَا.

‌16 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: الْعَقِيقُ وَادٍ مُبَارَكٌ

1534 -

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، وَبِشْرُ بْنُ بَكْرٍ التِّنِّيسِيُّ؛ قَالَا: حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنا يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنِي عِكْرِمَةُ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ إِنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ رضي الله عنه يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِوَادِي الْعَقِيقِ يَقُولُ: أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي فَقَالَ: صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ وَقُلْ: عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ.

[الحديث 1534 - طرفاه في: 2337، 7343]

1535 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ قَالَ حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه "عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ رُئِيَ وَهُوَ فِي مُعَرَّسٍ بِذِي الْحُلَيْفَةِ بِبَطْنِ الْوَادِي قِيلَ لَهُ إِنَّكَ بِبَطْحَاءَ مُبَارَكَةٍ وَقَدْ أَنَاخَ بِنَا سَالِمٌ يَتَوَخَّى بِالْمُنَاخِ الَّذِي كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُنِيخُ يَتَحَرَّى مُعَرَّسَ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم وَهُوَ أَسْفَلُ مِنْ الْمَسْجِدِ الَّذِي بِبَطْنِ الْوَادِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الطَّرِيقِ وَسَطٌ مِنْ ذَلِكَ"

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: الْعَقِيقُ وَادٍ مُبَارَكٌ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ عُمَرَ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّمَا حَكَاهُ عَنِ الْآتِي الَّذِي أَتَاهُ. لَكِنْ رَوَى أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الزُّهْرِيِّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: تَخَيَّمُوا بِالْعَقِيقِ؛ فَإِنَّهُ مُبَارَكٌ. فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى هَذَا. وَقَوْلُهُ: تَخَيَّمُوا بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالتَّحْتَانِيَّةِ أَمْرٌ بِالتَّخَيُّمِ، وَالْمُرَادُ بِهِ النُّزُولُ هُنَاكَ. وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ عَنْ حَمْزَةَ الْأَصْبَهَانِيِّ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي كِتَابِ التَّصْحِيفِ أَنَّ الرِّوَايَةَ بِالتَّحْتَانِيَّةِ تَصْحِيفٌ، وَأَنَّ الصَّوَابَ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقَانِيَّةِ، وَلِمَا قَالَهُ اتِّجَاهٌ، لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي مُعْظَمِ الطُّرُقِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْخَاتَمِ، وَهُوَ مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنْ هِشَامٍ بِلَفْظِهِ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ: تَخَتَّمُوا بِالْعَقِيقِ، فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي بِهِ مِنَ الْجَنَّةِ، الْحَدِيثَ. وَأَسَانِيدُهُ ضَعِيفَةٌ.

قَوْلُهُ: (آتٍ مِنْ رَبِّي) هُوَ جِبْرِيلُ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ) يَعْنِي وَادِيَ الْعَقِيقِ، وَهُوَ بِقُرْبِ الْبَقِيعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ. رَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ أَنَّ تُبَّعًا لَمَّا رَجَعَ مِنَ الْمَدِينَةِ انْحَدَرَ فِي مَكَانٍ فَقَالَ: هَذَا عَقِيقُ الْأَرْضِ، فَسُمِّيَ الْعَقِيقَ.

قَوْلُهُ: (وَقُلْ: عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ) بِرَفْعِ عُمْرَةٍ لِلْأَكْثَرِ، وَبِنَصْبِهَا لِأَبِي ذَرٍّ عَلَى حِكَايَةِ اللَّفْظِ؛ أَيْ قُلْ: جَعَلْتُهَا عُمْرَةً، وَهَذَا دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ قَارِنًا، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ بَعْدَ أَبْوَابٍ. وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ عُمْرَةٌ مُدْرَجَةٌ فِي حَجَّةٍ؛ أَيْ أنَّ عَمَلَ الْعُمْرَةِ يَدْخُلُ فِي عَمَلِ الْحَجِّ، فَيُجْزِي لَهَمَا طَوَافٌ وَاحِدٌ، وَقَالَ: مِنْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَعْتَمِرُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ بَعْدَ فَرَاغِ حَجِّهِ. وَهَذَا أَبْعَدُ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ. نَعَمْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَمَرَ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ لِأَصْحَابِهِ لِيُعَلِّمَهُمْ مَشْرُوعِيَّةَ الْقِرَانِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ؛ قَالَهُ الطَّبَرِيُّ. وَاعْتَرَضَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ فَقَالَ: لَيْسَ نَظِيرُهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: دَخَلْتْ. . . إِلَخْ تَأْسِيسُ قَاعِدَةٍ، وَقَوْلُهُ: عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ بِالتَّنْكِيرِ يَسْتَدْعِي

ص: 392

الْوَحْدَةَ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْفِعْلِ الْوَاقِعِ مِنَ الْقِرَانِ إِذْ ذَاكَ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا يَأْتِي فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ بِلَفْظِ عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ بِوَاوِ الْعَطْفِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ بَعْدَ أَبْوَابٍ. وَفِي الْحَدِيثِ فَضْلُ الْعَقِيقِ كَفَضْلِ الْمَدِينَةِ وَفَضْلُ الصَّلَاةِ فِيهِ، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ نُزُولِ الْحَاجِّ فِي مَنْزِلَةٍ قَرِيبَةٍ مِنَ الْبَلَدِ وَمَبِيتِهِمْ بِهَا لِيَجْتَمِعَ إِلَيْهِمْ مَنْ تَأَخَّرَ عَنْهُمْ مِمَّنْ أَرَادَ مُرَافَقَتَهُمْ، وَلِيَسْتَدْرِكَ حَاجَتَهُ مَنْ نَسِيَهَا مَثَلًا فَيَرْجِعَ إِلَيْهَا مِنْ قَرِيبٍ.

قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ (أَنَّهُ أُرِيَ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ؛ أَيْ فِي الْمَنَامِ. وَفِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ: رُؤيَ بِتَقْدِيمِ الرَّاءِ؛ أَيْ رَآهُ غَيْرُهُ.

قَوْلُهُ: (وَهُوَ مُعَرَّسٌ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فِي مُعَرَّسٍ بِالتَّنْوِينِ، وَقَوْلُهُ: بِبَطْنِ الْوَادِي تَبَيَّنَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي قَبْلَهُ أَنَّهُ وَادِي الْعَقِيقِ.

قَوْلُهُ: (وَقَدْ أَنَاخَ بِنَا سَالِمٌ) هُوَ مَقُولُ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ الرَّاوِي عَنْهُ، وَقَوْلُهُ: يَتَوَخَّى بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ يَقْصِدُ، وَالْمُنَاخُ بِضَمِّ الْمِيمِ الْمَبْرَكُ.

قَوْلُهُ: (وَهُوَ أَسْفَلَ) بِالنَّصْبِ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ، وَالْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ الَّذِي كَانَ هُنَاكَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ. وَقَوْلُهُ: بَيْنَهُ أَيْ بَيْنَ الْمُعَرَّسِ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ: بَيْنَهُمْ؛ أَيْ بَيْنَ النَّازِلِينَ وَبَيْنَ الطَّرِيقِ، وَقَوْلُهُ: وَسَطٌ مِنْ ذَلِكَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ؛ أَيْ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ بَطْنِ الْوَادِي وَبَيْنَ الطَّرِيقِ، وَعِنْدَ أَبِي ذَرٍّ: وَسَطًا مِنْ ذَلِكَ بِالنَّصْبِ.

‌17 - بَاب غَسْلِ الْخَلُوقِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ الثِّيَابِ

1536 -

قَالَ أَبُو عَاصِمٍ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ يَعْلَى أَخْبَرَهُ أَنَّ يَعْلَى قَالَ لِعُمَرَ رضي الله عنه: أَرِنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حِينَ يُوحَى إِلَيْهِ. قَالَ: فَبَيْنَمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْجِعْرَانَةِ وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَهُوَ مُتَضَمِّخٌ بِطِيبٍ؟ فَسَكَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَاعَةً، فَجَاءَهُ الْوَحْيُ، فَأَشَارَ عُمَرُ رضي الله عنه إِلَى يَعْلَى، فَجَاءَ يَعْلَى - وَعَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَوْبٌ قَدْ أُظِلَّ بِهِ - فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُحْمَرُّ الْوَجْهِ وَهُوَ يَغِطُّ، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَقَالَ: أَيْنَ الَّذِي سَأَلَ عَنْ الْعُمْرَةِ؟ فَأُتِيَ بِرَجُلٍ، فَقَالَ: اغْسِلْ الطِّيبَ الَّذِي بِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَانْزِعْ عَنْكَ الْجُبَّةَ، وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِي حَجَّتِكَ. قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَرَادَ الْإِنْقَاءَ حِينَ أَمَرَهُ أَنْ يَغْسِلَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؟ قَالَ: نَعَمْ.

[الحديث 1536 - أطرافه في: 1789، 1847، 4329، 4985]

قَوْلُهُ: (بَابُ غَسْلِ الْخَلُوقِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنَ الثِّيَابِ) الْخَلُوقُ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ نَوْعٌ مِنَ الطِّيبِ مُرَكَّبٌ فِيهِ زَعْفَرَانٌ.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو عَاصِمٍ) هُوَ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ وَلَمْ أَرَهُ عَنْهُ إِلَّا بِصِيغَةِ التَّعْلِيقِ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فَقَالَ: ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ بِلَا خَبَرٍ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فَقَالَ: ذُكِرَهُ بِلَا رِوَايَةٍ. وَحَكَى الْكِرْمَانِيُّ أَنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ. وَمُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ مَعْمَرٍ أَوِ ابْنُ بَشَّارٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْبُخَارِيُّ، وَلَمْ يَقَعْ فِي الْمَتْنِ ذِكْرُ الْخَلُوقِ وَإِنَّمَا أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ وَهُوَ فِي أَبْوَابِ الْعُمْرَةِ بِلَفْظِ: وَعَلَيْهِ أَثَرُ الْخَلُوقِ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ يَعْلَى) هُوَ ابْنُ أُمَيَّةَ التَّمِيمِيُّ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ مُنْيَةَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ النُّونِ وَفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ، وَهِيَ أُمُّهُ، وَقِيلَ: جَدَّتُهُ، وَهُوَ وَالِدُ صَفْوَانَ الَّذِي رَوَى عَنْهُ، وَلَيْسَتْ رِوَايَةُ صَفْوَانَ عَنْهُ لِهَذَا الْحَدِيثِ بِوَاضِحَةٍ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِيهَا: إِنَّ يَعْلَى قَالَ لِعُمَرَ، وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّ يَعْلَى أَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ، فَإِنْ يَكُنْ صَفْوَانُ حَضَرَ مُرَاجَعَتَهُمَا وَإِلَّا فَهُوَ مُنْقَطِعٌ، لَكِنْ سَيَأْتِي فِي أَبْوَابِ الْعُمْرَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: عَنْ صَفْوَانِ بْنِ يَعْلَى، عَنْ أَبِيهِ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (جَاءهَ رَجُلٌ) سَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ

ص: 393

بِلَفْظِ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، لَكِنْ ذَكَرَ ابْنُ فَتْحُونٍ فِي الذَّيْلِ عَنْ تَفْسِيرِ الطُّرْطُوشِيِّ أَنَّ اسْمَهُ عَطَاءُ بْنُ مُنْيَةَ، قَالَ ابْنُ فَتْحُونٍ: إِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ فَهُوَ أَخُو يَعْلَى بْنِ مُنْيَةَ رَاوِي الْخَبَرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَطَأٌ مِنَ اسْمِ الرَّاوِي، فَإِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ عَطَاءٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى بْنِ مُنْيَةَ عَنْ أَبِيهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ بَيْنَ عَطَاءٍ، وَيَعْلَى أَحَدًا، وَوَقَعَ فِي شَرْحِ شَيْخِنَا سِرَاجِ الدِّينِ بْنِ الْمُلَقِّنِ مَا نَصُّهُ: هَذَا الرَّجُلُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَمْرَو بْنَ سَوَادٍ؛ إِذْ فِي كِتَابِ الشِّفَاءِ لِلْقَاضِي عِيَاضٍ عَنْهُ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا مُتَخَلِّقٌ، فَقَالَ: وَرْسٌ وَرْسٌ، حُطَّ حُطَّ، وَغَشِيَنِي بِقَضِيبٍ بِيَدِهِ فِي بَطْنِي فَأَوْجَعَنِي، الْحَدِيثَ. فَقَالَ شَيْخُنَا: لَكِنْ عَمْرٌو هَذَا لَا يُدْرَكُ ذَا، فَإِنَّهُ صَاحِبُ ابْنِ وَهْبٍ. انْتَهَى كَلَامُهُ.

وَهُوَ مُعْتَرَضٌ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ أَمَّا أَوَّلًا فَلَيْسَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ شَبِيهَةً بِهَذِهِ الْقِصَّةِ حَتَّى يُفَسَّرَ صَاحِبُهَا بِهَا، وَأَمَّا ثَانِيًا فَفِي الِاسْتِدْرَاكِ غَفْلَةٌ عَظِيمَةٌ لِأَنَّ مَنْ يَقُولُ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، لَا يُتَخَيَّلُ فِيهِ أَنَّهُ صَاحِبُ ابْنِ وَهْبٍ صَاحِبِ مَالِكٍ، بَلْ إِنْ ثَبَتَ فَهُوَ آخَرُ وَافَقَ اسْمُهُ اسْمَهُ وَاسْمُ أَبِيهِ اسْمَ أَبِيهِ، وَالْفَرْضُ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لِأَنَّهُ انْقَلَبَ عَلَى شَيْخِنَا، وإِنَّمَا الَّذِي فِي الشِّفَاءِ سَوَادُ بْنُ عَمْرٍو، وَقِيلَ: سَوَادَةُ بْنُ عَمْرٍو، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْمَذْكُورَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ وَالْبَغَوِيُّ فِي مُعْجَمِ الصَّحَابَةِ، وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَفْصِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ يَعْلَى أَنَّهُ مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُتَخَلِّقٌ، فَقَالَ: أَلَكَ امْرَأَةٌ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: اذْهَبْ فَاغْسِلْهُ. فَقَدْ يَتَوَهَّمُ مَنْ لَا خِبْرَةَ لَهُ أَنَّ يَعْلَى بْنَ أُمَيَّةَ هُوَ صَاحِبُ الْقِصَّةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ رَاوِيَ هَذَا الْحَدِيثِ يَعْلَى بْنُ مُرَّةَ الثَّقَفِيُّ، وَهِيَ قِصَّةٌ أُخْرَى غَيْرُ قِصَّةِ صَاحِبِ الْإِحْرَامِ. نَعَمْ رَوَى الطَّحَاوِيُّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ يَعْلَى بْنَ أُمَيَّةَ صَاحِبَ الْقِصَّةِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ شُعَيْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ - هُوَ ابْنُ زِيَادٍ الْوَضَّاحِيُّ - حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ أَحْرَمَ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَنْزِعَهَا. قَالَ قَتَادَةُ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: إِنَّمَا كُنَّا نَرَى أَنْ نَشُقَّهَا، فَقَالَ عَطَاءٌ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ.

قَوْلُهُ: (قَدْ أُظِلَّ بِهِ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ؛ أَيْ جُعِلَ عَلَيْهِ كَالظُّلَّةِ. وَوَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَئِذٍ؛ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ - وَهُوَ الْإِتْمَامُ - يَسْتَدْعِي وُجُوبَ اجْتِنَابِ مَا يَقَعُ فِي الْعُمْرَةِ.

قَوْلُهُ: (يَغِطُّ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ؛ أَيْ يَنْفُخُ. وَالْغَطِيطُ صَوْتُ النَّفْسِ الْمُتَرَدِّدِ مِنَ النَّائِمِ أَوِ الْمُغْمَى، وَسَبَبُ ذَلِكَ شِدَّةُ ثِقَلِ الْوَحْيِ، وَكَانَ سَبَبُ إِدْخَالِ يَعْلَى رَأْسَهُ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ لَوْ رَآهُ فِي حَالَةِ نُزُولِ الْوَحْيِ كَمَا سَيَأْتِي فِي أَبْوَابِ الْعُمْرَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ، وَكَانَ يَقُولُ ذَلِكَ لِعُمَرَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ حِينَئِذٍ: تَعَالَ فَانْظُرْ، وَكَأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَشُقُّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (سُرِّيَ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ؛ أَيْ كُشِفَ عَنْهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ.

قَوْلُهُ: (اغْسِلِ الطِّيبَ الَّذِي بِكَ) هُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِثَوْبِهِ أَوْ بِبَدَنِهِ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ مَا تَصْنَعُ فِي حَجَّتِكَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ كَمَا تَصْنَعُ وَسَيَأْتِي فِي أَبْوَابِ الْعُمْرَةِ بِلَفْظِ: كَيْفَ تَأْمُرُنِي أَنْ أَصْنَعَ فِي عُمْرَتِي. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَطَاءٍ: وَمَا كُنْتَ صَانِعًا فِي حَجِّكَ فَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ. وَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ أَعْمَالَ الْحَجِّ قَبْلَ ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: كَأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَخْلَعُونَ الثِّيَابَ وَيَجْتَنِبُونَ الطِّيبَ فِي الْإِحْرَامِ إِذَا حَجُّوا، وَكَانُوا يَتَسَاهَلُونَ فِي ذَلِكَ فِي الْعُمْرَةِ، فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ مَجْرَاهُمَا وَاحِدٌ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: قَوْلُهُ واصْنَعْ مَعْنَاهُ اتْرُكْ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بَيَانُ مَا يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ فَائِدَةٌ حَسَنَةٌ؛ وَهِيَ أَنَّ التَّرْكَ فِعْلٌ. قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ بَطَّالٍ: أَرَادَ الْأَدْعِيَةَ وَغَيْرَهَا مِمَّا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ، فَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ التُّرُوكَ مُشْتَرَكَةٌ بِخِلَافِ الْأَعْمَالِ، فَإِنَّ فِي الْحَجِّ أَشْيَاءَ زَائِدةً عَلَى الْعُمْرَةِ، كَالْوُقُوفِ

ص: 394

وَمَا بَعْدَهُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ كَمَا قَالَ ابنُ بَطَّالٍ، وَزَادَ: وَيُسْتَثْنَى مِنَ الْأَعْمَالِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْحَجُّ. وَقَالَ الْبَاجِيُّ: الْمَأْمُورُ بِهِ غَيْرُ نَزْعِ الثَّوْبِ وَغَسْلِ الْخَلُوقِ، لِأَنَّهُ صَرَّحَ لَهُ بِهِمَا فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْفِدْيَةُ.

كَذَا قَالَ، وَلَا وَجْهَ لِهَذَا الْحَصْرِ، بَلِ الَّذِي تَبَيَّنَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ الْغَسْلُ وَالنَّزْعُ، وَذَلِكَ أَنَّ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَعَنْ عَطَاءٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ: مَا كُنْتُ صَانِعًا فِي حَجِّكَ؟ قَالَ: أَنْزِعُ عَنِّي هَذِهِ الثِّيَابَ وَأَغْسِلُ عَنِّي هَذَا الْخَلُوقَ. فَقَالَ: مَا كُنْتَ صَانِعًا فِي حَجِّكَ فَاصْنَعْهُ فِي عُمْرَتِكَ

قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ لِعَطَاءٍ) الْقَائِلُ هُوَ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ فَهِمَ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّ قَوْلَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ لَفْظِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لَكِنْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ الصَّحَابِيِّ، وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَعَادَ لَفْظَةَ اغْسِلْهُ مَرَّةً ثُمَّ مَرَّةً عَلَى عَادَتِهِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلَاثا لِتُفْهَمَ عَنْهُ، نَبَّهَ عَلَيْهِ عِيَاضٌ. قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: لَيْسَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّ الْخَلُوقَ كَانَ عَلَى الثَّوْبِ كَمَا فِي التَّرْجَمَةِ، وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ مُتَضَمِّخًا. وَقَوْلُهُ لَهُ: اغْسِلِ الطِّيبَ الَّذِي بِكَ، يُوَضِّحُ أَنَّ الطِّيبَ لَمْ يَكُنْ فِي ثَوْبِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ عَلَى بَدَنِهِ، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْجُبَّةِ لَكَانَ فِي نَزْعِهَا كِفَايَةٌ مِنْ جِهَةِ الْإِحْرَامِ اهـ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ عَلَى عَادَتِهِ يُشِيرُ إِلَى مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ الَّذِي يُورِدُهُ، وَسَيَأْتِي فِي محُرَّمَاتِ الْإِحْرَامِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِلَفْظِ: عَلَيْهِ قَمِيصٌ فِيهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ. وَالْخَلُوقُ فِي الْعَادَةِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الثَّوْبِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَطَاءٍ بِلَفْظِ: رَأَى رَجُلًا عَلَيْهِ جُبَّةٌ عَلَيْهَا أَثَرُ خَلُوقٍ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ رَبَاحِ بْنِ أَبِي مَعْرُوفٍ، عَنْ عَطَاءٍ مِثْلَهُ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ وَمَنْصُورٌ وَغَيْرُهُمَا، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَحْرَمْتُ وَعَلَيَّ جُبَّتِي هَذِهِ. وَعَلَى جُبَّتِهِ رَدْغٌ مِنْ خَلُوقٍ، الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: فَقَالَ: اخْلَعْ هَذِهِ الْجُبَّةَ وَاغْسلْ هَذَا الزَّعْفَرَانَ.

وَاسْتُدِلَّ بِحَدِيثِ يَعْلَى عَلَى مَنْعِ اسْتِدَامَةِ الطِّيبِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ لِلْأَمْرِ بِغَسْلِ أَثَرِهِ مِنَ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ. وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ قِصَّةَ يَعْلَى كَانَتْ بِالْجِعِرَّانَةِ كَمَا ثَبَتَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَهِيَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ بِلَا خِلَافٍ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا طَيَّبَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدَيْهَا عِنْدَ إِحْرَامِهَا كَمَا سَيَأْتِي فِي الَّذِي بَعْدَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بِالْآخِرِ فَالْآخِرِ مِنَ الْأَمْرِ، وَبِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِغَسْلِهِ فِي قِصَّةِ يَعْلَى إِنَّمَا هُوَ الْخَلُوقُ لَا مُطْلَقُ الطِّيبِ، فَلَعَلَّ عِلَّةَ الْأَمْرِ فِيهِ مَا خَالَطَهُ مِنَ الزَّعْفَرَانِ. وَقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْ تَزَعْفُرِ الرَّجُلِ مُطْلَقًا مُحْرِمًا وَغَيْرَ مُحْرِمٍ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْآتِي قَرِيبًا: وَلَا يَلْبَسُ - أَيِ الْمُحْرِمُ - مِنَ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَعْفَرَان. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْآتِي أَيْضًا: وَلَمْ يَنْهَ إِلَّا عَنِ الثِّيَابِ الْمُزَعْفَرَةِ. وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ فِي ذَلِكَ في الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ أَصَابَهُ طِيبٌ فِي إِحْرَامِهِ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا ثُمَّ عَلِمَ فَبَادَرَ إِلَى إِزَالَتِهِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لَزِمَهُ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ: يَجِبُ مُطْلَقًا، وَعَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ إِذَا صَارَ عَلَيْهِ الْمَخِيطُ نَزَعَهُ وَلَا يَلْزَمُهُ تَمْزِيقُهُ وَلَا شَقُّهُ خِلَافًا لِلنَّخَعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ؛ حَيْثُ قَالَا: لَا يَنْزِعُهُ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ لِئَلَّا يَصِيرَ مُغَطِّيًا لِرَأْسِهِ. أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُمَا.

وَعَنْ عَلِيٍّ نَحْوَهُ، وَكَذَا عَنِ الْحَسَنِ، وَأَبِي قِلَابَةَ. وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ بِلَفْظِ: اخْلَعْ عَنْكَ الْجُبَّةَ، فَخَلَعَهَا مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ. وَعَلَى أَنَّ الْمُفْتِيَ وَالْحَاكِمَ إِذَا لَمْ يَعْرِفِ الْحُكْمَ يُمْسِكُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ، وَعَلَى أَنَّ بَعْضَ الْأَحْكَامِ ثَبَتَ بِالْوَحْيِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يُتْلَى، لَكِنْ وَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ أَنَّ الَّذِي نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وَعَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَحْكُمْ بِالِاجْتِهَادِ إِلَّا إِذَا لَمْ يَحْضُرْهُ الْوَحْيُ.

‌18 - بَاب الطِّيبِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ وَمَا يَلْبَسُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ، وَيَتَرَجَّلَ وَيَدَّهِنَ

ص: 395

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: يَشَمُّ الْمُحْرِمُ الرَّيْحَانَ، وَيَنْظُرُ فِي الْمِرْآةِ، وَيَتَدَاوَى بِمَا يَأْكُلُ الزَّيْتِ وَالسَّمْنِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: يَتَخَتَّمُ وَيَلْبَسُ الْهِمْيَانَ. وَطَافَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما وَهُوَ مُحْرِمٌ وَقَدْ حَزَمَ عَلَى بَطْنِهِ بِثَوْبٍ، وَلَمْ تَرَ عَائِشَةُ بِالتُّبَّانِ بَأْسًا لِلَّذِينَ يَرْحَلُونَ هَوْدَجَهَا

1537 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَدَّهِنُ بِالزَّيْتِ، فَذَكَرْتُهُ لِإِبْرَاهِيمَ، قَالَ: مَا تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ.

1538 -

حَدَّثَنِي الأَسْوَدُ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ "كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفَارِقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحْرِمٌ"

1539 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ "كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لإِحْرَامِهِ حِينَ يُحْرِمُ وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ"

[الحديث 1539 - أطرافه في: 1754، 5922، 5928، 5930]

قَوْلُهُ: (بَابُ الطِّيبِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، وَمَا يَلْبَسُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ وَيَتَرَجَّلَ وَيَدَّهِنَ) أَرَادَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الْأَمْرَ بِغَسْلِ الْخَلُوقِ الَّذِي فِي الْحَدِيثِ قَبْلَهُ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الثِّيَابِ؛ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَلْبَسُ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَأَمَّا الطِّيبُ فَلَا يُمْنَعُ اسْتِدَامَتُهُ عَلَى الْبَدَنِ، وَأَضَافَ إِلَى التَّطَيُّبِ الْمُقْتَصَرِ عَلَيْهِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ الترَّجْلَ وَالِادِّهَانَ لِجَامِعِ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّرَفُّهِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: يَلْحَقُ بِالتَّطَيُّبِ سَائِرُ التَّرَفُّهَاتِ فَلَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ، كَذَا قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ إِلَى مَا سَيَأْتِي بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ مِنْ طَرِيقِ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: انْطَلَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمَدِينَةِ بَعْدَ مَا تَرَجَّلَ وَادَّهَنَ، الْحَدِيثَ. وَقَوْلُهُ: تَرَجَّلَ أَيْ سَرَّحَ شَعْرَهُ، وَكَأَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: طَيَّبْتُهُ فِي مَفْرِقِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَوْعُ تَرْجِيلٍ، وَسَيَأْتِي مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِزِيَادَةِ وَفِي أُصُولِ شَعْرِهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ. . . إِلَخْ) أَمَّا شَمُّ الرَّيْحَانِ فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا لِلْمُحْرِمِ بِشَمِّ الرَّيْحَانِ. وَرُوِّينَا فِي الْمُعْجَمِ الْأَوْسَطِ مِثْلَهُ عَنْ عُثْمَانَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ جَابِرٍ خِلَافَهُ. وَاخْتُلِفَ فِي الرَّيْحَانِ؛ فَقَالَ إِسْحَاقُ: يُبَاحُ، وَتَوَقَّفَ أَحْمَدُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَحْرُمُ، وَكَرِهَهُ مَالِكٌ وَالْحَنَفِيَّةُ. وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ أَنَّ كُلَّ مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ الطِّيبُ يَحْرُمُ بِلَا خِلَافٍ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَا. وَأَمَّا النَّظَرُ فِي الْمِرْآةِ فَقَالَ الثَّوْرِيُّ فِي جَامِعِهِ رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْوَلِيدِ الْعَدَنِيِّ عَنْهُ: عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْمِرْآةِ وَهُوَ مُحْرِمٌ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ إِدْرِيسَ، عَنْ هِشَامٍ بِهِ، وَنَقَلَ كَرَاهَتَهُ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ. وَأَمَّا التَّدَاوِي فَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، وَعَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: يَتَدَاوَى الْمُحْرِمُ بِمَا يَأْكُلُ. وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِذَا شُقِّقَتْ يَدُ الْمُحْرِمِ أَوْ رِجْلَاهُ فَلْيَدْهُنْهُمَا بِالزَّيْتِ أَوْ بِالسَّمْنِ. وَوَقَعَ

ص: 396

فِي الْأَصْلِ: يَتَدَاوَى بِمَا يَأْكُلُ؛ الزَّيْتِ وَالسَّمْنِ.

وَهُمَا بِالْجَرِّ فِي رِوَايَتِنَا، وَصَحَّحَ عَلَيْهِ ابْنُ مَالِكٍ عَطْفًا عَلَى مَا الْمَوْصُولَةِ، فَإِنَّهَا مَجْرُورَةٌ بِالْبَاءِ، وَوَقَعَ فِي غَيْرِهَا بِالنَّصْبِ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَأْكُلُ هُوَ الْآكِلُ لَا الْمَأْكُولُ، لَكِنْ يَجُوزُ عَلَى الِاتِّسَاعِ. وَفِي هَذَا الْأَثَرِ رَدٌّ عَلَى مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: إِنْ تَدَاوَى بِالسَّمْنِ أَوِ الزَّيْتِ فَعَلَيْهِ دَمٌ. أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ.

(تَنْبِيهٌ): قَوْلُهُ: (يَشَمُّ)؛ بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ عَلَى الْأَشْهَرِ، وَحُكِيَ ضَمُّهَا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَطَاءٌ: يَتَخَتَّمُ وَيَلْبَسُ الْهِمْيَانَ) هُوَ بِكَسْرِ الْهَاءِ مُعَرَّبٌ، يُشْبِهُ تِكَّةَ السَّرَاوِيلِ يُجْعَلُ فِيهَا النَّفَقَةُ وَيُشَدُّ فِي الْوَسَطِ. وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ ابنِ عَطَاءٍ قَالَ: لَا بَأْسَ بِالْخَاتَمِ لِلْمُحْرِمِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ شَرِيكٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَطَاءٍ - وَرُبَّمَا ذَكَرَهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا بَأْسَ بِالْهِمْيَانِ وَالْخَاتَمِ لِلْمُحْرِمِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجَازَ ذَلِكَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ، وَأَجَازُوا عَقْدَهُ إِذَا لَمْ يُمْكِنْ إِدْخَالُ بَعْضِهِ فِي بَعْضٍ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ كَرَاهَتُهُ إِلَّا عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَنْهُ جَوَازُهُ. وَمَنَعَ إِسْحَاقُ عَقْدَهُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ تَفَرَّدَ بِذَلِكَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: لَا بَأْسَ بِالْهِمْيَانِ لِلْمُحْرِمِ، وَلَكِنْ لَا يَعْقِدُ عَلَيْهِ السَّيْرَ، وَلَكِنْ يَلُفُّهُ لَفًّا. وقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ: رَأَيْتُ عَلَى سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ خَاتَمًا وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَعَلَى عَطَاءٍ.

قَوْلُهُ: (وَطَافَ ابْنُ عُمَرَ وَهُوَ مُحْزِمٌ، وَقَدْ حَزَمَ عَلَى بَطْنِهِ بِثَوْبٍ) وَصَلَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ يَسْعَى وَقَدْ حَزَمَ عَلَى بَطْنِهِ بِثَوْبٍ. وَرُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمْ يَكُنْ عَقَدَ الثَّوْبَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا غَرَزَ طَرَفَهُ عَلَى إِزَارِهِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ جُنْدُبٍ، سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: لَا تَعْقِدُ عَلَيْكَ شَيْئًا وَأَنْتَ مُحْرِمٌ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ شَدَّهُ عَلَى بَطْنِهِ فَيَكُونُ كَالْهِمْيَانِ، وَلَمْ يَشُدَّهُ فَوْقَ الْمِئْزَرِ، وَإِلَّا فَمَالِكٌ يَرَى عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ الْفِدْيَةُ.

قَوْلُهُ: (وَلَمْ تَرَ عَائِشَةُ بِالتُّبَّانِ بَأْسًا لِلَّذِينَ يَرْحَلُونَ هَوْدَجَهَا) وَقَعَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ بَعْدَ قَوْلِهِ بَأْسًا: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: يَعْنِي الَّذِينَ. . . إِلَخْ. التُّبَّانُ بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ: سَرَاوِيلُ قَصِيرٌ بِغَيْرِ أَكْمَامٍ، وَالْهَوْدَجُ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَبِالْجِيمِ مَعْرُوفٌ، وَيَرْحَلُونَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ؛ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: رَحَلْتُ الْبَعِيرَ أَرْحَلُهُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ رَحْلًا إِذَا شَدَدْتُ عَلَى ظَهْرِهِ الرَّحْلَ، قَالَ الْأَعْشَى:

رَحَلَتْ أُمَيْمَةُ غَدْوَةً أَجْمَالَهَا

وَسَيَأْتِي فِي التَّفْسِيرِ اسْتِشْهَادُ الْبُخَارِيِّ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:

إِذَا مَا قُمْتُ أَرْحَلُهَا بِلَيْلٍ

وَعَلَى هَذَا فَوَهِمَ مَنْ ضَبَطَهُ هُنَا بِتَشْدِيدِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِهَا. وَقَدْ وَصَلَ أَثَرَ عَائِشَةَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا حَجَّتْ وَمَعَهَا غِلْمَانٌ لَهَا، وَكَانُوا إِذَا شَدُّوا رَحْلَهَا يَبْدُو مِنْهُمُ الشَّيْءُ، فَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوا التَّبَابِينَ فَيَلْبَسُونَهَا وَهُمْ مُحْرِمُونَ. وَأَخْرَجَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُخْتَصَرًا بِلَفْظِ: يَشُدُّونَ هَوْدَجَهَا. وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى ابْنِ التِّينِ فِي قَوْلِهِ: أَرَادَتِ النِّسَاءُ لِأَنَّهُنَّ يَلْبَسْنَ الْمَخِيطَ بِخِلَافِ الرِّجَالِ، وَكَأَنَّ هَذَا رَأْيٌ رَأَتْهُ عَائِشَةُ، وَإِلَّا فَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ التُّبَّانِ وَالسَّرَاوِيلِ فِي مَنْعِهِ لِلْمُحْرِمِ.

قَوْلُهُ: (سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَمَنْصُورٌ هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، وَالْإِسْنَادُ إِلَى ابْنِ عُمَرَ كُوفِيُّونَ، وَكَذَا إِلَى عَائِشَةَ.

قَولُهُ: (يَدَّهِنُ بِالزَّيْتِ) أَيْ عِنْدَ الْإِحْرَامِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ مُطَيَّبًا، كَمَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ مَرْفُوعًا، وَالْمَوْقُوفُ عَنْهُ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَهُوَ أَصَحُّ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْغُسْلِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: لِأَنْ أُطْلَى بِقَطِرَانٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَطَيَّبَ ثُمَّ أُصْبِحَ مُحْرِمًا. وَفِيهِ إِنْكَارُ عَائِشَةَ عَلَيْهِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَتْبَعُ فِي ذَلِكَ أَبَاهُ؛ فَإِنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ اسْتِدَامَةَ الطِّيبِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ كَمَا سَيَأْتِي، وَكَانَتْ عَائِشَةُ تُنْكِرُ عَلَيْهِ

ص: 397

ذَلِكَ. وَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَقُولُ: لَا بَأْسَ بِأَنْ يَمَسَّ الطِّيبَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ. قَالَ: فَدَعَوْتُ رَجُلًا وَأَنَا جَالِسٌ بِجَنْبِ ابْنِ عُمَرَ فَأَرْسَلْتُهُ إِلَيْهَا وَقَدْ عَلِمْتُ قَوْلَهَا، وَلَكِنْ أَحْبَبْتُ أَنْ يَسْمَعَهُ أَبِي، فَجَاءَنِي رَسُولِي فَقَالَ: إِنَّ عَائِشَةَ تَقُولُ: لَا بَأْسَ بِالطِّيبِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، فَأَصِبْ مَا بَدَا لَكَ. قَالَ: فَسَكَتَ ابْنُ عُمَرَ. وَكَذَا كَانَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ يُخَالِفُ أَبَاهُ وَجَدَّهُ فِي ذَلِكَ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ، قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ سَالِمٍ أَنَّهُ ذَكَرَ قَوْلَ عُمَرَ فِي الطِّيبِ ثُمَّ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، قَالَ سَالِمٌ: سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَقُّ أَنْ تُتَّبَعَ.

قَوْلُهُ: (فَذَكَرْتُهُ لِإِبْرَاهِيمَ) هُوَ مَقُولُ مَنْصُورٍ، وَإِبْرَاهِيمُ هُوَ النَّخَعِيُّ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: مَا تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ) يُشِيرُ إِلَى مَا بَيَّنْتُهُ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَتَقَدَّمْ إِلَّا ذِكْرُ الْفِعْلِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الْمَفْزَعَ فِي النَّوَازِلِ إِلَى السُّنَنِ، وَأَنَّهُ مُسْتَغْنًى بِهَا عَنْ آرَاءِ الرِّجَالِ، وَفِيهَا الْمَقْنَعُ.

قَوْلُهُ: (كَأَنِّي أَنْظُرُ) أَرَادَتْ بِذَلِكَ قُوَّةَ تَحَقُّقِهَا لِذَلِكَ، بِحَيْثُ أنَّهَا لِشِدَّةِ اسْتِحْضَارِهَا لَهُ كَأَنَّهَا نَاظِرَةٌ إِلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (وَبِيصِ) بِالْمُوَحَّدَةِ الْمَكْسُورَةِ وَآخِرُهُ صَادٌ مُهْمَلَةٌ؛ هُوَ الْبَرِيقُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْغُسْلِ قَوْلُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: إِنَّ الْوَبِيصَ زِيَادَةٌ عَلَى الْبَرِيقِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّلَأْلُؤُ، وَأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ عَيْنٍ قَائِمَةٍ لَا الرِّيحَ فَقَطْ.

قَوْلُهُ: (فِي مَفَارِقِ) جَمْعُ مَفْرِقٍ، وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يَفْتَرِقُ فِيهِ الشَّعْرُ فِي وَسَطِ الرَّأْسِ، قِيلَ: ذَكَرْتُهُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ تَعْمِيمًا لِجَوَانِبِ الرَّأْسِ الَّتِي يُفَرَّقُ فِيهَا الشَّعْرُ.

قَوْلُهُ: (وَلِحِلِّهِ)؛ أَيْ بَعْدَ أَنْ يَرْمِيَ وَيَحْلِقَ. وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهَا: كُنْتُ أُطَيِّبُ عَلَى أَنَّ كَانَ لَا تَقْتَضِي التَّكْرَارَ، لِأَنَّهَا لَمْ يَقَعْ مِنْهَا ذَلِكَ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَقَدْ صَرَّحَتْ فِي رِوَايَةِ عُرْوَةَ عَنْهَا بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ كَمَا سَيَأْتِي فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ، كَذَا اسْتَدَلَّ بِهِ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْمُدَّعَى تَكْرَارُهُ إِنَّمَا هُوَ التَّطَيُّبُ لَا الْإِحْرَامُ، وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَتَكَرَّرَ التَّطَيُّبُ لِأَجْلِ الْإِحْرَامِ مَعَ كَوْنِ الْإِحْرَامِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: الْمُخْتَارُ أَنَّهَا لَا تَقْتَضِي تَكْرَارًا وَلَا اسْتِمْرَارًا، وَكَذَا قَالَ الْفَخْرُ فِي الْمَحْصُولِ، وَجَزَمَ ابْنُ الْحَاجِبِ بِأَنَّهَا تَقْتَضِيهِ، قَالَ: وَلِهَذَا اسْتَفَدْنَا مِنْ قَوْلِهِمْ: كَانَ حَاتِمٌ يُقْرِي الضَّيْفَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَتَكَرَّرُ مِنْهُ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ: إِنَّهَا تَقْتَضِي التَّكْرَارَ ظُهُورًا، وَقَدْ تَقَعُ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِهِ، لَكِنْ يُسْتَفَادُ مِنْ سِيَاقِهِ لِذَلِكَ الْمُبَالَغَةُ فِي إِثْبَاتِ ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا كَانَتْ تُكَرِّرُ فِعْلَ التَّطَيُّبِ لَوْ تَكَرَّرَ مِنْهُ فِعْلُ الْإِحْرَامِ لِمَا اطَّلَعَتْ عَلَيْهِ مِنَ اسْتِحْبَابِهِ لِذَلِكَ، عَلَى أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ لَمْ تَتَّفِقِ الرُّوَاةُ عَنْهَا عَلَيْهَا، فَسَيَأْتِي لِلْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ شَيْخِ مَالِكٍ فِيهِ هُنَا بِلَفْظِ: طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَسَائِرُ الطُّرُقِ لَيْسَ فِيهَا صِيغَةُ كَانَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّطَيُّبِ عِنْدَ إِرَادَةِ الْإِحْرَامِ، وَجَوَازُ اسْتِدَامَتِهِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَأَنَّهُ لَا يَضُرُّ بَقَاءُ لَوْنِهِ وَرَائِحَتِهِ، وَإِنَّمَا يَحْرُمُ ابْتِدَاؤُهُ فِي الْإِحْرَامِ؛ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَعَنْ مَالِكٍ: يَحْرُمُ، وَلَكِنْ لَا فِدْيَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: تَجِبُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يُكْرَهُ أَنْ يَتَطَيَّبَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِمَا يَبْقَى عَيْنُهُ بَعْدَهُ. وَاحْتَجَّ الْمَالِكِيَّةُ بِأُمُورٍ؛ مِنْهَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اغْتَسَلَ بَعْدَ أَنْ تَطَيَّبَ لِقَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُنْتَشِرِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي الْغُسْلِ: ثُمَّ طَافَ بِنِسَائِهِ ثُمَّ أَصْبَحَ مُحْرِمًا. فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالطَّوَافِ الْجِمَاعُ، وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَغْتَسِلَ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدَةٍ، وَمِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ أَنْ لَا يَبْقَى لِلطِّيبِ أَثَرٌ، وَيَرُدُّهُ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَاضِيَةِ أَيْضًا: ثُمَّ أَصْبَحَ مُحْرِمًا يَنْضَحُ طِيبًا. فَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ نَضْحَ الطِّيبِ - وَهُوَ ظُهُورُ رَائِحَتِهِ - كَانَ فِي حَالِ إِحْرَامِهِ، وَدَعْوَى بَعْضِهِمْ أَنَّ فِيهِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَالتَّقْدِيرُ طَافَ عَلَى نِسَائِهِ يَنْضَحُ طِيبًا، ثُمَّ أَصْبَحَ مُحْرِمًا خِلَافَ الظَّاهِرِ، وَيَرُدُّهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: كَانَ

ص: 398

إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ يَتَطَيَّبُ بِأَطْيَبِ مَا يَجِدُ، ثُمَّ أَرَاهُ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَلِلنَّسَائِيِّ، وَابْنِ حِبَّانَ: رَأَيْتُ الطِّيبَ فِي مَفْرِقِهِ بَعْدَ ثَلَاثٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْوَبِيصَ كَانَ بَقَايَا الدُّهْنِ الْمُطَيِّبِ الَّذِي تَطَيَّبَ بِهِ، فَزَالَ وَبَقِيَ أَثَرُهُ مِنْ غَيْرِ رَائِحَةٍ، وَيَرُدُّهُ قَوْلُ عَائِشَةَ: يَنْضَحُ طِيبًا.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَقِيَ أَثَرُهُ لَا عَيْنُهُ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ عَيْنَهُ بَقِيَتْ، انْتَهَى. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنَّا نُضَمِّخُ وُجُوهَنَا بِالْمِسْكِ الْمُطَيِّبِ قَبْلَ أَنْ نُحْرِمَ، ثُمَّ نُحْرِمَ فَنَعْرَقَ فَيَسِيلَ عَلَى وُجُوهِنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا يَنْهَانَا. فَهَذَا صَرِيحٌ فِي بَقَاءِ عَيْنِ الطِّيبِ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِالنِّسَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ سَوَاءٌ فِي تَحْرِيمِ اسْتِعْمَالِ الطِّيبِ إِذَا كَانُوا مُحْرِمِينَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ ذَلِكَ طِيبًا لَا رَائِحَةَ لَهُ، تَمَسُّكًا بِرِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: بِطِيبٍ لَا يُشْبِهُ طِيبَكُمْ. قَالَ بَعْضُ رُوَاتِهِ: يَعْنِي لَا بَقَاءَ لَهُ، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ. وَيَرُدُّ هَذَا التَّأْوِيلَ مَا فِي الَّذِي قَبْلَهُ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ: بِطِيبٍ فِيهِ مِسْكٌ. وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الْمِسْكِ. وَلِلشَّيْخَيْنِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ: بِأَطْيَبِ مَا أَجِدُ. وَلِلطَّحَاوِيِّ، وَالدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عَائِشَةَ: بِالْغَالِيَةِ الْجَيِّدَةِ. وهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهَا: بِطِيبٍ لَا يُشْبِهُ طِيبَكُمْ؛ أَيْ أَطْيَبُ مِنْهُ، لَا كَمَا فَهِمَهُ الْقَائِلُ، يَعْنِي لَيْسَ لَهُ بَقَاءٌ. وَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَهُ الْمُهَلَّبُ، وَأَبُو الْحَسَنِ، وَأَبُو الْفَرَجِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.

قَالَ بَعْضُهُمْ: لِأَنَّ الطِّيبَ مِنْ دَوَاعِي النِّكَاحِ، فَنَهَى النَّاسَ عَنْهُ، وَكَانَ هُوَ أَمْلَكَ النَّاسِ لِإِرْبِهِ فَفَعَلَهُ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ بِكَثْرَةِ مَا ثَبَتَ لَهُ مِنَ الْخَصَائِصِ فِي النِّكَاحِ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: حُبِّبَ إِلَيَّ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ. أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْخَصَائِصَ لَا تَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ. وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: إِنَّمَا خُصَّ بِذَلِكَ لِمُبَاشَرَتِهِ الْمَلَائِكَةَ لِأَجْلِ الْوَحْيِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ فَرْعُ ثُبُوتِ الْخُصُوصِيَّةِ وَكَيْفَ بِهَا، وَيَرُدُّهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ بِنْتَ طَلْحَةَ الْمُتَقَدِّمُ. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: طَيَّبْتُ أَبِي بِالْمِسْكِ لِإِحْرَامِهِ حِينَ أَحْرَمَ. وَبِقَوْلِهَا: طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدَيَّ هَاتَيْنِ. أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ جَدِّهِ عَنْهَا، وَسَيَأْتِي مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ بِلَفْظِ: وَأَشَارَتْ بِيَدَيْهَا. وَاعْتَذَرَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّ عَمَلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى خِلَافِهِ، وَتُعُقِّبَ بِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ لَمَّا حَجَّ جَمَعَ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ - مِنْهُمُ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَسَالِمٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ ابْنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ - فَسَأَلَهُمْ عَنْ التَّطَيُّبِ قَبْلَ الْإِفَاضَةِ، فَكُلُّهُمْ أَمَرَ بِهِ.

فَهَؤُلَاءِ فُقَهَاءُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنَ التَّابِعِينَ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ، فَكَيْفَ يُدَّعَى مَعَ ذَلِكَ الْعَمَلُ عَلَى خِلَافِهِ.

قَوْلُهُ: (وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ)؛ أَيْ لِأَجْلِ إِحْلَالِهِ مِنْ إِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ، وَسَيَأْتِي فِي اللِّبَاسِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ بِلَفْظِ: قَبْلَ أَنْ يُفِيضَ. وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: وَحِينَ يُرِيدُ أَنْ يَزُورَ الْبَيْتَ. وَلِمُسْلِمٍ نَحْوُهُ مِنْ طَرِيقِ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ. وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: وَلِحِلِّهِ بَعْدَ مَا يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى حِلِّ الطِّيبِ وَغَيْرِهِ مِنْ مُحَرَّمَاتِ الْإِحْرَامِ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَيَسْتَمِرُّ امْتِنَاعُ الْجِمَاعِ وَمُتَعَلَّقَاتِهِ عَلَى الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ لِلْحَجِّ تَحَلُّلَيْنِ، فَمَنْ قَالَ أنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ - كَمَا هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - يُوقِفُ اسْتِعْمَالَ الطِّيبِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الْمَذْكُورَةِ عَلَيْهِ، وَيُؤْخَذُ ذَلِكَ

ص: 399

مِنْ كَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّتِهِ رَمَى ثُمَّ حَلَقَ ثُمَّ طَافَ، فَلَوْلَا أَنَّ الطِّيبَ بَعْدَ الرَّمْيِ وَالْحَلْقِ لَمَا اقْتَصَرَتْ عَلَى الطَّوَافِ فِي قَوْلِهَا: قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِأَنَّ الْحَلْقَ لَيْسَ بِنُسُكٍ إِلَّا الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ اسْتِدَامَةِ الطِّيبِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ، وَخَالَفَ الْحَنَفِيَّةَ فَأَوْجَبُوا فِيهِ الْفِدْيَةَ قِيَاسًا عَلَى اللُّبْسِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ اسْتِدَامَةَ اللُّبْسِ لُبْسٌ وَاسْتِدَامَةَ الطِّيبِ لَيْسَ بِطِيبٍ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ بِمَا لَوْ حَلَفَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّعَقُّبُ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِرِيقِ الدُّهْنِ أَوْ أَثَرِ الطِّيبِ الَّذِي لَا رَائِحَةَ لَهُ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ.

‌19 - بَاب مَنْ أَهَلَّ مُلَبِّدًا

1540 -

حَدَّثَنَا أَصْبَغُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُهِلُّ مُلَبِّدًا.

[الحديث 1540 - أطرافه في: 1549، 5914، 5915]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أَهَلَّ مُلَبِّدًا)؛ أَيْ أَحْرَمَ وَقَدْ لَبَّدَ شَعْرَ رَأْسِهِ، أَيْ جَعَلَ فِيهِ شَيْئًا نَحْوَ الصَّمْغِ لِيَجْتَمِعَ شَعْرُهُ لِئَلَّا يَتَشَعَّثَ فِي الْإِحْرَامِ أَوْ يَقَعَ فِيهِ الْقَمْلُ.

ثُمَّ أَوْرَدَ حَدِيثَ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ مُطَابِقٌ لِلتَّرْجَمَةِ، وَقَوْلُهُ: سَمِعْتُهُ يُهِلُّ مُلَبِّدًا أَيْ سَمِعْتُهُ يُهِلُّ فِي حَالِ كَوْنِهِ مُلَبِّدًا. وَلِأَبِي دَاوُدَ، وَالْحَاكِمِ مِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَبَّدَ رَأْسَهُ بِالْعَسَلِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، وَهُوَ مَا يُغْسَلُ بِهِ الرَّأْسُ مِنْ خَطْمِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ. قُلْتُ: ضَبَطْنَاهُ فِي رِوَايَتِنَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ بِالْمُهْمَلَتَيْنِ.

‌20 - بَاب الْإِهْلَالِ عِنْدَ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ

1541 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، سَمِعْتُ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ يَقُولُ: مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا مِنْ عِنْدِ الْمَسْجِدِ؛ يَعْنِي مَسْجِدَ ذِي الْحُلَيْفَةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْإِهْلَالِ عِنْدَ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ)؛ أَيْ لِمَنْ حَجَّ مِنَ الْمَدِينَةِ. أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ سَالِمٍ أَيْضًا عَنْ أَبِيهِ فِي ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَسَاقَهُ بِلَفْظِ مَالِكٍ. وَأَمَّا لَفْظُ سُفْيَانَ فَأَخْرَجَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ بِلَفْظِ: هَذِهِ الْبَيْدَاءُ الَّتِي تَكْذِبُونَ فِيهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَاللَّهِ مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا مِنْ عِنْدِ الْمَسْجِدِ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ حَاتِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ بِلَفْظِ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا قِيلَ لَهُ: الْإِحْرَامُ مِنَ الْبَيْدَاءِ، قَالَ: الْبَيْدَاءُ الَّتِي تَكْذِبُونَ فِيهَا. . . إِلَخْ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: مِنْ عِنْدَ الشَّجَرَةِ حِينَ قَامَ بِهِ بَعِيرُهُ. وَسَيَأْتِي لِلْمُصَنِّفِ بَعْدَ أَبْوَابٍ تَرْجَمَةُ مَنْ أَهَلَّ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ؛ وَأَخْرَجَ فِيهِ مِنْ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أَهَلَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُنْكِرُ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْآتِيَةِ بَعْدَ بَابَيْنِ بِلَفْظِ: رَكِبَ رَاحِلَتَهُ حَتَّى اسْتَوَى عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ.

وَقَدْ أَزَالَ الْإِشْكَالَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: قُلْتُ لِابْنِ

ص: 400

عَبَّاسٍ: عَجِبْتُ لِاخْتِلَافِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في إِهْلَالِهِ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَلَمَّا صَلَّى فِي مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ أَوْجَبَ مِنْ مَجْلِسِهِ، فَأَهَلَّ بِالْحَجِّ حِينَ فَرَغَ مِنْهَا، فَسَمِعَ مِنْهُ قَوْمٌ فَحَفِظُوهُ، ثُمَّ رَكِبَ، فَلَمَّا اسْتَقَلَّتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ أَهَلَّ، وَأَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْهُ قَوْمٌ لَمْ يَشْهَدُوهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى فَسَمِعُوهُ حِينَ ذَاكَ، فَقَالُوا: إِنَّمَا أَهَلَّ حِينَ اسْتَقَلَّتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ. ثُمَّ مَضَى، فَلَمَّا عَلَا شَرَفَ الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ، وَأَدْرَكَ ذَلِكَ قَوْمٌ لَمْ يَشْهَدُوهُ، فَنَقَلَ كُلُّ أَحَدٍ مَا سَمِعَ، وَإِنَّمَا كَانَ إِهْلَالُهُ فِي مُصَلَّاهُ وَأيْمُ اللَّهِ، ثُمَّ أَهَلَّ ثَانِيًا وَثَالِثًا. وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُهُ دُونَ الْقِصَّةِ، فَعَلَى هَذَا فَكَانَ إِنْكَارُ ابْنِ عُمَرَ عَلَى مَنْ يَخُصُّ الْإِهْلَالَ بِالْقِيَامِ عَلَى شَرَفِ الْبَيْدَاءِ، وَقَدِ اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى جَوَازِ جَمِيعِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْأَفْضَلِ.

(فَائِدَةٌ): الْبَيْدَاءُ هَذِهِ فَوْقَ عِلْمِي ذِي الْحُلَيْفَةِ لِمَنْ صَعَدَ مِنَ الْوَادِي، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْبَكْرِيُّ وَغَيْرُهُ.

‌21 - بَاب مَا لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ

1542 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا يَلْبَسُ الْقُمُصَ وَلَا الْعَمَائِمَ وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ وَلَا الْبَرَانِسَ وَلَا الْخِفَافَ، إِلَّا أَحَدٌ لَا يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ، وَلَا تَلْبَسُوا مِنْ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ زعْفَرَانُ أَوْ وَرْسٌ.

قَوْلُهُ: (بَابٌ: مَا لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ) الْمُرَادُ بِالْمُحْرِمِ مَنْ أَحْرَمَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ قَرَنَ، وَحَكَى ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ أَنَّ ابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ كَانَ يَسْتَشْكِلُ مَعْرِفَةَ حَقِيقَةِ الْإِحْرَامِ؛ يَعْنِي عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَيَرُدُّ عَلَى مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ النِّيَّةُ، لِأَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ فِي الْحَجِّ الَّذِي الْإِحْرَامُ رُكْنُهُ، وَشَرْطُ الشَّيْءِ غَيْرُهُ، وَيُعْتَرَضُ عَلَى مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ التَّلْبِيَةُ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ رُكْنًا، وَكَأَنَّهُ يَحُومُ عَلَى تَعْيِينِ فِعْلٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ النِّيَّةُ فِي الِابْتِدَاءِ، انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ مَجْمُوعُ الصِّفَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ تَجَرُّدٍ وَتَلْبِيَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي فِي آخِرِ بَابِ التَّلْبِيَةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْغَرَضِ.

قَوْلُهُ: (أنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ مَا يُنْهَى مِنَ الطِّيبِ لِلْمُحْرِمِ وَمِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ: مَاذَا تَأْمُرُنَا أَنْ نَلْبَسَ مِنَ الثِّيَابِ فِي الْإِحْرَامِ. وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ نَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ: مَا نَلْبَسُ مِنَ الثِّيَابِ إِذَا أَحْرَمْنَا. وَهُوَ مُشْعِرٌ بِأَنَّ السُّؤَالَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ، وَقَدْ حَكَى الدَّارَقُطْنِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيِّ أَنَّ فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَاللَّيْثِ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَمْ أَرَ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ عَنْهُمَا. نَعَمْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ؛ كِلَاهُمَا عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَادَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَخْطُبُ بِذَلِكَ الْمَكَانِ. وَأَشَارَ نَافِعٌ إِلَى مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَظَهَرَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِالْمَدِينَةِ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْآتِي فِي أَوَاخِرِ الْحَجِّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ بِذَلِكَ فِي عَرَفَاتٍ، فَيُحْمَلُ عَلَى التَّعَدُّدِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ أَجَابَ بِهِ السَّائِلُ، وَحَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ ابْتَدَأَ بِهِ فِي الْخُطْبَةِ.

قَوْلُهُ: (مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟ قَالَ: لَا يَلْبَسُ الْقُمُصَ. . . إِلَخْ) قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: هَذَا الْجَوَابُ مِنْ بَدِيعِ الْكَلَامِ وَجَزْلِهِ، لِأَنَّ مَا لَا يُلْبَسُ مُنْحَصِرٌ، فَحَصَلَ التَّصْرِيحُ بِهِ، وَأَمَّا الْمَلْبُوسُ الْجَائِزُ فَغَيْرُ مُنْحَصِرٍ، فَقَالَ:

ص: 401

لَا يَلْبَسُ كَذَا؛ أَيْ وَيَلْبَسُ مَا سِوَاهُ، انْتَهَى.

وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: سُئِلَ عَمَّا يُلْبَسُ فَأَجَابَ بِمَا لَا يُلْبَسُ لِيَدُلَّ بِالِالْتِزَامِ مِنْ طَرِيقِ الْمَفْهُومِ عَلَى مَا يَجُوزُ، وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنِ الْجَوَابِ لِأَنَّهُ أَخْصَرَ وَأَحْصَرَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ حَقَّ السُّؤَالِ أَنْ يَكُونَ عَمَّا لَا يُلْبَسُ لِأَنَّهُ الْحُكْمُ الْعَارِضُ فِي الْإِحْرَامِ الْمُحْتَاجُ لِبَيَانِهِ، إِذِ الْجَوَازُ ثَابِتٌ بِالْأَصْلِ مَعْلُومٌ بِالِاسْتِصْحَابِ، فَكَانَ الْأَلْيَقُ السُّؤَالَ عَمَّا لَا يُلْبَسُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هَذَا يُشْبِهُ أُسْلُوبَ الْحَكِيمِ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ} الْآيَةَ، فَعَدَلَ عَنْ جِنْسِ الْمُنْفَقِ، وَهُوَ الْمَسْئُولُ عَنْهُ إِلَى ذِكْرِ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ أَهَمُّ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: يُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْجَوَابِ مَا يَحْصُلُ مِنْهُ الْمَقْصُودُ كَيْفَ كَانَ، وَلَوْ بِتَغْيِيرٍ أَوْ زِيَادَةٍ، وَلَا تُشْتَرَطُ الْمُطَابَقَةُ، انْتَهَى. وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى سِيَاقِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ عَنْ نَافِعٍ، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ: مَا يَتْرُكُ الْمُحْرِمُ؛ وَهِيَ شَاذَّةٌ، وَالِاخْتِلَافُ فِيهَا عَلَى ابْنِ جُرَيْجٍ لَا عَلَى نَافِعٍ، وَرَوَاهُ سَالِمٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: مَا يَجْتَنِبُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَأَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْهُ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ؛ فَقَالَ مَرَّةً: مَا يَتْرُكُ، وَمَرَّةً: مَا يَلْبَسُ.

وَأَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَاخِرِ الْحَجِّ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ نَافِعٍ، فَالِاخْتِلَافُ فِيهِ عَلَى الزُّهْرِيِّ يُشْعِرُ بِأَنَّ بَعْضَهُمْ رَوَاهُ بِالْمَعْنَى، فَاسْتَقَامَتْ رِوَايَةُ نَافِعٍ لِعَدَمِ الِاخْتِلَافِ فِيهَا، وَاتَّجَهَ الْبَحْثُ الْمُتَقَدِّمُ. وَطَعَنَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنَ الشُّرَّاحِ أَنَّ هَذَا مِنْ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ بِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُ الْجَوَابُ بِمَا يَحْصُرُ أَنْوَاعَ مَا لَا يُلْبَسُ، كَأَنْ يُقَالَ: مَا لَيْسَ بِمَخِيطٍ وَلَا عَلَى قَدْرِ الْبَدَنِ كَالْقَمِيصِ أَوْ بَعْضِهِ كَالسَّرَاوِيلِ أَوِ الْخُفِّ، وَلَا يَسْتُرُ الرَّأْسَ أَصْلًا، وَلَا يَلْبَسُ مَا مَسَّهُ طِيبٌ كَالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ مِنَ الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ ذِكْرُ الْمُهِمِّ وَهُوَ مَا يَحْرُمُ لُبْسُهُ وَيُوجِبُ الْفِدْيَةَ.

قَوْلُهُ: (الْمُحْرِمُ) أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُنَا الرَّجُلُ، وَلَا يَلْتَحِقُ بِهِ الْمَرْأَةُ فِي ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ لِلْمَرْأَةِ لُبْسُ جَمِيعِ مَا ذُكِرَ، وَإِنَّمَا تَشْتَرِكُ مَعَ الرَّجُلِ فِي مَنْعِ الثَّوْبِ الَّذِي مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ أَوِ الْوَرْسِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي آخِرِ حَدِيثِ اللَّيْثِ الْآتِي فِي آخِرِ الْحَجِّ: لَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ كَمَا سَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ، وَقَوْلُهُ: لَا تَلْبَسُ بِالرَّفْعِ عَلَى الْخَبَرِ وَهُوَ فِي مَعْنَى النَّهْيِ، وَرُوِيَ بِالْجَزْمِ عَلَى أَنَّهُ نَهْيٌ، قَالَ عِيَاضٌ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَا يَلْبَسُهُ الْمُحْرِمُ، وَأَنَّهُ نَبَّهَ بِالْقَمِيصِ وَالسَّرَاوِيلِ عَلَى كُلِّ مَخِيطٍ، وَبِالْعَمَائِمِ وَالْبَرَانِسِ عَلَى كُلِّ مَا يُغَطَّى الرَّأْسُ بِهِ مَخِيطًا أَوْ غَيْرَهُ، وَبِالْخِفَافِ عَلَى كُلِّ مَا يَسْتُرُ الرِّجْلُ، انْتَهَى. وَخَصَّ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ الْإِجْمَاعَ الثَّانِي بِأَهْلِ الْقِيَاسِ وَهُوَ وَاضِحٌ، وَالْمُرَادُ بِتَحْرِيمِ الْمَخِيطِ مَا يُلْبَسُ عَلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي جُعِلَ لَهُ وَلَوْ فِي بَعْضِ الْبَدَنِ، فَأَمَّا لَوِ ارْتَدَى بِالْقَمِيصِ مَثَلًا فَلَا بَأْسَ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: ذَكَرَ الْعِمَامَةَ وَالْبُرْنُسَ مَعًا لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَغْطِيَةُ الرَّأْسِ لَا بِالْمُعْتَادِ وَلَا بِالنَّادِرِ، قَالَ: وَمِنَ النَّادِرِ الْمِكْتَلُ يَحْمِلُهُ عَلَى رَأْسِهِ. قُلْتُ: إِنْ أَرَادَ أَنَّهُ يَجْعَلُهُ عَلَى رَأْسِهِ كَلَابِسِ الْقُبَعِ صَحَّ مَا قَالَ، وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ وَضْعِهِ عَلَى رَأْسِهِ عَلَى هَيْئَةِ الْحَامِلِ لِحَاجَتِهِ لَا يَضُرُّ عَلَى مَذْهَبِهِ. وَمِمَّا لَا يَضُرُّ أَيْضًا الِانْغِمَاسُ فِي الْمَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى لَابِسًا، وَكَذَا سَتْرُ الرَّأْسِ بِالْيَدِ.

قَوْلُهُ: (إِلَّا أَحَدٌ) قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: يُسْتَفَادُ مِنْهُ جَوَازُ اسْتِعْمَالِ أَحَدٍ فِي الْإِثْبَاتِ خِلَافًا لِمَنْ خَصَّهُ بِضَرُورَةِ الشِّعْرِ، قَالَ: وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي بِالِاسْتِقْرَاءِ أَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْإِثْبَاتِ إِلَّا إِنْ كَانَ يَعْقُبُهُ نَفْيٌ.

قَوْلُهُ: (لَا يَجِدُ نَعْلَيْنِ) زَادَ مَعْمَرٌ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ زِيَادَةً حَسَنَةً تُفِيدُ ارْتِبَاطَ ذِكْرِ النَّعْلَيْنِ بِمَا سَبَقَ، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَلْيُحْرِمْ أَحَدُكُمْ فِي إِزَارٍ وَرِدَاءٍ وَنَعْلَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ. وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ عَلَى أَنَّ وَاجِدَ النَّعْلَيْنِ لَا يَلْبَسُ الْخُفَّيْنِ

ص: 402

الْمَقْطُوعَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَعَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ جَوَازُهُ، وَكَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنْ صَارَا كَالنَّعْلَيْنِ جَازَ، وَإِلَّا مَتَى سَتَرَا مِنْ ظَاهِرِ الرِّجْلِ شَيْئًا لَمْ يَجُزْ إِلَّا لِلْفَاقِدِ. وَالْمُرَادُ بِعَدَمِ الْوِجْدَانِ أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى تَحْصِيلِهِ؛ إِمَّا لِفَقْدِهِ، أَوْ تَرْكِ بَذْلِ الْمَالِكِ لَهُ وَعَجْزِهِ عَنِ الثَّمَنِ إِنْ وَجَدَ مَنْ يَبِيعُهُ أَوِ الْأُجْرَةُ، وَلَوْ بِيعَ بِغَبْنٍ لَمْ يَلْزَمْهُ شِرَاؤُهُ، أَوْ وُهِبَ لَهُ لَمْ يَجِبْ قَبُولُهُ إِلَّا إِنْ أُعِيرَ لَهُ.

قَوْلُهُ: (فَلْيَلْبَسْ) ظَاهِرُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، لَكِنَّهُ لَمَّا شُرِعَ لِلتَّسْهِيلِ لَمْ يُنَاسِبِ التَّثْقِيلَ، وَإِنَّمَا هُوَ لِلرُّخْصَةِ.

قَوْلُهُ: (وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ الْمَاضِيَةِ فِي آخِرِ كِتَابِ الْعِلْمِ: حَتَّى يَكُونَا تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ. وَالْمُرَادُ كَشْفُ الْكَعْبَيْنِ فِي الْإِحْرَامِ؛ وَهُمَا الْعَظْمَانِ النَّاتِئَانِ عِنْدَ مَفْصِلِ السَّاقِ وَالْقَدَمِ، وَيؤَيِّدُهُ مَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: إِذَا اضْطُرَّ الْمُحْرِمُ إِلَى الْخُفَّيْنِ خَرَقَ ظُهُورَهُمَا وَتَرَكَ فِيهِمَا قَدْرَ مَا يَسْتَمْسِكُ رِجْلَاهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: الْكَعْبُ هُنَا هُوَ الْعَظْمُ الَّذِي فِي وَسَطِ الْقَدَمِ عِنْدَ مَعْقِدِ الشِّرَاكِ، وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ لَا يُعْرَفُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لَا يَثْبُتُ عَنْ مُحَمَّدٍ، وأنَّ السَّبَبَ فِي نَقْلِهِ عَنْهُ أَنَّ هِشَامَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ الرَّازِيَّ سَمِعَهُ يَقُولُ فِي مَسْأَلَةِ الْمُحْرِمِ إِذَا لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ حَيْثُ يَقْطَعُ خُفَّيْهِ، فَأَشَارَ مُحَمَّدٌ بِيَدِهِ إِلَى مَوْضِعِ الْقَطْعِ، وَنَقَلَهُ هِشَامٌ إِلَى غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ فِي الطَّهَارَةِ، وَبِهَذَا يُتَعَقَّبُ عَلَى مَنْ نَقَلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، كَابْنِ بَطَّالٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْكَعْبَ هُوَ الشَّاخِصُ فِي ظَهْرِ الْقَدَمِ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَقْلِ ذَلِكَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ - عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ عَنْهُ - أَنْ يَكُونَ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَنُقِلَ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ - وَهُوَ قَوْلُ الْإِمَامِيَّةِ - أَنَّ الْكَعْبَ عَظْمٌ مُسْتَدِيرٌ تَحْتَ عَظْمِ السَّاقِ حَيْثُ مَفْصِلُ السَّاقِ وَالْقَدَمِ، وَجُمْهُورُ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّ فِي كُلِّ قَدَمٍ كَعْبَيْنِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا فِدْيَةَ عَلَى مَنْ لَبِسَهُمَا إِذَا لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ، وَعَنِ الْحَنَفِيَّةِ تَجِبُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ لَبَيَّنَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ وَقْتُ الْحَاجَةِ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى اشْتِرَاطِ الْقَطْعِ خِلَافًا لِلْمَشْهُورِ عَنْ أَحْمَدَ؛ فَإِنَّهُ أَجَازَ لُبْسَ الْخُفَّيْنِ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ لِإِطْلَاقِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْآتِي فِي أَوَاخِرِ الْحَجِّ بِلَفْظِ: وَمَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ مُوَافِقٌ عَلَى قَاعِدَةِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ بِهَا هُنَا. وَأَجَابَ الْحَنَابِلَةُ بِأَشْيَاءَ؛ مِنْهَا دَعْوَى النَّسْخِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، فَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ رَوَى عَنِ ابْنِ عُمَرَ حَدِيثَهُ، وَعَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ حَدِيثَهُ، وَقَالَ: انْظُرُوا أَيُّ الْحَدِيثَيْنِ قُبِلَ، ثُمَّ حَكَى الدَّارَقُطْنِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيِّ أَنَّهُ قَالَ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ لِأَنَّهُ كَانَ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِعَرَفَاتٍ. وَأَجَابَ الشَّافِعِيُّ عَنْ هَذَا فِي الْأُمِّ فَقَالَ: كِلَاهُمَا صَادِقٌ حَافِظٌ، وَزِيَادَةُ ابْنِ عُمَرَ لَا تُخَالِفُ ابْنَ عَبَّاسٍ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ عَزَبَتْ عَنْهُ أَوْ شَكَّ، أَوْ قَالَهَا فَلَمْ يَقُلْهَا عَنْهُ بَعْضُ رُوَاتِهِ، انْتَهَى.

وَسَلَكَ بَعْضُهُمُ التَّرْجِيحَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ اخْتُلِفَ فِي وَقْفِهِ وَرَفْعِهِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمْ يُخْتَلَفْ فِي رَفْعِهِ، انْتَهَى. وَهُوَ تَعْلِيلٌ مَرْدُودٌ، بَلْ لَمْ يُخْتَلَفْ عَلَى ابْنِ عُمَرَ فِي رَفْعِ الْأَمْرِ بِالْقَطْعِ إِلَّا فِي رِوَايَةٍ شَاذَّةٍ. عَلَى أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا؛ فَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا، وَلَا يَرْتَابُ أَحَدٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ جَاءَ بِإِسْنَادٍ وُصِفَ بِكَوْنِهِ أَصَحَّ الْأَسَانِيدِ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ مِنْهُمْ نَافِعٌ، وَسَالِمٌ، بِخِلَافِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَلَمْ يَأْتِ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْهُ، حَتَّى قَالَ الْأَصِيلِيُّ: إِنَّهُ شَيْخٌ بَصْرِيٌّ لَا يُعْرَفُ، كَذَا قَالَ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ مَوْصُوفٌ بِالْفِقْهِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ. وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِالْقِيَاسِ عَلَى السَّرَاوِيلِ كَمَا سَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْقِيَاسَ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ. وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِ عَطَاءٍ: إِنَّ الْقَطْعَ فَسَادٌ،

ص: 403

وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْفَسَادَ إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا نَهَى الشَّرْعُ عَنْهُ لَا فِيمَا أَذِنَ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: يُحْمَلُ الْأَمْرُ بِالْقَطْعِ عَلَى الْإِبَاحَةِ لَا عَلَى الِاشْتِرَاطِ عَمَلًا بِالْحَدِيثَيْنِ، وَلَا يَخْفَى تَكَلُّفُهُ.

قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَالْحِكْمَةُ فِي مَنْعِ الْمُحْرِمِ مِنَ اللِّبَاسِ وَالطِّيبِ الْبُعْدُ عَنِ التَّرَفُّهِ وَالِاتِّصَافُ بِصِفَةِ الْخَاشِعِ، وَلِيَتَذَكَّرَ بِالتَّجَرُّدِ الْقُدُومَ عَلَى رَبِّهِ فَيَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى مُرَاقَبَتِهِ وَامْتِنَاعِهِ مِنَ ارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ.

قَوْلُهُ: (وَلَا تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ أَوْ وَرْسٌ) قِيلَ: عَدَلَ عَنْ طَرِيقَةِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ إِشَارَةً إِلَى اشْتَرَاكِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي ذَلِكَ، وَفِيهِ نَظَرٌ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّ نُكْتَةَ الْعُدُولِ أَنَّ الَّذِي يُخَالِطُهُ الزَّعْفَرَانُ وَالْوَرْسُ لَا يَجُوزُ لُبْسُهُ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يَلْبَسُهُ الْمُحْرِمُ أَوْ لَا يَلْبَسُهُ. وَالْوَرْسُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ: نَبْتٌ أَصْفَرُ طَيِّبُ الرِّيحِ يُصْبَغُ بِهِ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَيْسَ الْوَرْسُ بِطِيبٍ، وَلَكِنَّهُ نَبَّهَ بِهِ عَلَى اجْتِنَابِ الطِّيبِ وَمَا يُشْبِهُهُ فِي مُلَاءَمَةِ الشَّمِّ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ تَحْرِيمُ أَنْوَاعِ الطِّيبِ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فِيمَا يُقْصَدُ بِهِ التَّطَيُّبُ. وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ مَسَّهُ عَلَى تَحْرِيمِ مَا صُبِغَ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ وَلَوْ خَفِيَتْ رَائِحَتُهُ. قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ: إِنَّمَا يُكْرَهُ لُبْسُ الْمُصْبَغَاتِ لِأَنَّهَا تُنْفَضُ. وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا صَارَ الثَّوْبُ بِحَيْثُ لَوْ أَصَابَهُ الْمَاءُ لَمْ تَفُحْ لَهُ رَائِحَةٌ لَمْ يُمْنَعْ. وَالْحُجَّةُ فِيهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْآتِي فِي الْبَابِ الَّذِي تَقَدَّمَ بِلَفْظِ: وَلَمْ يَنْهَ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الثِّيَابِ إِلَّا الْمُزَعْفَرَةَ الَّتِي تَرْدَعُ الْجِلْدَ. وَأَمَّا الْمَغْسُولُ فَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِذَا ذَهَبَتِ الرَّائِحَةُ جَازَ؛ خِلَافًا لِمَالِكٍ، وَاسْتُدِلَّ لَهُمْ بِمَا رَوَى أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ غَسِيلًا. أَخْرَجَهُ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْحِمَّانِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْهُ.

وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ أَنَّ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ أَنْكَرَهُ عَلَى الْحِمَّانِيِّ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ صَالِحٍ الْأَزْدِيُّ: قَدْ كَتَبْتُهُ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ. وَقَامَ فِي الْحَالِ فَأَخْرَجَ لَهُ أَصْلَهُ فَكَتَبَهُ عَنْهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، انْتَهَى. وَهِيَ زِيَادَةٌ شَاذَّةٌ؛ لِأَنَّ أَبَا مُعَاوِيَةَ وَإِنْ كَانَ مُتْقِنًا لَكِنْ فِي حَدِيثِهِ عَنْ غَيْرِ الْأَعْمَشِ مَقَالٌ، قَالَ أَحْمَدُ: أَبُو مُعَاوِيَةَ مُضْطَرِبُ الْحَدِيثِ فِي عُبَيْدِ اللَّهِ، وَلَمْ يَجِئْ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ غَيْرُهُ. قُلْتُ: وَالْحِمَّانِيُّ ضَعِيفٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ الَّذِي تَابَعَهُ فِيهِ مَقَالٌ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْمُهَلَّبُ عَلَى مَنْعِ اسْتِدَامَةِ الطِّيبِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَاسْتَنْبَطَ مَنْ مَنَعَ لُبْسَ الثَّوْبِ الْمُزَعْفَرِ مَنْعَ أَكْلِ الطَّعَامِ الَّذِي فِيهِ الزَّعْفَرَانُ؛ وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ، وَعَنِ الْمَالِكِيَّةِ خِلَافٌ. وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا يَحْرُمُ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ اللُّبْسُ وَالتَّطَيُّبُ، وَالْآكِلُ لَا يُعَدُّ مُتَطَيِّبًا.

(تَنْبِيهٌ): زَادَ الثَّوْرِيُّ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: وَلَا الْقَبَاءَ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهُ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الثَّوْرِيِّ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَفْصِ ابْنِ غِيَاثٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ أَيْضًا. وَالْقَبَاءُ بِالْقَافِ وَالْمُوَحَّدَةِ مَعْرُوفٌ، وَيُطْلَقُ عَلَى كُلِّ ثَوْبٍ مُفَرَّجٍ، وَمَنْعُ لُبْسِهِ عَلَى الْمُحْرِمِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: يُشْتَرَطُ أَنْ يُدْخِلَ يَدَيْهِ فِي كُمَّيْهِ لَا إِذَا أَلْقَاهُ عَلَى كَتِفَيْهِ، وَوَافَقَهُ أَبُو ثَوْرٍ، وَالْخِرَقِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ. وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ نَظِيرَهُ إِنْ كَانَ كُمُّهُ ضَيِّقًا، فَإِنْ كَانَ وَاسِعًا فَلَا.

‌22 - بَاب الرُّكُوبِ وَالِارْتِدَافِ فِي الْحَجِّ

1543، 1544 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ يُونُسَ الْأَيْلِيِّ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ أُسَامَةَ رضي الله عنه كَانَ رِدْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، ثُمَّ أَرْدَفَ الْفَضْلَ مِنْ الْمزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى، قَالَ: فَكِلَاهُمَا قَالَ: لَمْ يَزَلْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم

ص: 404

يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ.

[الحديث 1543 - طرفه في: 1686]

[الحديث 1544 - أطرافه في: 1670، 1685، 1687]

قَوْلُهُ: (بَابُ الرُّكُوبِ وَالِارْتِدَافُ فِي الْحَجِّ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي إِرْدَافِهِ صلى الله عليه وسلم أُسَامَةَ ثُمَّ الْفَضْلَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابِ التَّلْبِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ غَدَاةَ النَّحْرِ. وَالْقِصَّةُ وَإِنْ كَانَتْ وَرَدَتْ فِي حَالَةِ الدَّفْعِ مِنْ عَرَفَاتٍ إِلَى مِنًى، لَكِنْ يُلْحَقُ بِهَا مَا تَضَمَّنَتْهُ التَّرْجَمَةُ فِي جَمِيعِ حَالَاتِ الْحَجِّ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَصَدَ بِإِرْدَافِهِ مَنْ ذُكِرَ لِيُحَدِّثَ عَنْهُ بِمَا يَتَّفِقُ لَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ مِنَ التَّشْرِيعَ.

‌23 - بَاب مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ وَالْأَرْدِيَةِ وَالْأُزُرِ

وَلَبِسَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها الثِّيَابَ الْمُعَصْفَرَةَ وَهِيَ مُحْرِمَةٌ، وَقَالَتْ: لَا تَلَثَّمْ وَلَا تَتَبَرْقَعْ، وَلَا تَلْبَسْ ثَوْبًا بِوَرْسٍ وَلَا زَعْفَرَانٍ. وَقَالَ جَابِرٌ: لَا أَرَى الْمُعَصْفَرَ طِيبًا. وَلَمْ تَرَ عَائِشَةُ بَأْسًا بِالْحُلِيِّ وَالثَّوْبِ الْأَسْوَدِ وَالْمُوَرَّدِ وَالْخُفِّ لِلْمَرْأَةِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: لَا بَأْسَ أَنْ يُبْدِلَ ثِيَابَهُ.

1545 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي كُرَيْبٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: انْطَلَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْمَدِينَةِ بَعْدَ مَا تَرَجَّلَ وَادَّهَنَ وَلَبِسَ إِزَارَهُ وَرِدَاءَهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَلَمْ يَنْهَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ الْأَرْدِيَةِ وَالْأُزُرِ تُلْبَسُ إِلَّا الْمُزَعْفَرَةَ الَّتِي تَرْدَعُ عَلَى الْجِلْدِ، فَأَصْبَحَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، رَكِبَ رَاحِلَتَهُ حَتَّى اسْتَوَى عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَقَلَّدَ بَدَنَتَهُ، وَذَلِكَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، فَقَدِمَ مَكَّةَ لِأَرْبَعِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحَجَّةِ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلَمْ يَحِلَّ مِنْ أَجْلِ بُدْنِهِ لِأَنَّهُ قَلَّدَهَا. ثُمَّ نَزَلَ بِأَعْلَى مَكَّةَ عِنْدَ الْحَجُونِ وَهُوَ مُهِلٌّ بِالْحَجِّ، وَلَمْ يَقْرَبْ الْكَعْبَةَ بَعْدَ طَوَافِهِ بِهَا حَتَّى رَجَعَ مِنْ عَرَفَةَ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ يُقَصِّرُوا مِنْ رُءُوسِهِمْ ثُمَّ يَحِلُّوا، وَذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ بَدَنَةٌ قَلَّدَهَا، وَمَنْ كَانَتْ مَعَهُ امْرَأَتُهُ فَهِيَ لَهُ حَلَالٌ وَالطِّيبُ وَالثِّيَابُ.

[الحديث 1545 - طرفاه في: 1625، 1731]

قَوْلُهُ: (بَابٌ مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ وَالْأَرْدِيَةِ وَالْأُزُرِ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ مُغَايِرَةٌ لِلسَّابِقَةِ الَّتِي قَبْلَهَا مِنْ حَيْثُ أنَّ تِلْكَ مَعْقُودَةٌ لِمَا لَا يُلْبَسُ مِنْ أَجْنَاسِ الثِّيَابِ، وَهَذِهِ لِمَا يُلْبَسُ مِنْ أَنْوَاعِهَا. وَالْأُزُرُ - بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالزَّاي - جَمْعُ إِزَارٍ.

قَوْلُهُ: (وَلَبِسَتْ عَائِشَةُ الثِّيَابَ الْمُعَصْفَرَةَ وَهِيَ مُحْرِمَةٌ) وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: كَانَتْ عَائِشَةُ تَلْبَسُ الثِّيَابَ الْمُعَصْفَرَةَ وَهِيَ مُحْرِمَةٌ. إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَلْبَسُ الثِّيَابَ الْمُوَرَّدَةَ بِالْعُصْفُرِ الْخَفِيفِ وَهِيَ مُحْرِمَةٌ. وَأَجَازَ الْجُمْهُورُ لُبْسَ الْمُعَصْفَرِ لِلْمُحْرِمِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: الْعُصْفُرُ طِيبٌ، وَفِيهِ الْفِدْيَةُ. وَاحْتَجَّ بِأَنَّ عُمَرَ كَانَ يَنْهَى عَنِ الثِّيَابِ الْمُصْبَغَةِ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ بِأَنَّ عُمَرَ كَرِهَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَقْتَدِيَ بِهِ الْجَاهِلُ فَيَظُنُّ جَوَازَ لُبْسِ الْمُوَرَّسِ وَالْمُزَعْفَرِ، ثُمَّ سَاقَ لَهُ قِصَّةً مَعَ طَلْحَةَ فِيهَا بَيَانُ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَتْ)؛

ص: 405

أَيْ عَائِشَةُ (لَا تَلَثَّمْ) بِمُثَنَّاةِ وَاحِدَةٍ وَتَشْدِيدِ الْمُثَلَّثَةِ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ: تَلْتَثِمُ؛ بِسُكُونِ اللَّامِ وَزِيَادَةِ مُثَنَّاةٍ بَعْدَهَا، أَيْ لَا تُغَطِّي شَفَتَهَا بِثَوْبٍ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَسَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ مِنَ الْأَصْلِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: تُسْدِلُ الْمَرْأَةُ جِلْبَابَهَا مِنْ فَوْقِ رَأْسِهَا عَلَى وَجْهِهَا. وَفِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ الْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ قَالَا: لَا تَلْبَسِ الْمُحْرِمَةُ الْقُفَّازَيْنِ وَالسَّرَاوِيلَ، وَلَا تُبَرْقِعْ وَلَا تَلَثَّمْ، وَتَلْبَسُ مَا شَاءَتْ مِنَ الثِّيَابِ إِلَّا ثَوْبًا يَنْفُضُ عَلَيْهَا وَرْسًا أَوْ زَعْفَرَانًا. وَهَذَا يُشْبِهُ مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ عَنْ عَائِشَةَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ جَابِرٌ)؛ أَيِ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّحَابِيُّ.

قَوْلُهُ: (لَا أَرَى الْمُعَصْفَرَ طِيبًا)؛ أَيْ تَطَيُّبًا. وَصَلَهُ الشَّافِعِيُّ وَمُسَدَّدٌ بِلَفْظِ: لَا تَلْبَسُ الْمَرْأَةُ ثِيَابَ الطِّيبِ، وَلَا أَرَى الْمُعَصْفَرَ طِيبًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَلَمْ تَرَ عَائِشَةُ بَأْسًا بِالْحُلِيِّ وَالثَّوْبِ الْأَسْوَدِ وَالْمُوَرَّدِ وَالْخُفِّ لِلْمَرْأَةِ) وَصَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ بَابَاهُ الْمَكِّيُّ أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ عَائِشَةَ: مَا تَلْبَسُ الْمَرْأَةُ فِي إِحْرَامِهَا؟ قَالَتْ عَائِشَةُ: تَلْبَسُ مِنْ خَزِّهَا وَبَزِّهَا وَأَصْبَاغِهَا وَحُلِيِّهَا. وَأَمَّا الْمُوَرَّدُ - وَالْمُرَادُ مَا صُبِغَ عَلَى لَوْنِ الْوَرْدِ - فَسَيَأْتِي مَوْصُولًا فِي: بَابِ طَوَافِ النِّسَاءِ فِي آخِرِ حَدِيثِ عَطَاءٍ عَنْ عَائِشَةَ، وَأَمَّا الْخُفُّ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَالْحَسَنِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تَلْبَسُ الْمَخِيطَ كُلَّهُ وَالْخِفَافَ، وَأَنَّ لَهَا أَنْ تُغَطِّيَ رَأْسَهَا وَتَسْتُرَ شَعْرَهَا إِلَّا وَجْهَهَا فَتَسْدُلُ عَلَيْهِ الثَّوْبَ سَدْلًا خَفِيفًا تستتر بِهِ عَنْ نَظَرِ الرِّجَالِ. وَلَا تُخَمِّرْهُ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ قَالَتْ: كُنَّا نُخَمِّرُ وُجُوهَنَا وَنَحْنُ مُحْرِمَاتٌ مَعَ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ؛ تَعْنِي جَدَّتَهَا. قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ التَّخْمِيرُ سَدْلًا كَمَا جَاءَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا مَرَّ بِنَا رَكْبٌ سَدَلْنَا الثَّوْبَ عَلَى وُجُوهِنَا وَنَحْنُ مُحْرِمَاتٌ، فَإِذَا جَاوَزْنَا رَفَعْنَاهُ، انْتَهَى. وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ هُوَ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنْهَا، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ)؛ أَيِ النَّخَعِيُّ.

قَوْلُهُ: (لَا بَأْسَ أَنْ يُبَدِّلَ ثِيَابَهُ) وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ؛ كِلَاهُمَا عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ مُغِيرَةَ، وَعَبْدِ الْمَلِكِ، وَيُونُسَ، أَمَّا مُغِيرَةُ فَعَنْ إِبْرَاهِيمَ، وَأَمَّا عَبْدُ الْمَلِكِ فَعَنْ عَطَاءٍ، وَأَمَّا يُونُسُ فَعَنِ الْحَسَنِ؛ قَالُوا: يُغَيِّرُ الْمُحْرِمُ ثِيَابَهُ مَا شَاءَ، لَفْظُ سَعِيدٍ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا بَأْسًا أَنْ يُبَدِّلَ الْمُحْرِمُ ثِيَابَهُ. قَالَ سَعِيدٌ: وَحَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُنَا إِذَا أَتَوْا بِئْرَ مَيْمُونٍ اغْتَسَلُوا وَلَبِسُوا أَحْسَنَ ثِيَابِهِمْ فَدَخَلُوا فِيهَا مَكَّةَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا فُضَيْلٌ) هُوَ بِالتَّصْغِيرِ.

قَوْلُهُ: (تَرَجَّلَ)؛ أَيْ سَرَّحَ شَعْرَهُ.

قَوْلُهُ: (وَادَّهَنَ) قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَأْكُلَ الزَّيْتَ وَالشَّحْمَ وَالسَّمْنَ وَالشَّيْرَجَ وَأَنْ يَسْتَعْمِلَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ بَدَنِهِ سِوَى رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ، وَأَجْمَعُوا أَنَّ الطِّيبَ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي بَدَنِهِ، فَفَرَّقُوا بَيْنَ الطِّيبِ وَالزَّيْتِ فِي هَذَا، فَقِيَاسُ كَوْنِ الْمُحْرِمِ مَمْنُوعًا عنِ اسْتِعْمَالِ الطِّيبِ فِي رَأْسِهِ أَنْ يُبَاحَ لَهُ اسْتِعْمَالُ الزَّيْتِ فِي رَأْسِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ قَبْلُ بِأَبْوَابٍ.

قَوْلُهُ: (الَّتِي تَرْدَعُ) بِالْمُهْمَلَةِ؛ أَيْ تُلَطَّخُ. يُقَالُ: رَدَعَ، إِذَا الْتَطَخَ، وَالرَّدْعُ أَثَرُ الطِّيبِ، وَرَدَعَ بِهِ الطِّيبُ إِذَا لَزِقَ بِجِلْدِهِ. قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وَقَدْ رُوِيَ بِالْمُعْجَمَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَرْدَغَتِ الْأَرْضُ؛ إِذَا كَثُرَتْ مَنَاقِعُ الْمِيَاهِ فِيهَا، وَالرَّدْغُ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ الطِّينُ، انْتَهَى. وَلَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ ضَبْطُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، وَلَا تَعَرَّضَ لَهَا عِيَاضٌ وَلَا ابْنُ قُرْقُولٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَوَقَعَ فِي الْأَصْلِ تُرْدَعُ عَلَى الْجِلْدِ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: الصَّوَابُ حَذْفُ عَلَى، كَذَا قَالَ، وَإِثْبَاتُهَا مُوَجَّهٌ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ.

قَوْلُهُ: (فَأَصْبَحَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ)؛ أَيْ وَصَلَ إِلَيْهَا نَهَارًا ثُمَّ بَاتَ بِهَا كَمَا سَيَأْتِي صَرِيحًا فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى اسْتَوَى عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ) تَقَدَّمَ نَقْلُ الْخِلَافِ

ص: 406

فِي ذَلِكَ وَطَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (وَذَلِكَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ) أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِثْلَهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، احْتَجَّ بِهِ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ لَهُ عَلَى أَنَّ خُرُوجَهُ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمَدِينَةِ كَانَ يَوْمَ الْخَمِيسِ، قَالَ: لِأَنَّ أَوَّلَ ذِي الْحِجَّةِ كَانَ يَوْمَ الْخَمِيسِ بِلَا شَكٍّ، لِأَنَّ الْوَقْفَةَ كَانَتْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِلَا خِلَافٍ، وَظَاهِرُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لِخَمْسٍ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ خُرُوجُهُ مِنَ الْمَدِينَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِنَاءً عَلَى تَرْكِ عَدِّ يَوْمِ الْخُرُوجِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ يَوْمُ الْخَمِيسِ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ بِأَنَّ الْمُتَعَيِّنَ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ السَّبْتِ بِنَاءً عَلَى عَدِّ يَوْمِ الْخُرُوجِ أَوْ عَلَى تَرْكِ عَدِّهِ، وَيَكُونَ ذُو الْقَعْدَةِ تِسْعًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا، انْتَهَى. وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ، وَالْحَاكِمُ فِي الْإِكْلِيلِ أَنَّ خُرُوجَهُ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمَدِينَةِ كَانَ يَوْمَ السَّبْتِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ مَنَعَ إِطْلَاقَ الْقَوْلِ فِي التَّارِيخِ لِئَلَّا يَكُونَ الشَّهْرُ نَاقِصًا، فَلَا يَصِحُّ الْكَلَامُ، فَيَقُولُ مَثَلًا: لِخَمْسٍ إِنْ بَقِينَ، بِزِيَادَةِ أَدَاةِ الشَّرْطِ، وَحُجَّةُ الْمُجِيزِ أَنَّ الْإِطْلَاقَ يَكُونُ عَلَى الْغَالِبِ، وَمُقْتَضَى قَوْلِهِ أَنَّهُ دَخَلَ مَكَّةَ لِأَرْبَعٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ أَنْ يَكُونَ دَخَلَهَا صُبْحَ يَوْمِ الْأَحَدِ، وَبِهِ صَرَّحَ الْوَاقِدِيُّ.

قَوْلُهُ: (وَالطِّيبُ وَالثِّيَابُ)؛ أَيْ كَذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: الْحَجُونَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا جِيمٌ مَضْمُومَةٌ، هُوَ الْجَبَلُ الْمُطِلُّ عَلَى الْمَسْجِدِ بِأَعْلَى مَكَّةَ عَلَى يَمِينِ الْمِصْعَدِ، وَهُنَاكَ مَقْبَرَةُ أَهْلِ مَكَّةَ. وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ شَرْحِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا مُفَرَّقًا فِي الْأَبْوَابِ.

‌24 - بَاب مَنْ بَاتَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ حَتَّى أَصْبَحَ

قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

1546 -

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَبِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ بَاتَ حَتَّى أَصْبَحَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، فَلَمَّا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ وَاسْتَوَتْ بِهِ أَهَلَّ.

1547 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا وَصَلَّى الْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ قَالَ: وَأَحْسِبُهُ بَاتَ بِهَا حَتَّى أَصْبَحَ"

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ بَاتَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ حَتَّى أَصْبَحَ) يَعْنِي إِذَا كَانَ حَجُّهُ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ مَشْرُوعِيَّةُ الْمَبِيتِ بِالْقُرْبِ مِنَ الْبَلَدِ الَّتِي يُسَافِرُ مِنْهَا لِيَكُونَ أَمْكَنَ مِنَ التَّوَصُّلِ إِلَى مُهِمَّاتِهِ الَّتِي يَنْسَاهَا مَثَلًا. قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ سُنَنِ الْحَجِّ، وإِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ الرِّفْقِ لِيُلْحَقَ بِهِ مَنْ تَأَخَّرَ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَعَلَّهُ أَرَادَ أَنْ يَدْفَعَ تَوَهُّمَ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الْإِقَامَةَ بِالْمِيقَاتِ وَتَأْخِيرَ الْإِحْرَامِ شَبِيهٌ بِمَنْ تَعَدَّاهُ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ، فَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ حَتَّى يَنْفَصِلَ عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ) يُشِيرُ إِلَى حَدِيثِهِ الْمُتَقَدِّمِ فِي بَابِ خُرُوجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى طَرِيقِ الشَّجَرَةِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي ابْنُ الْمُنْكَدِرِ) كَذَا رَوَاهُ الْحُفَّاظُ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْهُ، وَخَالَفَهُمْ عِيسَى بْنُ يُونُسَ فَقَالَ: عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ. وَهِيَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ.

قَوْلُهُ: (وَبِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ) فِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ قَصْرِ الصَّلَاةِ لِمَنْ خَرَجَ مِنْ بُيُوتِ الْبَلَدِ وَبَاتَ خَارِجًا عَنْهَا وَلَوْ لَمْ يَسْتَمِرَّ سَفَرُهُ، وَاحْتَجَّ بِهِ أَهْلُ الظَّاهِرِ فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ وَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ كَابْتِدَاءِ سَفَرٍ لَا الْمُنْتَهَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي أَبْوَابِ قَصْرِ الصَّلَاةِ، وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي ابْتِدَاءِ

ص: 407

إِهْلَالِهِ صلى الله عليه وسلم قَرِيبًا.

قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ.

قَوْلُهُ: (وَأَحْسَبُهُ) الشَّكُّ فِيهِ مِنْ أَبِي قِلَابَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي طَرِيقِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ الَّتِي قَبْلَهَا بِغَيْرِ شَكٍّ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ بَابَيْنِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ أَيُّوبَ بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ.

‌25 - باب رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْإِهْلَالِ

1548 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا، وَالْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، وَسَمِعْتُهُمْ يَصْرُخُونَ بِهِمَا جَمِيعًا.

قَوْلُهُ: (بَابُ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْإِهْلَالِ) قَالَ الطَّبَرِيُّ: الْإِهْلَالُ هُنَا رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ، وَكُلُّ رَافِعٍ صَوْتَهُ بِشَيْءٍ فَهُوَ مُهِلٌّ بِهِ. وَأَمَّا أَهَلَّ الْقَوْمُ الْهِلَالَ فَأَرَى أَنَّهُ مِنْ هَذَا؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ، انْتَهَى. وَسَيَأْتِي اخْتِيَارُ الْبُخَارِيِّ خِلَافَ ذَلِكَ بَعْدَ أَبْوَابِ.

قَوْلُهُ: (وَسَمِعْتُهُمْ يَصْرُخُونَ بِهِمَا جَمِيعًا)؛ أَيْ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَمُرَادُ أَنَسٍ بِذَلِكَ مَنْ نَوَى مِنْهُمُ الْقِرَانَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْزِيعِ؛ أَيْ بَعْضُهُمْ بِالْحَجِّ وَبَعْضُهُمْ بِالْعُمْرَةِ، قَالَهُ الْكِرْمَانِيُّ. وَيُشْكِلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الْأُخْرَى: يَقُولُ: لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا. وَسَيَأْتِي إِنْكَارُ ابْنِ عُمَرَ عَلَى أَنَسٍ ذَلِكَ، وسَيَأْتِي مَا فِيهِ فِي بَابِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ وَفِيهِ حُجَّةٌ لِلْجُمْهُورِ فِي اسْتِحْبَابِ رَفْعِ الْأَصْوَاتِ بِالتَّلْبِيَةِ. وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ - مِنْ طَرِيقِ خَلَّادِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا: جَاءَنِي جِبْرِيلُ فَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالْإِهْلَالِ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، إِلَّا أَنَّهُ اخْتُلِفَ عَلَى التَّابِعِيِّ فِي صَحَابِيِّهِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ قَالَ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ فَلَبَّى حَتَّى أَسْمَعَ مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ حَتَّى تُبَحَّ أَصْوَاتُهُمْ. وَاخْتَلَفَ الرُّوَاةُ عَنْ مَالِكٍ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ: لَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ مِنًى، وَقَالَ فِي الْمُوَطَّأِ: لَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ فِي مَسْجِدِ الْجَمَاعَاتِ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ شَيْئًا.

وَوَجْهُ الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ جُعِلَ لِلْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِ وَغَيْرِهِمَا، وَكَانَ الْمُلَبِّي إِنَّمَا يَقْصِدُ إِلَيْهِ، فَكَانَ ذَلِكَ وَجْهُ الْخُصُوصِيَّةِ، وَكَذَلِكَ مَسْجِدُ مِنًى.

‌26 - بَاب التَّلْبِيَةِ

1549 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ.

1550 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي عَطِيَّةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: إِنِّي لَأَعْلَمُ كَيْفَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُلَبِّي: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ. تَابَعَهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ.

ص: 408

قوله: (باب التلبية) هي مصدر لبى؛ أي قال: لبيك، ولا يكون عامله إلا مضمرا.

قَوْلُهُ: (لَبَّيْكَ) هُوَ لَفْظٌ مُثَنًّى عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَمَنْ تَبِعَهُ. وَقَالَ يُونُسُ: هُوَ اسْمٌ مُفْرَدٌ، وَأَلِفُهُ إِنَّمَا انْقَلَبَتْ يَاءً لِاتِّصَالِهَا بِالضَّمِيرِ كَلَدَيَّ وَعَلَيَّ. وَرُدَّ بِأَنَّهَا قُلِبَتْ يَاءً مَعَ الْمُظْهَرِ. وَعَنِ الْفَرَّاءِ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَأَصْلُهُ لَبًّا لَكَ، فَثُنِّيَ عَلَى التَّأْكِيدِ؛ أَيِ إِلْبَابًا بَعْدَ إِلْبَابٍ، وَهَذِهِ التَّثْنِيَةُ لَيْسَتْ حَقِيقِيَّةً، بَلْ هِيَ لِلتَّكْثِيرِ أَوِ الْمُبَالَغَةِ، وَمَعْنَاهُ إِجَابَةً بَعْدَ إِجَابَةٍ أَوْ إِجَابَةً لَازِمَةً. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَمِثْلُهُ حَنَانَيْكَ، أَيْ تَحَنُّنًا بَعْدَ تَحَنُّنٍ. وَقِيلَ: مَعْنَى لَبَّيْكَ اتِّجَاهِي وَقَصْدِي إِلَيْكَ، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: دَارِي تَلُبُّ دَارَكَ أَيْ تُوَاجِهُهَا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَحَبَّتِي لَكَ؛ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمُ: امْرَأَةٌ لَبَّةٌ أَيْ مُحِبَّةٌ. وَقِيلَ: إِخْلَاصِي لَكَ، مِنْ قَوْلِهِمْ: حُبٌّ لَبَابٌ؛ أَيْ خَالِصٌ. وَقِيلَ: أَنَا مُقِيمٌ عَلَى طَاعَتِكَ، مِنْ قَوْلِهِمْ: لَبَّ الرَّجُلُ بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ. وَقِيلَ: قُرْبًا مِنْكَ مِنَ الْإِلْبَابِ، وَهُوَ الْقُرْبُ. وَقِيلَ: خَاضِعًا لَكَ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَأَشْهَرُ؛ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ مُسْتَجِيبٌ لِدُعَاءِ اللَّهِ إِيَّاهُ فِي حَجِّ بَيْتِهِ، وَلِهَذَا مَنْ دَعَا فَقَالَ: لَبَّيْكَ، فَقَدِ اسْتَجَابَ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَعْنَى التَّلْبِيَةِ إِجَابَةُ دَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ حِينَ أَذَّنَ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ، انْتَهَى.

وَهَذَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِأَسَانِيدِهِمْ فِي تَفَاسِيرِهِمْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَقَتَادَةَ وَغَيْرِ وَاحِدٍ، وَالْأَسَانِيدُ إِلَيْهِمْ قَوِيَّةٌ، وَأَقْوَى مَا فِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ قَابُوسِ بْنِ أَبِي ظَبْيَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا فَرَغَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ قِيلَ لَهُ: أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ. قَالَ: رَبِّ، وَمَا يَبْلُغُ صَوْتِي؟ قَالَ: أَذِّنْ، وَعَلَيَّ الْبَلَاغُ. قَالَ: فَنَادَى إِبْرَاهِيمُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْحَجُّ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ. فَسَمِعَهُ مَنْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، أَفَلَا تَرَوْنَ أَنَّ النَّاسَ يَجِيئُونَ مِنْ أَقْصَى الْأَرْضِ يُلَبُّونَ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ وَفِيهِ: فَأَجَابُوهُ بِالتَّلْبِيَةِ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَأَرْحَامِ النِّسَاءِ. وَأَوَّلُ مَنْ أَجَابَهُ أَهْلُ الْيَمَنِ، فَلَيْسَ حَاجٌّ يَحُجُّ مِنْ يَوْمَئِذٍ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ إِلَّا مَنْ كَانَ أَجَابَ إِبْرَاهِيمَ يَوْمَئِذٍ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: وَفِي مَشْرُوعِيَّةِ التَّلْبِيَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى إِكْرَامِ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ بِأَنَّ وُفُودَهُمْ عَلَى بَيْتِهِ إِنَّمَا كَانَ بِاسْتِدْعَاءٍ مِنْهُ سبحانه وتعالى.

قَوْلُهُ: (إِنَّ الْحَمْدَ) رُوِيَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَبِفَتْحِهَا عَلَى التَّعْلِيلِ، وَالْكَسْرُ أَجْوَدُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ ثَعْلَبٌ: لِأَنَّ مَنْ كَسَرَ جَعَلَ مَعْنَاهُ إِنَّ الْحَمْدَ لَكَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَمَنْ فَتَحَ قَالَ: مَعْنَاهُ لَبَّيْكَ لِهَذَا السَّبَبِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَهِجَ الْعَامَّةُ بِالْفَتْحِ، وَحَكَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْمَعْنَى عِنْدِي وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ مَنْ فَتَحَ أَرَادَ لَبَّيْكَ، لِأَنَّ الْحَمْدَ لَكَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ التَّقْيِيدَ لَيْسَ فِي الْحَمْدِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي التَّلْبِيَةِ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الْكَسْرُ أَجْوَدُ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْإِجَابَةُ مُطْلَقَةً غَيْرَ مُعَلَّلَةٍ، وَأَنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَالْفَتْحُ يَدُلُّ عَلَى التَّعْلِيلِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: أَجَبْتُكَ لِهَذَا السَّبَبِ، وَالْأَوَّلُ أَعَمُّ فَهُوَ أَكْثَرُ فَائِدَةً. وَلَمَّا حَكَى الرَّافِعِيُّ الْوَجْهَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ رَجَّحَ النَّوَوِيُّ الْكَسْرَ، وَهَذَا خِلَافُ مَا نَقَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ اخْتَارَ الْفَتْحَ وَأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ اخْتَارَ الْكَسْرَ.

قَوْلُهُ: (وَالنِّعْمَةَ لَكَ) الْمَشْهُورُ فِيهِ النَّصْبُ، قَالَ عِيَاضٌ: وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَيَكُونُ الْخَبَرُ مَحْذُوفًا، وَالتَّقْدِيرُ أَنَّ الْحَمْدَ لَكَ وَالنِّعْمَةَ مُسْتَقِرَّةٌ لَكَ، قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: قَرَنَ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ وَأَفْرَدَ الْمُلْكَ؛ لِأَنَّ الْحَمْدَ مُتَعَلَّقُ النِّعْمَةِ، وَلِهَذَا يُقَالُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى نِعَمِهِ، فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا حَمْدَ إِلَّا لَكَ، لِأَنَّهُ لَا نِعْمَةَ إِلَّا لَكَ، وَأَمَّا الْمُلْكُ فَهُوَ مَعْنًى مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ ذُكِرَ لِتَحْقِيقِ أَنَّ النِّعْمَةَ كُلُّهَا لِلَّهِ؛ لأنه صَاحِبِ الْمُلْكِ.

قَوْلُهُ: (وَالْمُلْكَ) بِالنَّصْبِ أَيْضًا عَلَى الْمَشْهُورِ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ؛ وَتَقْدِيرُهُ: وَالْمُلْكُ

ص: 409

كَذَلِكَ. وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ وَغَيْرِهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ عِنْدَ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ أَهَلَّ فَقَالَ: لَبَّيْكَ. . . الْحَدِيثَ. وَلِلْمُصَنِّفِ فِي اللِّبَاسِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُهِلُّ مُلَبِّدًا، يَقُولُ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ. . . الْحَدِيثَ. وَقَالَ فِي آخِرِهِ: لَا يَزِيدُ عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: كَانَ عُمَرُ يُهِلُّ بِهَذَا وَيَزِيدُ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، وَالرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ وَالْعَمَلُ. وَهَذَا الْقَدْرُ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ أَيْضًا عَنْدَهُ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَزِيدُ فِيهَا، فَذَكَرَ نَحْوَهُ، فَعُرِفَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ اقْتَدَى فِي ذَلِكَ بِأَبِيهِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ: كَانَتْ تَلْبِيَةُ عُمَرَ فَذَكَرَ مِثْلَ الْمَرْفُوعِ، وَزَادَ: لَبَّيْكَ مَرْغُوبًا وَمَرْهُوبًا إِلَيْكَ ذَا النَّعْمَاءِ وَالْفَضْلِ الْحَسَنِ.

اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى اسْتِحْبَابِ الزِّيَادَةِ عَلَى مَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ، قَالَ الطَّحَاوِيُّ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَائِشَةَ، وَجَابِرٍ، وَعَمْرِو بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ جَمِيعًا عَلَى هَذِهِ التَّلْبِيَةِ، غَيْرَ أَنَّ قَوْمًا قَالُوا: لَا بَأْسَ أَنْ يَزِيدَ فِيهَا مِنَ الذِّكْرِ لِلَّهِ مَا أَحَبَّ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ يَعْنِي الَّذِي أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، قَالَ: كَانَ مِنْ تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَبَّيْكَ إِلَهَ الْحَقِّ لَبَّيْكَ. وَبِزِيَادَةِ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورَةِ، وَخَالَفَهُمْ آخَرُونَ فَقَالُوا: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ عَلَى مَا عَلَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ كَمَا فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ، ثُمَّ فَعَلَهُ هُوَ وَلَمْ يَقُلْ لَبُّوا بِمَا شِئْتُمْ مِمَّا هُوَ مِنْ جِنْسِ هَذَا، بَلْ عَلَّمَهُمْ كَمَا عَلَّمَهُمُ التَّكْبِيرَ فِي الصَّلَاةِ، فَكَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَدَّى فِي ذَلِكَ شَيْئًا مِمَّا عَلَّمَهُ. ثُمَّ أَخْرَجَ حَدِيثَ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لَبَّيْكَ ذَا الْمَعَارِجِ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَذُو الْمَعَارِجِ، وَمَا هَكَذَا كُنَّا نُلَبِّي عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: فَهَذَا سَعْدٌ قَدْ كَرِهَ الزِّيَادَةَ فِي التَّلْبِيَةِ، وَبِهِ نَأْخُذُ، انْتَهَى. وَيَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ مَا وَقَعَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَانَ مِنْ تَلْبِيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

فَذَكَرَهُ، فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ يُلَبِّي بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَا تَقَدَّمَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَبَّيْكَ غَفَّارَ الذُّنُوبِ. وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ فِي صِفَةِ الْحَجِّ: حَتَّى اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ. . . إِلَخْ. قَالَ: وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهَذَا الَّذِي يُهِلُّونَ بِهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْهُ، وَلَزِمَ تَلْبِيَتُهُ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مِنْهُ مُسْلِمٌ، قَالَ: وَالنَّاسُ يَزِيدُونَ ذَا الْمَعَارِجِ وَنَحْوَهُ مِنَ الْكَلَامِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَسْمَعُ فَلَا يَقُولُ لَهُمْ شَيْئًا. وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ: ذَا الْمَعَارِجِ وَذَا الْفَوَاضِلِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى التَّلْبِيَةِ الْمَرْفُوعَةِ أَفْضَلُ لِمُدَاوَمَتِهِ هُوَ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهَا، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالزِّيَادَةِ لِكَوْنِهِ لَمْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِمْ وَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهَا، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَبِهِ صَرَّحَ أَشْهَبُ. وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَنْ مَالِكٍ الْكَرَاهَةَ، قَالَ: وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: حَكَى أَهْلُ الْعِرَاقِ عَنِ الشَّافِعِيِّ - يَعْنِي فِي الْقَدِيمِ - أَنَّهُ كَرِهَ الزِّيَادَةَ عَلَى الْمَرْفُوعِ، وَغَلِطُوا، بَلْ لَا يُكْرَهُ وَلَا يُسْتَحَبُّ. وَحَكَى التِّرْمِذِيُّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ قَالَ: فَإِنْ زَادَ فِي التَّلْبِيَةِ شَيْئًا مِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ فَلَا بَأْسَ، وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَذَلِكَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ حَفِظَ التَّلْبِيَةَ عَنْهُ، ثُمَّ زَادَ مِنْ قِبَلِهِ زِيَادَةً.

وَنَصَبَ الْبَيْهَقِيُّ الْخِلَافَ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ فَقَالَ: الِاقْتِصَارُ عَلَى الْمَرْفُوعِ أَحَبُّ، وَلَا ضِيقَ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهَا. قَالَ: وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ زَادَ فَحَسَنٌ. وَحَكَى فِي الْمَعْرِفَةِ عَنِ الشَّافِعِيِّ قَالَ: وَلَا ضِيقَ عَلَى أَحَدٍ فِي قَوْلِ مَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ وَدُعَائِهِ، غَيْرَ أَنَّ الِاخْتِيَارِ عِنْدِي أَنْ يُفْرِدَ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ، انْتَهَى. وَهَذَا أَعْدَلُ الْوُجُوهِ، فَيُفْرِدُ مَا جَاءَ مَرْفُوعًا، وَإِذَا اخْتَارَ قَوْلَ مَا جَاءَ مَوْقُوفًا أَوْ أَنْشَأَهُ هُوَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ

ص: 410

مِمَّا يَلِيقُ قَالَهُ عَلَى انْفِرَادِهِ حَتَّى لَا يَخْتَلِطَ بِالْمَرْفُوعِ. وَهُوَ شَبِيهٌ بِحَالِ الدُّعَاءِ فِي التَّشَهُّدِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: ثُمَّ لِيَتَخَيَّرْ مِنَ الْمَسْأَلَةِ وَالثَّنَاءِ مَا شَاءَ؛ أَيْ بَعْدَ أَنْ يَفْرُغَ مِنَ الْمَرْفُوعِ كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ.

(تَكْمِيلٌ): لَمْ يَتَعَرَّضِ الْمُصَنِّفُ لِحُكْمِ التَّلْبِيَةِ، وَفِيهَا مَذَاهِبُ أَرْبَعَةٌ يُمْكِنُ تَوْصِيلُهَا إِلَى عَشْرَةٍ؛ الْأَوَّلُ أَنَّهَا سُنَّةٌ مِنَ السُّنَنِ لَا يَجِبُ بِتَرْكِهَا شَيْءٌ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ. ثَانِيهَا: وَاجِبَةٌ وَيَجِبُ بِتَرْكِهَا دَمٌ، حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَ: إِنَّهُ وَجَدَ لِلشَّافِعِيِّ نَصًّا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَحَكَاهُ ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْخَطَّابِيُّ، عَنْ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَغْرَبَ النَّوَوِيُّ فَحَكَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا سُنَّةٌ وَيَجِبُ بِتَرْكِهَا دَمٌ، وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ إِلَّا أَنَّ ابْنَ الْجَلَّابِ قَالَ: التَّلْبِيَةُ فِي الْحَجِّ مَسْنُونَةٌ غَيْرُ مَفْرُوضَةٍ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: يُرِيدُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ، وَإِلَّا فَهِيَ وَاجِبَةٌ، وَلِذَلِكَ يَجِبُ بِتَرْكِهَا الدَّمُ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً لَمْ يَجِبْ. وَحَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ عِنْدَهُمْ بِتَرْكِ تَكْرَارِهَا دَمٌ، وَهَذَا قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى أَصْلِ الْوُجُوبِ. ثَالِثُهَا: وَاجِبَةٌ، لَكِنْ يَقُومُ مَقَامَهَا فِعْلٌ يَتَعَلَّقُ بِالْحَجِّ كَالتَّوَجُّهِ عَلَى الطَّرِيقِ، وَبِهَذَا صَدَّرَ ابْنَ شَاسٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ كَلَامَهُ فِي الْجَوَاهِرِ لَهُ، وَحَكَى صَاحِبُ الْهِدَايَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ مِثْلَهُ، لَكِنْ زَادَ الْقَوْلَ الَّذِي يَقُومُ مَقَامَ التَّلْبِيَةِ مِنَ الذِّكْرِ كَمَا فِي مَذْهَبِهِمْ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجِبُ لَفْظٌ مُعَيَّنٌ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: إِنْ كَبَّرَ أَوْ هَلَّلَ أَوْ سَبَّحَ يَنْوِي بِذَلِكَ الْإِحْرَامَ فَهُوَ مُحْرِمٌ.

رَابِعُهَا أَنَّهَا رُكْنٌ فِي الْإِحْرَامِ لَا يَنْعَقِدُ بِدُونِهَا؛ حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَابْنِ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالزُّبَيْرِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَهْلُ الظَّاهِرِ قَالُوا: هِيَ نَظِيرُ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ لِلصَّلَاةِ، وَيُقَوِّيهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَحْثِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ عَنْ حَقِيقَةِ الْإِحْرَامِ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْهُ، قَالَ: التَّلْبِيَةُ فَرْضُ الْحَجِّ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَطَاوُسٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَحَكَى النَّوَوِيُّ، عَنْ دَاوُدَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ بِهَا، وَهَذَا قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى أَصْلِ كَوْنِهَا رُكْنًا.

وَقَالَ شُعْبَةُ: أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ، سَمِعْتُ خَيْثَمَةَ، عَنْ أَبِي عَطِيَّةَ، سَمِعْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي عَطِيَّةَ) هُوَ مَالِكُ بْنُ عَامِرٍ، وَسَيَأْتِي الْخِلَافُ فِي اسْمِهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَرِجَالُ هَذَا الْإِسْنَادِ إِلَى عَائِشَةَ كُوفِيُّونَ إِلَّا شَيْخَ الْبُخَارِيِّ، وَأَرْدَفَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ لِمَا فِيهِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُدِيمُ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ التَّصْرِيحَ بِالْمُدَاوَمَةِ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ)؛ يَعْنِي تَابَعَ سُفْيَانَ - وَهُوَ الثَّوْرِيُّ -، عَنِ الْأَعْمَشِ، وَرِوَايَتُهُ وَصَلَهَا مُسَدَّدٌ فِي مُسْنَدِهِ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهَا الْجَوْزَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِشَامٍ عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ شُعْبَةُ. . . إِلَخْ) وَصَلَهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ شُعْبَةَ، وَلَفْظُهُ مِثْلُ لَفْظِ سُفْيَانَ، إِلَّا أَنَّهُ زَادَ فِيهِ: ثُمَّ سَمِعْتُهَا تُلَبِّي، وَلَيْسَ فِيهِ قَوْلُهُ: لَا شَرِيكَ لَكَ. وَهَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، وَسُلَيْمَانُ شَيْخُ شُعْبَةَ فِيهِ هُوَ الْأَعْمَشُ، وَالطَّرِيقَانِ جَمِيعًا مَحْفُوظَانِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ لِلْأَعْمَشِ فِيهِ شَيْخَيْنِ، وَرَجَّحَ أَبُو حَاتِمٍ فِي الْعِلَلِ رِوَايَةَ الثَّوْرِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ عَلَى رِوَايَةِ شُعْبَةَ فَقَالَ: إِنَّهَا وَهَمٌ، وَخَيْثَمَةُ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُعْفِيُّ، وَأَفَادَتْ هَذِهِ الطَّرِيقُ بَيَانَ سَمَاعِ أَبِي عَطِيَّةَ لَهُ مِنْ عَائِشَةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌27 - بَاب التَّحْمِيدِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ قَبْلَ الْإِهْلَالِ

عِنْدَ الرُّكُوبِ عَلَى الدَّابَّةِ

1551 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ مَعَهُ بِالْمَدِينَةِ - الظُّهْرَ أَرْبَعًا وَالْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ بَاتَ بِهَا حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ حَمِدَ اللَّهَ وَسَبَّحَ وَكَبَّرَ، ثُمَّ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهِمَا فَلَمَّا قَدِمْنَا أَمَرَ النَّاسَ فَحَلُّوا، حَتَّى كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ. قَالَ: وَنَحَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَدَنَاتٍ بِيَدِهِ قِيَامًا،

ص: 411

وَذَبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا عَنْ أَيُّوبَ عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَنَسٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ التَّحْمِيدِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ قَبْلَ الْإِهْلَالِ) سَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي لَفْظُ التَّحْمِيدِ، وَالْمُرَادُ بِالْإِهْلَالِ هُنَا التَّلْبِيَةُ، وَقَوْلُهُ: عِنْدَ الرُّكُوبِ أَيْ بَعْدَ الِاسْتِوَاءِ عَلَى الدَّابَّةِ لَا حَالَ وَضْعِ الرِّجْلِ مَثَلًا فِي الرِّكَابِ، وَهَذَا الْحُكْمُ - وَهُوَ اسْتِحْبَابُ التَّسْبِيحِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ قَبْلَ الْإِهْلَالِ - قَلَّ مَنْ تَعَرَّضَ لِذِكْرِهِ مَعَ ثُبُوتِهِ. وَقِيلَ: أَرَادَ الْمُصَنِّفُ الرَّدَّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُكْتَفَى بِالتَّسْبِيحِ وَغَيْرِهِ عَنِ التَّلْبِيَةِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَتَى بِالتَّسْبِيحِ وَغَيْرِهِ ثُمَّ لَمْ يَكْتَفِ بِهِ حَتَّى لَبَّى. ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ أَنَسٍ، وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَحْكَامٍ، فَتَقَدَّمَ مِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِقَصْرِ الصَّلَاةِ وَبِالْإِحْرَامِ، وَسَيَأْتِي مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقِرَانِ قَرِيبًا.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ بَاتَ بِهَا حَتَّى أَصْبَحَ ثُمَّ رَكِبَ) ظَاهِرُهُ أَنَّ إِهْلَالَهُ كَانَ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ. لَكِنْ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَسَّانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، ثُمَّ دَعَا بِنَاقَتِهِ فَأَشْعَرَهَا، ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَلَمَّا اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالْحَجِّ. وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ بِالْبَيْدَاءِ ثُمَّ رَكِبَ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ صَلَّاهَا فِي آخِرِ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَأَوَّلِ الْبَيْدَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ) يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (حَتَّى كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ) بِضَمِّ يَوْمُ؛ لِأَنَّ كَانَ تَامَّةٌ.

قَوْلُهُ: (وَنَحَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَدَنَاتٍ بِيَدِهِ قِيَامًا، وَذَبَحَ بِالْمَدِينَةِ كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ:) هو الْمُصَنِّفُ (قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا عَنْ أَيُّوبَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَنَسٍ) هَكَذَا وَقَعَ عِنْدَ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَالْبَعْضُ الْمُبْهَمُ هُنَا لَيْسَ هُوَ إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ عَنْ مُسَدَّدٍ عَنْهُ فِي بَابِ نَحْرِ الْبُدْنِ قَائِمَةً بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ عَنْ أَيُّوبَ، لَكِنْ صَرَّحَ بِذِكْرِ أَبِي قِلَابَةَ، وَوُهَيْبٌ أَيْضًا ثِقَةٌ حُجَّةٌ، فَقَدْ جَعَلَهُ مِنْ رِوَايَةِ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ فَعُرِفَ أَنَّهُ الْمُبْهَمُ. وَقَدْ تَابَعَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ عَلَى حَدِيثِ ذَبْحِ الْكَبْشَيْنِ الْأَمْلَحَيْنِ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ؛ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْأَضَاحِيِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌28 - بَاب مَنْ أَهَلَّ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قائمة

1552 -

حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: أَهَلَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أَهَلَّ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ قَرِيبًا، وَرِوَايَةُ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ نَافِعٍ مِنَ الْأَقْرَانِ، وَقَدْ سَمِعَ ابْنُ جُرَيْجٍ مِنْ نَافِعٍ كَثِيرًا وَرَوَى هَذَا عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى قِلَّةِ تَدْلِيسِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌29 - بَاب الْإِهْلَالِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ

1553 -

وَقَالَ أَبُو مَعْمَرٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما إِذَا صَلَّى بِالْغَدَاةِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَرُحِلَتْ، ثُمَّ رَكِبَ، فَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ قَائِمًا، ثُمَّ يُلَبِّي حَتَّى يَبْلُغَ الْمحَرَمَ ثُمَّ يُمْسِكُ، حَتَّى إِذَا جَاءَ ذَا طُوًى بَاتَ بِهِ حَتَّى يُصْبِحَ، فَإِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ اغْتَسَلَ، وَزَعَمَ أَنَّ

ص: 412

رَسُولَ اللَّهِ فَعَلَ ذَلِكَ. تَابَعَهُ إِسْمَاعِيلُ عَنْ أَيُّوبَ فِي الْغَسْلِ.

[الحديث 1553 - أطرافه في: 1554، 1573، 1574]

1554 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ أَبُو الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما إِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى مَكَّةَ ادَّهَنَ بِدُهْنٍ لَيْسَ لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، ثُمَّ يَأْتِي مَسْجِدَ الْحُلَيْفَةِ فَيُصَلِّي ثُمَّ يَرْكَبُ، وَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً أَحْرَمَ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْإِهْلَالِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ) زَادَ الْمُسْتَمْلِي: الْغَدَاةَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو مَعْمَرٍ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، لَا إِسْمَاعِيلُ الْقَطِيعِيُّ. وَقَدْ وَصَلَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ عَبَّاسٍ الدُّورِيِّ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، وَقَالَ: ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ بِلَا رِوَايَةٍ.

قَوْلُهُ: (إِذَا صَلَّى بِالْغَدَاةِ)؛ أَيْ صَلَّى الصُّبْحَ بِوَقْتِ الْغَدَاةِ. وَلِلْكُشمِيهنِيِّ: إِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ؛ أَيِ الصُّبْحَ.

قَوْلُهُ: (فَرُحِلَتْ) بِتَخْفِيفِ الْحَاءِ.

قَوْلُهُ: (اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ قَائِمًا)؛ أَيْ مُسْتَوِيًا عَلَى نَاقَتِهِ، أَوْ وَصَفَهُ بِالْقِيَامِ لِقِيَامِ نَاقَتِهِ. وَقَدْ وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ بِلَفْظِ: فَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً. وَفَهِمَ الدَّاوُدِيُّ مِنْ قَوْلِهِ: اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ قَائِمًا؛ أَيْ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ: فِي السِّيَاقِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَرُحِلَتْ ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ قَائِمًا؛ أَيْ فَصَلَّى صَلَاةَ الْإِحْرَامِ ثُمَّ رَكِبَ. حَكَاهُ ابْنُ التِّينِ، قَالَ: وَإِنْ كَانَ مَا فِي الْأَصْلِ مَحْفُوظًا فَلَعَلَّهُ لِقُرْبِ إِهْلَالِهِ مِنَ الصَّلَاةِ، انْتَهَى. وَلَا حَاجَةَ إِلَى دَعْوَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، بَلْ صَلَاةُ الْإِحْرَامِ لَمْ تُذْكَرْ هُنَا، والِاسْتِقْبَالُ إِنَّمَا وَقَعَ بَعْدَ الرُّكُوبِ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَأَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ: كَانَ إِذَا أَدْخَلَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ وَاسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ قَائِمًا أَهَلَّ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ يُمْسِكُ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ يُمْسِكُ عَنِ التَّلْبِيَةِ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالْحَرَمِ الْمَسْجِدَ، وَالْمُرَادُ بِالْإِمْسَاكِ عَنِ التَّلْبِيَةِ التَّشَاغُلُ بِغَيْرِهَا مِنَ الطَّوَافِ وَغَيْرِهِ لَا تَرْكُهَا أَصْلًا، وَسَيَأْتِي نَقْلُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ وَأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يُلَبِّي فِي طَوَافِهِ، كَمَا رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَدَعُ التَّلْبِيَةَ إِذَا دَخَلَ الْحَرَمَ، وَيُرَاجِعُهَا بَعْدَ مَا يَقْضِي طَوَافَهُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِالْحَرَمِ مِنًى، يَعْنِي فَيُوَافِقُ الْجُمْهُورَ فِي اسْتِمْرَارِ التَّلْبِيَةِ حَتَّى يَرْمِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، لَكِنْ يُشْكِلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ: إِذَا دَخَلَ أَدْنَى الْحَرَمِ، وَالْأَوْلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَرَمِ ظَاهِرُهُ لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: حَتَّى إِذَا جَاءَ ذَا طُوًى، فَجَعَلَ غَايَةَ الْإِمْسَاكِ الْوُصُولُ إِلَى ذِي طُوًى، وَالظَّاهِرُ أَيْضًا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِمْسَاكِ تَرْكُ تَكْرَارِ التَّلْبِيَةِ وَمُوَاظَبَتِهَا وَرَفْعِ الصَّوْتِ بِهَا الَّذِي يُفْعَلُ فِي أَوَّلِ الْإِحْرَامِ لَا تَرْكُ التَّلْبِيَةِ رَأْسًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (ذَا طُوًى) بِضَمِّ الطَّاءِ وَبِفَتْحِهَا - وَقَيَّدَهَا الْأَصِيلِيُّ بِكَسْرِهَا: وَادٍ مَعْرُوفٌ بِقُرْبِ مَكَّةَ، وَيُعْرَفُ الْيَوْمَ بِبِئْرِ الزَّاهِرِ، وَهُوَ مَقْصُورٌ مُنَوَّنٌ، وَقَدْ لَا يُنَوَّنُ. وَنَقَلَ الْكِرْمَانِيُّ أَنَّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: حَتَّى إِذَا حَاذَى طُوًى؛ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ بِغَيْرِ هَمْزٍ وَفَتْحِ الذَّالِ، قَالَ: وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ اسْمَ الْمَوْضِعِ ذُو طُوًى لَا طُوًى فَقَطْ.

قَوْلُهُ: (وَزَعَمَ) هُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الزَّعْمِ عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ، وَسَيَأْتِي مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ بِلَفْظِ: وَيُحَدِّثُ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ إِسْمَاعِيلُ) هُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَيُّوبَ فِي الْغُسْلِ)؛ أَيْ وَغَيْرِهِ، لَكِنْ مِنْ غَيْرِ مَقْصُودِ التَّرْجَمَةِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْمُتَابَعَةَ وَصَلَهَا الْمُصَنِّفُ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ بِهِ، وَلَمْ يَقْتَصِرْ فِيهِ عَلَى الْغُسْلِ، بَلْ ذَكَرَهُ كُلَّهُ إِلَّا الْقِصَّةَ الْأُولَى، وَأَوَّلُهُ: كَانَ إِذَا دَخَلَ أَدْنَى الْحَرَمِ أَمْسَكَ عَنِ التَّلْبِيَةِ.

ص: 413

وَالْبَاقِي مِثْلُهُ، وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ طَرِيقَ فُلَيْحٍ، عَنْ نَافِعٍ الْمُقْتَصِرَةَ عَلَى الْقِصَّةِ الْأُولَى بِزِيَادَةِ ذِكْرِ الدُّهْنِ الَّذِي لَيْسَتْ لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، وَلَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَةِ فُلَيْحٍ التَّصْرِيحُ بِاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، لَكِنَّهُ مِنْ لَازِمِ الْمُوَجَّهِ إِلَى مَكَّةَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ، وَقَدْ صَرَّحَ بِالِاسْتِقْبَالِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى، وَهُمَا حَدِيثٌ وَاحِدٌ، وإِنَّمَا احْتَاجَ إِلَى رِوَايَةِ فُلَيْحٍ لِلنُّكْتَةِ الَّتِي بَيَّنْتُهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَنْدَفِعُ اعْتِرَاضُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ عَلَيْهِ فِي إِيرَادِهِ حَدِيثَ فُلَيْحٍ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ لِلِاسْتِقْبَالِ ذِكْرٌ. قَالَ الْمُهَلَّبُ: اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ بِالتَّلْبِيَةِ هُوَ الْمُنَاسِبُ، لِأَنَّهَا إِجَابَةٌ لِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَلِأَنَّ الْمُجِيبَ لَا يَصْلُحُ لَهُ أَنْ يُوَلِّيَ الْمُجَابَ ظَهْرَهُ، بَلْ يَسْتَقْبِلَهُ، قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَدَّهِنُ لِيَمْنَعَ بِذَلِكَ الْقَمْلَ عَنْ شَعْرِهِ، وَيَجْتَنِبُ مَا لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ صِيَانَةً لِلْإِحْرَامِ.

‌30 - باب التَّلْبِيَةِ إِذَا انْحَدَرَ فِي الْوَادِي

1555 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، فَذَكَرُوا الدَّجَّالَ أَنَّهُ قَالَ: مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ أَسْمَعْهُ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: أَمَّا مُوسَى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ إِذا انْحَدَرَ فِي الْوَادِي يُلَبِّي.

[الحديث 1555 - طرفاه في: 3355، 5913]

قَوْلُهُ: (بَابُ التَّلْبِيَةِ إِذَا انْحَدَرَ فِي الْوَادِي) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَمَّا مُوسَى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ إِذَا انْحَدَرَ إِلَى الْوَادِي يُلَبِّي. وَفِيهِ قِصَّةٌ، وَسَيَأْتِي بِهَذا الْإِسْنَادِ بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ. وَقَوْلُهُ: أَمَّا مُوسَى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: هَذَا وَهَمٌ مِنْ بَعْضِ رُوَاتِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ أَثَرٌ وَلَا خَبَرٌ أَنَّ مُوسَى حَيٌّ، وَأَنَّهُ سَيَحُجُّ، وإِنَّمَا أَتَى ذَلِكَ عَنْ عِيسَى، فَاشْتَبَهَ عَلَى الرَّاوِي، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: لَيُهِلَّنَّ ابْنُ مَرْيَمَ بِفَجِّ الرَّوْحَاءِ، انْتَهَى. وَهُوَ تَغْلِيطٌ لِلثِّقَاتِ بِمُجَرَّدِ التَّوَهُّمِ، فَسَيَأْتِي فِي اللِّبَاسِ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ بِزِيَادَةِ ذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ فِيهِ، أَفَيُقَالُ: إِنَّ الرَّاوِيَ غَلِطَ فَزَادَهُ؟ وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى هَابِطًا مِنَ الثَّنِيَّةِ وَاضِعًا إِصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ مَارًّا بِهَذَا الْوَادِي وَلَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللَّهِ بِالتَّلْبِيَةِ، قَالَهُ لَمَّا مَرَّ بِوَادِي الْأَزْرَقِ. وَاسْتُفِيدَ مِنْهُ تَسْمِيَةُ الْوَادِي، وَهُوَ خَلْفَ أَمَجَّ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مِيلٌ وَاحِدٌ، وَأَمَجُّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمِيمِ وَبِالْجِيمِ: قَرْيَةٌ ذَاتُ مَزَارِعَ هُنَاكَ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا ذِكْرُ يُونُسَ، أَفَيُقَالُ: إِنَّ الرَّاوِيَ الْآخَرَ غَلِطَ فَزَادَ يُونُسُ؟ وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: كَأَنِّي أَنْظُرُ عَلَى أَوْجُهٍ؛ الْأَوَّلُ: هُوَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَالْأَنْبِيَاءُ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَلَا مَانِعُ أَنْ يَحُجُّوا فِي هَذَا الْحَالِ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَأَى مُوسَى قَائِمًا فِي قَبْرِهِ يُصَلِّي، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: حُبِّبَتْ إِلَيْهِمُ الْعِبَادَةُ، فَهُمْ يَتَعَبَّدُونَ بِمَا يَجِدُونَهُ مِنْ دَوَاعِي أَنْفُسِهِمْ لَا بِمَا يُلْزَمُونَ بِهِ، كَمَا يُلْهَمُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الذِّكْرَ. وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ عَمَلَ الْآخِرَةِ ذِكْرٌ وَدُعَاءٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} الْآيَةَ، لَكِنَّ تَمَامَ هَذَا التَّوْجِيهِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمَنْظُورَ إِلَيْهِ هِيَ أَرْوَاحُهُمْ، فَلَعَلَّهَا مُثِّلَتْ لَهُ صلى الله عليه وسلم فِي الدُّنْيَا كَمَا مُثِّلَتْ لَهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، وَأَمَّا أَجْسَادُهُمْ فَهِيَ فِي الْقُبُورِ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ وَغَيْرُهُ: يَجْعَلُ اللَّهُ لِرُوحِهِ مِثَالًا فَيَرَى فِي الْيَقَظَةَ كَمَا يَرَى فِي النَّوْمِ. ثَانِيهَا: كَأَنَّهُ مُثِّلَتْ لَهُ أَحْوَالُهُمُ الَّتِي كَانَتْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَيْفَ تَعَبَّدُوا وَكَيْفَ حَجُّوا وَكَيْفَ لَبَّوْا، وَلِهَذَا قَالَ: كَأَنِّي. ثَالِثُهَا: كَأَنَّهُ أُخْبِرَ بِالْوَحْيِ عَنْ ذَلِكَ، فَلِشِدَّةِ قَطْعِهِ بِهِ قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ.

رَابِعُهَا: كَأَنَّهَا رُؤْيَةُ مَنَامٍ تَقَدَّمَتْ لَهُ، فَأَخْبَرَ عَنْهَا لَمَّا حَجَّ عِنْدَمَا تَذَكَّرَ

ص: 414

ذَلِكَ، وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدِي لِمَا سَيَأْتِي فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ التَّصْرِيحِ بِنَحْوِ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثَ أُخَرَ وَكَوْنُ ذَلِكَ كَانَ فِي الْمَنَامِ، وَالَّذِي قَبْلَهُ أَيْضًا لَيْسَ بِبَعِيدٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: تَوْهِيمُ الْمُهَلَّبِ لِلرَّاوِي وَهَمٌ مِنْهُ، وَإِلَّا فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ مُوسَى وَعِيسَى! لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ عِيسَى مُنْذُ رُفِعَ نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ، وإِنَّمَا ثَبَتَ أَنَّهُ سَيَنْزِلُ. قُلْتُ: أَرَادَ الْمُهَلَّبُ بِأَنَّ عِيسَى لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ سَيَنْزِلُ كَانَ كَالْمُحَقَّقِ، فَقَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَلِهَذَا اسْتَدَلَّ الْمُهَلَّبُ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي فِيهِ: لَيُهِلَّنَّ ابْنُ مَرْيَمَ بِالْحَجِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (إِذا انْحَدَرَ) كَذَا فِي الْأُصُولِ، وَحَكَى عِيَاضٌ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ أَنْكَرَ إِثْبَاتَ الْأَلِفِ وَغَلَّطَ رُوَاتَهُ، قَالَ: وَهُوَ غَلَطٌ مِنْهُ، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ إِذَا وَإِذْ هُنَا، لِأَنَّهُ وَصَفَهُ حَالَةَ انْحِدَارِهِ فِيمَا مَضَى. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ التَّلْبِيَةَ فِي بُطُونِ الْأَوْدِيَةِ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ، وَأَنَّهَا تَتَأَكَّدُ عِنْدَ الْهُبُوطِ كَمَا تَتَأَكَّدُ عِنْدَ الصُّعُودِ.

(تَنْبِيهٌ): لَمْ يُصَرِّحْ أَحَدٌ مِمَّنْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ بِذِكْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مُرَادٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقُولُهُ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، وَلَا عَنْ غَيْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌31 - بَاب كَيْفَ تُهِلُّ الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ؟

أَهَلَّ: تَكَلَّمَ بِهِ. وَاسْتَهْلَلْنَا وَأَهْلَلْنَا الْهِلَالَ: كُلُّهُ مِنْ الظُّهُورِ. وَاسْتَهَلَّ الْمَطَرُ: خَرَجَ مِنْ السَّحَابِ، {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} وَهُوَ مِنْ اسْتِهْلَالِ الصَّبِيِّ.

1556 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهِلَّ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ ثُمَّ لَا يَحِلَّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا. فَقَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: انْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ وَدَعِي الْعُمْرَةَ. فَفَعَلْتُ، فَلَمَّا قَضَيْنَا الْحَجَّ أَرْسَلَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ إِلَى التَّنْعِيمِ فَاعْتَمَرْتُ، فَقَالَ: هَذِهِ مَكَانَ عُمْرَتِكِ. قَالَتْ: فَطَافَ الَّذِينَ كَانُوا أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ حَلُّوا، ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا واحدا بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى، وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا.

قَوْلُهُ: (بَابُ كَيْفَ تُهِلُّ الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ)؛ أَيْ كَيْفَ تُحْرِمُ.

قَوْلُهُ: (أَهَلَّ تَكَلَّمَ بِهِ. . . إِلَخْ) هَكَذَا فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ. وَلَيْسَ هَذَا مُخَالِفًا لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ أَصْلَ الْإِهْلَالِ رَفْعُ الصَّوْتِ؛ لِأَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ يَقَعُ بِذِكْرِ الشَّيْءِ عِنْدَ ظُهُورِهِ.

قَوْلُهُ: (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ، وَهُوَ مِنَ اسْتِهْلَالِ الصَّبِيِّ)؛ أَيْ أَنَّهُ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ بِذَلِكَ، فَاسْتَهَلَّ الصَّبِيُّ أَيْ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالصِّيَاحِ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ، وَأُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ أَيْ رُفِعَ الصَّوْتُ بِهِ عِنْدَ الذَّبْحِ لِلْأَصْنَامِ، وَمِنْهُ اسْتِهْلَالُ الْمَطَرِ وَالدَّمْعِ وَهُوَ صَوْتُ وَقْعِهِ بِالْأَرْضِ، وَمِنْ لَازِمِ ذَلِكَ الظُّهُورُ غَالِبًا.

قَوْلُهُ: (فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ) قَالَ عِيَاضٌ: اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِي إِحْرَامِ عَائِشَةَ اخْتِلَافًا كَثِيرًا. قُلْتُ: وَسَيَأْتِي بَسْطُ الْقَوْلِ فِيهِ بَعْدَ بَابَيْنِ فِي بَابِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: انْقُضِي رَأْسَكِ) هُوَ بِالْقَافِ وَبِالْمُعْجَمَةِ.

قَوْلُهُ: (وَامْتَشِطِي وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ) وَهُوَ شَاهِدُ التَّرْجَمَةِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ بِلَفْظِ: وَافْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ. وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ

ص: 415

عَلَيْهِ بَعْدَ هَذَا.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا آخَرَ) كَذَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ، وَالْجُرْجَانِيِّ، وَلِغَيْرِهِمَا: طَوَافًا وَاحِدًا. وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ، قَالَهُ عِيَاضٌ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: اسْتَشْكَلَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَمْرَهُ لَهَا بِنَقْضِ رَأْسِهَا ثُمَّ بِالِامْتِشَاطِ، وَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَتَأَوَّلُهُ عَلَى أَنَّهُ أَمَرَهَا أَنْ تَدَعَ الْعُمْرَةَ وَتُدْخِلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ فَتَصِيرَ قَارِنَةً. قَالَ: وَهَذَا لَا يُشَاكِلُ الْقِصَّةَ. وَقِيلَ: إِنَّ مَذْهَبَهَا أَنَّ الْمُعْتَمِرَ إِذَا دَخَلَ مَكَّةَ اسْتَبَاحَ مَا يَسْتَبِيحُهُ الْحَاجُّ إِذَا رَمَى الْجَمْرَةَ، قَالَ: وَهَذَا لَا يُعْلَمُ وَجْهُهُ. وَقِيلَ: كَانَتْ مُضْطَرَّةً إِلَى ذَلِكَ. قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَقْضُ رَأْسِهَا كَانَ لِأَجْلِ الْغُسْلِ لِتُهِلَّ بِالْحَجِّ، لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَتْ مُلَبِّدَةً فَتَحْتَاجُ إِلَى نَقْضِ الضَّفْرِ. وَأَمَّا الِامْتِشَاطُ فَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهِ تَسْرِيحُهَا شَعْرَهَا بِأَصَابِعِهَا بِرِفْقٍ حَتَّى لَا يَسْقُطَ مِنْهُ شَيْءٌ، ثُمَّ تُضَفِّرُهُ كَمَا كَانَ.

‌32 - بَاب مَنْ أَهَلَّ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَإِهْلَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

1557 -

حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ عَطَاءٌ: قَالَ جَابِرٌ رضي الله عنه: أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا رضي الله عنه أَنْ يُقِيمَ عَلَى إِحْرَامِهِ، وَذَكَرَ قَوْلَ سُرَاقَةَ.

[الحديث 1557 - أطرافه في: 1568، 1570، 1651، 1785، 2506، 4352، 7230، 7367]

1558 -

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْخَلَّالُ الْهُذَلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ قَالَ: سَمِعْتُ مَرْوَانَ الْأَصْفَرَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَدِمَ عَلِيٌّ رضي الله عنه عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْيَمَنِ فَقَالَ: بِمَا أَهْلَلْتَ؟ قَالَ: بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ: لَوْلَا أَنَّ مَعِي الْهَدْيَ لَأَحْلَلْتُ. وزاد محمد بن بكر عن ابن جريج: قال له النبي صلى الله عليه وسلم: بما أهللت يا علي؟ قال: بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم. قال: فأهد، وامكث حراما كما أنت.

1559 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى قَوْمٍ بِالْيَمَنِ، فَجِئْتُ وَهُوَ بِالْبَطْحَاءِ، فَقَالَ: بِمَا أَهْلَلْتَ؟ قُلْتُ: أَهْلَلْتُ كَإِهْلَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: هَلْ مَعَكَ مِنْ هَدْيٍ؟ قُلْتُ: لَا. فَأَمَرَنِي فَطُفْتُ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ أَمَرَنِي فَأَحْلَلْتُ، فَأَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِي فَمَشَطَتْنِي أَوْ غَسَلَتْ رَأْسِي، فَقَدِمَ عُمَرُ رضي الله عنه فَقَالَ: إِنْ نَأْخُذْ بِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُنَا بِالتَّمَامِ؛ قَالَ اللَّهُ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى نَحَرَ الْهَدْيَ.

[الحديث 1558 - أطرافه في: 1565، 1743، 1795، 4346، 4397]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أَهَلَّ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَإِهْلَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَيْ فَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ فَجَازَ الْإِحْرَامُ عَلَى الْإِبْهَامِ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ جَوَازُ تَعْلِيقِهِ إِلَّا عَلَى فِعْلِ مَنْ يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ يَعْرِفُهُ كَمَا وَقَعَ فِي حَدِيثَيِ الْبَابِ، وَأَمَّا مُطْلَقُ الْإِحْرَامِ عَلَى الْإِبْهَامِ فَهُوَ جَائِزٌ، ثُمَّ يَصْرِفُهُ الْمُحْرِمُ لِمَا شَاءَ لِكَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَنْهَ عَنْ ذَلِكَ؛ وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَعَنِ الْمَالِكِيَّةِ

ص: 416

لَا يَصِحُّ الْإِحْرَامُ عَلَى الْإِبْهَامِ؛ وَهُوَ قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَكَأَنَّهُ مَذْهَبُ الْبُخَارِيِّ؛ لِأَنَّهُ أَشَارَ بِالتَّرْجَمَةِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِذَلِكَ الزَّمَنِ، لِأَنَّ عَلِيًّا، وَأَبَا مُوسَى لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمَا أَصْلٌ يَرْجِعَانِ إِلَيْهِ فِي كَيْفِيَّةِ الْإِحْرَامِ، فَأَحَالَاهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَّا الْآنَ فَقَدِ اسْتَقَرَّتِ الْأَحْكَامُ وَعُرِفَتْ مَرَاتِبُ الْإِحْرَامِ فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَأَنَّهُ أَخَذَ الْإِشَارَةَ مِنْ تَقْيِيدِهِ بِزَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُشِيرُ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ مَوْصُولًا فِي بَابِ بَعْثِ عَلِيٍّ إِلَى الْيَمَنِ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي مِنْ طَرِيقِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثًا: فَقَدِمَ عَلَيْنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مِنَ الْيَمَنِ حَاجًّا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: بِمَا أَهْلَلْتَ فَإِنَّ مَعَنَا أَهْلَكَ؟ قَالَ: أَهْلَلْتُ بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْحَدِيثَ. وإِنَّمَا قَالَ لَهُ: فَإِنَّ مَعَنَا أَهْلَكَ لِأَنَّ فَاطِمَةَ كَانَتْ قَدْ تَمَتَّعَتْ بِالْعُمْرَةِ وَأَحَلَّتْ كَمَا بَيَّنَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ بْنِ سَعِيدٍ، وَمَرْوَانُ الْأَصْفَرُ يُقَالُ: اسْمُ أَبِيهِ خَاقَانَ، وَهُوَ أَبُو خَلَفٍ الْبَصْرِيُّ، وَرَوَى أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَنَسٍ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَهُوَ مِنْ أَفْرَادِ الصَّحِيحِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ: لَا أَعْلَمُ رُوَاةً عَنْ سَلِيمِ بْنِ حَيَّانَ غَيْرَ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ.

قَوْلُهُ: (قَدِمَ عَلِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ) سَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي ذِكْرُ سَبَبِ بَعْثِ عَلِيٍّ إِلَى الْيَمَنِ وَأَنَّ ذَلِكَ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَمِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ.

قوله (وزاد محمد بن بكر عن ابن جريج)؛ يعني عن عطاء عن جابر، ثبت هذا التعليق في رواية أبي ذر. وقد وصله الإسماعيلي من طريق محمد بن بشار، وأبو عوانة في صحيحه عن عمار بن رجاء؛ كلاهما عن محمد بن بكر به. وسيأتي معلقا أيضا في المغازي من هذا الوجه مقرونا بطريق مكي بن إبراهيم أيضا هناك أتم، والمذكور في كل من الموضعين قطعة من الحديث، وأورد بقيته بهذين السندين معلقا وموصولا في كتاب الاعتصام. والمراد بقوله في طريق مكي: وذكر قول سراقة أي سؤاله أعمرتنا لعامنا هذا أو للأبد؟ قال: بل للأبد. وسيأتي موصولا في أبواب العمرة من وجه آخر عن عطاء عن جابر.

قوله: (وامكث حراما كما أنت) في حديث ابن عمر المشار إليه قال: فأمسك، فإن معنا هديا.

قَوْلُهُ: (عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ) فِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ بْنِ عَائِذٍ الْآتِيَةِ فِي الْمَغَازِي عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ: سَمِعَتُ طَارِقَ بْنَ شِهَابٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي مُوسَى) هُوَ الْأَشْعَرِيُّ، وَفِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ الْمَذْكُورَةِ: حَدَّثَنِي أَبُو مُوسَى.

قَوْلُهُ: (بَعَثَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى قَوْمِي بِالْيَمَنِ) سَيَأْتِي تَحْرِيرُ وَقْتِ ذَلِكَ وَسَبَبُهُ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي.

قَوْلُهُ: (وَهُوَ بِالْبَطْحَاءِ) زَادَ فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنْ قَيْسٍ الْآتِيَةِ فِي بَاب مَتَى يُحِلُّ الْمُعْتَمِرُ؟ مُنِيخٌ؛ أَيْ نَازِلٌ بِهَا، وَذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ قُدُومِهِ.

قَوْلُهُ: (بِمَا أَهْلَلْتَ؟) فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ فَقَالَ: أَحَجَجْتَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: بِمَا أَهْلَلْتَ؟.

قَوْلُهُ: (قُلْتُ: أَهْلَلْتُ) فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ قُلْتُ: لَبَّيْكَ بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: أَحْسَنْتَ.

قَوْلُهُ: (فَأَمَرَنِي فَطُفْتُ) فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ: طُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ.

قَوْلُهُ: (فَأَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِي) فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ: امْرَأَةً مِنْ قَيْسٍ، وَالْمتُبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ مِنْ هَذَا الْإِطْلَاقِ أَنَّهَا مِنْ قَيْسِ عيلَانَ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَشْعَرِيِّينَ نِسْبَةٌ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ بْنِ عَائِذٍ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ بَنِي قَيْسٍ، وَظَهَرَ لِي مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَيْسٍ، قَيْسُ بْنُ سُلَيْمٍ وَالِدُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَأَنَّ الْمَرْأَةَ زَوْجُ بَعْضِ إِخْوَتِهِ، وَكَانَ لِأَبِي مُوسَى مِنَ الْإِخْوَةِ أَبُو رُهْمٍ، وَأَبُو بُرْدَةَ، قِيلَ: وَمُحَمَّدٌ.

قَوْلُهُ: (أَوْ غَسَلَتْ رَأْسِي) كَذَا فِيهِ بِالشَّكِّ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ بِلَفْظِ: وَغَسَلَتْ رَأْسِي؛ بِوَاوِ الْعَطْفِ.

قَوْلُهُ: (فَقَدِمَ عُمَرُ) ظَاهِرُ سِيَاقِهِ أَنَّ قُدُومَ عُمَرَ كَانَ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْبُخَارِيُّ اخْتَصَرَهُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ أَيْضًا بَعْدَ قَوْلِهِ:

ص: 417

وَغَسَلَتْ رَأْسِي، فَكُنْتُ أُفْتِي النَّاسَ بِذَاكَ فِي إِمَارَةِ أَبِي بَكْرٍ وَإِمَارَةِ عُمَرَ، فَإِنِّي لَقَائِمٌ بِالْمَوْسِمِ إِذْ جَاءَنِي رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي شَأْنِ النُّسُكِ، فَذَكَرَ القصة؛ وَفِيهِ: فَلَمَّا قَدِمَ قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا هَذَا الَّذِي أَحْدَثْتَ فِي شَأْنِ النُّسُكِ؟ فَذَكَرَ جَوَابَهُ. وَقَدِ اخْتَصَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، لَكِنَّهُ أَبْيَنَ مِنْ هَذَا، وَلَفْظُهُ: فَكُنْتُ أُفْتِي بِهِ حَتَّى كَانَتْ خِلَافَةُ عُمَرَ، فَقَالَ: إِنْ أَخَذْنَا، الْحَدِيثَ. وَلِمُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يُفْتِي بِالْمُتْعَةِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: رُوَيْدَكَ بِبَعْضِ فُتْيَاكَ، الْحَدِيثَ. وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَبْيِينُ عُمَرَ الْعِلَّةَ الَّتِي لِأَجْلِهَا كَرِهَ التَّمَتُّعَ، وَهِيَ قَوْلُهُ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَهُ، وَلَكِنْ كَرِهْتُ أَنْ يَظَلُّوا مُعَرِّسِينَ بِهِنَّ - أَيْ بِالنِّسَاءِ - ثُمَّ يَرُوحُوا فِي الْحَجِّ تَقْطُرُ رُءُوسُهُمْ، انْتَهَى. وَكَانَ مِنْ رَأْيِ عُمَرَ عَدَمُ التَّرَفُّهِ لِلْحَجِّ بِكُلِّ طَرِيقٍ، فَكَرِهَ لَهُمْ قُرْبَ عَهْدِهِمْ بِالنِّسَاءِ لِئَلَّا يَسْتَمِرَّ الْمَيْلُ إِلَى ذَلِكَ بِخِلَافِ مَنْ بَعُدَ عَهْدُهُ بِهِ، وَمَنْ يُفْطَمْ يَنْفَطِمْ.

وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: افْصِلُوا حَجَّكُمْ مِنْ عُمْرَتِكُمْ، فَإِنَّهُ أَتَمُّ لِحَجِّكُمْ وَأَتَمُّ لِعُمْرَتِكُمْ، وَفِي رِوَايَةٍ: إِنَّ اللَّهَ يُحِلُّ لِرَسُولِهِ مَا شَاءَ، فَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ.

قَوْلُهُ: (أَنْ نَأْخُذَ بِكِتَابِ اللَّهِ. . . إِلَخْ) مُحَصَّلُ جَوَابِ عُمَرَ فِي مَنْعِهِ النَّاسَ مِنْ التَّحَلُّلِ بِالْعُمْرَةِ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ دَالٌّ عَلَى مَنْعِ التَّحَلُّلِ لِأَمْرِهِ بِالْإِتْمَامِ، فَيَقْتَضِي اسْتِمْرَارَ الْإِحْرَامِ إِلَى فَرَاغِ الْحَجِّ، وَأَنَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْضًا دَالَّةٌ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَمْ يُحِلَّ حَتَّى بَلَغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ، لَكِنَّ الْجَوَابَ عَنْ ذَلِكَ مَا أَجَابَ بِهِ هُوَ صلى الله عليه وسلم، حَيْثُ قَالَ: وَلَوْلَا أَنَّ مَعِيَ الْهَدْيَ لَأَحْلَلْتُ. فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْإِحْلَالِ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ، وَتَبَيَّنَ مِنْ مَجْمُوعِ مَا جَاءَ عَنْ عُمَرَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ مَنَعَ مِنْهُ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: قِيلَ: إِنَّ الْمُتْعَةَ الَّتِي نَهَى عَنْهَا عُمَرُ فَسْخُ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ، وَقِيلَ: الْعُمْرَةُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ الْحَجُّ مِنْ عَامِهِ، وَعَلَى الثَّانِي إِنَّمَا نَهَى عَنْهَا تَرْغِيبًا فِي الْإِفْرَادِ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ لَا أَنَّهُ يَعْتَقِدُ بُطْلَانَهَا وَتَحْرِيمَهَا. وَقَالَ عِيَاضٌ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْفَسْخِ، وَلِهَذَا كَانَ يَضْرِبُ النَّاسَ عَلَيْهَا كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِنَاءً عَلَى مُعْتَقَدِهِ أَنَّ الْفَسْخَ كَانَ خَاصًّا بِتِلْكَ السَّنَةِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْمُتْعَةِ الْمَعْرُوفَةِ الَّتِي هِيَ الِاعْتِمَارُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ الْحَجُّ مِنْ عَامِهِ، وَهُوَ عَلَى التَّنْزِيهِ لِلتَّرْغِيبِ فِي الْإِفْرَادِ كَمَا يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِ، ثُمَّ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى جَوَازِ التَّمَتُّعِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ وَنَفْيِ الِاخْتِلَافِ فِي الْأَفْضَلِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَتَمَسَّكَ مَنْ يَقُولُ بِأَنَّهُ إِنَّمَا نَهَى عَنِ الْفَسْخِ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ قَرِيبًا مِنْ مُسْلِمٍ: إِنَّ اللَّهَ يُحِلُّ لِرَسُولِهِ مَا شَاءَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي قِصَّةِ أَبِي مُوسَى وَعَلِيٍّ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ تَعْلِيقِ الْإِحْرَامِ بِإِحْرَامِ الْغَيْرِ مَعَ اخْتِلَافِ آخِرِ الْحَدِيثَيْنِ فِي التَّحَلُّلِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا مُوسَى لَمْ يَكُنْ مِعهُ هَدْيٌ، فَصَارَ لَهُ حُكْمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ، وَقَدْ قَالَ: لَوْلَا الْهَدْيُ لَأَحْلَلْتُ؛ أَيْ وَفَسَخْتُ الْحَجَّ إِلَى الْعُمْرَةِ كَمَا فَعَلَهُ أَصْحَابُهُ بِأَمْرِهِ كَمَا سَيَأْتِي، وَأَمَّا عَلِيٌّ فَكَانَ مَعَهُ هَدْيٌ، فَلِذَلِكَ أَمَرَهُ بِالْبَقَاءِ عَلَى إِحْرَامِهِ وَصَارَ مِثْلُهُ قَارِنًا. قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَقَدْ تَأَوَّلَهُ الْخَطَّابِيُّ، وَعِيَاضٌ بِتَأْوِيلَيْنِ غَيْرِ مُرْضِيَّيْنِ، انْتَهَى. فَأَمَّا تَأْوِيلُ الْخَطَّابِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ: فِعْلُ أَبِي مُوسَى يُخَالِفُ فِعْلَ عَلِيٍّ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: أَهْلَلْتُ كَإِهْلَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَيْ كَمَا يُبَيِّنُهُ لِي وَيُعَيِّنُهُ لِي مِنْ أَنْوَاعِ مَا يُحْرِمُ بِهِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُحِلَّ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ.

وَأَمَّا تَأْوِيلُ عِيَاضٍ فَقَالَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَكُنْتُ أُفْتِي النَّاسَ بِالْمُتْعَةِ؛ أَيْ بِفَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ، وَالْحَامِلُ لَهُمَا عَلَى ذَلِكَ اعْتِقَادُهُمَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ مُفْرِدًا مَعَ قَوْلِهِ: لَوْلَا أَنَّ مَعِيَ الْهَدْيَ لَأَحْلَلْتُ؛ أن فَسَخْتُ الْحَجَّ وَجَعَلْتُهُ عُمْرَةً، فَلِهَذَا أَمَرَ أَبَا مُوسَى بِالتَّحَلُّلِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ، بِخِلَافِ عَلِيٍّ. قَالَ عِيَاضٌ: وَجُمْهُورُ الْأَئِمَّةِ عَلَى أَنَّ فَسْخَ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ كَانَ خَاصًّا بِالصَّحَابَةِ، انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: ظَاهِرُ كَلَامِ عُمَرَ التَّفْرِيقُ بَيْنَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ

ص: 418

وَدَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ يَقْتَضِي أَنَّهُمَا يَرْجِعَانِ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، ثُمَّ أَجَابَ بِأَنَّهُ لَعَلَّهُ أَرَادَ إِبْطَالَ وَهَمِ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّهُ خَالَفَ السُّنَّةَ، حَيْثُ مَنَعَ مِنَ الْفَسْخِ، فَبَيَّنَ أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ مُتَوَافِقَانِ عَلَى الْأَمْرِ بِالْإِتْمَامِ، وَأَنَّ الْفَسْخَ كَانَ خَاصًّا بِتِلْكَ السَّنَةِ لِإِبْطَالِ اعْتِقَادِ الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّ الْعُمْرَةَ لَا تَصِحُّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، انْتَهَى. وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا: كَانَ قَارِنًا عَلَى مَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ، فَالْمُعْتَمَدُ مَا ذَكَرَ النَّوَوِيُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي كَيْفِيَّةِ التَّمَتُّعِ فِي بَابِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ الْإِحْرَامِ الْمُبْهَمِ وَأَنَّ الْمُحْرِمَ بِهِ يَصْرِفُهُ لِمَا شَاءَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَمَحِلُّ ذَلِكَ مَا إِذَا كَانَ الْوَقْتُ قَابِلًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَجَّ لَا يَنْعَقِدُ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ.

‌33 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:

{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ

فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَشْهُرُ الْحَجِّ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحَجَّةِ.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: مِنْ السُّنَّةِ أَنْ لَا يُحْرِمَ بِالْحَجِّ إِلَّا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ.

وَكَرِهَ عُثْمَانُ رضي الله عنه أَنْ يُحْرِمَ مِنْ خُرَاسَانَ أَوْ كَرْمَانَ.

1560 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنَا أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدٍ، سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَلَيَالِي الْحَجِّ وَحُرُمِ الْحَجِّ، فَنَزَلْنَا بِسَرِفَ. قَالَتْ: فَخَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ مَعَهُ هَدْيٌ فَأَحَبَّ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ فَلَا. قَالَتْ: فَالْآخِذُ بِهَا وَالتَّارِكُ لَهَا مِنْ أَصْحَابِهِ. قَالَتْ: فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَكَانُوا أَهْلَ قُوَّةٍ وَكَانَ مَعَهُمْ الْهَدْيُ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْعُمْرَةِ. قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أَبْكِي، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكِ يَا هَنْتَاهُ؟ قُلْتُ: سَمِعْتُ قَوْلَكَ لِأَصْحَابِكَ فَمُنِعْتُ الْعُمْرَةَ. قَالَ: وَمَا شَأْنُكِ؟ قُلْتُ: لَا أُصَلِّي. قَالَ: فَلَا يَضِيرُكِ، إِنَّمَا أَنْتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِ آدَمَ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكِ مَا كَتَبَ عَلَيْهِنَّ، فَكُونِي فِي حَجَّتِكِ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَرْزُقَكِيهَا. قَالَتْ: فَخَرَجْنَا فِي حَجَّتِهِ حَتَّى قَدِمْنَا مِنًى فَطَهَرْتُ، ثُمَّ خَرَجْتُ مِنْ مِنًى فَأَفَضْتُ بِالْبَيْتِ. قَالَتْ: ثُمَّ خَرَجَتْ مَعَهُ فِي النَّفْرِ الْآخِرِ حَتَّى نَزَلَ الْمُحَصَّبَ وَنَزَلْنَا مَعَهُ، فَدَعَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: اخْرُجْ بِأُخْتِكَ مِنْ الْحَرَمِ فَلْتُهِلَّ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ افْرُغَا ثُمَّ ائْتِيَا هَا هُنَا، فَإِنِّي أَنْظُرُكُمَا حَتَّى تَأْتِيَانِي. قَالَتْ: فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا فَرَغْتُ وَفَرَغْتُ مِنْ الطَّوَافِ، ثُمَّ جِئْتُهُ بِسَحَرَ فَقَالَ: هَلْ فَرَغْتُمْ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَآذَنَ بِالرَّحِيلِ فِي أَصْحَابِهِ، فَارْتَحَلَ النَّاسُ، فَمَرَّ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَدِينَةِ. ضَيْرِ: مِنْ ضَارَ يَضِيرُ ضَيْرًا، وَيُقَالُ: ضَارَ يَضُورُ ضَوْرًا، وَضَرَّ يَضُرُّ ضَرًّا.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} - إِلَى قَوْلِهِ - فِي الْحَجِّ، وَقَوْلِهِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ

ص: 419

لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}، قَالَ الْعُلَمَاءُ: تَقْدِيرُ قَوْلِهِ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} ؛ أَيِ الْحَجُّ حَجُّ أَشْهُرٍ مَعْلُومَاتٍ أَوْ أَشْهُرُ الْحَجِّ أَوْ وَقْتُ الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى غَيْرِ إِضْمَارٍ، وَهُوَ أَنَّ الْأَشْهُرَ جُعِلَتْ نَفْسَ الْحَجِّ اتِّسَاعًا بِكَوْنِ الْحَجِّ يَقَعُ فِيهَا؛ كَقَوْلِهِمْ: لَيْلٌ نَائِمٌ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي الْمُهَذَّبِ: الْمُرَادُ وَقْتُ إِحْرَامِ الْحَجِّ، لِأَنَّ الْحَجَّ لَا يَحْتَاجُ إِلَى أَشْهُرٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ وَقْتُ الْإِحْرَامِ بِهِ، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِأَشْهُرِ الْحَجِّ ثَلَاثَةٌ أَوَّلُهَا شَوَّالٌ، لَكِنِ اخْتَلَفُوا: هَلْ هِيَ ثَلَاثَةٌ بِكَمَالِهَا؟ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَنُقِلَ عَنِ الْإِمْلَاءِ لِلشَّافِعِيِّ. أَوْ شَهْرَانِ وَبَعْضُ الثَّالِثِ؛ وَهُوَ قَوْلُ الْبَاقِينَ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا؛ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَآخَرُونَ: عَشْرُ لَيَالٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَهَلْ يَدْخُلُ يَوْمُ النَّحْرِ أَوْ لَا؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ: نَعَمْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْمَشْهُورِ الْمُصَحَّحِ عَنْهُ: لَا. وَقَالَ بَعْضُ أَتْبَاعِهِ: تِسْعٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَلَا يَصِحُّ فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَلَا فِي لَيْلَتِهِ، وَهُوَ شَاذٌّ.

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَيْضًا فِي اعْتِبَارِ هَذِهِ الْأَشْهُرِ؛ هَلْ هُوَ عَلَى الشَّرْطِ أَوِ الِاسْتِحْبَابِ؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٌ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: هُوَ شَرْطٌ، فَلَا يَصِحُّ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ إِلَّا فِيهَا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَسَيَأْتِي اسْتِدْلَالُ ابْنِ عَبَّاسٍ لِذَلِكَ فِي هَذَا الْبَابِ، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْوُقُوفِ، وَبِالْقِيَاسِ عَلَى إِحْرَامِ الصَّلَاةِ، وَلَيْسَ بِوَاضِحٍ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ انْقَلَبَ عُمْرَةً تُجْزِئُهُ عَنْ عُمْرَةِ الْفَرْضِ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَلَوْ أَحْرَمَ قَبْلَ الْوَقْتِ انْقَلَبَ نفلا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ ظَانًّا دُخُولَ الْوَقْتِ، لَا عَالِمًا، فَاخْتَلَفَا مِنْ وَجْهَيْنِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَشْهُرُ الْحَجِّ. . . إِلَخْ) وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ وَرْقَاءَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْهُ قَالَ:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} ؛ شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بِنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَهُ. وَالْإِسْنَادَانِ صَحِيحَانِ، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَنِ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ - شَوَّالٍ، أَوْ ذِي الْقَعْدَةِ، أَوْ ذِي الْحِجَّةِ - قَبْلَ الْحَجِّ فَقَدِ اسْتَمْتَعَ، فَلَعَلَّهُ تَجَوَّزَ فِي إِطْلَاقِ ذِي الْحِجَّةِ جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ. . . إِلَخْ) وَصَلَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحَاكِمِ، عَنْ مِقْسَمٍ عَنْهُ قَالَ: لَا يُحْرِمُ بِالْحَجِّ إِلَّا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَإِنَّ مِنْ سُنَّةِ الْحَجِّ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ. وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا يَصْلُحُ أَنْ يُحْرِمَ أَحَدٌ بِالْحَجِّ إِلَّا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ.

قَوْلُهُ: (وَكَرِهَ عُثْمَانُ رضي الله عنه أَنْ يُحْرِمَ مِنْ خُرَاسَانَ أَوْ كَرْمَانَ) وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ - هُوَ الْبَصْرِيُّ - أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ أَحْرَمَ مِنْ خُرَاسَانَ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ لَامَهُ فِيمَا صَنَعَ وَكَرِهَهُ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: أَحْرَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ مِنْ خُرَاسَانَ فَقَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ، فَلَامَهُ وَقَالَ: غَزَوْتَ وَهَانَ عَلَيْكَ نُسُكُكَ. وَرَوَى أَحْمَدُ بْنُ سَيَّارٍ فِي تَارِيخِ مَرْوَ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ قَالَ: لَمَّا فَتَحَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ خُرَاسَانَ قَالَ: لَأَجْعَلَنَّ شُكْرِي لِلَّهِ أَنْ أَخْرُجَ مِنْ مَوْضِعِي هَذَا مُحْرِمًا. فَأَحْرَمَ مِنْ نَيْسَابُورَ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ لَامَهُ عَلَى مَا صَنَعَ. وَهَذِهِ أَسَانِيدٌ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا. وَرَوَى يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ فِي تَارِيخِهِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي السَّنَةِ الَّتِي قُتِلَ فِيهَا عُثْمَانُ، ومناسبة هَذَا الْأَثَرِ لِلَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ بَيْنَ خُرَاسَانَ وَمَكَّةَ أَكْثَرَ مِنْ مَسَافَةِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَيَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ أَحْرَمَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَكَرِهَ ذَلِكَ عُثْمَانُ، وَإِلَّا فَظَاهِرُهُ يَتَعَلَّقُ بِكَرَاهَةِ الْإِحْرَامِ قَبْلَ الْمِيقَاتِ فَيَكُونُ مِنْ مُتَعَلَّقِ الْمِيقَاتِ الْمَكَانِيِّ لَا الزَّمَانِيِّ.

ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ عُمْرَتِهَا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَشَاهِدُ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ قَوْلُهَا:

ص: 420

خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَلَيَالِي الْحَجِّ وَحُرُمِ الْحَجِّ؛ فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَشْهُورًا عِنْدَهُمْ مَعْلُومًا، وَقَوْلُهُ فِيهِ: وَحُرُمِ الْحَجِّ بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالرَّاءِ؛ أَيْ أَزْمِنَتُهُ وَأَمْكِنَتُهُ وَحَالَاتُهُ، وَرُوِيَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَهُوَ جَمْعُ حُرْمَةٍ؛ أَيْ مَمْنُوعَاتِ الْحَجِّ، وَقَوْلُهُ:(يَا هَنَتَاهْ) بِفَتْحِ الْهَاءِ وَالنُّونِ - وَقَدْ تُسَكَّنُ النُّونُ - بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ وَآخِرُهَا هَاءٌ سَاكِنَةٌ، كِنَايَةٌ عَنْ شَيْءٍ لَا يَذْكُرُهُ بِاسْمِهِ، تَقُولُ فِي النِّدَاءِ لِلْمُذَكَّرِ: يَا هَنْ، وَقَدْ تُزَادُ الْهَاءُ فِي آخِرِهِ لِلسَّكْتِ؛ فَتَقُولُ: يَا هَنَهْ، وَإنْ تُشْبِعَ الْحَرَكَةَ فِي النُّونِ فَتَقُولَ: يَا هَنَاهْ، وَتُزَادُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِلْمُؤَنَّثِ مُثَنَّاةً. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَلِفُ وَالْهَاءُ فِي آخِرِهِ كَهُمَا فِي النُّدْبَةِ. وَقَوْلُهُ: (قُلْتُ: لَا أُصَلِّي) كِنَايَةٌ عَنْ أَنَّهَا حَاضَتْ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: كَنَّتْ عَنِ الْحَيْضِ بِالْحُكْمِ الْخَاصِّ بِهِ أَدَبًا مِنْهَا، وَقَدْ ظَهَرَ أَثَرُ ذَلِكَ فِي بَنَاتِهَا الْمُؤْمِنَاتِ فَكُلُّهُنَّ يُكَنِّينَ عَنِ الْحَيْضِ بِحِرْمَانِ الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.

وَقَوْلُهُ: (فَلَا يَضُرُّكِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فَلَا يَضِيرُكِ؛ بِكَسْرِ الضَّادِ وَتَخْفِيفِ التَّحْتَانِيَّةِ مِنَ الضَّيْرِ، وَقَوْلُهُ:(النَّفَرِ الثَّانِي) هُوَ رَابِعُ أَيَّامِ مِنًى، وَقَوْلُهُ:(فَإِنِّي أَنْظُرُكُمَا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: أَنْتَظِرُكُمَا بِزِيَادَةِ مُثَنَّاةٍ، وَقَوْلُهُ:(حَتَّى إِذَا فَرَغْتُ)؛ أَيْ مِنَ الِاعْتِمَارِ وَفَرَغْتُ مِنَ الطَّوَافِ، وَحُذِفَ الْأَوَّلُ لِلْعِلْمِ بِهِ.

‌34 - بَاب التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ وَالْإِفْرَادِ بِالْحَجِّ وَفَسْخِ الْحَجِّ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ

1561 -

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا نُرَى إِلَّا أَنَّهُ الْحَجُّ، فَلَمَّا قَدِمْنَا تَطَوَّفْنَا بِالْبَيْتِ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ أَنْ يَحِلَّ، فَحَلَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ، وَنِسَاؤُهُ لَمْ يَسُقْنَ فَأَحْلَلْنَ. قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: فَحِضْتُ، فَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ. فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْحَصْبَةِ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَرْجِعُ النَّاسُ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ وَأَرْجِعُ أَنَا بِحَجَّةٍ! قَالَ: وَمَا طُفْتِ لَيَالِيَ قَدِمْنَا مَكَّةَ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَاذْهَبِي مَعَ أَخِيكِ إِلَى التَّنْعِيمِ فَأَهِلِّي بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ مَوْعِدُكِ كَذَا وَكَذَا. قَالَتْ صَفِيَّةُ: مَا أُرَانِي إِلَّا حَابِسَتَهُمْ. قَالَ: عَقْرَى حَلْقَى، أَوَمَا طُفْتِ يَوْمَ النَّحْرِ؟ قَالَتْ: قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: لَا بَأْسَ، انْفِرِي. قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: فَلَقِيَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُصْعِدٌ مِنْ مَكَّةَ وَأَنَا مُنْهَبِطَةٌ عَلَيْهَا، أَوْ أَنَا مُصْعِدَةٌ وَهُوَ مُنْهَبِطٌ مِنْهَا.

1562 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحَجِّ. فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ أَوْ جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لَمْ يَحِلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ.

1563 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْحَكَمِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ: شَهِدْتُ عُثْمَانَ، وَعَلِيًّا رضي الله عنهما وَعُثْمَانُ يَنْهَى عَنْ الْمُتْعَةِ وَأَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا رَأَى عَلِيٌّ أَهَلَّ

ص: 421

بِهِمَا: لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ قَالَ: مَا كُنْتُ لِأَدَعَ سُنَّةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِقَوْلِ أَحَدٍ.

بِهِمَا لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ قَالَ مَا كُنْتُ لِأَدَعَ سُنَّةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِقَوْلِ أَحَدٍ"

[الحديث 1563 - طرفه في: 1569]

1564 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ "كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ فِي الأَرْضِ وَيَجْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ صَفَرًا وَيَقُولُونَ إِذَا بَرَا الدَّبَرْ وَعَفَا الأَثَرْ وَانْسَلَخَ صَفَرْ حَلَّتْ الْعُمْرَةُ لِمَنْ اعْتَمَرْ قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْحِلِّ قَالَ حِلٌّ كُلُّهُ"

1565 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ "قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَهُ بِالْحِلِّ"

1566 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ و حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ حَفْصَةَ رضي الله عنهم زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ "يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا بِعُمْرَةٍ وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ قَالَ إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي وَقَلَّدْتُ هَدْيِي فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ"

[الحديث 1566 - أطرافه في: 1697، 1725، 4398، 5916]

1567 -

حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنَا أَبُو جَمْرَةَ نَصْرُ بْنُ عِمْرَانَ الضُّبَعِيُّ قَالَ "تَمَتَّعْتُ فَنَهَانِي نَاسٌ فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فَأَمَرَنِي فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ رَجُلاً يَقُولُ لِي حَجٌّ مَبْرُورٌ وَعُمْرَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ فَأَخْبَرْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ سُنَّةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِي أَقِمْ عِنْدِي فَأَجْعَلَ لَكَ سَهْمًا مِنْ مَالِي قَالَ شُعْبَةُ فَقُلْتُ لِمَ فَقَالَ لِلرُّؤْيَا الَّتِي رَأَيْتُ"

[الحديث 1567 - طرفه في: 1688]

1568 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ قَالَ "قَدِمْتُ مُتَمَتِّعًا مَكَّةَ بِعُمْرَةٍ فَدَخَلْنَا قَبْلَ التَّرْوِيَةِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَقَالَ لِي أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ تَصِيرُ الْآنَ حَجَّتُكَ مَكِّيَّةً فَدَخَلْتُ عَلَى عَطَاءٍ أَسْتَفْتِيهِ فَقَالَ "حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَنَّهُ حَجَّ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ سَاقَ الْبُدْنَ مَعَهُ وَقَدْ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ مُفْرَدًا فَقَالَ لَهُمْ: "أَحِلُّوا مِنْ إِحْرَامِكُمْ بِطَوَافِ الْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَقَصِّرُوا ثُمَّ أَقِيمُوا حَلَالاً حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ فَأَهِلُّوا بِالْحَجِّ وَاجْعَلُوا الَّتِي قَدِمْتُمْ بِهَا مُتْعَةً فَقَالُوا كَيْفَ نَجْعَلُهَا مُتْعَةً وَقَدْ سَمَّيْنَا الْحَجَّ فَقَالَ افْعَلُوا مَا أَمَرْتُكُمْ فَلَوْلَا أَنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ لَفَعَلْتُ مِثْلَ الَّذِي أَمَرْتُكُمْ وَلَكِنْ لَا يَحِلُّ مِنِّي حَرَامٌ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَفَعَلُوا"

ص: 422

1569 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَعْوَرُ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: اخْتَلَفَ عَلِيٌّ، وَعُثْمَانُ رضي الله عنهما وَهُمَا بِعُسْفَانَ فِي الْمُتْعَةِ؛ فَقَالَ عَلِيٌّ: مَا تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَنْهَى عَنْ أَمْرٍ فَعَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَلِيٌّ أَهَلَّ بِهِمَا جَمِيعًا.

قَوْلُهُ: (بَابُ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ وَالْإِفْرَادِ بِالْحَجِّ وَفَسْخِ الْحَجِّ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ) أَمَّا التَّمَتُّعُ فَالْمَعْرُوفُ أَنَّهُ الِاعْتِمَارُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ التَّحَلُّلُ مِنْ تِلْكَ الْعُمْرَةِ وَالْإِهْلَالُ بِالْحَجِّ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} وَيُطْلَقُ التَّمَتُّعُ فِي عُرْفِ السَّلَفِ عَلَى الْقِرَانِ أَيْضًا.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ التَّمَتُّعَ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} أَنَّهُ الِاعْتِمَارُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ قَبْلَ الْحَجِّ. قَالَ: وَمِنَ التَّمَتُّعِ أَيْضًا الْقِرَانُ؛ لِأَنَّهُ تَمَتَّعَ بِسُقُوطِ سَفَرٍ لِلنُّسُكِ الْآخَرِ مِنْ بَلَدِهِ، وَمِنَ التَّمَتُّعِ فَسْخُ الْحَجِّ أَيْضًا إِلَى الْعُمْرَةِ، انْتَهَى. وَأَمَّا الْقِرَانُ فَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ الْإِقْرَانُ بِالْأَلِفِ، وَهُوَ خَطَأٌ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ كَمَا قَالَهُ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ، وَصُورَتُهُ الْإِهْلَالُ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مَعًا - وَهَذَا لَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ - أَوِ الْإِهْلَالُ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ يَدْخُلُ عَلَيْهَا الْحَجُّ أَوْ عَكْسُهُ - وَهَذَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ. وَأَمَّا الْإِفْرَادُ فَالْإِهْلَالُ بِالْحَجِّ وَحْدَهُ فِي أَشْهُرِهِ عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَفِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ أَيْضًا عِنْدَ مَنْ يُجِيزُهُ، وَالِاعْتِمَارُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ لِمَنْ شَاءَ. وَأَمَّا فَسْخُ الْحَجِّ فَالْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ ثُمَّ يَتَحَلَّلُ مِنْهُ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ فَيَصِيرُ مُتَمَتِّعًا، وَفِي جَوَازِهِ اخْتِلَافٌ آخَرُ، وَظَاهِرُ تَصَرُّفِ الْمُصَنِّفِ إِجَازَتُهُ، فَإِنَّ تَقْدِيرَ التَّرْجَمَةِ بَابُ مَشْرُوعِيَّةِ التَّمَتُّعِ. . . إِلَخْ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ بَابُ حُكْمِ التَّمَتُّعِ. . . إِلَخْ، فَلَا يَكُونُ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ يُجِيزُهُ.

ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ سَبْعَةَ أَحَادِيثَ؛ الْأَوَّلُ: حَدِيثُ عَائِشَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ.

قَوْلُهُ: (خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ بَيَانُ الْوَقْتِ الَّذِي خَرَجُوا فِيهِ.

قَوْلُهُ: (وَلَا نَرَى إِلَّا أَنَّهُ الْحَجُّ)، وَلِأَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْهَا كَمَا سَيَأْتِي: مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ عَنْهَا: لَا نَذْكُرُ إِلَّا الْحَجَّ، وَلَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: لَبَّيْنَا بِالْحَجِّ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ عَائِشَةَ مَعَ غَيْرِهَا مِنَ الصَّحَابَةِ كَانُوا أَوَّلًا مُحْرِمِينَ بِالْحَجِّ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ عُرْوَةَ عَنْهَا هُنَا: فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ؛ فَيُحْمَلُ الْأَوَّلُ عَلَى أَنَّهَا ذَكَرَتْ مَا كَانُوا يَعْهَدُونَهُ مِنْ تَرْكِ الِاعْتِمَارِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَخَرَجُوا لَا يَعْرِفُونَ إِلَّا الْحَجَّ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وُجُوهَ الْإِحْرَامِ، وَجَوَّزَ لَهُمُ الِاعْتِمَارَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ الِاعْتِمَارِ بَعْدَ الْحَجِّ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْهَا: فَقَالَ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ فَلْيُهِلَّ. وَلِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ: فَقَالَ: مَنْ شَاءَ فَلْيُهِلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيُهِلَّ بِحَجٍّ. وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانُوا يَرَوْنَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ. فَأَشَارَ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ مَا اخْتُلِفَ عَنْ عَائِشَةَ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا عَائِشَةُ نَفْسُهَا فَسَيَأْتِي فِي أَبْوَابِ الْعُمْرَةِ وَفِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنَ الْمَغَازِي مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْهَا فِي أَثْنَاءِ هَذَا الْحَدِيثِ قَالَتْ: وَكُنْتُ مِمَّنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ.

وَسَبَقَ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ نَحْوُهُ عَنْ عُرْوَةَ، زَادَ أَحْمَدُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ: وَلَمْ أَسُقْ هَدْيًا، فَادَّعَى إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ أَنَّ هَذَا غَلَطٌ مِنْ عُرْوَةَ، وَأَنَّ الصَّوَابَ رِوَايَةُ الْأَسْوَدِ، وَالْقَاسِمِ، وَعُرْوَةَ عَنْهَا أَنَّهَا أَهَلَّتْ بِالْحَجِّ مُفْرَدًا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ قَوْلَ عُرْوَةَ عَنْهَا: إِنَّهَا أَهَلَّتْ بِعُمْرَةٍ، صَرِيحٌ. وَأَمَّا قَوْلُ الْأَسْوَدِ وَغَيْرِهِ عَنْهَا: لَا نَرَى إِلَّا الْحَجَّ فَلَيْسَ صَرِيحًا فِي إِهْلَالِهَا بِحَجٍّ مُفْرَدٍ، فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ غَيْرِ تَغْلِيطِ عُرْوَةَ وَهُوَ أَعْلَمُ النَّاسِ بِحَدِيثِهَا، وَقَدْ وَافَقَهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّحَابِيُّ

ص: 423

كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْهُ، وَكَذَا رَوَاهُ طَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ عَنْ عَائِشَةَ، وَيَحْتَمِلُ فِي الْجَمْعِ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ: أَهَلَّتْ عَائِشَةُ بِالْحَجِّ مُفْرَدًا كَمَا فَعَلَ غَيْرُهَا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَعَلَى هَذَا يُنَزَّلُ حَدِيثُ الْأَسْوَدِ وَمَنْ تَبِعَهُ: ثُمَّ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ أَنْ يَفْسَخُوا الْحَجَّ إِلَى الْعُمْرَةِ، فَفَعَلَتْ عَائِشَةُ مَا صَنَعُوا، فَصَارَتْ مُتَمَتِّعَةً. وَعَلَى هَذَا يَتَنَزَّلُ حَدِيثُ عُرْوَةَ: ثُمَّ لَمَّا دَخَلَتْ مَكَّةَ وَهِيَ حَائِضٌ فَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى الطَّوَافِ لِأَجْلِ الْحَيْضِ أَمَرَهَا أَنْ تُحْرِمَ بِالْحَجِّ. عَلَى مَا سَيَأْتِي مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (فَلَمَّا قَدِمْنَا تَطَوَّفْنَا بِالْبَيْتِ)؛ أَيْ غَيْرُهَا، لِقَوْلِهَا بَعْدَهُ: فَلَمْ أَطُفْ؛ فَإِنَّهُ تَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ قَوْلَهَا: تَطَوَّفْنَا مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ.

قَوْلُهُ: (فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ أَنْ يُحِلَّ)؛ أَيْ مِنَ الْحَجِّ بِعَمَلِ الْعُمْرَةِ، وَهَذَا هُوَ فَسْخُ الْحَجِّ الْمُتَرْجَمِ بِهِ.

قَوْلُهُ: (وَنِسَاؤُهُ لَمْ يَسُقْنَ)؛ أَيِ الْهَدْيَ.

قَوْلُهُ: (فَأَحْلَلْنَ)؛ أَيْ وَهِيَ مِنْهُنَّ، لَكِنْ مَنَعَهَا مِنَ التَّحَلُّلِ كَوْنُهَا حَاضَتْ لَيْلَةَ دُخُولِهِمْ مَكَّةَ، وَقَدْ مَضَى فِي الْبَابِ قَبْلَهُ بَيَانُ ذَلِكَ وَأَنَّهَا بَكَتْ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا: كُونِي فِي حَجِّكِ. فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهَا أَنْ تَجْعَلَ عُمْرَتَهَا حَجًّا، وَلِهَذَا قَالَتْ: يَرْجِعُ النَّاسُ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَأَرْجِعُ بِحَجٍّ. فَأَعْمَرَهَا لِأَجْلِ ذَلِكَ مِنَ التَّنْعِيمِ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ الْعَمَلُ عَلَى حَدِيثِ عُرْوَةَ قَدِيمًا وَلَا حَدِيثًا. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: يُرِيدُ لَيْسَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ فِي رَفْضِ الْعُمْرَةِ وَجَعْلِهَا حَجًّا بِخِلَافِ جَعْلِ الْحَجِّ عُمْرَةً فَإِنَّهُ وَقَعَ لِلصَّحَابَةِ. وَاخْتُلِفَ فِي جَوَازِهِ مِنْ بَعْدِهِمْ، لَكِنْ أَجَابَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَنْ ذَلِكَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: ارْفُضِي عُمْرَتَكِ أَيِ اتْرُكِي التَّحَلُّلَ مِنْهَا، وَأَدْخِلِي عَلَيْهَا الْحَجَّ فَتَصِيرُ قَارِنَةً، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: وَأَمْسِكِي عَنِ الْعُمْرَةِ؛ أَيْ عَنْ أَعْمَالِهَا. وَإِنَّمَا قَالَتْ عَائِشَةُ: وَأَرْجِعُ بِحَجٍّ لِاعْتِقَادِهَا أَنَّ إِفْرَادَ الْعُمْرَةِ بِالْعَمَلِ أَفْضَلُ كَمَا وَقَعَ لِغَيْرِهَا مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَاسْتُبْعِدَ هَذَا التَّأْوِيلُ لِقَوْلِهَا فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنْهَا: وَأَرْجِعُ أَنَا بِحَجَّةٍ لَيْسَ مَعَهَا عُمْرَةٌ.

أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَهَذَا يُقَوِّي قَوْلَ الْكُوفِيِّينَ: إِنَّ عَائِشَةَ تَرَكَتِ الْعُمْرَةَ وَحَجَّتْ مُفْرِدَةً، وَتَمَسَّكُوا فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهَا فِي الرِّوَايَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ: دَعِي عُمْرَتَكِ، وفِي رِوَايَةٍ: ارْفُضِي عُمْرَتَكِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَاسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى أَنَّ لِلْمَرْأَةِ إِذَا أَهَلَّتْ بِالْعُمْرَةِ مُتَمَتِّعَةً فَحَاضَتْ قَبْلَ أَنْ تَطُوفَ أَنْ تَتْرُكَ الْعُمْرَةَ وَتُهِلَّ بِالْحَجِّ مُفْرَدًا كَمَا فَعَلَتْ عَائِشَةُ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنْهَا ضَعْفٌ، وَالرَّافِعُ لِلْإِشْكَالِ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ عَائِشَةَ أَهَلَّتْ بِعُمْرَةٍ، حَتَّى إِذَا كَانَتْ بِسَرِفَ حَاضَتْ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَهِلِّي بِالْحَجِّ، حَتَّى إِذَا طَهُرَتْ طَافَتْ بِالْكَعْبَةِ وَسَعَتْ. فَقَالَ: قَدْ حَلَلْتِ مِنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ. قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَجِدُ فِي نَفْسِي أَنِّي لَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ حَتَّى حَجَجْتُ، قَالَ: فَأَعْمَرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ عَنْهَا: فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: طَوَافُكِ يَسَعُكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ؛ فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهَا كَانَتْ قَارِنَةً لِقَوْلِهِ: قَدْ حَلَلْتِ مِنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ، وَإِنَّمَا أَعْمَرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ تَطْيِيبًا لِقَلْبِهَا، لِكَوْنِهَا لَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ لَمَّا دَخَلَتْ مُعْتَمِرَةً. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا سَهْلًا إِذَا هَوِيَتِ الشَّيْءَ تَابَعَهَا عَلَيْهِ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى قِصَّةِ صَفِيَّةَ فِي أَوَاخِرِ الْحَجِّ وَعَلَى مَا فِي قِصَّةِ اعْتِمَارِ عَائِشَةَ مِنَ الْفَوَائِدِ فِي أَبْوَابِ الْعُمْرَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (وَأَرْجِعُ أَنَا بِحَجَّةٍ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: وَأَرْجِعُ لِي بِحَجَّةٍ.

قَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ: (فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ أَوْ جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لَمْ يَحِلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ) كَذَا فِيهِ هُنَا، وَسَيَأْتِي فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِلَفْظِ: فَلَمْ يَحِلُّوا بِزِيَادَةِ فَاءٍ، وَهُوَ الْوَجْهُ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي:

قَوْلُهُ: (عَنِ الْحَكَمِ) هُوَ ابْنُ عُتَيْبَةَ - بِالْمُثَنَّاةِ وَالْمُوَحَّدَةِ مُصَغَّرًا - الْفَقِيهُ الْكُوفِيُّ، وعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ هُوَ زَيْنُ الْعَابِدِينَ.

قَوْلُهُ: (شَهِدْتُ عُثْمَانَ، وَعَلِيًّا) سَيَأْتِي فِي آخِرِ الْبَابِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِعُسْفَانَ.

قَوْلُهُ: (وَعُثْمَانُ يَنْهَى عَنِ الْمُتْعَةِ وَأَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا)؛ أَيْ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ (فَلَمَّا رَأَى عَلِيٌّ) فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: فَقَالَ عَلِيٌّ: مَا تُرِيدُ إِلَى أَنْ

ص: 424

تَنْهَى عَنْ أَمْرٍ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: إِلَّا أَنْ تَنْهَى بِحَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ، زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: فَقَالَ عُثْمَانُ: دَعْنَا عَنْكَ. قَالَ: إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَدَعَكَ. وَقَوْلُهُ (وَأَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا) يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ عَاطِفَةً، فَيَكُونَ نَهَى عَنِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ مَعًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا تَفْسِيرِيًّا، وَهُوَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يُطْلِقُونَ عَلَى الْقِرَانِ تَمَتُّعًا، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْقَارِنَ يَتَمَتَّعُ بِتَرْكِ النَّصَبِ بِالسَّفَرِ مَرَّتَيْنِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا قِرَانًا أَوِ إِيقَاعًا لَهُمَا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ بِتَقْدِيمِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ، وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ بِلَفْظِ: نَهَى عُثْمَانُ عَنِ التَّمَتُّعِ. وَزَادَ فِيهِ: فَلَبَّى عَلِيٌّ وَأَصْحَابُهُ بِالْعُمْرَةِ فَلَمْ يَنْهَهُمْ عُثْمَانُ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: أَلَمْ تَسْمَعْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَمَتَّعَ؟ قَالَ: بَلَى. وَلَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُلَبِّي بِهِمَا جَمِيعًا. زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ عُثْمَانَ قَالَ: أَجَلْ، وَلَكِنَّا كُنَّا خَائِفِينَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: لَعَلَّهُ أَشَارَ إِلَى عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ سَنَةَ سَبْعٍ، لَكِنْ لَمْ يَكُنْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ حَقِيقَةُ تَمَتُّعٍ، إِنَّمَا كَانَ عُمْرَةً وَحْدَهَا.

قُلْتُ: هِيَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ؛ فَقَدْ رَوَى الْحَدِيثَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ - وَهُمَا أَعْلَمُ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ - فَلَمْ يَقُولَا ذَلِكَ، وَالتَّمَتُّعُ إِنَّمَا كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ: كُنَّا آمَنَ مَا يَكُونُ النَّاسِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَوْلُهُ: خَائِفِينَ؛ أَيْ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَجْرُ مَنْ أَفْرَدَ أَعْظَمَ مِنْ أَجْرِ مَنْ تَمَتَّعَ، كَذَا قَالَ، وَهُوَ جَمْعٌ حَسَنٌ، وَلَكِنْ لَا يَخْفَى بُعْدُهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عُثْمَانُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي اخْتِيَارِهِ صلى الله عليه وسلم فَسْخُ

(1)

إِلَى الْعُمْرَةِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ دَفَعَ اعْتِقَادَ قُرَيْشٍ مَنْعَ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَكَانَ ابْتِدَاءُ ذَلِكَ بِالْحُدَيْبِيَةِ، لِأَنَّ إِحْرَامَهُمْ بِالْعُمْرَةِ كَانَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَهُوَ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَهُنَاكَ يَصِحُّ إِطْلَاقُ كَوْنِهِمْ خَائِفِينَ، أَيْ مِنْ وُقُوعِ الْقِتَالِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ صَدُّوهُمْ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْبَيْتِ فَتَحَلَّلُوا مِنْ عُمْرَتِهِمْ، وَكَانَتْ أَوَّلَ عُمْرَةٍ وَقَعَتْ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ جَاءَتْ عُمْرَةُ الْقَضِيَّةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ أَيْضًا، ثُمَّ أَرَادَ صلى الله عليه وسلم تَأكدَ ذَلِكَ بِالْمُبَالَغَةِ فِيهِ حَتَّى أَمَرَهُمْ بِفَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ.

قَوْلُهُ: (مَا كُنْتُ لِأَدَعَ. . . إِلَخْ) زَادَ النَّسَائِيُّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ: فَقَالَ عُثْمَانُ: تَرَانِي أَنْهَى النَّاسَ وَأَنْتَ تَفْعَلُهُ؟ فَقَالَ: مَا كُنْتُ أَدَعُ. وَفِي قِصَّةِ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ مِنَ الْفَوَائِدِ إِشَاعَةُ الْعَالِمِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ وَإِظْهَارُهُ، وَمُنَاظَرَةُ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَغَيْرِهِمْ فِي تَحْقِيقِهِ لِمَنْ قَوِيَ عَلَى ذَلِكَ لِقَصْدِ مُنَاصَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْبَيَانُ بِالْفِعْلِ مَعَ الْقَوْلِ، وَجَوَازُ الِاسْتِنْبَاطِ مِنَ النَّصِّ، لِأَنَّ عُثْمَانَ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ أَنَّ التَّمَتُّعَ وَالْقِرَانَ جَائِزَانِ، وَإِنَّمَا نَهَى عَنْهُمَا لِيُعْمَلَ بِالْأَفْضَلِ كَمَا وَقَعَ لِعُمَرَ، لَكِنْ خَشِيَ عَلِيٌّ أَنْ يَحْمِلَ غَيْرُهُ النَّهْيَ عَلَى التَّحْرِيمِ، فَأَشَاعَ جَوَازَ ذَلِكَ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُجْتَهِدٌ مَأْجُورٌ.

(تَنْبِيهٌ): ذَكَرَ ابْنُ الْحَاجِبِ حَدِيثَ عُثْمَانَ فِي التَّمَتُّعِ دَلِيلًا لِمَسْأَلَةِ اتِّفَاقِ أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي بَعْدَ اخْتِلَافِ أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ فَقَالَ: وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُثْمَانَ كَانَ نَهَى عَنِ الْمُتْعَةِ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: ثُمَّ صَارَ إِجْمَاعًا. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ نَهْيَ عُثْمَانَ عَنِ الْمُتْعَةِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الِاعْتِمَارَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ قَبْلَ الْحَجِّ فَلَمْ يَسْتَقِرَّ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يُخَالِفُونَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ فَسْخَ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَنَابِلَةَ يُخَالِفُونَ فِيهِ، ثُمَّ وَرَاءَ ذَلِكَ أَنَّ رِوَايَةَ النَّسَائِيِّ السَّابِقَةَ مُشْعِرَةٌ بِأَنَّ عُثْمَانَ رَجَعَ عَنِ النَّهْيِ فَلَا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِهِ، وَلَفْظُ الْبَغَوِيِّ بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ عُثْمَانَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: هَذَا خِلَافُ عَلِيٍّ، وَأَكْثَرُ الصَّحَابَةِ عَلَى الْجَوَازِ، وَاتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ بَعْدُ، فَحَمَلَهُ عَلَى أَنَّ عُثْمَانَ نَهَى عَنِ التَّمَتُّعِ الْمَعْهُودِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ عُثْمَانَ مَا كَانَ يُبْطِلُهُ، وإِنَّمَا كَانَ يَرَى أَنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَإِذَا كَانَ كذَلِكَ فَلَمْ تَتَّفِقِ الْأَئِمَّةُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ الْخِلَافَ فِي أَيِّ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ أَفْضَلُ بَاقٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِيهِ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يُلْزِمُ مُجْتَهِدًا

(1)

في طبعة بولاق: هكذا في النسخ التي بأيدينا، ولعله سقط منه لفظة "حجه"

ص: 425

آخَرَ بِتَقْلِيدِهِ لِعَدَمِ إِنْكَارِ عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ ذَلِكَ مَعَ كَوْنِ عُثْمَانَ الْإِمَامَ إِذْ ذَاكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ:

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الْعُمْرَةَ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ؛ أَيْ يَعْتَقِدُونَ، وَالْمُرَادُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ. وَلِابْنِ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَعْمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَائِشَةَ فِي ذِي الْحِجَّةِ إِلَّا لِيَقْطَعَ بِذَلِكَ أَمْرَ أَهْلِ الشِّرْكِ، فَإِنَّ هَذَا الْحَيَّ مِنْ قُرَيْشٍ وَمَنْ دَانَ دِينَهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ. . . فَذَكَرَ نَحْوَهُ، فَعُرِفَ بِهَذَا تَعْيِينُ الْقَائِلِينَ.

قَوْلُهُ: (مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ) هَذَا مِنْ تَحَكُّمَاتِهِمُ الْبَاطِلَةِ الْمَأْخُوذَةِ عَنْ غَيْرِ أَصْلٍ.

قَوْلُهُ: (وَيَجْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ صَفَرَ) كَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ الْأُصُولِ مِنَ الصَّحِيحَيْنِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُكْتَبَ بِالْأَلِفِ، وَلَكِنْ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِهَا لَا بُدَّ مِنْ قِرَاءَتِهِ مَنْصُوبًا، لِأَنَّهُ مَصْرُوفٌ بِلَا خِلَافٍ، يَعْنِي وَالْمَشْهُورُ عَنِ اللُّغَةِ الرَّبِيعِيَّةِ كِتَابَةُ الْمَنْصُوبِ بِغَيْرِ أَلِفٍ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كِتَابَتِهِ بِغَيْرِ أَلِفٍ أَنْ لَا يُصْرَفَ، فَيُقْرَأَ بِالْأَلِفِ. وَسَبَقَهُ عِيَاضٌ إِلَى نَفْيِ الْخِلَافِ فِيهِ، لَكِنْ فِي الْمُحْكَمِ كَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ لَا يَصْرِفُهُ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ الصَّرْفُ حَتَّى يَجْتَمِعَ عِلَّتَانِ، فَمَا هُمَا؟ قَالَ: الْمَعْرِفَةُ وَالسَّاعَةُ. وَفَسَّرَهُ الْمُطَرِّزِيُّ بِأَنَّ مُرَادَهُ بِالسَّاعَةِ أَنَّ الْأَزْمِنَةَ سَاعَاتٌ، وَالسَّاعَةُ مُؤَنَّثَةٌ، انْتَهَى. وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا حُجَّةٌ قَوِيَّةٌ لِأَبِي عُبَيْدَةَ، وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ أَنَّ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ صَفَرًا بِالْأَلِفِ. وَأَمَّا جَعْلُهُمْ ذَلِكَ، فَقَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْمُرَادُ الْإِخْبَارُ عَنْ النَّسِيءِ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَكَانُوا يُسَمُّونَ الْمُحَرَّمَ صَفَرًا وَيُحِلُّونَهُ، وَيُؤَخِّرُونَ تَحْرِيمَ الْمُحَرَّمِ إِلَى نَفْسِ صَفَرَ لِئَلَّا تَتَوَالَى عَلَيْهِمْ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ مُحَرَّمَةٍ، فَيَضِيقُ عَلَيْهِمْ فِيهَا مَا اعْتَادُوهُ مِنَ الْمُقَاتَلَةِ وَالْغَارَةِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَضَلَّلَهُمُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ:{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} الْآيَةَ.

قَوْلُهُ: (وَيَقُولُونَ: إِذَا بَرَأَ الدَّبَرْ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ؛ أَيْ مَا كَانَ يَحْصُلُ بِظُهُورِ الْإِبِلِ مِنَ الْحَمْلِ عَلَيْهَا وَمَشَقَّةِ السَّفَرِ، فَإِنَّهُ كَانَ يبْرَأ بَعْدَ انْصِرَافِهِمْ مِنَ الْحَجِّ، وقَوْلُهُ:(وَعَفَا الْأَثَرْ)؛ أَيِ انْدَرَسَ أَثَرُ الْإِبِلِ وَغَيْرِهَا فِي سَيْرِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَثَرَ الدَّبَرِ الْمَذْكُورِ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ: وعَفَا الْوَبَرْ؛ أَيْ كَثُرَ وَبَرُ الْإِبِلِ الَّذِي حُلِقَ بِالرِّحَالِ، وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ تُقْرَأْ سَاكِنَةَ الرَّاءِ لِإِرَادَةِ السَّجْعِ، وَوَجْهُ تَعَلُّقِ جَوَازِ الِاعْتِمَارِ بِانْسِلَاخِ صَفَرَ - مَعَ كَوْنِهِ لَيْسَ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَكَذَلِكَ الْمُحَرَّمُ - أَنَّهُمْ لَمَّا جَعَلُوا الْمُحَرَّمَ صَفَرًا وَلَا يَسْتَقِرُّونَ بِبِلَادِهِمْ فِي الْغَالِبِ وَيَبْرَأ دَبَرُ إِبِلِهِمْ إِلَّا عِنْدَ انْسِلَاخِهِ أَلْحَقُوهُ بِأَشْهُرِ الْحَجِّ عَلَى طَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ، وَجَعَلُوا أَوَّلَ أَشْهُرِ الِاعْتِمَارِ شَهْرَ الْمُحَرَّمِ الَّذِي هُوَ فِي الْأَصْلِ صَفَرُ، والْعُمْرَةُ عِنْدَهُمْ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَأَمَّا تَسْمِيَةُ الشَّهْرِ صَفَرًا فَقَالَ رُؤْبَةُ: أَصْلُهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يُغِيرُونَ فِيهِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَيَتْرُكُونَ مَنَازِلَهُمْ صَفَرًا؛ أَيْ خَالِيَةً مِنَ الْمَتَاعِ، وَقِيلَ: لِإِصْفَارِ أَمَاكِنِهِمْ مِنْ أَهْلِهَا.

قَوْلُهُ: (قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَذَا فِي الْأُصُولِ مِنْ رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ وُهَيْبٍ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ وُهَيْبٍ بِلَفْظِ: فَقَدِمَ بِزِيَادَةِ فَاءٍ، وَهُوَ الْوَجْهُ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ بَهْزِ بْنِ أَسَدٍ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَجَّاجِ؛ كِلَاهُمَا عَنْ وُهَيْبٍ.

قَوْلُهُ: (صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ)؛ أَيْ يَوْمُ الْأَحَدِ.

قَوْلُهُ: (مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ) فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَجَّاجِ: وَهُمْ يُلَبُّونَ بِالْحَجِّ وَهِيَ مُفَسِّرَةٌ لِقَوْلِهِ: مُهِلِّينَ، وَاحْتَجَّ بِهِ مَنْ قَالَ: كَانَ حَجُّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُفْرَدًا. وَأَجَابَ مَنْ قَالَ: كَانَ قَارِنًا، بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ إِهْلَالِهِ بِالْحَجِّ أَنْ لَا يَكُونَ أَدْخَلَ عَلَيْهِ الْعُمْرَةَ.

قَوْلُهُ: (أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ)؛ أَيْ لِمَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ أَوَّلًا، وَفِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَجَّاجِ: فَكَبُرَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ.

قَوْلُهُ: (أَيِ الْحِلُّ) كَأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَنَّ لِلْحَجِّ تَحَلُّلَيْنِ فَأَرَادُوا بَيَانَ ذَلِكَ، فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ يَتَحَلَّلُونَ الْحِلَّ كُلَّهُ، لِأَنَّ الْعُمْرَةَ لَيْسَ لَهَا إِلَّا تَحَلُّلٌ وَاحِدٌ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ: أَيُّ الْحِلِّ نُحِلُّ؟ قَالَ: الْحِلُّ كُلُّهُ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ:

حَدِيثُ أَبِي مُوسَى: قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَنِي بِالْحِلِّ.

ص: 426

هَكَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَامًّا مَشْرُوحًا قَبْلُ بِبَابٍ. وَوَقَعَ لِلْكُشْمِيهَنِيِّ: فَأَمَرَهُ بِالْحِلِّ عَلَى الِالْتِفَاتِ.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ:

حَدِيثُ حَفْصَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا بِعُمْرَةٍ. . . الْحَدِيثَ. لَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ قَوْلُهُ: بِعُمْرَةٍ. وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ أَصْحَابَ مَالِكٍ ذَكَرَهَا بَعْضُهُمْ وَحَذَفَهَا بَعْضُهُمْ، وَاسْتُشْكِلَ كَيْفَ حَلُّوا بِعُمْرَةٍ مَعَ قَوْلِهَا: وَلَمْ تُحِلَّ مِنْ عُمْرَتِكَ؟! وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بقَوْلُهَا بِعُمْرَةٍ؛ أَيْ أنَّ إِحْرَامَهُمْ بعُمْرَةٍ كَانَ سَبَبًا لِسُرْعَةِ حِلِّهِمْ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ لَا يَتَحَلَّلُ مِنْ عَمَلِ الْعُمْرَةِ حَتَّى يُحِلَّ بِالْحَجِّ وَيَفْرُغَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ جَعَلَ الْعِلَّةَ فِي بَقَائِهِ عَلَى إِحْرَامِهِ كَوْنَهُ أَهْدَى، وَكَذَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ سَابِعَ أَحَادِيثِ الْبَابِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَنْحَرَ الْهَدْيَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ وَمَنْ وَافَقَهُمَا، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ أَوَّلِ حَدِيثِ الْبَابِ: فَأَمَرَ مَنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ أَنْ يُحِلَّ. وَالْأَحَادِيثُ بِذَلِكَ مُتَضَافِرَةٌ، وَأَجَابَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ السَّبَبَ فِي عَدَمِ تَحَلُّلِهِ مِنَ الْعُمْرَةِ كَوْنُهُ أَدْخَلَهَا عَلَى الْحَجِّ، وَهُوَ مُشْكِلٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ حَجَّهُ كَانَ مُفْرَدًا.

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَيْسَ لِمَنْ قَالَ كَانَ مُفْرَدًا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ انْفِصَالٌ؛ لِأَنَّهُ إِنْ قَالَ بِهِ اسْتُشْكِلَ عَلَيْهِ كَوْنُهُ عَلَّلَ عَدَمَ التَّحَلُّلِ بِسَوْقِ الْهَدْيِ، لِأَنَّ عَدَمَ التَّحَلُّلِ لَا يَمْتَنِعُ عَلَى مَنْ كَانَ قَارِنًا عِنْدَهُ، وَجَنَحَ الْأَصِيلِيُّ وَغَيْرُهُ إِلَى تَوْهِيمِ مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَمْ تَحِلَّ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ، وَأَنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ فِي حَدِيثِ حَفْصَةَ غَيْرُهُ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ - عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ انْفِرَادِهِ - بِأَنَّهَا زِيَادَةُ حَافِظٍ، فَيَجِبُ قَبُولُهَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَنْفَرِدْ، فَقَدْ تَابَعَهُ أَيُّوبُ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَهُمَا مَعَ ذَلِكَ حُفَّاظٌ أَصْحَابُ نَافِعٍ، انْتَهَى. وَرِوَايَةُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَالْبُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ؛ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ نَافِعٍ بِدُونِهَا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ: فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَحِلَّ مِنَ الْحَجِّ، وَلَا تُنَافِي هَذِهِ رِوَايَةَ مَالِكٍ، لِأَنَّ الْقَارِنَ لَا يَحِلُّ مِنَ الْعُمْرَةِ وَلَا مِنَ الْحَجِّ حَتَّى يَنْحَرَ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ مُتَمَتِّعًا كَمَا سَيَأْتِي، لِأَنَّ قَوْلَ حَفْصَةَ: وَلَمْ تَحِلَّ مِنْ عُمْرَتِكَ وَقَوْلُهُ هُوَ: حَتَّى أَحِلَّ مِنَ الْحَجِّ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ كَانَ قَارِنًا.

وَأَجَابَ مَنْ قَالَ كَانَ مُفْرِدًا عَنْ قَوْلِهِ: وَلَمْ تَحِلَّ مِنْ عُمْرَتِكَ بِأَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ: مَعْنَاهُ وَلَمْ تَحِلَّ أَنْتَ مِنْ إِحْرَامِكَ الَّذِي ابْتَدَأَتْهُ مَعَهُمْ بِنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَلَمْ تَحِلَّ مِنْ حَجِّكَ بِعُمْرَةٍ كَمَا أَمَرْتَ أَصْحَابِكَ، قَالُوا: وَقَدْ تَأْتِي مِنْ بِمَعْنَى الْبَاءِ، كَقَوْلِهِ عز وجل:{يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} ؛ أَيْ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَمْ تَحِلَّ أَنْتَ بِعُمْرَةٍ مِنْ إِحْرَامِكَ، وَقِيلَ: ظَنَّتْ أَنَّهُ فَسَخَ حَجَّهُ بِعُمْرَةٍ كَمَا فَعَلَ أَصْحَابُهُ بِأَمْرِهِ، فَقَالَتْ: لِمَ لَمْ تَحِلَّ أَنْتَ أَيْضًا مِنْ عُمْرَتِكَ؟ وَلَا يَخْفَى مَا فِي بَعْضِ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ مِنَ التَّعَسُّفِ. وَالَّذِي تَجْتَمِعُ بِهِ الرِّوَايَاتُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ قَارِنًا، بِمَعْنَى أَنَّهُ أَدْخَلَ الْعُمْرَةَ عَلَى الْحَجِّ بَعْدَ أَنْ أَهَلَّ بِهِ مُفْرِدًا، لَا أَنَّهُ أَوَّلُ مَا أَهَلَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مَعًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ عُمَرَ مَرْفُوعًا: وَقُلْ: عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ: ثُمَّ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: جَمَعَ بَيْنَ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ. وَلِأَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ مَرْفُوعًا: إنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ وَقَرَنْتُ. وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ مِثْلُهُ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ سُرَاقَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَنَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ: جَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ.

وَلِلدَّارقُطْنِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي قَتَادَةَ، وَالْبَزَّارِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى؛ ثَلَاثَتُهُمْ مَرْفُوعًا مِثْلُهُ. وَأَجَابَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَغَيْرِهَا نُصْرَةً لِمَنْ قَالَ: إِنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ مُفْرِدًا، فَنُقِلَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ أَنَّ رِوَايَةَ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ - أَنَّهُ سَمِعَهُمْ يَصْرُخُونَ بِهِمَا جَمِيعًا - أَثْبَتُ مِنْ رِوَايَةِ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، ثُمَّ تَعَقَّبَهُ بِأَنَّ

ص: 427

قَتَادَةَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْحُفَّاظِ رَوَوْهُ عَنْ أَنَسٍ كَذَلِكَ، فَالِاخْتِلَافُ فِيهِ عَلَى أَنَسٍ نَفْسِهِ، قَالَ: فَلَعَلَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُ غَيْرَهُ كَيْفَ يُهِلُّ بِالْقِرَانِ، فَظَنَّ أَنَّهُ أَهَلَّ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَجَابَ عَنْ حَدِيثِ حَفْصَةَ بِمَا نُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهَا: وَلَمْ تَحِلَّ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ؛ أَيْ مِنْ إِحْرَامِكَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَعَنْ حَدِيثِ عُمَرَ بِأَنَّ جَمَاعَةً رَوَوْهُ بِلَفْظِ: صَلَّى فِي هَذَا الْوَادِي، وَقَالَ: عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ. قَالَ: وَهَؤُلَاءِ أَكْثَرُ عَدَدًا مِمَّنْ رَوَاهُ: وَقُلْ: عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ، فَيَكُونُ إِذْنًا فِي الْقِرَانِ لَا أَمْرًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَالِ نَفْسِهِ. وَعَنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ إِذْنُهُ لِأَصْحَابِهِ فِي الْقِرَانِ بِدَلِيلِ رِوَايَتِهِ الْأُخْرَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَعْمَرَ بَعْضَ أَهْلِهِ فِي الْعَشْرِ، وَرِوَايَتِهِ الْأُخْرَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَمَتَّعَ، فَإِنَّ مُرَادَهُ بِكُلِّ ذَلِكَ إِذْنُهُ فِي ذَلِكَ.

وَعَنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بِأَنَّهُ سَاقَهُ فِي قِصَّةِ عَلِيٍّ، وَقَدْ رَوَاهَا أَنَسٌ - يَعْنِي كَمَا تَقَدَّمَ - فِي هَذَا الْبَابِ، وَجَابِرٌ كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَلَيْسَ فِيهَا لَفْظُ: وَقَرَنْتُ، وَأَخْرَجَ حَدِيثَ مُجَاهِدٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَقَدْ عَلِمَ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدِ اعْتَمَرَ ثَلَاثًا سِوَى الَّتِي قَرَنَهَا فِي حَجَّتِهِ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: تَفَرَّدَ أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِهَذَا، وَقَدْ رَوَاهُ مَنْصُورٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِ: فَقَالَتْ: مَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ قَطُّ. وَقَالَ: هَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ؛ يَعْنِي كَمَا سَيَأْتِي فِي أَبْوَابِ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى أَبِي إِسْحَاقَ، فَرَوَاهُ زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ عَنْهُ هَكَذَا. وَقَالَ زَكَرِيَّا، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، ثُمَّ رَوَى حَدِيثَ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَجَّ حَجَّتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ وَحَجَّةً قَرَنَ مَعَهَا عُمْرَةً؛ يَعْنِي بَعْدَ مَا هَاجَرَ.

وَحُكِيَ عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ أَعَلَّهُ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْهُ، وَزَيْدٌ رُبَّمَا يَهِمُ فِي الشَّيْءِ، وَالْمَحْفُوظُ عَنِ الثَّوْرِيِّ مُرْسَلٌ، وَالْمَعْرُوفُ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَهَلَّ بِالْحَجِّ خَالِصًا، ثُمَّ رَوَى حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَ حَدِيثِ مُجَاهِدٍ عَنْ عَائِشَةَ، وَأَعَلَّهُ بِدَاوُدَ الْعَطَّارِ، وَقَالَ: إِنَّهُ تَفَرَّدَ بِوَصْلِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو فَأَرْسَلَهُ؛ لَمْ يَذْكُرِ ابْنَ عَبَّاسٍ، ثُمَّ رَوَى حَدِيثَ الصُّبَيِّ بْنِ مَعْبَدٍ أَنَّهُ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مَعًا، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ، الْحَدِيثَ. وَهُوَ فِي السُّنَنِ، وَفِيهِ قِصَّةٌ، وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْقِرَانِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ قَارِنًا، وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذِهِ الْأَجْوِبَةِ مِنَ التَّعَسُّفِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الصَّوَابُ الَّذِي نَعْتَقِدُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ قَارِنًا، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَعْتَمِرْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ بَعْدَ الْحَجِّ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ مِنَ الْإِفْرَادِ الَّذِي لَا يَعْتَمِرُ فِي سَنَتِهِ عِنْدنَا، وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ أَنَّ الْحَجَّ وَحْدَهُ أَفْضَلُ مِنَ الْقِرَانِ، كَذَا قَالَ. وَالْخِلَافُ ثَابِتٌ قَدِيمًا وَحَدِيثًا؛ أَمَّا قَدِيمًا فَالثَّابِتُ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ أَتَمَّ لِحَجِّكُمْ وَعُمْرَتِكُمْ أَنْ تُنْشِئُوا لِكُلٍّ مِنْهُمَا سَفَرًا. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوُهُ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُ.

وَأَمَّا حَدِيثًا فَقَدْ صَرَّحَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَالْمُتَوَلِّي بِتَرْجِيحِ الْإِفْرَادِ، وَلَوْ لَمْ يَعْتَمِرْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: الْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْقَارِنَ يَطُوفُ طَوَافًا وَاحِدًا وَسَعْيًا وَاحِدًا، فَبِهَذَا قَالَ: إِنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ، وَنَحْنُ عِنْدَنَا أَنَّ الْقَارِنَ يَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَسَعْيَيْنِ، فَهُوَ أَفْضَلُ لِكَوْنِهِ أَكْثَرَ عَمَلًا. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ فِيمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهِ مُحْرِمًا، وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ كُلَّ رَاوٍ أَضَافَ إِلَيْهِ مَا أُمِرَ بِهِ اتِّسَاعًا، ثُمَّ رُجِّحَ بِأَنَّهُ كَانَ أَفْرَدَ الْحَجَّ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَقَدْ بَسَطَ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلَ فِيهِ فِي اخْتِلَافُ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ، وَرُجِّحَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَحْرَمَ إِحْرَامًا مُطْلَقًا يَنْتَظِرُ مَا يُؤْمَرُ بِهِ، فَنُزِّلَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِذَلِكَ وَهُوَ عَلَى الصَّفَا، وَرَجَّحُوا الْإِفْرَادَ أَيْضًا بِأَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ وَاظَبُوا عَلَيْهِ، وَلَا يُظَنُّ بِهِمُ الْمُوَاظَبَةُ عَلَى تَرْكِ الْأَفْضَلِ، وَبِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ كَرِهَ الْإِفْرَادَ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْهُمْ كَرَاهِيَةُ التَّمَتُّعِ وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا حَتَّى فَعَلَهُ عَلِيٌّ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَبِأَنَّ الْإِفْرَادَ لَا يَجِبُ فِيهِ دَمٌ بِالْإِجْمَاعِ بِخِلَافِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، انْتَهَى.

وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ دَمَ الْقِرَانِ دَمُ جُبْرَانٍ، وَقَدْ

ص: 428

مَنَعَهُ مَنْ رَجَّحَ الْقِرَانَ، وَقَالَ: إِنَّهُ دَمُ فَضْلٍ وَثَوَابٍ كَالْأُضْحِيَّةِ، وَلَوْ كَانَ دَمَ نَقْصٍ لَمَا قَامَ الصِّيَامُ مَقَامَهُ، وَلِأَنَّهُ يُؤْكَلُ مِنْهُ، وَدَمُ النَّقْصِ لَا يُؤْكَلُ مِنْهُ كَدَمِ الْجَزَاءِ، قَالَهُ الطَّحَاوِيُّ. وَقَالَ عِيَاضٌ نَحْوَ مَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ، وَزَادَ: وَأَمَّا إِحْرَامُهُ هُوَ، فَقَدْ تَضَافَرَتِ الرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَةُ بِأَنَّهُ كَانَ مُفْرِدًا، وَأَمَّا رِوَايَةُ مَنْ رَوَى مُتَمَتِّعًا فَمَعْنَاهُ أَمَرَ بِهِ، لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِقَوْلِهِ: وَلَوْلَا أَنَّ مَعِيَ الْهَدْيَ لَأَحْلَلْتُ. فَصَحَّ أَنَّهُ لَمْ يَتَحَلَّلْ. وَأَمَّا رِوَايَةُ مَنْ رَوَى الْقِرَانَ، فَهُوَ إِخْبَارٌ عَنْ آخِرِ أَحْوَالِهِ، لِأَنَّهُ أَدْخَلَ الْعُمْرَةَ عَلَى الْحَجِّ لَمَّا جَاءَ إِلَى الْوَادِي، وَقِيلَ لَهُ: قُلْ: عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ، انْتَهَى.

وَهَذَا الْجَمْعُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَقَدْ سَبَقَ إِلَيْهِ قَدِيمًا ابْنُ الْمُنْذِرِ وَبَيَّنَهُ ابْنُ حَزْمٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بَيَانًا شَافِيًا، وَمَهَّدَهُ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ تَمْهِيدًا بَالِغًا يَطُولُ ذِكْرُهُ، وَمُحَصَّلُهُ أَنَّ كُلَّ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ الْإِفْرَادُ حُمِلَ عَلَى مَا أَهَلَّ بِهِ فِي أَوَّلِ الْحَالِ، وَكُلَّ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ التَّمَتُّعُ أَرَادَ مَا أَمَرَ بِهِ أَصْحَابَهُ، وَكُلَّ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ الْقِرَانُ أَرَادَ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ أَمْرُهُ، وَيَتَرَجَّحُ رِوَايَةُ مَنْ رَوَى الْقِرَانَ بِأُمُورٍ، مِنْهَا: أَنَّ مَعَهُ زِيَادَةُ عِلْمٍ عَلَى مَنْ رَوَى الْإِفْرَادَ وَغَيْرَهُ، وَبِأَنَّ مَنْ رَوَى الْإِفْرَادَ وَالتَّمَتُّعَ اخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ؛ فَأَشْهَرُ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ الْإِفْرَادُ عَائِشَةُ - وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهَا أَنَّهُ اعْتَمَرَ مَعَ حَجَّتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ - وَابْنُ عُمَرَ - وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم بَدَأَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ كَمَا سَيَأْتِي فِي أَبْوَابِ الْهَدْيِ، وَثَبَتَ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ، ثُمَّ حَدَثَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي أَيْضًا - وَجَابِرٌ - وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: إِنَّهُ اعْتَمَرَ مَعَ حَجَّتِهِ أَيْضًا. وَرَوَى الْقِرَانَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ لَمْ يُخْتَلَفْ عَلَيْهِمْ فِيهِ، وَبِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ النَّقْلُ عَنْهُ مِنْ لَفْظِهِ أَنَّهُ قَالَ: أَفْرَدْتُ وَلَا تَمَتَّعْتُ، بَلْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: قَرَنْتُ، وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَوْلَا أَنَّ مَعِيَ الْهَدْيَ لَأَحْلَلْتُ.

وَأَيْضًا فَإِنَّ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ الْقِرَانُ لَا يَحْتَمِلُ حَدِيثُهُ التَّأْوِيلَ إِلَّا بِتَعَسُّفٍ، بِخِلَافِ مَنْ رَوَى الْإِفْرَادَ فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَوَّلِ الْحَالِ وَيَنْتَفِي التَّعَارُضُ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ مَنْ جَاءَ عَنْهُ الْإِفْرَادُ جَاءَ عَنْهُ صُورَةُ الْقِرَانِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمَنْ رُوِيَ عَنْهُ التَّمَتُّعُ فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى سَفَرٍ وَاحِدٍ لِلنُّسُكَيْنِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ مَنْ جَاءَ عَنْهُ التَّمَتُّعُ لَمَّا وَصَفَهُ وَصَفَهُ بِصُورَةِ الْقِرَانِ، لِأَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحِلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ حَتَّى أَتَمَّ عَمَلَ جَمِيعِ الْحَجِّ، وَهَذِهِ إِحْدَى صُوَرِ الْقِرَانِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ رِوَايَةَ الْقِرَانِ جَاءَتْ عَنْ بِضْعَةِ عَشَرَ صَحَابِيًّا بِأَسَانِيدَ جِيَادٍ، بِخِلَافِ رِوَايَتَيِ الْإِفْرَادِ وَالتَّمَتُّعِ، وَهَذَا يَقْتَضِي رَفْعَ الشَّكِّ عَنْ ذَلِكَ وَالْمَصِيرَ إِلَى أَنَّهُ كَانَ قَارِنًا، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْقِرَانُ أَفْضَلَ مِنَ الْإِفْرَادِ وَمِنَ التَّمَتُّعِ وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، وَاخْتَارَهُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ الْمُزَنِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَمِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ.

وَبَحَثَ مَعَ النَّوَوِيِّ فِي اخْتِيَارِهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ قَارِنًا وَأَنَّ الْإِفْرَادَ مَعَ ذَلِكَ أَفْضَلُ، مُسْتَنِدًا إِلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اخْتَارَ الْإِفْرَادَ أَوَّلًا، ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهِ الْعُمْرَةَ لِبَيَانِ جَوَازِ الِاعْتِمَارِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ لِكَوْنِهِمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ كَمَا فِي ثَالِثِ أَحَادِيثِ الْبَابِ، وَمُلَخَّصُ مَا يُتَعَقَّبُ بِهِ كَلَامُهُ أَنَّ الْبَيَانَ قَدْ سَبَقَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم فِي عُمَرِهِ الثَّلَاثِ، فَإِنَّهُ أَحْرَمَ بِكُلٍّ مِنْهَا: فِي ذِي الْقَعْدَةِ عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ الَّتِي صُدَّ عَنِ الْبَيْتِ فِيهَا، وَعُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ الَّتِي بَعْدَهَا، وَعُمْرَةَ الْجِعْرَانَةِ. وَلَوْ كَانَ أَرَادَ بِاعْتِمَارِهِ معَ حَجَّتِهِ بَيَانَ الْجَوَازِ فَقَطْ مَعَ أَنَّ الْأَفْضَلَ خِلَافُهُ لَاكْتَفَى فِي ذَلِكَ بِأَمْرِهِ أَصْحَابَهُ أَنْ يَفْسَخُوا حَجَّهُمْ إِلَى الْعُمْرَةِ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى أَنَّ التَّمَتُّعَ أَفْضَلُ لِكَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم تَمَنَّاهُ، فَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ لَأَحْلَلْتُ. وَلَا يَتَمَنَّى إِلَّا الْأَفْضَلَ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إِنَّمَا تَمَنَّاهُ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِ أَصْحَابِهِ لِحُزْنِهِمْ عَلَى فَوَاتِ مُوَافَقَتِهِ، وَإِلَّا فَالْأَفْضَلُ مَا اخْتَارَهُ اللَّهُ لَهُ وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: يَتَرَجَّحُ التَّمَتُّعُ بِأَنَّ الَّذِي يُفْرِدُ إِنِ اعْتَمَرَ بَعْدَهَا فَهِيَ عُمْرَةٌ مُخْتَلَفٌ فِي إِجْزَائِهَا عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ بِخِلَافِ عُمْرَةِ التَّمَتُّعِ فَهِيَ مُجْزِئَةٌ بِلَا خِلَافٍ، فَيَتَرَجَّحُ التَّمَتُّعُ عَلَى الْإِفْرَادِ وَيَلِيهِ الْقِرَانُ، وَقَالَ مَنْ رَجَّحَ

ص: 429

الْقِرَانَ: هُوَ أَشَقُّ مِنَ التَّمَتُّعِ، وَعُمْرَتُهُ مُجْزِئَةٌ بِلَا خِلَافٍ، فَيَكُونُ أَفْضَلَ مِنْهُمَا. وَحَكَى عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الصُّوَرَ الثَّلَاثَ فِي الْفَضْلِ سَوَاءٌ، وَهُوَ مُقْتَضَى تَصَرُّفِ ابْنِ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ الْقِرَانُ وَالتَّمَتُّعُ فِي الْفَضْلِ سَوَاءٌ، وَهُمَا أَفْضَلُ مِنَ الْإِفْرَادِ، وَعَنْ أَحْمَدَ: مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَالْقِرَانُ أَفْضَلُ لَهُ لِيُوَافِقَ فِعْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَمَنْ لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ فَالتَّمَتُّعُ أَفْضَلُ لَهُ لِيُوَافِقَ مَا تَمَنَّاهُ وَأَمَرَ بِهِ أَصْحَابَهُ. زَادَ بَعْضُ أَتْبَاعِهِ: وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُنْشِئَ لِعُمْرَتِهِ مِنْ بَلَدِهِ سَفَرًا فَالْإِفْرَادُ أَفْضَلُ لَهُ. قَالَ: وَهَذَا أَعْدَلُ الْمَذَاهِبِ وَأَشْبَهُهَا بِمُوَافَقَةِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، فَمَنْ قَالَ: الْإِفْرَادُ أَفْضَلُ، فَعَلَى هَذَا يَتَنَزَّلُ؛ لِأَنَّ أَعْمَالَ سَفَرَيْنِ لِلنُّسُكَيْنِ أَكْثَرُ مَشَقَّةً، فَيَكُونُ أَعْظَمَ أَجْرًا، وَلِتُجْزِئُ عَنْهُ عُمْرَتُهُ مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ وَلَا اخْتِلَافٍ.

وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ عَلَى نَمَطٍ آخَرَ مَعَ مُوَافَقَتِهِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَارِنًا كَالطَّحَاوِيِّ، وَابْنِ حِبَّانَ وَغَيْرِهِمَا، فَقِيلَ: أَهَلَّ أَوَّلًا بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ لَمْ يَتحْلِلْ مِنْهَا إِلَى أَنْ أَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، وَمُسْتَنَدُ هَذَا الْقَائِلِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْآتِي فِي أَبْوَابِ الْهَدْيِ بلَفْظِ: فَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ. وَهَذَا لَا يُنَافِي إِنْكَارَ ابْنِ عُمَرَ عَلَى أَنَسٍ كَوْنَهُ نَقَلَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ كَمَا سَيَأْتِي فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنَ الْمَغَازِي، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ إِنْكَارِهِ كَوْنَهُ نَقَلَ أَنَّهُ أَهَلَّ بِهِمَا مَعًا، وَإِنَّمَا الْمَعْرُوفُ عِنْدَهُ أَنَّهُ أَدْخَلَ أَحَدَ النُّسُكَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، لَكِنَّ جَزْمَهُ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم بَدَأَ بِالْعُمْرَةِ مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ فَهُوَ مَرْجُوحٌ، وَقِيلَ: أَهَلَّ أَوَّلًا بِالْحَجِّ مُفْرِدًا، ثُمَّ اسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَنْ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِأَنْ يَفْسَخُوا حَجَّهُمْ فَيَجْعَلُوهُ عُمْرَةً وَفَسَخَ مَعَهُمْ، وَمَنَعَهُ مِنَ التَّحَلُّلِ مِنْ عُمْرَتِهِ الْمَذْكُورَةِ مَا ذَكَرَهُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ وَغَيْرِهِ مِنْ سَوْقِ الْهَدْيِ، فَاسْتَمَرَّ مُعْتَمِرًا إِلَى أَنْ أَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ حَتَّى تَحَلَّلَ مِنْهُمَا جَمِيعًا، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ أَوَّلًا وَآخِرًا، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ، لَكِنَّ الْجَمْعَ الْأَوَّلَ أَوْلَى. وَقِيلَ: إِنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَهَلَّ بِالْحَجِّ مُفْرِدًا، وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ تَحَلَّلَ مِنْهُ بِمِنًى، وَلَمْ يَعْتَمِرْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، وَهُوَ مُقْتَضَى مَنْ رَجَّحَ أَنَّهُ كَانَ مُفْرِدًا.

وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ الْقِرَانَ مِنَ الصَّحَابَةِ نَفَى أَنْ يَكُونَ أَهَلَّ بِهِمَا جَمِيعًا فِي أَوَّلِ الْحَالِ، وَلَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ أَهَلَّ بِالْحَجِّ مُفْرِدًا ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهِ الْعُمْرَةَ، فَيَجْتَمِعُ الْقَوْلَانِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمْ.

قَوْلُهُ: (وَلَمْ تَحْلِلْ) بِكَسْرِ اللَّامِ الْأُولَى؛ أَيْ لَمْ تَحِلَّ، وَإِظْهَارُ التَّضْعِيفِ لُغَةٌ مَعْرُوفَةٌ.

قَوْلُهُ: (لَبَّدْتُ) بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ؛ أَيْ شَعْرَ رَأْسِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ التَّلْبِيدِ، وَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ فِيهِ شَيْءٌ لِيَلْتَصِقَ بِهِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ اسْتِحْبَابُ ذَلِكَ لِلْمُحْرِمِ.

قَوْلُهُ: (فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ) يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ السَّابِعِ.

الحديث السادس:

قَوْلُهُ: (أَبُو جَمْرَةَ) بِالْجِيمِ وَالرَّاءِ.

قَوْلُهُ: (تَمَتَّعْتُ فَنَهَانِي نَاسٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى أَسْمَائِهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ يَنْهَى عَنِ الْمُتْعَةِ كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْهُ وَعَنْ جَابِرٍ، وَنَقَلَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى التَّمَتُّعَ إِلَّا لِلْمُحْصَرِ، وَوَافَقَهُ عَلْقَمَةُ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا اخْتِصَاصَ بذَلِكَ لِلْحَصْرِ.

قَوْلُهُ: (فَأَمَرَنِي)؛ أَيْ أَنْ أَسْتَمِرَّ عَلَى عُمْرَتِي، وَلِأَحْمَدَ، وَمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ: فَأَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَأَمَرَنِي بِهَا، ثُمَّ انْطَلَقْتُ إِلَى الْبَيْتِ فَنِمْتُ، فَأَتَانِي آتٍ فِي مَنَامِي.

قَوْلُهُ: (وَعُمْرَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ) فِي رِوَايَةِ النَّضْرِ، عَنْ شُعْبَةَ كَمَا سَيَأْتِي فِي أَبْوَابِ الْهَدْيِ: مُتْعَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ، وَهُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ؛ أَيْ هَذِهِ عُمْرَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْمَبْرُورِ فِي أَوَائِلِ الْحَجِّ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: سُنَّةُ أَبِي الْقَاسِمِ) هُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ؛ أَيْ هَذِهِ سُنَّةُ. وَيَجُوزُ فِيهِ النَّصْبُ؛ أَيْ وَافَقَتْ سُنَّةَ أَبِي الْقَاسِمِ، أَوْ عَلَى الِاخْتِصَاصِ. وَفِي رِوَايَةِ النَّضْرِ: فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، سُنَّةُ أَبِي الْقَاسِمِ، وَزَادَ فِيهِ زِيَادَةً يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَالَ لِي)؛ أَيِ ابْنُ عَبَّاسٍ (أَقِمْ عِنْدِي وَأَجْعَلْ لَكَ سَهْمًا مِنْ مَالِي)؛ أَيْ نَصِيبًا (قَالَ شُعْبَةُ: فَقُلْتُ) يَعْنِي لِأَبِي جَمْرَةَ (وَلِمَ؟)؛ أَيِ أَسْتَفْهِمُهُ عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ (فَقَالَ: لِلرُّؤْيَا)؛ أَيْ لِأَجْلِ

ص: 430

الرُّؤْيَا الْمَذْكُورَةِ. وَيُؤْخَذُ مِنْهُ إِكْرَامُ مَنْ أَخْبَرَ الْمَرْءَ بِمَا يَسُرُّهُ، وَفَرَحُ الْعَالِمِ بِمُوَافَقَتِهِ الْحَقَّ، وَالِاسْتِئْنَاسُ بِالرُّؤْيَا لِمُوَافَقَةِ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ، وَعَرْضُ الرُّؤْيَا عَلَى الْعَالِمِ، وَالتَّكْبِيرُ عِنْدَ الْمُسِرَّةِ، وَالْعَمَلُ بِالْأَدِلَّةِ الظَّاهِرَةِ، وَالتَّنْبِيهُ عَلَى اخْتِلَافِ أَهْلِ الْعِلْمِ لِيُعْمَلَ بِالرَّاجِحِ مِنْهُ الْمُوَافِقِ لِلدَّلِيلِ.

الْحَدِيثُ السَّابِعُ:

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ) هُوَ الْأَكْبَرُ، وَاسْمُهُ مُوسَى بْنُ نَافِعٍ.

قَوْلُهُ: (حَجُّكَ مَكِّيًّا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: حَجَّتُكَ مَكِّيَّةٌ؛ يَعْنِي قَلِيلَةُ الثَّوَابِ لِقِلَّةِ مَشَقَّتِهَا. وَقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: مَعْنَاهُ أَنَّكَ تُنْشِئُ حَجَّكَ مِنْ مَكَّةَ كَمَا يُنْشِئُ أَهْلُ مَكَّةَ مِنْهَا، فَيَفُوتُكَ فَضْلُ الْإِحْرَامِ مِنَ الْمِيقَاتِ.

قَوْلُهُ: (فَدَخَلْتُ عَلَى عَطَاءٍ)؛ أَيِ ابْنِ أَبِي رَبَاحٍ.

قَوْلُهُ: (يَوْمَ سَاقَ الْبُدْنَ مَعَهُ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَإِسْكَانِ الدَّالِ؛ جَمْعُ بَدَنَةٍ، وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنِ ابْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ بِلَفْظِ: عَامَ سَاقَ الْهَدْيَ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ لَهُمْ: أَحِلُّوا مِنْ إِحْرَامِكُمْ. . . إِلَخْ)؛ أَيِ اجْعَلُوا حَجَّكُمْ عُمْرَةً، وَتَحَلَّلُوا مِنْهَا بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ.

قَوْلُهُ: (وَقَصَّرُوا) إِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يُهِلُّونَ بَعْدَ قَلِيلٍ بِالْحَجِّ، فَأَخَّرَ الْحَلْقَ لِأَنَّ بَيْنَ دُخُولِهِمْ وَبَيْنَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ فَقَطْ.

قَوْلُهُ: (وَاجْعَلُوا الَّتِي قَدِمْتُمْ بِهَا مُتْعَةً)؛ أَيِ اجْعَلُوا الْحَجَّةَ الْمُفْرَدَةَ الَّتِي أَهْلَلْتُمْ بِهَا عُمْرَةً تَتَحَلَّلُوا مِنْهَا فَتَصِيرُوا مُتَمَتِّعِينَ، فَأَطْلَقَ عَلَى الْعُمْرَةِ مُتْعَةً مَجَازًا وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرَةٌ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عَطَاءٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ أَمَرَنَا أَنْ نُحِلَّ وَنَجْعَلَهَا عُمْرَةً. وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ الْبَاقِرِ، عَنْ جَابِرٍ فِي الْخَبَرِ الطَّوِيلِ عِنْدَ مُسْلِمٍ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: افْعَلُوا مَا أَمَرْتُكُمْ، فَلَوْلَا أَنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ. . . إِلَخْ) فِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ عليه السلام مِنْ تَطْيِيبِ قُلُوبِ أَصْحَابِهِ وَتَلَطُّفِهِ بِهِمْ وَحِلْمِهِ عَنْهُمْ.

قَوْلُهُ: (لَا يَحِلُّ مِنِّي حَرَامٌ) بِكَسْرِ حَاءِ يَحِلُّ؛ أَيْ شَيْءٌ حَرَامٌ، وَالْمَعْنَى: لَا يَحِلُّ مِنِّي مَا حَرُمَ عَلَيَّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: لَا يَحِلُّ مِنِّي حَرَامًا بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَعَلَى هَذَا فَيُقْرَأُ: يُحَلُّ؛ بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَالْفَاعِلُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: لَا يُحِلُّ طُولُ الْمُكْثِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنِّي شَيْئًا حَرَامًا حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ؛ أَيْ إِذَا نَحَرَ يَوْمَ مِنًى. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنِ اعْتَمَرَ فَسَاقَ هَدْيًا لَا يَتَحَلَّلُ مِنْ عُمْرَتِهِ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ حَفْصَةَ نَحْوَهُ، وَيَأْتِي حَدِيثُ عَائِشَةَ مِنْ طَرِيقِ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْهَا بِلَفْظِ: مَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فَأَهْدَى فَلَا يُحِلُّ حَتَّى يَنْحَرَ. وَتَأَوَّلَ ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ: وَمَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَأَهْدَى فَلْيُهِلَّ بِالْحَجِّ، وَلَا يُحِلَّ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ. قُلْتُ: فَإِنَّهُ خِلَافُ ظَاهِرِ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ الْمُصَنِّفُ.

قَوْلُهُ: (أَبُو شِهَابٍ لَيْسَ لَهُ حَدِيثٌ مُسْنَدٌ إِلَّا هَذَا)؛ أَيْ لَمْ يَرْوِ حَدِيثًا مَرْفُوعًا إِلَّا هَذَا الْحَدِيثَ. قَالَ مُغَلْطَايْ: كَأَنَّهُ يَقُولُ: مَنْ كَانَ هَكَذَا لَا يَجْعَلُ حَدِيثَهُ أَصْلًا مِنْ أَصوْلِ الْعِلْمِ. قُلْتُ: إِذَا كَانَ مَوْصُوفًا بِصِفَةِ مَنْ يُصَحَّحُ حَدِيثُهُ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ قَدْ تُوبِعَ عَلَيْهِ، ثُمَّ كَلَامُ مُغَلْطَايْ مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِ الْإِطْلَاقِ، وَقَدْ أَجَابَ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِالرِّوَايَةِ عَنْ عَطَاءٍ، فَإِنَّ حَدِيثَهُ هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ الَّذِي انْفَرَدَ مُسْلِمٌ بِسِيَاقِهِ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ، وَفِي هَذَا الطَّرَفِ زِيَادَةُ بَيَانٍ لِصِفَةِ التَّحَلُّلِ مِنَ الْعُمْرَةِ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: أَحِلُّوا مِنْ إِحْرَامِكُمْ بِطَوَافِ الْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَقَصِّرُوا، ثُمَّ أَقِيمُوا حَلَالًا إِلَى يَوْمِ التَّرْوِيَةِ وَأَهِلُّوا بِالْحَجِّ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ جَوَازُ جَوَابِ الْمُفْتِي لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ حُكْمٍ خَاصٍّ بِأَنْ يَذْكُرَ لَهُ قِصَّةً مُسْنَدَةً مَرْفُوعَةً إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَشْتَمِلُ عَلَى جَوَابِ سُؤَالِهِ وَيَكُونُ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْفَوَائِدِ الزَّائِدَةِ عَلَى ذَلِكَ زِيَادَةُ خَيْرٍ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحِلُّ ذَلِكَ لَائِقًا بِحَالِ السَّائِلِ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ اخْتِلَافِ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ فِي التَّمَتُّعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ ثَانِي أَحَادِيثِ هَذَا الْبَابِ. فَاشْتَمَلَتْ أَحَادِيثُ الْبَابِ عَلَى مَا تُرْجِمَ بِهِ، فَحَدِيثُ عَائِشَةَ مِنْ طَرِيقٍ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْفَسْخُ وَالْإِفْرَادُ، وَحَدِيثُ عَلِيٍّ

ص: 431

مِنْ طَرِيقِهِ يُؤْخَذُ مِنْهُ التَّمَتُّعُ وَالْقِرَانُ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْفَسْخُ، وَكَذَا حَدِيثُ أَبِي مُوسَى، وَجَابِرٍ. وَحَدِيثُ حَفْصَةَ يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ لَا يُحِلُّ مِنْ عُمْرَتِهِ إِنْ كَانَ سَاقَ الْهَدْيَ، وَكَذَا حَدِيثُ جَابِرٍ. وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الثَّانِي يُؤْخَذُ مِنْهُ مَشْرُوعِيَّةُ التَّمَتُّعِ، وَكَذَا حَدِيثُ جَابِرٍ أَيْضًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌35 - بَاب مَنْ لَبَّى بِالْحَجِّ وَسَمَّاهُ

1570 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ: حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما: قَدِمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نَقُولُ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ بِالْحَجِّ. فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلْنَاهَا عُمْرَةً.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ لَبَّى بِالْحَجِّ وَسَمَّاهُ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ جَابِرٍ مُخْتَصَرًا مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنْهُ، وَهُوَ بَيِّنٌ فِيمَا تُرْجِمَ لَهُ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ فَسْخُ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ. وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَنَّهُ مُحْكَمٌ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَطَائِفَةٌ يَسِيرَةٌ.

‌36 - بَاب التَّمَتُّعِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

1571 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي مُطَرِّفٌ، عَنْ عِمْرَانَ رضي الله عنه قَالَ: تَمَتَّعْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَنَزَلَ الْقُرْآنُ، قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ.

[الحديث 1571 - طرفه في: 4518]

قَوْلُهُ: (بَابُ التَّمَتُّعِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَسَقَطَ لِغَيْرِهِ: عَلَى عَهْدِ. . . إِلَخْ، وَلِبَعْضِهِمْ: بَابٌ بِغَيْرِ تَرْجَمَةٍ، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَفِي التَّرْجَمَةِ إِشَارَةٌ إِلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ اسْتَقَرَّ بَعْدُ عَلَى الْجَوَازِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي مُطَرِّفٌ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، وَرِجَالُ الْإِسْنَادِ كُلُّهُمْ بَصْرِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عِمْرَانَ) هُوَ ابْنُ حُصَيْنٍ الْخُزَاعِيُّ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ عَنْ مُطَرِّفٍ: بَعَثَ إِلَيَّ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ مُحَدِّثُكَ بِأَحَادِيثَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَنْفَعَكَ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (وَنَزَلَ الْقُرْآنُ)؛ أَيْ بِجَوَازِهِ، يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} الْآيَةَ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ، عَنْ هَمَّامٍ بِلَفْظِ: وَلَمْ يَنْزِلْ فِيهِ الْقُرْآنُ؛ أَيْ بِمَنْعِهِ. وَتُوَضِّحُهُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ الْأُخْرَى مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ؛ كِلَاهُمَا عَنْ قَتَادَةَ بِلَفْظِ: ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ فِيهَا كِتَابُ اللَّهِ وَلَمْ يَنْهَ عَنْهَا نَبِيُّ اللَّهِ. وَزَادَ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ مُطَرِّفٍ: وَلَمْ يَنْزِلْ فِيهِ قُرْآنٌ بِحُرْمَةٍ. وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَلَاءِ، عَنْ مُطَرِّفٍ: فَلَمْ تَنْزِلْ آيَةٌ تَنْسَخُ ذَلِكَ وَلَمْ تَنْهَ عَنْهُ حَتَّى مَضَى لِوَجْهِهِ. وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَفَّانَ، عَنْ هَمَّامٍ: تَمَتَّعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَنَزَلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، وَلَمْ يَنْهَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَنْسَخْهَا شَيْءٌ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي تَفْسِيرِ الْبَقَرَةِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ، عَنْ عِمْرَانَ بِلَفْظِ: أُنْزِلَتْ آيَةُ الْمُتْعَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَفَعَلْنَاهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَنْزِلْ قُرْآنٌ بِحُرْمَةٍ، فَلَمْ يَنْهَ عَنْهَا حَتَّى مَاتَ، قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ) وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْعَلَاءِ: ارْتَأَى كُلُّ امْرِئٍ بَعْدُ مَا شَاءَ أَنْ يَرْتَئِي.

قَائِلُ ذَلِكَ هُوَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، وَوَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُطَرِّفٌ الرَّاوِي عَنْهُ لِثُبُوتِ ذَلِكَ

ص: 432

فِي رِوَايَةِ أَبِي رَجَاءٍ، عَنْ عِمْرَانَ كَمَا ذَكَرْتُهُ قَبْلُ، وَحَكَى الْحُمَيْدِيُّ أَنَّهُ وَقَعَ في الْبُخَارِيِّ فِي رِوَايَةِ أَبِي رَجَاءٍ، عَنْ عِمْرَانَ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: يُقَالُ: إِنَّهُ عُمَرُ؛ أَيِ الرَّجُلُ الَّذِي عَنَاهُ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، وَلَمْ أَرَ هَذَا فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ الَّتِي اتَّصَلَتْ لَنَا مِنَ الْبُخَارِيِّ، لَكِنْ نَقَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنِ الْبُخَارِيِّ كَذَلِكَ، فَهُوَ عُمْدَةُ الْحُمَيْدِيِّ فِي ذَلِكَ، وَبِهَذَا جَزَمَ الْقُرْطُبِيُّ، وَالنَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى رِوَايَةِ الْجَرِيرِيِّ، عَنْ مُطَرِّفٍ فَقَالَ فِي آخِرِهِ: ارْتَأَى رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ؛ يَعْنِي عُمَرَ، كَذَا فِي الْأَصْلِ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَاتِمٍ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْهُ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ عُمَرَ أَوْ عُثْمَانَ.

وَأَغْرَبَ الْكِرْمَانِيُّ فَقَالَ: ظَاهِرُ سِيَاقِ كِتَابِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ عُثْمَانُ، وَكَأَنَّهُ لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِقِصَّةِ عُثْمَانَ مَعَ عَلِيٍّ جَزَمَ بِذَلِكَ، وَذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ، فَقَدْ سَبَقَتْ قِصَّةُ عُمَرَ مَعَ أَبِي مُوسَى فِي ذَلِكَ، وَوَقَعَتْ لِمُعَاوِيَةَ أَيْضًا مَعَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ قِصَّةٌ فِي ذَلِكَ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُفَسَّرَ بِعُمَرَ، فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ نَهَى عَنْهَا، وَكَأَنَّ مَنْ بَعْدَهُ كَانَ تَابِعًا لَهُ فِي ذَلِكَ، ففِي مُسْلِمٍ أَيْضًا أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ كَانَ يَنْهَى عَنْهَا وَابْنَ عَبَّاسٍ يَأْمُرُ بِهَا، فَسَأَلُوا جَابِرًا فَأَشَارَ إِلَى أَنَّ أَوَّلَ مَنْ نَهَى عَنْهَا عُمَرُ، ثُمَّ فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ هَذَا مَا يُعَكِّرُ عَلَى عِيَاضٍ وَغَيْرِهِ فِي جَزْمِهِمْ أَنَّ الْمُتْعَةَ الَّتِي نَهَى عَنْهَا عُمَرُ، وَعُثْمَانُ هِيَ فَسْخُ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ، لَا الْعُمْرَةِ الَّتِي يَحُجُّ بَعْدَهَا، فَإِنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ التَّصْرِيحَ بِكَوْنِهَا مُتْعَةَ الْحَجِّ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْمَرَ بَعْضَ أَهْلِهِ فِي الْعَشْرِ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: جَمَعَ بَيْنَ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ. وَمُرَادُهُ التَّمَتُّعُ الْمَذْكُورُ، وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي عَامٍ وَاحِدٍ، كَمَا سَيَأْتِي صَرِيحًا فِي الْبَابِ بَعْدَهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى.

وَفِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ أَيْضًا جَوَازُ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ وَلَا خِلَافَ فِيهِ، وَجَوَازُ نَسْخِهِ بِالسُّنَّةِ وَفِيهِ اخْتِلَافٌ شَهِيرٌ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ قَوْلُهُ: وَلَمْ يَنْهَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّ مَفْهُومَهُ أَنَّهُ لَوْ نَهَى عَنْهَا لَامْتَنَعَتْ، وَيَسْتَلْزِمُ رَفْعَ الْحُكْمِ، وَمُقْتَضَاهُ جَوَازُ النَّسْخِ، وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يُنْسَخُ بِهِ لِكَوْنِهِ حَصَرَ وُجُوهَ الْمَنْعِ فِي نُزُولِ آيَةٍ أَوْ نَهْيٍ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَفِيهِ وُقُوعُ الِاجْتِهَادِ فِي الْأَحْكَامِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَإِنْكَارُ بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى بَعْضٍ بِالنَّصِّ.

‌37 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}

1572 -

وَقَالَ أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْبَصْرِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ فَقَالَ: أَهَلَّ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وَأَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَأَهْلَلْنَا، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اجْعَلُوا إِهْلَالَكُمْ بِالْحَجِّ عُمْرَةً إِلَّا مَنْ قَلَّدَ الْهَدْيَ. فَطُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَأَتَيْنَا النِّسَاءَ وَلَبِسْنَا الثِّيَابَ، وَقَالَ: مَنْ قَلَّدَ الْهَدْيَ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} ثُمَّ أَمَرَنَا عَشِيَّةَ التَّرْوِيَةِ أَنْ نُهِلَّ بِالْحَجِّ، فَإِذَا فَرَغْنَا مِنْ الْمَنَاسِكِ جِئْنَا فَطُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وقَدْ تَمَّ حَجُّنَا وَعَلَيْنَا الْهَدْيُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} إِلَى أَمْصَارِكُمْ، الشَّاةُ تَجْزِي. فَجَمَعُوا نُسُكَيْنِ فِي عَامٍ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَهُ فِي كِتَابِهِ وَسَنَّهُ نَبِيُّهُ صلى الله عليه وسلم وَأَبَاحَهُ لِلنَّاسِ غَيْرَ أَهْلِ مَكَّةَ، قَالَ اللَّهُ:{ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}

ص: 433

وَأَشْهُرُ الْحَجِّ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى: شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحَجَّةِ. فَمَنْ تَمَتَّعَ فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ فَعَلَيْهِ دَمٌ أَوْ صَوْمٌ. وَالرَّفَثُ: الْجِمَاعُ. وَالْفُسُوقُ: الْمَعَاصِي. وَالْجِدَالُ: الْمِرَاءُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}؛ أَيْ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ، وَذَلِكَ فِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّمَتُّعِ؛ لِأَنَّهُ سَبَقَ فِيهَا: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} إِلَى أَنْ قَالَ: (ذَلِكَ). وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْمُرَادِ بِحَاضِرِي الْمَسْجِدِ؛ فَقَالَ نَافِعٌ وَالْأَعْرَجُ: هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ بِعَيْنِهَا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَاخْتَارَهُ الطَّحَاوِيُّ وَرَجَّحَهُ. وَقَالَ طَاوُسٌ وَطَائِفَةٌ: هُمْ أَهْلُ الْحَرَمِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَقَالَ مَكْحُولٌ: مَنْ كَانَ مَنْزِلُهُ دُونَ الْمَوَاقِيتِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: مَنْ كَانَ مِنْ مَكَّةَ عَلَى دُونِ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، وَوَافَقَهُ أَحْمَدُ. وَقَالَ مَالِكٌ: أَهْلُ مَكَّةَ وَمَنْ حَوْلَهَا سِوَى أَهْلِ الْمَنَاهِلِ كَعُسْفَانَ، وَسِوَى أَهْلِ مِنًى وَعَرَفَةَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو كَامِلٍ) وَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ الْمُطَرِّزُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ فَذَكَرَهُ بِطُولِهِ، لَكِنَّهُ قَالَ: عُثْمَانُ بْنُ سَعْدٍ بَدَلَ عُثْمَانَ بْنِ غِيَاثٍ، وَكِلَاهُمَا بَصْرِيٌّ، وَلَهُ رِوَايَةٌ عَنْ عِكْرِمَةَ، لَكِنَّ عُثْمَانَ بْنَ غِيَاثٍ ثِقَةٌ وَعُثْمَانَ بْنَ سَعْدٍ ضَعِيفٌ، وَقَدْ أَشَارَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ إِلَى أَنَّ شَيْخَهُ الْقَاسِمَ وَهِمَ فِي قَوْلِهِ: عُثْمَانُ بْنُ سَعْدٍ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ أَبَا مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيَّ ذَكَرَ فِي الْأَطْرَافِ أَنَّهُ وَجَدَهُ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ أَبِي كَامِلٍ كَمَا سَاقَهُ الْبُخَارِيُّ، قَالَ: فَأَظُنُّ الْبُخَارِيَّ أَخَذَهُ عَنْ مُسْلِمٍ، لِأَنَّنِي لَمْ أَجِدْهُ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، كَذَا قَالَ، وَتُعُقِّبَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْبُخَارِيُّ أَخَذَهُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ سِنَانٍ، فَإِنَّهُ أَحَدُ مَشَايِخِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ أَخَذَهُ عَنْ أَبِي كَامِلٍ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ أَدْرَكَهُ وَهُوَ مِنَ الطَّبَقَةِ الْوُسْطَى مِنْ شُيُوخِهِ، وَلَمْ نَجِدْ لَهُ ذِكْرًا فِي كِتَابِهِ غَيْرَ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَأَبُو مَعْشَرٍ الْبَرَّاءُ اسْمُهُ يُوسُفُ بْنُ يَزِيدَ، وَالْبَرَّاءُ بِالتَّشْدِيدِ نِسْبَةٌ لَهُ إِلَى بَرْيِ السِّهَامِ.

قَوْلُهُ: (فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ)؛ أَيْ قُرْبَهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِسَرِفَ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ عَائِشَةَ.

قَوْلُهُ: (اجْعَلُوا إِهْلَالَكُمْ بِالْحَجِّ عُمْرَةً) الْخِطَابُ بِذَلِكَ لِمَنْ كَانَ أَهَلَّ بِالْحَجِّ مُفْرِدًا، كَمَا تَقَدَّمَ وَاضِحًا عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ.

قَوْلُهُ: (طُفْنَا) فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ: فَطُفْنَا بِزِيَادَةِ فَاءٍ، وَهُوَ الْوَجْهُ، وَوَجْهُ الْأَوَّلِ بِالْحَمْلِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ أَوْ هُوَ جَوَابُ لِمَا، وَقَالَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَقَدْ مُقَدَّرَةٌ فِيهَا.

قَوْلُهُ: (وَنَسَكْنَا الْمَنَاسِكَ)؛ أَيْ مِنَ الْوُقُوفِ وَالْمَبِيتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَأَتَيْنَا النِّسَاءَ) الْمُرَادُ بِهِ غَيْرُ الْمُتَكَلِّمِ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يَكُنْ إِذْ ذَاكَ بَالِغًا.

قَوْلُهُ: (عَشِيَّةَ التَّرْوِيَةِ)؛ أَيْ بَعْدَ الظُّهْرِ ثَامِنَ ذِي الْحِجَّةِ، وَفِيهِ حُجَّةٌ عَلَى مَنِ اسْتُحِبَّ تَقْدِيمَهُ عَلَى يَوْمِ التَّرْوِيَةِ كَمَا نُقِلَ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَنِ الشَّافِعِيَّةِ يَخْتَصُّ اسْتِحْبَابُ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ بَعْدَ الزَّوَالِ بِمَنْ سَاقَ الْهَدْيَ.

قَوْلُهُ: (فَقَدْ تَمَّ حَجُّنَا) لِلْكُشْمِيهَنِيِّ: وَقَدْ بِالْوَاوِ. وَمِنْ هُنَا إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمِنْ هُنَا إِلَى أَوَّلِهِ مَرْفُوعٌ.

قَوْلُهُ: (فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ) سَيَأْتِي عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ مَوْقُوفًا أَنَّ آخِرَهَا يَوْمُ عَرَفَةَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ صَامَ أَيَّامَ مِنًى؛ أَيِ الثَّلَاثَةَ الَّتِي بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَهِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ. وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ وَأَخَذَ بِعُمُومِ النَّهْيِ عَنْ صِيَامِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.

قَوْلُهُ: (وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَى أَمْصَارِكُمْ) كَذَا أَوْرَدَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ مِنْهُ لِلرُّجُوعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِذَا رَجَعْتُمْ} وَيُوَافِقُهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْآتْي فِي بَابِ مَنْ سَاقَ الْبُدْنَ مَعَهُ مِنْ طَرِيقِ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: قَالَ لِلنَّاسِ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى فَإِنَّهُ لَا يُحِلَّ، إِلَى أَنْ قَالَ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ. وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ مَعْنَاهُ الرُّجُوعُ إِلَى مَكَّةَ، وَعَبَّرَ عَنْهُ مَرَّةً بِالْفَرَاغِ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ، وَمَعْنَى الرُّجُوعِ التَّوَجُّهُ مِنْ مَكَّةَ

ص: 434

فَيَصُومُهَا فِي الطَّرِيقِ إِنْ شَاءَ، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ.

قَوْلُهُ: (الشَّاةُ تُجْزِي)؛ أَيْ عَنِ الْهَدْيِ، وَهِيَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ وَقَعَتْ بِدُونِ وَاوٍ، وَسَيَأْتِي فِي أَبْوَابِ الْهَدْيِ بَيَانُ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ) بَيَانٌ لِلْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: فَجَمَعُوا النُّسْكَيْنِ وَهُوَ بِإِسْكَانِ السِّينِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: النُّسْكُ بِالْإِسْكَانِ الْعِبَادَةُ، وَبِالضَّمِّ الذَّبِيحَةُ.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهُ)؛ أَيِ الْجَمْعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَأَخَذَ بِقَوْلِهِ:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ}

قَوْلُهُ: (وَسَنَّة نَبِيُّهُ)؛ أَيْ شَرَعَهُ حَيْثُ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِهِ.

قَوْلُهُ: (غَيْرَ أَهْلِ مَكَّةَ) بِنَصْبِ غَيْرَ، وَيَجُوزُ كَسْرُهُ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى التَّمَتُّعِ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِهِ بِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ لَا مُتْعَةَ لَهُمْ وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ، وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ أَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى حُكْمِ التَّمَتُّعِ وَهُوَ الْفِدْيَةُ، فَلَا يَجِبُ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ بِالتَّمَتُّعِ دَمٌ إِذَا أَحْرَمُوا مِنَ الْحِلِّ بِالْعُمْرَةِ، وَأَجَابَ الْكِرْمَانِيُّ بِجَوَابِ لَيْسَ طَائِلًا.

قَوْلُهُ: (الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ)؛ أَيْ بَعْدَ آيَةِ التَّمَتُّعِ، حَيْثُ قَالَ:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} وَقَدْ تَقَدَّمَ نَقْلُ الْخِلَافِ فِي ذِي الْحِجَّةِ؛ هَلْ هُوَ بِكَمَالِهِ أَوْ بَعْضِهِ.

قَوْلُهُ: (فَمَنْ تَمَتَّعَ فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ) لَيْسَ لِهَذَا الْقَيْدِ مَفْهُومٌ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَعْتَمِرُ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَا يُسَمَّى مُتَمَتِّعًا وَلَا دَمَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْمَكِّيُّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَخَالَفَهُ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: فَمَنْ تَمَتَّعَ مَنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ ثُمَّ حَجَّ مِنْهَا، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ التَّمَتُّعَ إِيقَاعُ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَقَطْ، وَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ التَّمَتُّعَ أَنْ يَجْمَعَ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ بَيْنَهُمَا فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فِي عَامٍ وَاحِدٍ وَأَنْ يُقَدِّمَ الْعُمْرَةَ وَأَنْ لَا يَكُونَ مَكِّيًّا، فَمَتَى اخْتَلَّ شَرْطٌ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا.

قَوْلُهُ: (وَالْجِدَالُ: الْمِرَاءُ) رَوَى ابْنُ أَبِي نُسَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ؛ تُمَارِي صَاحِبَكَ حَتَّى تُغْضِبَهُ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَهُ. وَمِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ وَغَيْرِهِمْ نَحْوُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَوْلُهُ: وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ قَالَ: قَدِ اسْتَقَامَ أَمْرُ الْحَجِّ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَدْ صَارَ الْحَجُّ فِي ذِي الْحِجَّةِ لَا شَهْرٌ يُنْسَأُ وَلَا شَكَّ فِي الْحَجِّ، لِأَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَحُجُّونَ فِي غَيْرِ ذِي الْحِجَّةِ.

‌38 - بَاب الِاغْتِسَالِ عِنْدَ دُخُولِ مَكَّةَ

1573 -

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما إِذَا دَخَلَ أَدْنَى الْحَرَمِ أَمْسَكَ عَنْ التَّلْبِيَةِ، ثُمَّ يَبِيتُ بِذِي طِوًى، ثُمَّ يُصَلِّي بِهِ الصُّبْحَ وَيَغْتَسِلُ، وَيُحَدِّثُ أَنَّ النَبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الِاغْتِسَالِ عِنْدَ دُخُولِ مَكَّةَ) قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: الِاغْتِسَالُ عِنْدَ دُخُولِ مَكَّةَ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ، وَلَيْسَ فِي تَرْكِهِ عِنْدَهُمْ فِدْيَةٌ. وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: يُجْزِئُ مِنْهُ الْوُضُوءُ. وَفِي الْمُوَطَّأِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ إِلَّا مِنَ احْتِلَامٍ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ غُسْلَهُ لِدُخُولِ مَكَّةَ كَانَ لِجَسَدِهِ دُونَ رَأْسِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ عَجَزَ عَنِ الْغُسْلِ تَيَمَّمَ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: لَمْ يَذْكُرْ أَصْحَابُنَا الْغُسْلَ لِدُخُولِ مَكَّةَ، وَإِنَّمَا ذَكَرُوهُ لِلطَّوَافِ، وَالْغُسْلُ لِدُخُولِ مَكَّةَ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لِلطَّوَافِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ يَبِيتُ بِذِي طُوًى) بِضَمِّ الطَّاءِ وَبِفَتْحِهَا.

قَوْلُهُ: (وَيَغْتَسِلُ)؛ أَيْ بِهِ.

قَوْلُهُ: (كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ) يَحْتَمِلُ أَنَّ الْإِشَارَةَ بِهِ إِلَى الْفِعْلِ الْأَخِيرِ وَهُوَ الْغُسْلُ، وَهُوَ مَقْصُودُ التَّرْجَمَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا إِلَى الْجَمِيعِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، فَسَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ ذِكْرُ الْمَبِيتِ فَقَطْ مَرْفُوعًا مِنْ رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وتَقَدَّمَ الْحَدِيثُ بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا فِي

ص: 435

بَابِ الْإِهْلَالِ مُسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةِ.

‌39 - بَاب دُخُولِ مَكَّةَ نَهَارًا أَوْ لَيْلًا

بَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذِي طِوًى حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ دَخَلَ مَكَّةَ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَفْعَلُهُ

1574 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: بَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذِي طُوًى حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ دَخَلَ مَكَّةَ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَفْعَلُهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ دُخُولِ مَكَّةَ نَهَارًا أَوْ لَيْلًا) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي الْمَبِيتِ بِذِي طُوًى حَتَّى يُصْبِحَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي الدُّخُولِ نَهَارًا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ: كَانَ لَا يَقْدُمُ مَكَّةَ إِلَّا بَاتَ بِذِي طُوًى حَتَّى يُصْبِحَ وَيَغْتَسِلَ، ثُمَّ يَدْخُلَ مَكَّةَ نَهَارًا. وَأَمَّا الدُّخُولُ لَيْلًا فَلَمْ يَقَعْ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم إِلَّا فِي عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ، فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَحْرَمَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ وَدَخَلَ مَكَّةَ لَيْلًا، فَقَضَى أَمْرَ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ رَجَعَ لَيْلًا، فَأَصْبَحَ بِالْجِعْرَانَةِ كَبَائِتٍ. كَمَا رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الثَّلَاثَةُ مِنْ حَدِيثِ مُحَرِّشٍ الْكَعْبِيِّ، وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ النَّسَائِيُّ: دُخُولُ مَكَّةَ لَيْلًا. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ نَهَارًا وَيَخْرُجُوا مِنْهَا لَيْلًا. وَأَخْرَجَ عَنْ عَطَاءٍ: إِنْ شِئْتُمْ فَادْخُلُوا لَيْلًا، إِنَّكُمْ لَسْتُمْ كَرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِنَّهُ كَانَ إِمَامًا، فَأَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَهَا نَهَارًا لِيَرَاهُ النَّاسُ، انْتَهَى. وَقَضِيَّةُ هَذَا أَنَّ مَنْ كَانَ إِمَامًا يُقْتَدَى بِهِ اسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَدْخُلَهَا نَهَارًا.

‌40 - بَاب مِنْ أَيْنَ يَدْخُلُ مَكَّةَ؟

1575 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ: حَدَّثَنِي مَعْنٌ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُ مِنْ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا وَيَخْرُجُ مِنْ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى.

قَوْلُهُ: (بَابٌ: مِنْ أَيْنَ يَدْخُلُ مَكَّةَ؟) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُ مِنَ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا وَيَخْرُجُ مِنَ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى. أَخْرَجَهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْذِرِ، عَنْ مَعْنِ بْنِ عِيسَى عَنْهُ، وَلَيْسَ هُوَ فِي الْمُوَطَّأِ وَلَا رَأَيْتُهُ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ، لِلدَّارَقُطْنِيِّ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ مَعْنِ بْنِ عِيسَى، وَقَدْ تَابَعَ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْمُنْذِرِ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْبَرْمَكِيُّ. وَقَدْ عَزَّ عَلَى الْإِسْمَاعِيلِيِّ اسْتِخْرَاجُهُ، فَأَخْرَجَهُ عَنِ ابْنِ نَاجِيَةَ، عَنِ الْبُخَارِيِّ مِثْلَهُ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: يَعْنِي ثَنِيَّتَيْ مَكَّةَ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ قَدْ أَخْرَجَهَا أَيْضًا أَبُو دَاوُدَ حَيْثُ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ الْبَرْمَكِيِّ، عَنْ مَعْنِ بْنِ عِيسَى مِثْلَهُ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ نَافِعٍ، وَسِيَاقُهُ أَبْيَنُ مِنْ سِيَاقِ مَالِكٍ.

‌41 - بَاب مِنْ أَيْنَ يَخْرُجُ مِنْ مَكَّةَ؟

1576 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدُ بْنُ مُسَرْهَدٍ الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ مِنْ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا الَّتِي بِالْبَطْحَاءِ، وَيخرَجَ مِنْ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى.

ص: 436

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: كَانَ يُقَالُ: هُوَ مُسَدَّدٌ كَاسْمِهِ. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ مُسَدَّدًا أَتَيْتُهُ فِي بَيْتِهِ فَحَدَّثْتُهُ لَاسْتَحَقَّ ذَلِكَ، وَمَا أُبَالِي كُتُبِي كَانَتْ عِنْدِي أَوْ عِنْدَ مُسَدَّدٍ.

1577 -

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى؛ قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا جَاءَ إِلَى مَكَّةَ دَخَلَ مِنْ أَعْلَاهَا وَخَرَجَ مِنْ أَسْفَلِهَا.

[الحديث 1577 - أطرافه في: 1578، 1579، 1580، 1581، 4290، 4291]

1578 -

حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَامَ الْفَتْحِ مِنْ كَدَاءٍ، وَخَرَجَ مِنْ كُدًا مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ.

قَوْلُهُ: (مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ) كَذَا رَوَاهُ أَبُو أُسَامَةَ فَقَلَبَهُ، وَالصَّوَابُ مَا رَوَاهُ عَمْرٌو، وَحَاتِمٌ، عَنْ هِشَامٍ: دَخَلَ مِنْ كَدَاءٍ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ. ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّ الْوَهْمَ فِيهِ مِمَّنْ دُونَ أَبِي أُسَامَةَ، فَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَلَى الصَّوَابِ.

1579 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا عَمْرٌو، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَامَ الْفَتْحِ مِنْ كَدَاءٍ أَعْلَى مَكَّةَ. قَالَ هِشَامٌ: وَكَانَ عُرْوَةُ يَدْخُلُ عَلَى كِلْتَيْهِمَا - مِنْ كَدَاءٍ وَكُدًا - وَأَكْثَرُ مَا يَدْخُلُ مِنْ كَدَاءٍ، وَكَانَتْ أَقْرَبَهُمَا إِلَى مَنْزِلِهِ.

1580 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ عُرْوَةَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ مِنْ كَدَاءٍ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ، وَكَانَ عُرْوَةُ أَكْثَرَ مَا يَدْخُلُ مِنْ كَدَاءٍ، وَكَانَ أَقْرَبَهُمَا إِلَى مَنْزِلِهِ.

1581 -

حَدَّثَنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ مِنْ كَدَاءٍ، وَكَانَ عُرْوَةُ يَدْخُلُ مِنْهُمَا كِلَيْهِمَا، وَكَانَ أَكْثَرَ مَا يَدْخُلُ مِنْ كَدَاءٍ أَقْرَبِهِمَا إِلَى مَنْزِلِهِ، قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: كَدَاءٌ وَكُدًا مَوْضِعَانِ.

قَوْلُهُ: (بَابٌ: مِنْ أَيْنَ يَخْرُجُ مِنْ مَكَّةَ؟)

قَوْلُهُ: (مِنْ كَدَاءٍ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَالْمَدِّ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لَا يُصْرَفُ. وَهَذِهِ الثَّنِيَّةُ هِيَ الَّتِي يَنْزِلُ مِنْهَا إِلَى الْمُعَلَّى: مَقْبَرَةُ أَهْلِ مَكَّةَ، وَهِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا: الْحَجُونُ؛ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ الْجِيمِ، وَكَانَتْ صَعْبَةَ الْمُرْتَقَى فَسَهَّلَهَا مُعَاوِيَةُ ثُمَّ عَبْدُ الْمَلِكِ، ثُمَّ الْمَهْدِيُّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْأَزْرَقِيُّ، ثُمَّ سَهُلَ فِي عَصْرِنَا هَذَا مِنْهَا سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ وَثَمَانِمِائَةٍ مَوْضِعٌ، ثُمَّ سُهِّلَتْ كُلُّهَا فِي زَمَنِ سُلْطَانِ مِصْرَ الْمَلِكِ الْمُؤَيَّدِ فِي حُدُودِ الْعِشْرِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ، وَكُلُّ عَقَبَةٍ فِي جَبَلٍ أَوْ طَرِيقٍ عَالٍ فِيهِ تُسَمَّى ثَنِيَّةً.

قَوْلُهُ: (الثَّنِيَّةُ السُّفْلَى) ذُكِرَ فِي ثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ: وَخَرَجَ مِنْ كُدَا وَهُوَ بِضَمِّ الْكَافِ مَقْصُورٌ، وَهِيَ عِنْدَ بَابِ شَبِيكَةَ بِقُرْبِ شِعْبِ الشَّامِيِّينَ مِنْ نَاحِيَةِ قُعَيْقِعَانَ، وَكَانَ بِنَاءُ هَذَا الْبَابِ عَلَيْهَا فِي الْقَرْنِ السَّابِعِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ هِشَامٌ) هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ عُرْوَةُ يَدْخُلُ مِنْ كِلْتَيْهِمَا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: عَلَى بَدَلَ مِنْ.

قَوْلُهُ: (وَأَكْثَرُ مَا يَدْخُلُ مِنْ كُدَا) بِالضَّمِّ وَالْقَصْرِ لِلْجَمِيعِ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ حَاتِمٍ، وَوُهَيْبٍ، وَهِيَ الطَّرِيقَةُ الرَّابِعَةُ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَتْ أَقْرَبَهُمَا إِلَى مَنْزِلِهِ) فِيهِ اعْتِذَارُ هِشَامٍ لِأَبِيهِ لِكَوْنِهِ رَوَى الْحَدِيثَ،

ص: 437

وَخَالَفَهُ لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِحَتْمٍ لَازِمٍ وَكَانَ بمَا فَعَلَهُ، وَكَثِيرًا مَا يَفْعَلُ غَيْرَهُ بِقَصْدِ التَّيْسِيرِ. قَالَ عِيَاضٌ، وَالْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُمَا: اخْتُلِفَ فِي ضَبْطِ كَدَاءٍ وَكُدَا؛ فَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّ الْعُلْيَا بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ، وَالسُّفْلَى بِالضَّمِّ وَالْقَصْرِ، وَقِيلَ بِالْعَكْسِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ غَلَطٌ. قَالُوا: وَاخْتَلَفَ فِي الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ خَالَفَ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ طَرِيقَيْهِ، فَقِيلَ: لِيَتَبَرَّكَ بِهِ كُلُّ مَنْ فِي طَرِيقِهِ، فَذَكَرَ شَيْئًا مِمَّا تَقَدَّمَ فِي الْعِيدِ، وَقَدِ اسْتَوْعَبْتُ مَا قِيلَ فِيهِ هُنَاكَ، وَبَعْضُهُ لَا يَتَأَتَّى اعْتِبَارُهُ هُنَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ الْمُنَاسَبَةُ بِجِهَةِ الْعُلُوِّ عِنْدَ الدُّخُولِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِ الْمَكَانِ، وَعَكْسُهُ الْإِشَارَةُ إِلَى فِرَاقِهِ. وَقِيلَ: لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ دَخَلَ مِنْهَا. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مِنْهَا مُخْتَفِيًا فِي الْهِجْرَةِ، فَأَرَادَ أَنْ يَدْخُلَهَا ظَاهِرًا عَالِيًا. وَقِيلَ: لِأَنَّ مَنْ جَاءَ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ كَانَ مُسْتَقْبِلًا لِلْبَيْتِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ دَخَلَ مِنْهَا يَوْمَ الْفَتْحِ فَاسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، لِلْعَبَّاسِ: لَا أُسْلِمُ حَتَّى أَرَى الْخَيْلَ تَطْلُعُ مِنْ كَدَاءٍ. فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالَ: شَيْءٌ طَلَعَ بِقَلْبِي، وَأنَّ اللَّهَ لَا يُطْلِعُ الْخَيْلَ هُنَاكَ أَبَدًا. قَالَ الْعَبَّاسُ: فَذَكَّرْتُ أَبَا سُفْيَانَ بِذَلِكَ لَمَّا دَخَلَ.

وَلِلْبَيْهَقِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي بَكْرٍ: كَيْفَ قَالَ حَسَّانُ؟ فَأَنْشَدَهُ:

عَدِمْتُ بُنَيَّتِي إِنْ لَمْ تَرَوْهَا

تُثِيرُ النَّقْعَ مَطْلَعُهَا كَدَاءُ

فَتَبَسَّمَ وَقَالَ: ادْخُلُوهَا مِنْ حَيْثُ قَالَ حَسَّانُ.

(تَنْبِيهٌ): حَكَى الْحُمَيْدِيُّ، عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ الْعَذَرِيِّ أَنَّ بِمَكَّةَ مَوْضِعًا ثَالِثًا يُقَالُ لَهَا: كُدَيٌّ - وَهُوَ بِالضَّمِّ وَالتَّصْغِيرِ - يُخْرَجُ مِنْهُ إِلَى جِهَةِ الْيَمَنِ. قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: حَقَّقَهُ الْعَذَرِيُّ عَنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِمَكَّةَ. قَالَ: وَقَدْ بُنِيَ عَلَيْهَا بَابُ مَكَّةَ الَّذِي يَدْخُلُ مِنْهُ أَهْلُ الْيَمَنِ.

(تَنْبِيهَاتٌ):

أَوَّلُهَا: مَحْمُودٌ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ هُوَ ابْنُ غَيْلَانَ، وَعَمْرٌو فِي الطَّرِيقِ الثَّالِثَةِ هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ، وَأَحْمَدُ فِي أَوَّلِ الْإِسْنَادِ لَمْ أَرَهُ مَنْسُوبًا فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْحَجِّ أَحْمَدُ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، وَأَنَّهُ أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَذْكُورُ هُنَا، وَحَاتِمٌ فِي الطَّرِيقِ الثَّالِثَةِ هُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ.

التَّنْبِيهُ الثَّانِي: اخْتُلِفَ عَلَى هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ فِي وَصْلِ هَذَا الْحَدِيثِ وَإِرْسَالِهِ، وَأَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ الْوَجْهَيْنِ مُشِيرًا إِلَى أَنَّ رِوَايَةَ الْإِرْسَالِ لَا تَقْدَحُ فِي رِوَايَةِ الْوَصْلِ؛ لِأَنَّ الَّذِي وَصَلَهُ حَافِظٌ، وَهُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَقَدْ تَابَعَهُ ثِقَتَانِ، وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا أَوْرَدَ الطَّرِيقَيْنِ الْمُرْسَلَيْنِ لِيَسْتَظْهِرَ بِهِمَا عَلَى وَهَمِ أَبِي أُسَامَةَ الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ أَوَّلًا.

(الثَّالِثُ): وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ فِي آخِرِ الْبَابِ: قَالَ أَبُو عَبْدِاللَّهِ: كَدَاءُ وَكُدَا مَوْضِعَانِ وَالْمُرَادُ بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْمُصَنِّفُ، وَهَذَا تَفْسِيرٌ غَيْرُ مُفِيدٍ، فَمَعْلُومٌ أَنَّهُمَا مَوْضِعَانِ بِمُجَرَّدِ السِّيَاقِ، وَقَدْ يَسَّرَ اللَّهُ بِنَقْلِ مَا فِيهَا مِنْ ضَبْطِ وَتَعْيِينِ جِهَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا.

‌42 - بَاب فَضْلِ مَكَّةَ وَبُنْيَانِهَا،

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}

ص: 438

1582 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا بُنِيَتْ الْكَعْبَةُ ذَهَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَعَبَّاسٌ يَنْقُلَانِ الْحِجَارَةَ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اجْعَلْ إِزَارَكَ عَلَى رَقَبَتِكَ، فَخَرَّ إِلَى الْأَرْضِ، وَطَمَحَتْ عَيْنَاهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ: أَرِنِي إِزَارِي فَشَدَّهُ عَلَيْهِ.

1583 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَخْبَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنهم زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "لَهَا أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ قَوْمَكِ لَمَّا بَنَوْا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَفَعَلْتُ"

فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ رضي الله عنه لَئِنْ كَانَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها سَمِعَتْ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا أُرَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَرَكَ اسْتِلَامَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحِجْرَ إِلاَّ أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يُتَمَّمْ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ

1584 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ حَدَّثَنَا أَشْعَثُ عَنْ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ "سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْجَدْرِ أَمِنَ الْبَيْتِ هُوَ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ فَمَا لَهُمْ لَمْ يُدْخِلُوهُ فِي الْبَيْتِ؟ قَالَ: إِنَّ قَوْمَكِ قَصَّرَتْ بِهِمْ النَّفَقَةُ قُلْتُ: فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا قَالَ: فَعَلَ ذَلِكَ قَوْمُكِ لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أَنْ أُدْخِلَ الْجَدْرَ فِي الْبَيْتِ وَأَنْ أُلْصِقَ بَابَهُ بِالأَرْضِ"

1585 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ "قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْلَا حَدَاثَةُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَنَقَضْتُ الْبَيْتَ ثُمَّ لَبَنَيْتُهُ عَلَى أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام فَإِنَّ قُرَيْشًا اسْتَقْصَرَتْ بِنَاءَهُ وَجَعَلْتُ لَهُ خَلْفًا" قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ خَلْفًا يَعْنِي بَابًا

1586 -

حَدَّثَنَا بَيَانُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا يَزِيدُ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا: "يَا عَائِشَةُ لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لَامَرْتُ بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ، وَأَلْزَقْتُهُ بِالأَرْضِ، وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ" فَذَلِكَ الَّذِي حَمَلَ ابْنَ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما عَلَى هَدْمِهِ قَالَ يَزِيدُ: وَشَهِدْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ حِينَ هَدَمَهُ وَبَنَاهُ وَأَدْخَلَ فِيهِ مِنْ الْحِجْرِ، وَقَدْ رَأَيْتُ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ حِجَارَةً كَأَسْنِمَةِ الإِبِلِ. قَالَ جَرِيرٌ: فَقُلْتُ لَهُ أَيْنَ

ص: 439

مَوْضِعُهُ؟ قَالَ: أُرِيكَهُ الآنَ فَدَخَلْتُ مَعَهُ الْحِجْرَ فَأَشَارَ إِلَى مَكَانٍ فَقَالَ: هَا هُنَا قَالَ. جَرِيرٌ: فَحَزَرْتُ مِنْ الْحِجْرِ سِتَّةَ أَذْرُعٍ أَوْ نَحْوَهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ مَكَّةَ وَبُنْيَانِهَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} فَسَاقَ الْآيَاتِ إِلَى قَوْلِهِ: (التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) كَذَا فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ، وَسَاقَ الْبَاقُونَ بَعْضَ الْآيَةِ الْأُولَى، وَلِأَبِي ذَرٍّ كُلَّهَا، ثُمَّ قَالَ: إِلَى قَوْلِهِ: (التَّوَّابُ الرَّحِيمُ). ثُمَّ سَاقَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي بِنَاءِ الْكَعْبَةِ، وَحَدِيثَ عَائِشَةَ فِي ذَلِكَ مِنْ أَرْبَعَةِ طُرُقٍ، وَلَيْسَ فِي الْآيَاتِ وَلَا الْحَدِيثِ ذِكْرٌ لِبُنْيَانِ مَكَّةَ لَكِنْ بُنْيَانُ الْكَعْبَةِ كَانَ سَبَبَ بُنْيَانِ مَكَّةَ وَعِمَارَتِهَا فَاكْتَفَى بِهِ. وَاخْتُلِفَ فِي أَوَّلِ مَنْ بَنَى الْكَعْبَةِ كَمَا سَيَأْتِي فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلَ، وَكَذَا قِصَّةُ بِنَاءِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ لَهَا يَأْتِي فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَيَقْتَصِرُ هُنَا عَلَى قِصَّةِ بِنَاءِ قُرَيْشٍ لَهَا، وَعَلَى قِصَّةِ بِنَاءِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَمَا غَيَّرَهُ الْحَجَّاجُ بَعْدَهُ لِتَعَلُّقِ ذَلِكَ بِحَدِيثَيِ الْبَابِ.

وَالْبَيْتُ اسْمٌ غَالِبٌ لِلْكَعْبَةِ كَالنَّجْمِ لِلثُّرَيَّا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:(مَثَابَةً)؛ أَيْ: مَرْجِعًا لِلْحُجَّاجِ وَالْعُمَّارِ يَتَفَرَّقُونَ عَنْهُ ثُمَّ يَعُودُونَ إِلَيْهِ، رَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: يَحُجُّونَ ثُمَّ يَعُودُونَ. وَهُوَ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ الْمَوْضِعَ، وَقَوْلُهُ:(وَأَمْنًا)؛ أَيْ: مَوْضِعُ أَمْنٍ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} وَالْمُرَادُ: تَرْكُ الْقِتَالِ فِيهِ، كَمَا سَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ. وَقَوْلُهُ:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} )، أَيْ وَقُلْنَا: اتَّخَذُوا مِنْهُ مَوْضِعَ صَلَاةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ أَوْ عَلَى مَعْنَى مَثَابَةٍ؛ أَيْ ثُوبُوا إِلَيْهِ وَاتَّخِذُوهُ، وَالْأَمْرُ فِيهِ لِلِاسْتِحْبَابِ بِالِاتِّفَاقِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ:(وَاتَّخَذُوا) بِلَفْظِ الْمَاضِي عَطْفًا عَلَى (جَعَلْنَا) أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ إِذْ؛ أَيْ: وإِذْ جَعَلْنَا وَإِذِ اتَّخَذُوا، وَمَقَامُ إِبْرَاهِيمَ الْحِجْرُ الَّذِي فِيهِ أَثَرُ قَدَمَيْهِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَعَنْ عَطَاءٍ: مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ عَرَفَةُ وَغَيْرُهَا مِنَ الْمَنَاسِكِ، لِأَنَّهُ قَامَ فِيهَا وَدَعَا. وَعَنِ النَّخَعِيِّ: الْحَرَمُ كُلُّهُ. وَكَذَا رَوَاهُ الْكَلْبِيُّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ.

وَقَوْلُهُ: {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ صَلَاةِ الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ دَاخِلَ الْبَيْتِ، وَخَالَفَ مَالِكٌ فِي الْفَرْضِ.

قَوْلُهُ: {اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي حَدِيثِ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَأَنَّهُ لَا يُعَارِضُ حَدِيثَ إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا الْبَلَدَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ. لِأَنَّ مَعْنَى الْأَوَّلِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَعْلَمَ النَّاسَ بِذَلِكَ، وَالثَّانِي مَا سَبَقَ مِنْ تَقْدِيرِ اللَّهِ.

وَقَوْلُهُ: (مَنْ آمَنَ) بَدَلٌ مِنْ أَهْلِهِ، أَيْ: وَارْزُقِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِهِ خَاصَّةً.

(وَمَنْ كَفَرَ) عَطْفَ عَلَى مَنْ آمَنَ، قِيلَ: قَاسَ إِبْرَاهِيمُ الرِّزْقَ عَلَى الْإِمَامَةِ، فَعَرَفَ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا، وأنَّ الرِّزْقَ قَدْ يَكُونُ اسْتِدْرَاجًا وَإِلْزَامًا لِلْحُجَّةِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْقَوَاعِدِ فِي تَفْسِيرِ الْبَقَرَةِ وَأَنَّهَا الْأَسَاسُ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ كَانَ مُؤَسَّسًا قَبْلَ إِبْرَاهِيمَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالرَّفْعِ نَقْلَهَا مِنْ مَكَانِهَا إِلَى مَكَانِ الْبَيْتِ، كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ نَقْلِ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ:{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} أَيْ يَقُولَانِ: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا، وقَدْ أَظْهَرَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي قِرَاءَاته.

قَوْلُهُ: (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا)، قَالَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ: لَمَّا فَرَغَ إِبْرَاهِيمُ مِنَ الْبَيْتِ أَتَاهُ جِبْرِيلُ فَأَرَاهُ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، قَالَ: وَأَحْسِبُهُ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ أَتَى بِهِ عَرَفَةَ، فَقَالَ: أَعَرَفْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمِنْ ثَمَّ سُمِّيَتْ عَرَفَاتٍ. ثُمَّ أَتَى بِهِ جَمْعًا، فَقَالَ: هَاهُنَا يَجْمَعُ النَّاسُ الصَّلَاةَ. ثُمَّ أَتَى بِهِ مِنًى، فَعَرَضَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ، فَأَخَذَ جِبْرِيلُ سَبْعَ حَصَيَاتٍ، فَقَالَ: ارْمِهِ بِهَا وَكَبِّرْ مَعَ كُلِّ

ص: 440

حَصَاةٍ.

قَوْلُهُ. (وَتُبْ عَلَيْنَا)، قِيلَ: طَلَبَا الثَّبَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ، لِأَنَّهُمَا مَعْصُومَانِ، وَقِيلَ: أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ النَّاسُ أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْقِفَ مَكَانُ التَّوْبَةِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَتُبْ عَلَى مَنِ اتَّبَعَنَا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ) هُوَ الْجُعْفِيُّ، وَهَذَا أَحَدُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي أَخْرَجَهَا الْبُخَارِيُّ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلِ بِوَاسِطَةٍ.

قَوْلُهُ: (لَمَّا بُنِيَتِ الْكَعْبَةُ) هَذَا مِنْ مُرْسَلِ الصَّحَابِيِّ لِأَنَّ جَابِرًا لَمْ يُدْرِكْ هَذِهِ الْقِصَّةَ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهَا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ مِمَّنْ حَضَرَهَا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرًا: هَلْ يَقُومُ الرَّجُلُ عُرْيَانًا؟ فَقَالَ: أَخْبَرَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَمَّا انْهَدَمَتِ الْكَعْبَةُ نَقَلَ كُلُّ بَطْنٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَقَلَ مَعَ الْعَبَّاسِ، وَكَانُوا يَضَعُونَ ثِيَابَهُمْ عَلَى الْعَوَاتِقِ يَتَقَوَّوْنَ بِهَا - أَيْ عَلَى حَمْلِ الْحِجَارَةِ - فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: فَاعْتَقَلَتْ رِجْلِي، فَخَرَرْتُ وَسَقَطَ ثَوْبِي، فَقُلْتُ لِلْعَبَّاسِ: هَلُمَّ ثَوْبِي، فَلَسْتُ أَتَعَرَّى بَعْدَهَا إِلَّا إِلَى الْغُسْلِ لَكِنَّ ابْنَ لَهِيعَةَ ضَعِيفٌ، وَقَدْ تَابَعَهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ذَكَرَهُ أَبُو نُعَيْمٍ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا، وَإِلَّا فَقَدْ حَضَرَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ الْعَبَّاسُ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ، فَلَعَلَّ جَابِرًا حَمَلَهُ عَنْهُ.

وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ أَبِي قَيْسٍ، وَالطَّبَرِيُّ فِي التَّهْذِيبِ مِنْ طَرِيقِ هَارُونَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمَعْرِفَةِ مِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَفِي الدَّلَائِلِ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ خَالِدٍ، كُلُّهُمْ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنِي أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، قَالَ: لَمَّا بَنَتْ قُرَيْشٌ الْكَعْبَةَ انْفَرَدَتْ رَجُلَيْنِ رَجُلَيْنِ يَنْقُلُونَ الْحِجَارَةَ، فَكُنْتُ أَنَا وَابْنُ أَخِي، جَعَلْنَا نَأْخُذُ أُزُرَنَا فَنَضَعُهَا عَلَى مَنَاكِبِنَا، وَنَجْعَلَ عَلَيْهَا الْحِجَارَةَ، فَإِذَا دَنَوْنَا مِنَ النَّاسِ لَبِسْنَا أُزُرَنَا، فَبَيْنَمَا هُوَ أَمَامِي إِذْ صُرِعَ، فَسَعَيْتُ وَهُوَ شَاخِصٌ بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ، قَالَ: فَقُلْتُ لِابْنِ أَخِي: مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: نُهِيتُ أَنْ أَمْشِيَ عُرْيَانًا، قَالَ: فَكَتَمْتُهُ حَتَّى أَظْهَرَ اللَّهُ نُبُوَّتَهُ. تَابَعَهُ الْحَكَمُ بْنُ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ أَيْضًا، وَرَوَى ذَلِكَ أَيْضًا منْ طَرِيقِ النَّضْرِ أَبِي عُمَرَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لَيْسَ فِيهِ الْعَبَّاسُ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ رَأَى مِنَ النُّبُوَّةِ وَالنَّضْرُ ضَعِيفٌ، وَقَدْ خَبَطَ فِي إِسْنَادِهِ وَفِي مَتْنِهِ، فَإِنَّهُ جَعَلَ الْقِصَّةَ فِي مُعَالَجَةِ زَمْزَمَ بِأَمْرِ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ غُلَامٌ، وَكَذَا رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ عَنْ أَبِيهِ عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: إِنِّي لَمَعَ غِلْمَانٍ هُمْ أَسْنَانِي، قَدْ جَعَلْنَا أُزُرَنَا عَلَى أَعْنَاقِنَا لِحِجَارَةٍ نَنْقُلُهَا إِذْ لَكَمَنِي لَاكِمٌ لَكَمَةً شَدِيدَةً، ثُمَّ قَالَ: اشْدُدْ عَلَيْكَ إِزَارَكَ.

فَكَأَنَّ هَذِهِ قِصَّةٌ أُخْرَى، وَاغْتَرَّ بِذَلِكَ الْأَزْرَقِيُّ فَحَكَى قَوْلًا: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا بُنِيَتِ الْكَعْبَةُ كَانَ غُلَامًا. وَلَعَلَّ عُمْدَتَهُ فِي ذَلِكَ مَا سَيَأْتِي عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَلِحَدِيثِ مَعْمَرٍ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الطُّفَيْلِ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَمِنْ طَرِيقِهِ الْحَاكِمُ، وَالطَّبَرَانِيِّ، قَالَ: كَانَتِ الْكَعْبَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَبْنِيَّةٌ بِالرَّضْمِ لَيْسَ فِيهَا مَدَرٌ، وَكَانَتْ قَدْرَ مَا يَقْتَحِمُهَا الْعَنَاقُ، وَكَانَتْ ثِيَابُهَا تُوضَعُ عَلَيْهَا تُسْدَلُ سَدْلًا، وَكَانَتْ ذَاتَ رُكْنَيْنِ كَهَيْئَةِ هَذِهِ الْحَلْقَةِ، فَأَقْبَلَتْ سَفِينَةٌ مِنَ الرُّومِ، حَتَّى إِذَا كَانُوا قَرِيبًا مِنْ جَدَّةَ انْكَسَرَتْ، فَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ لِتَأْخُذَ خَشَبَهَا فَوَجَدُوا الرُّومِيَّ الَّذِي فِيهَا نَجَّارًا، فَقَدِمُوا بِهِ وبِالْخَشَبِ لِيَبْنُوَا بِهِ الْبَيْتَ، فَكَانُوا كُلَّمَا أَرَادُوا الْقُرْبَ مِنْهُ لِهَدْمِهِ بَدَتْ لَهُمْ حَيَّةٌ فَاتِحَةٌ فَاهَا، فَبَعَثَ اللَّهُ طَيْرًا أَعْظَمَ مِنَ النَّسْرِ، فَغَرَزَ مَخَالِبَهُ فِيهَا، فَأَلْقَاهَا نَحْوَ أَجْيَادٍ، فَهَدَمَتْ قُرَيْشٌ الْكَعْبَةَ وَبَنَوْهَا بِحِجَارَةِ الْوَادِي، فَرَفَعُوهَا فِي السَّمَاءِ عِشْرِينَ ذِرَاعًا.

فَبَيْنَمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَحْمِلُ الْحِجَارَةَ مِنْ أَجْيَادٍ وَعَلَيْهِ نَمِرَةٌ فَضَاقَتْ عَلَيْهِ النَّمِرَةُ، فَذَهَبَ يَضَعَهَا عَلَى عَاتِقِهِ فَبَدَتْ عَوْرَتُهُ مِنْ صِغَرِهَا، فَنُودِيَ: يَا مُحَمَّدُ خَمِّرْ عَوْرَتَكَ، فَلَمْ يُرَ عُرْيَانًا بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ الْمَبْعَثِ خَمْسُ سِنِينَ، قَالَ مَعْمَرٌ: وَأَمَّا الزُّهْرِيُّ فَقَالَ: بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْحُلُمَ أَجْمَرَتِ امْرَأَةٌ الْكَعْبَةَ فَطَارَتْ شَرَارَةٌ مِنْ مِجْمَرِهَا فِي ثِيَابِ الْكَعْبَةِ فَاحْتَرَقَتْ، فَتَشَاوَرَتْ قُرَيْشٌ فِي هَدْمِهَا وَهَابُوهُ، فَقَالَ الْوَلِيدُ: إِنَّ

ص: 441

اللَّهَ لَا يُهْلِكُ مَنْ يُرِيدُ الْإِصْلَاحَ، فَارْتَقَى عَلَى ظَاهِرِ الْبَيْتِ وَمَعَهُ الْعَبَّاسُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا نُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ، ثُمَّ هَدَمَ. فَلَمَّا رَأَوْهُ سَالِمًا تَابَعُوهُ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: وَأَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْمَبْعَثِ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ بِإِسْنَادٍ لَهُ، وَبِهِ جَزَمَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي مَغَازِيهِ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ إِسْحَاقَ. وَيُمْكِنُ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يَكُونَ الْحَرِيقُ تَقَدَّمَ وَقْتُهُ عَلَى الشُّرُوعِ فِي الْبِنَاءِ، وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ السَّيْلَ كَانَ يَأْتِي فَيُصِيبُ الْكَعْبَةَ فَيَتَسَاقَطُ مِنْ بِنَائِهَا، وَكَانَ رَضْمًا فَوْقَ الْقَامَةِ، فَأَرَادَتْ قُرَيْشُ رَفْعَهَا وَتَسْقِيفَهَا، وَذَلِكَ أَنَّ نَفَرًا سَرَقُوا كَنْزَ الْكَعْبَةِ.

فَذَكَرَ الْقِصَّةَ مُطَوَّلًةً فِي بِنَائِهِمُ الْكَعْبَةَ، وَفِي اخْتِلَافِهِمْ فِيمَنْ يَضَعُ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ حَتَّى رَضُوا بِأَوَّلِ دَاخِلٍ،، فَدَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَحَكَّمُوهُ فِي ذَلِكَ، فَوَضَعَهُ بِيَدِهِ. قَالَ: وَكَانَتِ الْكَعْبَةُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَمَانِيَةَ عَشْرَ ذِرَاعًا، وَوَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ ابْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ أَنَّ اسْمَ النَّجَّارِ الْمَذْكُورِ بَاقُومُ، وَلِلْفَاكِهِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ مِثْلَهُ، قَالَ: وَكَانَ يَتَّجِرُ إِلَى بَنْدَرٍ وَرَاءَ سَاحِلِ عَدَنٍ، فَانْكَسَرَتْ سَفِينَتُهُ بِالشُّعَيْبَةِ، فَقَالَ لِقُرَيْشٍ: إِنْ أَجْرَيْتُمْ عِيرِي مَعَ عِيرِكُمْ إِلَى الشَّامِ أَعْطَيْتُكُمُ الْخَشَبَ، فَفَعَلُوا. وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فِي جَامِعِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ: اسْمُ الَّذِي بَنَى الْكَعْبَةَ لِقُرَيْشٍ بَاقُومُ، وَكَانَ رُومِيًّا. وَقَالَ الْأَزْرَقِيُّ: كَانَ طُولُهَا سَبْعَةً وَعِشْرِينَ ذِرَاعًا، فَاقْتَصَرَتْ قُرَيْشٌ مِنْهَا عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشْرَ، وَنَقَصُوا مِنْ عَرْضِهَا أَذْرُعًا أَدْخَلُوهَا فِي الْحِجْرِ.

قَوْلُهُ: (فَخَرَّ إِلَى الْأَرْضِ) فِي رِوَايَةِ زَكَرِيَّا بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ الْمَاضِيَةِ فِي بَابِ كَرَاهِيَةِ التَّعَرِّي مِنْ أَوَائِلِ الصَّلَاةِ: فَجَعَلَهُ عَلَى مَنْكِبِهِ، فَسَقَطَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (فَطَمَحَتْ عَيْنَاهُ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمِيمِ أَيِ ارْتَفَعَتَا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ صَارَ يَنْظُرُ إِلَى فَوْقَ. وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي أَوَائِلِ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ: ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ.

قَوْلُهُ: (أَرِنِي إِزَارِي) أَيْ أَعْطِنِي، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ كَسْرَ الرَّاءِ وَسُكُونَهَا، وَقَدْ قُرِئَ بِهِمَا، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ الْآتِيَةِ: إِزَارِي إِزَارِي. بِالتَّكْرِيرِ.

قَوْلُهُ: (فَشَدَّهُ عَلَيْهِ) زَادَ زَكَرِيَّا بْنُ إِسْحَاقَ فَمَا رُئِيَ بَعْدَ ذَلِكَ عُرْيَانًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَاهِدُهَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي الطُّفَيْلِ.

فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ رضي الله عنه: لَئِنْ كَانَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها سَمِعَتْ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا أُرَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَرَكَ اسْتِلَامَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحِجْرَ إِلَّا أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يُتَمَّمْ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ

الْحَدِيثُ الثَّانِي: سَاقَهُ مِنْ أَرْبَعَةِ طُرُقٍ.

قَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الْأُولَ: (عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ ابْنِ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ) أَيِ الصِّدِّيقِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ هَذَا هُوَ أَخُو الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ) بِنَصْبِ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ سَالِمًا كَانَ حَاضِرًا لِذَلِكَ، فَيَكُونُ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ أَبُو أُوَيْسٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، لَكِنَّهُ سَمَّاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مُحَمَّدٍ، فَوَهِمَ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَغْرَبَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، فَرَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ وَالْمَحْفُوظُ الْأَوَّلُ. وَقَدْ رَوَاهُ مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، لَكِنَّهُ اخْتَصَرَهُ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَائِشَةَ، فَتَابَعَ سَالِمًا فِيهِ، وَزَادَ فِي الْمَتْنِ: وَلَأَنْفَقْتُ كَنْزَ الْكَعْبَةِ. وَلَمْ أَرَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَمِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى أَخْرَجَهَا أَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهَا فِي بَابِ كِسْوَةِ الْكَعْبَةِ.

قَوْلُهُ: (قَوْمَكِ) أَيْ قُرَيْشٌ.

قَوْلُهُ: (اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ) سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي الطَّرِيقِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ.

قَوْلُهُ: (لَوْلَا حِدْثَانِ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الدَّالِ، بَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ بِمَعْنَى الْحُدُوثِ، أَيْ قُرْبُ عَهْدِهِمْ.

قَوْلُهُ: (لَفَعَلْتُ) أَيْ لَرَدَدْتُهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ) أَيِ ابْنُ عُمَرَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ رَوَاهُ مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ مُجَرَّدَةً.

قَوْلُهُ: (لَئِنْ كَانَتْ) لَيْسَ هَذَا شَكًّا مِنَ ابْنِ عُمَرَ فِي صِدْقِ

ص: 442

عَائِشَةَ، لَكِنْ يَقَعُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَثِيرًا صُورَةُ التَّشْكِيكِ، وَالْمُرَادُ التَّقْرِيرُ وَالْيَقِينُ.

قَوْلُهُ: (مَا أُرَى) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ؛ أَيْ أَظُنُّ، وَهِيَ رِوَايَةُ مَعْمَرٍ، وَزَادَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: وَلَا طَافَ النَّاسُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجْرِ إِلَّا لِذَلِكَ. وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ أَبَى أُوَيْسٍ الْمَذْكُورَةِ.

قَوْلُهُ: (اسْتِلَامَ) افْتِعَالٌ مِنَ السَّلَامِ، وَالْمُرَادُ هُنَا لَمْسُ الرُّكْنِ بِالْقُبْلَةِ أَوِ الْيَدِ.

قَوْلُهُ: (يَلِيَانِ) أَيْ يَقْرَبَانِ مِنْ (الْحِجْرَ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْجِيمِ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ عَلَى صِفَةِ نِصْفِ الدَّائِرَةِ، وَقَدْرُهَا تِسْعٌ وَثَلَاثُونَ ذِرَاعًا، وَالْقَدْرُ الَّذِي أُخْرِجَ مِنَ الْكَعْبَةِ سَيَأْتِي قَرِيبًا.

قَوْلُهُ فِي الطَّرِيقَةِ الثَّانِيَةِ: (حَدَّثَنَا الْأَشْعَثُ) هُوَ ابْنُ أَبِي الشَّعْثَاءِ الْمُحَارِبِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْعِلْمِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْأَسْوَدِ بِزِيَادَةٍ، نَبَّهْنَا عَلَى مَا فِيهَا هُنَاكَ.

قَوْلُهُ: (عَنِ الْجَدْرِ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَكَذَا هُوَ فِي مُسْنَدِ مُسَدَّدٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي الْجِدَارُ قَالَ الْخَلِيلُ: الْجَدْرُ لُغَةٌ فِي الْجِدَارِ. انْتَهَى. وَوَهِمَ مَنْ ضَبَطَهُ بِضَمِّهَا، لِأَنَّ الْمُرَادَ الْحِجْرُ، وَلِأَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ شَيْخِ مُسَدَّدٍ فِيهِ: الْجَدْرُ أَوِ الْحَجَرُ بِالشَّكِّ، وَلِأَبِي عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ شَيْبَانَ، عَنِ الْأَشْعَثِ الْحِجْرُ بِغَيْرِ شَكٍّ.

قَوْلُهُ: (أَمِنَ الْبَيْتِ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ) هَذَا ظَاهِرُهُ أَنَّ الْحِجْرَ كُلَّهُ مِنَ الْبَيْتِ، وَكَذَا قَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ (أَنْ أَدْخِلِ الْجَدْرَ فِي الْبَيْتِ) وَبِذَلِكَ كَانَ يُفْتِي ابْنُ عَبَّاسٍ كَمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مَرْثَدِ بْنِ شُرَحْبِيلَ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: لَوْ وُلِّيتُ مِنَ الْبَيْتِ مَا وَلِيَ ابْنُ الزُّبَيْرِ لَأَدْخَلْتُ الْحِجْرَ كُلَّهُ فِي الْبَيْتِ، فَلِمَ يُطَاف بِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْبَيْتِ؟ وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلْقَمَةَ عَنْ أُمِّهِ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ فِي الْبَيْتِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدَيَّ، فَأَدْخَلَنِي الْحِجْرَ فَقَالَ: صَلِّي فِيهِ، فَإِنَّمَا هُوَ قِطْعَةٌ مِنَ الْبَيْتِ، وَلَكِنَّ قَوْمَكَ اسْتَقْصَرُوهُ حَين بَنَوْا الْكَعْبَةَ فَأَخْرَجُوهُ مِنَ الْبَيْتِ. وَنَحْوُهُ لِأَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، وَلِأَبِي عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَائِشَةَ، وَفِيهِ: أَنَّهَا أَرْسَلَتْ إِلَى شَيْبَةَ الْحَجَبِيِّ لِيَفْتَحَ لَهَا الْبَيْتَ بِاللَّيْلِ، فَقَالَ: مَا فَتَحْنَاهُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ بِلَيْلٍ. وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا مُطْلَقَةٌ، وَقَدْ جَاءَتْ رِوَايَاتٌ أَصَحُّ مِنْهَا مُقَيَّدَةٌ، مِنْهَا لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي قَزَعَةَ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَائِشَةَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ: حَتَّى أَزِيدَ فِيهِ مِنَ الْحِجْرِ، وَلَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْحَارِثِ عَنْهَا: فَإِنْ بَدَا لِقَوْمِكِ أَنْ يَبْنُوهُ بَعْدِي فَهَلُمِّي لِأُرِيَكِ مَا تَرَكُوا مِنْهُ، فَأَرَاهَا قَرِيبًا مِنْ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ.

وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مِينَاءَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: وَزِدْتُ فِيهَا مِنَ الْحِجْرِ سِتَّةَ أَذْرُعٍ. وَسَيَأْتِي فِي آخِرِ الطَّرِيقِ الرَّابِعَةِ قَوْلُ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ الَّذِي رَوَاهُ عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّهُ أَرَاهُ لِجَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ فَحَزَرَهُ سِتَّةَ أَذْرُعٍ أَوْ نَحْوِهَا، وَلِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ فِي جَامِعِهِ عَنْ دَاوُدَ بْنِ شَابُورَ، عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ زَادَ فِيهَا سِتَّةَ أَذْرُعٍ مِمَّا يَلِي الْحِجْرَ. وَلَهُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ: سِتَّةَ أَذْرُعٍ وَشِبْرٍ. وَهَكَذَا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ عَنْ عَدَدٍ لَقِيَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ قُرَيْشٍ كَمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ عَنْهُ، وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا تَجْتَمِعُ عَلَى أَنَّهَا فَوْقَ السِّتَّةِ وَدُونَ السَّبْعَةِ، وَأَمَّا رِوَايَةُ عَطَاءٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: لَكُنْتُ أُدْخِلُ فِيهَا مِنَ الْحِجْرِ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ. فَهِيَ شَاذَّةٌ، وَالرِّوَايَةُ السَّابِقَةُ أَرْجَحُ لِمَا فِيهَا مِنَ الزِّيَادَةِ عَنِ الثِّقَاتِ الْحُفَّاظِ، ثُمَّ ظَهَرَ لِي لِرِوَايَةِ عَطَاءٍ، وَهُوَ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهَا مَا عَدَا الْفُرْجَةِ الَّتِي بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْحِجْرِ، فَتَجْتَمِعُ مَعَ الرِّوَايَاتِ الْأُخْرَى، فَإِنَّ الَّذِي عَدا الْفُرْجَةَ أَرْبَعَةَ أَذْرُعٍ وَشَيْءٍ، وَلِهَذَا وَقَعَ عِنْدَ الْفَاكِهِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَمْرِو بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْحَمْرَاءِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعَائِشَةَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: وَلَأَدْخَلْتُ فِيهَا مِنَ الْحِجْرِ أَرْبَعَةَ أَذْرُعٍ.

فَيُحْمَلُ هَذَا عَلَى إِلْغَاءِ الْكَسْرِ، وَرِوَايَةُ عَطَاءٍ عَلَى جَبْرِهِ، وَيُجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا بِذَلِكَ، وَلَمْ أَرَ مَنْ سَبَقَنِي إِلَى ذَلِكَ، وَسَأَذْكُرُ ثَمَرَةَ هَذَا الْبَحْثِ فِي آخِرِ

ص: 443

الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ.

قَوْلُهُ: (أَلَمْ تَرَيْ) أَيْ أَلَمْ تَعْرِفِي.

قَوْلُهُ: (قَصَّرَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ) بِتَشْدِيدِ الصَّادِ أَيِ النَّفَقَةُ الطَّيِّبَةُ الَّتِي أَخْرَجُوهَا لِذَلِكَ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْأَزْرَقِيُّ وَغَيْرُهُ، وَيُوَضِّحُهُ مَا ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَجِيحٍ أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّ أَبَا وَهْبِ بْنِ عَابِدِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ - وَهُوَ جَدُّ جَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ بْنِ أَبِي وَهْبٍ الْمَخْزُومِيِّ - قَالَ لِقُرَيْشٍ: لَا تُدْخِلُوا فِيهِ مِنْ كَسْبِكُمْ إِلَّا الطَّيِّبَ، وَلَا تُدْخِلُوا فِيهِ مَهْرَ بَغِيٍّ وَلَا بَيْعَ رِبًا وَلَا مَظْلِمَةَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ. وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فِي جَامِعِهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ شَهِدَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَرْسَلَ إِلَى شَيْخٍ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ أَدْرَكَ ذَلِكَ، فَسَأَلَهُ عُمَرُ عَنْ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: إِنَّ قُرَيْشًا تَقَرَّبَتْ لِبِنَاءِ الْكَعْبَةِ - أَيْ بِالنَّفَقَةِ الطَّيِّبَةِ - فَعَجَزَتْ فَتَرَكُوا بَعْضَ الْبَيْتِ فِي الْحِجْرِ، فَقَالَ عُمَرُ صَدَقْتَ.

قَوْلُهُ: (لِيُدْخِلُوا) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي يُدْخِلُوا بِغَيْرِ لَامٍ، زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَائِشَةَ: فَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا هُوَ أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَهَا يَدْعُونَهُ يَرْتَقِي حَتَّى إِذَا كَادَ أَنْ يَدْخُلَ دَفَعُوهُ فَسَقَطَ.

قَوْلُهُ: (حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ) بِتَنْوِينِ حَدِيثٍ.

قَوْلُهُ: (بِجَاهِلِيَّةٍ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِالْجَاهِلِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْعِلْمِ مِنْ طَرِيقِ الْأَسْوَدِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِكُفْرٍ وَلِأَبِي عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: حَدِيثُ عَهْدٍ بِشِرْكٍ.

قَوْلُهُ: (فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ) فِي رِوَايَةِ شَيْبَانَ، عَنْ أَشْعَثَ تَنْفِرَ بِالْفَاءِ بَدَلَ الْكَافِ، وَنَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ بَعْضِ عُلَمَائِهِمْ أَنَّ النُّفْرَةَ الَّتِي خَشِيَهَا صلى الله عليه وسلم أَنْ يَنْسُبُوهُ إِلَى الِانْفِرَادِ بِالْفَخْرِ دُونَهُمْ.

قَوْلُهُ: (أَنْ أُدْخِلَ الْجَدْرَ) كَذَا وَقَعَ هُنَا، وَهُوَ مُؤَوَّلٌ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، أَيْ: أَخَافُ إِنْكَارَ قُلُوبِهِمُ إِدْخَالِي الْحِجْرَ، وَجَوَابُ لَوْلَا مَحْذُوفٌ، وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ بِلَفْظِ: فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ لَنَظَرْتُ أَنْ أَدْخُلَ. فَأَثْبَتَ جَوَابَ لَوْلَا، وَكَذَا أَثْبَتَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ شَيْبَانَ، عَنْ أَشْعَثَ وَلَفْظُهُ: لَنَظَرْتُ فَأَدْخَلْتُهُ.

قَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الثَّالِثَةِ: (عَنْ هِشَامٍ) هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَائِشَةَ) كَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَأَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، وَأَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامٍ، وَخَالَفَهُمُ الْقَاسِمُ بْنُ مَعْنٍ، فَرَوَاهُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ، وَرِوَايَةُ الْجَمَاعَةِ أَرْجَحُ، فَإِنَّ رِوَايَةَ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ لِهَذَا الْحَدِيثِ مَشْهُورَةٌ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ، فَسَيَأْتِي فِي الطَّرِيقِ الرَّابِعَةِ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ عَنْهُ، وَكَذَا لِأَبِي عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، وَأَبِي النَّضْرِ، كِلَاهُمَا عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عُرْوَةُ حَمَلَ عَنْ أَخِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ مِنْهُ شَيْئًا زَائِدًا عَلَى رِوَايَتِهِ عَنْهَا لِلْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِيمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ.

قَوْلُهُ: (وَجَعَلْتُ لَهُ خَلْفًا) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ، وَسُكُونِ اللَّامِ، بَعْدَهَا فَاءٌ، وَقَدْ فَسَّرَهُ فِي الرِّوَايَةِ الْمُعَلَّقَةِ، وَضَبَطَهُ الْحَرْبِيُّ فِي الْغَرِيبِ بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ قَالَ: وَالْخَالِفَةُ عَمُودٌ فِي مُؤَخَّرِ الْبَيْتِ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ، وَبَيَّنَهُ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الرَّابِعَةِ وَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ.

(تَنْبِيهٌ): قَوْلُهُ وَجَعَلْتُ بِسُكُونِ اللَّامِ وَضَمِّ التَّاءِ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ لَبَنَيْتُهُ وَضَبَطَهَا الْقَابِسِيُّ بِفَتْحِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ عَطْفًا عَلَى اسْتَقْصَرَتْ وَهُوَ وَهَمٌ، فَإِنَّ قُرَيْشًا لَمْ تَجْعَلْ لَهُ بَابًا مِنْ خَلْفٍ، وَإِنَّمَا هَمَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِجَعْلِهِ، فَلَا يُغْتَرَّ بِمَنْ حَفِظَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ بِفَتْحٍ ثُمَّ سُكُونٍ.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ) يَعْنِي ابْنَ عُرْوَةَ بِسَنَدِهِ هَذَا (خَلْفًا يَعْنِي بَابًا)، وَالتَّفْسِيرُ الْمَذْكُورُ مِنْ قَوْلِ هِشَامٍ بَيَّنَهُ أَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، عَنْ هِشَامٍ قَالَ: الْخَلْفُ الْبَابُ. وَطَرِيقُ أَبِي مُعَاوِيَةَ وَصَلَهَا مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَلَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَتِهِمَا التَّفْسِيرُ الْمَذْكُورُ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، وَأَدْرَجَ التَّفْسِيرَ، وَلَفْظُهُ: وَجَعَلْتُ لَهَا خَلْفًا. يَعْنِي بَابًا آخَرَ مِنْ خَلْفٍ يُقَابِلُ الْبَابَ الْمُقَدَّمَ.

قَوْلُهُ: فِي

ص: 444

الطَّرِيقِ الرَّابِعَةِ: (حَدَّثَنَا يَزِيدُ) هُوَ ابْنُ هَارُونَ كَمَا جَزَمَ بِهِ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عُرْوَةَ) كَذَا رَوَاهُ الْحُفَّاظُ مِنْ أَصْحَابِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ عَنْهُ، فَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ فِي مَسَانِيدِهِمْ عَنْهُ هَكَذَا، وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَّامٍ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ هَارُونَ الْجَمَّالِ، وَالزَّعْفَرَانِيُّ كُلُّهُمْ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، وَخَالَفَهُمُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ، فَرَوَاهُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، فَقَالَ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ. بَدَلَ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَهكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَزْهَرِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: إِنْ كَانَ أَبُو الْأَزْهَرِ ضَبَطَهُ، فَكَأَنَّ يَزِيدَ بْنَ رُومَانَ سَمِعَهُ مِنَ الْأَخَوَيْنِ. قُلْتُ: قَدْ تَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُشْكَانَ، كَمَا أَخْرَجَهُ الْجَوْزَقِيُّ، عَنِ الدَّغُولِيِّ عَنْهُ، عَنْ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ، وَيَزِيدُ قَدْ حَمَلَهُ عَنِ الْأَخَوَيْنِ، لَكِنَّ رِوَايَةَ الْجَمَاعَةِ أَوْضَحُ، فَهِيَ أَصَحُّ.

قَوْلُهُ: (حَدِيثُ عَهْدٍ) كَذَا لِجَمِيعِ الرُّوَاةِ بِالْإِضَافَةِ، وَقَالَ الْمُطَرِّزِيُّ: لَا يَجُوزُ حَذْفُ الْوَاوِ فِي مِثْلِ هَذَا، وَالصَّوَابُ: حَدِيثُو عَهْدٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (فَذَلِكَ الَّذِي حَمَلَ ابْنَ الزُّبَيْرِ عَلَى هَدْمِهِ) زَادَ وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ فِي رِوَايَتِهِ: وَبِنَائِهِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ يَزِيدُ) هُوَ ابْنُ رُومَانَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ: (وَشَهِدْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ حِينَ هَدَمَهُ وَبَنَاهُ - إِلَى قَوْلِهِ - كَأَسْنِمَةِ الْإِبِلِ) هَكَذَا ذَكَرَهُ يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ وَاضِحًا، فَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، قَالَ: لَمَّا احْتَرَقَ الْبَيْتُ زَمَنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ حِينَ غَزَاهُ أَهْلُ الشَّامِ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ. وَلِلْفَاكِهِيِّ فِي كِتَابِ مَكَّةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ وَغَيْرُهُ قَالُوا: لَمَّا أَحْرَقَ أَهْلُ الشَّامِ الْكَعْبَةَ وَرَمَوْهَا بِالْمَنْجَنِيقِ وَهَتِ الْكَعْبَةُ وَلِابْنِ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْحَارِثِ بْنِ زَمْعَةَ، قَالَ: ارْتَحَلَ الْحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ - يَعْنِي الْأَمِيرَ الَّذِي كَانَ يُقَاتِلُ ابْنَ الزُّبَيْرِ مِنْ قِبَلِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ - لَمَّا أَتَاهُمْ مَوْتُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، قَالَ: فَأَمَرَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِالْخُصَاصِ الَّتِي كَانَتْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ فَهُدِمَتْ، فَإِذَا الْكَعْبَةُ تَنْفُضُ - أَيْ تَتَحَرَّكُ - مُتَوَهِّنَةٌ تَرْتَجُّ مِنْ أَعْلَاهَا إِلَى أَسْفَلِهَا فِيهَا أَمْثَالُ جُيُوبِ النِّسَاءِ مِنْ حِجَارَةِ الْمَنْجَنِيقِ. وَلِلْفَاكِهِيِّ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ سَاجٍ: بَلَغَنِي أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ جَيْشُ الْحُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ، أَحْرَقَ بَعْضُ أَهْلِ الشَّامِ عَلَى بَابِ بَنِي جِمْحٍ، وَفِي الْمَسْجِدِ يَوْمَئِذٍ خِيَامٌ، فَمَشَى الْحَرِيقُ حَتَّى أَخَذَ فِي الْبَيْتِ، فَظَنَّ الْفَرِيقَانِ أَنَّهُمْ هَالِكُونَ، وَضَعُفَ بِنَاءُ الْبَيْتِ، حَتَّى أنَّ الطَّيْرَ لَيَقَعُ عَلَيْهِ فَتَتَنَاثَرُ حِجَارَتُهُ.

وَلِعَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مَرْثَدِ بْنِ شُرَحْبِيلَ أَنَّهُ حَضَرَ ذَلِكَ، قَالَ: كَانَتِ الْكَعْبَةُ قَدْ وَهَتْ مِنْ حَرِيقِ أَهْلِ الشَّامِ، قَالَ: فَهَدَمَهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ، فَتَرَكَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ حَتَّى قَدِمَ النَّاسُ الْمَوْسِمَ يُرِيدُ أَنْ يَحْزُبَهُمْ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ، فَلَمَّا صَدَرَ النَّاسُ قَالَ: أَشِيرُوا عَلَيَّ فِي الْكَعْبَةِ. الْحَدِيثَ، وَلِابْنِ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: لَمْ يَبْنِ ابْنُ الزُّبَيْرِ الْكَعْبَةَ حَتَّى حَجَّ النَّاسُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، ثُمَّ بَنَاهَا حِينَ اسْتَقْبَلَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ. وَحُكِيَ عَنِ الْوَاقِدِيِّ أَنَّهُ رَدَّ ذَلِكَ وَقَالَ: الْأَثْبَتُ عِنْدِي أَنَّهُ ابْتَدَأَ بِنَاءَهَا بَعْدَ رَحِيلِ الْجَيْشِ بِسَبْعِينَ يَوْمًا، وَجَزَمَ الْأَزْرَقِيُّ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي نِصْفِ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ. قُلْتُ: وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الْبِنَاءِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَامْتَدَّ أَمَدُهُ إِلَى الْمَوْسِمِ لِيَرَاهُ أَهْلُ الْآفَاقِ، لِيُشَنِّعَ بِذَلِكَ عَلَى بَنِي أُمَيَّةَ. وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي تَارِيخِ الْمُسَبِّحِيِّ أَنَّ الْفَرَاغَ مِنْ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ كَانَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّينَ، وَزَادَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ أَنَّهُ كَانَ فِي شَهْرِ رَجَبٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْجَمْعُ مَقْبُولًا فَالَّذِي فِي الصَّحِيحِ مُقَدَّمٌ عَلَى غَيْرِهِ.

وَذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ إِشَارَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَيْهِ بِأَنْ لَا يَفْعَلَ، وَقَوْلَ ابْنِ الزُّبَيْرِ: لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمُ احْتَرَقَ بَيْتُهُ بَنَاهُ حَتَّى يُجَدِّدَهُ، وَأَنَّهُ اسْتَخَارَ اللَّهَ ثَلَاثًا ثُمَّ عَزَمَ عَلَى أَنْ يَنْقُضَهَا، قَالَ: فَتَحَامَاهُ النَّاسُ حَتَّى صَعَدَ رَجُلٌ فَأَلْقَى مِنْهُ حِجَارَةً، فَلَمَّا لَمْ يَرَهُ النَّاسُ أَصَابَهُ شَيْءٌ تَتَابَعُوا فَنَقَضُوهُ حَتَّى بَلَغُوا بِهِ الْأَرْضَ، وَجَعَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَعْمِدَةً

ص: 445

فَسَتَرَ عَلَيْهَا السُّتُورَ حَتَّى ارْتَفَعَ بِنَاؤُهُ، وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ فِي جَامِعِهِ عَنْ دَاوُدَ بْنِ سابُورَ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: خَرَجْنَا إِلَى مِنًى فَأَقَمْنَا بِهَا ثَلَاثًا نَنْتَظِرُ الْعَذَابَ، وَارْتَقَى ابْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى جِدَارِ الْكَعْبَةِ هُوَ بِنَفْسِهِ فَهَدَمَ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي أُوَيْسٍ الْمَذْكُورَةِ: ثُمَّ عَزَلَ مَا كَانَ يَصْلُحُ أَنْ يُعَادَ فِي الْبَيْتِ فَبَنَوْا بِهِ، فَنَظَرُوا إِلَى مَا كَانَ لَا يَصْلُحُ مِنْهَا أَنْ يَبْنِيَ بِهِ فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُحْفَرَ لَهُ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ فَيُدْفَنَ، وَاتَّبَعُوا قَوَاعِدَ إِبْرَاهِيمَ مِنْ نَحْوِ الْحِجْرِ فَلَمْ يُصِيبُوا شَيْئًا حَتَّى شَقَّ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، ثُمَّ أَدْرَكُوهَا بَعْدَمَا أَمْعَنُوا، فَنَزَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَكَشَفُوا لَهُ عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ وَهِيَ صَخْرٌ أَمْثَالُ الْخَلْفِ مِنَ الْإِبِلِ، فأنْفَضوا لَهُ، أَيْ حَرَّكُوا تِلْكَ الْقَوَاعِدَ بِالْعُتُلِّ فَنَفَضَتْ قَوَاعِدَ الْبَيْتِ، وَرَأَوْهُ بُنْيَانًا مَرْبُوطًا بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَكَبَّرَهُ، ثُمَّ أُحْضِرَ النَّاسُ فَأَمَرَ بِوُجُوهِهِمْ وَأَشْرَافِهِمْ فَنَزَلُوا حَتَّى شَاهَدُوا مَا شَاهَدُوهُ، وَرَأَوْا بُنْيَانًا مُتَّصِلًا، فَأَشْهَدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ.

وَفِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ: وَكَانَ طُولُ الْكَعْبَةِ ثَمَانَ عَشْرَةَ ذِرَاعًا، فَزَادَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فِي طُولِهَا عَشْرَةَ أَذْرُعٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّهُ كَانَ طُولُهَا عِشْرِينَ ذِرَاعًا، فَلَعَلَّ رَاوِيهِ جَبَرَ الْكَسْرَ، وَجَزَمَ الْأَزْرَقِيُّ بِأَنَّ الزِّيَادَةَ تِسْعَةُ أَذْرُعٍ، فَلَعَلَّ عَطَاءً جَبَرَ الْكَسْرَ أَيْضًا. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ سَابِطٍ، عَنْ زَيْدٍ: أَنَّهُمْ كَشَفُوا عَنِ الْقَوَاعِدِ فَإِذَا الْحِجْرُ مِثْلُ الْخِلْفَةِ، وَالْحِجَارَةُ مُشَبَّكَةٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ. وَلِلْفَاكِهِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: كُنْتُ فِي الْأُمَنَاءِ الَّذِينَ جَمَعُوا عَلَى حَفْرِهِ، فَحَفَرُوا قَامَةً وَنِصْفًا، فَهَجَمُوا عَلَى حِجَارَةٍ لَهَا عُرُوقٌ تَتَّصِلُ بِزَرْدِ عِرْقِ الْمَرْوَةِ، فَضَرَبُوهُ، فَارْتَجَّتْ قَوَاعِدُ الْبَيْتِ فَكَبَّرَ النَّاسُ، فَبَنَى عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةِ مَرْثَدٍ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: فَكَشَفَ عَنْ رَبَضٍ فِي الْحِجْرِ آخِذٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، فَتَرَكَهُ مَكْشُوفًا ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ لِيَشْهَدُوا عَلَيْهِ، فَرَأَيْتُ ذَلِكَ الرَّبْضَ مِثْلَ خَلْفِ الْإِبِلِ: وَجْهٌ حَجَرٌ وَوَجْهٌ حَجَرَانِ، وَرَأَيْتُ الرَّجُلَ يَأْخُذُ الْعَتَلَةَ فَيَضْرِبُ بِهَا مِنْ نَاحِيَةِ الرُّكْنِ فَيَهْتَزُّ الرُّكْنُ الْآخَرُ. قَالَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ: وَجَعَلَ لَهُ بَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا يُدْخَلُ مِنْهُ، وَالْآخَرُ يُخْرَجُ مِنْهُ. وَفِي رِوَايَةِ الْأَسْوَدِ الَّتِي فِي الْعِلْمِ: فَفَعَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ. وَفِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: فَنَقَضَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَجَعَلَ لَهُ بَابَيْنِ فِي الْأَرْضِ.

وَنَحْوُهُ لِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، وَلِلْفَاكِهِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ مَيْسَرَةَ: أَنَّهُ دَخَلَ الْكَعْبَةَ بَعْدَمَا بَنَاهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ، فَكَانَ النَّاسُ لَا يَزْدَحِمُونَ فِيهَا، يَدْخُلُونَ مِنْ بَابٍ وَيَخْرُجُونَ مِنْ آخَرَ.

(فَصْلٌ) لَمْ يَذْكُرِ الْمُصَنِّفُ رحمه الله قِصَّةَ تَغْيِيرِ الْحَجَّاجِ لِمَا صَنَعَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَقَدْ ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ، قَالَ: فَلَمَّا قُتِلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ كَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يُخْبِرُهُ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ قَدْ وَضَعَهُ عَلَى أُسٍّ نَظَرَ الْعُدُولُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ إِلَيْهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ: إِنَّا لَسْنَا مِنْ تَلْطِيخِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي شَيْءٍ، أَمَّا مَا زَادَ فِي طُولِهِ فَأَقِرَّهُ، وَأَمَّا مَا زَادَ فِيهِ مِنَ الْحِجْرِ فَرُدَّهُ إِلَى بِنَائِهِ، وَسُدَّ بَابَهُ الَّذِي فَتَحَهُ. فَنَقَضَهُ، وَأَعَادَهُ إِلَى بِنَائِهِ. وَلِلْفَاكِهِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: فَبَادَرَ - يَعْنِي الْحَجَّاجَ - فَهَدَمَهَا وَبَنَى شِقَّهَا الَّذِي يَلِي الْحِجْرَ، وَرَفَعَ بَابَهَا، وَسَدَّ الْبَابَ الْغَرْبِيَّ. قَالَ أَبُو أُوَيْسٍ: فَأَخْبَرَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ نَدِمَ عَلَى إِذْنِهِ لِلْحَجَّاجِ فِي هَدْمِهَا، وَلُعِنَ الْحَجَّاجُ. وَلِابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ سَابُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: فَرُدَّ الَّذِي كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَدْخَلَ فِيهَا مِنَ الْحِجْرِ، قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَدِدْنَا أَنَّا تَرَكْنَا أَبَا خُبَيْبٍ وَمَا تَوَلَّى مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ أَخْرَجَ قِصَّةَ نَدَمِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ ذَلِكَ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَعِنْدَهُ مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ عَطَاءٍ أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ وَفَدَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فِي خِلَافَتِهِ، فَقَالَ: مَا أَظُنُّ أَبَا خُبَيْبٍ - يَعْنِي ابْنَ الزُّبَيْرِ - سَمِعَ مِنْ عَائِشَةَ مَا كَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْهَا، فَقَالَ الْحَارِثُ: بَلَى أَنَا سَمِعْتُهُ مِنْهَا. زَادَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِيهِ: وَكَانَ الْحَارِثُ مُصَدَّقًا لَا يُكَذَّبُ.

فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: أَنْتَ سَمِعْتَهَا تَقُولُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَنَكَتَ سَاعَةً بِعَصَاهُ وَقَالَ: وَدِدْتُ أَنِّي تَرَكْتُهُ

ص: 446

وَمَا تَحَمَّلَ. وَأَخْرَجَهَا أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي قَزَعَةَ قَالَ: بَيْنَمَا عَبْدُ الْمَلِكِ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ إِذْ قَالَ: قَاتَلَ اللَّهَ ابْنَ الزُّبَيْرِ حَيْثُ يَكْذِبُ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ - فَقَالَ لَهُ الْحَارِثُ: لَا تَقُلْ هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَنَا سَمِعْتُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ تُحَدِّثُ بِهَذَا، فَقَالَ: لَوْ كُنْتُ سَمِعْتُهُ قَبْلَ أَنْ أَهْدِمَهُ لَتَرَكْتُهُ عَلَى بِنَاءِ ابْنِ الزُّبَيْرِ.

(تَنْبِيهٌ): جَمِيعُ الرِّوَايَاتِ الَّتِي جَمَعَتْهَا هَذِهِ الْقِصَّةُ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ جَعَلَ الْبَابَ بِالْأَرْضِ، وَمُقْتَضَاهُ أَنْ يَكُونَ الْبَابُ الَّذِي زَادَهُ عَلَى سَمْتِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْأَزْرَقِيُّ أَنَّ جُمْلَةَ مَا غَيَّرَهُ الْحَجَّاجُ الْجِدَارُ الَّذِي مِنْ جِهَةِ الْحِجْرِ وَالْبَابُ الْمَسْدُودُ الَّذِي فِي الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ عَنْ يَمِينِ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ وَمَا تَحْتَ عَتَبَةِ الْبَابِ الْأَصْلِيِّ، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَذْرُعٍ وَشِبْرٍ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا فِي الرِّوَايَاتِ الْمَذْكُورَةِ، لَكِنَّ الْمُشَاهَدَ الْآنَ فِي ظَهْرِ الْكَعْبَةِ بَابٌ مَسْدُودٌ يُقَابِلُ الْبَابَ الْأَصْلِيَّ، وَهُوَ فِي الِارْتِفَاعِ مِثْلُهُ، وَمُقْتَضَاهُ أَنْ يَكُونَ الْبَابُ الَّذِي كَانَ عَلَى عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ لَمْ يَكُنْ لَاصِقًا بِالْأَرْضِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لَاصِقًا كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ الرِّوَايَاتُ لَكِنَّ الْحَجَّاجَ لَمَّا غَيَّرَهُ رَفَعَهُ، وَرَفَعَ الْبَابَ الَّذِي يُقَابِلُهُ أَيْضًا، ثُمَّ بَدَا لَهُ فَسَدَّ الْبَابَ ال مُجَدَّدَ، لَكِنْ لَمْ أَرَ النَّقْلَ بِذَلِكَ صَرِيحًا. وَذَكَرَ الْفَاكِهِيُّ فِي أَخْبَارِ مَكَّةَ أَنَّهُ شَاهَدَ هَذَا الْبَابَ الْمَسْدُودَ مِنْ دَاخِلِ الْكَعْبَةِ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، فَإِذَا هُوَ مُقَابِلٌ بَابَ الْكَعْبَةِ وَهُوَ بِقَدْرِهِ فِي الطُّولِ وَالْعَرْضِ، وَإِذَا فِي أَعْلَاهُ كَلَالِيبُ ثَلَاثَةٌ كَمَا فِي الْبَابِ الْمَوْجُودِ سَوَاءٌ، واللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (فَحَزَرْتُ) بِتَقْدِيمِ الزَّايِ عَلَى الرَّاءِ؛ أَيْ قَدَّرْتُ.

قَوْلُهُ: (سِتَّةَ أَذْرُعٍ، أَوْ نَحْوَهَا) قَدْ وَرَدَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا تَقَدَّمَ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ، وَأَنَّهَا أَرْجَحُ الرِّوَايَاتِ، وَأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِ مِنْهَا مُمْكِنٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ دَعْوَى الِاضْطِرَابِ وَالطَّعْنِ فِي الرِّوَايَاتِ الْمُقَيَّدَةِ لِأَجْلِ الِاضْطِرَابِ كَمَا جَنَحَ إِلَيْهِ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَتَبِعَهُ النَّوَوِيُّ، لِأَنَّ شَرْطَ الِاضْطِرَابِ أَنْ تَتَسَاوَى الْوُجُوهُ بِحَيْثُ يَتَعَذَّرُ التَّرْجِيحُ أَوِ الْجَمْعُ، وَلَمْ يَتَعَذَّرْ ذَلِكَ هُنَا، فَيَتَعَيَّنَ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ كَمَا هِيَ قَاعِدَةُ مَذْهَبِهِمَا، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْمُطْلَقَةَ وَالْمُقَيَّدَةَ مُتَوَارِدَةٌ عَلَى سَبَبٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ قُرَيْشًا قَصَّرُوا عَنْ بِنَاءِ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام، وَأَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَعَادَهُ عَلَى بِنَاءِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَنَّ الْحَجَّاجَ أَعَادَهُ عَلَى بِنَاءِ قُرَيْشٍ، وَلَمْ تَأْتِ رِوَايَةٌ قَطُّ صَرِيحَةٌ أَنَّ جَمِيعَ الْحِجْرِ مِنْ بِنَاءِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْبَيْتِ، قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ فِي شَرْحِ التَّنْبِيهِ لَهُ: وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي فِي الْحِجْرِ مِنَ الْبَيْتِ قَدْرُ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ، وَالرِّوَايَةُ الَّتِي جَاءَ فِيهَا أَنَّ الْحِجْرَ مِنَ الْبَيْتِ مُطْلَقَةٌ فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، فَإِنَّ إِطْلَاقَ اسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْبَعْضِ سَائِغٌ مَجَازًا، وَإِنَّمَا قَالَ النَّوَوِيُّ ذَلِكَ نُصْرَةً لِمَا رَجَّحَهُ مِنْ أَنَّ جَمِيعَ الْحِجْرِ مِنَ الْبَيْتِ، وَعُمْدَتُهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَى إِيجَابِ الطَّوَافِ خَارِجَ الْحِجْرِ، وَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ، وَنَقَلَ غَيْرُهُ أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ

الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ أَنَّهُ طَافَ مِنْ دَاخِلِ الْحِجْرِ وَكَانَ عَمَلًا مُسْتَمِرًّا، وَمُقْتَضَاهُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْحِجْرِ مِنَ الْبَيْتِ، وَهَذَا مُتَعَقَّبٌ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ إِيجَابِ الطَّوَافِ مِنْ وَرَائِهِ أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ مِنَ الْبَيْتِ، فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا كَمَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ أَنَّ الَّذِي فِي الْحِجْرِ مِنَ الْبَيْتِ نَحْوٌ مِنْ سِتَّةِ أَذْرُعٍ، وَنَقَلَهُ عَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ قُرَيْشٍ لَقِيَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ، فَعَلَى هَذَا فَلَعَلَّهُ رَأَى إِيجَابَ الطَّوَافِ مِنْ وَرَاءِ الْحِجْرِ احْتِيَاطًا، وَأَمَّا الْعَمَلُ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى الْإِيجَابِ، فَلَعَلَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ بَعْدَهُ فَعَلُوهُ اسْتِحْبَابًا لِلرَّاحَةِ مِنْ تَسَوُّرِ الْحِجْرِ لَا سِيَّمَا وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَطُوفُونَ جَمِيعًا، فَلَا يُؤْمَنُ مِنَ الْمَرْأَةِ التَّكَشُّفُ، فَلَعَلَّهُمْ أَرَادُوا حَسْمَ هَذِهِ الْمَادَّةَ، وَأَمَّا مَا نَقَلَهُ الْمُهَلَّبُ، عَنِ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ أَنَّ حَائِطَ الْحِجْرِ لَمْ يَكُنْ مَبْنِيًّا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ حَتَّى كَانَ عُمَرُ فَبَنَاهُ وَوَسَّعَهُ قَطْعًا لِلشَّكِّ، وَأَنَّ الطَّوَافَ قَبْلَ ذَلِكَ كَانَ حَوْلَ الْبَيْتِ، فَفِيهِ نَظَرٌ. وَقَدْ أَشَارَ الْمُهَلَّبُ إِلَى أَنَّ عُمْدَتَهُ فِي ذَلِكَ مَا سَيَأْتِي فِي بَابِ بُنْيَانِ الْكَعْبَةِ فِي أَوَائِلِ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ بِلَفْظِ: لَمْ

ص: 447

يَكُنْ حَوْلَ الْبَيْتِ حَائِطٌ، كَانُوا يُصَلُّونَ حَوْلَ الْبَيْتِ حَتَّى كَانَ عُمَرُ فَبَنَى حَوْلَهُ حَائِطًا جُدُرُهُ قَصِيرَةٌ، فَبَنَاهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ. انْتَهَى. وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ فِي حَائِطِ الْمَسْجِدِ لَا فِي الْحِجْرِ، فَدَخَلَ الْوَهْمُ عَلَى قَائِلِهِ مِنْ هُنَا.

وَلَمْ يَزَلِ الْحِجْرُ مَوْجُودًا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا صَرَّحَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، نَعَمْ فِي الْحُكْمِ بِفَسَادِ طَوَافِ مَنْ دَخَلَ الْحِجْرَ وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ نَظَرٌ، وَقَدْ قَالَ بِصِحَّتِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَمِنَ الْمَالِكِيَّةِ، كَأَبِي الْحَسَنِ اللَّخْمِيِّ، وَذَكَرَ الْأَزْرَقِيُّ أَنَّ عَرْضَ مَا بَيْنَ الْمِيزَابِ وَمُنْتَهَى الْحِجْرِ سَبْعَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا وَثُلُثُ ذِرَاعٍ، مِنْهَا عَرْضُ جِدَارِ الْحِجْرِ ذِرَاعَانِ وَثُلُثٌ، وَفِي بَطْنِ الْحِجْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا، فَعَلَى هَذَا فَنِصْفُ الْحِجْرِ لَيْسَ مِنَ الْبَيْتِ فَلَا يَفْسُدُ طَوَافُ مَنْ طَافَ دُونَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا قَوْلُ الْمُهَلَّبِ: إِنَّ الْفَضَاءَ لَا يُسَمَّى بَيْتًا، وَإِنَّمَا الْبَيْتُ الْبُنْيَانُ، لِأَنَّ شَخْصًا لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا فَانْهَدَمَ ذَلِكَ الْبَيْتُ فَلَا يَحْنَثُ بِدُخُولِهِ فَلَيْسَ بِوَاضِحٍ، فَإِنَّ الْمَشْرُوعَ مِنَ الطَّوَافِ مَا شُرِعَ لِلْخَلِيلِ بِالِاتِّفَاقِ، فَعَلَيْنَا أَنْ نَطُوفَ حَيْثُ طَافَ وَلَا يَسْقُطُ ذَلِكَ بِانْهِدَامِ حَرَمِ الْبَيْتِ، لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ لَا يَسْقُطُ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ مِنْهَا بِفَوَاتِ الْمَعْجُوزِ عَنْهُ، فَحُرْمَةُ الْبُقْعَةِ ثَابِتَةٌ وَلَوْ فُقِدَ الْجِدَارُ، وَأَمَّا الْيَمِينُ فَمُتَعَلِّقَةٌ بِالْعُرْفِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا قُلْنَاهُ أَنَّهُ لَوِ انْهَدَمَ مَسْجِدٌ فَنُقِلَتْ حِجَارَتُهُ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ بَقِيَتْ حُرْمَةُ الْمَسْجِدِ بِالْبُقْعَةِ الَّتِي كَانَ بِهَا وَلَا حُرْمَةَ لِتِلْكَ الْحِجَارَةِ الْمَنْقُولَةِ إِلَى غَيْرِ مَسْجِدٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْبُقْعَةَ أَصْلٌ لِلْجِدَارِ بِخِلَافِ الْعَكْسِ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ.

وَفِي حَدِيثِ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ مِنَ الْفَوَائِدِ - غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ - مَا تَرْجَمَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي الْعِلْمِ وَهُوَ: تَرْكُ بَعْضِ الِاخْتِيَارِ مَخَافَةَ أَنْ يَقْصُرَ عَنْهُ فَهْمُ بَعْضِ النَّاسِ وَالْمُرَادُ بِالِاخْتِيَارِ فِي عِبَارَتِهِ الْمُسْتَحَبُّ، وَفِيهِ اجْتِنَابُ وَلِيِّ الْأَمْرِ مَا يَتَسَرَّعُ النَّاسُ إِلَى إِنْكَارِهِ، وَمَا يُخْشَى مِنْهُ تَوَلُّدُ الضَّرَرِ عَلَيْهِمْ فِي دِينٍ أَوْ دُنْيَا، وَتَأَلُّفُ قُلُوبِهُمْ بِمَا لَا يُتْرَكُ فِيهِ أَمْرٌ وَاجِبٌ. وَفِيهِ تَقْدِيمُ الْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ مِنْ دَفْعِ الْمَفْسَدَةِ وَجَلْبِ الْمَصْلَحَةِ، وَأَنَّهُمَا إِذَا تَعَارَضَا بُدِئَ بِدَفْعِ الْمَفْسَدَةِ، وَأَنَّ الْمَفْسَدَةَ إِذَا أُمِنَ وُقُوعُهَا عَادَ اسْتِحْبَابُ عَمَلِ الْمَصْلَحَةِ، وَحَدِيثُ الرَّجُلِ مَعَ أَهْلِهِ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ، وَحِرْصُ الصَّحَابَةِ عَلَى امْتِثَالِ أَوَامِرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

(تَكْمِيلٌ): حَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَتَبِعَهُ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ، عَنِ الرَّشِيدِ أَوِ الْمَهْدِيِّ أَوِ الْمَنْصُورِ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُعِيدَ الْكَعْبَةَ عَلَى مَا فَعَلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ، فَنَاشَدَهُ مَالِكٌ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ: أَخْشَى أَنْ يَصِيرَ مَلْعَبَةً لِلْمُلُوكِ، فَتَرَكَهُ. قُلْتُ: وَهَذَا بِعَيْنِهِ خَشْيَةُ جَدِّهِمُ الْأَعْلَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، فَأَشَارَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَهْدِمَ الْكَعْبَةَ وَيُجَدِّدَ بِنَاءَهَا بِأَنْ يَرُمَّ مَا وَهَى مِنْهَا، وَلَا يَتَعَرَّضُ لَهَا بِزِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ، وَقَالَ لَهُ: لَا آمَنُ أَنْ يَجِيءَ مِنْ بَعْدِكَ أَمِيرٌ فَيُغَيِّرَ الَّذِي صَنَعْتَ. أَخْرَجَهُ الْفَاكِهِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ عَنْهُ، وَذَكَرَ الْأَزْرَقِيُّ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ هَمَّ بِنَقْضِ مَا فَعَلَهُ الْحَجَّاجُ، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ لَمَّا ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ فَعَلَهُ بِأَمْرِ أَبِيهِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَلَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنَ التَّوَارِيخِ عَلَى أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْخُلَفَاءِ وَلَا مَنْ دُونَهُمْ غَيَّرَ مِنَ الْكَعْبَةِ شَيْئًا مِمَّا صَنَعَهُ الْحَجَّاجُ إِلَى الْآنَ إِلَّا فِي الْمِيزَابِ وَالْبَابِ وَعَتَبَتِهِ، وَكَذَا وَقَعَ التَّرْمِيمُ فِي جِدَارِهَا غَيْرَ مَرَّةٍ، وَفِي سَقْفِهَا وَفِي سُلَّمِ سَطْحِهَا، وَجُدِّدَ فِيهَا الرُّخَامُ، فَذَكَرَ الْأَزْرَقِيُّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَنَّ أَوَّلَ مَنْ فَرَشَهَا بِالرُّخَامِ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ.

وَوَقَعَ فِي جِدَارِهَا الشَّامِيِّ تَرْمِيمٌ فِي شُهُورِ سَنَةَ سَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، ثُمَّ فِي شُهُورِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، ثُمَّ فِي شُهُورِ سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ، ثُمَّ فِي سَنَةِ ثَمَانِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، ثُمَّ فِي سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَثَمَانِمِائَةٍ، وَقَدْ تَرَادَفَتِ الْأَخْبَارُ الْآنَ فِي وَقْتِنَا هَذَا فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ أَنَّ جِهَةَ الْمِيزَابَ فِيهَا مَا يَحْتَاجُ إِلَى تَرْمِيمٍ، فَاهْتَمَّ بِذَلِكَ سُلْطَانُ الْإِسْلَامِ الْمَلِكُ الْمُؤَيَّدُ وَأَرْجُو مِنَ اللَّهِ - تَعَالَى - أَنْ يُسَهِّلَ لَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ حَجَجْتُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَتَأَمَّلْتُ الْمَكَانَ الَّذِي قِيلَ عَنْهُ فَلَمْ أَجِدْهُ فِي تِلْكَ الْبَشَاعَةِ، وَقَدْ رُمِّمَ مَا تَشَعَّثَ مِنَ الْحَرَمِ فِي أَثْنَاءِ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ إِلَى أَنْ نَقَضَ سَقْفَهَا فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ

ص: 448

عَلَى يَدَيْ بَعْضِ الْجُنْدِ، فَجَدَّدَ لَهَا سَقْفًا، وَرَخَّمَ السَّطْحَ، فَلَمَّا كَانَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ صَارَ الْمَطَرُ إِذَا نَزَلَ يَنْزِلُ إِلَى دَاخِلِ الْكَعْبَةِ أَشَدَّ مِمَّا كَانَ أَوَّلًا، فَأَدَّاهُ رَأْيُهُ الْفَاسِدُ إِلَى نَقْضِ السَّقْفِ مَرَّةً أُخْرَى وَسَدِّ مَا كَانَ فِي السَّطْحِ مِنَ الطَّاقَاتِ الَّتِي كَانَ يَدْخُلُ مِنْهَا الضَّوْءُ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ امْتِهَانُ الْكَعْبَةِ، بَلْ صَارَ الْعُمَّالُ يَصْعَدُونَ فِيهَا بِغَيْرِ أَدَبٍ، فَغَارَ بَعْضُ الْمُجَاوِرِينَ فَكَتَبَ إِلَى الْقَاهِرَةِ يَشْكُو ذَلِكَ.

فَبَلَغَ السُّلْطَانَ الظَّاهِرَ، فَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ أَمَرَ بِذَلِكَ، وَجَهَّزَ بَعْضَ الْجُنْدِ لِكَشْفِ ذَلِكَ فَتَعَصَّبَ لِلْأَوَّلِ بَعْضُ مَنْ جَاوَرَ وَاجْتَمَعَ الْبَاقُونَ رَغْبَةً وَرَهْبَةً، فَكَتَبُوا مَحْضَرًا بِأَنَّهُ مَا فَعَلَ شَيْئًا إِلَّا عَنْ مَلَأٍ مِنْهُمْ، وَأَنَّ كُلَّ مَا فَعَلَهُ مَصْلَحَةٌ، فَسَكَنَ غَضَبُ السُّلْطَانِ وَغَطَّى عَنْهُ الْأَمْرَ. وَقَدْ جَاءَ عَنْ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيِّ، وَهُوَ بِالتَّحْتَانِيَّةِ قَبْلَ الْأَلِفِ، وَبَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ لَا تَزَالُ بِخَيْرٍ مَا عَظَّمُوا هَذِهِ الْحُرْمَةَ - يَعْنِي الْكَعْبَةَ - حَقَّ تَعْظِيمِهَا، فَإِذَا ضَيَّعُوا ذَلِكَ

(1)

هَلَكُوا.

أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَعُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي كِتَابِ مَكَّةَ وَسَنَدُهُ حَسَنٌ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ - تَعَالَى - الْأَمْنَ مِنَ الْفِتَنِ بِحِلْمِهِ وَكَرَمِهِ، وَمِمَّا يُتَعَجَّبُ مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَتَّفِقِ الِاحْتِيَاجُ فِي الْكَعْبَةِ إِلَى الْإِصْلَاحِ إِلَّا فِيمَا صَنَعَهُ الْحَجَّاجُ إِمَّا مِنَ الْجِدَارِ الَّذِي بَنَاهُ فِي الْجِهَةِ الشَّامِيَّةِ، وَإِمَّا فِي السُّلَّمِ الَّذِي جَدَّدَهُ لِلسَّطْحِ وَالْعَتَبَةِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِمَّا وَقَعَ فَإِنَّمَا هُوَ لِزِيَادَةٍ مَحْضَةٍ كَالرُّخَامِ أَوْ لِتَحْسِينٍ كَالْبَابِ وَالْمِيزَابِ، وَكَذَا مَا حَكَاهُ الْفَاكِهِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُكَرَّمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَكْرٍ السَّهْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جَاوَرْتُ بِمَكَّةَ فَعَابَتْ - أَيْ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ - أُسْطُوَانَةٌ مِنْ أَسَاطِينِ الْبَيْتِ فَأُخْرِجَتْ وَجِيءَ بِأُخْرَى لِيُدْخِلُوهَا مَكَانَهَا فَطَالَتْ عَنِ الْمَوْضِعِ، وَأَدْرَكَهُمُ اللَّيْلُ وَالْكَعْبَةُ لَا تُفْتَحُ لَيْلًا فَتَرَكُوهَا لِيَعُودُوا مِنْ غَدٍ لِيُصْلِحُوهَا فَجَاءُوا مِنْ غَدٍ فَأَصَابُوهَا أَقْدَمَ مِنْ قِدْحٍ. أَيْ بِكَسْرِ الْقَافِ، وَهُوَ السَّهْمُ، وَهَذَا إِسْنَادٌ قَوِيٌّ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَبَكْرٌ هُوَ ابْنُ حَبِيبٍ مِنْ كِبَارِ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ، وَكَأَنَّ الْقِصَّةَ كَانَتْ فِي أَوَائِلِ دَوْلَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ، وَكَانَتِ الْأُسْطُوَانَةُ مِنْ خَشَبٍ. وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

‌43 - بَاب فَضْلِ الْحَرَمِ،

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} وَقَوْلِهِ - جَلَّ ذِكْرُهُ - {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}

1587 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ، لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلَا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا

قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ الْحَرَمِ) أَيِ: الْمَكِّيِّ الَّذِي سَيَأْتِي ذِكْرُ حُدُودِهِ فِي بَابِ لَا يُعْضَدُ شَجَرُ الْحَرَمِ.

قَوْلُهُ: (وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} الْآيَةَ) وَجْهُ تَعَلُّقِهَا بِالتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ إِضَافَةِ الرُّبُوبِيَّةِ إِلَى الْبَلْدَةِ، فَإِنَّهُ عَلَى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ لَهَا، وَهِيَ أَصْلُ الْحَرَمِ.

قَوْلُهُ: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا} الْآيَةَ، رَوَى النَّسَائِيُّ فِي

(1)

في هامش طبعة بولاق في نسخة "صنعوا ذلك".

ص: 449

التَّفْسِيرِ: إِنَّ الْحَارِثَ بْنَ مُرَّ بْنِ نَوْفَلٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل رَدًّا عَلَيْهِ:{أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا} الْآيَةَ. أَيْ: إِنَّ اللَّهَ جَعَلَهُمْ فِي بَلَدٍ أَمِينٍ وَهُمْ مِنْهُ فِي أَمَانٍ فِي حَالِ كُفْرِهِمْ، فَكَيْفَ لَا يَكُونُ أَمْنًا لَهُمْ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمُوا وَتَابَعُوا الْحَقَّ. وَأَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ. أَخْرَجَهُ مُخْتَصَرًا، وَسَيَأْتِي بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ فِي بَابِ لَا يَحِلُّ الْقِتَالُ بِمَكَّةَ وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى قَرِيبًا هُنَاكَ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -.

‌44 - بَاب تَوْرِيثِ دُورِ مَكَّةَ وَبَيْعِهَا وَشِرَائِهَا

وَأَنَّ النَّاسَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ سَوَاءٌ خَاصَّةً، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} الْبَادِي: الطَّارِئ. {مَعْكُوفًا} مَحْبُوسًا

1588 -

حَدَّثَنَا أَصْبَغُ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ تَنْزِلُ، فِي دَارِكَ بِمَكَّةَ؟ فَقَالَ: وَهَلْ تَرَكَ عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ؟ وَكَانَ عَقِيلٌ وَرِثَ أَبَا طَالِبٍ هُوَ وَطَالِبٌ، وَلَمْ يَرِثْهُ جَعْفَرٌ وَلَا عَلِيٌّ رضي الله عنهما شَيْئًا لِأَنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ، وَكَانَ عَقِيلٌ، وَطَالِبٌ كَافِرَيْنِ، فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يَقُولُ: لَا يَرِثُ الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانُوا يَتَأَوَّلُونَ قَوْلَ اللَّهِ - تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} الْآيَةَ.

[الحديث 1588 - أطرافه في: 305، 4282، 6764]

قَوْلُهُ: (بَابُ تَوْرِيثُ دُورِ مَكَّةَ وَبَيْعُهَا وَشِرَائِهَا، وَأَنَّ النَّاسَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ سَوَاءٌ خَاصَّةً، لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً} الْآيَةَ. أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى تَضْعِيفِ حَدِيثِ عَلْقَمَةَ بْنِ نَضْلَةَ قَالَ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَمَا تُدْعَى رِبَاعُ مَكَّةَ إِلَّا السَّوَائِبَ، مَنِ احْتَاجَ سَكَنَ. أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَفِي إِسْنَادِهِ انْقِطَاعٌ وَإِرْسَالٌ، وَقَالَ بِظَاهِرِهِ ابْنُ عُمَرَ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: كَانَ عَطَاءٌ يَنْهَى عَنِ الْكِرَاءِ فِي الْحَرَمِ، فَأَخْبَرَنِي أَنَّ عُمَرَ نَهَى أَنْ تُبَوَّبَ دُورُ مَكَّةَ لِأَنَّهَا يَنْزِلُ الْحَاجُّ فِي عَرَصَاتِهَا، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ بَوَّبَ دَارَهُ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَاعْتَذَرَ عَنْ ذَلِكَ لِعُمَرَ. وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، أَنَّهُ قَالَ: مَكَّةُ مُبَاحٌ، لَا يَحِلُّ بَيْعُ رِبَاعِهَا وَلَا إِجَارَةُ بُيُوتِهَا. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: لَا يَحِلُّ بَيْعُ بُيُوتِ مَكَّةَ وَلَا إِجَارَتُهَا. وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَخَالَفَهُ صَاحِبُهُ أَبُو يُوسُفَ، وَاخْتُلِفَ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَبِالْجَوَازِ قَالَ الْجُمْهُورُ وَاخْتَارَهُ الطَّحَاوِيُّ. وَيُجَابُ عَنْ حَدِيثِ عَلْقَمَةَ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ بِحَمْلِهِ عَلَى مَا سَيُجْمَعُ بِهِ مَا اخْتُلِفَ عَنْ عُمَرَ فِي ذَلِكَ.

وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِحَدِيثِ أُسَامَةَ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَأَضَافَ الْمِلْكُ إِلَيْهِ وَإِلَى مَنِ ابْتَاعَهَا مِنْهُ، وَبِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ: مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ. فَأَضَافَ الدَّارَ إِلَيْهِ. وَاحْتَجَّ ابْنُ خُزَيْمَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} فَنَسَبَ اللَّهُ الدِّيَارَ إِلَيْهِمْ كَمَا نَسَبَ الْأَمْوَالَ إِلَيْهِمْ، وَلَوْ كَانَتِ الدِّيَارُ لَيْسَتْ بِمِلْكٍ لَهُمْ لَمَّا

ص: 450

كَانُوا مَظْلُومِينَ فِي الْإِخْرَاجِ مِنْ دُورٍ لَيْسَتْ بِمِلْكٍ لَهُمْ، قَالَ: وَلَوْ كَانَتِ الدُّورُ الَّتِي بَاعَهَا عَقِيلٌ لَا تُمَلَّكُ لَكَانَ جَعْفَرُ، وَعَلِيٌّ أَوْلَى بِهَا إِذْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ دُونَهُ. وَسَيَأْتِي فِي الْبُيُوعِ أَثَرُ عُمَرَ أَنَّهُ اشْتَرَى دَارًا لِلسِّجْنِ بِمَكَّةَ. وَلَا يُعَارِضُ مَا جَاءَ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى أَنْ تُغْلَقَ دُورُ مَكَّةَ فِي زَمَنِ الْحَاجِّ. أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: إِنَّ عُمَرَ قَالَ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَتَّخِذُوا لِدُورِكُمْ أَبْوَابًا، لِيَنْزِلَ الْبَادِي حَيْثُ شَاءَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عُمَرَ، فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِكَرَاهة الْكِرَاءِ رِفْقًا بِالْوُفُودِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ مَنْعُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَإِلَى هَذَا جَنَحَ الْإِمَامُ أَحْمَدَ وَآخَرُونَ. وَاخْتُلِفَ عَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ، قَالَ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ: ظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَسْجِدُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ النُّسُكُ وَالصَّلَاةُ لَا سَائِرَ دُورِ مَكَّةَ.

وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ: لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ فِي أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً، وَاخْتَلَفُوا: هَلْ مُنَّ بِهَا عَلَى أَهْلِهَا لِعِظَمِ حُرْمَتِهَا أَوْ أُقِرَّتْ لِلْمُسْلِمِينَ؟ وَمِنْ ثَمَّ جَاءَ الِاخْتِلَافُ فِي بَيْعِ دُورِهَا وَالْكِرَاءُ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَنَّ بِهَا عَلَى أَهْلِهَا فَخَالَفَتْ حُكْمَ غَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ فِي ذَلِكَ، ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ، وَلَيْسَ الِاخْتِلَافُ فِي ذَلِكَ نَاشِئًا عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ هُنَا: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، هَلْ هُوَ الْحَرَمُ كُلُّهُ أَوْ مَكَانُ الصَّلَاةِ فَقَطْ، وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا هَلِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: سَوَاءً فِي الْأَمْنِ وَالِاحْتِرَامِ أَوْ فِيمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَبِوَاسِطَةِ ذَلِكَ نَشَأَ الِاخْتِلَافُ الْمَذْكُورُ أَيْضًا، قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} جَمِيعَ الْحَرَمِ، وَأَنَّ اسْمَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاقِعٌ عَلَى جَمِيعِ الْحَرَمِ لَمَا جَازَ حَفْرُ بِئْرٍ وَلَا قَبْرٍ وَلَا التَّغَوُّطُ وَلَا الْبَوْلُ وَلَا إِلْقَاءُ الْجِيَفِ وَالنَّتْنِ. قَالَ: وَلَا نَعْلَمُ عَالِمًا مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا كَرِهَ لِحَائِضٍ وَلَا لِجُنُبٍ دُخُولَ الْحَرَمِ وَلَا الْجِمَاعَ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَجَازَ الِاعْتِكَافُ فِي دُورِ مَكَّةَ وَحَوَانِيتِهَا، وَلَا يَقُولُ بِذَلِكَ أَحَدٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قُلْتُ: وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْحَرَمُ كُلُّهُ وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ عَنْهُمْ، وَالْأَسَانِيدُ بِذَلِكَ كُلُّهَا إِلَيْهِمْ ضَعِيفَةٌ، وَسَنَذْكُرُ فِي بَابِ فَتْحِ مَكَّةَ مِنَ الْمَغَازِي الرَّاجِحَ مِنَ الْخِلَافِ فِي فَتْحِهَا صُلْحًا أَوْ عَنْوَةً، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (الْبَادِي: الطَّارِئُ) هُوَ تَفْسِيرٌ مِنْهُ بِالْمَعْنَى، وَهُوَ مُقْتَضَى مَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ كَمَا رَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: الْبَادِي الَّذِي يَكُونُ فِي الْبَدْوِ، وَكَذَا مَنْ كَانَ ظَاهِرَ الْبَلَدِ فَهُوَ بَادٍ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ الْمُقِيمَ وَالطَّارِئَ سِيَّانِ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} قَالَ: سَوَاءً فِيهِ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ.

قَوْلُهُ: (مَعْكُوفًا: مَحْبُوسًا) كَذَا وَقَعَ هُنَا، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ فِي آيَةِ الْفَتْحِ، وَلَكِنَّ مُنَاسَبَةَ ذِكْرِهَا هُنَا قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: الْعَاكِفُ، وَالتَّفْسِيرُ الْمَذْكُورُ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي الْمَجَازِ، وَالْمُرَادُ بِالْعَاكِفِ: الْمُقِيمُ. وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ قَالَ: أَرَدْتُ أَنْ أَعْتَكِفَ وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَسَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، فَقَالَ: أَنْتَ عَاكِفٌ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، عَنْ حَرْمَلَةَ وَغَيْرِهِ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَمْرَو بْنَ عُثْمَانَ أَخْبَرَهُ.

قَوْلُهُ: (أَيْنَ تَنْزِلُ، فِي دَارِكِ) حَذَفَ أَدَاةَ الِاسْتِفْهَامِ مِنْ قَوْلِهِ: فِي دَارِكَ بِدَلِيلِ رِوَايَةِ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَالطَّحَاوِيِّ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ بِلَفْظِ: أَتَنْزِلُ فِي دَارِكَ وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْجَوْزَقِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَصْبَغَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، وَلِلْمُصَنِّفِ فِي الْمَغَازِي مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا؟ فَكَأَنَّهُ اسْتَفْهَمَهُ أَوَّلًا عَنْ مَكَانِ نُزُولِهِ ثُمَّ ظَنَّ أَنَّهُ يَنْزِلُ فِي دَارِهِ فَاسْتَفْهَمَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَظَاهِرُ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ حِينَ أَرَادَ دُخُولَ مَكَّةَ، وَيَزِيدُهُ وُضُوحًا رِوَايَةُ زَمْعَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ

ص: 451

بِلَفْظِ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ قِيلَ: أَيْنَ تَنْزِلُ، أَفِي بُيُوتِكُمْ الْحَدِيثَ. وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ: أَيْنَ تَنْزِلُ؟ قَالَ: وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ طَلٍّ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: مَا أَشُكُّ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَخَذَ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيهِ، لَكِنْ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَلِكَ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَنْفِرَ مِنْ مِنًى، فَيُحْمَلُ عَلَى تَعَدُّدِ الْقِصَّةِ.

قَوْلُهُ: (وَهَلْ تَرَكَ عَقِيلٌ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: وَهَلْ تَرَكَ لَنَا.

قَوْلُهُ: (مِنْ رَبَاعٍ أَوْ دُورٍ) الرِّبَاعُ: جَمْعُ رَبْعٍ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ، وَهُوَ الْمَنْزِلُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى أَبْيَاتٍ، وَقِيلَ: هُوَ الدَّارُ، فَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: أَوْ دُورٍ إِمَّا لِلتَّأْكِيدِ أَوْ مِنْ شَكِّ الرَّاوِي. وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ: مِنْ مَنْزِلٍ، وَأَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ الْفَاكِهِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: وَيُقَالُ: إِنَّ الدَّارَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا كَانَتْ د ارَ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، ثُمَّ صَارَتْ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ ابْنِهِ، فَقَسَمَهَا بَيْنَ وَلَدِهِ حِينَ عُمِّرَ، فَمِنْ ثَمَّ صَارَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَقُّ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَفِيهَا وُلِدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ عَقِيلٌ. . . إِلَخْ) مُحَصَّلُ هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا هَاجَرَ اسْتَوْلَى عَقِيلٌ، وَطَالِبٌ عَلَى الدَّارِ كُلِّهَا بِاعْتِبَارِ مَا وَرِثَاهُ مِنْ أَبِيهِمَا لِكَوْنِهِمَا كَانَا لَمْ يُسْلِمَا، وَبِاعْتِبَارِ تَرْكِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِحَقِّهِ مِنْهَا بِالْهِجْرَةِ، وَفُقِدَ طَالِبٌ بِبَدْرٍ فَبَاعَ عَقِيلٌ الدَّارَ كُلَّهَا. وَحَكَى الْفَاكِهِيُّ أَنَّ الدَّارَ لَمْ تَزَلْ بِأَوْلَادِ عَقِيلٍ إِلَى أَنْ بَاعُوهَا لِمُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ أَخِي الْحَجَّاجِ بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ

(1)

، وَزَادَ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ: فَكَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ يَقُولُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ: تَرَكْنَا نَصِيبَنَا مِنَ الشِّعْبِ أَيْ حِصَّةَ جَدِّهِمْ عَلِيٍّ مِنْ أَبِيهِ أَبِي طَالِبٍ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ وَغَيْرُهُ: كَانَ مَنْ هَاجَرَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَاعَ قَرِيبَهُ الْكَافِرَ دَارَهُ، وَأَمْضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَصَرُّفَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ تَأْلِيفًا لِقُلُوبِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ، وَسَيَأْتِي فِي الْجِهَادِ مَزِيدُ بَسْطٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَعِنْدِي أَنَّ تِلْكَ الدَّارَ إِنْ كَانَتْ قَائِمَةً عَلَى مِلْكِ عَقِيلٍ فَإِنَّمَا لَمْ يَنْزِلْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهَا دُورٌ هَجَرُوهَا فِي اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَرْجِعُوا فِيمَا تَرَكُوهُ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ سِيَاقَ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي أَنَّ عَقِيلًا بَاعَهَا، وَمَفْهُومَهُ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَهَا لَنَزَلَهَا.

قَوْلُهُ: (فَكَانَ عُمَرُ) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَ عُمَرُ يَقُولُ: وَهَذَا الْقَدْرُ الْمَوْقُوفُ عَلَى عُمَرَ قَدْ ثَبَتَ مَرْفُوعًا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَهُوَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الْمَغَازِي مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ، وَمَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَأَخْرَجَهُ مُفْرَدًا فِي الْفَرَائِضِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْهُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَيَخْتَلِجُ فِي خَاطِرِي أَنَّ الْقَائِلَ: وَكَانَ عُمَرُ. . . إِلَخْ هُوَ ابْنُ شِهَابٍ فَيَكُونُ مُنْقَطِعًا عَنْ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانُوا يَتَأَوَّلُونَ. . . إِلَخْ) أَيْ كَانُوا يُفَسِّرُونَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} بِوِلَايَةِ الْمِيرَاثِ، أَيْ يَتَوَلَّى بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الْمِيرَاثِ وَغَيْرِهِ.

‌45 - بَاب نُزُولِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ

1589 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَرَادَ قُدُومَ مَكَّةَ: مَنْزِلُنَا غَدًا - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ

[الحديث 1588 - أطرافه في: 1590، 3882، 4284، 4285، 7479]

(1)

بهامش طبعة بولاق في نسخة "بثمانية آلاف دينار"

ص: 452

قَوْلُهُ: (بَابُ نُزُولِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ) أَيْ: مَوْضِعُ نُزُولِهِ، وَوَقَعَ هُنَا فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: نُسِبَتِ الدُّورُ إِلَى عَقِيلٍ، وَتُورَثُ الدُّورُ وَتُبَاعُ وَتُشْتَرَى. قُلْتُ: وَالْمَحِلُّ اللَّائِقُ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ الْبَابُ الَّذِي قَبْلَهُ، لِمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (حِينَ أَرَادَ قُدُومَ مَكَّةَ) بَيَّنَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَهَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ حِينَ رُجُوعِهِ مِنْ مِنًى.

قَوْلُهُ: (إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) هُوَ سَبِيلِ التَّبَرُّكِ وَالِامْتِثَالِ لِلْآيَةِ.

وَقَالَ سَلَامَةُ عَنْ عُقَيْلٍ، وَيَحْيَى بْنُ الضَّحَّاكِ، عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ: أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ. وَقَالَا: بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: بَنِي الْمُطَّلِبِ أَشْبَهُ

قَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ: (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ بِسَنَدِهِ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ.

قَوْلُهُ: (يَعْنِي بِذَلِكَ الْمُحَصَّبَ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي: يَعْنِي ذَلِكَ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَيَخْتَلِجُ فِي خَاطِرِي أَنَّ جَمِيعَ مَا بَعْدَ قَوْلِهِ: يَعْنِي الْمُحَصَّبَ، إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ أُدْرِجَ فِي الْخَبَرِ، فَقَدْ رَوَاهُ شُعَيْبٌ كَمَا فِي هَذَا الْبَابِ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي السِّيرَةِ، وَيُونُسُ كَمَا سَيَأْتِي فِي التَّوْحِيدِ، كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ مُقْتَصِرِينَ عَلَى الْمَوْصُولِ مِنْهُ إِلَى قَوْلِهِ: عَلَى الْكُفْرِ. وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَذْكُرْ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا وَكِنَانَةً) فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ فِي كِنَانَةَ مَنْ لَيْسَ قُرَشِيًّا، إِذِ الْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ، فيترَجَّحُ الْقَوْلُ بِأَنَّ قُرَيْشًا مِنْ وَلَدِ فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُمْ وَلَدُ كِنَانَةَ. نَعَمْ لَمْ يُعْقِبِ النَّضْرُ غَيْرَ مَالِكٍ، وَلَا مَالِكٌ غَيْرَ فِهْرٍ، فَقُرَيْشٌ وَلَدُ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ، وَأَمَّا كِنَانَةُ فَأَعْقَبَ مِنْ غَيْرِ النَّضْرِ، فَلِهَذَا وَقَعَتِ الْمُغَايَرَةُ.

قَوْلُهُ: (تَحَالَفَتْ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَوْ بَنِي الْمُطَّلِبِ) كَذَا وَقَعَ عِنْدَهُ بِالشَّكِّ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ الْوَلِيدِ: وَبَنِي الْمُطَّلِبِ بِغَيْرِ شَكٍّ، فَكَأَنَّ الْوَهْمَ مِنْهُ، فَسَيَأْتِي عَلَى الصَّوَابِ، وَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي أَوَاخِرِ الْبَابِ.

قَوْلُهُ: (أَنْ لَا يُنَاكِحُوهُمْ وَلَا يُبَايِعُوهُمْ) فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ مُصْعَبٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ عِنْدَ أَحْمَدَ أَنْ لَا يُنَاكِحُوهُمْ وَلَا يُخَالِطُوهُمْ. وَفِي رِوَايَةِ دَاوُدَ بْنِ رَشِيدٍ، عَنِ الْوَلِيدِ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: وَأَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ شَيْءٌ وَهِيَ أَعَمُّ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: عَلَى الْكُفْرِ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى يُسْلِمُوا) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَإِسْكَانِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ سَلَامَةُ، عَنْ عُقَيْلٍ) وَصَلَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِهِ.

قَوْلُهُ: (وَيَحْيَى بْنُ الضَّحَّاكِ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَكَرِيمَةَ: وَيَحْيَى، عَنِ الضَّحَّاكِ. وَهُوَ وَهَمٌ، وَهُوَ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الضَّحَّاكِ نُسِبَ لِجَدِّهِ الْبَابِلُتِّيِّ بِمُوَحَّدَتَيْنِ، وَبَعْدَ اللَّامِ الْمَضْمُومَةِ مُثَنَّاةٌ مُشَدَّدَةٌ، نَزِيلُ حَرَّانَ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْمَوْضِعُ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ الْأَوْزَاعِيِّ، وَيُقَالُ: إِنَّ الْأَوْزَاعِيَّ كَانَ زَوْجَ أُمِّهِ، وَطَرِيقُهُ هَذِهِ وَصَلَهَا أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ وَالْخَطِيبُ فِي الْمُدْرَجِ وَقَدْ تَابَعَهُ عَلَى الْجَزْمِ بِقَوْلِهِ: بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ مُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو عَوَانَةَ أَيْضًا، وَسَيَأْتِي شَرْحُ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ص: 453

‌46 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ - تَعَالَى -

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ

آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} الْآيَةَ

قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي} - إِلَى قَوْلِهِ -: {لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} لَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ حَدِيثًا، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ إِسْكَانِ إِبْرَاهِيمَ لِهَاجَرَ وَابْنِهَا فِي مَكَانِ مَكَّةَ، وَسَيَأْتِي مَبْسُوطًا فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَوَقَعَ فِي شَرْحِ ابْنِ بَطَّالٍ ضَمَّ هَذَا الْبَابِ إِلَى الَّذِي بَعْدَهُ، فَقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ يَشْكُرُونَ: وَقَوْلُ اللَّهِ: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} إِلَخْ ثُمَّ قَالَ فِيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ الْبَابِ الثَّانِي.

‌47 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ

ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}

1591 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنْ الْحَبَشَةِ

[الحديث 1591 - طرفه في: 1596]

1592 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها. و حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ "كَانُوا يَصُومُونَ عَاشُورَاءَ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ رَمَضَانُ، وَكَانَ يَوْمًا تُسْتَرُ فِيهِ الْكَعْبَةُ. فَلَمَّا فَرَضَ اللَّهُ رَمَضَانَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ شَاءَ أَنْ يَصُومَهُ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ شَاءَ أَنْ يَتْرُكَهُ فَلْيَتْرُكْهُ"

[الحديث 1592 - أطرافه في: 1893، 2001، 2002، 3831، 4502، 4504]

1593 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ حَجَّاجٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عُتْبَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيُحَجَّنَّ الْبَيْتُ وَلَيُعْتَمَرَنَّ بَعْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ" تَابَعَهُ أَبَانُ وَعِمْرَانُ عَنْ قَتَادَةَ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ شُعْبَةَ قَالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُحَجَّ الْبَيْتُ" وَالأَوَّلُ أَكْثَرُ سَمِعَ. قَتَادَةُ عَبْدَ اللَّهِ وَعَبْدُ اللَّهِ أَبَا سَعِيدٍ

قوله: "باب قول الله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ- إلى قوله - عَلِيمٌ} كأنه يشير إلى أن

ص: 454

الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: قِيَامًا أَيْ قِوَامًا، وَأَنَّهَا مَا دَامَتْ مَوْجُودَةً فَالدِّينُ قَائِمٌ، وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ أَوْرَدَ فِي الْبَابِ قِصَّةَ هَدْمِ الْكَعْبَةِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ، فَقَالَ: لَا يَزَالُ النَّاسُ عَلَى دِينٍ مَا حَجُّوا الْبَيْتَ وَاسْتَقْبَلُوا الْقِبْلَةَ. وَعَنْ عَطَاءٍ قَالَ: قِيَامًا لِلنَّاسِ لَوْ تَرَكُوهُ عَامًا لَمْ يُنْظَرُوا أَنْ يُهْلَكُوا.

ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ: أَوَّلُهَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الْحَبَشَةِ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.

ثَانِيهَا: حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي صِيَامِ عَاشُورَاءَ قَبْلَ نُزُولِ فَرْضِ رَمَضَانَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ فِي آخِرِ كِتَابِ الصِّيَامِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ: وَكَانَ يَوْمًا تُسْتَرُ فِيهِ الْكَعْبَةُ فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ الْجَاهِلِيَّةَ كَانُوا يُعَظِّمُونَ الْكَعْبَةَ قَدِيمًا بِالسُّتُورِ وَيَقُومُونَ بِهَا، وَعُرِفَ بِهَذَا جَوَابُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فِي قَوْلِهِ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مِمَّا تُرْجِمَ بِهِ شَيْءٌ سِوَى بَيَانُ اسْمِ الْكَعْبَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ، وَيُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ أَيْضًا مَعْرِفَةُ الْوَقْتِ الَّذِي كَانَتِ الْكَعْبَةُ تُكْسَى فِيهِ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ، وَهُوَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ، وَكَذَا ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ أَنَّ الْأَمْرَ اسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ فِي زَمَانِهِمْ، وَقَدْ تَغَيَّرَ ذَلِكَ بَعْدُ، فَصَارَتْ تُكْسَى فِي يَوْمِ النَّحْرِ، وَصَارُوا يَعْمِدُونَ إِلَيْهِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ فَيُعَلِّقُونَ كِسْوَتَهُ إِلَى نَحْوِ نِصْفِهِ، ثُمَّ صَارُوا يَقْطَعُونَهَا فَيَصِيرُ الْبَيْتُ كَهَيْئَةِ الْمُحْرِمِ، فَإِذَا حَلَّ النَّاسُ يَوْمَ النَّحْرِ كَسَوْهُ الْكِسْوَةَ الْجَدِيدَةَ.

(تَنْبِيهٌ): قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: جَمَعَ الْبُخَارِيُّ بَيْنَ رِوَايَةِ عُقَيْلٍ، وَابْنِ أَبِي حَفْصَةَ فِي الْمَتْنِ، وَلَيْسَ فِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ ذِكْرُ السِّتْرِ، ثُمَّ سَاقَهُ بِدُونِهِ مِنْ طَرِيقِ عُقَيْلٍ. وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَعَادَةُ الْبُخَارِيِّ التَّجَوُّزُ فِي مِثْلِ هَذَا. وَقَدْ رَوَاهُ الْفَاكِهِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي حَفْصَةَ، فَصَرَّحَ بِسَمَاعِ الزُّهْرِيِّ لَهُ مِنْ عُرْوَةَ.

ثَالِثُهَا: حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي حَجِّ الْبَيْتِ بَعْدَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، أَوْرَدَهُ مَوْصُولًا مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ - وَهُوَ ابْنُ طَهْمَانَ -، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْحَجَّاجِ، وَهُوَ الْبَاهِلِيُّ الْبَصْرِيُّ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عُتْبَةَ عَنْهُ، وَقَالَ بَعْدَهُ: سَمِعَ قَتَادَةُ، عَبْدَ اللَّهِ بْنُ أَبِي عُتْبَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، وَغَرَضُهُ بِهَذَا أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِيهِ تَدْلِيسٌ. وَهَلْ أَرَادَ بِهَذَا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا سَمِعَ هَذَا الْحَدِيثَ بِخُصُوصِهِ أَوْ فِي الْجُمْلَةِ؟ فِيهِ احْتِمَالٌ. وَقَدْ وَجَدْتُهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ مُصَرِّحًا بِسَمَاعِ قَتَادَةَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عُتْبَةَ فِي حَدِيثِ كَانَ صلى الله عليه وسلم أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا. وَهُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَعِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ فِي مُسْتَخْرَجِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.

قَوْلُهُ: (لَيُحَجَّنَّ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْجِيمِ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ أَبَانُ، وَعِمْرَانُ، عَنْ قَتَادَةَ) أَيْ عَلَى لَفْظِ الْمَتْنِ، فَأَمَّا مُتَابَعَةُ أَبَانَ - وَهُوَ ابْنُ يَزِيدَ الْعَطَّارُ - فَوَصَلَهَا الْإِمَامُ أَحْمَدَ، عَنْ عَفَّانَ، وَسُوَيْدُ بْنُ عَمْرٍو الْكَلْبِيُّ، وَعَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ أَبَانَ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، وَأَمَّا مُتَابَعَةُ عِمْرَانَ، وَهُوَ الْقَطَّانُ فَوَصَلَهَا أَحْمَدُ أَيْضًا، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، وَهُوَ الطَّيَالِسِيُّ عَنْهُ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَأَبُو يَعْلَى مِنْ طَرِيقِ الطَّيَالِسِيِّ، وَقَدْ تَابَعَ هَؤُلَاءِ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ عَنْهُ، وَلَفْظُهُ: إِنَّ النَّاسَ لَيَحُجُّونَ وَيَعْتَمِرُونَ وَيَغْرِسُونَ النَّخْلَ بَعْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ

قَوْلُهُ: (فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ) يَعْنِي ابْنَ مَهْدِيٍّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ شُعْبَةَ) يَعْنِي عَنْ قَتَادَةَ بِهَذَا السَّنَدِ.

قَوْلُهُ: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يَحُجَّ الْبَيْتَ) وَصَلَهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عَنْهُ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ، أَيْ لِاتِّفَاقِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ، وَانْفِرَادِ شُعْبَةَ بِمَا يُخَالِفُهُمْ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ ظَاهِرَهُمَا التَّعَارُضُ، لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الْأَوَّلِ أَنَّ الْبَيْتَ يُحَجُّ بَعْدَ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، وَمِنَ الثَّانِي أَنَّهُ لَا يَحُجُّ بَعْدَهَا، وَلَكِنْ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ حَجِّ النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَنْ يَمْتَنِعَ الْحَجُّ فِي وَقْتِ مَا عِنْدَ قُرْبِ ظُهُورِ السَّاعَةِ، وَيَظْهَرُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: لَيُحَجَّنَّ الْبَيْتَ أَيْ مَكَانَ الْبَيْتِ لِمَا سَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ

ص: 455

أَنَّ الْحَبَشَةَ إِذَا خَرَّبُوهُ لَمْ يُعْمَرْ بَعْدَ ذَلِكَ.

‌48 - بَاب كِسْوَةِ الْكَعْبَةِ

1594 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا وَاصِلٌ الْأَحْدَبُ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: جِئْتُ إِلَى شَيْبَةَ وَحَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ وَاصِلٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: جَلَسْتُ مَعَ شَيْبَةَ عَلَى الْكُرْسِيِّ فِي الْكَعْبَةِ فَقَالَ: لَقَدْ جَلَسَ هَذَا الْمَجْلِسَ عُمَرُ رضي الله عنه فَقَالَ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ لَا أَدَعَ فِيهَا صَفْرَاءَ وَلَا بَيْضَاءَ إِلَّا قَسَمْتُهُ. قُلْتُ إِنَّ صَاحِبَيْكَ لَمْ يَفْعَلَا. قَالَ: هُمَا الْمَرآن أَقْتَدِي بِهِمَا

[الحديث 1594 - طرفه في: 7275]

قَوْلُهُ: (بَابُ كِسْوَةِ الْكَعْبَةِ) أَيْ حُكْمُهَا فِي التَّصَرُّفِ فِيهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ فِي الطَّرِيقَيْنِ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ الْأُولَى مَعَ نُزُولِهَا لِتَصْرِيحِ سُفْيَانَ بِالتَّحْدِث فِيهَا، وَأَمَّا ابْنُ عُيَيْنَةَ فَلَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ وَاصِلٍ، بَلْ رَوَاهُ عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْهُ، أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِهِ.

قَوْلُهُ: (جَلَسْتُ مَعَ شَيْبَةَ) هُوَ ابْنُ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ الْعَبْدَرِيُّ الْحَجَبِيُّ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْجِيمِ ثُمَّ مُوَحَّدَةٌ نِسْبَةً إِلَى حَجَبِ الْكَعْبَةِ، يُكَنَّى أَبَا عُثْمَانَ.

قَوْلُهُ: (عَلَى الْكُرْسِيِّ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيِّ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، وَالطَّبَرَانِيِّ بِهَذَا السَّنَدِ: بَعَثَ مَعِيَ رَجُلٌ بِدَرَاهِمَ هَدِيَّةً إِلَى الْبَيْتِ، فَدَخَلْتُ الْبَيْتَ وَشَيْبَةُ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ، فَنَاوَلْتُهُ إِيَّاهَا، فَقَالَ: لَكَ هَذِهِ؟ فَقُلْتُ: لَا وَلَوْ كَانَتْ لِي لَمْ آتِكَ بِهَا، قَالَ: أَمَا إِنْ قُلْتَ ذَلِكَ، فَقَدْ جَلَسَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَجْلِسَكَ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ. فَذَكَرَهُ.

قَوْلُهُ: (فِيهَا) أَيِ الْكَعْبَةِ.

قَوْلُهُ: (صَفْرَاءَ وَلَا بَيْضَاءَ) أَيْ ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: غَلِطَ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ حِلْيَةُ الْكَعْبَةِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْكَنْزَ الَّذِي بِهَا، وَهُوَ مَا كَانَ يُهْدَى إِلَيْهَا فَيُدَّخَرَ مَا يَزِيدُ عَنِ الْحَاجَةِ، وَأَمَّا الْحُلِيُّ فَمُحْبَسَةٌ عَلَيْهَا كَالْقَنَادِيلِ فَلَا يَجُوزُ صَرْفُهَا فِي غَيْرِهَا. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُهْدُونَ إِلَى الْكَعْبَةِ الْمَالَ تَعْظِيمًا لَهَا، فَيَجْتَمِعُ فِيهَا.

قَوْلُهُ: (إِلَّا قَسَمْتُهُ) أَيِ الْمَالَ، وَفِي رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ شَبَّةَ فِي كِتَابِ مَكَّةَ عَنْ قَبِيصَةَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ: إِلَّا قَسَمْتُهَا. وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الِاعْتِصَامِ: إِلَّا قَسَمْتُهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَعِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: لَا أَخْرُجُ حَتَّى أُقْسِمَ مَالَ الْكَعْبَةِ بَيْنَ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ الْمُحَارِبِيِّ الْمَذْكُورَةِ.

قَوْلُهُ: (قُلْتُ: إِنَّ صَاحِبَيْكَ لَمْ يَفْعَلَا) فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَهْدِيٍّ الْمَذْكُورَةِ: قُلْتُ: مَا أَنْتَ بِفَاعِلٍ. قَالَ لِمَ؟ قُلْتُ: لَمْ يَفْعَلْهُ صَاحِبَاكَ. وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَكَذَا الْمُحَارِبِيُّ: قَالَ: وَلِمَ ذَاكَ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ رَأَى مَكَانَهُ وَأَبُو بَكْرٍ وَهُمَا أَحْوَجُ مِنْكَ إِلَى الْمَالِ فَلَمْ يُحَرِّكَاهُ.

قَوْلُهُ: (هُمَا الْمَرْءَانِ) تَثْنِيَةُ مَرْءٍ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَيَجُوزُ ضَمُّهَا، وَالرَّاءُ سَاكِنَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، بَعْدَهَا هَمْزَةٌ؛ أَيِ الرَّجُلَانِ.

قَوْلُهُ: (أَقْتَدِي بِهِمَا) فِي رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ شَبَّةَ تَكْرِيرُ قَوْلِهِ: الْمَرْءَانِ أَقْتَدِي بِهِمَا. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَهْدِيٍّ فِي الِاعْتِصَامِ: يُقْتَدَى بِهِمَا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَالْمُحَارِبِيِّ فَقَامَ كَمَا هُوَ وَخَرَجَ. وَدَارَ نَحْوَ هَذِهِ الْقِصَّةِ بَيْنَ عُمَرَ أَيْضًا وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعُمَرُ بْنُ شَبَّةَ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ: أَنَّ عُمَرَ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ كَنْزَ الْكَعْبَةِ فَيُنْفِقَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: قَدْ سَبَقَكَ صَاحِبَاكَ، فَلَوْ كَانَ فَضْلًا لَفَعَلَاهُ. لَفْظُ عُمَرَ بْنِ شَبَّةَ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: فَقَالَ لَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: وَاللَّهِ مَا ذَاكَ لَكَ، قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: أَقَرَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: أَرَادَ عُمَرُ لِكَثْرَتِهِ إِنْفَاقَهُ فِي مَنَافِعِ الْمُسْلِمِينَ،

ص: 456

ثُمَّ لَمَّا ذُكِّرَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ أَمْسَكَ، وَإِنَّمَا تَرَكَا ذَلِكَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - لِأَنَّ مَا جُعِلَ فِي الْكَعْبَةِ وَسُبِّلَ لَهَا يَجْرِي مَجْرَى الْأَوْقَافِ، فَلَا يَجُوزُ تَغْيِيرُهُ عَنْ وَجْهِهِ، وَفِي ذَلِكَ تَعْظِيمُ الْإِسْلَامِ وَتَرْهِيبُ الْعَدُوِّ.

قُلْتُ: أَمَّا التَّعْلِيلُ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ بِظَاهِرٍ مِنَ الْحَدِيثِ، بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَرَكَهُ صلى الله عليه وسلم لِذَلِكَ رِعَايَةً لِقُلُوبِ قُرَيْشٍ كَمَا تَرَكَ بِنَاءَ الْكَعْبَةِ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي بِنَاءِ الْكَعْبَةِ لَأَنْفَقْتُ كَنْزَ الْكَعْبَةِ وَلَفْظُهُ لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِكُفْرٍ لَأَنْفَقْتُ كَنْزَ الْكَعْبَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَجَعَلْتُ بَابَهَا بِالْأَرْضِ، الْحَدِيثَ. فَهَذَا التَّعْلِيلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ. وَحَكَى الْفَاكِهِيُّ فِي كِتَابِ مَكَّةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَجَدَ فِيهَا يَوْمَ الْفَتْحِ سِتِّينَ أُوقِيَّةً، فَقِيلَ لَهُ: لَوِ اسْتَعَنْتَ بِهَا عَلَى حَرْبِكَ فَلَمْ يُحَرِّكْهُ، وَعَلَى هَذَا فَإِنْفَاقُهُ جَائِزٌ كَمَا جَازَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ بِنَاؤُهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ لِزَوَالِ سَبَبِ الِامْتِنَاعِ، وَلَوْلَا قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: فِي سَبِيلِ اللَّهِ.

لَأَمْكَنَ أَنْ يُحْمَلَ الْإِنْفَاقُ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا فَيَرْجِعَ إِلَى أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ التَّحْبِيسِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ عِمَارَةَ الْكَعْبَةِ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَاسْتَدَلَّ التَّقِيُّ السُّبْكِيُّ بِحَدِيثِ الْبَابِ عَلَى جَوَازِ تَعْلِيقِ قَنَادِيلِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي الْكَعْبَةِ وَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ عُمْدَةٌ فِي مَالِ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ مَا يُهْدَى إِلَيْهَا أَوْ يُنْذَرُ لَهَا، قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُ الرَّافِعِيِّ: لَا يَجُوزُ تَحْلِيَةُ الْكَعْبَةِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَا تَعْلِيقُ قَنَادِيلِهَا فِيهَا، حَكَى الْوَجْهَيْنِ فِي ذَلِكَ: أَحَدُهُمَا الْجَوَازُ تَعْظِيمًا كَمَا فِي الْمُصْحَفِ، وَالْآخَرُ الْمَنْعُ إِذْ لَمْ يُنْقَلْ مِنْ فِعْلِ السَّلَفِ، فَهَذَا مُشْكِلٌ، لِأَنَّ لِلْكَعْبَةِ مِنَ التَّعْظِيمِ مَا لَيْسَ لِبَقِيَّةِ الْمَسَاجِدِ بِدَلِيلِ تَجْوِيزِ سَتْرِهَا بِالْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ، وَفِي جَوَازِ سَتْرِ الْمَسَاجِدِ بِذَلِكَ خِلَافٌ. ثُمَّ تُمُسِّكَ لِلْجَوَازِ بِمَا وَقَعَ فِي أَيَّامِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ مِنْ تَذْهِيبِهِ سُقُوفَ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، قَالَ: وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَلَا أَزَالَهُ فِي خِلَافَتِهِ. ثُمَّ اسْتَدَلَّ لِلْجَوَازِ بِأَنَّ تَحْرِيمَ اسْتِعْمَالِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، إِنَّمَا هُوَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَوَانِي الْمُعَدَّةِ لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَنَحْوِهِمَا، قَالَ: وَلَيْسَ فِي تَحْلِيَةِ الْمَسَاجِدِ بِالْقَنَادِيلِ الذَّهَبِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ الْغَزَالِيُّ: مَنْ كَتَبَ الْقُرْآنَ بِالذَّهَبِ فَقَدْ أَحْسَنَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِي الذَّهَبِ إِلَّا تَحْرِيمُهُ عَلَى الْأُمَّةِ فِيمَا يُنْسَبُ لِلذَّهَبِ، وَهَذَا بِخِلَافِهِ، فَيَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْحِلِّ مَا لَمْ يَنْتَهِ إِلَى الْإِسْرَافِ.

انْتَهَى. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ تَجْوِيزَ سَتْرِ الْكَعْبَةِ بِالدِّيبَاجِ قَامَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا التَّحْلِيَةُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ فِعْلِ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ، وَالْوَلِيدُ لَا حُجَّةَ فِي فِعْلِهِ، وَتَرْكُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ النَّكِيرَ أَوِ الْإِزَالَةَ يَحْتَمِلُ عِدَّةَ مَعَانٍ، فَلَعَلَّهُ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِنْكَارِ خَوْفًا مِنْ سَطْوَةِ الْوَلِيدِ، وَلَعَلَّهُ لَمْ يُزِلْهَا لِأَنَّهُ لَا يَتَحَصَّلُ مِنْهَا شَيْءٌ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ الْوَلِيدُ جَعَلَ فِي الْكَعْبَةِ صَفَائِحَ، فَلَعَلَّهُ رَأَى أَنَّ تَرْكَهَا أَوْلَى، لِأَنَّهَا صَارَتْ فِي حُكْمِ الْمَالِ الْمَوْقُوفِ، فَكَأَنَّهُ أَحْفَظُ لَهَا مِنْ غَيْرِهِ، وَرُبَّمَا أَدَّى قَلْعُهُ إِلَى إِزْعَاجِ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ فَتَرَكَهُ، وَمَعَ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ لَا يَصْلُحُ الِاسْتِدْلَالُ بِذَلِكَ لِلْجَوَازِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ الْحَرَامَ مِنَ الذَّهَبِ إِنَّمَا هُوَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ. . .

إِلَخْ، هُوَ مُتَعَقَّبٌ بِأَنَّ اسْتِعْمَالَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ، وَاسْتِعْمَالَ قَنَادِيلِ الذَّهَبِ هُوَ تَعْلِيقُهَا لِلزِّينَةِ، وَأَمَّا اسْتِعْمَالُهَا لِلْإِيقَادِ فَمُمْكِنٌ عَلَى بُعْدٍ، وَتَمَسُّكُهُ بِمَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ يُشْكِلُ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْغَزَالِيَّ قَيَّدَهُ بِمَا لَمْ يَنْتَهِ إِلَى الْإِسْرَافِ، وَالْقِنْدِيلُ الْوَاحِدُ مِنَ الذَّهَبِ يَكْتُبُ تَحْلِيَةَ عِدَّةِ مَصَاحِفَ، وَقَدْ أَنْكَرَ السُّبْكِيُّ عَلَى الرَّافِعِيِّ تَمَسُّكَهُ فِي الْمَنْعِ بِكَوْنِ ذَلِكَ لَمْ يُنْقَلْ عَنِ السَّلَفِ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الرَّافِعِيَّ تَمَسَّكَ بِذَلِكَ مَضْمُومًا إِلَى شَيْءٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ صَحَّ النَّهْيُ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ فَلَمَّا اسْتَعْمَلَ السَّلَفُ الْحَرِيرَ فِي الْكَعْبَةِ دُونَ الذَّهَبِ - مَعَ عِنَايَتِهِمْ بِهَا وَتَعْظِيمِهَا - دَلَّ عَلَى أَنَّهُ بَقِيَ عِنْدَهُمْ عَلَى عُمُومِ النَّهْيِ، وَقَدْ نَقَلَ الشَّيْخُ الْمُوَفَّقُ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَحْرِيمِ اسْتِعْمَالِ أَوَانِي الذَّهَبِ، وَالْقَنَادِيلُ مِنَ الْأَوَانِي بِلَا شَكٍّ، وَاسْتِعْمَالُ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(تَنْبِيهٌ): قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: لَيْسَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ لِكِسْوَةِ الْكَعْبَةِ ذِكْرٌ، يَعْنِي فَلَا يُطَابِقُ التَّرْجَمَةَ. وَقَالَ ابنُ بَطَّالٍ:

ص: 457

مَعْنَى التَّرْجَمَةِ صَحِيحٌ، وَوَجْهُهَا أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الْمُلُوكَ فِي كُلِّ زَمَانٍ كَانُوا يَتَفَاخَرُونَ بِكِسْوَةِ الْكَعْبَةِ بِرَفِيعِ الثِّيَابِ الْمَنْسُوجَةِ بِالذَّهَبِ وَغَيْرِهِ كَمَا يَتَفَاخَرُونَ بِتَسْبِيلِ الْأَمْوَالِ لَهَا، فَأَرَادَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ عُمَرَ لَمَّا رَأَى قِسْمَةَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ صَوَابًا كَانَ حُكْمُ الْكِسْوَةِ حُكْمَ الْمَالِ تَجُوزُ قِسْمَتُهَا، بَلْ مَا فَضَلَ مِنْ كِسْوَتِهَا أَوْلَى بِالْقِسْمَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودَهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ كِسْوَةَ الْكَعْبَةِ مَشْرُوعٌ، وَالْحُجَّةُ فِيهِ أَنَّهَا لَمْ تَزَلْ تُقْصَدُ بِالْمَالِ يُوضَعُ فِيهَا عَلَى مَعْنَى الزِّينَةِ إِعْظَامًا لَهَا فَالْكِسْوَةُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ مَا فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ كَعَادَتِهِ، وَيَكُونُ هُنَاكَ طَرِيقٌ مُوَافِقَةً لِلتَّرْجَمَةِ، إِمَّا لِخَلَلِ شَرْطِهَا، وَإِمَّا لِتَبَحُّرِ النَّاظِرِ فِي ذَلِكَ، وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ: لَا أَخْرُجُ حَتَّى أَقْسِمَ مَالَ الْكَعْبَةِ، فَالْمَالُ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْكِسْوَةُ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ: لَيْسَ لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ. قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا - فَذَكَرَ نَحْوَ مَا قَالَ ابنُ بَطَّالٍ وَزَادَ - فَأَرَادَ التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّهُ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ، وأنْ رَأَى عُمَرُ جَوَازَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَصَالِحِ.

وَأَمَّا التَّرْكُ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ عَلَيْهِ شَيْبَةُ فَلَيْسَ صَرِيحًا فِي الْمَنْعِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ جَوَازُ قِسْمَةِ الْكِسْوَةِ الْعَتِيقَةِ، إِذْ فِي بَقَائِهَا تَعْرِيضٌ لِإِتْلَافِهَا، وَلَا جَمَالَ فِي كِسْوَةٍ عَتِيقَةٍ مَطْوِيَّةٍ، قَالَ: وَيُؤْخَذُ مِنْ رَأْيِ عُمَرَ أَنَّ صَرْفَ الْمَالِ فِي الْمَصَالِحِ آكَدُ مِنْ صَرْفِهِ فِي كِسْوَةِ الْكَعْبَةِ، لَكِنَّ الْكِسْوَةَ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ أَهَمُّ. قَالَ: وَاسْتِدْلَالُ ابْنِ بَطَّالٍ بِالتَّرْكِ عَلَى إِيجَابِ بَقَاءِ الْأَحْبَاسِ لَا يَتِمُّ إِلَّا إِنْ كَانَ الْقَصْدُ بِمَالِ الْكَعْبَةِ إِقَامَتَهَا وَحِفْظَ أُصُولِهَا إِذَا احْتِيجَ إِلَى ذَلِكَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ مِنْهُ مَنْفَعَةَ أَهْلِ الْكَعْبَةِ وَسَدَنَتِهَا أَوْ إِرْصَادَهُ لِمَصَالِحِ الْحَرَمِ أَوْ لِأَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَهُوَ تَحْبِيسٌ لَا نَظِيرَ لَهُ، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ. انْتَهَى. وَلَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ طَرِيقِ حَدِيثِ شَيْبَةَ هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْكِسْوَةِ، إِلَّا أَنَّ الْفَاكِهِيَّ رَوَى فِي كِتَابِ مَكَّةَ مِنْ طَرِيقِ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ عَنْ أُمِّهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ شَيْبَةُ الْحَجَبِيُّ، فَقَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ ثِيَابَ الْكَعْبَةِ تَجْتَمِعُ عِنْدنَا فَتَكْثُرُ، فَنَنْزِعُهَا وَنَحْفِرُ بِئَارًا فَنُعَمِّقُهَا وَنَدْفِنُهَا؛ لِكَيْلا تَلْبَسَهَا الْحَائِضُ وَالْجُنُبُ، قَالَتْ: بِئْسَمَا صَنَعْتَ، وَلَكِنْ بِعْهَا فَاجْعَلْ ثَمَنَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَفِي الْمَسَاكِينِ، فَإِنَّهَا إِذَا نُزِعَتْ عَنْهَا لَمْ يَضُرَّ مَنْ لَبِسَهَا مِنْ حَائِضٍ أَوْ جُنُبٍ، فَكَانَ شَيْبَةُ يَبْعَثُ بِهَا إِلَى الْيَمَنِ فَتُبَاعَ لَهُ فَيَضَعَهَا حَيْثُ أَمَرَتْهُ. وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، لَكِنْ فِي إِسْنَادِهِ رَاوٍ ضَعِيفٌ، وَإِسْنَادُ الْفَاكِهِيِّ سَالِمٌ مِنْهُ.

وَأَخْرَجَ الْفَاكِهِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ خَيْثَمٍ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي شَيْبَةَ، قَالَ: رَأَيْتُ شَيْبَةَ بْنَ عُثْمَانَ يَقْسِمُ مَا سَقَطَ مِنْ كِسْوَةِ الْكَعْبَةِ عَلَى الْمَسَاكِينِ. وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَنْزِعُ كِسْوَةَ الْبَيْتِ كُلَّ سَنَةٍ فَيَقْسِمُهَا عَلَى الْحَاجِّ. فَلَعَلَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.

(فَصْلٌ) فِي مَعْرِفَةِ بَدْءِ كِسْوَةِ الْبَيْتِ: رَوَى الْفَاكِهِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ مَعْقِلٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: زَعَمُوا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ سَبِّ أَسْعَدَ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ كَسَا الْبَيْتَ الْوَصَائِلَ. وَرَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا، أَخْرَجَهُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ فِي مُسْنَدِهِ عَنْهُ، وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عُمَرَ مَوْقُوفًا، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ تُبَّعًا أَوَّلُ مَنْ كَسَا الْكَعْبَةَ الْوَصَائِلَ فَسُتِرَتْ بِهَا. قَالَ: وَزَعَمَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا أَنَّ أَوَّلُ مَنْ كَسَا الْكَعْبَةَ إِسْمَاعِيلَ عليه السلام. وَحَكَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ عَنْ بَعْضِ عُلَمَائِهِمْ أَنَّ عَدْنَانَ أَوَّلُ مَنْ وَضَعَ أَنْصَابَ الْحَرَمِ، وَأَوَّلُ مَنْ كَسَا الْكَعْبَةَ، أَوْ كُسِيَتْ فِي زَمَنِهِ. وَحَكَى الْبَلَاذِرِيُّ أَنَّ أَوَّلُ مَنْ كَسَاهَا الْأَنْطَاعَ عَدْنَانَ بْنَ أُدٍّ. وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ أَيْضًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ قَالَ: كُسِيَ الْبَيْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْأَنْطَاعَ، ثُمَّ كَسَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الِثِيَابَ الْيَمَانِيَّةَ، ثُمَّ كَسَاهُ عُمَرُ، وَعُثْمَانُ الْقَبَاطِيَّ، ثُمَّ كَسَاهُ الْحَجَّاجُ الدِّيبَاجَ. وَرَوَى الْفَاكِهِيُّ

ص: 458

بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: لَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ أَتَتِ امْرَأَةٌ تُجَمِّرُ الْكَعْبَةَ فَاحْتَرَقَتْ ثِيَابُهَا وَكَانَتْ كِسْوَةَ الْمُشْرِكِينَ، فَكَسَاهَا الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ ذَلِكَ.

وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ حَسَنٍ، هُوَ ابْنُ صَالِحٍ، عَنْ لَيْثٍ هُوَ ابْنُ أَبِي سُلَيْمٍ، قَالَ: كَانَتْ كِسْوَةُ الْكَعْبَةِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمُسُوحَ وَالْأَنْطَاعَ. لَيْثٌ ضَعِيفٌ، وَالْحَدِيثُ مُعْضَلٌ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَجُوزٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَالَتْ: أُصِيبَ ابْنُ عَفَّانَ وَأَنَا بِنْتُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، قَالَتْ: وَلَقَدْ رَأَيْتُ الْبَيْتَ وَمَا عَلَيْهِ كِسْوَةٌ إِلَّا مَا يَكْسُوهُ النَّاسُ الْكِسَاءَ الْأَحْمَرَ يُطْرَحُ عَلَيْهِ وَالثَّوْبَ الْأَبْيَضَ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: بَلَغَنِي أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يُكْسَ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَلَا عُمَرَ، يَعْنِي لَمْ يُجَدَّدْ لَهُ كِسْوَةٌ. وَرَوَى الْفَاكِهِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَكْسُو بَدَنَهُ الْقَبَاطِيَّ وَالْحِبَرَاتِ يَوْمَ يُقَلِّدُهَا، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ نَزَعَهَا، ثُمَّ أَرْسَلَ بِهَا إِلَى شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ فَنَاطَهَا عَلَى الْكَعْبَةِ. زَادَ فِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ أَيْضًا. فَلَمَّا كَسَتِ الْأُمَرَاءُ الْكَعْبَةَ جَلَّلَهَا الْقَبَاطِيَّ، ثُمَّ تَصَدَّقَ بِهَا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ كَانَ مُطْلَقًا لِلنَّاسِ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ، عَنْ أُمِّهِ قَالَتْ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ: أَنَكْسُوَ الْكَعْبَةَ؟ قَالَتِ: الْأُمَرَاءُ يَكْفُونَكُمْ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ الْأَسْلَمِيِّ، هُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي يَحْيَى، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، أَنَّ أَوَّلَ مَنْ كَسَاهَا الدِّيبَاجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ. وَإِبْرَاهِيمُ ضَعِيفٌ.

وَتَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ زُبَالَةَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا، أَخْرَجَهُ الزُّبَيْرُ عَنْهُ، عَنْ هِشَامٍ، وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ قَالَ: كَسَاهَا يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الدِّيبَاجَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ أَبِي فَرْوَةَ ضَعِيفٌ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أُخْبِرْتُ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَكْسُوهَا الْقَبَاطِيَّ، وَأَخْبَرَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَسَاهَا الْقَبَاطِيَّ وَالْحِبَرَاتِ وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ. وَأَوَّلُ مَنْ كَسَاهَا الدِّيبَاجَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، وَأَنَّ مَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنَ الْفُقَهَاءِ قَالُوا: أَصَابَ، مَا نَعْلَمُ لَهَا مِنْ كِسْوَةٍ أَوْفَقَ مِنْهُ. وَرَوَى أَبُو عَرُوبَةَ فِي الْأَوَائِلُ لَهُ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ لَبَّسَ الْكَعْبَةَ الْقَبَاطِيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. وَرَوَى الْفَاكِهِيُّ فِي كِتَابِ مَكَّةَ مِنْ طَرِيقِ مِسْعَرٍ، عَنْ جَسْرَةَ قَالَ: أَصَابَ خَالِدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ لَطِيمَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِيهَا نَمَطٌ مِنْ دِيبَاجٍ، فَأَرْسَلَ بِهِ إِلَى الْكَعْبَةِ فَنِيطَ عَلَيْهَا، فَعَلَى هَذَا هُوَ أَوَّلُ مَنْ كَسَا الْكَعْبَةَ الدِّيبَاجَ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْمُؤْتَلِفِ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ كَسَا الْكَعْبَةَ الدِّيبَاجَ نَتِيلَةُ بِنْتُ جَنَابٍ وَالِدَةُ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ كَانَتْ أَضَلَّتِ الْعَبَّاسَ صَغِيرًا، فَنَذَرَتْ إِنْ وَجَدَتْهُ أَنْ تَكْسُوَ الْكَعْبَةَ الدِّيبَاجَ. وَذَكَرَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ أَنَّهَا أَضَلَّتِ ابْنَهَا ضِرَارَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ شَقِيقَ الْعَبَّاسِ، فَنَذَرَتْ إِنْ وَجَدَتْهُ أَنْ تَكْسُوَ الْبَيْتَ، فَرَدَّهُ عَلَيْهَا رَجُلٌ مِنْ جُذَامٍ، فَكَسَتِ الْكَعْبَةَ ثِيَابًا بِيضًا. وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى تَعَدُّدِ الْقِصَّةِ.

وَحَكَى الْأَزْرَقِيُّ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَسَاهَا الدِّيبَاجَ وَالْقَبَاطِيَّ وَالْحِبَرَاتِ، فَكَانَتْ تُكْسَى الدِّيبَاجَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَالْقَبَاطِيَّ فِي آخِرِ رَمَضَانَ، فَحَصَّلْنَا فِي أَوَّلِ مَنْ كَسَاهَا مُطْلَقًا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: إِسْمَاعِيلُ، وَعَدْنَانُ، وَتُبَّعٌ، وَهُوَ أَسْعَدُ الْمَذْكُورُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَسَاهَا الْأَنْطَاعَ وَالْوَصَائِلَ، لِأَنَّ الْأَزْرَقِيَّ حَكَى فِي كِتَابِ مَكَّةَ أَي تُبَّعًا أُرِيَ فِي الْمَنَامِ أَنْ يَكْسُوَ الْكَعْبَةَ، فَكَسَاهَا الْأَنْطَاعَ، ثُمَّ أُرِيَ أَنْ يَكْسُوَهَا فَكَسَاهَا الْوَصَائِلَ، وَهِيَ ثِيَابٌ حِبَرَةٌ مِنْ عَصَبِ الْيَمَنِ، ثُمَّ كَسَاهَا النَّاسُ بَعْدَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.

وَيُجْمَعُ بَيْنَ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ - إِنْ كَانَتْ ثَابِتَةً - بِأَنَّ إِسْمَاعِيلَ أَوَّلُ مَنْ كَسَاهَا مُطْلَقًا، وَأَمَّا تُبَّعٌ فَأَوَّلُ مَنْ كَسَاهَا مَا ذُكِرَ، وَأَمَّا عَدْنَانُ، فَلَعَلَّهُ أَوَّلُ مَنْ كَسَاهَا بَعْدَ إِسْمَاعِيلَ، وَسَيَأْتِي فِي أَوَائِلِ غَزْوَةِ الْفَتْحِ مَا يُشْعِرُ أَنَّهَا كَانَتْ تُكْسَى فِي رَمَضَانَ، وَحَصَّلْنَا فِي أَوَّلِ مَنْ كَسَاهَا الدِّيبَاجَ عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ: خَالِدٌ أَوْ نَتِيلَةُ أَوْ مُعَاوِيَةُ أَوْ يَزِيدُ أَوِ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَوِ الْحَجَّاجُ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهَا بِأَنَّ كِسْوَةَ خَالِدٍ وَنَتِيلَةَ لَمْ تَشْمَلْهَا كُلَّهَا، وَإِنَّمَا كَانَ فِيمَا كَسَاهَا شَيْءٌ مِنَ الدِّيبَاجِ، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ، فَلَعَلَّهُ كَسَاهَا فِي آخِرِ

ص: 459

خِلَافَتِهِ فَصَادَفَ ذَلِكَ خِلَافَةَ ابْنِهُ يَزِيدَ، وَأَمَّا ابْنُ الزُّبَيْرِ فَكَأَنَّهُ كَسَاهَا ذَلِكَ بَعْدَ تَجْدِيدِ عِمَارَتِهَا فَأَوَّلِيَّتُهُ بِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ، لَكِنْ لَمْ يُدَاوِمْ عَلَى كِسْوَتِهَا الدِّيبَاجَ، فَلَمَّا كَسَاهَا الْحَجَّاجُ بِأَمْرِ عَبْدِ الْمَلِكِ اسْتَمَرَّ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ دَاوَمَ عَلَى كِسْوَتِهَا الدِّيبَاجَ فِي كُلِّ سَنَةٍ. وَقَوْلُ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَوَّلُ مَنْ كَسَاهَا ذَلِكَ عَبْدُ الْمَلِكِ يُوَافِقُ الْقَوْلَ الْأَخِيرَ، فَإِنَّ الْحَجَّاجَ إِنَّمَا كَسَاهَا بِأَمْرِ عَبْدِ الْمَلِكِ. وَقَوْلُ ابْنِ إِسْحَاقَ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ لَمْ يَكْسِيَا الْكَعْبَةَ، فِيهِ نَظَرٌ، لِمَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَنْزِعُهَا كُلَّ سَنَةٍ، لَكِنْ يُعَارِضُ ذَلِكَ مَا حَكَاهُ الْفَاكِهِيُّ عَنْ بَعْضِ الْمَكِّيِّينَ: أَنَّ شَيْبَةَ بْنَ عُثْمَانَ اسْتَأْذَنَ مُعَاوِيَةَ فِي تَجْرِيدِ الْكَعْبَةِ فَأَذِنَ لَهُ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ جَرَّدَهَا مِنَ الْخُلَفَاءِ. وَكَانَتْ كِسْوَتُهَا قَبْلَ ذَلِكَ تُطْرَحُ عَلَيْهَا شَيْئًا فَوْقَ شَيْءٍ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ سُؤَالُ شَيْبَةَ، لِعَائِشَةَ أَنَّهَا تَجْتَمِعُ عِنْدَهُمْ فَتَكْثُرُ. وَذَكَرَ الْأَزْرَقِيُّ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ ظَاهَرَ الْكَعْبَةَ بَيْنَ كِسْوَتَيْنِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ. وَذَكَرَ الْفَاكِهِيُّ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ كَسَاهَا الدِّيبَاجَ الْأَبْيَضَ الْمَأْمُونُ بْنُ الرَّشِيدِ، وَاسْتَمَرَّ بَعْدَهُ. وَكُسِيَتْ فِي أَيَّامِ الْفَاطِمِيِّينَ الدِّيبَاجَ الْأَبْيَضَ. وَكَسَاهَا مُحَمَّدُ بْنُ سُبُكْتَكِينَ دِيبَاجًا أَصْفَرَ، وَكَسَاهَا النَّاصِرُ الْعَبَّاسِيُّ دِيبَاجًا أَخْضَرَ، ثُمَّ كَسَاهَا دِيبَاجًا أَسْوَدَ، فَاسْتَمَرَّ إِلَى الْآنَ. وَلَمْ تَزَلِ الْمُلُوكُ يَتَدَاوَلُونَ كِسْوَتَهَا إِلَى أَنْ وَقَفَ عَلَيْهَا الصَّالِحُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ النَّاصِرِ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةِ قَرْيَةً مِنْ نَوَاحِي الْقَاهِرَةِ يُقَالُ لَهَا: بَيْسُوسُ، كَانَ اشْتَرَى الثُّلُثَيْنِ مِنْهَا مِنْ وَكِيلِ بَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ وَقَفَهَا كُلَّهَا عَلَى هَذِهِ الْجِهَةِ فَاسْتَمَرَّ، وَلَمْ تَزَلْ تُكْسَى مِنْ هَذَا الْوَقْفِ إِلَى سَلْطَنَةِ الْمَلِكِ الْمُؤَيَّدِ شَيْخِ سُلْطَانِ الْعَصْرِ، فَكَسَاهَا مِنْ عِنْدِهِ سَنَةً لِضَعْفِ وَقْفِهَا، ثُمَّ فَوَّضَ أَمْرَهَا إِلَى بَعْضِ أُمَنَائِهِ، وَهُوَ الْقَاضِي زَيْنُ الدِّينِ عَبْدُ الْبَاسِطِ - بَسَطَ اللَّهُ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَعُمُرِهِ - فَبَالَغَ فِي تَحْسِينِهَا بِحَيْثُ يَعْجِزُ الْوَاصِفُ عَنْ صِفَةِ حُسْنِهَا، جَزَاهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ أَفْضَلَ الْمُجَازَاةِ.

وَحَاوَلَ مَلِكُ الشَّرْقِ شَاهْ روخ فِي سَلْطَنَةِ الْأَشْرَفِ بِرْسِبَاي أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي كِسْوَةِ الْكَعْبَةِ فَامْتَنَعَ، فَعَادَ رَاسِلُهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ أَنْ يَكْسُوَهَا مِنْ دَاخِلِهَا فَقَطْ فَأَبَى، فَعَادَ رَاسِلُهُ أَنْ يُرْسِلَ الْكِسْوَةَ إِلَيْهِ وَيُرْسِلَهَا إِلَى الْكَعْبَةِ وَيَكْسُوَهَا وَلَوْ يَوْمًا وَاحِدًا، وَاعْتَذَرَ بِأَنَّهُ نَذَرَ أَنْ يَكْسُوَهَا وَيُرِيدَ الْوَفَاءَ بِنَذْرِهِ، فَاسْتَفْتَى أَهْلَ الْعَصْرِ، فَتَوَقَّفْتُ عَنِ الْجَوَابِ، وَأَشَرْتُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ خُشِيَ مِنْهُ الْفِتْنَةُ فَيُجَابَ دَفْعًا لِلضَّرَرِ، وَتَسَرَّعَ جَمَاعَةٌ إِلَى عَدَمِ الْجَوَازِ، وَلَمْ يَسْتَنِدُوا إِلَى طَائِلٍ، بَلْ إِلَى مُوَافَقَةِ هَوَى السُّلْطَانِ، وَمَاتَ الْأَشْرَفُ عَلَى ذَلِكَ.

‌49 - بَاب هَدْمِ الْكَعْبَةِ

قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ فَيُخْسَفُ بِهِمْ

1595 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَخْنَسِ، حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كَأَنِّي بِهِ أَسْوَدَ أَفْحَجَ يَقْلَعُهَا حَجَرًا حَجَرًا.

1596 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنْ الْحَبَشَةِ"

قَوْلُهُ: (بَابُ هَدْمِ الْكَعْبَةِ) أَيْ فِي آخِرِ الزَّمَانِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَتْ عَائِشَةُ) فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ: قَالَتْ: بِحَذْفِ الْوَاوِ، وَهَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَائِلِ الْبُيُوعِ مِنْ طَرِيقِ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهَا بِلَفْظِ: يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الْأَرْضِ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ

ص: 460

هُنَاكَ، وَمُنَاسَبَتُهُ لِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ غَزْوَ الْكَعْبَةِ سَيَقَعُ، فَمَرَّةٌ يُهْلِكُهُمُ اللَّهُ قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَيْهَا وَأُخْرَى يُمَكِّنُهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ غَزْوَ الَّذِينَ يُخَرِّبُونَهُ مُتَأَخِّرٌ عَنِ الْأَوَّلَيْنِ.

قَوْلُهُ: (عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَخْنَسِ) بِمُعْجَمَةٍ وَنُونٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ، وَزْنُ الْأَحْمَرِ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بِالتَّصْغِيرِ كُوفِيٌّ، يُكَنَّى أَبَا مَالِكٍ.

قَوْلُهُ: (كَأَنِّي بِهِ) كَذَا فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ فِي الْحَدِيثِ شَيْئًا حُذِفَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ عِنْدَ أَبِي عُبَيْدٍ فِي غَرِيبُ الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: اسْتَكْثِرُوا مِنَ الطَّوَافِ بِهَذَا الْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ يُحَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ، فَكَأَنِّي بِرَجُلٍ مِنَ الْحَبَشَةِ أَصْلَعَ - أَوْ قَالَ: أَصْمَعَ - حَمْشِ السَّاقَيْنِ قَاعِدٍ عَلَيْهَا وَهِيَ تُهْدَمُ. وَرَوَاهُ الْفَاكِهِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَفْظُهُ: أَصْعَلَ بَدَلَ أَصْلَعَ، وَقَالَ: قَائِمًا عَلَيْهَا يَهْدِمُهَا بِمِسْحَاتِهِ. وَرَوَاهُ يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا.

قَوْلُهُ: (كَأَنِّي بِهِ أَسْوَدَ أَفْحَجَ) بِوَزْنِ أَفْعَلَ بِفَاءٍ، ثُمَّ حَاءٍ، ثُمَّ جِيمٍ، وَالْفَحَجُ تَبَاعُدُ مَا بَيْنَ السَّاقَيْنِ، قَالَ الطِّيبِيُّ وَفِي إِعْرَابِهِ أَوْجُهٌ: قِيلَ: هُوَ حَالٌ مِنْ خَبَرِ كَانَ، وَهُوَ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى الَّذِي أَشْبَهَ الْفِعْلَ، وَقِيلَ: هُمَا حَالَانِ مِنْ خَبَرِ كَانَ، وَذُو الْحَالِ إِمَّا الْمُسْتَقِرُّ الْمَرْفُوعُ أَوِ الْمَجْرُورُ، وَالثَّانِي أَشْبَهُ، أَوْ هُمَا بَدَلَانِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ يَلْزَمُ إِضْمَارٌ قَبْلَ الذِّكْرِ، وَهُوَ مُبْهَمٌ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ كَقَوْلِكَ رَأَيْتُهُ رَجُلًا، وَقِيلَ: هُمَا مَنْصُوبَانِ عَلَى التَّمْيِيزِ. وَقَوْلُهُ: حَجَرًا حَجَرًا حَالٌ كَقَوْلِكَ: بَوَّبْتُهُ بَابًا بَابًا، وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ أَصْلَعَ أَوْ أَصْعَلَ أَوْ أَصْمَعَ الْأَصْلَعُ مَنْ ذَهَبَ شَعْرُ مُقَدَّمِ رَأْسِهِ، وَالْأَصْعَلُ الصَّغِيرُ الرَّأْسِ، وَالْأَصْمَعُ الصَّغِيرُ الْأُذُنَيْنِ.

وَقَوْلُهُ: حَمْشِ السَّاقَيْنِ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَمِيمٍ سَاكِنَةٍ، ثُمَّ مُعْجَمَةٍ؛ أَيْ دَقِيقِ السَّاقَيْنِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ: ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ.

قَوْلُهُ: (يَقْلَعُهَا حَجَرًا حَجَرًا) زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَالْفَاكِهِيُّ فِي آخِرِهِ يَعْنِي الْكَعْبَةَ.

قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) كَذَا رَوَاهُ اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، وَتَابَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ، وَخَالَفَهُمَا ابْنُ الْمُبَارَكِ فَرَوَاهُ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فَقَالَ: عَنْ سُحَيْمٍ مَوْلَى بَنِي زُهْرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَوَاهُ الْفَاكِهِيُّ مِنْ طَرِيقِ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَيَكُونُ لِلزُّهْرِيِّ فِيهِ شَيْخَانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

قَوْلُهُ: (ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ) تَثْنِيَةُ سُوَيْقَةَ، وَهِيَ تَصْغِيرُ سَاقَ؛ أَيْ: لَهُ سَاقَانِ دَقِيقَانِ.

قَوْلُهُ: (مِنَ الْحَبَشَةِ) أَيْ: رَجُلٌ مِنَ الْحَبَشَةِ، وَوَقَعَ هَذَا الْحَدِيثُ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ سَمْعَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ، وَلَفْظُهُ يُبَايَعُ لِلرَّجُلِ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، وَلَنْ يَسْتَحِلَّ هَذَا الْبَيْتَ إِلَّا أَهْلُهُ، فَإِذَا اسْتَحَلُّوهُ فَلَا تَسْأَلْ عَنْ هَلَكَةِ الْعَرَبِ، ثُمَّ تَجِيءُ الْحَبَشَةُ فَيُخَرِّبُونَهُ خَرَابًا لَا يَعْمُرُ بَعْدَهُ أَبَدًا، وَهُمُ الَّذِينَ يَسْتَخْرِجُونَ كَنْزَهُ وَلِأَبِي قُرَّةَ فِي السُّنَنِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا لَا يَسْتَخْرِجُ كَنْزَ الْكَعْبَةِ إِلَّا ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الْحَبَشَةِ. وَنَحْوُهُ لِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَزَادَ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنْهُ: فَيَسْلُبُهَا حِلْيَتَهَا، وَيُجَرِّدُهَا مِنْ كِسْوَتِهَا، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ أُصَيْلِعَ أُفَيْدِعَ يَضْرِبُ عَلَيْهَا بِمِسْحَاتِهِ أَوْ بِمِعْوَلِهِ. وَلِلْفَاكِهِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ نَحْوُهُ، وَزَادَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: فَلَمَّا هَدَمَ ابْنُ الزُّبَيْرِ الْكَعْبَةَ جِئْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِ هَلْ أَرَى الصِّفَةَ الَّتِي قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، فَلَمْ أَرَهَا. قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ يُخَالِفُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} .

وَلِأَنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ، وَلَمْ يُمَكِّنْ أَصْحَابَهُ مِنْ تَخْرِيبِ الْكَعْبَةِ وَلَمْ تَكُنْ إِذْ ذَاكَ قِبْلَةً، فَكَيْفَ يُسَلِّطُ عَلَيْهَا الْحَبَشَةَ بَعْدَ أَنْ صَارَتْ قِبْلَةً لِلْمُسْلِمِينَ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ يَقَعُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قُرْبَ قِيَامِ السَّاعَةِ، حَيْثُ لَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ أَحَدٌ يَقُولُ: اللَّهُ اللَّهُ، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الْأَرْضِ: اللَّهُ اللَّهُ. وَلِهَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ سَمْعَانَ: لَا يَعْمُرُ بَعْدَهُ أَبَدًا. وَقَدْ وَقَعَ قَبْلَ ذَلِكَ فِيهِ مِنَ الْقِتَالِ

ص: 461

وَغَزْوِ أَهْلِ الشَّامِ لَهُ فِي زَمَنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ فِي وَقَائِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ أَعْظَمِهَا وَقْعَةُ الْقَرَامِطَةِ بَعْدَ الثَّلَاثِمِائَةِ، فَقَتَلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَطَافِ مَنْ لَا يُحْصَى كَثْرَةً، وَقَلَعُوا الْحَجَر الْأَسْوَدَ، فَحَوَّلُوهُ إِلَى بِلَادِهِمْ ثُمَّ أَعَادُوهُ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، ثُمَّ غُزِيَ مِرَارًا بَعْدَ ذَلِكَ، كُلُّ ذَلِكَ لَا يُعَارِضُ قَوْلَهُ تَعَالَى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا وَقَعَ بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: وَلَنْ يَسْتَحِلَّ هَذَا الْبَيْتَ إِلَّا أَهْلُهُ، فَوَقَعَ مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مِنْ عَلَامَاتِ نُبُوَّتِهِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِمْرَارِ الْأَمْنِ الْمَذْكُورِ فِيهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌50 - بَاب مَا ذُكِرَ فِي الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ

1597 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَابِسِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ جَاءَ إِلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَقَبَّلَهُ فَقَالَ: إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ

[الحديث 1597 - طرفاه في: 1605، 1610]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا ذُكِرَ فِي الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ عُمَرَ فِي تَقْبِيلِ الْحَجَرِ، وَقَوْلُهُ: لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ فِيهِ عَلَى شَرْطِهِ شَيْءٌ غَيْرُ ذَلِكَ، وَقَدْ وَرَدَتْ فِيهِ أَحَادِيثُ: مِنْهَا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَرْفُوعًا: إِنَّ الْحَجَرَ وَالْمَقَامَ يَاقُوتَتَانِ مِنْ يَاقُوتِ الْجَنَّةِ طَمَسَ اللَّهُ نُورَهَمَا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَضَاءَا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَفِي إِسْنَادِهِ رَجَاءٌ أَبُو يَحْيَى، وَهُوَ ضَعِيفٌ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَيُرْوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَوْقُوفًا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ وَقْفُهُ أَشْبَهُ، وَالَّذِي رَفَعَهُ لَيْسَ بِقَوِيٍّ. وَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: نَزَلَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ مِنَ الْجَنَّة وَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، فَسَوَّدَتْهُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَفِيهِ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ وَهُوَ صَدُوقٌ لَكِنَّهُ اخْتَلَطَ، وَجَرِيرٌ مِمَّنْ سَمِعَ مِنْهُ بَعْدَ اخْتِلَاطِهِ، لَكِنْ لَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى فِي صَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ فَيَقْوَى بِهَا، وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَطَاءٍ مُخْتَصَرًا، وَلَفْظُهُ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ مِنَ الْجَنَّةِ وَحَمَّادٌ مِمَّنْ سَمِعَ مِنْ عَطَاءٍ قَبْلَ الِاخْتِلَاطِ، وَفِي صَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ أَيْضًا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، أَنَّ لِهَذَا الْحَجَرِ لِسَانًا وَشَفَتَيْنِ يَشْهَدَانِ لِمَنِ اسْتَلَمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَقٍّ، وَصَحَّحَهُ أَيْضًا ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (عَنْ إِبْرَاهِيمَ) هُوَ ابْنُ يَزِيدَ النَّخَعِيُّ، وَقَدْ رَوَاهُ سُفْيَانُ، وَهُوَ الثَّوْرِيُّ بِإِسْنَادٍ آخَرَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ، عَنْ عُمَرَ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

قَوْلُهُ: (إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ) فِي رِوَايَةِ أَسْلَمَ الْآتِيَةِ بَعْدَ بَابٍ عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ، إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ.

قَوْلُهُ: (لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ) أَيْ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ عُمَرَ لَمَّا قَالَ هَذَا قَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: إِنَّهُ يَضُرُّ وَيَنْفَعُ، وَذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَخَذَ الْمَوَاثِيقَ عَلَى وَلَدِ آدَمَ كَتَبَ ذَلِكَ فِي رَقٍّ، وَأَلْقَمَهُ الْحَجَرَ، قَالَ: وَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَلَهُ لِسَانٌ ذَلْقٌ يَشْهَدُ لِمَنِ اسْتَلَمَهُ بِالتَّوْحِيدِ، وَفِي إِسْنَادِهِ أَبُو هَارُونَ الْعَبْدِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ عُمَرَ رَفَعَ قَوْلَهُ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ قَبَّلَ الْحَجَرَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: إِنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبَّلَكَ مَا قَبَّلْتُكَ. ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ.

قَالَ الطَّبَرِيُّ: إِنَّمَا قَالَ

ص: 462

ذَلِكَ عُمَرُ لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، فَخَشِيَ عُمَرُ أَنْ يَظُنَّ الْجُهَّالُ أَنَّ اسْتِلَامَ الْحَجَرِ مِنْ بَابِ تَعْظِيمِ بَعْضِ الْأَحْجَارِ كَمَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَرَادَ عُمَرُ أَنْ يُعَلِّمَ النَّاسَ أَنَّ اسْتِلَامَهُ اتِّبَاعٌ لِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَا لِأَنَّ الْحَجَرَ يَنْفَعُ وَيَضُرُّ بِذَاتِهِ كَمَا كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَعْتَقِدُهُ فِي الْأَوْثَانِ، وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: حَدِيثُ عُمَرَ هَذَا يَرُدُّ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ الْحَجَرَ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ يُصَافِحُ بِهَا عِبَادُهُ، وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ جَارِحَةٌ، وَإِنَّمَا شُرِعَ تَقْبِيلُهُ اخْتِيَارًا لِيُعْلَمَ بِالْمُشَاهَدَةِ طَاعَةُ مَنْ يُطِيعُ، وَذَلِكَ شَبِيهٌ بِقِصَّةِ إِبْلِيسَ حَيْثُ أُمِرَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَى أَنَّهُ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ أَنَّ مَنْ صَافَحَهُ فِي الْأَرْضِ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ، وَجَرَتِ الْعَادَةُ بِأَنَّ الْعَهْدَ يَعْقِدُهُ الْمَلِكُ بِالْمُصَافَحَةِ لِمَنْ يُرِيدُ مُوَالَاتَهُ وَالِاخْتِصَاصَ بِهِ، فَخَاطَبَهُمْ بِمَا يَعْهَدُونَهُ. وَقَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ مَلِكٍ إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِ الْوَافِدُ قَبَّلَ يَمِينَهُ، فَلَمَّا كَانَ الْحَاجُّ أَوَّلَ مَا يَقْدَمُ يُسَنُّ لَهُ تَقْبِيلُهُ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ يَمِينِ الْمَلِكِ، وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى.

وَفِي قَوْلِ عُمَرَ هَذَا التَّسْلِيمُ لِلشَّارِعِ فِي أُمُورِ الدِّينِ، وَحُسْنُ الِاتِّبَاعِ فِيمَا لَمْ يَكْشِفْ عَنْ مَعَانِيهَا، وَهُوَ قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ فِي اتِّبَاعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَفْعَلُهُ وَلَوْ لَمْ يَعْلَمِ الْحِكْمَةَ فِيهِ، وَفِيهِ دَفْعُ مَا وَقَعَ لِبَعْضِ الْجُهَّالِ مِنْ أَنَّ فِي الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ خَاصَّةً تَرْجِعُ إِلَى ذَاتِهِ، وَفِيهِ بَيَانُ السُّنَنِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَأَنَّ الْإِمَامَ إِذَا خَشِيَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ فِعْلِهِ فَسَادَ اعْتِقَادٍ أَنْ يُبَادِرَ إِلَى بَيَانِ الْأَمْرِ وَيُوَضِّحَ ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَى التَّقْبِيلِ وَالِاسْتِلَامِ بَعْدَ تِسْعَةِ أَبْوَابٍ. قَالَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ: فِيهِ كَرَاهَةُ تَقْبِيلِ مَا لَمْ يَرِدِ الشَّرْعُ بِتَقْبِيلِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: وَمَهْمَا قَبَّلَ مِنَ الْبَيْتِ فَحَسَنٌ، فَلَمْ يُرِدْ بِهِ الِاسْتِحْبَابَ، لِأَنَّ الْمُبَاحَ مِنْ جُمْلَةِ الْحَسَنِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ.

(تَكْمِيلٌ): اعْتَرَضَ بَعْضُ الْمُلْحِدِينَ عَلَى الْحَدِيثِ الْمَاضِي، فَقَالَ: كَيْفَ سَوَّدَتْهُ خَطَايَا الْمُشْرِكِينَ، وَلَمْ تُبَيِّضْهُ طَاعَاتُ أَهْلِ التَّوْحِيدِ؟ وَأُجِيبَ بِمَا قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَكَانَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ بِأَنَّ السَّوَادَ يَصْبُغُ، وَلَا يَنْصَبِغُ عَلَى الْعَكْسِ مِنَ الْبَيَاضِ. وَقَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: فِي بَقَائِهِ أَسْوَدَ عِبْرَةٌ لِمَنْ لَهُ بَصِيرَةٌ، فَإِنَّ الْخَطَايَا إِذَا أَثَّرَتْ فِي الْحَجَرِ الصَّلْدِ فَتَأْثِيرُهَا فِي الْقَلْبِ أَشَدُّ. قَالَ: وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا غَيَّرَهُ بِالسَّوَادِ لِئَلَّا يَنْظُرَ أَهْلُ الدُّنْيَا إِلَى زِينَةِ الْجَنَّةِ، فَإِنْ ثَبَتَ، فَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ. قُلْتُ: أَخْرَجَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي فَضَائِلِ مَكَّةَ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌51 - بَاب إِغْلَاقِ الْبَيْتِ، وَيُصَلِّي فِي أَيِّ نَوَاحِي الْبَيْتِ شَاءَ

1598 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْبَيْتَ هُوَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَبِلَالٌ، وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ فَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا فَتَحُوا كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ وَلَجَ فَلَقِيتُ بِلَالًا فَسَأَلْتُهُ: هَلْ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ، بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ

قَوْلُهُ: (بَابُ إِغْلَاقِ الْبَيْتِ، وَيُصَلِّي فِي أَيِّ نَوَاحِي الْبَيْتِ شَاءَ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ بِلَالٍ فِي صَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْكَعْبَةِ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يُغَايِرُ التَّرْجَمَةَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى التَّخْيِيرِ، وَالْفِعْلُ الْمَذْكُورُ يَدُلُّ عَلَى التَّعْيِينِ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ حَمَلَ صَلَاةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِعَيْنِهِ عَلَى سَبِيلِ الِاتِّفَاقِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْقَصْدِ لِزِيَادَةِ فَضْلٍ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ عَلَى غَيْرِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ لَيْسَ حَتْمًا، وَإِنْ كَانَتِ الصَّلَاةُ فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ الَّتِي اخْتَارَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهَا، وَيُؤَيِّدُهُ مَا سَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ مِنْ تَصْرِيحِ ابْنِ عُمَرَ بِنَصِّ التَّرْجَمَةِ مَعَ كَوْنِهِ كَانَ يَقْصِدُ الْمَكَانَ الَّذِي صَلَّى فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِيُصَلِّيَ فِيهِ لِفَضْلِهِ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى الْحِكْمَةِ فِي إِغْلَاقِ الْبَابِ حِينَئِذٍ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ دَعْوَى ابْنِ بَطَّالٍ الْحِكْمَةَ فِيهِ لِئَلَّا يَظُنَّ النَّاسُ أَنَّ ذَلِكَ سُنَّةٌ، وَهُوَ مَعَ ضَعْفِهِ

ص: 463

مُنْتَقَضٌ بِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ إِخْفَاءَ ذَلِكَ مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ بِلَالٌ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ، وَإِثْبَاتُ الْحُكْمِ بِذَلِكَ يَكْفِي فِيهِ فِعْلُ الْوَاحِدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ هَذَا فِي بَابِ الْغَلْقِ لِلْكَعْبَةِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَظَاهِرُ التَّرْجَمَةِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِلصَّلَاةِ فِي جَمِيعِ الْجَوَانِبِ إِغْلَاقُ الْبَابِ لِيَصِيرَ مُسْتَقْبِلًا فِي حَالِ الصَّلَاةِ غَيْرَ الْفَضَاءِ، وَالْمَحْكِيُّ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ الْجَوَازُ مُطْلَقًا، وَعَنِ الشَّافِعِيَّةِ وَجْهٌ مِثْلُهُ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ لِلْبَابِ عَتَبَةٌ بِأَيِّ قَدْرٍ كَانَتْ، وَوَجْهٌ يَشْتَرِطُ أَنْ يَكُونَ قَدْرَ قَامَةِ الْمُصَلِّي، وَوَجْهٌ يَشْتَرِطُ أَنْ يَكُونَ قَدْرَ مُؤَخَّرِ الرِّجْلِ، وَهُوَ الْمُصَحَّحُ عِنْدَهُمْ، وَفِي الصَّلَاةِ فَوْقَ ظَهْرِ الْكَعْبَةِ نَظِيرُ هَذَا الْخِلَافِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ الشَّارِحِينَ إِنَّ قَوْلَهُ: وَيُصَلِّي فِي أَيِّ نَوَاحِي الْبَيْتِ شَاءَ. يُعَكِّرُ عَلَى الشَّافِعِيَّةِ فِيمَا إِذَا كَانَ الْبَيْتُ مَفْتُوحًا فَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ جَعَلَهُ حَيْثُ يُغْلَقُ الْبَابُ، وَبَعْدَ الْغَلْقِ لَا تَوَقُّفَ عِنْدَهُمْ فِي الصِّحَّةِ.

قَوْلُهُ: (دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْبَيْتَ) كَانَ ذَلِكَ فِي عَامِ الْفَتْحِ كَمَا وَقَعَ مُبَيَّنًا مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ نَافِعٍ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ بِزِيَادَةِ فَوَائِدَ، وَلَفْظُهُ: أَقْبَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفَتْحِ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ عَلَى رَاحِلَتِهِ. وَفِي رِوَايَةِ فُلَيْحٍ، عَنْ نَافِعٍ الْآتِيَةِ فِي الْمَغَازِي: وَهُوَ مُرْدِفٌ أُسَامَةَ - يَعْنِي ابْنَ زَيْدٍ - عَلَى الْقَصْوَاءِ، ثُمَّ اتَّفَقَا وَمَعَهُ بِلَالٌ، وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ حَتَّى أَنَاخَ فِي الْمَسْجِدِ. وَفِي رِوَايَةِ فُلَيْحٍ: عِنْدَ الْبَيْتِ، وَقَالَ لِعُثْمَانَ ائْتِنَا بِالْمِفْتَاحِ، فَجَاءَهُ بِالْمِفْتَاحِ فَفَتْحَ لَهُ الْبَابَ فَدَخَلَ. وَلِمُسْلِمٍ، وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ مِنْ رِوَايَةِ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ: ثُمَّ دَعَا عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ بِالْمِفْتَاحِ، فَذَهَبَ إِلَى أُمِّهِ، فَأَبَتْ أَنْ تُعْطِيَهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَتُعْطِينِهِ أَوْ لَأُخْرِجَنَّ هَذَا السَّيْفَ مِنْ صُلْبِي، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ أَعْطَتْهُ، فَجَاءَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَفَتَحَ الْبَابَ فَظَهَرَ مِنْ رِوَايَةِ فُلَيْحٍ أَنَّ فَاعِلَ فَتَحَ هُوَ عُثْمَانُ الْمَذْكُورُ، لَكِنْ رَوَى الْفَاكِهِيُّ - مِنْ طَرِيقٍ ضَعِيفَةٍ - عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ بَنُو أَبِي طَلْحَةَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ فَتْحَ الْكَعْبَةِ غَيْرَهُمْ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمِفْتَاحَ فَفَتَحَهَا بِيَدِهِ.

وَعُثْمَانُ الْمَذْكُورُ هُوَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ، وَيُقَالُ لَهُ: الْحَجَبِيُّ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْجِيمِ، وَلِآلِ بَيْتِهِ الْحَجَبَةُ لِحَجْبِهِمُ الْكَعْبَةَ، وَيُعْرَفُونَ الْآنَ بِالشَّيْبِيِّينَ نِسْبَةً إِلَى شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ عُثْمَانَ هَذَا لَا وَلَدُهُ، وَلَهُ أَيْضًا صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ، وَاسْمُ أُمِّ عُثْمَانَ الْمَذْكُورَةِ سُلَافَةُ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَالتَّخْفِيفِ وَالْفَاءِ.

قَوْلُهُ: (هُوَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَبِلَالٌ، وَعُثْمَانُ) زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى: وَلَمْ يَدْخُلْهَا مَعَهُمْ أَحَدٌ وَوَقَعَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ: وَمَعَهُ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ، وَأُسَامَةُ، وَبِلَالٌ، وَعُثْمَانُ. زَادَ الْفَضْلَ. وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: حَدَّثَنِي أَخِي الْفَضْلُ - وَكَانَ مَعَهُ حِينَ دَخَلَهَا - أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ فِي الْكَعْبَةِ. وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ بَعْدَ بَابَيْنِ.

قَوْلُهُ: (فَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ) زَادَ فِي رِوَايَةِ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ نَافِعٍ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ: مِنْ دَاخِلٍ وَزَادَ يُونُسُ: فَمَكَثَ نَهَارًا طَوِيلًا. وَفِي رِوَايَةِ فُلَيْحٍ: زَمَانًا بَدَلَ نَهَارًا، وَفِي رِوَايَةِ جُوَيْرِيَةَ، عَنْ نَافِعٍ الَّتِي مَضَتْ فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ: فَأَطَالَ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ: فَمَكَثَ فِيهَا مَلِيًّا. وَلَهُ مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ: فَأَجَافُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ طَوِيلًا. وَمِنْ رِوَايَةِ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ: فَمَكَثَ فِيهَا سَاعَةً. وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ: فَوَجَدْتُ شَيْئًا فَذَهَبْتُ ثُمَّ جِئْتُ سَرِيعًا، فَوَجَدْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَارِجًا مِنْهَا. وَوَقَعَ فِي الْمُوَطَّأِ بِلَفْظِ: فَأَغْلَقَاهَا عَلَيْهِ. وَالضَّمِيرُ لِعُثْمَانَ، وَبِلَالٍ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ: فَأَجَافَ عَلَيْهِمْ عُثْمَانُ الْبَابَ. وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ عُثْمَانَ هُوَ الْمُبَاشِرُ لِذَلِكَ، لِأَنَّهُ مِنْ وَظِيفَتِهِ، وَلَعَلَّ بِلَالًا سَاعَدَهُ فِي ذَلِكَ. وَرِوَايَةُ الْجَمْعِ يَدْخُلُ فِيهَا الْآمِرُ بِذَلِكَ وَالرَّاضِي بِهِ.

قَوْلُهُ: (فَلَمَّا فَتَحُوا كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ وَلَجَ) فِي رِوَايَةِ فُلَيْحٍ: ثُمَّ خَرَجَ فَابْتَدَرَ النَّاسُ الدُّخُولَ فَسَبَقْتُهُمْ. وَفِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ: وَكُنْتُ رَجُلًا شَابًّا قَوِيًّا فَبَادَرْتُ النَّاسَ فَبَدَرْتُهُمْ. وَفِي رِوَايَةِ جُوَيْرِيَةَ: كُنْتُ أَوَّلَ النَّاسِ وَلَجَ عَلَى أَثَرِهِ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَوْنٍ: فَرَقِيتُ الدَّرَجَةَ

ص: 464

فَدَخَلْتُ الْبَيْتَ. وَفِي رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ الْمَاضِيَةِ فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: وَأَجِدُ بِلَالًا قَائِمًا بَيْنَ الْبَابَيْنِ. وَأَفَادَ الْأَزْرَقِيُّ فِي كِتَابِ مَكَّةَ أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ كَانَ عَلَى الْبَابِ يَذُبُّ عَنْهُ النَّاسَ، وَكَأَنَّهُ جَاءَ بَعْدَ مَا دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَغْلَقَ.

قَوْلُهُ: (فَلَقِيتُ بِلَالًا فَسَأَلْتُهُ) زَادَ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ الْمَاضِيَةِ فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ: مَا صَنَعَ؟. وَفِي رِوَايَةِ جُوَيْرِيَةَ، وَيُونُسَ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِ نَافِعٍ: فَسَأَلْتُ بِلَالًا أَيْنَ صَلَّى؟. اخْتَصَرُوا أَوَّلَ السُّؤَالِ، وَثَبَتَ فِي رِوَايَةِ سَالِمٍ هَذِهِ حَيْثُ قَالَ: هَلْ صَلَّى فِيهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَكَذَا فِي رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ، وَابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: فَقُلْتُ: أَصَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْكَعْبَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ فَظَهَرَ أَنَّهُ اسْتَثْبَتَ أَوَّلًا، هَلْ صَلَّى أَمْ لَا، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ مَوْضِعِ صَلَاتِهِ مِنَ الْبَيْتِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَأَخْبَرَنِي بِلَالٌ أَوْ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ وَالْمَحْفُوظُ أَنَّهُ سَأَلَ بِلَالًا كَمَا فِي رِوَايَةِ الْجُمْهُورِ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ سَأَلَ بِلَالًا، وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ حِينَ خَرَجَا: أَيْنَ صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ؟ فَقَالَا عَلَى جِهَتِهِ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ نَحْوَهُ، وَلِأَحْمَدَ، وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ أَنَّهُ صَلَّى فِيهِ هَهُنَا. وَلِمُسْلِمٍ، وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: فَقُلْتُ: أَيْنَ صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالُوا. . . . فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ ابْتَدَأَ بِلَالًا بِالسُّؤَالِ كَمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ، ثُمَّ أَرَادَ زِيَادَةَ الِاسْتِثْبَاتِ فِي مَكَانِ الصَّلَاةِ، فَسَأَلَ عُثْمَانَ أَيْضًا وَأُسَامَةَ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَوْنٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: وَنَسِيتُ أَنْ أَسْأَلَهُمْ كَمْ صَلَّى.

بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ جَزْمِ عِيَاضٍ بِوَهْمِ الرِّوَايَةِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا مِنْ عِنْدِ مُسْلِمٍ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَقِفْ عَلَى بَقِيَّةِ الرِّوَايَاتِ، وَلَا يُعَارِضُ قِصَّتَهُ مَعَ قِصَّةِ أُسَامَةَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُصَلِّ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ كَبَّرَ فِي نَوَاحِيهِ. فَإِنَّهُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ أُسَامَةَ حَيْثُ أَثْبَتَهَا اعْتَمَدَ فِي ذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِ، وَحَيْثُ نَفَاهَا أَرَادَ مَا فِي عِلْمِهِ لِكَوْنِهِ لَمْ يَرَهُ صلى الله عليه وسلم حِينَ صَلَّى. وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَسْطٍ فِيهِ بَعْدَ بَابَيْنِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ) فِي رِوَايَةِ جُوَيْرِيَةَ: بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْمُقَدَّمَيْنِ. وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ: جَعَلَ عَمُودًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: عَمُودَيْنِ عَنْ يَمِينِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي بَابِ الصَّلَاةِ بَيْنَ السَّوَارِي بِمَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَتِهِ، لَكِنْ نَذْكُرُ هُنَا مَا لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهُ: فَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ فُلَيْحٍ الْآتِيَةِ فِي الْمَغَازِي: بَيْنَ ذَيْنِكَ الْعَمُودَيْنِ الْمُقَدَّمَيْنِ، وَكَانَ الْبَيْتُ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ سَطْرَيْنِ، صَلَّى بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ مِنَ السَّطْرِ الْمُقَدَّمِ، وَجَعَلَ بَابَ الْبَيْتِ خَلْفَ ظَهْرِهِ. وَقَالَ فِي آخِرِ رِوَايَتِهِ: وَعِنْدَ الْمَكَانِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ مَرْمَرَةٌ حَمْرَاءُ. وَكُلُّ هَذَا إِخْبَارٌ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ الْبَيْتُ قَبْلَ أَنْ يُهْدَمَ وَيُبْنَى فِي زَمَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَأَمَّا الْآنَ فَقَدْ بَيَّنَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ نَافِعٍ كَمَا فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ أَنَّ بَيْنَ مَوْقِفِهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ الْجِدَارِ الَّذِي اسْتَقْبَلَهُ قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ، وَجَزَمَ بِرَفْعِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ فِيمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِنِ مَهْدِيٍّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْغَرَائِبِ مِنْ طَرِيقِهِ وَطَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ وَغَيْرِهِمَا عَنْهُ وَلَفْظُهُ: وَصَلَّى وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ ثَلَاثَةُ أَذْرُعٍ. وَكَذَا أَخْرَجَهَا أَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ نَافِعٍ، وَهَذَا فِيهِ الْجَزْمُ بِثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ، لَكِنْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ بِلَفْظِ: نَحْوٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ. وَهِيَ مُوَافِقَةٌ لِرِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ.

وَفِي كِتَابِ مَكَّةَ لِلْأَزْرَقِيِّ، وَالْفَاكِهِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ: أَيْنَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: اجْعَلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْجِدَارِ ذِرَاعَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً. فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي لِمَنْ أَرَادَ الِاتِّبَاعَ فِي ذَلِكَ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ ثَلَاثَةَ أَذْرُعٍ، فَإِنَّهُ تَقَعُ قَدَمَاهُ فِي مَكَانِ قَدَمَيْهِ صلى الله عليه وسلم إِنْ كَانَتْ ثَلَاثَةَ أَذْرُعٍ سَوَاءً، وَتَقَعُ رُكْبَتَاهُ أَوْ يَدَاهُ وَوَجْهُهُ إِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا مِقْدَارُ صَلَاتِهِ

ص: 465

حِينَئِذٍ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ، وَأَشَرْتُ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَبَيْنَ رِوَايَةِ مَنْ رَوَى عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: نَسِيتُ أَنْ أَسْأَلَهُ كَمْ صَلَّى، وَإِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ رِوَايَةَ مُجَاهِدٍ غَلَطٌ بِمَا فِيهِ مَقْنَعٌ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ: رِوَايَةُ الصَّاحِبِ عَنِ الصَّاحِبِ، وَسُؤَالُ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْأَفْضَلِ وَالِاكْتِفَاءِ بِهِ، وَالْحُجَّةُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَلَا يُقَالُ: هُوَ أَيْضًا خَبَرٌ وَاحدٌ، فَكَيْفَ يُحْتَجُّ لِلشَّيْءِ بِنَفْسِهِ؟ لِأَنَّا نَقُولُ: هُوَ فَرْدٌ يَنْضَمُّ إِلَى نَظَائِرَ مِثْلِهِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِذَلِكَ، وَفِيهِ اخْتِصَاصُ السَّابِقِ بِالْبُقْعَةِ الْفَاضِلَةِ، وَفِيهِ السُّؤَالُ عَنِ الْعِلْمِ وَالْحِرْصِ فِيهِ، وَفَضِيلَةُ ابْنِ عُمَرَ لِشِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى تَتَبُّعِ آثَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِيَعْمَلَ بِهَا، وَفِيهِ أَنَّ الْفَاضِلَ مِنَ الصَّحَابَةِ قَدْ كَانَ يَغِيبُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ الْمَشَاهِدِ الْفَاضِلَةِ، وَيَحْضُرُهُ مَنْ هُوَ دُونَهُ فَيَطَّلِعَ عَلَى مَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ، لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ وَغَيْرَهُمَا مِمَّنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ بِلَالٍ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ لَمْ يُشَارِكُوهُمْ فِي ذَلِكَ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِيمَا مَضَى عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ إِلَى الْمَقَامِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وَعَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ بَيْنَ السَّوَارِي فِي غَيْرِ الْجَمَاعَةِ، وَعَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْأَبْوَابِ وَالْغَلْقِ لِلْمَسَاجِدِ، وَفِيهِ أَنَّ السُّتْرَةَ إِنَّمَا تُشْرَعُ حَيْثُ يُخْشَى الْمُرُورُ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ وَلَمْ يُصَلِّ إِلَى أَحَدِهِمَا، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ لِلِاكْتِفَاءِ بِالْقُرْبِ مِنَ الْجِدَارِ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ مُصَلَّاهُ وَالْجِدَارِ نَحْوُ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ، وَبِذَلِكَ تَرْجَمَ لَهُ النَّسَائِيُّ عَلَى أَنَّ حَدَّ الدُّنُوِّ مِنَ السُّتْرَةِ أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَهُمَا أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ قَوْلَ الْعُلَمَاءِ: تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ

الطَّوَافُ مَخْصُوصٌ بِغَيْرِ دَاخِلِ الْكَعْبَةِ لِكَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَ فَأَنَاخَ عِنْدَ الْبَيْتِ فَدَخَلَهُ، فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، فَكَانَتْ تِلْكَ الصَّلَاةُ إِمَّا لِكَوْنِ الْكَعْبَةِ كَالْمَسْجِدِ الْمُسْتَقِلِّ أَوْ هُوَ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ الْعَامِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ دُخُولِ الْكَعْبَةِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا مَنْ دَخَلَ الْبَيْتَ دَخَلَ فِي حَسَنَةٍ وَخَرَجَ مَغْفُورًا لَهُ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُؤَمِّلِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَمَحَلُّ اسْتِحْبَابِهِ مَا لَمْ يُؤْذِ أَحَدًا بِدُخُولِهِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ دُخُولَ الْبَيْتِ لَيْسَ مِنَ الْحَجِّ فِي شَيْءٍ، وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ دُخُولَ الْبَيْتِ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ، وَرَدَّهُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا دَخَلَهُ عَامَ الْفَتْحِ وَلَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ مُحْرِمًا، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ هُوَ وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مِنْ عِنْدَهَا وَهُوَ قَرِيرُ الْعَيْنِ، ثُمَّ رَجَعَ وَهُوَ كَئِيبٌ، فَقَالَ: دَخَلْتُ الْكَعْبَةَ فَأَخَافُ أَنْ أَكُونَ شَقَقْتُ عَلَى أُمَّتِي.

فَقَدْ يُتَمَسَّكُ بِهِ لِصَاحِبِ هَذَا الْقَوْلِ الْمَحْكِيِّ لِكَوْنِ عَائِشَةَ لَمْ تَكُنْ مَعَهُ فِي الْفَتْحِ وَلَا فِي عُمْرَتِهِ، بَلْ سَيَأْتِي بَعْدَ بَابَيْنِ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْكَعْبَةِ فِي عُمْرَتِهِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْقِصَّةَ كَانَتْ فِي حَجَّتِهِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ الْبَيْهَقِيُّ، وَإِنَّمَا لَمْ يَدْخُلْ فِي عُمْرَتِهِ لِمَا كَانَ فِي الْبَيْتِ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالصُّوَرِ كَمَا سَيَأْتِي، وَكَانَ إِذْ ذَاكَ لَا يُتَمَكَّنُ مِنْ إِزَالَتِهَا، بِخِلَافِ عَامِ الْفَتْحِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ رُجُوعِهِ، فَلَيْسَ فِي السِّيَاقِ مَا يَمْنَعُ ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي النَّقْلُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلِ الْكَعْبَةَ فِي حَجَّتِهِ. وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الصَّلَاةِ فِي الْكَعْبَةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي النَّفْلِ، وَيَلْتَحِقُ بِهِ الْفَرْضُ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِقْبَالِ لِلْمُقِيمِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا تَصِحُّ الصَّلَاةَ دَاخِلَهَا مُطْلَقًا، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ اسْتِدْبَارُ بَعْضِهَا، وَقَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِاسْتِقْبَالِهَا فَيُحْمَلُ عَلَى اسْتِقْبَالِ جَمِيعِهَا، وَقَالَ بِهِ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَالظَّاهِرِيَّةِ وَالطَّبَرِيِّ، وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ مَنْعُ صَلَاةِ الْفَرْضِ دَاخِلَهَا، وَوُجُوبُ الْإِعَادَةِ، وَعَنِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ الْإِجْزَاءُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَابْنُ الْعَرَبِيِّ.

وَعَنِ ابْنِ حَبِيبٍ يُعِيدُ أَبَدًا، وَعَنْ أَصْبَغَ إِنْ كَانَ مُتَعَمِّدًا، وَأَطْلَقَ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ مَالِكٍ جَوَازَ النَّوَافِلِ، وَقَيَّدَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ بِغَيْرِ الرَّوَاتِبِ، وَمَا تُشَرَعُ فِيهِ الْجَمَاعَةُ، وَفِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ لِابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ: كَرِهَ مَالِكٌ الْفَرْضَ

ص: 466

أَوْ مَنَعَهُ، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى اخْتِلَافِ النَّقْلِ عَنْهُ فِي ذَلِكَ، وَيَلْتَحِقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الصَّلَاةُ فِي الْحِجْرِ. وَيَأْتِي فِيهَا الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ فِي الصَّلَاةِ إِلَى جِهَةِ الْبَابِ، نَعَمْ إِذَا اسْتَدْبَرَ الْكَعْبَةَ وَاسْتَقْبَلَ الْحِجْرَ لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ تِلْكَ الْجِهَةِ مِنْهُ لَيْسَتْ مِنَ الْكَعْبَةِ، وَمِنَ الْمُشْكِلِ مَا نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ فِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ عَنِ الْأَصْحَابِ أَنَّ صَلَاةَ الْفَرْضِ دَاخِلَ الْكَعْبَةِ - إِنْ لَمْ يَرْجُ جَمَاعَةٌ - أَفْضَلُ مِنْهَا خَارِجَهَا، وَوَجْهُ الْإِشْكَالِ أَنَّ الصَّلَاةَ خَارِجَهَا مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ بِخِلَافِ دَاخِلِهَا، فَكَيْفَ يَكُونُ الْمُخْتَلَفُ فِي صِحَّتِهِ أَفْضَلَ مِنَ الْمُتَّفَقِ.

‌52 - بَاب الصَّلَاةِ فِي الْكَعْبَةِ

1599 -

حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ الْكَعْبَةَ مَشَى قِبَلَ الْوَجْهِ حِينَ يَدْخُلُ وَيَجْعَلُ الْبَابَ قِبَلَ الظَّهْرِ يَمْشِي حَتَّى يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ الَّذِي قِبَلَ وَجْهِهِ قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثِ أَذْرُعٍ فَيُصَلِّي، يَتَوَخَّى الْمَكَانَ الَّذِي أَخْبَرَهُ بِلَالٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِيهِ وَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَأْسٌ أَنْ يُصَلِّيَ فِي أَيِّ نَوَاحِي الْبَيْتِ شَاءَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّلَاةِ فِي الْكَعْبَةِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ.

قَوْلُهُ: (قِبَلَ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ؛ أَيْ مُقَابِلَ.

قَوْلُهُ: (يَتَوَخَّى) بِتَشْدِيدِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ؛ أَيْ يَقْصِدُ.

قَوْلُهُ: (وَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَأْسٌ. . . إِلَخْ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عُمَرَ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ غَيْرِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ فِي بَابِ الصَّلَاةِ بَيْنَ السَّوَارِي.

‌53 - بَاب مَنْ لَمْ يَدْخُلْ الْكَعْبَةَ

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَحُجُّ كَثِيرًا وَلَا يَدْخُلُ

1600 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ وَمَعَهُ مَنْ يَسْتُرُهُ مِنْ النَّاسِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْكَعْبَةَ؟ قَالَ: لَا.

[الحديث 1600 - أطرافه في: 1791، 4188، 4255]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ لَمْ يَدْخُلِ الْكَعْبَةَ) كَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ دُخُولَهَا مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ قَبْلُ بِبَابٍ، وَاقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِفِعْلِ ابْنِ عُمَرَ لِأَنَّهُ أَشْهَرُ مَنْ رَوَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دُخُولَ الْكَعْبَةِ، فَلَوْ كَانَ دُخُولُهَا عِنْدَهُ مِنَ الْمَنَاسِكِ لَمَا أَخَلَّ بِهِ مَعَ كَثْرَةِ اتِّبَاعِهِ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ. . . إِلَخْ) وَصَلَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيِّ فِي جَامِعِهِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْوَلِيدِ الْعَدَنَيِّ عَنْهُ، عَنْ حَنْظَلَةَ، عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَحُجُّ كَثِيرًا، وَلَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ. وَأَخْرَجَهُ الْفَاكِهِيُّ فِي كِتَابِ مَكَّةَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.

قَوْلُهُ: (خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ الطَّحَّانُ الْبَصْرِيُّ، وَهَذَا الْإِسْنَادُ نِصْفُهُ بَصْرِيٌّ وَنِصْفُهُ كُوفِيٌّ.

قَوْلُهُ: (اعْتَمَرَ) أَيْ فِي سَنَةِ سَبْعٍ، عَامَ الْقَضِيَّةِ.

قَوْلُهُ: (أَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْكَعْبَةَ؟) الْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ، أَيْ فِي تِلْكَ الْعُمْرَةِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ: لَا) قَالَ النَّوَوِيُّ:

ص: 467

قَالَ الْعُلَمَاءُ: سَبَبُ تَرْكِ دُخُولِهِ؛ مَا كَانَ فِي الْبَيْتِ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالصُّوَرِ، وَلَمْ يَكُنِ الْمُشْرِكُونَ يَتْرُكُونَهُ لِيُغَيِّرَهَا، فَلَمَّا كَانَ فِي الْفَتْحِ أمر بِإِزَالَةِ الصُّوَرِ ثُمَّ دَخَلَهَا، يَعْنِي كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي بَعْدَهُ. انْتَهَى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ دُخُولُ الْبَيْتِ لَمْ يَقَعْ فِي الشَّرْطِ، فَلَوْ أَرَادَ دُخُولَهُ لَمَنَعُوهُ مِنَ الْإِقَامَةِ بِمَكَّةَ زِيَادَةً عَلَى الثَّلَاثِ، فَلَمْ يَقْصِدْ دُخُولَهُ لِئَلَّا يَمْنَعُوهُ. وَفِي السِّيرَةِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ دَخَلَهَا قَبْلَ الْهِجْرَةِ، فَأَزَالَ شَيْئًا مِنَ الْأَصْنَامِ، وَفِي الطَّبَقَاتِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ نَحْوُ ذَلِكَ، فَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ لَمْ يُشْكِلْ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الدُّخُولَ كَانَ لِإِزَالَةِ شَيْءٍ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ لَا لِقَصْدِ الْعِبَادَةِ، وَالْإِزَالَةُ فِي الْهُدْنَةِ كَانَتْ غَيْرَ مُمْكِنَةٍ بِخِلَافِ يَوْمِ الْفَتْحِ. (تَنْبِيهٌ): اسْتَدَلَّ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْكَعْبَةَ فِي حَجَّتِهِ، وَفِي فَتْحِ مَكَّةَ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ كَوْنِهِ دَخَلَهَا فِي عُمْرَتِهِ أَنَّهُ دَخَلَهَا فِي جَمِيعِ أَسْفَارِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌54 - بَاب مَنْ كَبَّرَ فِي نَوَاحِي الْكَعْبَةِ

1601 -

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَدِمَ أَبَى أَنْ يَدْخُلَ الْبَيْتَ وَفِيهِ الْآلِهَةُ، فَأَمَرَ بِهَا فَأُخْرِجَتْ، فَأَخْرَجُوا صُورَةَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ ف ي أَيْدِيهِمَا الْأَزْلَامُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَمَا وَاللَّهِ قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمَا لَمْ يَسْتَقْسِمَا بِهَا قَطُّ فَدَخَلَ الْبَيْتَ فَكَبَّرَ فِي نَوَاحِيهِ وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ كَبَّرَ فِي نَوَاحِي الْكَعْبَةِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَبَّرَ فِي الْبَيْتِ وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ، وَصَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ، وَاحْتَجَّ بِهِ مَعَ كَوْنِهِ يَرَى تَقْدِيمَ حَدِيثِ بِلَالٍ فِي إِثْبَاتِهِ الصَّلَاةَ فِيهِ عَلَيْهِ، وَلَا مُعَارَضَةَ فِي ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى التَّرْجَمَةِ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَثْبَتَ التَّكْبِيرَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ بِلَالٌ، وَبِلَالٌ أَثْبَتَ الصَّلَاةَ وَنَفَاهَا ابْنُ عَبَّاسٍ فَاحْتَجَّ الْمُصَنِّفُ بِزِيَادَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ يُقَدَّمُ إِثْبَاتُ بِلَالٍ عَلَى نَفْي غَيْرِهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ، وَإِنَّمَا أَسْنَدَ نَفْيَهُ تَارَةً لِأُسَامَةَ وَتَارَةً لِأَخِيهِ الْفَضْلِ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ الْفَضْلَ كَانَ مَعَهُمْ إِلَّا فِي رِوَايَةٍ شَاذَّةٍ، وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أَخِيهِ الْفَضْلِ نَفْيَ الصَّلَاةِ فِيهَا، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَلَقَّاهُ عَنْ أُسَامَةَ، فَإِنَّهُ كَانَ مَعَهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ مَضَى فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَوَى عَنْهُ نَفْيَ الصَّلَاةِ فِيهَا عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَقَدْ وَقَعَ إِثْبَاتُ صَلَاتِهِ فِيهَا عَنْ أُسَامَةَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ أُسَامَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، فَتَعَارَضَتِ الرِّوَايَةُ فِي ذَلِكَ عَنْهُ، فَتَتَرَجَّحُ رِوَايَةُ بِلَالٍ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مُثْبِتٌ وَغَيْرُهُ نَافٍ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَمْ يُخْتَلَفْ عَلَيْهِ فِي الْإِثْبَاتِ، وَاخْتُلِفَ عَلَى مَنْ نَفَى، وَقَالَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ: يُجْمَعُ بَيْنَ إِثْبَاتِ بِلَالٍ وَنَفْيِ أُسَامَةَ بِأَنَّهُمْ لَمَّا دَخَلُوا الْكَعْبَةَ اشْتَغَلُوا بِالدُّعَاءِ، فَرَأَى أُسَامَةُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو،

فَاشْتَغَلَ أُسَامَةُ بِالدُّعَاءِ فِي نَاحِيَةٍ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي نَاحِيَةٍ، ثُمَّ صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَرَآهُ بِلَالٌ لِقُرْبِهِ مِنْهُ وَلَمْ يَرَهُ أُسَامَةُ لِبُعْدِهِ وَاشْتِغَالِهِ، وَلِأَنَّ بِإِغْلَاقِ الْبَابِ تَكُونُ الظُّلْمَةُ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَحْجُبَهُ عَنْهُ بَعْضُ الْأَعْمِدَةِ، فَنَفَاهَا عَمَلًا بِظَنِّهِ، وَقَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أُسَامَةُ غَابَ عَنْهُ بَعْدَ دُخُولِهِ لِحَاجَةٍ فَلَمْ يَشْهَدْ صَلَاتَهُ. انْتَهَى. وَيَشْهَدُ لَهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْرَانَ، عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُسَامَةَ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْكَعْبَةِ فَرَأَى صُوَرًا، فَدَعَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ، فَأَتَيْتُهُ بِهِ، فَضَرَبَ بِهِ الصُّوَرَ. فَهَذَا الْإِسْنَادُ جَيِّدٌ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فَلَعَلَّهُ اسْتَصْحَبَ النَّفْيَ لِسُرْعَةِ

ص: 468

عَوْدِهِ. انْتَهَى. وَهُوَ مُفَرَّعٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ وَقَعَتْ عَامَ الْفَتْحِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، فَقَدْ رَوَى عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي كِتَابِ مَكَّةَ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ بَذِيمَةَ - وَهُوَ تَابِعِيٌّ، وَأَبُوهُ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ ثُمَّ مُعْجَمَةٍ، وَزْنُ عَظِيمَةٍ - قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْكَعْبَةَ، وَدَخَلَ مَعَهُ بِلَالٌ، وَجَلَسَ أُسَامَةُ عَلَى الْبَابِ، فَلَمَّا خَرَجَ وَجَدَ أُسَامَةَ قَدِ احْتَبَى، فَأَخَذَ بِحَبْوَتِهِ فَحَلَّهَا، الْحَدِيثَ.

فَلَعَلَّهُ احْتَبَى فَاسْتَرَاحَ فَنَعَسَ، فَلَمْ يُشَاهِدْ صَلَاتَهُ، فَلَمَّا سُئِلَ عَنْهَا نَفَاهَا مُسْتَصْحِبًا لِلنَّفْيِ لِقِصَرِ زَمَنِ احْتِبَائِهِ، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ إِنَّمَا نَفَى رُؤْيَتَهُ لَا مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِغَيْرِ تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَذَلِكَ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: حَمْلُ الصَّلَاةِ الْمُثْبَتَةِ عَلَى اللُّغَوِيَّةِ، وَالْمَنْفِيَّةِ عَلَى الشَّرْعِيَّةِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ مَنْ يَكْرَهُ الصَّلَاةَ دَاخِلَ الْكَعْبَةِ فَرْضًا وَنَفْلًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ، وَيَرُدُّ هَذَا الْحَمْلَ مَا تَقَدَّمَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ مِنْ تَعْيِينِ قَدْرِ الصَّلَاةِ، فَظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الشَّرْعِيَّةُ لَا مُجَرَّدَ الدُّعَاءِ. ثَانِيهَا، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يُمْكِنُ حَمْلُ الْإِثْبَاتِ عَلَى التَّطَوُّعِ، وَالنَّفْيِ عَلَى الْفَرْضِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهَا. ثَالِثُهَا: قَالَ الْمُهَلَّبُ شَارِحُ الْبُخَارِيِّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ دُخُولُ الْبَيْتِ وَقَعَ مَرَّتَيْنِ، صَلَّى فِي إِحْدَاهُمَا وَلَمْ يُصَلِّ فِي الْأُخْرَى.

وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: الْأَشْبَهُ عِنْدِي فِي الْجَمْعِ أَنْ يُجْعَلَ الْخَبَرَانِ فِي وَقْتَيْنِ، فَيُقَالُ: لَمَّا دَخَلَ الْكَعْبَةَ فِي الْفَتْحِ صَلَّى فِيهَا عَلَى مَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ، عَنْ بِلَالٍ، وَيُجْعَلُ نَفْيُ ابْنِ عَبَّاسٍ الصَّلَاةَ فِي الْكَعْبَةِ فِي حَجَّتِهِ الَّتِي حَجَّ فِيهَا، لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ نَفَاهَا وَأَسْنَدَهُ إِلَى أُسَامَةَ، وَابْنَ عُمَرَ أَثْبَتَهَا وَأَسْنَدَ إِثْبَاتَهُ إِلَى بِلَالٍ وَإِلَى أُسَامَةَ أَيْضًا، فَإِذَا حُمِلَ الْخَبَرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا بَطَلَ التَّعَارُضُ، وَهَذَا جَمْعٌ حَسَنٌ، لَكِنْ تَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ فِي يَوْمِ الْفَتْحِ لَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا رَوَى الْأَزْرَقِيُّ فِي كِتَابِ مَكَّةَ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا دَخَلَ الْكَعْبَةَ مَرَّةً وَاحِدَةً عَامَ الْفَتْحِ، ثُمَّ حَجَّ فَلَمْ يَدْخُلْهَا، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ دَخَلَهَا عَامَ الْفَتْحِ مَرَّتَيْنِ وَيَكُونَ الْمُرَادُ بِالْوَاحِدَةِ الَّتِي فِي خَبَرِ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَحْدَةُ السَّفَرِ لَا الدُّخُولُ، وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ طَرِيقٍ ضَعِيفَةٍ مَا يَشْهَدُ لِهَذَا الْجَمْعِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُؤَيِّدُ الْجَمْعَ الْأَوَّلَ مَا أَخْرَجَهُ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي كِتَابِ مَكَّةَ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادٍ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قُلْتُ لَهُ: كَيْفَ أُصَلِّي فِي الْكَعْبَةِ؟ قَالَ: كَمَا تُصَلِّي فِي الْجِنَازَةِ، تُسَبِّحُ وَتُكَبِّرُ، وَلَا تَرْكَعُ وَلَا تَسْجُدُ، ثُمَّ عِنْدَ أَرْكَانِ الْبَيْتِ سَبِّحْ وَكَبِّرْ وَتَضَرَّعْ وَاسْتَغْفِرْ، وَلَا تَرْكَعْ وَلَا تَسْجُدْ. وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ.

قَوْلُهُ: (وَفِيهِ الْآلِهَةُ) أَيِ الْأَصْنَامُ، وَأُطْلِقَ عَلَيْهَا الْآلِهَةُ بِاعْتِبَارِ مَا كَانُوا يَزْعُمُونَ، وَفِي جَوَازِ إِطْلَاقِ ذَلِكَ وَقْفَةٌ، وَالَّذِي يَظْهَرُ كَرَاهَتُهُ، وَكَانَتْ تَمَاثِيلُ عَلَى صُوَرٍ شَتَّى، فَامْتَنَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ دُخُولِ الْبَيْتِ وَهِيَ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَا يُقِرُّ عَلَى بَاطِلٍ، وَلِأَنَّهُ لَا يُحِبُّ فِرَاقَ الْمَلَائِكَةِ، وَهِيَ لَا تَدْخُلُ مَا فِيهِ صُورَةٌ.

قَوْلُهُ: (الْأَزْلَامُ) سَيَأْتِي شَرْحُهَا مُبَيَّنًا حَيْثُ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ فِي تَفْسِيرِ الْمَائِدَةِ.

قَوْلُهُ: (أَمْ وَاللَّهِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِبَعْضِهِمْ: أَمَا بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ.

قَوْلُهُ: (لَقَدْ عَلِمُوا) قِيلَ: وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ اسْمَ أَوَّلِ مَنْ أَحْدَثَ الِاسْتِقْسَامَ بِهَا، وَهُوَ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ، وَكَانَتْ نِسْبَتُهُمْ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَوَلَدِهِ الِاسْتِقْسَامَ بِهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِمَا لِتَقَدُّمِهِمَا عَلَى عَمْرٍو.

‌55 - كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الرَّمَلِ؟

1602 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ وَقَدْ وَهَنَهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ. فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ الثَّلَاثَةَ وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ أَنْ

ص: 469

يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ كُلَّهَا إِلَّا الْإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ.

[الحديث 1602 - طرفه في: 4256]

قَوْلُهُ: (بَابٌ: كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الرَّمَلِ) أَيِ ابْتِدَاءُ مَشْرُوعِيَّتِهِ، وَهُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْمِيمِ؛ هُوَ الْإِسْرَاعُ، وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: هُوَ شَبِيهٌ بِالْهَرْوَلَةِ، وَأَصْلُهُ أَنْ يُحَرِّكَ الْمَاشِي مَنْكِبَيْهِ فِي مَشْيِهِ، وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ الرَّمَلِ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي الْمَغَازِي، وَعَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِحُكْمِ الرَّمَلِ بَعْدَ بَابٍ.

وقَوْلُهُ: (أَنْ يَرْمُلُوا) بِضَمِّ الْمِيمِ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولِ يَأْمُرُهُمْ، تَقُولُ: أَمَرْتُهُ كَذَا، وَأَمَرْتُهُ بِكَذَا. وَ (الْأَشْوَاطَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ: جَمْعُ شَوْطٍ؛ بِفَتْحِ الشِّينِ، وَهُوَ الْجَرْيُ مَرَّةً إِلَى الْغَايَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الطَّوْفَةُ حَوْلَ الْكَعْبَةِ، وَ (الْإِبْقَاءُ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَبِالْمُوَحَّدَةِ وَالْقَافِ: الرِّفْقُ وَالشَّفَقَةُ، وَهُوَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ لَمْ يَمْنَعْهُ وَيَجُوزُ النَّصْبُ.

وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ تَسْمِيَةِ الطَّوْفَةِ شَوْطًا، وَنُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَالشَّافِعِيِّ كَرَاهَتُهُ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ إِظْهَارِ الْقُوَّةِ بِالْعِدَّةِ وَالسِّلَاحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لِلْكُفَّارِ إِرْهَابًا لَهُمْ، وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ مِنَ الرِّيَاءِ الْمَذْمُومِ. وَفِيهِ جَوَازُ الْمَعَارِيضِ بِالْفِعْلِ كَمَا يَجُوزُ بِالْقَوْلِ، وَرُبَّمَا كَانَتْ بِالْفِعْلِ أَوْلَى.

‌56 - بَاب اسْتِلَامِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ أَوَّلَ مَا يَطُوفُ وَيَرْمُلُ ثَلَاثًا

1603 -

حَدَّثَنَا أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ، أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ إِذَا اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الْأَسْوَدَ أَوَّلَ مَا يَطُوفُ يَخُبُّ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ مِنْ السَّبْعِ.

[الحديث 1603 - أطرافه في: 1604، 1616، 1617، 1644]

قَوْلُهُ: (بَابُ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ حِينَ يَقْدُمُ مَكَّةَ أَوَّلَ مَا يَطُوفُ وَيَرْمُلُ ثَلَاثًا) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ مُطَابِقٌ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ غَيْرِ مَزِيدٍ.

وقَوْلُهُ: (يَخُبُّ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ أَيْ يُسْرِعُ فِي مَشْيِهِ، وَالْخَبَبُ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ أُخْرَى: الْعَدْوُ السَّرِيعُ، يُقَالُ: خَبَتِ الدَّابَّةُ إِذَا أَسْرَعَتْ وَرَاوَحَتْ بَيْنَ قَدَمَيْهَا، وَهَذَا يُشْعِرُ بِتَرَادُفِ الرَّمَلِ وَالْخَبَبِ عِنْدَ هَذَا الْقَائِلِ. وَقَوْلُهُ:(أَوَّلَ) مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ، وَقَوْلُهُ:(مِنَ السَّبْعِ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ؛ أَيِ السَّبْعِ طَوْفَاتٍ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ الرَّمَلَ يَسْتَوْعِبُ الطَّوْفَةَ، فَهُوَ مُغَايِرٌ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي قَبْلَهُ، لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي عَدَمِ الِاسْتِيعَابِ، وَسَيَأْتِي الْقَوْلُ فِيهِ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ عُمَرَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌57 - بَاب الرَّمَلِ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ

1604 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ، حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَعَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ وَمَشَى أَرْبَعَةً فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ.

تَابَعَهُ اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي كَثِيرُ بْنُ فَرْقَدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

ص: 470

1605 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ قَالَ: أَخْبَرَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ لِلرُّكْنِ: أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَلَمَكَ مَا اسْتَلَمْتُكَ. فَاسْتَلَمَهُ ثُمَّ قَالَ: فَمَا لَنَا وَلِلرَّمَلِ؟ إِنَّمَا كُنَّا رَاءَيْنَا بِهِ الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ أَهْلَكَهُمْ اللَّهُ. ثُمَّ قَالَ: شَيْءٌ صَنَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَا نُحِبُّ أَنْ نَتْرُكَهُ.

1606 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: مَا تَرَكْتُ اسْتِلَامَ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ فِي شِدَّةٍ وَلَا رَخَاءٍ مُنْذُ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُهُمَا. قُلْتُ لِنَافِعٍ: أَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَمْشِي بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ؟ قَالَ: إِنَّمَا كَانَ يَمْشِي لِيَكُونَ أَيْسَرَ لِاسْتِلَامِهِ.

[الحديث 1606 - طرفه في: 1611]

قَوْلُهُ: (بَابُ الرَّمَلِ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ) أَيْ فِي بَعْضِ الطَّوَافِ، وَالْقَصْدُ إِثْبَاتُ بَقَاءِ مَشْرُوعِيَّتِهِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ هُوَ بِسُنَّةٍ، مَنْ شَاءَ رَمَلَ وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَرْمُلْ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ سَلَامٍ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِلْبَاقِينَ سِوَى ابْنِ السَّكَنِ غَيْرُ مَنْسُوبٍ، وَأَمَّا أَبُو نُعَيْمٍ فَقَالَ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ شُرَيْحٍ

(1)

أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَيُقَالُ هُوَ ابْنُ نُمَيْرٍ، وَرَجَّحَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ أَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ لِكَوْنِهِ رَوَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَنْهُ عَنْ شُرَيْحٍ

(1)

وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ابْنَ يَحْيَى الذُّهَلِيَّ وَهُوَ قَوْلُ الْحَاكِمِ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ ابْنُ سَلَامٍ كَمَا نَسَبَهُ أَبُو ذَرٍّ وَجَزَمَ بِذَلِكَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ السَّكَنِ فِي رِوَايَتِهِ، عَلَى أَنَّ شُرَيْحًا شَيْخَ مُحَمَّدٍ فِيهِ قَدْ أَخْرَجَ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ فِي الْجُمُعَةِ

(2)

وَغَيْرِهَا فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ هُوَ الْبُخَارِيُّ نَفْسُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (سَعَى) أَيْ أَسْرَعَ الْمَشْيَ فِي الطَّوْفَاتِ الثَّلَاثِ الْأُوَلِ، وَقَوْلُهُ:(فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ) أَيْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَعُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ لِأَنَّ الْحُدَيْبِيَةَ لَمْ يُمَكَّنْ فِيهَا مِنَ الطَّوَافِ، وَالْجِعْرَانَةَ لَمْ يَكُنِ ابْنُ عُمَرَ مَعَهُ فِيهَا وَلِهَذَا أَنْكَرَهَا، وَالَّتِي مَعَ حَجَّتِهِ انْدَرَجَتْ أَفْعَالُهَا فِي الْحَجِّ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا عُمْرَةُ الْقَضِيَّةِ. نَعَمْ عِنْدَ الْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رَمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّتِهِ وَعُمَرِهِ كُلِّهَا وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ وَالْخُلَفَاءُ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي كَثِيرٌ إِلَخْ) وَصَلَهَا النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ، عَنْ أَبِيهِ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ اللَّيْثِ قَالَ: حَدَّثَنِي فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَخُبُّ فِي طَوَافِهِ حِينَ يَقْدَمُ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ثَلَاثًا وَيَمْشِي أَرْبَعًا، قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ لِلرُّكْنِ) أَيْ لِلْأَسْوَدِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ خَاطَبَهُ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِيُسْمِعَ الْحَاضِرِينَ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَالَ) أَيْ بَعْدَ اسْتِلَامِهِ.

قَوْلُهُ: (مَا لَنَا وَلِلرَّمَلِ) فِي رِوَايَةِ بَعْضِهِمْ وَالرَّمَلَ بِغَيْرِ لَامٍ، وَهُوَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْأَفْصَحِ، وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِيمَ الرَّمَلُ وَالْكَشْفُ عَنِ الْمَنَاكِبِ الْحَدِيثَ، وَالْمُرَادُ بِهِ الِاضْطِبَاعُ،

(1)

في طبعة بولاق: هكذا في النسخ التي بأيدينا، وضبطه القسطلاني (سريج) بالسين المهملة والجيم اهـ. ولعله الصواب إذا كان محمد شيخ البخاري في هذا الحديث هو ابن رافع، لأن سريج بن النعمان من شيوخه كما في تهذيب التهذيب.

(2)

الذي أخرج عنه البخاري في كتاب الجمعة برقم 904 هو سريج بن النعمان. ومن قرأ خط الحافظ ابن حجر - كمسودته لكتابه "أنباء الغمر" التي في دار الكتب الظاهرية بدمشق، يعذر نساخ فتح البارى فيما تصحف عليهم من خطه.

ص: 471

وَهِيَ هَيْئَةٌ تُعِينُ إِسْرَاعِ الْمَشْيِ بِأَنْ يُدْخِلَ رِدَاءَهُ تَحْتَ إِبِطِهِ الْأَيْمَنِ وَيَرُدَّ طَرَفَهُ عَلَى مَنْكِبِهِ الْأَيْسَرِ فَيُبْدِي مَنْكِبَهُ الْأَيْمَنَ وَيَسْتُرُ الْأَيْسَرَ، وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ سِوَى مَالِكٍ، قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ.

قَوْلُهُ: (إِنَّمَا كُنَّا رَاءَيْنَا) بِوَزْنِ فَاعَلْنَا مِنَ الرُّؤْيَةِ، أَيْ أَرَيْنَاهُمْ بِذَلِكَ أَنَّا أَقْوِيَاءَ. قَالَهُ عِيَاضٌ، وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: مِنَ الرِّيَاءِ أَيْ أَظْهَرْنَا لَهُمُ الْقُوَّةَ وَنَحْنُ ضُعَفَاءُ، وَلِهَذَا رُوِيَ رَايَيْنَا بِيَاءَيْنِ حَمْلًا لَهُ عَلَى الرِّيَاءِ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ الرِّئَاءَ بِهَمْزَتَيْنِ، وَمُحَصَّلُهُ أَنَّ عُمَرَ كَانَ هَمَّ بِتَرْكِ الرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ لِأَنَّهُ عَرَفَ سَبَبَهُ وَقَدِ انْقَضَى فَهَمَّ أَنْ يَتْرُكَهُ لِفَقْدِ سَبَبِهِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ لَهُ حِكْمَةٌ مَا اطَّلَعَ عَلَيْهَا فَرَأَى أَنَّ الِاتِّبَاعَ أَوْلَى مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى، وَأَيْضًا إِنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ إِذَا فَعَلَهُ تَذَكَّرَ السَّبَبَ الْبَاعِثَ عَلَى ذَلِكَ فَيَتَذَكَّرُ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَى إِعْزَازِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ.

قَوْلُهُ: (فَلَا نُحِبُّ أَنْ نَتْرُكَهُ) زَادَ يَعْق وبُ بْنُ سُفْيَانَ، عَنْ سَعِيدٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ فِي آخِرِهِ ثُمَّ رَمَلَ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُمُ اقْتَصَرُوا عِنْدَ مُرَاءَاةِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْإِسْرَاعِ إِذَا مَرُّوا مِنْ جِهَةِ الرُّكْنَيْنِ الشَّامِيَّيْنِ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا بِإِزَاءِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، فَإِذَا مَرُّوا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ مَشَوْا عَلَى هَيْئَتِهِمْ كَمَا هُوَ بَيِّنٍ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَمَّا رَمَلُوا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَسْرَعُوا فِي جَمِيعِ كُلِّ طَوْفَةٍ فَكَانَتْ سُنَّةً مُسْتَقِلَّةً، وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ سَأَلَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، نَافِعًا كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ عَنْ مَشْيِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ فَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ يَفْعَلُهُ لِيَكُونَ أَسْهَلَ عَلَيْهِ فِي اسْتِلَامِ الرُّكْنِ، أَيْ كَانَ يَرْفُقُ بِنَفْسِهِ لِيَتَمَكَّنَ مِنَ اسْتِلَامِ الرُّكْنِ عِنْدَ الِازْدِحَامِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ نَافِعٌ إِنْ كَانَ اسْتَنَدَ فِيهِ إِلَى فَهْمِهِ فَلَا يَدْفَعُ احْتِمَالَ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عُمَرَ فَعَلَ ذَلِكَ اتِّبَاعًا لِلصِّفَةِ الْأُولَى مِنَ الرَّمَلِ لِمَا عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِهِ فِي الِاتِّبَاعِ.

(تَكْمِيلٌ): لَا يُشْرَعُ تَدَارُكُ الرَّمَلِ، فَلَوْ تَرَكَهُ فِي الثَّلَاثِ لَمْ يَقْضِهِ فِي الْأَرْبَعِ، لِأَنَّ هَيْئَتَهَا السَّكِينَةُ فَلَا تُغَيَّرُ، وَيَخْتَصُّ بِالرِّجَالِ فَلَا رَمَلَ عَلَى النِّسَاءِ، وَيَخْتَصُّ بِطَوَافٍ يَعْقُبُهُ سَعْيٌ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَلَا فَرْقَ فِي اسْتِحْبَابِهِ بَيْنَ مَاشٍ وَرَاكِبٍ، وَلَا دَمَ بِتَرْكِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَاخْتُلِفَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الشَّارِعَ رَمَلَ وَلَا مُشْرِكَ يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ يَعْنِي فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ إِلَّا أَنَّ تَارِكَهُ لَيْسَ تَارِكًا لِعَمَلٍ بَلْ لِهَيْئَةٍ مَخْصُوصَةٍ فَكَانَ كَرَفْعِ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ، فَمَنْ لَبَّى خَافِضًا صَوْتَهُ لَمْ يَكُنْ تَارِكًا لِلتَّلْبِيَةِ بَلْ لِصِفَتِهَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.

(تَنْبِيهٌ): قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بَعْدَ أَنْ خَرَّجَ الْحَدِيثَ الثَّالِثَ مُقْتَصِرًا عَلَى الْمَرْفُوعِ مِنْهُ وَزَادَ فِيهِ قَالَ نَافِعٌ وَرَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ - يَعْنِي ابْنَ عُمَرَ - يُزَاحِمُ عَلَى الْحَجَرِ حَتَّى يُدْمَى قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: لَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي شَيْءٍ يَعْنِي بَابَ الرَّمَلِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْقَدْرَ الْمُتَعَلِّقَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ ثَابِتٌ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَوَجْهُهُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَمْشِي بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ أَيْ دُونَ غَيْرِهِمَا، وَكَانَ يَرْمُلُ، وَمِنْ ثَمَّ سَأَلَ الرَّاوِي نَافِعًا عَنِ السَّبَبِ فِي كَوْنِهِ كَانَ يَمْشِي فِي بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(تَنْبِيهٌ آخَرُ): اسْتُشْكِلَ قَوْلُ عُمَرَ رَاءَيْنَا مَعَ أَنَّ الرِّيَاءَ بِالْعَمَلِ مَذْمُومٌ، وَالْجَوَابُ أَنَّ صُورَتَهُ وَإِنْ كَانَتْ صُورَةَ الرِّيَاءِ لَكِنَّهَا لَيْسَتْ مَذْمُومَةً، لِأَنَّ الْمَذْمُومَ أَنْ يُظْهِرُ الْعَمَلَ لِيُقَالَ إِنَّهُ عَامِلٌ وَلَا يَعْمَلُهُ بِغَيْبَةٍ إِذَا لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ، وَأَمَّا الَّذِي وَقَعَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْمُخَادَعَةِ فِي الْحَرْبِ، لِأَنَّهُمْ أَوْهَمُوا الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ أَقْوِيَاءَ لِئَلَّا يَطْمَعُوا فِيهِمْ، وَثَبَتَ أَنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ.

‌58 - بَاب اسْتِلَامِ الرُّكْنِ بِالْمِحْجَنِ

1607 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، وَيَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَا حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: طَافَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ

ص: 472

يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ تَابَعَهُ الدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْ ابْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ عَنْ عَمِّهِ.

[الحديث 1614 - أطرافه في: 1612، 1613، 1632، 5193]

قَوْلُهُ: (بَابُ اسْتِلَامِ الرُّكْنِ بِالْمِحْجَنِ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْجِيمِ بَعْدَهَا نُونٌ، هُوَ عَصًا مَحْنِيَّةُ الرَّأْسِ، وَالْحَجَنُ الِاعْوِجَاجُ، وَبِذَلِكَ سُمِّيَ الْحَجُونُ، وَالِاسْتِلَامُ افْتِعَالٌ مِنَ السَّلَامِ بِالْفَتْحِ أَيِ التَّحِيَّةِ قَالَهُ الْأَزْهَرِيُّ، وَقِيلَ مِنَ السِّلَامِ بِالْكَسْرِ أَيِ الْحِجَارَةِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُومِئُ بِعَصَاهُ إِلَى الرُّكْنِ حتى يُصِيبُهُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) كَذَا قَالَ يُونُسُ وَخَالَفَهُ اللَّيْثُ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَزَمْعَةُ بْنُ صَالِحٍ فَرَوَوْهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: بَلَغَنِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ اسْتَظْهَرَ الْبُخَارِيُّ بِطَرِيقِ ابْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ فَقَالَ: تَابَعَهُ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنِ ابْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ وَهَذِهِ الْمُتَابَعَةُ أَخْرَجَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيِّ فَذَكَرَهُ وَلَمْ يَقُلْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَلَا عَلَى بَعِيرٍ وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي مَسْأَلَةِ الطَّوَافِ رَاكِبًا بَعْدَ خَمْسَةَ عَشَرَ بَابًا.

قَوْلُهُ: (يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ) زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الطُّفَيْلِ وَيُقَبِّلُ الْمِحْجَنَ وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ بِيَدِهِ ثُمَّ قَبَّلَهُ وَرَفَعَ ذَلِكَ، وَلِسَعِيدِ بْنِ الْمَنْصُورِ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا سَعِيدٍ، وَأَبَا هُرَيْرَةَ، وَابْنَ عُمَرَ، وَجَابِرًا إِذَا اسْتَلَمُوا الْحَجَرَ قَبَّلُوا أَيْدِيَهُمْ. قِيلَ: وَابْنُ عَبَّاسٍ؟ قَالَ: وَابْنُ عَبَّاسٍ، أَحْسَبُهُ قَالَ كَثِيرًا وَبِهَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَسْتَلِمَ الرُّكْنَ وَيُقَبِّلَ يَدَهُ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَسْتَلِمَهُ بِيَدِهِ اسْتَلَمَهُ بِشَيْءٍ فِي يَدِهِ وَقَبَّلَ ذَلِكَ الشَّيْءَ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَشَارَ إِلَيْهِ وَاكْتَفَى بِذَلِكَ، وَعَنْ مَالِكٍ فِي رِوَايَةٍ لَا يُقَبِّلُ يَدَهُ، وَكَذَا قَالَ الْقَاسِمُ، وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى فَمِهِ مِنْ غَيْرِ تَقْبِيلٍ.

‌59 - بَاب مَنْ لَمْ يَسْتَلِمْ إِلَّا الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ

1608 -

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ أَنَّهُ قَالَ: وَمَنْ يَتَّقِي شَيْئًا مِنْ الْبَيْتِ؟ وَكَانَ مُعَاوِيَةُ يَسْتَلِمُ الْأَرْكَانَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: إِنَّهُ لَا يُسْتَلَمُ هَذَانِ الرُّكْنَانِ. فَقَالَ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْبَيْتِ مَهْجُورًا. وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما يَسْتَلِمُهُنَّ كُلَّهُنَّ.

1609 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنهما قَالَ: لَمْ أَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُ مِنْ الْبَيْتِ إِلَّا الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ لَمْ يَسْتَلِمْ إِلَّا الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ) أَيْ دُونَ الرُّكْنَيْنِ الشَّامِيَّيْنِ، وَالْيَمَانِيُ بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ عَلَى الْمَشْهُورِ لِأَنَّ الْأَلِفَ عِوَضٌ عَنْ يَاءِ النَّسَبِ فَلَوْ شُدِّدَتْ لَكَانَ جَمْعًا بَيْنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ، وَجَوَّزَ سِيبَوَيْهِ التَّشْدِيدَ وَقَالَ إِنَّ الْأَلِفَ زَائِدَةٌ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ) لَمْ أَرَهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ بَكْرٍ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْجَوْزَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ الْهَيْثَمِ بِهِ، وَمَنْ فِي قَوْلِهِ وَمَنْ يَتَّقِي اسْتِفْهَامِيَّةٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ مُعَاوِيَةُ يَسْتَلِمُ الْأَرْكَانَ) وَصَلَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خَيْثَمٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُعَاوِيَةَ فَكَانَ مُعَاوِيَةُ لَا يَمُرُّ بِرُكْنٍ إِلَّا اسْتَلَمَهُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْتَلِمْ إِلَّا الْحَجَرَ وَالْيَمَانِيَّ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْبَيْتِ مَهْجُورًا: وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ الْمَرْفُوعَ فَقَطْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَى أَحْمَدُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، قَالَ: حَجَّ مُعَاوِيَةُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، فَجَعَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَسْتَلِمُ

ص: 473

الْأَرْكَانَ كُلَّهَا، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: إِنَّمَا اسْتَلَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ مِنْ أَرْكَانِهِ شَيْءٌ مَهْجُورٌ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي الْعِلَلِ سَأَلْتُ أَبِي عَنْهُ فَقَالَ: قَلَبَهُ شُعْبَةُ، وَقَدْ كَانَ شُعْبَةُ يَقُولُ: النَّاسُ يُخَالِفُونَنِي فِي هَذَا، وَلَكِنَّنِي سَمِعْتُهُ مِنْ قَتَادَةَ هَكَذَا. انْتَهَى.

وَقَدْ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ عَلَى الصَّوَابِ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ أَيْضًا، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ، وَرَوَى الشَّافِعِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَمْسَحُ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ وَالْحَجَرَ، وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَمْسَحُ الْأَرْكَانَ كُلَّهَا وَيَقُولُ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْبَيْتِ مَهْجُورًا، فَيَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} وَلَفْظُ رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ الْمَذْكُورَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ طَافَ مَعَ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْبَيْتِ مَهْجُورًا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: صَدَقْتَ. وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ ضَعْفُ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى التَّعَدُّدِ، وَأَنَّ اجْتِهَادَ كُلٍّ مِنْهُمَا تَغَيَّرَ إِلَى مَا أَنْكَرَهُ عَلَى الْآخَرِ، وَإِنَّمَا قُلْتُ ذَلِكَ لِأَنَّ مَخْرَجَ الْحَدِيثَيْنِ وَاحِدٌ وَهُوَ قَتَادَةُ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، وَقَدْ جَزَمَ أَحْمَدُ بِأَنَّ شُعْبَةَ قَلَبَهُ فَسَقَطَ التَّجْوِيزُ الْعَقْلِيُّ.

قَوْلُهُ: (إِنَّهُ) الْهَاءُ لِلشَّأْنِ.

قَوْلُهُ: (لَا يُسْتَلَمُ هَذَانِ الرُّكْنَانِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَلِلْحَمَوِيِّ، وَالْمُسْتَمْلِي لَا نَسْتَلِمُ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ بِفَتْحِ النُّونِ وَنَصْبِ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَسْتَلِمُهُنَّ كُلَّهُنَّ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ رَأَى أَبَاهُ يَسْتَلِمُ الْأَرْكَانَ كُلَّهَا وَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُ مَهْجُورًا وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ نَحْوَهُ عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ يَسْتَلِمُ الْأَرْكَانَ كُلَّهَا، وَأَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ عَنْ هِشَامٍ بِلَفْظِ إِذَا بَدَأَ اسْتَلَمَ الْأَرْكَانَ كُلَّهَا وَإِذَا خَتَمَ.

ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمْ أَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُ مِنَ الْبَيْتِ إِلَّا الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: إِنَّمَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتِلَامَ الرُّكْنَيْنِ الشَّامِيَّيْنِ لِأَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يُتَمَّمْ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ. وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى حَمَلَ ابْنُ التِّينِ تَبَعًا لِابْنِ الْقَصَّارِ اسْتِلَامَ ابْنِ الزُّبَيْرِ لَهُمَا لِأَنَّهُ لَمَّا عَمَّرَ الْكَعْبَةَ أَتَمَّ الْبَيْتَ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ. انْتَهَى. وَتَعَقَّبَ ذَلِكَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ بِأَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ طَافَ مَعَ مُعَاوِيَةَ وَاسْتَلَمَ الْكُلَّ، وَلَمْ يَقِفْ عَلَى هَذَا الْأَثَرِ وَإِنَّمَا وَقَعَ ذَلِكَ لِمُعَاوِيَةَ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَمَّا ابْنُ الزُّبَيْرِ فَقَدْ أَخْرَجَ الْأَزْرَقِيُّ فِي: كِتَابِ مَكَّةَ فَقَالَ: إِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ لَمَّا فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ وَأَدْخَلَ فِيهِ مِنَ الْحِجْرِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ وَرَدَّ الرُّكْنَيْنِ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ خَرَجَ إِلَى التَّنْعِيمِ وَاعْتَمَرَ وَطَافَ بِالْبَيْتِ وَاسْتَلَمَ الْأَرْكَانَ الْأَرْبَعَةَ، فَلَمْ يَزَلِ الْبَيْتُ عَلَى بِنَاءِ ابْنِ الزُّبَيْرِ إِذَا طَافَ الطَّائِفُ اسْتَلَمَ الْأَرْكَانَ جَمِيعَهَا حَتَّى قُتِلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ. وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ آدَمَ لَمَّا حَجَّ اسْتَلَمَ الْأَرْكَانَ كُلَّهَا، وَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ لَمَّا فَرَغَا مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ طَافَا بِهِ سَبْعًا يَسْتَلِمَانِ الْأَرْكَانَ.

وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: ظَنَّ مُعَاوِيَةُ أَنَّهُمَا رُكْنَا الْبَيْتِ الَّذِي وَضَعَ عَلَيْهِ مِنْ أَوَّلِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِمَا سَبَقَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ اسْتِلَامَ جَمِيعِ الْأَرْكَانِ أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ، وَأَنَسٍ، وَالْحَسَنِ، وَالْحُسَيْنِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَعَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ مِنَ التَّابِعِينَ. وَقَدْ يُشْعِرُ مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الطَّهَارَةِ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ عُمَرَ رَأَيْتُكَ تَصْنَعُ أَرْبَعًا لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِكَ يَصْنَعُهَا فَذَكَرَ مِنْهَا وَرَأَيْتُكَ لَا تَمَسُّ مِنَ الْأَرْكَانِ إِلَّا الْيَمَانِيَّيْنِ الْحَدِيثَ بِأَنَّ الَّذِينَ رَآهُمْ عُبَيْدُ بْنُ جُرَيْجٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ كَانُوا لَا يَقْتَصِرُونَ فِي الِاسْتِلَامِ عَلَى الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: اخْتِصَاصُ الرُّكْنَيْنِ مُبَيَّنٌ بِالسُّنَّةِ وَمُسْتَنَدُ التَّعْمِيمِ الْقِيَاسُ، وَأَجَابَ الشَّافِعِيُّ عَنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْبَيْتِ مَهْجُورًا بِأَنَّا لَمْ نَدَّعِ اسْتِلَامَهُمَا هَجْرًا لِلْبَيْتِ،

ص: 474

وَكَيْفَ يَهْجُرُهُ وَهُوَ يَطُوفُ بِهِ، وَلَكِنَّا نَتَّبِعُ السُّنَّةَ فِعْلًا أَوْ تَرْكًا، وَلَوْ كَانَ تَرْكُ اسْتِلَامِهِمَا هَجْرًا لَكَانَ تَرْكُ اسْتِلَامِ مَا بَيْنَ الْأَرْكَانِ هَجْرًا لَهَا وَلَا قَائِلَ بِهِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ حِفْظُ الْمَرَاتِبِ وَإِعْطَاءُ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ وَتَنْزِيلُ كُلِّ أَحَدٍ مَنْزِلَتَهُ.

(فَائِدَةٌ): فِي الْبَيْتِ أَرْبَعَةُ أَرْكَانٍ، الْأَوَّلُ لَهُ فَضِيلَتَانِ: كَوْنُ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فِيهِ، وَكَوْنُهُ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ. وَلِلثَّانِي الثَّانِيَةُ فَقَطْ، وَلَيْسَ لِلْآخَرَيْنِ شَيْءٌ مِنْهُمَا، فَلِذَلِكَ يُقَبَّلُ الْأَوَّلُ وَيُسْتَلَمُ الثَّانِي فَقَطْ وَلَا يُقَبَّلُ الْآخَرَانِ وَلَا يُسْتَلَمَانِ، هَذَا عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ. وَاسْتَحَبَّ بَعْضُهُمْ تَقْبِيلَ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ أَيْضًا.

(فَائِدَةٌ أُخْرَى): اسْتَنْبَطَ بَعْضُهُمْ مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ تَقْبِيلِ الْأَرْكَانِ جَوَازَ تَقْبِيلِ كُلِّ مَنْ يَسْتَحِقُّ التَّعْظِيمَ مِنْ آدَمِيٍّ وَغَيْرِهِ، فَأَمَّا تَقْبِيلُ يَدِ الْآدَمِيِّ فَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْأَدَبِ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَنُقِلَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ تَقْبِيلِ مِنْبَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَقْبِيلِ قَبْرِهِ فَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا، وَاسْتَبْعَدَ بَعْضُ أَتْبَاعِهِ صِحَّةَ ذَلِكَ، وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ أَبِي الصَّيْفِ الْيَمَانِيِّ أَحَدِ عُلَمَاءِ مَكَّةَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ جَوَازَ تَقْبِيلِ الْمُصْحَفِ وَأَجْزَاءِ الْحَدِيثِ وَقُبُورِ الصَّالِحِينَ

(1)

وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

‌60 - بَاب تَقْبِيلِ الْحَجَرِ

1610 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا وَرْقَاءُ، أَخْبَرَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَبَّلَ الْحَجَرَ، وَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبَّلَكَ مَا قَبَّلْتُكَ.

1611 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ، عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ عَرَبِيٍّ، قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ - فَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ. قَالَ: قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنْ زُحِمْتُ، أَرَأَيْتَ إِنْ غُلِبْتُ؟ قَالَ: اجْعَلْ أَرَأَيْتَ بِالْيَمَنِ، رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ تَقْبِيلِ الْحَجَرِ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْجِيمِ أَيِ الْأَسْوَدِ، أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ عُمَرَ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ قَبْلَ أَبْوَابٍ. ثُمَّ أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ وَلِابْنِ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ وَقَبَّلَ يَدَهُ وَقَالَ: مَا تَرَكْتُهُ مُنْذُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ. وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ اسْتِحْبَابُ الْجَمْعِ بَيْنَ التَّسْلِيمِ وَالتَّقْبِيلِ بِخِلَافِ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ فَيَسْتَلِمُهُ فَقَطْ وَالِاسْتِلَامُ الْمَسْحُ بِالْيَدِ وَالتَّقْبِيلُ بِالْفَمِ، وَرَوَى الشَّافِعِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: اسْتَقْبَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْحَجَرَ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ وَضَعَ شَفَتَيْهِ عَلَيْهِ طَوِيلًا. الْحَدِيثَ وَاخْتَصَّ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ بِذَلِكَ لِاجْتِمَاعِ الْفَضِيلَتَيْنِ لَهُ كَمَا تَقَدَّمَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا حَمَّادٌ) فِي رِوَايَةِ أَبِي الْوَقْتِ ابْنُ زَيْدٍ.

قَوْلُهُ: (عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَرَبِيٍّ) فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ.

قَوْلُهُ: (سَأَلَ رَجُلٌ) هُوَ الزُّبَيْرُ الرَّاوِي، كَذَلِكَ وَقَعَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (أَرَأَيْتَ إِنْ زُحِمْتَ) أَيْ أَخْبِرْنِي مَا أَصْنَعُ إِذَا زُحِمْتُ، وَزُحِمْتُ بِضَمِّ الزَّايِ بِغَيْرِ إِشْبَاعٍ، وَفِي بَعْضِ

(1)

الأحكام التي تنسب إلى الدين لا بد من ثبوتها في نصوص الدين، وكل ما لم يكن عليه الأمر في زمن التشريع وفي نصوص التشريع فهو مردود على من يزعمه. وتقدم قول الإمام الشافعي "ولكنا نتبع السنة فعلا أو تركا" وهو مقتضى قول أمير المؤمنين عمر فيما خاطب به الحجر الأسود برقم 1597 و 1610. هذه هي النصوص، وسيأتي قول الحافظ عن ابن عمر في جوابه لمن سأله عن اسنلام الحجر"أمره إذا سمع الحديث أن يأخذ به ويتقي الرأي،. والخروج عن هذه الطريقة تغيير للدين وخروج به إلى غير ما أراده الله.

ص: 475

الرِّوَايَاتِ بِزِيَادَةِ وَاوٍ.

قَوْلُهُ: (اجْعَلْ أَرَأَيْتَ بِالْيَمَنِ) يُشْعِرُ بِأَنَّ الرَّجُلَ يَمَانِيٌّ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الْمَذْكُورَةِ اجْعَلْ أَرَأَيْتَ عِنْدَ ذَلِكَ الْكَوْكَبِ وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ فَهِمَ مِنْهُ مُعَارَضَةَ الْحَدِيثِ بِالرَّأْيِ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَأَمَرَهُ إِذَا سَمِعَ الْحَدِيثَ أَنْ يَأْخُذَ بِهِ وَيَتَّقِيَ الرَّأْيَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمْ يَرَ الزِّحَامَ عُذْرًا فِي تَرْكِ الِاسْتِلَامِ، وَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ يُزَاحِمُ عَلَى الرُّكْنِ حَتَّى يُدْمَى وَمِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى أَنَّهُ قِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ هَوَتِ الْأَفْئِدَةُ إِلَيْهِ فَأُرِيدُ أَنْ يَكُونَ فُؤَادِي مَعَهُمْ، وَرَوَى الْفَاكِهِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَرَاهَةَ الْمُزَاحَمَةِ وَقَالَ: لَا يُؤْذِي وَلَا يُؤْذَى.

(فَائِدَةٌ): الْمُسْتَحَبُّ فِي التَّقْبِيلِ أَنْ لَا يَرْفَعَ بِهِ صَوْتَهُ، وَرَوَى الْفَاكِهِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: إِذَا قَبَّلْتَ الرُّكْنَ فَلَا تَرْفَعْ بِهَا صَوْتَكَ كَقُبْلَةِ النِّسَاءِ.

(تَنْبِيهٌ): قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ وَقَعَ عِنْدَ الْأَصِيلِيِّ، عَنْ أَبِي أَحْمَدَ الْجُرْجَانِيِّ الزُّبَيْرُ بْنُ عَدِيٍّ بِدَالٍ مُهْمَلَةٍ بَعْدَهَا يَاءٌ مُشَدَّدَةٌ، وَهُوَ وَهْمٌ وَصَوَابُهُ عَرَبِيٍّ بِرَاءٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ ثُمَّ يَاءٌ مُشَدَّدَةٌ، كَذَلِكَ رَوَاهُ سَائِرُ الرُّوَاةِ عَنِ الْفَرَبْرِيِّ. انْتَهَى. وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ اسْتَشْعَرَ هَذَا التَّصْحِيفَ فَأَشَارَ إِلَى التَّحْذِيرِ مِنْهُ فَحَكَى الْفَرَبْرِيُّ أَنَّهُ وَجَدَ فِي كِتَابِ أَبِي جَعْفَرٍ - يَعْنِي مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي حَاتِمٍ وَرَّاقَ الْبُخَارِيِّ - قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي الْبُخَارِيَّ: الزُّبَيْرُ بْنُ عَرَبِيٍّ هَذَا بَصْرِيٌّ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ عَدِيٍّ كُوفِيٌّ. انْتَهَى. هَكَذَا وَقَعَ عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ عَنْ شُيُوخِهِ عَنِ الْفَرَبْرِيِّ، وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ الْكَرْخِيِّ، وَعَقَّبَ هَذَا الْحَدِيثَ: الزُّبَيْرُ هَذَا هُوَ ابْنُ عَرَبِيٍّ، وَأَمَّا الزُّبَيْرُ بْنُ عَدِيٍّ فَهُوَ كُوفِيٌّ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهَا الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَرَبِيِّ بِزِيَادَةِ أَلِفٍ وَلَامٍ، وَذَلِكَ مِمَّا يَرْفَعُ الْإِشْكَالَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌61 - بَاب مَنْ أَشَارَ إِلَى الرُّكْنِ إِذَا أَتَى عَلَيْهِ

1612 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: طَافَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْبَيْتِ عَلَى بَعِيرٍ، كُلَّمَا أَتَى عَلَى الرُّكْنِ أَشَارَ إِلَيْهِ

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أَشَارَ إِلَى الرُّكْنِ) أَيِ الْأَسْوَدِ.

قَوْلُهُ: (إِذَا أَتَى عَلَيْهِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ طَافَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْبَيْتِ عَلَى بَعِيرٍ، كُلَّمَا أَتَى عَلَى الرُّكْنِ أَشَارَ إِلَيْهِ: وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَ بِبَابَيْنِ بِزِيَادَةِ شَرْحٍ فِيهِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: تَقَدَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَلِمُهُ بِالْمِحْجَنِ، فَيَدُلُّ عَلَى قُرْبِهِ مِنَ الْبَيْتِ، لَكِنَّ مَنْ طَافَ رَاكِبًا يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَبْعُدَ إِنْ خَافَ أَنْ يُؤْذِيَ أَحَدًا، فَيُحْمَلُ فِعْلُهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْأَمْنِ مِنْ ذَلِكَ. انْتَهَى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ اسْتِلَامِهِ قَرِيبًا حَيْثُ أَمِنَ ذَلِكَ، وَأَنْ يَكُونَ فِي حَالِ إِشَارَتِهِ بَعِيدًا حَيْثُ خَافَ ذَلِكَ.

‌62 - بَاب التَّكْبِيرِ عِنْدَ الرُّكْنِ

1613 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: طَافَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْبَيْتِ عَلَى بَعِيرٍ، كُلَّمَا أَتَى الرُّكْنَ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ كَانَ عِنْدَهُ وَكَبَّرَ.

تَابَعَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ

قَوْلُهُ: (بَابُ التَّكْبِيرِ عِنْدَ الرُّكْنِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورَ وَزَادَ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ كَانَ عِنْدَهُ وَكَبَّرَ وَالْمُرَادُ بِالشَّيْءِ الْمِحْجَنِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي الرِّوَايَةِ الْمَاضِيَةِ قَبْلَ بَابَيْنِ، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ التَّكْبِيرِ عِنْدَ الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ فِي كُلِّ

ص: 476

طَوْفَةٍ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ خَالِدٍ) يَعْنِي فِي التَّكْبِيرِ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ رِوَايَةَ عَبْدِ الْوَهَّابِ، عَنْ خَالِدٍ الْمَذْكُورَةَ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ الْخَالِيَةَ عَنِ التَّكْبِيرِ لَا تَقْدَحُ فِي زِيَادَةِ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ لِمُتَابَعَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَقَدْ وَصَلَ طَرِيقَ إِبْرَاهِيمَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي طَوَافِ الْمَرِيضِ رَاكِبًا فِي بَابِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌63 - بَاب مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ إِذَا قَدِمَ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى بَيْتِهِ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّفَ

1614، 1615 - حَدَّثَنَا أَصْبَغُ، عَنْ ابْنِ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ذَكَرْتُ لِعُرْوَةَ قَالَ: فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ رضي الله عنها أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ تَوَضَّأَ ثُمَّ طَافَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً. ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ رضي الله عنهما مِثْلَهُ.

ثُمَّ حَجَجْتُ مَعَ أَبِي الزُّبَيْرِ رضي الله عنه فَأَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ. ثُمَّ رَأَيْتُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ يَفْعَلُونَهُ. وَقَدْ أَخْبَرَتْنِي أُمِّي أَنَّهَا أَهَلَّتْ هِيَ وَأُخْتُهَا وَالزُّبَيْرُ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ بِعُمْرَةٍ، فَلَمَّا مَسَحُوا الرُّكْنَ حَلُّوا.

[الحديث 1614 - طرفه في: 1641]

[الحديث 1615 - طرفاه في: 1642، 1796]

1616 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ أَنَسٌ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا طَافَ فِي الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ أَوَّلَ مَا يَقْدَمُ سَعَى ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ وَمَشَى أَرْبَعَةً، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ.

1617 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ الطَّوَافَ الْأَوَّلَ يَخُبُّ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ، وَيَمْشِي أَرْبَعَةً، وَأَنَّهُ كَانَ يَسْعَى بَطْنَ الْمَسِيلِ إِذَا طَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ إِذَا قَدِمَ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى بَيْتِهِ إِلَخْ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: غَرَضُهُ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُعْتَمِرَ إِذَا طَافَ حَلَّ قَبْلَ أَنْ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَأَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ قَوْلَ عُرْوَةَ فَلَمَّا مَسَحُوا الرُّكْنَ حَلُّوا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ لَمَّا اسْتَلَمُوا الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَطَافُوا وَسَعَوْا حَلُّوا، بِدَلِيلِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي أَرْدَفَهُ بِهِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَزَعَمَ ابْنُ التِّينِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ عُرْوَةَ مَسَحُوا الرُّكْنَ أَيْ رُكْنَ الْمَرْوَةِ أَيْ عِنْدَ خَتْمِ السَّعْيِ، وَهُوَ مُتَعَقَّبٌ بِرِوَايَةِ ابْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى أَسْمَاءَ عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ: اعْتَمَرْتُ أَنَا وَعَائِشَةُ، وَالزُّبَيْرُ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ، فَلَمَّا مَسَحْنَا الْبَيْتَ أَحْلَلْنَا أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ، وَسَيَأْتِي فِي أَبْوَابِ الْعُمْرَةِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: لَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِ قَوْلِهِ مَسَحُوا الرُّكْنَ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ وَمَسْحُهُ يَكُونُ فِي أَوَّلِ الطَّوَافِ وَلَا يَحْصُلُ التَّحَلُّلُ بِمُجَرَّدِ مَسْحِهِ بِالْإِجْمَاعِ، فَتَقْدِيرُهُ: فَلَمَّا مَسَحُوا الرُّكْنَ وَأَتَمُّوا طَوَافَهُمْ وَسَعْيَهُمْ وَحَلَقُوا حَلُّوا. وَحُذِفَتْ هَذِهِ الْمُقَدَّرَاتُ لِلْعِلْمِ بِهَا

ص: 477

لِظُهُورِهَا. وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَحَلَّلُ قَبْلَ تَمَامِ الطَّوَافِ.

ثُمَّ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ السَّعْيِ بَعْدَهُ ثُمَّ الْحَلْقِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِمَسْحِ الرُّكْنِ الْكِنَايَةُ عَنْ تَمَامِ الطَّوَافِ لَا سِيَّمَا وَاسْتِلَامُ الرُّكْنِ يَكُونُ فِي كُلِّ طَوْفَةٍ، فَالْمَعْنَى فَلَمَّا فَرَغُوا مِنَ الطَّوَافِ حَلُّوا، وَأَمَّا السَّعْيُ وَالْحَلْقُ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِمَا كَمَا قَالَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فَلَمَّا فَرَغُوا مِنَ الطَّوَافِ وَمَا يَتْبَعُهُ حَلُّوا. قُلْتُ: وَأَرَادَ بِمَسْحِ الرُّكْنِ هُنَا اسْتِلَامَهُ بَعْدَ فَرَاغِ الطَّوَافِ وَالرَّكْعَتَيْنِ كَمَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ، فَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى إِلَّا تَقْدِيرُ وَسَعَوْا لِأَنَّ السَّعْيَ شَرْطٌ عِنْدَ عُرْوَةَ بِخِلَافِ مَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَمَّا تَقْدِيرُ حَلَقُوا فَيُنْظَرُ فِي رَأْيِ عُرْوَةَ فَإِنْ كَانَ الْحَلْقُ عِنْدَهُ نُسُكًا فَيُقَدَّرُ فِي كَلَامِهِ وَإِلَّا فَلَا.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي عَمْرٌو) هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ بَابًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) هُوَ أَبُو الْأَسْوَدِ النَّوْفَلِيُّ الْمَدَنِيُّ الْمَعْرُوفُ بِيَتِيمِ عُرْوَةَ.

قَوْلُهُ: (ذَكَرْتُ لِعُرْوَةَ قَالَ فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ) حَذَفَ الْبُخَارِيُّ صُورَةَ السُّؤَالِ وَجَوَابَهُ وَاقْتَصَرَ عَلَى الْمَرْفُوعِ مِنْهُ، وَقَدْ ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَفْظُهُ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ قَالَ لَهُ: سَلْ لِي عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ عَنْ رَجُلٍ يُهِلُّ بِالْحَجِّ، فَإِذَا طَافَ أَيَحِلُّ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قَالَ لَكَ لَا يَحِلُّ فَقُلْ لَهُ: إِنَّ رَجُلًا يَقُولُ ذَلِكَ. قَالَ فَسَأَلْتُهُ قَالَ: لَا يَحِلُّ مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ إِلَّا بِالْحَجِّ، قَالَ فَتَصَدَّى لِيَ الرَّجُلُ فَحَدَّثْتُهُ فَقَالَ: فَقُلْ لَهُ فَإِنَّ رَجُلًا كَانَ يُخْبِرُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَمَا شَأْنُ أَسْمَاءَ وَالزُّبَيْرِ فَعَلَا ذَلِكَ؟ قَالَ: فَجِئْتُهُ أَيْ عُرْوَةَ فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ. فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي، أَيْ لَا أَعْرِفُ اسْمَهُ. قَالَ: فَمَا بَالُهُ لَا يَأْتِينِي بِنَفْسِهِ يَسْأَلُنِي؟ أَظُنُّهُ عِرَاقِيًّا. يَعْنِي وَهُمْ يَتَعَنَّتُونَ فِي الْمَسَائِلِ.

قَالَ: قَدْ حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، الرَّجُلُ الَّذِي سَأَلَ لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ رَجُلًا كَانَ يُخْبِرُ عَنَى بِهِ ابْنَ عَبَّاسٍ فَإِنَّهُ كَانَ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ وَأَهَلَّ بِالْحَجِّ إِذَا طَافَ يَحِلُّ مِنْ حَجِّهِ، وَأَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَمِرَّ عَلَى حَجِّهِ لَا يَقْرَبُ الْبَيْتَ حَتَّى يَرْجِعَ مِنْ عَرَفَةَ، وَكَانَ يَأْخُذُ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، وَقَدْ أَخْرَجَ الْمُصَنِّفُ ذَلِكَ فِي: بَابِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ حَدَّثَنِي عَطَاءٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ فَقَدْ حَلَّ. فَقُلْتُ مِنْ أَيْنَ؟ قَالَ: هَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} وَمِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ أَنْ يَحِلُّوا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، قُلْتُ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ ذَلِكَ الْمُعَرِّفِ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَرَاهُ قَبْلُ وَبَعْدُ. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِلَفْظِ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: لَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ حَاجٌّ وَلَا غَيْرُهُ إِلَّا حَلَّ. قُلْتُ لِعَطَاءٍ: مِنْ أَيْنَ تَقُولُ ذَلِكَ؟ فَذَكَرَهُ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ سَمِعْتُ أَبَا حَسَّانٍ الْأَعْرَجَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ: مَا هَذِهِ الْفُتْيَا أَنَّ مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ فَقَدْ حَلَّ؟ فَقَالَ: سُنَّةُ نَبِيِّكُمْ وَإِنْ رَغِمْتُمْ.

وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ وَبَرَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَيَصْلُحُ لِي أَنْ أَطُوفَ بِالْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ آتِيَ الْمَوْقِفَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ لَا تَطُفْ بِالْبَيْتِ حَتَّى تَأْتِيَ الْمَوْقِفَ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَدْ حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَطَافَ بِالْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْمَوْقِفَ، فَبِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ نَأْخُذَ أَوْ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا.

وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَمَعْنَى قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي الْأَسْوَدِ قَدْ فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ أَيْ أَمَرَ بِهِ، وَعُرِفَ أَنَّ هَذَا مَذْهَبٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ خَالَفَهُ فِيهِ الْجُمْهُورُ وَوَافَقَهُ فِيهِ نَاسٌ قَلِيلٌ مِنْهُمْ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَعُرِفَ أَنَّ مَأْخَذَهُ فِيهِ مَا ذُكِرَ، وَجَوَابُ الْجُمْهُورِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَفْسَخُوا حَجَّهُمْ فَيَجْعَلُوهُ عُمْرَةً، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَذَهَبَ الْأَكْثَرُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ خَاصًّا بِهِمْ، وَذَهَبَت طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِمَنْ بَعْدَهُمْ، وَاتَّفَقُوا كُلُّهُمْ أَنَّ مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ مُفْرِدًا

ص: 478

لَا يَضُرُّهُ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، وَبِذَلِكَ احْتَجَّ عُرْوَةُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَدَأَ بِالطَّوَافِ وَلَمْ يَحِلَّ مِنْ حَجِّهِ وَلَا صَارَ عُمْرَةً وَكَذَا أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً أَيْ لَمْ تَكُنِ الْفَعْلَةُ عُمْرَةً، هَذَا إِنْ كَانَ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ كَانَ تَامَّةً وَالْمَعْنَى ثُمَّ لَمْ تَحْصُلْ عُمْرَةٌ وَهِيَ عَلَى هَذَا بِالرَّفْعِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ بَدَلَ عُمْرَةٍ غَيْرُهُ بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ وَيَاءٍ سَاكِنَةٍ وَآخِرُهُ هَاءٌ، قَالَ عِيَاضٌ وَهُوَ تَصْحِيفٌ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ لَهَا وَجْهٌ أَيْ لَمْ يَكُنْ غَيْرُ الْحَجِّ، وَكَذَا وَجَّهَهُ الْقُرْطُبِيُّ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ حَجَجْتُ مَعَ أَبِي الزُّبَيْرِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَالزُّبَيْرُ بِالْكَسْرِ بَدَلٌ مِنْ أَبِي، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ يَعْنِي أَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ، قَالَ عِيَاضٌ: وَهُوَ تَصْحِيفٌ، وَسَيَأْتِي فِي الطَّرِيقِ الْآتِيَةِ بَعْدَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ بَابًا مَعَ أَبِي الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ وَكَأَنَّ سَبَبَ هَذَا التَّصْحِيفِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي تِلْكَ الطَّرِيقِ مِنَ الزِّيَادَةِ بَعْدَ ذِكْرِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ ذَكَرَ عُثْمَانَ ثُمَّ مُعَاوِيَةَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ ثُمَّ حَجَجْتُ مَعَ أَبِي الزُّبَيْرِ فَذَكَرَهُ وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ قَتْلَ الزُّبَيْرِ كَانَ قَبْلَ مُعَاوِيَةَ، وَابْنِ عُمَرَ، لَكِنْ لَا مَانِعَ أَنْ يَحُجَّا قَبْلَ قَتْلِ الزُّبَيْرِ فَرَآهُمَا عُرْوَةُ، أَوْ لَمْ يَقْصِدْ بِقَوْلِهِ ثُمَّ التَّرْتِيبَ فَإِنَّ فِيهَا أَيْضًا ثُمَّ آخِرُ مَنْ رَأَيْتُ فَعَلَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ فَأَعَادَ ذِكْرَهُ مَرَّةً أُخْرَى، وَأَغْرَبَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ فَرَجَّحَ رِوَايَةَ الْكُشْمِيهَنِيِّ مُوَجِّهًا لَهَا بِمَا ذَكَرْتُهُ، وَقَدْ أَوْضَحْتُ جَوَابَهُ بِحَمْدِ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَدْ أَخْبَرَتْنِي أُمِّي) هِيَ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، وَأُخْتُهَا هِيَ عَائِشَةُ، وَاسْتُشْكِلَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ عَائِشَةَ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ لَمْ تَطُفْ لِأَجْلِ حَيْضِهَا، وَأُجِيبَ بِالْحَمْلِ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ حَجَّةً أُخْرَى غَيْرَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَقَدْ كَانَتْ عَائِشَةُ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَحُجُّ كَثِيرًا، وَسَيَأْتِي الْإِلْمَامُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا فِي أَبْوَابِ الْعُمْرَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (فَلَمَّا مَسَحُوا الرُّكْنَ حَلُّوا) أَيْ صَارُوا حَلَالًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ مَا فِيهِ مِنَ الْإِشْكَالِ وَجَوَابُهُ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُ الِابْتِدَاءِ بِالطَّوَافِ لِلْقَادِمِ لِأَنَّهُ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَاسْتَثْنَى بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُ الْمَرْأَةَ الْجَمِيلَةَ أَوِ الشَّرِيفَةَ الَّتِي لَا تَبْرُزُ فَيُسْتَحَبُّ لَهَا تَأْخِيرُ الطَّوَافِ إِلَى اللَّيْلِ إِنْ دَخَلَتْ نَهَارًا، وَكَذَا مَنْ خَافَ فَوْتَ مَكْتُوبَةٍ أَوْ جَمَاعَةٍ مَكْتُوبَةٍ أَوْ مُؤَكَّدَةٍ أَوْ فَائِتَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى الطَّوَافِ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ طَوَافَ الْقُدُومِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَعَنْ مَالِكٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَيْهِ دَمٌ، وَهَلْ يَتَدَارَكُهُ مَنْ تَعَمَّدَ تَأْخِيرَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ؟ وَجْهَانِ كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، وَفِيهِ الْوُضُوءُ لِلطَّوَافِ، وَسَيَأْتِي حَيْثُ تَرْجَمَ لَهُ الْمُصَنِّفُ بَعْدَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ بَابًا.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ كِلَاهُمَا مِنْ رِوَايَةِ نَافِعٍ عَنْهُ: أَحَدُهُمَا مِنْ رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ وَالْآخَرُ مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَالرَّاوِي عَنْهُمَا وَاحِدٌ وَهُوَ أَبُو ضَمْرَةَ أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، وزَادَ فِي رِوَايَةِ مُوسَى ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَالْمُرَادُ بِهِمَا رَكْعَتَا الطَّوَافِ ثُمَّ سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَزَادَ فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّهُ كَانَ يَسْعَى بِبَطْنِ الْمَسِيلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالرَّمَلِ قَبْلَ خَمْسَةِ أَبْوَابٍ، وَأَمَّا السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ حَيْثُ تَرْجَمَ لَهُ الْمُصَنِّفُ بَعْدَ خَمْسَةَ عَشَرَ بَابًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْمُرَادُ بِبَطْنِ الْمَسِيلِ الْوَادِي لِأَنَّهُ مَوْضِعُ السَّيْلِ.

‌64 - بَاب طَوَافِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ

1618 -

وقَالَ عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ:، أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ - إِذْ مَنَعَ ابْنُ هِشَامٍ النِّسَاءَ الطَّوَافَ مَعَ الرِّجَالِ - قَالَ: كَيْفَ يَمْنَعُهُنَّ وَقَدْ طَافَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ الرِّجَالِ؟ قُلْتُ: أَبَعْدَ الْحِجَابِ أَوْ قَبْلُ؟ قَالَ: إِي لَعَمْرِي لَقَدْ أَدْرَكْتُهُ بَعْدَ الْحِجَابِ. قُلْتُ: كَيْفَ يُخَالِطْنَ الرِّجَالَ؟ قَالَ: لَمْ يَكُنَّ يُخَالِطْنَ، كَانَتْ

ص: 479

عَائِشَةُ رضي الله عنها تَطُوفُ حَجْرَةً مِنْ الرِّجَالِ لَا تُخَالِطُهُمْ، فَقَالَتْ امْرَأَةٌ: انْطَلِقِي نَسْتَلِمْ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَتْ: انْطَلِقِي عَنْكِ، وَأَبَتْ، يَخْرُجْنَ مُتَنَكِّرَاتٍ بِاللَّيْلِ فَيَطُفْنَ مَعَ الرِّجَالِ، وَلَكِنَّهُنَّ كُنَّ إِذَا دَخَلْنَ الْبَيْتَ قُمْنَ حَتَّى يَدْخُلْنَ وَأُخْرِجَ الرِّجَالُ، وَكُنْتُ آتِي عَائِشَةَ أَنَا وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَهِيَ مُجَاوِرَةٌ فِي جَوْفِ ثَبِيرٍ، قُلْتُ: وَمَا حِجَابُهَا؟ قَالَ: هِيَ فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ لَهَا غِشَاءٌ، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَرَأَيْتُ عَلَيْهَا دِرْعًا مُوَرَّدًا.

1619 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ "شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي أَشْتَكِي فَقَالَ: "طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ" فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَئِذٍ يُصَلِّي إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ وَهُوَ يَقْرَأُ {وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} .

قَوْلُهُ: (بَابُ طَوَافِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ) أَيْ هَلْ يَخْتَلِطْنَ بِهِمْ أَوْ يَطُفْنَ مَعَهُمْ عَلَى حِدَةٍ بِغَيْرِ اخْتِلَاطٍ أَوْ يَنْفَرِدْنَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ لِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ) هَذَا أَحَدُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي أَخْرَجَهَا، عَنْ شَيْخِهِ، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلِ بِوَاسِطَةٍ، وَقَدْ ضَاقَ عَلَى الْإِسْمَاعِيلِيِّ مَخْرَجُهُ فَأَخْرَجَهُ أَوَّلًا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ ثُمَّ أَخْرَجَهُ هَكَذَا وَكَذَا الْبَيْهَقِيُّ، وَأَمَّا أَبُو نُعَيْمٍ فَأَخْرَجَهُ أَوَّلًا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي قُرَّةَ مُوسَى بْنِ طَارِقٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ مِثْلَهُ غَيْرَ قِصَّةِ عَطَاءٍ مَعَ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: هَذَا حَدِيثٌ عَزِيزٌ ضَيِّقُ الْمَخْرَجِ. قُلْتُ: قَدْ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِتَمَامِهِ، وَكَذَا وَجَدْتُهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَخْرَجَهُ الْفَاكِهِيُّ فِي: كِتَابِ مَكَّةَ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ الْحَكَمِ الصَّنْعَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُعْشُمٍ وَهُوَ بِجِيمٍ وَمُعْجَمَةٍ مَضْمُومَتَيْنِ بَيْنَهُمَا عَيْنٌ مُهْمَلَةٌ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ فَذَكَرَهُ بِتَمَامِهِ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (إِذْ مَنَعَ ابْنُ هِشَامٍ) هُوَ إِبْرَاهِيمُ - أَوْ أَخُوهُ مُحَمَّدُ - ابْنُ هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ هِشَامِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ الْمَخْزُومِيُّ وَكَانَا خَالَيْ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَوَلَّى مُحَمَّدًا إِمْرَةَ مَكَّةَ وَوَلَّى أَخَاهُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ هِشَامٍ إِمْرَةَ الْمَدِينَةِ وَفَوَّضَ هِشَامٌ، لِإِبْرَاهِيمَ إِمْرَةَ الْحَجِّ بِالنَّاسِ فِي خِلَافَتِهِ فَلِهَذَا قُلْتُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ، ثُمَّ عَذَّبَهُمَا يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ الثَّقَفِيُّ حَتَّى مَاتَا فِي مِحْنَتِهِ فِي أَوَّلِ وِلَايَةِ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بِأَمْرِهِ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، قَالَهُ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ فِي تَارِيخِهِ، وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ ابْنَ هِشَامٍ أَوَّلُ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ، لَكِنْ رَوَى الْفَاكِهِيُّ مِنْ طَرِيقِ زَائِدَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: نَهَى عُمَرُ أَنْ يَطُوفَ الرِّجَالُ مَعَ النِّسَاءِ، قَالَ فَرَأَى رَجُلًا مَعَهُنَّ فَضَرَبَهُ بِالدِّرَّةِ، وَهَذَا إِنْ صَحَّ لَمْ يُعَارِضِ الْأَوَّلَ لِأَنَّ ابْنَ هِشَامٍ مَنَعَهُنَّ أَنْ يَطُفْنَ حِينَ يَطُوفُ الرِّجَالُ مُطْلَقًا، فَلِهَذَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ عَطَاءٌ وَاحْتَجَّ بِصَنِيعِ عَائِشَةَ وَصَنِيعِهَا شَبِيهٌ بِهَذَا الْمَنْقُولِ عَنْ عُمَرَ، قَالَ الْفَاكِهِيُّ: وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي الطَّوَافِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ انْتَهَى، وَهَذَا إِنْ ثَبَتَ فَلَعَلَّهُ مَنَعَ ذَلِكَ وَقْتًا ثُمَّ تَرَكَهُ فَإِنَّهُ كَانَ أَمِيرَ مَكَّةَ فِي زَمَنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَذَلِكَ قَبْلَ ابْنِ هِشَامٍ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ.

قَوْلُهُ: (وكَيْفَ يَمْنَعُهُنَّ) مَعْنَاهُ أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ بِزَمَانِ الْمَنْعِ قَائِلًا فِيهِ كَيْفَ يَمْنَعُهُنَّ.

قَوْلُهُ: (وَقَدْ طَافَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ الرِّجَالِ) أَيْ غَيْرَ مُخْتَلِطَاتٍ بِهِنَّ.

قَوْلُهُ: (بَعْدَ الْحِجَابِ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي أَبَعْدَ بِإِثْبَاتِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَكَذَا هُوَ لِلْفَاكِهِيِّ.

قَوْلُهُ: (إِي لَعَمْرِي) هُوَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ بِمَعْنَى نَعَمْ.

قَوْلُهُ: (لَقَدْ أَدْرَكْتُهُ بَعْدَ الْحِجَابِ) ذَكَرَ عَطَاءٌ هَذَا لِرَفْعِ تَوَهُّمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ حَمَلَ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ

ص: 480

رَأَى ذَلِكَ مِنْهُنَّ، وَالْمُرَادُ بِالْحِجَابِ نُزُولُ آيَةِ الْحِجَابِ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} وَكَانَ ذَلِكَ فِي تَزْوِيجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي مَكَانِهِ، وَلَمْ يُدْرِكْ ذَلِكَ عَطَاءٌ قَطْعًا.

قَوْلُهُ: (يُخَالِطْنَ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي يُخَالِطُهُنَّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَالرِّجَالُ بِالرَّفْعِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ.

قَوْلُهُ: (حَجْرَةُ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْجِيمِ بَعْدَهَا رَاءٌ أَيْ نَاحِيَةُ، قَالَ الْقَزَّازُ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: نَزَلَ فُلَانٌ حَجْرَةً مِنَ النَّاسِ، أَيْ مُعْتَزَلًا. وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ حَجْزَةٌ بِالزَّايِ وَهِيَ رِوَايَةُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فَإِنَّهُ فَسَّرَهُ فِي آخِرِهِ فَقَالَ: يَعْنِي مَحْجُوزًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الرِّجَالِ بِثَوْبٍ، وَأَنْكَرَ ابْنُ قُرْقُولٍ حُجْرَةً بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَبِالرَّاءِ، وَلَيْسَ بِمُنْكَرٍ فَقَدْ حَكَاهُ ابْنُ عُدَيْسٍ، وَابْنُ سِيدَهْ فَقَالَا: يُقَالُ قَعَدَ حَجْرَةً بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ أَيْ نَاحِيَةً.

قَوْلُهُ: (فَقَالَتِ امْرَأَةٌ) زَادَ الْفَاكِهِيُّ مَعَهَا وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ دِقْرَةُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْقَافِ امْرَأَةً رَوَى عَنْهَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ أَنَّهَا كَانَتْ تَطُوفُ مَعَ عَائِشَةَ بِاللَّيْلِ فَذَكَرَ قِصَّةً أَخْرَجَهَا الْفَاكِهِيُّ.

قَوْلُهُ: (انْطَلِقِي عَنْكِ) أَيْ عَنْ جِهَةِ نَفْسِكِ.

قَوْلُهُ: (يَخْرُجْنَ) زَادَ الْفَاكِهِيُّ وَكُنَّ يَخْرُجْنَ إِلَخْ.

قَوْلُهُ: (مُتَنَكِّرَاتٍ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ مُسْتَتِرَاتٍ وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ الدَّاوُدِيُّ جَوَازَ النِّقَابِ لِلنِّسَاءِ فِي الْإِحْرَامِ وَهُوَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ.

قَوْلُهُ: (إِذَا دَخَلْنَ الْبَيْتَ قُمْنَ) فِي رِوَايَةِ الْفَاكِهِيِّ سُتِرْنَ.

قَوْلُهُ: (حِينَ يَدْخُلْنَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ حَتَّى يَدْخُلْنَ وَكَذَا هُوَ لِلْفَاكِهِيِّ، وَالْمَعْنَى إِذَا أَرَدْنَ دُخُولَ الْبَيْتِ وَقَفْنَ حَتَّى يَدْخُلْنَ حَالَ كَوْنِ الرِّجَالِ مُخْرَجِينَ مِنْهُ.

قَوْلُهُ: (وَكُنْتُ آتِي عَائِشَةَ أَنَا وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ) أَيِ اللَّيْثِيُّ، وَالْقَائِلُ ذَلِكَ عَطَاءٌ، وَسَيَأْتِي فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ زُرْتُ عَائِشَةَ مَعَ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ.

قَوْلُهُ: (وَهِيَ مُجَاوِرَةٌ فِي جَوْفِ ثَبِيرٍ) أَيْ مُقِيمَةٌ فِيهِ، وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ ابْنُ بَطَّالٍ الِاعْتِكَافَ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ لِأَنَّ ثَبِيرًا خَارِجٌ عَنْ مَكَّةَ وَهُوَ فِي طَرِيقِ مِنًى. انْتَهَى. وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِثَبِيرٍ الْجَبَلُ الْمَشْهُورُ الَّذِي كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ لَهُ: أَشْرِقْ ثَبِيرٌ كَيْمَا نُغِيرُ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ بَعْدَ قَلِيلٍ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَهُوَ جَبَلُ الْمُزْدَلِفَةِ، لَكِنَّ بِمَكَّةَ خَمْسَةَ جِبَالٍ أُخْرَى يُقَالُ لِكُلٍّ مِنْهَا ثَبِيرٌ ذَكَرَهَا أَبُو عُبَيْدٍ الْبَكْرِيُّ، وَيَاقُوتُ وَغَيْرُهُمَا، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لِأَحَدِهَا، لَكِنْ يَلْزَمُ مِنْ إِقَامَةِ عَائِشَةَ هُنَاكَ أَنَّهَا أَرَادَتْ الِاعْتِكَافَ، سَلَّمْنَا لَكِنْ لَعَلَّهَا اتَّخَذَتْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي جَاوَرَتْ فِيهِ مَسْجِدًا اعْتَكَفَتْ فِيهِ وَكَأَنَّهَا لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهَا مَكَانٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ تَعْتَكِفُ فِيهِ فَاتَّخَذَتْ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَمَا حِجَابُهَا؟) زَادَ الْفَاكِهِيُّ حِينَئِذٍ.

قَوْلُهُ: (تُرْكِيَّةٌ) قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: هِيَ قُبَّةٌ صَغِيرَةٌ مِنْ لُبُودٍ تُضْرَبُ فِي الْأَرْضِ.

قَوْلُهُ: (دِرْعًا مُوَرَّدًا) أَيْ قَمِيصًا لَوْنُهُ لَوْنُ الْوَرْدِ، وَلِعَبْدِ الرَّزَّاقِ دِرْعًا مُعَصْفَرًا وَأَنَا صَبِيٌّ فَبَيَّنَ بِذَلِكَ سَبَبَ رُؤْيَتِهِ إِيَّاهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ رَأَى مَا عَلَيْهَا اتِّفَاقًا، وَزَادَ الْفَاكِهِيُّ فِي آخِرِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَبَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أُمَّ سَلَمَةَ أَنْ تَطُوفَ رَاكِبَةً فِي خِدْرِهَا مِنْ وَرَاءِ الْمُصَلِّينَ فِي جَوْفِ الْمَسْجِدِ: وَأَفْرَدَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ هَذَا، وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ حَذَفَهُ لِكَوْنِهِ مُرْسَلًا فَاغْتَنَى عَنْهُ بِطَرِيقِ مَالِكٍ الْمَوْصُولَةِ فَأَخْرَجَهَا عَقِبَهُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) هُوَ أَبُو الْأَسْوَدِ يَهيمُ عُرْوَةَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) هِيَ وَالِدَةُ زَيْنَبَ الرَّاوِيَةُ عَنْهَا.

قَوْلُهُ: (أَنِّي أَشْتَكِي) أَيْ أنَّهَا ضَعِيفَةٌ، وَقَدْ بَيَّنَ الْمُصَنِّفُ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ سَبَبَ طَوَافِ أُمِّ سَلَمَةَ وَأَنَّهُ طَوَافُ الْوَدَاعِ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ سِتَّةِ أَبْوَابٍ.

قَوْلُهُ: (وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ) فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ عَلَى بَعِيرِكِ.

قَوْلُهُ: (وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي) فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ وَبَيَّنَ فِيهِ أَنَّهَا صَلَاةُ الصُّبْحِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ، وَفِيهِ جَوَازُ الطَّوَافِ لِلرَّاكِبِ إِذَا كَانَ لِعُذْرٍ، وَإِنَّمَا أَمَرَهَا أَنْ تَطُوفَ مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ لِيَكُونَ أَسْتَرَ لَهَا وَلَا تَقْطَعُ صُفُوفَهُمْ أَيْضًا وَلَا يَتَأَذَّوْنَ بِدَابَّتِهَا، فَأَمَّا طَوَافُ الرَّاكِبِ مِنْ

ص: 481

غَيْرِ عُذْرٍ فَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ بَعْدَ أَبْوَابٍ، وَيَلْتَحِقُ بِالرَّاكِبِ الْمَحْمُولُ إِذَا كَانَ لَهُ عُذْرٌ، وَهَلْ يُجْزِئُ هَذَا الطَّوَافُ عَنِ الْحَامِلِ وَالْمَحْمُولِ؟ فِيهِ بَحْثٌ. وَاحْتَجَّ بِهِ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ لِطَهَارَةِ بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُ ذَلِكَ وَالتَّعَقُّبُ عَلَيْهِ فِي: بَابِ إِدْخَالِ الْبَعِيرِ الْمَسْجِدَ لِلْعِلَّةِ.

‌65 - بَاب الْكَلَامِ فِي الطَّوَافِ

1620 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ: أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ الْأَحْوَلُ أَنَّ طَاوُسًا أَخْبَرَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ بِإِنْسَانٍ رَبَطَ يَدَهُ إِلَى إِنْسَانٍ بِسَيْرٍ - أَوْ بِخَيْطٍ أَوْ بِشَيْءٍ غَيْرِ ذَلِكَ - فَقَطَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: قُدْهُ بِيَدِهِ.

[الحديث 1620 - أطرافه في: 1621، 6702، 6703]

قَوْلُهُ: (بَابُ الْكَلَامِ فِي الطَّوَافِ) أَيْ إِبَاحَتِهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُصَرِّحْ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْخَبَرَ وَرَدَ فِي كَلَامٍ يَتَعَلَّقُ بِأَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ لَا بِمُطْلَقِ الْكَلَامِ، وَلَعَلَّهُ أَشَارَ إِلَى الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا: الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ فِيهِ الْكَلَامَ، فَمَنْ نَطَقَ فَلَا يَنْطِقْ إِلَّا بِخَيْرٍ. أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَقَدِ اسْتَنْبَطَ مِنْهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ أَنَّ الطَّوَافَ أَفْضَلُ أَعْمَالِ الْحَجِّ لِأَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ مِنَ الْحَجِّ فَيَكُونُ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَفْضَلَ، قَالَ: وَأَمَّا حَدِيثُ: الْحَجُّ عَرَفَةُ. فَلَا يَتَعَيَّنُ، التَّقْدِيرُ مُعْظَمُ الْحَجِّ عَرَفَةُ بَلْ يَجُوزُ إِدْرَاكُ الْحَجِّ بِالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ. قُلْتُ: وَفِيهِ نَظَرٌ، وَلَوْ سُلِّمَ فَمَا لَا يَتَقَوَّمُ الْحَجُّ إِلَّا بِهِ أَفْضَلُ مِمَّا يَنْجَبِرُ، وَالْوُقُوفُ وَالطَّوَافُ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ فَلَا تَفْضِيلَ.

قَوْلُهُ: (بِإِنْسَانٍ رَبَطَ يَدَهُ إِلَى إِنْسَانٍ) زَادَ أَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ إِلَى إِنْسَانٍ آخَرَ وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ حَجَّاجٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِإِنْسَانٍ قَدْ رَبَطَ يَدَهُ بِإِنْسَانٍ.

قَوْلُهُ: (بِسَيْرٍ) بِمُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَيَاءٍ سَاكِنَةٍ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ مَا يُقَدُّ مِنَ الْجِلْدِ وَهُوَ الشِّرَاكُ.

قَوْلُهُ: (أَوْ بِشَيْءٍ غَيْرِ ذَلِكَ) كَأَنَّ الرَّاوِيَ لَمْ يَضْبِطْ مَا كَانَ مَرْبُوطًا بِهِ، وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ، وَالْفَاكِهِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَدْرَكَ رَجُلَيْنِ وَهُمَا مُقْتَرِنَانِ فَقَالَ: مَا بَالُ الْقِرَانِ؟ قَالَا: إِنَّا نَذَرْنَا لَنَقْتَرِنَنَّ حَتَّى نَأْتِيَ الْكَعْبَةَ، فَقَالَ: أَطْلِقَا أَنْفُسَكُمَا، لَيْسَ هَذَا نَذْرًا إِنَّمَا النَّذْرُ مَا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ. وَإِسْنَادُهُ إِلَى عَمْرٍو حَسَنٌ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَةِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ صَرِيحًا إِلَّا أَنَّ فِي الطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ فَاطِمَةَ بِنْتِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي خَلِيفَةُ بْنُ بِشْرٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَسْلَمَ، فَرَدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَالَهُ وَوَلَدَهُ، ثُمَّ لَقِيَهُ هُوَ وَابْنَهُ طَلْقَ بْنَ بِشْرٍ مُقْتَرِنَيْنِ بِحَبْلٍ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: حَلَفْتُ لَئِنْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ مَالِي ووَلَدِي لَأَحُجَّنَّ بَيْتَ اللَّهِ مَقْرُونًا، فَأَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْحَبْلَ فَقَطَعَهُ وَقَالَ لَهُمَا: حُجَّا، إِنَّ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ. فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِشْرٌ وَابْنُهُ طَلْقٌ صَاحِبَيْ هَذِهِ الْقِصَّةِ. وَأَغْرَبَ الْكِرْمَانِيُّ فَقَالَ: قِيلَ اسْمُ الرَّجُلِ الْمَقُودِ هُوَ ثَوَابٌ ضِدَّ الْعِقَابِ. انْتَهَى. وَلَمْ أَرَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ وَلَا أَدْرِي مِنْ أَيْنَ أَخَذَهُ.

قَوْلُهُ: (قُدْ) بِضَمِّ الْقَافِ وَسُكُونِ الدَّالِ فِعْلُ أَمْرٍ، وفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ قُدْهُ بِإِثْبَاتِ هَاءِ الضَّمِيرِ وَهُوَ لِلرَّجُلِ الْمَقُودِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَقَطْعُهُ عليه الصلاة والسلام السَّيْرَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُمْكِنْ إِزَالَةُ هَذَا الْمُنْكَرِ إِلَّا بِقَطْعِهِ، أَوْ أَنَّهُ دَلَّ عَلَى صَاحِبِهِ فَتَصَرَّفَ فِيهِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَقَرَّبُونَ إِلَى اللَّهِ بِمِثْلِ هَذَا الْفِعْلِ. قُلْتُ: وَهُوَ بَيِّنٌ مِنْ سِيَاقِ حَدِيثَيْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، وَخَلِيفَةَ بْنِ بِشْرٍ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: إِنَّهُ يَجُوزُ لِلطَّائِفِ فِعْلُ مَا خَفَّ مِنَ الْأَفْعَالِ وَتَغْيِيرُ مَا يَرَاهُ الطَّائِفُ مِنَ الْمُنْكَرِ. وَفِيهِ الْكَلَامُ فِي الْأُمُورِ الْوَاجِبَةِ

ص: 482

وَالْمُسْتَحَبَّةِ وَالْمُبَاحَةِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَوْلَى مَا يشَغَلَ الْمَرْءُ بِهِ نَفْسَهُ فِي الطَّوَافِ ذِكْرُ اللَّهِ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَلَا يَحْرُمُ الْكَلَامُ الْمُبَاحُ إِلَّا أَنَّ الذِّكْرَ أَسْلَمُ. وَحَكَى ابْنُ التِّينِ خِلَافًا فِي كَرَاهَةِ الْكَلَامِ الْمُبَاحِ. وَعَنْ مَالِكٍ تَقْيِيدَ الْكَرَاهَةِ بِالطَّوَافِ الْوَاجِبِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَاخْتَلَفُوا فِي الْقِرَاءَةِ، فَكَانَ ابْنُ الْمُبَارَكِ يَقُولُ: لَيْسَ شَيْءٌ أَفْضَلَ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَفَعَلَهُ مُجَاهِدٌ، وَاسْتَحَبَّهُ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَقَيَّدَهُ الْكُوفِيُّونَ بِالسِّرِّ، وَرُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ، وَالْحَسَنِ كَرَاهَتُهُ، وَعَنْ عَطَاءٍ، وَمَالِكٍ أَنَّهُ مُحْدَثٌ، وَعَنْ مَالِكٍ لَا بَأْسَ بِهِ إِذَا أَخْفَاهُ وَلَمْ يُكْثِرْ مِنْهُ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: مَنْ أَبَاحَ الْقِرَاءَةَ فِي الْبَوَادِي وَالطُّرُقِ وَمَنَعَهُ فِي الطَّوَافِ لَا حُجَّةَ لَهُ.

وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ أَنَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَنْ نَذَرَ مَا لَا طَاعَةَ لِلَّهِ تَعَالَى فِيهِ لَا يَلْزَمُهُ، وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ ضَرِيرَ الْبَصَرِ وَلِهَذَا قَالَ لَهُ قُدْهُ بِيَدِهِ. انْتَهَى. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ أَمْرِهِ لَهُ بِأَنْ يَقُودَهُ أَنَّهُ كَانَ ضَرِيرًا، بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنًى آخَرَ غَيْرِ ذَلِكَ، وَأَمَّا مَا أَنْكَرَهُ مِنَ النَّذْرِ فَمُتَعَقَّبٌ بِمَا فِي النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ إِنَّهُ نَذْرٌ، وَلِهَذَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي أَبْوَابِ النَّذْرِ كَمَا سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مَشْرُوحًا هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌66 - بَاب إِذَا رَأَى سَيْرًا أَوْ شَيْئًا يُكْرَهُ فِي الطَّوَافِ قَطَعَهُ

1621 -

حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلِ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ بِزِمَامٍ أَوْ غَيْرِهِ فَقَطَعَهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا رَأَى سَيْرًا أَوْ شَيْئًا يُكْرَهُ فِي الطَّوَافِ قَطَعَهُ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِإِسْنَادِهِ وَلَفْظُهُ: رَأَى رَجُلًا يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ بِزِمَامٍ أَوْ غَيْرِهِ فَقَطَعَهُ. وَهَذَا مُخْتَصَرٌ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الَّذِي قَبْلَهُ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَإِنَّمَا قَطَعَهُ لِأَنَّ الْقَوَدَ بِالْأَزِمَّةِ إِنَّمَا يُفْعَلُ بِالْبَهَائِمِ وَهُوَ مُثْلَةٌ

‌67 - بَاب لَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَلَا يَحُجُّ مُشْرِكٌ

1622 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ يُونُسُ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه بَعَثَهُ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي أَمَّرَهُ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَوْمَ النَّحْرِ فِي رَهْطٍ يُؤَذِّنُ فِي النَّاسِ: أَلَا لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ.

قَوْلُهُ: (بَابُ لَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي ذَلِكَ، وَفِيهِ حُجَّةٌ لِاشْتِرَاطِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الطَّوَافِ كَمَا يُشْتَرَطُ فِي الصَّلَاةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ طَرَفٌ مِنْ ذَلِكَ فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ، وَالْمُخَالِفُ فِي ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ قَالُوا: سَتْرُ الْعَوْرَةِ فِي الطَّوَافِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَمَنْ طَافَ عُرْيَانًا عَادَ مَا دَامَ بِمَكَّةَ، فَإِنْ أخَرَجَ لَزِمَهُ دَمٌ. وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي سَبَبِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ قُرَيْشًا ابْتَدَعَتْ قَبْلَ الْفِيلِ أَوْ بَعْدَهُ أَنْ لَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ أَحَدٌ مِمَّنْ يَقْدَمُ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِهِمْ أَوَّلَ مَا يَطُوفُ إِلَّا فِي ثِيَابِ أَحَدِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ طَافَ عُرْيَانًا، فَإِنْ خَالَفَ وَطَافَ بِثِيَابِهِ أَلْقَاهَا إِذَا فَرَغَ ثُمَّ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا فَجَاءَ الْإِسْلَامُ فَهَدَمَ ذَلِكَ كُلَّهُ.

قَوْلُهُ: (أَنْ لَا يَحُجَّ) بِالنَّصْبِ، وَفِي رِوَايَةِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ الْمُؤَلَّفِ فِي التَّفْسِيرِ أَنْ لَا يَحُجَّنَّ وَهُوَ يُعَيِّنُ ذَلِكَ لِلنَّهْيِ.

وَقَوْلُهُ: وَلَا يَطُوفُ يَجُوزُ فِيهِ النَّصْبُ، وَالتَّقْدِيرُ وَأَنْ لَا يَطُوفَ، وَالرَّفْعُ عَلَى أَنَّ أَنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ بِفَتْحِ الطَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الْفَاءِ عَطْفًا عَلَى الَّذِي قَبْلَهُ، وَسَيَأْتِي

ص: 483

الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي تَفْسِيرِ بَرَاءَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌68 - بَاب إِذَا وَقَفَ فِي الطَّوَافِ

وَقَالَ عَطَاءٌ فِيمَنْ يَطُوفُ فَتُقَامُ الصَّلَاةُ، أَوْ يُدْفَعُ عَنْ مَكَانِهِ: إِذَا سَلَّمَ يَرْجِعُ إِلَى حَيْثُ قُطِعَ عَلَيْهِ. وَيُذْكَرُ نَحْوُهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهم

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا وَقَفَ فِي الطَّوَافِ) أَيْ هَلْ يَنْقَطِعُ طَوَافُهُ أَوْ لَا، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ مَنْ أُقِيمَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَهُوَ فِي الطَّوَافِ فَقَطَعَهُ أَنْ يَسْتَأْنِفَهُ وَلَا يَبْنِي عَلَى مَا مَضَى، وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ فَقَالُوا: يَبْنِي، وَقَيَّدَهُ مَالِكٌ بِصَلَاةِ الْفَرِيضَةِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَفِي غَيْرِهَا إِتْمَامُ الطَّوَافِ أَوْلَى فَإِنْ خَرَجَ بَنَى، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَشْهَبُ يَقْطَعُهُ وَيَبْنِي، وَاخْتَارَ الْجُمْهُورُ قَطْعَهُ لِلْحَاجَةِ، وَقَالَ نَافِعٌ: طُولُ الْقِيَامِ فِي الطَّوَافِ بِدْعَةٌ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَطَاءٌ إِلَخْ) وَصَلَ نَحْوَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قُلْتُ لِعَطَاءٍ الطَّوَافُ الَّذِي يَقْطَعُهُ عَلَيَّ الصَّلَاةُ وَأَعْتَدُّ بِهِ أَيُجْزِئُ؟ قَالَ نَعَمْ، وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ لَا يُعْتَدَّ بِهِ. قَالَ: فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْكَعَ قَبْلَ أَنْ أُتِمَّ سَبْعِي، قَالَ: لَا، أَوْفِ سَبْعَكَ إِلَّا أَنْ تُمْنَعَ مِنَ الطَّوَافِ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الرَّجُلِ يَطُوفُ بَعْضَ طَوَافِهِ ثُمَّ تَحْضُرُ الْجِنَازَةُ: يَخْرُجُ فَيُصَلِّي عَلَيْهَا ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَقْضِي مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ طَوَافِهِ.

قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ) وَصَلَ نَحْوَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّا، عَنْ جَمِيلِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ طَافَ بِالْبَيْتِ فَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّى مَعَ الْقَوْمِ، ثُمَّ قَامَ فَبَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ طَوَافِهِ.

قَوْلُهُ: (وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ) وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ طَافَ فِي إِمَارَةِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ عَلَى مَكَّةَ - يَعْنِي فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ - فَخَرَجَ عَمْرٌو إِلَى الصَّلَاةِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: انْظُرْنِي حَتَّى أَنْصَرِفَ عَلَى وِتْرٍ، فَانْصَرَفَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَطَوَافٍ - يَعْنِي ثُمَّ صَلَّى - ثُمَّ أَتَمَّ مَا بَقِيَ وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ بَدَتْ لَهُ حَاجَةٌ وَخَرَجَ إِلَيْهَا فَلْيَخْرُجْ عَلَى وِتْرٍ مِنْ طَوَافِهِ وَيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ فَفَهِمَ بَعْضُهُمْ مِنْهُ أَنَّهُ يُجْزِئُ عَنْ ذَلِكَ وَلَا يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ إِنْ كَانَ الطَّوَافُ تَطَوُّعًا وَخَرَجَ فِي وِتْرٍ فَإِنَّهُ يُجْزِئُ عَنْهُ وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي الشَّعْثَاءِ أَنَّهُ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ وَقَدْ طَافَ خَمْسَةَ أَطَوَافٍ فَلَمْ يُتِمَّ مَا بَقِيَ.

(تَنْبِيهٌ): لَمْ يَذْكُرِ الْبُخَارِيُّ فِي الْبَابِ حَدِيثًا مَرْفُوعًا إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ فِيهِ حَدِيثًا عَلَى شَرْطِهِ، وَقَدْ أَسْقَطَ ابْنُ بَطَّالٍ مِنْ شَرْحِهِ تَرْجَمَةَ الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ فَصَارَتْ أَحَادِيثُهُ لِتَرْجَمَةِ إِذَا وَقَفَ فِي الطَّوَافِ ثُمَّ اسْتُشْكِلَ إِيرَادُ كَوْنِهِ عليه الصلاة والسلام طَافَ أُسْبُوعًا وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَأَجَابَ بِأَنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَقِفْ وَلَا جَلَسَ فِي طَوَافِهِ فَكَانَتِ السُّنَّةُ فِيهِ الْمُوَالَاةَ.

‌69 - بَاب صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِسُبُوعِهِ رَكْعَتَيْنِ

وَقَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يُصَلِّي لِكُلِّ سُبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ: قُلْتُ لِلزُّهْرِيِّ إِنَّ عَطَاءً يَقُولُ تُجْزِئُهُ الْمَكْتُوبَةُ مِنْ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ، فَقَالَ: السُّنَّةُ أَفْضَلُ، لَمْ يَطُفْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سُبُوعًا قَطُّ إِلَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ.

1623 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو: سَأَلْنَا ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما أَيَقَعُ الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ فِي الْعُمْرَةِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؟ قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا ثُمَّ

ص: 484

صَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ وَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَقَالَ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}

1624 -

قَالَ: وَسَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما فَقَالَ: لَا يَقْرَبُ امْرَأَتَهُ حَتَّى يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِسُبُوعِهِ رَكْعَتَيْنِ) السُّبُوعُ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ فِي الْأُسْبُوعِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: هُوَ جَمْعُ سُبْعٍ بِالضَّمِّ ثُمَّ السُّكُونِ كَبُرْدٍ وَبُرُودٍ، وَوَقَعَ فِي حَاشِيَةِ الصِّحَاحِ مَضْبُوطًا بِفَتْحِ أَوَّلِهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ نَافِعٌ إِلَخْ) وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ سَبْعًا ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَعَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَكْرَهُ قَرْنَ الطَّوَافِ وَيَقُولُ: عَلَى كُلِّ سُبْعٍ صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ لَا يُقْرِنُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مُخْتَصَرًا قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: مَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّ مَعَ كُلِّ أُسْبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ. وَوَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِتَمَامِهِ، وَأَرَادَ الزُّهْرِيُّ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَكْتُوبَةَ لَا تُجْزِئُ عَنْ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَطُفْ أُسْبُوعًا قَطُّ إِلَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ نَظَرٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ إِلَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ نَفْلًا أَوْ فَرْضًا، لِأَنَّ الصُّبْحَ رَكْعَتَانِ فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ لَكِنَّ الْحَيْثِيَّةَ مَرْعِيَّةٌ، وَالزُّهْرِيُّ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ هَذَا الْقَدْرُ فَلَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ إِلَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ أَيْ مِنْ غَيْرِ الْمَكْتُوبَةِ.

ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا ثُمَّ صَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ. الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي أَبْوَابِ الْعُمْرَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (وَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) فِيهِ تَجَوُّزٌ، لِأَنَّهُ يُسَمَّى سَعْيًا لَا طَوَافًا إِذْ حَقِيقَةُ الطَّوَافِ الشَّرْعِيَّةُ فِيهِ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ أَوْ هِيَ حَقِيقَةٌ لُغَوِيَّةٌ.

قَوْلُهُ: (قَالَ وَسَأَلْتُ) الْقَائِلُ هُوَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ الرَّاوِي عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَوَجْهُ الدِّلَالَةِ مِنْهُ لِمَقْصُودِ التَّرْجَمَةِ وَهُوَ أَنَّ الْقِرَانَ بَيْنَ الْأَسَابِيعِ خِلَافُ الْأَوْلَى مِنْ جِهَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَفْعَلْهُ، وَقَدْ قَالَ: خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ يُكْرَهُ، وَأَجَازَهُ الْجُمْهُورُ بِغَيْرِ كَرَاهَةٍ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرِنُ بَيْنَ الْأَسَابِيعِ إِذَا طَافَ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ، فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ أَوْ غَرَبَتْ صَلَّى لِكُلِّ أُسْبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: إِنْ قُلْنَا إِنَّ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ وَاجِبَتَانِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةِ فَلَا بُدَّ مِنْ رَكْعَتَيْنِ لِكُلِّ طَوَافٍ. وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: رَكْعَتَا الطَّوَافِ وَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِهِمَا فَلَيْسَتَا بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ اطَّوَافِ، لَكِنْ فِي تَعْلِيلِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا مَا يَقْتَضِي اشْتِرَاطَهُمَا، وَإِذَا قُلْنَا بِوُجُوبِهِمَا هَلْ يَجُوزُ فِعْلُهُمَا عَنْ قُعُودٍ مَعَ الْقُدْرَةِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا لَا وَلَا يَسْقُطُ بِفِعْلِ فَرِيضَةٍ كَالظُّهْرِ إِذَا قُلْنَا بِالْوُجُوبِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُمَا سُنَّةٌ كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ.

‌70 - بَاب مَنْ لَمْ يَقْرَبْ الْكَعْبَةَ وَلَمْ يَطُفْ حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى عَرَفَةَ وَيَرْجِعَ بَعْدَ الطَّوَافِ الْأَوَّلِ

1625 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، حَدَّثَنَا فُضَيْلٌ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، أَخْبَرَنِي كُرَيْبٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ فَطَافَ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلَمْ يَقْرَبْ الْكَعْبَةَ بَعْدَ طَوَافِهِ بِهَا حَتَّى رَجَعَ مِنْ عَرَفَةَ.

ص: 485

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ لَمْ يَقْرُبِ الْكَعْبَةَ وَلَمْ يَطُفْ حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى عَرَفَةَ) أَيْ لَمْ يَطُفْ تَطَوُّعًا، وَيَقْرُبُ بِضَمٍّ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا. أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَاجَّ مُنِعَ مِنَ الطَّوَافِ قَبْلَ الْوُقُوفِ، فَلَعَلَّهُ صلى الله عليه وسلم تَرَكَ الطَّوَافَ تَطَوُّعًا خَشْيَةَ أَنْ يَظُنَّ أَحَدٌ أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَكَانَ يُحِبُّ التَّخْفِيفَ عَلَى أُمَّتِهِ، وَاجْتَزَأَ عَنْ ذَلِكَ بِمَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ مِنْ فَضْلِ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، وَنُقِلَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْحَاجَّ لَا يَتَنَفَّلُ بِطَوَافٍ حَتَّى يُتِمَّ حَجَّهُ، وَعَنْهُ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ النَّافِلَةِ لِمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ.

(تَنْبِيهٌ): نَقَلَ ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ أَنَّ الطَّوَافَ الَّذِي طَافَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ مِنْ فُرُوضِ الْحَجِّ وَلَا يَكُونُ إِلَّا وَبَعْدَهُ السَّعْيُ. ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُتَمَتِّعِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَقَوْلُهُ: مِنْ فُرُوضِ الْحَجِّ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهُ كَانَ مُفْرِدًا وَالْمُفْرِدُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ طَوَافُ الْقُدُومِ لِقُدُومِهِ، وَلَيْسَ طَوَافُ الْقُدُومِ لِلْحَجِّ وَلَا هُوَ فَرْضٌ مِنْ فُرُوضِهِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ.

‌71 - بَاب مَنْ صَلَّى رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ خَارِجًا مِنْ الْمَسْجِدِ

وَصَلَّى عُمَرُ رضي الله عنه خَارِجًا مِنْ الْحَرَمِ

1626 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ زَيْنَبَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مَرْوَانَ يَحْيَى بْنُ أَبِي زَكَرِيَّاءَ الْغَسَّانِيُّ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَهُوَ بِمَكَّةَ وَأَرَادَ الْخُرُوجَ - وَلَمْ تَكُنْ أُمُّ سَلَمَةَ طَافَتْ بِالْبَيْتِ وَأَرَادَتْ الْخُرُوجَ - فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أُقِيمَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ فَطُوفِي عَلَى بَعِيرِكِ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ فَلَمْ تُصَلِّ حَتَّى خَرَجَتْ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ صَلَّى رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ خَارِجًا مِنَ الْمَسْجِدِ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ مَعْقُودَةٌ لِبَيَانِ إِجْزَاءِ صَلَاةِ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ أَرَادَ الطَّائِفُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ خَلْفَ الْمَقَامَ أَفْضَلَ، وَهُوَ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ إِلَّا فِي الْكَعْبَةِ أَوِ الْحِجْرِ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَهَا بِتَرْجَمَةِ مَنْ صَلَّى رَكْعَتَيِ الطَّوَاف خَلْفَ الْمَقَامِ.

قَوْلُهُ: (وَصَلَّى عُمَرُ خَارِجًا مِنَ الْحَرَمِ) سَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِي الْبَابَ بَعْدَهُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ إِلَخْ) هَكَذَا عَطَفَ هَذِهِ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا وَسَاقَهُ هُنَا عَلَى لَفْظِ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ، وَتَجَوَّزَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ اللَّفْظَيْنِ مُخْتَلِفَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَفْظُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى فِي: بَابِ طَوَافِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ وَيَأْتِي بَعْدَ بَابَيْنِ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (يَحْيَى بْنُ أَبِي زَكَرِيَّا الْغَسَّانِيُّ) هُوَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى اشْتُهِرَ بِاسْمِهِ وَاشْتُهِرَ أَبُوهُ بِكُنْيَتِهِ، وَالْغَسَّانِيُّ بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ وَسِينٍ مُهْمَلَةٍ مَشَدَّدَةٍ نِسْبَةٌ إِلَى بَنِي غَسَّانَ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ: وَقَعَ لِأَبِي الْحَسَنِ الْقَابِسِيُّ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ تَصْحِيفٌ فِي نَسَبِ يَحْيَى فَضَبَطَهُ بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ ثُمَّ شِينٍ مُعْجَمَةٍ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: قِيلَ هُوَ الْعَشَانِيُّ بِعَيْنِ مُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُعْجَمَةٍ خَفِيفَةٍ نِسْبَةً إِلَى بَنِي عَشَانَةَ، وَقِيلَ هُوَ بِالْهَاءِ يَعْنِي بِلَا نُونٍ نِسْبَةً إِلَى بَنِي عَشَاهٍ. قُلْتُ: وَكُلُّ ذَلِكَ تَصْحِيفٌ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ. قَالَ ابْنُ قُرْقُولٍ: رَوَاهُ الْقَابِسِيُّ بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُعْجَمَةٍ خَفِيفَةٍ وَهُوَ وَهْمٌ.

قَوْلُهُ: (عَنْ هِشَامٍ) هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عُرْوَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَوَقَعَ لِلْأَصِيلِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَقَوْلُهُ: عَنْ زَيْنَبَ زِيَادَةٌ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ فَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ السَّكَنِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُبَشِّرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَرْبٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ لَيْسَ فِيهِ زَيْنَبُ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي: كِتَابِ التَّتَبُّعِ فِي

ص: 486

طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَبِي زَكَرِيَّا هَذِهِ: هَذَا مُنْقَطِعٌ، فَقَدْ رَوَاهُ حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّهَا أُمِّ سَلَمَةَ وَلَمْ يَسْمَعْهُ عُرْوَةُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ. انْتَهَى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَدِيثًا آخَرَ فَإِنَّ حَدِيثَهَا هَذَا فِي طَوَافِ الْوَدَاعِ كَمَا بَيَّنَّاهُ قَبْلَ قَلِيلٍ، وَأَمَّا هَذِهِ الرِّوَايَةُ فَذَكَرَهَا الْأَثْرَمُ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ - يَعْنِي أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ - حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زَيْنَبَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهَا أَنْ تُوَافِيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمَكَّةَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: هَذَا خَطَأٌ، فَقَدْ قَالَ وَكِيعٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهَا أَنْ تُوَافِيَهُ صَلَاةَ الصُّبْحِ يَوْمَ النَّحْرِ بِمَكَّةَ. قَالَ: وَهَذَا أَيْضًا عَجِيبٌ، مَا يَفْعَلُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ بِمَكَّةَ؟ وَقَدْ سَأَلْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ - يَعْنِي الْقَطَّانَ - عَنْ هَذَا فَحَدَّثَنِي بِهِ عَنْ هِشَامٍ بِلَفْظِ: أَمَرَهَا أَنْ تُوَافِيَ لَيْسَ فِيهِ هَاءٌ.

قَالَ أَحْمَدُ: وَبَيْنَ هَذَيْنِ فَرْقٌ، فَإِذَا عَرَفَ ذَلِكَ تَبَيَّنَ التَّغَايُرُ بَيْنَ الْقِصَّتَيْنِ، فَإِنَّ إِحْدَاهُمَا صَلَاةُ الصُّبْحِ يَوْمَ النَّحْرِ وَالْأُخْرَى صَلَاةُ صُبْحِ يَوْمِ الرَّحِيلِ مِنْ مَكَّةَ وَقَدْ أَخْرَجَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ حَدِيثَ الْبَابِ مِنْ طَرِيقِ حَسَّانِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَعَلِيِّ بْنِ هَاشِمٍ وَمَحَاضِرِ بْنِ الْمُوَرِّعِ وَعَبْدَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَهُوَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدَةَ كُلِّهِمْ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ وَهَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ، وَسَمَاعُ عُرْوَةَ مِنْ أُمِّ سَلَمَةَ مُمْكِنٌ فَإِنَّهُ أَدْرَكَ مِنْ حَيَاتِهَا نَيِّفًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَهُوَ مَعَهَا فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ فِي: بَابِ طَوَافِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ وَمَوْضِعُ الْحَاجَةِ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ فِي آخِرِهِ فَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى خَرَجَتْ أَيْ مِنَ الْمَسْجِدِ أَوْ مِنْ مَكَّةَ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ صَلَاةِ الطَّوَافِ خَارِجًا مِنَ الْمَسْجِدِ إِذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ شَرْطًا لَازِمًا لَمَا أَقَرَّهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ. وَفِي رِوَايَةِ حَسَّانٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: إِذَا قَامَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ فَطُوفِي عَلَى بَعِيرِكِ مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَهُمْ يُصَلُّونَ.

قَالَتْ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ وَلَمْ أُصَلِّ حَتَّى خَرَجْتُ أَيْ فَصَلَّيْتُ، وَبِهَذَا يَنْطَبِقُ الْحَدِيثُ مَعَ التَّرْجَمَةِ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ أَكْمَلَتْ طَوَافَهَا قَبْلَ فَرَاغِ صَلَاةِ الصُّبْحِ ثُمَّ أَدْرَكَتْهُمْ فِي الصَّلَاةِ فَصَلَّتْ مَعَهُمْ صَلَاةَ الصُّبْحِ وَرَأَتْ أَنَّهَا تُجْزِئُهَا عَنْ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَبُتَّ الْبُخَارِيُّ الْحُكْمَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِاحْتِمَالِ كَوْنِ ذَلِكَ يَخْتَصُّ بِمَنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ لِكَوْنِ أُمِّ سَلَمَةَ كَانَتْ شَاكِيَةً ولكن عُمَرَ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ طَافَ بَعْدَ الصُّبْحِ وَكَانَ لَا يَرَى التَّنَفُّلَ بَعْدَهُ مُطْلَقًا حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ كَمَا سَيَأْتِي وَاضِحًا بَعْدَ بَابٍ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ نَسِيَ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ قَضَاهُمَا حَيْثُ ذَكَرَهُمَا مِنْ حِلٍّ أَوْ حَرَمٍ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَعَنِ الثَّوْرِيِّ: يَرْكَعُهُمَا حَيْثُ شَاءَ مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الْحَرَمِ، وَعَنْ مَالِكٍ: إِنْ لَمْ يَرْكَعْهُمَا حَتَّى تَبَاعَدَ وَرَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَيْسَ ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ صَلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ وَلَيْسَ عَلَى مَنْ تَرَكَهَا غَيْرُ قَضَائِهَا حَيْثُ ذَكَرَهَا.

‌72 - بَاب مَنْ صَلَّى رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ خَلْفَ الْمَقَامِ

1627 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّفَا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ صَلَّى رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ خَلْفَ الْمَقَامِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ الْمَاضِي قَبْلَ بَابَيْنِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَبْوَابِ الْعُمْرَةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ. وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ فِي صِفَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ عِنْدَ مُسْلِمٍ طَافَ ثُمَّ تَلَا {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} فَصَلَّى عِنْدَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: احْتَمَلَتْ قِرَاءَتُهُ أَنْ تَكُونَ

ص: 487

صَلَاةُ الرَّكْعَتَيْنِ خَلْفَ الْمَقَامِ فَرْضًا، لَكِنْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الطَّائِفَ تُجْزِئُهُ رَكْعَتَا الطَّوَافِ حَيْثُ شَاءَ، إِلَّا شَيْئًا ذُكِرَ عَنْ مَالِكٍ فِي أَنَّ مَنْ صَلَّى رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ الْوَاجِبِ فِي الْحِجْرِ يُعِيدُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ فِي: بَابِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} .

‌73 - بَاب الطَّوَافِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يُصَلِّي رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ مَا لَمْ تَطْلُعْ الشَّمْسُ

وَطَافَ عُمَرُ بَعْدَ الصُّبْحِ فَرَكِبَ حَتَّى صَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ بِذِي طُوًى

1628 -

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عُمَرَ الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ نَاسًا طَافُوا بِالْبَيْتِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، ثُمَّ قَعَدُوا إِلَى الْمُذَكِّرِ، حَتَّى إِذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ قَامُوا يُصَلُّونَ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: قَعَدُوا حَتَّى إِذَا كَانَتْ السَّاعَةُ الَّتِي تُكْرَهُ فِيهَا الصَّلَاةُ قَامُوا يُصَلُّونَ.

1629 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عِنِ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا.

1630 -

حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ هُوَ الزَّعْفَرَانِيُّ حَدَّثَنَا عَبِيدَةُ بْنُ حُمَيْدٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ رُفَيْعٍ قَالَ "رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما يَطُوفُ بَعْدَ الْفَجْرِ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ"

1631 -

قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ وَرَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَيُخْبِرُ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها حَدَّثَتْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَدْخُلْ بَيْتَهَا إِلاَّ صَلاَّهُمَا"

قَوْلُهُ: (بَابُ الطَّوَافِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ) أَيْ مَا حُكْمُ صَلَاةِ الطَّوَافِ حِينَئِذٍ؟ وَقَدْ ذَكَرَ فِيهِ آثَارًا مُخْتَلِفَةً، وَيَظْهَرُ مِنْ صَنِيعِهِ أَنَّهُ يَخْتَارُ فِيهِ التَّوْسِعَةَ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، مَنْ وَلِيَ مِنْكُمْ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ شَيْئًا فَلَا يَمْنَعَنَ أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى أَيَّ سَاعَةَ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ.

وَإِنَّمَا لَمْ يُخْرِجْهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى شَرْطِهِ، وَقَدْ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ أَحَادِيثَ تَتَعَلَّقُ بِصَلَاةِ الطَّوَافِ، وَوَجْهُ تَعَلُّقِهَا بِالتَّرْجَمَةِ إِمَّا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الطَّوَافَ صَلَاةٌ فَحُكْمُهُمَا وَاحِدٌ، أَوْ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الطَّوَافَ مُسْتَلْزِمٌ لِلصَّلَاةِ الَّتِي تُشْرَعُ بَعْدَهُ وَهُوَ أَظْهَرُ، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ فِي الْمَسْأَلَةِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كَرِهَ الثَّوْرِيُّ وَالْكُوفِيُّونَ الطَّوَافَ بَعْدَ الْعَصْرِ وَالصُّبْحِ، قَالُوا: فَإِنْ فَعَلَ فَلْيُؤَخِّرِ الصَّلَاةَ، وَلَعَلَّ هَذَا عِنْدَ بَعْضِ الْكُوفِيِّينَ وَإِلَّا فَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الطَّوَافَ لَا يُكْرَهُ وَإِنَّمَا تُكْرَهُ الصَّلَاةُ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: رَخَّصَ فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ الطَّوَافِ فِي كُلِّ وَقْتٍ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ أَخْذًا بِعُمُومِ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَبَعْدَ الْعَصْرِ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ، وَالثَّوْرِيِّ وَطَائِفَةٍ وَذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ:

ص: 488

رَأَيْتُ الْبَيْتَ يَخْلُو بَعْدَ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ مَا يَطُوفُ بِهِ أَحَدٌ. وَرَوَى أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا نَطُوفُ فَنَمْسَحُ الرُّكْنَ الْفَاتِحَةَ وَالْخَاتِمَةَ، وَلَمْ نَكُنْ نَطُوفُ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَلَا بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ قَالَ: وَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يُصَلِّي رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ مَا لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ) وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ أنَّهُمْ صَلَّوُا الصُّبْحَ بِغَلَسٍ، وَطَافَ ابْنُ عُمَرَ بَعْدَ الصُّبْحِ سَبْعًا ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أُفُقِ السَّمَاءِ فَرَأَى أَنَّ عَلَيْهِ غَلَسًا، قَالَ: فَاتَّبَعْتُهُ حَتَّى أَنْظُرَ أَيَّ شَيْءٍ يَصْنَعُ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ قَالَ: وَحَدَّثَنَا دَاوُدُ الْعَطَّارُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ طَافَ سَبْعًا بَعْدَ الْفَجْرِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَرَاءَ الْمَقَامِ هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَهَذَا جَارٍ عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ عُمَرَ فِي اخْتِصَاصِ الْكَرَاهَةِ بِحَالِ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَحَالِ غُرُوبِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عَنْهُ صَرِيحًا فِي أَبْوَابِ الْمَوَاقِيتِ، وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَطُوفُ بَعْدَ الْعَصْرِ وَيُصَلِّي مَا كَانَتِ الشَّمْسُ بَيْضَاءَ حَيَّةً نَقِيَّةً، فَإِذَا اصْفَرَّتْ وَتَغَيَّرَتْ طَافَ طَوَافًا وَاحِدًا حَتَّى يُصَلِّيَ الْمَغْرِبَ، ثُمَّ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، وَفِي الصُّبْحِ نَحْوَ ذَلِكَ وَقَدْ جَاءَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَطُوفُ بَعْدَ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ فِي: الْمَنَاسِكِ: عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يَطُوفُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَلَا بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادٍ، عَنْ أَيُّوبَ أَيْضًا، وَمِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ نَافِعٍ كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا طَافَ بَعْدَ الصُّبْحِ لَا يُصَلِّي حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَإِذَا طَافَ بَعْدَ الْعَصْرِ لَا يُصَلِّي حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَيُجْمَعُ بَيْنَ مَا اخْتُلِفَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَ فِي الْأَغْلَبِ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَالَّذِي يُعْتَمَدُ مِنْ رَأْيِهِ عَلَيْهِ التَّفْصِيلُ السَّابِقُ.

قَوْلُهُ: (وَطَافَ عُمَرُ بَعْدَ الصُّبْحِ فَرَكِبَ حَتَّى صَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ بِذِي طُوًى) وَصَلَهُ مَالِكٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ، عَنْ عُمَرَ بِهِ، وَرَوَى الْأَثْرَمُ، عَنْ أَحْمَدَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ مِثْلَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ عَنْ عُرْوَةَ بَدَلَ حُمَيْدٍ، قَالَ أَحْمَدُ: أَخْطَأَ فِيهِ سُفْيَانُ، قَالَ الْأَثْرَمُ: وَقَدْ حَدَّثَنِي بِهِ نُوحُ بْنُ يَزِيدَ مِنْ أَصْلِهِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ كَمَا قَالَ سُفْيَانُ. انْتَهَى. وَقَدْ رُوِّينَاهُ بِعُلُوٍّ فِي: أَمَالِي ابْنِ مَنْدَهْ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ وَلَفْظُهُ: أَنَّ عُمَرَ طَافَ بَعْدَ الصُّبْحِ سَبْعًا ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا كَانَ بِذِي طُوًى وَطَلَعَتِ الشَّمْسُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ حَبِيبٍ) هُوَ الْمُعَلِّمُ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْمِزِّيُّ فِي: الْأَطْرَافِ وَقَدْ ضَاقَ عَلَى الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَأَبِي نُعَيْمٍ مَخْرَجُهُ فَتَرَكَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ هَذِهِ، وَالْحَسَنُ بْنُ عُمَرَ الْبَصْرِيُّ شَيْخُهُ جَزَمَ الْمِزِّيُّ بِأَنَّهُ الْحَسَنُ بْنُ عُمَرَ بْنِ شَقِيقٍ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَكَانَ يَتَّجِرُ إِلَى بَلْخٍ فَكَانَ يُقَالُ لَهُ الْبَلْخِيُّ، وَسَيَأْتِي لَهُ ذِكْرٌ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَعَدُوا إِلَى الْمُذَكِّرِ) بِالْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ أَيِ الْوَاعِظِ، وَضَبَطَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي: النِّهَايَةِ بِالتَّخْفِيفِ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَثَالِثِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ قَالَ: وَأَرَادَتْ مَوْضِعَ الذِّكْرِ، إِمَّا الْحِجْرُ، وَإِمَّا الْحَجَرُ.

قَوْلُهُ: (السَّاعَةُ الَّتِي تُكْرَهُ فِيهَا الصَّلَاةُ) أَيِ الَّتِي عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَكَأَنَّ الْمَذْكُورِينَ كَانُوا يَتَحَرَّوْنَ ذَلِكَ الْوَقْتَ فَأَخَّرُوا الصَّلَاةَ إِلَيْهِ قَصْدًا فَلِذَلِكَ أَنْكَرَتْ عَلَيْهِمْ عَائِشَةُ هَذَا إِنْ كَانَتْ تَرَى أَنَّ الطَّوَافَ سَبَبٌ لَا تُكْرَهُ مَعَ وُجُودِهِ الصَّلَاةُ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيَّةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا كَانَتْ تَحْمِلُ النَّهْيَ عَلَى عُمُومِهِ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: إِذَا أَرَدْتَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ أَوِ الْعَصْرِ فَطُفْ، وَأَخِّرِ الصَّلَاةَ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ أَوْ حَتَّى تَطْلُعَ فَصَلِّ لِكُلِّ أُسْبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ وَهَذَا إِسْنَادٌ حَسَنٌ.

قَوْلُهُ: (قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ) يَعْنِي بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ وَلَيْسَ بِمُعَلَّقٍ، وَكَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ اسْتَنْبَطَ جَوَازَ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ مِنْ جَوَازِ الصَّلَاةِ بَعْدَ

ص: 489

الْعَصْرِ فَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى عُمُومِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي أَوَاخِرِ الْمَوَاقِيتِ قُبَيْلَ الْأَذَانِ، وَبَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَتْرُكْهُمَا وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ، أَعْنِي الْمُوَاظَبَةَ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ مِنَ النَّوَافِلِ لَا صَلَاةِ الرَّاتِبَةِ فِي وَقْتِ الْكَرَاهَةِ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ تَلْتَحِقُ بِالرَّوَاتِبِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌74 - بَاب الْمَرِيضِ يَطُوفُ رَاكِبًا

1632 -

حَدَّثَنا إِسْحَاقُ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَافَ بِالْبَيْتِ وَهُوَ عَلَى بَعِيرٍ كُلَّمَا أَتَى عَلَى الرُّكْنِ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ فِي يَدِهِ وَكَبَّرَ.

1633 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي أَشْتَكِي، فَقَالَ: طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ. فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ وَهُوَ يَقْرَأُ بِالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْمَرِيضِ يَطُوفُ رَاكِبًا) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ، وَالثَّانِي ظَاهِرٌ فِيمَا تَرْجَمَ لَهُ لِقَوْلِهَا فِيهِ إِنِّي أَشْتَكِي وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا فِي: بَابِ إِدْخَالِ الْبَعِيرِ الْمَسْجِدَ لِلْعِلَّةِ فِي أَوَاخِرِ أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ، وَأَنَّ الْمُصَنِّفَ حَمَلَ سَبَبَ طَوَافِهِ صلى الله عليه وسلم رَاكِبًا عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَنْ شَكْوَى، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا بِلَفْظِ: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ وَهُوَ يَشْتَكِي فَطَافَ عَلَى رَاحِلَتِهِ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم طَافَ رَاكِبًا لِيَرَاهُ النَّاسُ وَلِيَسْأَلُوهُ.

فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ لِلْأَمْرَيْنِ، وَحِينَئِذٍ لَا دِلَالَةَ فِيهِ عَلَى جَوَازِ الطَّوَافِ رَاكِبًا لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَكَلَامُ الْفُقَهَاءِ يَقْتَضِي الْجَوَازَ إِلَّا أَنَّ الْمَشْيَ أَوْلَى، وَالرُّكُوبَ مَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا، وَالَّذِي يَتَرَجَّحُ الْمَنْعُ لِأَنَّ طَوَافَهُ صلى الله عليه وسلم وَكَذَا أُمُّ سَلَمَةَ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُحَوَّطَ الْمَسْجِدُ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَهَذَا يَقْتَضِي مَنْعَ الطَّوَافِ فِي الْمَطَافِ، وَإِذَا حُوِّطَ الْمَسْجِدُ امْتَنَعَ دَاخِلُهُ، إِذْ لَا يُؤْمَنُ التَّلْوِيثُ فَلَا يَجُوزُ بَعْدَ التَّحْوِيطِ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَهُ فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَحْرُمُ التَّلْوِيثُ كَمَا فِي السَّعْيِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا فَرْقَ فِي الرُّكُوبِ - إِذَا سَاغَ - بَيْنَ الْبَعِيرِ وَالْفَرَسِ وَالْحِمَارِ، وَأَمَّا طَوَافُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَاكِبًا فَلِلْحَاجَةِ إِلَى أَخْذِ الْمَنَاسِكِ عَنْهُ وَلِذَلِكَ عَدَّهُ بَعْضُ مَنْ جَمَعَ خَصَائِصَهُ فِيهَا، وَاحْتَمَلَ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ رَاحِلَتُهُ عُصِمَتْ مِنَ التَّلْوِيثِ حِينَئِذٍ كَرَامَةً لَهُ فَلَا يُقَاسُ غَيْرُهُ عَلَيْهِ، وَأَبْعَدَ مَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى طَهَارَةِ بَوْلِ الْبَعِيرِ وَبَعْرِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ قَبْلَ أَبْوَابٍ، وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ فِي آخِرِ حَدِيثِهِ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ أَنَاخَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَاسْتُدِلَّ بِهِ لِلتَّكْبِيرِ عِنْدَ الرُّكْنِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ أَيْضًا.

(تَنْبِيهٌ): خَالِدٌ هُوَ الطَّحَّانُ، وَخَالِدٌ شَيْخُهُ هُوَ الْحَذَّاءُ.

‌75 - بَاب سِقَايَةِ الْحَاجِّ

1634 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْأَسْوَدِ، حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: اسْتَأْذَنَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رضي الله عنه رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى مِنْ

ص: 490

أَجْلِ سِقَايَتِهِ، فَأَذِنَ لَهُ.

[الحديث 1634 - أطرافه في: 1743، 1744، 1745]

1635 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَ إِلَى السِّقَايَةِ فَاسْتَسْقَى. فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا فَضْلُ اذْهَبْ إِلَى أُمِّكَ فَأْتِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشَرَابٍ مِنْ عِنْدِهَا. فَقَالَ: اسْقِنِي، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ أَيْدِيَهُمْ فِيهِ، قَالَ: اسْقِنِي، فَشَرِبَ مِنْهُ، ثُمَّ أَتَى زَمْزَمَ وَهُمْ يَسْقُونَ وَيَعْمَلُونَ فِيهَا فَقَالَ: اعْمَلُوا فَإِنَّكُمْ عَلَى عَمَلٍ صَالِحٍ، ثُمَّ قَالَ: لَوْلَا أَنْ تُغْلَبُوا لَنَزَلْتُ حَتَّى أَضَعَ الْحَبْلَ عَلَى هَذِهِ. يَعْنِي عَاتِقَهُ. وَأَشَارَ إِلَى عَاتِقِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ سِقَايَةِ الْحَاجِّ): قَالَ الْفَاكِهِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: سِقَايَةُ الْحَاجِّ زَمْزَمُ. وَقَالَ الْأَزْرَقِيُّ: كَانَ عَبْدُ مَنَافٍ يَحْمِلُ الْمَاءَ فِي الرَّوَايَا وَالْقِرَبِ إِلَى مَكَّةَ وَيَسْكُبُهُ فِي حِيَاضٍ مِنْ أَدَمٍ بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ لِلْحُجَّاجِ، ثُمَّ فَعَلَهُ ابْنُهُ هَاشِمٌ بَعْدَهُ، ثُمَّ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ ; فَلَمَّا حُفِرَ زَمْزَمُ كَانَ يَشْتَرِي الزَّبِيبَ فَيَنْبِذُهُ فِي مَاءِ زَمْزَمَ وَيَسْقِي النَّاسَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا وَلِيَ قُصَيُّ بْنُ كِلَابٍ أَمْرَ الْكَعْبَةِ كَانَ إِلَيْهِ الْحِجَابَةُ وَالسِّقَايَةُ وَاللِّوَاءُ وَالرِّفَادَةُ وَدَارُ النَّدْوَةِ، ثُمَّ تَصَالَحَ بَنُوهُ عَلَى أَنَّ لِعَبْدِ مَنَافٍ السِّقَايَةَ وَالرِّفَادَةَ وَالْبَقِيَّةَ لِلْأَخَوَيْنِ. ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ وَزَادَ: ثُمَّ وَلِيَ السِّقَايَةَ مِنْ بَعْدِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَلَدُهُ الْعَبَّاسُ - وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مِنْ أَحْدَثِ إِخْوَتِهِ سِنًّا - فَلَمْ تَزَلْ بِيَدِهِ حَتَّى قَامَ الْإِسْلَامُ وَهِيَ بِيَدِهِ، فَأَقَرَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَهُ، فَهِيَ الْيَوْمَ إِلَى بَنِي الْعَبَّاسِ.

وَرَوَى الْفَاكِهِيُّ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ قَالَ تَكَلَّمَ الْعَبَّاسُ، وَعَلِيٌّ، وَشَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ فِي السِّقَايَةِ وَالْحِجَابَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ} الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ:{حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} قَالَ: حَتَّى تُفْتَحَ مَكَّةُ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْعَبَّاسَ لَمَّا مَاتَ أَرَادَ عَلِيٌّ أَنْ يَأْخُذَ السِّقَايَةَ، فَقَالَ لَهُ طَلْحَةُ: أَشْهَدُ لَرَأَيْتُ أَبَاهُ يَقُومُ عَلَيْهَا، وَأَنَّ أَبَاكَ أَبَا طَالِبٍ لَنَازِلٌ فِي إِبِلِهِ بِالْأَرَاكِ بِعَرَفَةَ. قَالَ فَكَفَّ عَلِيٌّ عَنِ السِّقَايَةِ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،. لَوْ جَمَعْتَ لَنَا الْحِجَابَةَ وَالسِّقَايَةَ، فَقَالَ: إِنَّمَا أَعْطَيْتُكُمْ مَا تُرْزَءُونَ وَلَمْ أُعْطِكُمْ مَا تَرْزءون. الْأَوَّلُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الزَّايِ وَالثَّانِي بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ الزَّايِ، أَيْ أَعْطَيْتُكُمْ مَا يَنْقُصُكُمْ لَا مَا تَنْقُصُونَ بِهِ النَّاسَ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ، وَالْفَاكِهِيُّ حَدِيثَ السَّائِبِ الْمَخْزُومِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: اشْرَبُوا مِنْ سِقَايَةِ الْعَبَّاسِ فَإِنَّهُ مِنَ السُّنَّةِ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي الْبَابِ حَدِيثَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي الْإِذْنِ لِلْعَبَّاسِ أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَوَاخِرِ صِفَةِ الْحَجِّ.

ثَانِيهِمَا: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ شُرْبِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ شَرَابِ السِّقَايَةِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ) هُوَ الْوَاسِطِيُّ، وَقَدْ مَضَى هَذَا الْإِسْنَادُ بِعَيْنِهِ فِي أَوَّلِ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ.

قَوْلُهُ: (فَاسْتَسْقَى) أَيْ طَلَبَ الشُّرْبَ. وَالْفَضْلُ هُوَ ابْنُ الْعَبَّاسِ أَخُو عَبْدِ اللَّهِ، وَأُمُّهُ هِيَ أُمُّ الْفَضْلِ لُبَابَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ، وَهِيَ وَالِدَةُ عَبْدِ اللَّهِ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ أَيْدِيَهُمْ فِيهِ) فِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْعَبَّاسَ قَالَ لَهُ: إِنَّ هَذَا قَدْ مُرِثَ، أَفَلَا أَسْقِيكَ مِنْ بُيُوتِنَا؟ قَالَ لَا، وَلَكِنِ اسْقِنِي مِمَّا يَشْرَبُ مِنْهُ النَّاسُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ اسْقِنِي) زَادَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ السَّكَنِ فِي رِوَايَتِهِ: فَنَاوَلَهُ الْعَبَّاسُ الدَّلْوَ.

قَوْلُهُ: (فَشَرِبَ مِنْهُ) فِي رِوَايَةِ يَزِيدَ الْمَذْكُورَةِ فَأُتِيَ بِهِ فَذَاقَهُ فَقَطَّبَ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَكَسَرَهُ. قَالَ: وَتَقْطِيبُهُ إِنَّمَا كَانَ لِحُمُوضَتِهِ، وَكَسَرَهُ بِالْمَاءِ لِيَهُونَ عَلَيْهِ شُرْبُهُ وَعُرِفَ بِهَذَا جِنْسُ الْمَطْلُوبِ شُرْبُهُ إِذْ

ص: 491

ذَاكَ. وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ قَالَ كُنْتُ جَالِسًا مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَخَلْفَهُ أُسَامَةُ فَاسْتَسْقَى، فَأَتَيْنَاهُ بِإِنَاءٍ مِنْ نَبِيذٍ فَشَرِبَ

(1)

وَسَقَى فَضْلَهُ أُسَامَةَ وَقَالَ: أَحْسَنْتُمْ كَذَا فَاصْنَعُوا.

قَوْلُهُ: (لَوْلَا أَنْ تُغْلَبُوا) بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، قَالَ الدَّاوُدِيُّ: أَيْ إِنَّكُمْ لَا تَتْرُكُونِي أَسْتَقِي، وَلَا أُحِبُّ أَنْ أَفْعَلَ بِكُمْ مَا تَكْرَهُونَ فَتُغْلَبُوا، كَذَا قَالَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: مَعْنَاهُ لَوْلَا أَنْ تَقَعَ لَكُمُ الْغَلَبَةُ بِأَنْ يَجِبَ عَلَيْكُمْ ذَلِكَ بِسَبَبِ فِعْلِي. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَوْلَا أَنْ يَغْلِبَكُمُ الْوُلَاةُ عَلَيْهَا حِرْصًا عَلَى حِيَازَةِ هَذِهِ الْمَكْرُمَةِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَاهُ لَوْلَا أَنْ تَغْلِبَكُمُ النَّاسُ عَلَى هَذَا الْعَمَلِ إِذَا رَأَوْنِي قَدْ عَمِلْتُهُ لِرَغْبَتِهِمْ فِي الِاقْتِدَاءِ بِي فَيَغْلِبُوكُمْ بِالْمُكَاثَرَةِ لَفَعَلْتُ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ: أَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَهُمْ يَسْقُونَ عَلَى زَمْزَمَ فَقَالَ: انْزِعُوا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَلَوْلَا أَنْ تَغْلِبَكُمُ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ. وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ سِقَايَةَ الْحَاجِّ خَاصَّةٌ بِبَنِي الْعَبَّاسِ، وَأَمَّا الرُّخْصَةُ فِي الْمَبِيتِ فَفِيهَا أقوَالٌ لِلْعُلَمَاءِ هِيَ أَوْجُهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ: أَصَحُّهَا لَا يَخْتَصُّ بِهِمْ وَلَا بِسِقَايَتِهِمْ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْخَطَّابِيُّ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَهُ لِلْوُجُوبِ، وَفِيهِ نَظَرٌ. وَقَالَ ابْنُ بَزِيزَةَ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ لَوْلَا أَنْ تُغْلَبُوا قَصْرَ السِّقَايَةِ عَلَيْهِمْ وَأَنْ لَا يُشَارِكُوا فِيهَا، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الَّذِي أُرْصِدَ لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ لَا يَحْرُمُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا عَلَى آلِهِ تَنَاوُلُهُ، لِأَنَّ الْعَبَّاسَ أَرْصَدَ سِقَايَةَ زَمْزَمَ لِذَلِكَ، وَقَدْ شَرِبَ مِنْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.

قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: يُحْمَلُ الْأَمْرُ فِي مِثْلِ هَذَا عَلَى أَنَّهَا مُرْصَدَةٌ لِلنَّفْعِ الْعَامِ فَتَكُونُ لِلْغَنِيِّ فِي مَعْنَ الْهَدِيَّةِ، وَلِلْفَقِيرِ صَدَقَةً. وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ طَلَبُ السَّقْيِ مِنَ الْغَيْرِ، وَلَا رَدُّ مَا يَعْرِضُ عَلَى الْمَرْءِ مِنَ الْإِكْرَامِ إِذَا عَارَضَتْهُ مَصْلَحَةٌ أَوْلَى مِنْهُ، لِأَنَّ رَدَّهُ لَمَّا عَرَضَ عَلَيْهِ الْعَبَّاسُ مِمَّا يُؤْتَى بِهِ مِنْ نَبِيذٍ لِمَصْلَحَةِ التَّوَاضُعِ الَّتِي ظَهَرَتْ مِنْ شُرْبِهِ مِمَّا يَشْرَبُ مِنْهُ النَّاسُ. وَفِيهِ التَّرْغِيبُ فِي سَقْيِ الْمَاءِ خُصُوصًا مَاءَ زَمْزَمَ. وَفِيهِ تَوَاضُعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَحِرْصُ أَصْحَابِهِ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ وَكَرَاهَةُ التَّقَذُّرِ وَالتَّكَرُّهِ لِلْمَأْكُولَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: وَفِيهِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الطَّهَارَةُ لِتَنَاوُلِهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الشَّرَابِ الَّذِي غُمِسَتْ فِيهِ الْأَيْدِي.

‌76 - بَاب مَا جَاءَ فِي زَمْزَمَ

1636 -

وقال عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: كَانَ أَبُو ذَرٍّ رضي الله عنه يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فُرِجَ سَقْفِي وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَأَفْرَغَهَا فِي صَدْرِي ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا. قَالَ جِبْرِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا: افْتَحْ. قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ جِبْرِيلُ

1637 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ سَلَامٍ أَخْبَرَنَا الْفَزَارِيُّ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما حَدَّثَهُ قَالَ "سَقَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ زَمْزَمَ فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ قَالَ عَاصِمٌ فَحَلَفَ عِكْرِمَةُ مَا كَانَ يَوْمَئِذٍ إِلاَّ عَلَى بَعِيرٍ"

[الحديث 1637 - طرفه في: 5617]

(1)

النبيذ كل شراب نبذ، سواء تعجلوا شربه وهو حلو قبل أن يتخمر وهو الأكثر، وهو المراد هنا، أو تركوه حتى يتخمر، وكل ذلك يسمى عندهم نبيذا.

ص: 492

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا جَاءَ فِي زَمْزَمَ) كَأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ فِي فَضْلِهَا حَدِيثٌ عَلَى شَرْطِهِ صَرِيحًا، وَقَدْ وَقَعَ فِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ زَادَ الطَّيَالِسِيُّ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مِنْهُ مُسْلِمٌ وَشِفَاءُ سُقْمٍ وَفِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ رِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ، إِلَّا أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي إِرْسَالِهِ وَوَصْلِهِ وَإِرْسَالُهُ أَصَحُّ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَهُوَ أَشْهَرُ مِنْهُ أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ إِلَّا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُؤَمَّلِ الْمَكِّيَّ فَذَكَرَ الْعُقَيْلِيُّ أَنَّهُ تَفَرَّدَ بِهِ، لَكِنْ وَرَدَ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ وَمِنْ طَرِيقِ حَمْزَةَ الزَّيَّاتِ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ جَابِرٍ، وَوَقَعَ فِي: فَوَائِدِ ابْنِ الْمُقْرِي مِنْ طَرِيقِ سُوَيْدِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ أَبِي الْمَوَالِي، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ، وَزَعَمَ الدِّمْيَاطِيُّ أَنَّهُ عَلَى رَسْمِ الصَّحِيحِ وَهُوَ كَمَا قَالَ مِنْ حَيْثُ الرِّجَالِ إِلَّا أَنَّ سُوَيْدًا وَإِنْ أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ فَإِنَّهُ خَلَطَ وَطَعَنُوا فِيهِ وَقَدْ شَذَّ بِإِسْنَادِهِ، وَالْمَحْفُوظُ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ الْمُؤَمَّلِ، وَقَدْ جَمَعْتُ فِي ذَلِكَ جُزْءًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسُمِّيَتْ زَمْزَمَ لِكَثْرَتِهَا، يُقَالُ مَاءٌ زَمْزَمٌ أَيْ كَثِيرٌ، وَقِيلَ لِاجْتِمَاعِهَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ هِشَامٍ، وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: الزَّمْزَمَةُ مِنَ النَّاسِ خَمْسُونَ وَنَحْوُهُمْ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ: إِنَّمَا سُمِّيَتْ زَمْزَمَ لِأَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْهَزْمَةِ وَالْهَزْمَةُ الْغَمْزُ بِالْعَقِبِ فِي الْأَرْضِ، أَخْرَجَهُ الْفَاكِهِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْهُ، وَقِيلَ لِحَرَكَتِهَا قَالَهُ الْحَرْبِيُّ، وَقِيلَ لِأَنَّهَا زُمَّتْ بِالْمِيزَانِ لِئَلَّا تَأْخُذَ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَسَتَأْتِي قِصَّتُهَا فِي شَأْنِ إِسْمَاعِيلَ وَهَاجَرَ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ وَقِصَّةِ حَفْرِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَهَا فِي أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَبْدَانُ) سَيَأْتِي فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ أَتَمُّ مِنْهُ بِلَفْظِ وَقَالَ لِي عَبْدَانُ وَأَوْرَدَهُ هُنَا مُخْتَصَرًا، وَقَدْ وَصَلَهُ الْجَوْزَقِيُّ بِتَمَامِهِ عَنِ الدَّغُولِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ اللَّيْثِ، عَنْ عَبْدَانَ بِطُولِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ هُوَ ابْنُ سَلَامٍ، وَالْفَزَارِيُّ هُوَ مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ وَغَلِطَ مَنْ قَالَ هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ، وَعَاصِمٌ هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلُ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُ: أَرَادَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ الشُّرْبَ مِنْ زَمْزَمَ مِنْ سُنَنِ الْحَجِّ. وَفِي الْمُصَنَّفِ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ شُرْبُ نَبِيذِ السِّقَايَةِ مِنْ تَمَامِ الْحَجِّ وَعَنْ عَطَاءٍ لَقَدْ أَدْرَكْتُهُ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَشْرَبُهُ فَتَلْزَقُ شَفَتَاهُ مِنْ حَلَاوَتِهِ وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمْ يَكُنْ يَشْرَبُ مِنَ النَّبِيذِ فِي الْحَجِّ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم شرب مِنْهُ لِأَنَّهُ كَانَ كَثِيرَ الِاتِّبَاعِ لِلْآثَارِ أَوْ خَشِيَ أَنْ يَظُنَّ النَّاسُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ الْحَجِّ كَمَا نُقِلَ عَنْ طَاوُسٍ.

قَوْلُهُ: (فَحَلَفَ عِكْرِمَةُ مَا كَانَ يَوْمَئِذٍ إِلَّا عَلَى بَعِيرٍ) عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ قَالَ عَاصِمٌ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعِكْرِمَةَ فَحَلَفَ بِاللَّهِ مَا فَعَلَ - أَيْ مَا شَرِبَ قَائِمًا - لِأَنَّهُ كَانَ حِينَئِذٍ رَاكِبًا. انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَنَاخَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَلَعَلَّ شُرْبَهُ مِنْ زَمْزَمَ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَعَلَّ عِكْرِمَةَ إِنَّمَا أَنْكَرَ شُرْبَهُ قَائِمًا لِنَهْيِهِ عَنْهُ، لَكِنْ ثَبَتَ عَنْ عَلِيٍّ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم شَرِبَ قَائِمًا. فَيُحْمَلُ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ.

‌77 - بَاب طَوَافِ الْقَارِنِ

1638 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ ثُمَّ قَالَ: مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهِلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، ثُمَّ لَا يَحِلُّ مِنْهُمَا، فَقَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ، فَلَمَّا قَضَيْنَا حَجَّنَا أَرْسَلَنِي مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِلَى التَّنْعِيمِ فَاعْتَمَرْتُ،

ص: 493

فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: هَذِهِ مَكَانَ عُمْرَتِكِ، فَطَافَ الَّذِينَ أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ حَلُّوا ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا آخَرَ بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى، وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا.

1639 -

حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ "أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما دَخَلَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَظَهْرُهُ فِي الدَّارِ فَقَالَ إِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَكُونَ الْعَامَ بَيْنَ النَّاسِ قِتَالٌ فَيَصُدُّوكَ عَنْ الْبَيْتِ فَلَوْ أَقَمْتَ فَقَالَ قَدْ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَإِنْ حِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ أَفْعَلُ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أسوة حَسَنَةٌ} ثُمَّ قَالَ أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ مَعَ عُمْرَتِي حَجًّا قَالَ ثُمَّ قَدِمَ فَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا"

[الحديث 1639 - أطرافه في: 1640، 1693، 1708، 1729،، 1807، 1806، 1808، 1810، 1812، 1813، 4183، 4184، 4185]

1640 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما أَرَادَ الْحَجَّ عَامَ نَزَلَ الْحَجَّاجُ، بِابْنِ الزُّبَيْرِ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ كَائِنٌ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ وَإِنَّا نَخَافُ أَنْ يَصُدُّوكَ فَقَالَ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} إِذًا أَصْنَعَ كَمَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِنِّي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ عُمْرَةً، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِظَاهِرِ الْبَيْدَاءِ قَالَ: مَا شَأْنُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إِلَّا وَاحِدٌ، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ حَجًّا مَعَ عُمْرَتِي، وَأَهْدَى هَدْيًا اشْتَرَاهُ بِقُدَيْدٍ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمْ يَنْحَرْ وَلَمْ يَحِلَّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ وَلَمْ يَحْلِقْ، وَلَمْ يُقَصِّرْ حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ فَنَحَرَ وَحَلَقَ، وَرَأَى أَنْ قَدْ قَضَى طَوَافَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِطَوَافِهِ الْأَوَّلِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: كَذَلِكَ فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (بَابُ طَوَافِ الْقَارِنِ) أَيْ هَلْ يَكْتَفِي بِطَوَافٍ وَاحِدٍ أَوْ لَا بُدَّ مِنْ طَوَافَيْنِ، أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَفِيهِ وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي حَجَّةِ عَامِ نَزَلَ الْحَجَّاجُ، بِابْنِ الزُّبَيْرِ أَوْرَدَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا أَنَّهُ: جَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ أَوَّلًا ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ وَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا كَمَا فِي الطَّرِيقِ الْأُولَى، وَفِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ: وَرَأَى أَنْ قَدْ قَضَى طَوَافَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِطَوَافِهِ الْأَوَّلِ، وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ رَفْعُ احْتِمَالٍ قَدْ يُؤْخَذُ مِنَ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ طَوَافًا وَاحِدًا أَيْ طَافَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا طَوَافًا يُشْبِهُ الطَّوَافَ الَّذِي لِلْآخَرِ، وَالْحَدِيثَانِ ظَاهِرَانِ فِي أَنَّ الْقَارِنَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِلَّا طَوَافٌ وَاحِدٌ كَالْمُفْرِدِ

وَقَدْ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَصْرَحَ مِنْ سِيَاقِ حَدِيثَيِ الْبَابِ فِي الرَّفْعِ وَلَفْظُهُ: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ كَفَاهُ لَهُمَا طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ. وَأَعَلَّهُ الطَّحَاوِيُّ بِأَنَّ الدَّرَاوَرْدِيَّ أَخْطَأَ فِيهِ وَأَنَّ الصَّوَابَ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، وَتَمَسَّكَ فِي تَخْطِئَتِهِ بِمَا رَوَاهُ أَيُّوبُ، وَاللَّيْثُ، وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ نَافِعٍ نَحْوَ سِيَاقِ مَا فِي الْبَابِ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ لِابْنِ عُمَرَ وَأَنَّهُ قَالَ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ ذَلِكَ لَا أَنَّهُ رَوَى

ص: 494

هَذَا اللَّفْظَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اهـ، وَهُوَ تَعْلِيلٌ مَرْدُودٌ فَالدَّرَاوَرْدِيُّ صَدُوقٌ، وَلَيْسَ مَا رَوَاهُ مُخَالِفًا لِمَا رَوَاهُ غَيْرُهُ، فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ عِنْدَ نَافِعٍ عَلَى الْوَجْهَيْنِ. وَاحْتَجَّ الْحَنَفِيَّةُ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ: جَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَطَافَ لَهُمَا طَوَافَيْنِ وَسَعَى لَهُمَا سَعْيَيْنِ ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ. وَطُرُقُهُ عَنْ عَلِيٍّ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَغَيْرِهِمَا ضَعِيفَةٌ، وَكَذَا أَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَ ذَلِكَ وَفِيهِ الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ وَهُوَ مَتْرُوكٌ، وَالْمُخَرَّجُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ الِاكْتِفَاءُ بِطَوَافٍ وَاحِدٍ

وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إِنْ ثَبَتَتِ الرِّوَايَةُ أَنَّهُ طَافَ طَوَافَيْنِ فَيُحْمَلُ عَلَى طَوَافِ الْقُدُومِ وَطَوَافِ الْإِفَاضَةِ، وَأَمَّا السَّعْيُ مَرَّتَيْنِ فَلَمْ يَثْبُتْ. وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: لَا يَصِحُّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ أَصْلًا. قُلْتُ: لَكِنْ رَوَى الطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُ مَرْفُوعًا

(1)

عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ذَلِكَ بِأَسَانِيدَ لَا بَأْسَ بِهَا إِذَا اجْتَمَعَتْ، وَلَمْ أَرَ فِي الْبَابِ أَصَحَّ مِنْ حَدِيثَيِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ الْمَذْكُورَيْنِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَقَدْ أَجَابَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِأَنَّهُ اخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِي كَيْفِيَّةِ إِحْرَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ مَجْمُوعِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَحْرَمَ أَوَّلًا بِحَجَّةٍ ثُمَّ فَسَخَهَا فَصَيَّرَهَا عُمْرَةً ثُمَّ تَمَتَّعَ بِهَا إِلَى الْحَجِّ، كَذَا قَالَ الطَّحَاوِيُّ مَعَ جَزْمِهِ قَبْلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ قَارِنًا. وَهَبْ أَنَّ ذَلِكَ كَمَا قَالَ فَلِمَ لَا يَكُونُ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ هَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ أَمَرَ مَنْ كَانَ قَارِنًا أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى طَوَافٍ وَاحِدٍ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورُ نَاطِقٌ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ قَارِنًا فَإِنَّهُ مَعَ قَوْلِهِ فِيهِ تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَفَ فِعْلَ الْقِرَانِ حَيْثُ قَالَ بَدَأَ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ: وَهَذَا مِنْ صُوَرِ الْقِرَانَ، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ سَمَّاهُ تَمَتُّعًا لِأَنَّ الْإِحْرَامَ عِنْدَهُ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ كَيْفَ كَانَ يُسَمَّى تَمَتُّعًا.

ثُمَّ أَجَابَ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ بِأَنَّهَا أَرَادَتْ بِقَوْلِهَا وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّمَا طَافُوا لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا يَعْنِي الَّذِينَ تَمَتَّعُوا بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ لِأَنَّ حَجَّتَهُمْ كَانَتْ مَكِّيَّةً، وَالْحَجَّةُ الْمَكِّيَّةُ لَا يُطَافُ لَهَا إِلَّا بَعْدَ عَرَفَةَ، قَالَ: وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهَا جَمَعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَمْعُ مُتْعَةٍ لَا جَمْعُ قِرَانٍ. انْتَهَى.

وَإِنِّي لَكَثِيرُ التَّعَجُّبِ مِنْهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَيْفَ سَاغَ لَهُ هَذَا التَّأْوِيلُ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ مُفَصِّلٌ لِلْحَالَتَيْنِ فَإِنَّهَا صَرَّحَتْ بِفِعْلِ مَنْ تَمَتَّعَ ثُمَّ مَنْ قَرَنَ حَيْثُ قَالَتْ: فَطَافَ الَّذِينَ أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ حَلُّوا طَوَافًا آخَرَ بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى فَهَؤُلَاءِ أَهْلُ التَّمَتُّعِ ثُمَّ قَالَتْ: وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا إِلَخْ فَهَؤُلَاءِ أَهْلُ الْقِرَانِ، وَهَذَا أَبْيَنُ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إِلَى إِيضَاحٍ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: لَمْ يَطُفِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَصْحَابُهُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إِلَّا طَوَافًا وَاحِدًا وَمِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا: يَسَعُكِ طَوَافُكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ. وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الْإِجْزَاءِ وَإِنْ كَانَ الْعُلَمَاءُ اخْتَلَفُوا فِيمَا كَانَتْ عَائِشَةُ مُحْرِمَةً بِهِ، قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ، الثَّوْرِيِّ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ قَالَ حَلَفَ طَاوُسٌ مَا طَافَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِحَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ إِلَّا طَوَافًا وَاحِدًا وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَفِيهِ بَيَانُ ضَعْفِ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ رَوَى آلُ بَيْتِ عَلِيٍّ عَنْهُ مِثْلَ الْجَمَاعَةِ، قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ عَنْ عَلِيٍّ لِلْقَارِنِ طَوَافٌ وَاحِدٌ خِلَافَ مَا يَقُولُ أَهْلُ الْعِرَاقِ، وَمِمَّا يُضَعِّفُ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَمْثَلَ طُرُقِهِ عَنْهُ رِوَايَةُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أُذَيْنَةَ عَنْهُ وَقَدْ ذَكَرَ فِيهَا أَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَلَى مَنِ ابْتَدَأَ الْإِهْلَالَ بِالْحَجِّ أَنْ يُدْخِلَ عَلَيْهِ الْعُمْرَةَ، وَأَنَّ الْقَارِنَ يَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ وَالَّذِينَ احْتَجُّوا بِحَدِيثِهِ

(1)

في هامش طبعة بولاق: في نسخة "موقوفا"

ص: 495

لَا يَقُولُونَ بِامْتِنَاعِ إِدْخَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ، فَإِنْ كَانَتِ الطَّرِيقُ صَحِيحَةً عِنْدَهُمْ لَزِمَهُمُ الْعَمَلُ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا حُجَّةَ فِيهَا.

وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: احْتَجَّ أَبُو أَيُّوبَ

(1)

مِنْ طَرِيقِ النَّضْرِ بِأَنَّا أَجَزْنَا جَمِيعًا لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ سَفَرًا وَاحِدًا وَإِحْرَامًا وَاحِدًا وَتَلْبِيَةً وَاحِدَةً فَكَذَلِكَ يُجْزِي عَنْهُمَا طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ لِأَنَّهُمَا خَالَفَا فِي ذَلِكَ سَائِرَ الْعِبَادَاتِ. وَفِي هَذَا الْقِيَاسِ مَبَاحِثُ كَثِيرَةٌ لَا نُطِيلُ بِهَا. وَاحْتَجَّ غَيْرُهُ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُوَ صَحِيحٌ كَمَا سَلَفَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَحْتَاجُ بَعْدَ أَنْ دَخَلَتْ فِيهِ إِلَى عَمَلٍ آخَرَ غَيْرِ عَمَلِهِ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُتَّبَعَ فِي ذَلِكَ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ وَهِيَ مُسْتَغْنِيَةٌ عَنْ غَيْرِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي أَبْوَابِ الْمُحْصِرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَنُنَبِّهُ هُنَاكَ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (لَا آمَنُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالْمَدِّ وَفَتْحِ الْمِيمِ الْخَفِيفَةِ أَيْ أَخَافُ، وَلِلْمُسْتَمْلِي لَا أَيْمَنُ بِيَاءٍ سَاكِنَةٍ بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْمِيمِ فَقِيلَ: إِنَّهَا إِمَالَةٌ، وَقِيلَ لُغَةٌ تَمِيمِيَّةٌ وَهِيَ عِنْدَهُمْ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ.

قَوْلُهُ: (فَإِنْ حِيلَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ وَإِنْ يُحَلْ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَاللَّامُ سَاكِنَةٌ، وَقَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ بِطَوَافِهِ الْأَوَّلِ أَيِ الَّذِي طَافَهُ يَوْمَ النَّحْرِ لِلْإِفَاضَةِ، وَتَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ أَرَادَ طَوَافَ الْقُدُومِ فَحَمَلَهُ عَلَى السَّعْيِ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فِيهِ حُجَّةٌ لِمَالِكٍ فِي قَوْلِهِ أَنَّ طَوَافَ الْقُدُومِ إِذَا وَصَلَ بِالسَّعْيِ يُجْزِئُ عَنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ لِمَنْ تَرَكَهُ جَاهِلًا أَوْ نَسِيَهُ حَتَّى رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ وَعَلَيْهِ الْهَدْيُ، قَالَ: وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِهِ غَيْرَهُ وَغَيْرَ أَصْحَابِهِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ إِنْ حُمِلَ قَوْلُهُ طَوَافُهُ الْأَوَّلُ عَلَى طَوَافِ الْقُدُومِ فَإِنَّهُ أَجْزَأَ عَنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ كَانَ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى الْإِجْزَاءِ مُطْلَقًا وَلَوْ تَعَمَّدَهُ لَا بِقَيْدِ الْجَهْلِ وَالنِّسْيَانِ لَا إِذَا حَمَلْنَا قَوْلَهُ طَوَافُهُ الْأَوَّلُ عَلَى طَوَافِ الْإِفَاضَةِ يَوْمَ النَّحْرِ أَوْ عَلَى السَّعْيِ، وَيُؤَيِّدُ التَّأْوِيلَ الثَّانِي حَدِيثُ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: لَمْ يَطُفِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَصْحَابُهُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إِلَّا طَوَافًا وَاحِدًا طَوَافَهُ الْأَوَّلَ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا حُمِلَ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ هُنَا عَقِبَ الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ تَعْلِيَةُ السَّنَدِ الْمَذْكُورِ لِبَعْضِ الرُّوَاةِ وَلَفْظُهُ: قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ قَالَا حَدَّثَنَا اللَّيْثُ مِثْلَهُ، وَأَبُو إِسْحَاقَ هَذَا إِنْ كَانَ هُوَ الْمُسْتَمْلِي فَقَدْ سَقَطَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قُتَيْبَةَ، وَابْنِ رُمْحٍ رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمَ بْنَ مَعْقِلٍ النَّسَفِيَّ الرَّاوِيَ عَنِ الْبُخَارِيِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌78 - بَاب الطَّوَافِ عَلَى وُضُوءٍ

1641 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ الْقُرَشِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: قَدْ حَجَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ رضي الله عنها أَنَّهُ أَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ، ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً، ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً، ثُمَّ عُمَرُ رضي الله عنه مِثْلُ ذَلِكَ، ثُمَّ حَجَّ عُثْمَانُ رضي الله عنه، فَرَأَيْتُهُ أَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً ثُمَّ مُعَاوِيَةُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ،

(1)

في هامش طبعة بولاق: في نسخة "أبو ثور"

ص: 496

ثُمَّ حَجَجْتُ مَعَ أَبِي الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً، ثُمَّ رَأَيْتُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً، ثُمَّ آخِرُ مَنْ رَأَيْتُ فَعَلَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُضْهَا عُمْرَةً وَهَذَا ابْنُ عُمَرَ عِنْدَهُمْ فَلَا يَسْأَلُونَهُ وَلَا أَحَدٌ مِمَّنْ مَضَى مَا كَانُوا يَبْدَءُونَ بِشَيْءٍ حَتَّى يَضَعُوا أَقْدَامَهُمْ مِنْ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَا يَحِلُّونَ وَقَدْ رَأَيْتُ أُمِّي وَخَالَتِي حِينَ تَقْدَمَانِ لَا تَبْتَدِئَانِ بِشَيْءٍ أَوَّلَ مِنْ الْبَيْتِ تَطُوفَانِ بِهِ ثُمَّ لَا تَحِلَّانِ.

1642 -

وَقَدْ أَخْبَرَتْنِي أُمِّي أَنَّهَا أَهَلَّتْ هِيَ وَأُخْتُهَا وَالزُّبَيْرُ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ بِعُمْرَةٍ، فَلَمَّا مَسَحُوا الرُّكْنَ حَلُّوا.

قَوْلُهُ: (بَابُ الطَّوَافِ عَلَى وُضُوءٍ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَدِمَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ ثُمَّ طَافَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الِاشْتِرَاطِ إِلَّا إِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ، وَبِاشْتِرَاطِ الْوُضُوءِ لِلطَّوَافِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَخَالَفَ فِيهِ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ، وَمِنَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِعَائِشَةَ لَمَّا حَاضَتْ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي. وَسَيَأْتِي بَيَانُ الدِّلَالَةِ مِنْهُ بَعْدَ بَابَيْنِ.

قَوْلُهُ: (مَا كَانُوا يَبْدَءُونَ بِشَيْءٍ حِينَ يَضَعُونَ أَقْدَامَهُمْ مِنَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَا بُدَّ مِنْ زِيَادَةِ لَفْظِ أَوَّلَ بَعْدَ لَفْظِ أَقْدَامَهُمْ وَأَجَابَ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّ مَعْنَاهُ مَا كَانُوا يَبْدَءُونَ بِشَيْءٍ آخَرَ حِينَ يَضَعُونَ أَقْدَامَهُمْ فِي الْمَسْجِدِ لِأَجْلِ الطَّوَافِ. انْتَهَى.

وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ حَذْفُ لَفْظِ أَوَّلَ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَذْفُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى لِأَنَّ الثَّانِيَ يَحْتَاجُ إِلَى جَعْلِ مِنْ بِمَعْنَى مِنْ أَجْلِ وَهُوَ قَلِيلٌ، وَأَيْضًا فَلَفْظُ أَوَّلَ قَدْ ثَبَتَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ وَثَبَتَ أَيْضًا فِي مَكَانٍ آخَرَ مِنَ الْحَدِيثِ نَفْسِهِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ حَتَّى يَضَعُوا بَدَلَ حِينَ يَضَعُونَ وَتَوْجِيهُهُ وَاضِحٌ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ إِنَّهُمَا لَا تَحِلَّانِ) أَيْ سَوَاءٌ كَانَ إِحْرَامُهُمَا بِالْحَجِّ وَحْدَهُ أَوْ بِالْقِرَانِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ إِنَّ مَنْ حَجَّ مُفْرِدًا فَطَافَ حَلَّ بِذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَوْلُهُ: أُمِّي يَعْنِي أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ، وَخَالَتُهُ هِيَ عَائِشَةُ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي: بَابِ مَنْ طَافَ إِذَا قَدِمَ.

(تَنْبِيهٌ): قَالَ الدَّاوُدِيُّ مَا ذُكِرَ مِنْ حَجِّ عُثْمَانَ هُوَ مِنْ كَلَامِ عُرْوَةَ، وَمَا قَبْلَهُ مِنْ كَلَامِ عَائِشَةَ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ: مُنْتَهَى حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ قَوْلِهِ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً وَمِنْ قَوْلِهِ ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ إِلَخْ مِنْ كَلَامِ عُرْوَةَ. انْتَهَى. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ بَعْضُ هَذَا مُنْقَطِعًا لِأَنَّ عُرْوَةَ لَمْ يُدْرِكْ أَبَا بَكْرٍ وَلَا عُمَرَ، نَعَمْ أَدْرَكَ عُثْمَانَ، وَعَلَى قَوْلِ الدَّاوُدِيِّ يَكُونُ الْجَمِيعُ مُتَّصِلًا وَهُوَ الْأَظْهَرُ.

‌79 - بَاب وُجُوبِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَجُعِلَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ

1643 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ عُرْوَةُ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها فَقُلْتُ لَهَا: أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} فَوَاللَّهِ مَا عَلَى أَحَدٍ جُنَاحٌ أَنْ لَا يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَالَتْ: بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا ابْنَ أُخْتِي، إِنَّ هَذِهِ لَوْ كَانَتْ

ص: 497

كَمَا أَوَّلْتَهَا عَلَيْهِ كَانَتْ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَتَطَوَّفَ بِهِمَا، وَلَكِنَّهَا أُنْزِلَتْ فِي الْأَنْصَارِ، كَانُوا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا عِنْدَ الْمُشَلَّلِ، فَكَانَ مَنْ أَهَلَّ يَتَحَرَّجُ أَنْ يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا نَتَحَرَّجُ أَنْ نَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الْآيَةَ قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: وَقَدْ سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا: ثُمَّ أَخْبَرْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَعِلْمٌ مَا كُنْتُ سَمِعْتُهُ، وَلَقَدْ سَمِعْتُ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَذْكُرُونَ أَنَّ النَّاسَ إِلَّا مَنْ ذَكَرَتْ عَائِشَةُ مِمَّنْ كَانَ يُهِلُّ بِمَنَاةَ كَانُوا يَطُوفُونَ كُلُّهُمْ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَلَمْ يَذْكُرْ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ فِي الْقُرْآنِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنَّا نَطُوفُ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ فَلَمْ

يَذْكُرْ الصَّفَا فَهَلْ عَلَيْنَا مِنْ حَرَجٍ أَنْ نَطَّوَّفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الْآيَةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَسْمَعُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا؛ فِي الَّذِينَ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَطُوفُوا بِالْجَاهِلِيَّةِ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَالَّذِينَ يَطُوفُونَ ثُمَّ تَحَرَّجُوا أَنْ يَطُوفُوا بِهِمَا فِي الْإِسْلَامِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الصَّفَا حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا ذَكَرَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ.

[الحديث 1643 - أطرافه في: 1790، 4495، 4861]

قَوْلُهُ: (بَابُ وُجُوبِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَجُعِلَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) أَيْ وُجُوبُ السَّعْيِ بَيْنَهُمَا مُسْتَفَادٌ مِنْ كَوْنِهِمَا جُعِلَا مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ قَالَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ، وَتَمَامُ هَذَا نَقْلُ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي تَفْسِيرِ الشَّعَائِرِ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الشَّعَائِرُ الْمُقَالَةُ الَّتِي نَدَبَ اللَّهُ إِلَيْهَا وَأَمَرَ بِالْقِيَامِ عَلَيْهَا، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الشَّعَائِرُ أَعْمَالُ الْحَجِّ وَكُلُّ مَا جُعِلَ عَلَمًا لِطَاعَةِ اللَّهِ.

وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْوُجُوبُ مُسْتَفَادًا مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ مَا أَتَمَّ اللَّهُ حَجَّ امْرِئٍ وَلَا عُمْرَتَهُ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَهُوَ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِهَا الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْبَابِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَاحْتَجَّ ابْنُ الْمُنْذِرِ لِلْوُجُوبِ بِحَدِيثِ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عَنْ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي تِجْرَاه - بِكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ وَسُكُونِ الْجِيمِ بَعْدَهَا رَاءٌ ثُمَّ أَلِفٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ هَاءٌ - وَهِيَ إِحْدَى نِسَاءِ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ - قَالَتْ: دَخَلْتُ مَعَ نِسْوَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ دَارَ آلِ أَبِي حُسَيْنٍ فَرَأَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْعَى وَإِنَّ مِئْزَرَهُ لَيَدُورُ مِنْ شِدَّةِ السَّعْيِ، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: اسْعَوْا فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ. أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا، وَفِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُؤَمَّلِ وَفِيهِ ضَعْفٌ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: إِنْ ثَبَتَ فَهُوَ حُجَّةٌ فِي الْوُجُوبِ.

قُلْتُ: لَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى فِي صَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ مُخْتَصَرَةٌ، وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَالْأُولَى وَإِذَا انْضَمَّتْ إِلَى الْأُولَى قَوِيَتْ، وَاخْتُلِفَ عَلَى صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ فِي اسْمِ الصَّحَابِيَّةِ الَّتِي أَخْبَرَتْهَا بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَخَذَتْهُ عَنْ جَمَاعَةٍ، فَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ عَنْهَا أَخْبَرَتْنِي نِسْوَةٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ فَلَا يَضُرُّهُ الِاخْتِلَافُ، وَالْعُمْدَةُ فِي الْوُجُوبِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِحَدِيثِ أَبِي مُوسَى فِي إِهْلَالِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَبْوَابِ الْمَوَاقِيتِ وَفِيهِ طُفْ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَذَا: فَالْجُمْهُورُ قَالُوا هُوَ رُكْنٌ لَا يَتِمُّ الْحَجُّ بِدُونِهِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَاجِبٌ

ص: 498

يُجْبَرُ بِالدَّمِ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ فِي النَّاسِي لَا فِي الْعَامِدِ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَعَنْهُ أَنَّهُ سُنَّةٌ لَا يَجِبُ بِتَرْكِهِ شَيْءٌ، وَبِهِ قَالَ أَنَسٌ فِيمَا نَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَاخْتُلِفَ عَنْ أَحْمَدَ كَهَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِيمَا إِذَا تَرَكَ بَعْضَ السَّعْيِ كَمَا هُوَ عِنْدَهُمْ فِي الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فَحَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ السَّعْيَ رُكْنٌ فِي الْعُمْرَةِ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي الْحَجِّ. وَأَغْرَبَ الطَّحَاوِيُّ فَقَالَ فِي كَلَامٍ لَهُ عَلَى الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ: قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ أَشْيَاءَ فِي الْحَجِّ لَمْ يُرِدْ بِذِكْرِهَا إِيجَابَهَا فِي قَوْلِ أَحَدٍ مِنَ الْأُمَّةِ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الْآيَةَ، وَكُلٌّ أَجْمَعَ عَلَى أَنَّهُ لَوْ حَجَّ وَلَمْ يَطُفْ بِهِمَا أَنَّ حَجَّهُ قَدْ تَمَّ وَعَلَيْهِ الدَّمُ.

وَقَدْ أَطْنَبَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى ابْنِ بَطَّالٍ.

قَوْلُهُ: (فَوَاللَّهِ مَا عَلَى أَحَدٍ جُنَاحٌ أَنْ لَا يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إِلَخْ) الْجَوَابُ مُحَصَّلُهُ أَنَّ عُرْوَةَ احْتَجَّ لِلْإِبَاحَةِ بِاقْتِصَارِ الْآيَةِ عَلَى رَفْعِ الْجُنَاحِ فَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا اكْتَفَى بِذَلِكَ لِأَنَّ رَفْعَ الْإِثْمِ عَلَامَةُ الْمُبَاحِ، وَيَزْدَادُ الْمُسْتَحَبُّ بِإِثْبَاتِ الْأَجْرِ، وَيَزْدَادُ الْوُجُوبُ عَلَيْهِمَا بِعِقَابِ التَّارِكِ، وَمَحَلُّ جَوَابِ عَائِشَةَ أَنَّ الْآيَةَ سَاكِتَةٌ عَنِ الْوُجُوبِ وَعَدَمِهِ مُصَرِّحَةٌ بِرَفْعِ الْإِثْمِ عَنِ الْفَاعِلِ، وَأَمَّا الْمُبَاحُ فَيَحْتَاجُ إِلَى رَفْعِ الْإِثْمِ عَنِ التَّارِكِ، وَالْحِكْمَةُ فِي التَّعْبِيرِ بِذَلِكَ مُطَابَقَةُ جَوَابِ السَّائِلِينَ لِأَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا مِنْ كَوْنِهِمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَسْتَمِرُّ فِي الْإِسْلَامِ فَخَرَجَ الْجَوَابُ مُطَابِقًا لِسُؤَالِهِمْ، وَأَمَّا الْوُجُوبُ فَيُسْتَفَادُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ، وَلَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ وَاجِبًا وَيَعْتَقِدُ إِنْسَانٌ امْتِنَاعَ إِيقَاعِهِ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ فَيُقَالُ لَهُ لَا جُنَاحَ عَلَيْكَ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ نَفْيَ الْوُجُوبِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْإِثْمِ عَنِ الْفَاعِلِ نَفْيُ الْإِثْمِ عَنِ التَّارِكِ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مُطْلَقَ الْإِبَاحَةِ لَنُفِيَ الْإِثْمُ عَنِ التَّارِكِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ الشَّوَاذِّ بِاللَّفْظِ الَّذِي قَالَتْ عَائِشَةُ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ لِلْإِبَاحَةِ لَكَانَتْ كَذَلِكَ حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ أَبِي دَاوُدَ فِي: الْمَصَاحِفِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُمْ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَجَابَ الطَّبَرِيُّ بِأَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ وَلَا زَائِدَةٌ، وَكَذَا قَالَ الطَّحَاوِيُّ،

وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا حُجَّةَ فِي الشَّوَاذِّ إِذَا خَالَفَتِ الْمَشْهُورَ، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ أَيْضًا: لَا حُجَّةَ لِمَنْ قَالَ إِنَّ السَّعْيَ مُسْتَحَبٌّ بِقَوْلِهِ {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى أَصْلِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لَا إِلَى خُصُوصِ السَّعْيِ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ التَّطَوُّعَ بِالسَّعْيِ لِغَيْرِ الْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (يُهِلُّونَ) أَيْ يَحُجُّونَ.

قَوْلُهُ: (لِمَنَاةَ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالنُّونِ الْخَفِيفَةِ صَنَمٌ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: كَانَتْ صَخْرَةً نَصَبَهَا عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ لِهُذَيْلٍ وَكَانُوا يَعْبُدُونَهَا، وَالطَّاغِيَةُ صِفَةٌ لَهَا إِسْلَامِيَّةٌ.

قَوْلُهُ: (بِالْمُشَلَّلِ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَلَامَيْنِ الْأُولَى مَفْتُوحَةٌ مُثَقَّلَةٌ هِيَ الثَّنِيَّةُ الْمُشْرِفَةُ عَلَى قُدَيْدٍ، زَادَ سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِالْمُشَلَّلِ مِنْ قُدَيْدٍ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَصْلُهُ لِلْمُصَنِّفِ كَمَا سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ النَّجْمِ، وَلَهُ فِي تَفْسِيرِ الْبَقَرَةِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قُلْتُ لِعَائِشَةَ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ حَدِيثُ السِّنِّ - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ - كَانُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ، وَكَانَتْ مَنَاةُ حَذْوَ قُدَيْدٍ أَيْ مُقَابِلَهُ، وَقُدَيْدٌ بِقَافٍ مُصَغَّرٍ قَرْيَةٌ جَامِعَةٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ كَثِيرَةُ الْمِيَاهِ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْبَكْرِيُّ.

قَوْلُهُ: (فَكَانَ مَنْ أَهَلَّ يَتَحَرَّجُ أَنْ يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ (إِنَّا كُنَّا نَتَحَرَّجُ أَنْ نَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَطُوفُونَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَيَقْتَصِرُونَ عَلَى الطَّوَافِ بِمَنَاةَ فَسَأَلُوا عَنْ حُكْمِ الْإِسْلَامِ فِي ذَلِكَ، وَيُصَرِّحُ بِذَلِكَ رِوَايَةُ سُفْيَانَ الْمَذْكُورَةُ بِلَفْظِ إِنَّمَا كَانَ مَنْ أَهَلَّ بِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ الَّتِي بِالْمُشَلَّلِ لَا يَطُوفُونَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ إِنَّا كُنَّا لَا نَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ تَعْظِيمًا لِمَنَاةَ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا، وَوَصَلَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ إِنَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا هُمْ وَغَسَّانُ يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ فَتَحَرَّجُوا أَنْ يَطُوفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَكَانَ ذَلِكَ سُنَّةً فِي آبَائِهِمْ، مَنْ

ص: 499

أَحْرَمَ لِمَنَاةَ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَطُرُقُ الزُّهْرِيِّ مُتَّفِقَةٌ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ فَرَوَاهُ مَالِكٌ عَنْهُ بِنَحْوِ رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَرَوَاهُ أَبُو أُسَامَةَ عَنْهُ بِلَفْظِ إِنَّمَا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا فِي أُنَاسٍ مِنَ الْأَنْصَارِ كَانُوا إِذَا أَهَلُّوا لِمَنَاةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَطُوفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَظَاهِرُهُ يُوَافِقُ رِوَايَةَ الزُّهْرِيِّ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِيمَا رَوَاهُ الْفَاكِهِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ سَاجٍ عَنْهُ أَنَّ عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ نَصَبَ مَنَاةَ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ مِمَّا يَلِي قُدَيْدًا، فَكَانَتِ الْأَزْدُ وَغَسَّانُ يَحُجُّونَهَا وَيُعَظِّمُونَهَا، إِذَا طَافُوا

بِالْبَيْتِ وَأَفَاضُوا مِنْ عَرَفَاتٍ وَفَرَغُوا مِنْ مِنًى أَتَوْا مَنَاةَ فَأَهَلُّوا لَهَا، فَمَنْ أَهَلَّ لَهَا لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ - قَالَ - وَكَانَتْ مَنَاةُ لِلْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَالْأَزْدِ مِنْ غَسَّانَ وَمَنْ دَانَ دِينَهُمْ مِنْ أَهْلِ يَثْرِبَ فَهَذَا يُوَافِقُ رِوَايَةَ الزُّهْرِيِّ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامٍ هَذَا الْحَدِيثَ فَخَالَفَ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ وَلَفْظُهُ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا يُهِلُّونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِصَنَمَيْنِ عَلَى شَطِّ الْبَحْرِ يُقَالُ لَهُمَا أسَافٌ وَنَائِلَةُ فَيَطُوفُونَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ يَحِلُّونَ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ كَرِهُوا أَنْ يَطُوفُوا بَيْنَهُمَا لِلَّذِي كَانُوا يَصْنَعُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَقْتَضِي أَنَّ تَحَرُّجَهُمْ إِنَّمَا كَانَ لِئَلَّا يَفْعَلُوا فِي الْإِسْلَامِ شَيْئًا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ أَبْطَلَ أَفْعَالَ الْجَاهِلِيَّةِ إِلَّا مَا أَذِنَ فِيهِ الشَّارِعُ، فَخَشُوا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِي أَبْطَلَهُ الشَّارِعُ، فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَوْجِيهُهَا ظَاهِرٌ بِخِلَافِ رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ فَإِنَّهَا تَقْتَضِي أَنَّ التَّحَرُّجَ عَنِ الطَّوَافِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِكَوْنِهِمْ كَانُوا لَا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِهِمْ فِعْلَ شَيْءٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يَتَحَرَّجُوا مِنْ فِعْلِهِ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَوْلَا الزِّيَادَةُ الَّتِي فِي طَرِيقِ يُونُسَ حَيْثُ قَالَ وَكَانَتْ سُنَّةً فِي آبَائِهِمْ إِلَخْ لَكَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ مُمْكِنًا بِأَنْ نَقُولَ: وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُهِلُّونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِمَنَاةَ ثُمَّ يَطُوفُونَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَكَانَ مَنْ

أَهَلَّ أَيْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ يَتَحَرَّجُ أَنْ يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِئَلَّا يُضَاهِيَ فِعْلَ الْجَاهِلِيَّةِ. وَيُمْكِنُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ كَانُوا إِذَا أَهَلُّوا أَهَلُّوا لِمَنَاةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَجَاءَ الْإِسْلَامُ فَظَنُّوا أَنَّهُ أَبْطَلَ ذَلِكَ فَلَا يَحِلُّ لَهُمْ، وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ رِوَايَةُ أَبِي مُعَاوِيَةَ الْمَذْكُورَةُ حَيْثُ قَالَ فِيهَا فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ كَرِهُوا أَنْ يَطُوفُوا بَيْنَهُمَا لِلَّذِي كَانُوا يَصْنَعُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، إِلَّا أَنَّهُ وَقَعَ فِيهَا وَهُمْ غَيْرُ هَذَا نَبَّهَ عَلَيْهِ عِيَاضٌ فَقَالَ: قَوْلُهُ لِصَنَمَيْنِ عَلَى شَطِّ الْبَحْرِ وَهْمٌ، فَإِنَّهُمَا مَا كَانَا قَطُّ عَلَى شَطِّ الْبَحْرِ وَإِنَّمَا كَانَا عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، إِنَّمَا كَانَتْ مَنَاةُ مِمَّا يَلِي جِهَةَ الْبَحْرِ. انْتَهَى.

وَسَقَطَ مِنْ رِوَايَتِهِ أَيْضًا إِهْلَالُهُمْ أَوَّلًا لِمَنَاةَ، فَكَأَنَّهُمْ كَانُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ فَيَبْدَءُونَ بِهَا ثُمَّ يَطُوفُونَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِأَجْلِ أسَافٍ وَنَائِلَةَ، فَمِنْ ثَمَّ تَحَرَّجُوا مِنَ الطَّوَافِ بَيْنَهُمَا فِي الْإِسْلَامِ، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ حَدِيثُ أَنَسٍ الْمَذْكُورُ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ بِلَفْظِ أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، لِأَنَّهَا كَانَتْ مِنْ شِعَارِ الْجَاهِلِيَّةِ وَرَوَى النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ عَنْ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ قَالَ كَانَ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ صَنَمَانِ مِنْ نُحَاسٍ يُقَالُ لَهُمَا أسَافٌ وَنَائِلَةُ كَانَ الْمُشْرِكُونَ إِذَا طَافُوا تَمَسَّحُوا بِهِمَا الْحَدِيثَ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي التَّفْسِيرِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَتِ الْأَنْصَارُ: إِنَّ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الْآيَةَ، وَرَوَى الْفَاكِهِيُّ، وَإِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي فِي: الْأَحْكَامِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ كَانَ صَنَمٌ بِالصَّفَا يُدْعَى أسَافٌ وَوَثَنٌ بِالْمَرْوَةِ يُدْعَى نَائِلَةُ، فَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَسْعَوْنَ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ رُمِيَ بِهِمَا وَقَالُوا: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ يَصْنَعُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ أَجْلِ أَوْثَانِهِمْ، فَأَمْسَكُوا عَنِ السَّعْيِ بَيْنَهُمَا، قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الْآيَةَ وَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ فِي: أَسْبَابِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَ هَذَا وَزَادَ فِيهِ:

ص: 500

يَزْعُمُ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّهُمَا زَنَيَا فِي الْكَعْبَةِ فَمُسِخَا حَجَرَيْنِ فَوُضِعَا عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِيُعْتَبَرَ

بِهِمَا، فَلَمَّا طَالَتِ الْمُدَّةُ عُبِدَا. وَالْبَاقِي نَحْوَهُ. وَرَوَى الْفَاكِهِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى أَبِي مِجْلَزٍ نَحْوَهُ. وَفِي كِتَابِ مَكَّةَ لِعُمَرَ بْنِ شَبَّةَ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: قَالَتِ الْأَنْصَارُ إِنَّ السَّعْيَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَجَرَيْنِ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَنَزَلَتْ. وَمِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ قَالَ: كَانَ النَّاسُ أَوَّلَ مَا أَسْلَمُوا كَرِهُوا الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَنَمٌ فَنَزَلَتْ، فَهَذَا كُلُّهُ يُوَضِّحُ قُوَّةَ رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ وَتَقَدُّمَهَا عَلَى رِوَايَةِ غَيْرِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْأَنْصَارُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا فَرِيقَيْنِ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَطُوفُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ رِوَايَةُ أَبِي مُعَاوِيَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ لَا يَقْرَبُهُمَا عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ رِوَايَةُ الزُّهْرِيِّ وَاشْتَرَكَ الْفَرِيقَانِ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى التَّوَقُّفِ عَنِ الطَّوَافِ بَيْنَهُمَا لِكَوْنِهِ كَانَ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا مِنْ أَفْعَالِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَيُجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِهَذَا، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى نَحْوِ هَذَا الْجَمْعِ الْبَيْهَقِيُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(تَنْبِيهٌ): قَوْلُ عَائِشَةَ: سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَللمَ الطَّوَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. أَيْ فَرَضَهُ بِالسُّنَّةِ، وَلَيْسَ مُرَادُهَا نَفْيَ فَرْضِيَّتِهَا، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهَا لَمْ يُتِمَّ اللَّهُ حَجَّ أَحَدِكُمْ وَلَا عُمْرَتَهُ مَا لَمْ يَطُفْ بَيْنَهُمَا.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ أَخْبَرْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) الْقَائِلُ هُوَ الزُّهْرِيُّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (أنَّ هَذَا الْعِلْمَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، أَيْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْعِلْمُ الْمَتِينُ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ إِنَّ هَذَا لَعِلْمٌ بِفَتْحِ اللَّامِ وَهِيَ الْمُؤَكِّدَةُ وَبِالتَّنْوِينِ عَلَى أَنَّهُ الْخَبَرُ.

قَوْلُهُ: (أنَّ النَّاسَ إِلَّا مَنْ ذَكَرَتْ عَائِشَةُ) إِنَّمَا سَاغَ لَهُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مَعَ أَنَّ الرِّجَالَ الَّذِينَ أَخْبَرُوهُ أَطْلَقُوا ذَلِكَ لِبَيَانِ الْخَبَرِ عِنْدَهُ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ لَهُ عَنْ عُرْوَةَ عَنْهَا، وَمُحَصَّلُ مَا أَخْبَرَ بِهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ الْمَانِعَ لَهُمْ مِنَ التَّطَوُّفِ بَيْنَهُمَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَلَمْ يَذْكُرِ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا ظَنُّوا رَفْعَ ذَلِكَ الْحُكْمِ فَسَأَلُوا هَلْ عَلَيْهِمْ مِنْ حَرَجٍ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ، بِنَاءً عَلَى مَا ظَنُّوهُ مِنْ أَنَّ التَّطَوُّفَ بَيْنَهُمَا مِنْ فِعْلِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ الْمَذْكُورَةِ إِنَّمَا كَانَ مَنْ لَا يَطُوفُ بَيْنَهُمَا مِنَ الْعَرَبِ يَقُولُونَ: إِنَّ طَوَافَنَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَجَرَيْنِ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا شَرَحْنَاهُ أَوَّلًا.

قَوْلُهُ: (فَأَسْمَعُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْفَرِيقَيْنِ) كَذَا فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ بِإِثْبَاتِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّ الْعَيْنِ بِصِيغَةِ الْمُضَارَعَةِ لِلْمُتَكَلِّمِ، وَضَبَطَهُ الدِّمْيَاطِيُّ فِي نُسْخَتِهِ بِالْوَصْلِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ فَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ الْمَذْكُورَةِ فَأُرَاهَا نَزَلَتْ وَهُوَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ أَظُنُّهَا، وَحَاصِلُهُ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ كَانَ لِلرَّدِّ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ الَّذِينَ تَحَرَّجُوا أَنْ يَطُوفُوا بَيْنَهُمَا لِكَوْنِهِ عِنْدَهُمْ مِنْ أَفْعَالِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَالَّذِينَ امْتَنَعُوا مِنَ الطَّوَافِ بَيْنَهُمَا لِكَوْنِهِمَا لَمْ يُذْكَرَا.

قَوْلُهُ: (حَتَّى ذُكِرَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا ذَكَرَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ) يَعْنِي تَأَخَّرَ نُزُولُ آيَةِ الْبَقَرَةِ فِي الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَنْ آيَةِ الْحَجِّ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَغَيْرِهِ حَتَّى ذُكِرَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا ذَكَرَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَفِي تَوْجِيهِهِ عُسْرٌ، وَكَأَنَّ قَوْلَهُ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ مَا ذَكَرَ بِتَقْدِيرِ الْأَوَّلِ إِنَّمَا امْتَنَعُوا مِنَ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} دَلَّ عَلَى الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ وَلَا ذِكْرَ لِلصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فِيهِ حَتَّى نَزَلَ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} بَعْدَ نُزُولِ {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ} وأَمَّا الثَّانِي فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً أَيْ بَعْدَ ذَلِكَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ الطَّوَافُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌80 - بَاب مَا جَاءَ فِي السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: السَّعْيُ مِنْ دَارِ بَنِي عَبَّادٍ إِلَى زُقَاقِ بَنِي أَبِي حُسَيْنٍ

ص: 501

1644 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا طَافَ الطَّوَافَ الْأَوَّلَ خَبَّ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا، وَكَانَ يَسْعَى بَطْنَ الْمَسِيلِ إِذَا طَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَقُلْتُ لِنَافِعٍ: أَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَمْشِي إِذَا بَلَغَ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَ؟ قَالَ: لَا إِلَّا أَنْ يُزَاحَمَ عَلَى الرُّكْنِ فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَدَعُهُ حَتَّى يَسْتَلِمَهُ.

1645 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ "سَأَلْنَا ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنه عَنْ رَجُلٍ طَافَ بِالْبَيْتِ فِي عُمْرَةٍ وَلَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَيَأْتِي امْرَأَتَهُ فَقَالَ قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ فَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} .

1646 -

"وَسَأَلْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما فَقَالَ لَا يَقْرَبَنَّهَا حَتَّى يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ"

1647 -

حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ "قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ تَلَا [21 الاحزاب]: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أسوة حَسَنَةٌ} "

1648 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عَاصِمٌ قَالَ "قُلْتُ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؟ قَالَ نَعَمْ: لِأَنَّهَا كَانَتْ مِنْ شَعَائِرِ الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ [158 البقرة]: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} "

[الحديث 1648 - طرفه في: 4496]

1649 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ "إِنَّمَا سَعَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِيُرِيَ الْمُشْرِكِينَ قُوَّتَهُ"

زَادَ الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو سَمِعْتُ عَطَاءً عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .. مِثْلَهُ

[الحديث 1649 - طرفه في: 4257]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا جَاءَ فِي السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) أَيْ فِي كَيْفِيَّتِهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ إِلَخْ) وَصَلَهُ الْفَاكِهِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ قَالَ: نَزَلَ ابْنُ عُمَرَ مِنَ الصَّفَا، حَتَّى إِذَا حَاذَى بَابَ بَنِي عَبَّادٍ سَعَى، حَتَّى إِذَا انْتَهَى إِلَى الزُّقَاقِ الَّذِي يَسْلُكُ بَيْنَ دَارَ بَنِي أَبِي حُسَيْنٍ وَدَارِ بِنْتِ قَرَظَةَ وَمِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ قَالَ رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ يَسْعَى مِنْ مَجْلِسِ أَبِي عَبَّادٍ إِلَى زُقَاقِ ابْنِ أَبِي حُسَيْنٍ قَالَ سُفْيَانُ هُوَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْعَلَمَيْنِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ قَالَ رَأَيْتُهُمَا يَسْعَيَانِ مِنْ خَوْخَةِ بَنِي عَبَّادٍ إِلَى زُقَاقِ بَنِي أَبِي حُسَيْنٍ، قَالَ فَقُلْتُ لِمُجَاهِدٍ، فَقَالَ: هَذَا بَطْنُ الْمَسِيلِ الْأَوَّلِ اهـ. وَالْعَلَمَانِ اللَّذَانِ أَشَارَ إِلَيْهِمَا مَعْرُوفَانِ إِلَى الْآنَ. وَرَوَى ابْنُ خُزَيْمَةَ،

ص: 502

وَالْفَاكِهِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ السَّعْيِ فَقَالَ: لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ جِبْرِيلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ لِيُرِيَهُ الْمَنَاسِكَ عَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَأَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُجِيزَ الْوَادِيَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَكَانَتْ سُنَّةً. وَسَيَأْتِي فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّ ابْتِدَاءَ ذَلِكَ كَانَ مِنْ هَاجَرَ. وَرَوَى الْفَاكِهِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ هَذَا مَا أَوْرَثَتْكُمُوهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ وَسَيَأْتِي حَدِيثُهُ فِي آخِرِ الْبَابِ فِي سَبَبِ فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ.

ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ:

أَوَّلُهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ:

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ) زَادَ أَبُو ذَرٍّ فِي رِوَايَتِهِ هُوَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَلِغَيْرِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مَيْمُونٍ وَهُوَ الصَّوَابُ وَبِهِ جَزَمَ أَبُو نُعَيْمٍ، وَلَعَلَّ حَاتِمًا اسْمُ جَدٍّ لَهُ إِنْ كَانَتْ رِوَايَةُ أَبِي ذَرٍّ فِيهِ مَضْبُوطَةً. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ أَنَّهُ رَآهُ بِخَطِّ أَبِي مُحَمَّدٍ الْأَصِيلِيِّ فِي نُسْخَتِهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ حَاتِمٍ.

قَوْلُهُ: (كَانَ إِذَا طَافَ الطَّوَافَ الْأَوَّلَ) أَيْ طَوَافَ الْقُدُومِ.

قَوْلُهُ: (خَبَّ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي: بَابِ مَنْ طَافَ إِذَا قَدِمَ مَكَّةَ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ يَسْعَى بَطْنَ الْمَسِيلِ) أَيِ الْمَكَانَ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ السَّيْلُ، وَقَوْلُهُ بَطْنُ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفٍ، وَهَذَا مَرْفُوعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ بَدَأَ بِالْمَوْقُوفِ عَنْهُ فِي التَّرْجَمَةِ لِكَوْنِهِ مُفَسِّرًا لِحَدِّ السَّعْيِ، وَالْمُرَادُ بِهِ شِدَّةُ الْمَشْيِ وَإِنْ كَانَ جَمِيعُ ذَلِكَ يُسَمَّى سَعْيًا.

قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ لِنَافِعٍ) الْقَائِلُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْمَذْكُورُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالِاسْتِلَامِ قَبْلُ بِأَبْوَابٍ.

الثَّانِي: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا فِي طَوَافِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، أَوْرَدَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي: بَابِ صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِسُبُوعِهِ رَكْعَتَيْنِ قَالَ شَيْخُنَا ابْنُ الْمُلَقِّنِ هُنَا قَالَ صَاحِبُ الْمُحِيطِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لَوْ بَدَأَ بِالْمَرْوَةِ وَخَتَمَ بِالصَّفَا أَعَادَ شَوْطًا فَإِنَّ الْبُدَاءَةَ وَاجِبَةٌ، وَلَا أَصْلَ لِمَا قَالَ الْكِرْمَانِيُّ أَنَّ التَّرْتِيبَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَلَكِنَّ تَرْكَهُ مَكْرُوهٌ لِتَرْكِ السُّنَّةِ، فَيُسْتَحَبُّ إِعَادَةُ الشَّوْطِ. قُلْتُ: الْكِرْمَانِيُّ الْمَذْكُورُ عَالِمٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَيْسَ هُوَ شَمْسَ الدِّينِ شَارِحَ الْبُخَارِيِّ، وَإِنَّمَا نَبَّهْتُ عَلَى ذَلِكَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ شَيْخَنَا وَقَفَ عَلَى شَرْحِهِ وَنَقَلَ مِنْهُ، فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَا هُوَ فِي شَرْحِ شَمْسِ الدِّينِ، وَشَمْسُ الدِّينِ شَافِعِيُّ الْمَذْهَبِ، يَرَى التَّرْتِيبَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ السَّعْيِ.

الثَّالِثُ: حَدِيثُ أَنَسٍ فِي نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ.

زَادَ الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو سَمِعْتُ عَطَاءً عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ.

الرَّابِعُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا سَعَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِيُرِيَ الْمُشْرِكِينَ قُوَّتَهُ. وَالْمُرَادُ بِالسَّعْيِ هُنَا شِدَّةُ الْمَشْيِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ فِي: بَابِ بَدْءِ الرَّمَلِ.

قَوْلُهُ: (زَادَ الْحُمَيْدِيُّ إِلَخْ) أَيْ زَادَ التَّصْرِيحَ بِالتَّحْدِيثِ مِنْ عَمْرٍو، لِسُفْيَانَ وَمِنْ عَطَاءٍ، لِعَمْرٍو، وَهَكَذَا رُوِّينَاهُ فِي: مُسْنَدِ الْحُمَيْدِيِّ رِوَايَةُ بِشْرِ بْنِ مُوسَى عَنْهُ وَمِنْ طَرِيقِهِ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثَ جَابِرٍ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا فَرَغَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ طَوَافِهِ خَرَجَ إِلَى الصَّفَا فَقَالَ: أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى اشْتِرَاطِ الْبُدَاءَةِ بِالصَّفَا، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِلَفْظِ الْأَمْرِ فَقَالَ: ابْدَؤوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ.

(تَكْمِيلٌ): قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ الْمَرْوَةُ أَفْضَلُ مِنَ الصَّفَا لِأَنَّهَا تُقْصَدُ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ بِخِلَافِ الصَّفَا فَإِنَّمَا يُقْصَدُ ثَلَاثًا، قَالَ: وَأَمَّا الْبُدَاءَةُ بِالصَّفَا فَلَيْسَ بِوَارِدٍ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ. قُلْتُ: وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الصَّفَا تُقْصَدُ أَرْبَعًا أَيْضًا أَوَّلُهَا عِنْدَ الْبُدَاءَةِ فَكُلٌّ مِنْهُمَا مَقْصُودٌ بِذَلِكَ وَيَمْتَازُ بِالِابْتِدَاءِ، وَعِنْدَ التَّنَزُّلِ يَتَعَادَلَانِ، ثُمَّ مَا ثَمَرَةُ هَذَا التَّفْضِيلِ مَعَ أَنَّ الْعِبَادَةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِهِمَا لَا تَتِمُّ إِلَّا بِهِمَا مَعًا؟

‌81 - بَاب تَقْضِي الْحَائِضُ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا إِلَّا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَإِذَا سَعَى عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ

ص: 503

1650 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: قَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَالَتْ: فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقَالَ: افْعَلِي كَمَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي.

1651 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ ح وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا حَبِيبٌ الْمُعَلِّمُ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ "أَهَلَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِالْحَجِّ وَلَيْسَ مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ هَدْيٌ غَيْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَطَلْحَةَ وَقَدِمَ عَلِيٌّ مِنْ الْيَمَنِ وَمَعَهُ هَدْيٌ فَقَالَ أَهْلَلْتُ بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً وَيَطُوفُوا ثُمَّ يُقَصِّرُوا وَيَحِلُّوا إِلاَّ مَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ فَقَالُوا نَنْطَلِقُ إِلَى مِنًى وَذَكَرُ أَحَدِنَا يَقْطُرُ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ وَلَوْلَا أَنَّ مَعِي الْهَدْيَ لَاحْلَلْتُ" وَحَاضَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها فَنَسَكَتْ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا غَيْرَ أَنَّهَا لَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ فَلَمَّا طَهُرَتْ طَافَتْ بِالْبَيْتِ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ تَنْطَلِقُونَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ وَأَنْطَلِقُ بِحَجٍّ فَأَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا إِلَى التَّنْعِيمِ فَاعْتَمَرَتْ بَعْدَ الْحَجِّ"

1652 -

حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ حَفْصَةَ قَالَتْ "كُنَّا نَمْنَعُ عَوَاتِقَنَا أَنْ يَخْرُجْنَ فَقَدِمَتْ امْرَأَةٌ فَنَزَلَتْ قَصْرَ بَنِي خَلَفٍ فَحَدَّثَتْ أَنَّ أُخْتَهَا كَانَتْ تَحْتَ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثِنْتَيْ عَشْرَةَ غَزْوَةً وَكَانَتْ أُخْتِي مَعَهُ فِي سِتِّ غَزَوَاتٍ قَالَتْ كُنَّا نُدَاوِي الْكَلْمَى وَنَقُومُ عَلَى الْمَرْضَى فَسَأَلَتْ أُخْتِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ هَلْ عَلَى إِحْدَانَا بَأْسٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا جِلْبَابٌ أَنْ لَا تَخْرُجَ قَالَ: "لِتُلْبِسْهَا صَاحِبَتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا وَلْتَشْهَدْ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُؤْمِنِينَ" فَلَمَّا قَدِمَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها سَأَلْنَهَا أَوْ قَالَتْ سَأَلْنَاهَا فَقَالَتْ وَكَانَتْ لَا تَذْكُرُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَدًا إِلاَّ قَالَتْ بِأَبِي فَقُلْنَا أَسَمِعْتِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "كَذَا وَكَذَا قَالَتْ نَعَمْ بِأَبِي فَقَالَ لِتَخْرُجْ الْعَوَاتِقُ ذَوَاتُ الْخُدُورِ أَوْ الْعَوَاتِقُ وَذَوَاتُ الْخُدُورِ وَالْحُيَّضُ فَيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ وَيَعْتَزِلُ الْحُيَّضُ الْمُصَلَّى فَقُلْتُ أَلْحَائِضُ فَقَالَتْ أَوَلَيْسَ تَشْهَدُ عَرَفَةَ وَتَشْهَدُ كَذَا وَتَشْهَدُ كَذَا"

قَوْلُهُ: (بَابُ تَقْضِي الْحَائِضُ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا إِلَّا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَإِذَا سَعَى عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) جَزَمَ بِالْحُكْمِ الْأَوَّلِ لِتَصْرِيحِ الْأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي الْبَابِ بِذَلِكَ وَأَوْرَدَ الْمَسْأَلَةَ الثَّانِيَةَ مَوْرِدَ الِاسْتِفْهَامِ لِلِاحْتِمَالِ وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ فِي حَدِيثِ الْبَابِ بِزِيَادَةٍ وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ عَنْ مَالِكٍ إِلَّا يَحْيَى التَّمِيمِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ. قُلْتُ: فَإِنْ كَانَ يَحْيَى حَفِظَهُ فَلَا يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ الْوُضُوءِ لِلسَّعْيِ لِأَنَّ

ص: 504

السَّعْيَ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَقَدُّمِ طَوَافٍ قَبْلَهُ فَإِذَا كَانَ الطَّوَافُ مُمْتَنِعًا امْتَنَعَ لِذَلِكَ لَا لِاشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ لَهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا قَالَ تَقْضِي الْحَائِضُ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا إِلَّا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ قَالَ: وَحَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عَاصِمٍ قُلْتُ لِأَبِي الْعَالِيَةِ تَقْرَأُ الْحَائِضُ؟ قَالَ: لَا، وَلَا تَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ.

وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ اشْتِرَاطَ الطَّهَارَةِ لِلسَّعْيِ إِلَّا عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَقَدْ حَكَى الْمَجْدُ بْنُ تَيْمِيَّةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ رِوَايَةً عِنْدَهُمْ مِثْلَهُ، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِذَا طَافَتْ ثُمَّ حَاضَتْ قَبْلَ أَنْ تَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَلْتَسْعَ وَعَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ الْحَسَنِ مِثْلَهُ، هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ عَنِ الْحَسَنِ فَلَعَلَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَائِضِ وَالْمُحْدِثِ كَمَا سَيَأْتِي. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: كَأَنَّ الْبُخَارِيَّ فَهِمَ أَنَّ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام لِعَائِشَةَ افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ. أَنَّ لَهَا أَنْ تَسْعَى وَلِهَذَا قَالَ: وَإِذَا سَعَى عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ اهـ. وَهُوَ تَوْجِيهٌ جَيِّدٌ لَا يُخَالِفُ التَّوْجِيهَ الَّذِي قَدَّمْتُهُ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ عَطَاءٍ قَوْلَيْنِ فِيمَنْ بَدَأَ بِالسَّعْيِ قَبْلَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، وَبِالْإِجْزَاءِ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ: سَعَيْتُ قَبْلَ أَنْ أَطُوفَ قَالَ: طُفْ وَلَا حَرَجَ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا يُجْزِئُهُ وَأَوَّلُوا حَدِيثَ أُسَامَةَ عَلَى مَنْ سَعَى بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ وَقَبْلَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ.

ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ:

الْأَوَّلُ: حَدِيثُ عَائِشَةَ وَفِيهِ: افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطَّهَّرِي وَهُوَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ الْمُشَدَّدَةِ وَتَشْدِيدِ الْهَاءِ أَيْضًا أَوْ هُوَ عَلَى حَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَأَصْلُهُ تَتَطَهَّرِي وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ حَتَّى تَغْتَسِلِي وَالْحَدِيثُ ظَاهِرٌ فِي نَهْيِ الْحَائِضِ عَنِ الطَّوَافِ حَتَّى يَنْقَطِعَ دَمُهَا وَتَغْتَسِلَ لِأَنَّ النَّهْيَ فِي الْعِبَادَاتِ يَقْتَضِي الْفَسَادَ وَذَلِكَ يَقْتَضِي بُطْلَانَ الطَّوَافِ لَوْ فَعَلَتْهُ وَفِي مَعْنَى الْحَائِضِ الْجُنُبِ وَالْمُحْدِثِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَذَهَبَ جَمْعٌ مِنَ الْكُوفِيِّينَ إِلَى عَدَمِ الِاشْتِرَاطِ قَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ سَأَلْتُ الْحَكَمَ، وَحَمَّادًا، وَمَنْصُورًا، وَسُلَيْمَانَ عَنِ الرَّجُلِ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ فَلَمْ يَرَوْا بِهِ بَأْسًا. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ: إِذَا طَافَتِ الْمَرْأَةُ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ فَصَاعِدًا ثُمَّ حَاضَتْ أَجْزَأَ عَنْهَا. وَفِي هَذَا تَعَقُّبٌ عَلَى النَّوَوِيِّ حَيْثُ قَالَ فِي: شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: انْفَرَدَ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي الطَّوَافِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي وُجُوبِهَا وَجُبْرَانِهِ بِالدَّمِ إِنْ فَعَلَهُ اهـ. وَلَمْ يَنْفَرِدُوا بِذَلِكَ كَمَا تَرَى فَلَعَلَّهُ أَرَادَ انْفِرَادَهُمْ عَنِ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ لَكِنَّ عِنْدَ أَحْمَدَ رِوَايَةَ أَنَّ الطَّهَارَةَ لِلطَّوَافِ وَاجِبَةٌ تُجْبَرُ بِالدَّمِ وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلٌ يُوَافِقُ هَذَا.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ جَابِرٍ فِي الْإِهْلَالِ بِالْحَجِّ وَفِيهِ قِصَّةُ قُدُومِ عَلِيٍّ وَمَعَهُ الْهَدْيُ وَقِصَّةُ عَائِشَةَ حَاضَتْ فَنَسَكَتِ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا غَيْرَ أَنَّهَا لَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ. الْحَدِيثَ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي: بَابِ عُمْرَةِ التَّنْعِيمِ مِنْ أَبْوَابِ الْعُمْرَةِ وَالِاحْتِيَاجِ مِنْهُ لِقوله غَيْرَ أَنَّهَا لَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ.

(تَنْبِيهٌ): سَاقَهُ الْمُؤَلِّفُ هُنَا رحمه الله بِلَفْظِ خَلِيفَةَ وَسَيَأْتِي لَفْظُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى فِي: بَابِ عُمْرَةِ التَّنْعِيمِ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: حَدِيثُ حَفْصَةَ: كُنَّا نَمْنَعُ عَوَاتِقَنَا أَنْ يَخْرُجْنَ فَقَدِمَتِ امْرَأَةٌ فَنَزَلَتْ قَصْرَ بَنِي خَلَفٍ - وَفِيهِ - وَيَعْتَزِلُ الْحُيَّضُ الْمُصَلَّى. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَيْضِ وَفِي الْعِيدَيْنِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْحَيْضِ، وَالْمُحْتَاجُ إِلَيْهِ هُنَا قَوْلُهَا فِي آخِرِهِ أَوَلَيْسَ تَشْهَدُ عَرَفَةَ وَتَشْهَدُ كَذَا وَتَشْهَدُ كَذَا فَهُوَ الْمُطَابِقُ لِقَوْلِ جَابِرٍ فَنَسَكَتِ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا إِلَّا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَكَذَا قَوْلُهَا: وَيَعْتَزِلُ الْحُيَّضُ الْمُصَلَّى. فَإِنَّهُ يُنَاسِبُ قَوْلَهُ أنَّ الْحَائِضَ لَا تَطُوفُ بِالْبَيْتِ لِأَنَّهَا إِذَا أُمِرَتْ بِاعْتِزَالِ الْمُصَلَّى كَانَ اعْتِزَالُهَا لِلْمَسْجِدِ بَلْ لِلْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بَلْ لِلْكَعْبَةِ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى.

ص: 505

‌82 - بَاب الْإِهْلَالِ مِنْ الْبَطْحَاءِ وَغَيْرِهَا لِلْمَكِّيِّ وَلِلْحَاجِّ إِذَا خَرَجَ إِلَى مِنًى

وَسُئِلَ عَطَاءٌ عَنْ الْمُجَاوِرِ يُلَبِّي بِالْحَجِّ قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يُلَبِّي يَوْمَ التَّرْوِيَةِ إِذَا صَلَّى الظُّهْرَ وَاسْتَوَى عَلَى رَاحِلَتِهِ وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه: قَدِمْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَحْلَلْنَا حَتَّى يَوْمِ التَّرْوِيَةِ وَجَعَلْنَا مَكَّةَ بِظَهْرٍ لَبَّيْنَا بِالْحَجِّ، وَقَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ: أَهْلَلْنَا مِنْ الْبَطْحَاءِ وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ جُرَيْجٍ لِابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: رَأَيْتُكَ إِذَا كُنْتَ بِمَكَّةَ أَهَلَّ النَّاسُ إِذَا رَأَوْا الْهِلَالَ وَلَمْ تُهِلَّ أَنْتَ حَتَّى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ فَقَالَ لَمْ أَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَوْلُهُ: (بَابُ الْإِهْلَالِ مِنَ الْبَطْحَاءِ وَغَيْرِهَا لِلْمَكِّيِّ وَالْحَاجِّ إِذَا خَرَجَ مِنْ مِنًى) كَذَا فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ وَفِي نُسْخَةٍ مُعْتَمَدَةٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْوَقْتِ إِلَى مِنًى وَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ بَطَّالٍ فِي شَرْحِهِ وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي مُسْتَخْرَجِهِ وَلَا إِشْكَالَ فِيهَا، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَلَعَلَّهُ أَشَارَ إِلَى الْخِلَافِ فِي مِيقَاتِ الْمَكِّيِّ، قَالَ النَّوَوِيُّ: مِيقَاتُ مَنْ بِمَكَّةَ مِنْ أَهْلِهَا أَوْ غَيْرِهِمْ نَفْسُ مَكَّةَ عَلَى الصَّحِيحِ وَقِيلَ مَكَّةُ وَسَائِرُ الْحَرَمِ اهـ.

وَالثَّانِي مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَاخْتُلِفَ فِي الْأَفْضَلِ فَاتَّفَقَ الْمَذْهَبَانِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمَنْزِلِ وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيِّ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَحُجَّةُ الصَّحِيحِ مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْحَجِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ: يُهِلُّ مِنْ جَوْفِ مَكَّةَ وَلَا يَخْرُجُ إِلَى الْحِلِّ إِلَّا مُحْرِمًا وَاخْتَلَفُوا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُهِلُّ فِيهِ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَرَوَى مَالِكٌ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ مُنْقَطِعٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ بِإِسْنَادٍ مُتَّصِلٍ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لِأَهْلِ مَكَّةَ مَا لَكُمْ يَقْدَمُ النَّاسُ عَلَيْكُمْ شُعْثًا وَأَنْتُمْ تَنْضِحُونَ طِيبًا مُدْهِنِينَ إِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلَالَ فَأَهِلُّوا بِالْحَجِّ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَمَنْ أَشَارَ إِلَيْهِمْ عُبَيْدُ بْنُ جُرَيْجٍ بِقَوْلِهِ لِابْنِ عُمَرَ أَهَلَّ النَّاسُ إِذَا رَأَوُا الْهِلَالَ وَقِيلَ إِنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: الْأَفْضَلُ أَنْ يُهِلَّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ إِلَّا الْمُتَمَتِّعَ الَّذِي لَا يَجِدُ الْهَدْيَ وَيُرِيدُ الصَّوْمَ فَيُعَجِّلُ الْإِهْلَالَ لِيَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بَعْدَ أَنْ يُحْرِمَ وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ وَهُوَ الَّذِي عَلَّقَهُ الْمُصَنِّفُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَقَوْلُهُ فِي التَّرْجَمَةِ لِلْمَكِّيِّ أَيْ إِذَا أَرَادَ الْحَجَّ وَقَوْلُهُ: الْحَاجِّ أَيِ الْآفَاقِيِّ إِذَا كَانَ قَدْ دَخَلَ مَكَّةَ مُتَمَتِّعًا.

قَوْلُهُ: (وَسُئِلَ عَطَاءٌ إِلَخْ) وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِهِ بِلَفْظِ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ فِي الْمَسْجِدِ فَقِيلَ لَهُ: قَدْ رُئِيَ الْهِلَالُ - فَذَكَرَ قِصَّةً فِيهَا - فَأَمْسَكَ حَتَّى كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ فَأَتَى الْبَطْحَاءَ فَلَمَّا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ أَحْرَمَ وَرَوَى مَالِكٌ فِي: الْمُوَطَّأِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَهَلَّ لِهِلَالِ ذِي الْحِجَّةِ وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَرَى التَّوْسِعَةَ فِي ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَخْ) الظَّاهِرُ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ هُوَ ابْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَقَدْ وَصَلَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِهِ عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَهْلَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحَجِّ فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ أَمَرَنَا أَنْ نَحِلَّ وَنَجْعَلَهَا عُمْرَةً فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَيْنَا الْحَدِيثَ وَفِيهِ أَيُّهَا النَّاسُ أَحِلُّوا فَأَحْلَلْنَا حَتَّى كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ وَجَعَلْنَا مَكَّةَ بِظَهْرٍ أَهْلَلْنَا بِالْحَجِّ. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الْمَلِكُ بْنُ جُرَيْجٍ نَحْوَ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَسَيَأْتِي فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ. (تَنْبِيهٌ): قَوْلُهُ بِظَهْرٍ أَيْ وَرَاءَ ظُهُورِنَا وَقَوْلُهُ: أَهْلَلْنَا بِالْحَجِّ أَيْ جَعَلْنَا مَكَّةَ مِنْ وَرَائِنَا فِي يَوْمِ التَّرْوِيَةِ حَالَ كَوْنِنَا مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ حِينَ الْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ كَانُوا مُحْرِمِينَ، وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ مَا بَعْدَهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ أَهْلَلْنَا مِنَ الْبَطْحَاءِ) وَصَلَهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْهُ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَمَرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَحْلَلْنَا أَنْ نُحْرِمَ إِذَا تَوَجَّهْنَا إِلَى مِنًى، قَالَ:

ص: 506

فَأَهْلَلْنَا مِنَ الْأَبْطَحِ. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مُطَوَّلًا مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ فَذَكَرَ قِصَّةَ فَسْخِهِمُ الْحَجَّ إِلَى الْعُمْرَةِ، وَقِصَّةَ عَائِشَةَ لَمَّا حَاضَتْ وَفِيهِ ثُمَّ أَهْلَلْنَا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَزَادَ مِنْ طَرِيقِ زُهَيْرٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَهْلَلْنَا بِالْحَجِّ وَفِي حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ عِنْدَهُ نَحْوَهُ.

(تَنْبِيهٌ): يَوْمُ التَّرْوِيَةِ سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي التَّرْجَمَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ جُرَيْجٍ، لِابْنِ عُمَرَ إِلَخْ) وَصَلَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَوَائِلِ الطَّهَارَةِ فِي اللِّبَاسِ بِأَتَمَّ مِنْ سِيَاقِهِ هُنَا قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُ: وَجْهُ احْتِجَاجِ ابْنِ عُمَرَ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّهُ يُهِلُّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ إِذَا كَانَ بِمَكَّةَ بِإِهْلَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ إِنَّمَا أَهَلَّ حِينَ انْبَعَثَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ وَلَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ وَلَا كَانَ ذَلِكَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَهَلَّ مِنْ مِيقَاتِهِ مِنْ حِينِ ابْتِدَائِهِ فِي عَمَلِ حَجَّتِهِ وَاتَّصَلَ لَهُ عَمَلُهُ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُكْثٌ رُبَّمَا انْقَطَعَ بِهِ الْعَمَلُ. فَكَذَلِكَ الْمَكِّيُّ إِذَا أَهَلَّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ اتَّصَلَ عَمَلُهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَهَلَّ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يُهِلُّ أَحَدٌ مِنْ مَكَّةَ بِالْحَجِّ حَتَّى يُرِيدَ الرَّوَاحَ إِلَى مِنًى.

‌83 - بَاب أَيْنَ يُصَلِّي الظُّهْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ

1653 -

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْأَزْرَقُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه قُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ عَقَلْتَهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَيْنَ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ؟ قَالَ: بِمِنًى قُلْتُ: فَأَيْنَ صَلَّى الْعَصْرَ يَوْمَ النَّفْرِ؟ قَالَ بِالْأَبْطَحِ ثُمَّ قَالَ: افْعَلْ كَمَا يَفْعَلُ أُمَرَاؤُكَ.

[الحديث 1653 - طرفاه في: 1654، 1763]

1654 -

حَدَّثَنَا عَلِيٌّ سَمِعَ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَيَّاشٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ لَقِيتُ أَنَسًا ح و حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ "خَرَجْتُ إِلَى مِنًى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ فَلَقِيتُ أَنَسًا رضي الله عنه ذَاهِبًا عَلَى حِمَارٍ فَقُلْتُ أَيْنَ صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْيَوْمَ الظُّهْرَ فَقَالَ انْظُرْ حَيْثُ يُصَلِّي أُمَرَاؤُكَ فَصَلِّ"

قَوْلُهُ: (بَابُ أَيْنَ يُصَلِّي الظُّهْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ) أَيْ يَوْمَ الثَّامِنِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَسُمِّيَ التَّرْوِيَةَ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْوَاوِ وَتَخْفِيفِ التَّحْتَانِيَّةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرْوُونَ فِيهَا إِبِلَهُمْ وَيَتَرَوُّونَ مِنَ الْمَاءِ لِأَنَّ تِلْكَ الْأَمَاكِنَ لَمْ تَكُنْ إِذْ ذَاكَ فِيهَا آبَارٌ وَلَا عُيُونٌ وَأَمَّا الْآنَ فَقَدْ كَثُرَتْ جِدًّا وَاسْتَغْنَوْا عَنْ حَمْلِ الْمَاءِ. وَقَدْ رَوَى الْفَاكِهِيُّ فِي: كِتَابِ مَكَّةَ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: يَا مُجَاهِدُ، إِذَا رَأَيْتَ الْمَاءَ بِطَرِيقِ مَكَّةَ وَرَأَيْتَ الْبِنَاءَ يَعْلُو أَخَاشِبَهَا فَخُذْ حِذْرَكَ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَاعْلَمْ أَنَّ الْأَمْرَ قَدْ أَظَلَّكَ. وَقِيلَ فِي تَسْمِيَتِهِ التَّرْوِيَةَ أَقْوَالٌ أُخْرى شَاذَّةٌ مِنْهَا: أَنَّ آدَمَ رَأَى فِيهِ حَوَّاءَ وَاجْتَمَعَ بِهَا، وَمِنْهَا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ رَأَى فِي لَيْلَتِهِ أَنَّهُ يَذْبَحُ ابْنَهُ فَأَصْبَحَ مُتَفَكِّرًا يَتَرَوَّى، وَمِنْهَا أَنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام أَرَى فِيهِ إِبْرَاهِيمَ مَنَاسِكَ الْحَجِّ، وَمِنْهَا أَنَّ الْإِمَامَ يُعَلِّمُ النَّاسَ فِيهِ مَنَاسِكَ الْحَجِّ، وَوَجْهُ شُذُوذِهَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنَ الْأَوَّلِ لَكَانَ يَوْمَ الرُّؤْيَةِ، أَوِ الثَّانِي لَكَانَ يَوْمَ التَّرَوِّي بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ، أَوْ مِنَ الثَّالِثِ لَكَانَ مِنَ الرُّؤْيَا، أَوْ مِنَ الرَّابِعِ لَكَانَ مِنَ الرِّوَايَةِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ) هُوَ الْجُعْفِيُّ، وَإِسْحَاقُ الْأَزْرَقُ هُوَ ابْنُ يُوسُفَ، وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُ: صَحِيحٌ يُسْتَغْرَبُ مِنْ حَدِيثِ إِسْحَاقَ الْأَزْرَقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، يَعْنِي أَنَّ إِسْحَاقَ تَفَرَّدَ بِهِ، وَأَظُنُّ أَنَّ لِهَذِهِ النُّكْتَةِ أَرْدَفَهُ الْبُخَارِيُّ بِطَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ

ص: 507

وَرِوَايَةُ أَبِي بَكْرٍ وَإِنْ كَانَ قَصَّرَ فِيهَا كَمَا سَنُوَضِّحُهُ لَكِنَّهَا مُتَابِعَةٌ قَوِيَّةٌ لِطَرِيقِ إِسْحَاقَ وَقَدْ وَجَدْنَا لَهُ شَوَاهِدَ مِنْهَا، مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ فِي صِفَةِ الْحَجِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إِلَى مِنًى فَأَهَّلُوا بِالْحَجِّ وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ. الْحَدِيثَ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمِنًى خَمْسَ صَلَوَاتٍ. وَلَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ - إِذَا اسْتَطَاعَ - أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ بِمِنًى يَوْمَ التَّرْوِيَةَ وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي: الْمُوَطَّأِ عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ مَوْقُوفًا، وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمِ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: مِنْ سُنَّةِ الْحَجِّ أَنْ يُصَلِّيَ الْإِمَامُ الظُّهْرَ وَمَا بَعْدَهَا وَالْفَجْرَ بِمِنًى ثُمَّ يَغْدُونَ إِلَى عَرَفَةَ.

قَوْلُهُ: (يَوْمَ النَّفْرِ) بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْفَاءِ يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَوَاخِرِ أَبْوَابِ الْحَجِّ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَلِيٌّ) لَمْ أَرَهُ مَنْسُوبًا فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ ابْنُ الْمَدِينِيِّ وَقَدْ سَاقَ الْمُصَنِّفُ الْحَدِيثَ عَلَى لَفْظِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبَانَ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ طَرِيقَ عَلِيٍّ لِتَصْرِيحِهِ فِيهَا بِالتَّحْدِيثِ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ ابْنُ عَيَّاشٍ، وَعَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ ابْنُ رَفِيعٍ.

قَوْلُهُ: (فَلَقِيتُ أَنَسًا ذَاهِبًا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ رَاكِبًا.

قَوْلُهُ: (انْظُرْ حَيْثُ يُصَلِّي أُمَرَاؤُكَ فَصَلِّ) هَذَا فِيهِ اخْتِصَارٌ يُوَضِّحُهُ رِوَايَةُ سُفْيَانَ وَذَلِكَ أَنَّهُ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ بَيَّنَ لَهُ الْمَكَانَ الَّذِي صَلَّى فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَهُوَ مِنًى كَمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ خَشِيَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى ذَلِكَ فَيُنْسَبَ إِلَى الْمُخَالَفَةِ أَوْ تَفُوتَهُ الصَّلَاةُ مَعَ الْجَمَاعَةِ فَقَالَ لَهُ صَلِّ مَعَ الْأُمَرَاءِ حَيْثُ يُصَلُّونَ. وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْأُمَرَاءَ إِذْ ذَاكَ كَانُوا لَا يُوَاظِبُونَ عَلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ ذَلِكَ الْيَوْمَ بِمَكَانٍ مُعَيَّنٍ فَأَشَارَ أَنَسٌ إِلَى أَنَّ الَّذِي يَفْعَلُونَهُ جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ الِاتِّبَاعُ أَفْضَلَ، وَلَمَّا خَلَتْ رِوَايَةُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ عنِ الْقَدْرِ الْمَرْفُوعِ وَقَعَ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ عَنْهُ وَهَمٌ، فَرَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ بَيَانٍ عَنْهُ بِلَفْظِ: أَيْنَ صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ هَذَا الْيَوْمَ؟ قَالَ: صَلَّى حَيْثُ يُصَلِّي أُمَرَاؤُكَ قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: قَوْلُهُ صَلَّى غَلَطٌ. قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَانَتْ صَلِّ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ كَغَيْرِهَا مِنَ الرِّوَايَاتِ فَأَشْبَعَ النَّاسِخُ اللَّامَ فَكَتَبَ بَعْدَهَا يَاءً فَقَرَأَهَا الرَّاوِي بِفَتْحِ اللَّامِ. وَأَغْرَبَ الْحُمَيْدِيُّ فِي جَمْعِهِ فَحَذَفَ لَفْظَ فَصَلِّ مِنْ آخِرِ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ فَصَارَ ظَاهِرُهُ أَنَّ أَنَسًا أَخْبَرَ أَنَّهُ صَلَّى حَيْثُ يُصَلِّي الْأُمَرَاءُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَهَذَا بِعَيْنِهِ الَّذِي أَطْلَقَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَنَّهُ غَلَطٌ. وَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ فِي: الْأَطْرَافِ: جَوَّدَ إِسْحَاقُ، عَنْ سُفْيَانَ هَذَا الْحَدِيثَ وَلَمْ يُجَوِّدْهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ.

قُلْتُ: وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَقَدْ قَدَّمْتُ عُذْرَ الْبُخَارِيِّ فِي تَخْرِيجِهِ وَأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ دَفْعَ مَنْ يَتَوَقَّفُ فِي تَصْحِيحِهِ لِتَفَرُّدِ إِسْحَاقَ بِهِ عَنْ سُفْيَانَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ فِي هَذَا الْبَابِ زِيَادَةُ لَفْظَةٍ لَمْ يُتَابِعْهُ عَلَيْهَا سَائِرُ الرُّوَاةِ عَنْ إِسْحَاقَ وَهِيَ قَوْلُهُ أَيْنَ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ؟ فَإِنَّ لَفْظَ الْعَصْرَ لَمْ يَذْكُرْهُ غَيْرُهُ فَسَيَأْتِي فِي أَوَاخِرِ صِفَةِ الْحَجِّ عَنْ أَبِي مُوسَى مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى عِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ إِسْحَاقَ نَفْسِهِ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ وَزِيرٍ، وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَامٍ، وَالدَّارِمِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ، وَأَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ سَعْدَانَ بْنِ يَزِيدَ، وَابْنُ الْجَارُودِ فِي: الْمُنْتَقَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَزِيرٍ، وَسَمُّوَيْهِ فِي فَوَائِدِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ بُنْدَارٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ بُنْدَارٍ، زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَيَانٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ كُلُّهُمْ - وَهُمُ اثْنَا عَشَرَ نَفْسًا - عَنْ إِسْحَاقَ الْأَزْرَقِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي رِوَايَتِهِ وَالْعَصْرَ وَادَّعَى الدَّاوُدِيُّ أَنْ ذِكْرَ الْعَصْرِ هُنَا وَهَمٌ وَإِنَّمَا ذُكِرَ الْعَصْرُ فِي النَّفَرِ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْعَصْرَ مَذْكُورٌ فِي هَذِهِ

ص: 508

الرِّوَايَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّصْرِيحُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ

بِأَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى صُبْحِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِمِنًى، فَالزِّيَادَةُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ صَحِيحَةٌ إِلَّا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدٍ تَفَرَّدَ بِذِكْرِهَا عَنْ إِسْحَاقَ دُونَ بَقِيَّةِ أَصْحَابِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(تَكْمِيلٌ): لَيْسَ لِعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رَفِيعٍ، عَنْ أَنَسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثُ الْوَاحِدُ، وَلَهُ عَنْ غَيْرِ أَنَسٍ أَحَادِيثُ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا فِي: بَابِ مَنْ طَافَ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْمُرَادُ بِالنَّفْرِ الرُّجُوعُ مِنْ مِنًى بَعْدَ انْقِضَاءِ أَعْمَالِ الْحَجِّ، وَالْمُرَادُ بِالْأَبْطَحِ الْمُحَصَّبُ كَمَا سَيَأْتِي فِي مَكَانِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يُصَلِّيَ الْحَاجُّ الظُّهْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِمِنًى وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَرَوَى الثَّوْرِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ صَلَّى الظُّهْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِمَكَّةَ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ رِوَايَةُ الْقَاسِمِ عَنْهُ أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يُصَلِّيَهَا بِمِنًى، فَلَعَلَّهُ فَعَلَ مَا نَقَلَهُ عَمْرٌو عَنْهُ لِضَرُورَةٍ أَوْ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ فَلْيَرُحْ إِلَى مِنًى قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي حَدِيثِ ابْنِ الزُّبَيْرِ: إِنَّ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُصَلِّيَ الْإِمَامُ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالصُّبْحَ بِمِنًى قَالَ بِهِ عُلَمَاءُ الْأَمْصَارِ، قَالَ: وَلَا أَحْفَظُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى مَنْ تَخَلَّفَ عَنْ مِنًى لَيْلَةَ التَّاسِعِ شَيْئًا.

ثُمَّ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ مِنْ مَكَّةَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ حَتَّى دَخَلَ اللَّيْلُ وَذَهَبَ ثُلُثُهُ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَالْخُرُوجُ إِلَى مِنًى فِي كُلِّ وَقْتٍ مُبَاحٌ إِلَّا أَنَّ الْحَسَنَ، وَعَطَاءً قَالَا: لَا بَأْسَ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْحَاجُّ إِلَى مِنًى قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ. وَكَرِهَهُ مَالِكٌ وَكَرِهَ الْإِقَامَةَ بِمَكَّةَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ حَتَّى يُمْسِيَ إِلَّا إِنْ أَدْرَكَهُ وَقْتُ الْجُمُعَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَهَا قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ. وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا الْإِشَارَةُ إِلَى مُتَابَعَةِ أُولِي الْأَمْرِ وَالِاحْتِرَازُ عَنْ مُخَالَفَةِ الْجَمَاعَةِ.

‌84 - بَاب الصَّلَاةِ بِمِنًى

1655 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ صَدْرًا مِنْ خِلَافَتِهِ.

1656 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ الْخُزَاعِيِّ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ أَكْثَرُ مَا كُنَّا قَطُّ وَآمَنُهُ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ.

1657 -

حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ "صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه رَكْعَتَيْنِ وَمَعَ عُمَرَ رضي الله عنه رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ تَفَرَّقَتْ بِكُمْ الطُّرُقُ فَيَا لَيْتَ حَظِّي مِنْ أَرْبَعٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ"

قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّلَاةِ بِمِنًى) أَيْ هَلْ يَقْصُرُ الرُّبَاعِيَّةَ أَمْ لَا؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي أَبْوَابِ قَصْرِ الصَّلَاةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى نَظِيرِ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ وَأَوْرَدَ فِيهَا أَحَادِيثَ الْبَابِ الثَّلَاثَةَ لَكِنْ غَايَرَ فِي بَعْضِ أَسَانِيدِهَا، فَإِنَّهُ أَوْرَدَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ هُنَاكَ مِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ عَنْهُ، وَهُنَا مِنْ طَرِيقِ وَلَدِهِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (وَعُثْمَانُ صَدْرًا مِنْ خِلَافَتِهِ) زَادَ فِي رِوَايَةِ نَافِعٍ الْمَذْكُورَةِ ثُمَّ أَتَمَّهَا وَأَوْرَدَ حَدِيثَ حَارِثَةَ هُنَاكَ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ وَهُنَا عَنْ آدَمَ كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ، وَحَدِيثَ

ص: 509

ابْنِ مَسْعُودٍ هُنَاكَ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَاحِدِ وَهُنَا مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ كِلَاهُمَا عَنِ الْأَعْمَشِ.

قَوْلُهُ: (فَلَيْتَ حَظِّي مِنْ أَرْبَعٍ رَكْعَتَانِ) قَالَ الدَّاوُدِيُّ: خَشِيَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنْ لَا يُجْزِئَ الْأَرْبَعُ فَاعِلَهَا وَتَبِعَ عُثْمَانَ كَرَاهَةً لِخِلَافِهِ وَأَخْبَرَ بِمَا يَعْتَقِدُهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يُرِيدُ أَنَّهُ لَوْ صَلَّى أَرْبَعًا تَكَلَّفَهَا فَلَيْتَهَا تُقْبَلُ كَمَا تُقْبَلُ الرَّكْعَتَانِ. انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّفْوِيضِ إِلَى اللَّهِ لِعَدَمِ اطِّلَاعِهِ عَلَى الْغَيْبِ وَهَلْ يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاتَهُ أَمْ لَا، فَتَمَنَّى أَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ مِنَ الْأَرْبَعِ الَّتِي يُصَلِّيهَا رَكْعَتَانِ وَلَوْ لَمْ يُقْبَلِ الزَّائِدُ، وَهُوَ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْمُسَافِرَ عِنْدَهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقَصْرِ وَالْإِتْمَامِ وَالرَّكْعَتَانِ لَا بُدَّ مِنْهُمَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَكَانَ يَخَافُ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ شَيْءٌ، فَحَاصِلُهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا أَتَمَّ مُتَابَعَةً لِعُثْمَانَ وَلَيْتَ اللَّهَ قَبِلَ مِنِّي رَكْعَتَيْنِ مِنَ الْأَرْبَعِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ فَوَائِدِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فِي أَبْوَابِ الْقَصْرِ وَعَلَى السَّبَبِ فِي إِتْمَامِ عُثْمَانَ بِمِنًى، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.

‌85 - بَاب صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ

1658 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنَا سَالِمٌ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَيْرًا مَوْلَى أُمِّ الْفَضْلِ عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ: شَكَّ النَّاسُ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي صَوْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَبَعَثْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِشَرَابٍ فَشَرِبَهُ.

[الحديث 1658 - أطرافه في: 1661، 1988، 5604، 5618، 5636]

قَوْلُهُ: (بَابُ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ) يَعْنِي بِعَرَفَةَ، أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أُمِّ الْفَضْلِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ مُسْتَوْفًى إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَتَرْجَمَ لَهُ بِنَظِيرِ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ سَوَاءٌ.

‌86 - بَاب التَّلْبِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ إِذَا غَدَا مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ

1659 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الثَّقَفِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ - وَهُمَا غَادِيَانِ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ -: كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ فِي هَذَا الْيَوْمِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: كَانَ يُهِلُّ مِنَّا الْمُهِلُّ فَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ، وَيُكَبِّرُ مِنَّا الْمُكَبِّرُ فَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ التَّلْبِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ إِذَا غَدَا مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ) أَيْ مَشْرُوعِيَّتُهُمَا، وَغَرَضُهُ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ قَالَ: يَقْطَعُ الْمُحْرِمُ التَّلْبِيَةَ إِذَا رَاحَ إِلَى عَرَفَةَ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ بَعْدَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ بَابًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الثَّقَفِيِّ) تَقَدَّمَ فِي الْعِيدَيْنِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مَالِكٍ حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ وَلَيْسَ لِمُحَمَّدٍ الْمَذْكُورِ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ وَلَا غَيْرِهِ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ وَقَدْ وَافَقَ أَنَسًا عَلَى رِوَايَتِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

قَوْلُهُ: (وَهُمَا غَادِيَانِ) أَيْ ذَاهِبَانِ غَدْوَةً.

قَوْلُهُ: (كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ) أَيْ مِنَ الذِّكْرِ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قُلْتُ لِأَنَسٍ غَدَاةَ عَرَفَةَ: مَا تَقُولُ فِي التَّلْبِيَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ؟

قَوْلُهُ: (فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ لَا يَعِيبُ أَحَدُنَا عَلَى صَاحِبِهِ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُشَارِ إِلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ: غَدَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَاتٍ مِنَّا الْمُلَبِّي وَمِنَّا الْمُكَبِّرُ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ قَالَ - يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ - فَقُلْتُ لَهُ - يَعْنِي لِعُبَيْدِ اللَّهِ - عَجَبًا لَكُمْ كَيْفَ لَمْ تَسْأَلُوهُ؟ مَاذَا رَأَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ؟ وَأَرَادَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ بِذَلِكَ الْوُقُوفَ عَلَى الْأَفْضَلِ لِأَنَّ الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالتَّلْبِيَةِ مِنْ تَقْرِيرِهِ لَهُمْ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ، فَأَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ مَا كَانَ يَصْنَعُ هُوَ

ص: 510

لِيَعْرِفَ الْأَفْضَلَ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، وَسَيَأْتِي مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ بَيَانُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌87 - بَاب التَّهْجِيرِ بِالرَّوَاحِ يَوْمَ عَرَفَةَ

1660 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ قَالَ: كَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى الْحَجَّاجِ أَنْ لَا يُخَالِفَ ابْنَ عُمَرَ فِي الْحَجِّ. فَجَاءَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنه وَأَنَا مَعَهُ يَوْمَ عَرَفَةَ حِينَ زَالَتْ الشَّمْسُ، فَصَاحَ عِنْدَ سُرَادِقِ الْحَجَّاجِ، فَخَرَجَ وَعَلَيْهِ مِلْحَفَةٌ مُعَصْفَرَةٌ فَقَالَ: مَا لَكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ فَقَالَ: الرَّوَاحَ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ. قَالَ: هَذِهِ السَّاعَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَأَنْظِرْنِي حَتَّى أُفِيضَ عَلَى رَأْسِي ثُمَّ أَخْرُجُ. فَنَزَلَ حَتَّى خَرَجَ الْحَجَّاجُ فَسَارَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي، فَقُلْتُ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ فَاقْصُرْ الْخُطْبَةَ وَعَجِّلْ الْوُقُوفَ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: صَدَقَ.

[الحديث 1660 - طرفاه في: 1662، 1663]

قَوْلُهُ: (بَابُ التَّهْجِيرِ بِالرَّوَاحِ يَوْمَ عَرَفَةَ) أَيْ مِنْ نَمِرَةَ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا: غَدَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِ عَرَفَةَ حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ فَنَزَلَ نَمِرَةَ - وَهُوَ مَنْزِلُ الْإِمَامِ الَّذِي يَنْزِلُ فِيهِ بِعَرَفَةَ - حَتَّى إِذْ كَانَ عِنْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ رَاحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُهَجِّرًا، فَجَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ، ثُمَّ رَاحَ فَوَقَفَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ تَوَجَّهَ مِنْ مِنًى حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ بِهَا، لَكِنْ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّ تَوَجُّهَهُ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا كَانَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَلَفْظُهُ: فَضُرِبَتْ لَهُ قُبَّةٌ بِنَمِرَةَ فَنَزَلَ بِهَا حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَى فَرُحِلَتْ فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي. انْتَهَى.

وَنَمِرَةُ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْمِيمِ مَوْضِعٌ بِقُرْبِ عَرَفَاتٍ خَارِجَ الْحَرَمِ بَيْنَ طَرَفِ الْحَرَمِ وَطَرَفِ عَرَفَاتٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ سَالِمٍ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (كَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ) يَعْنِي ابْنَ مَرْوَانَ.

قَوْلُهُ: (إِلَى الْحَجَّاجِ) يَعْنِي ابْنَ يُوسُفَ الثَّقَفِيَّ حِينَ أَرْسَلَهُ إِلَى قِتَالِ ابْنِ الزُّبَيْرِ كَمَا سَيَأْتِي مُبَيَّنًا بَعْدَ بَابٍ.

قَوْلُهُ: (فِي الْحَجِّ) أَيْ فِي أَحْكَامِ الْحَجِّ، وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَشْهَبَ، عَنْ مَالِكٍ فِي أَمْرِ الْحَجِّ وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ لَمْ يُمَكِّنِ الْحَجَّاجَ وَعَسْكَرَهُ مِنْ دُخُولِ مَكَّةَ فَوَقَفَ قَبْلَ الطَّوَافِ.

قَوْلُهُ: (فَجَاءَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما وَأَنَا مَعَهُ) الْقَائِلُ هُوَ سَالِمٌ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فَرَكِبَ هُوَ وَسَالِمٌ وَأَنَا مَعَهُمَا وَفِي رِوَايَتِهِ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكُنْتُ يَوْمَئِذٍ صَائِمًا فَلَقِيتُ مِنَ الْحَرِّ شِدَّةً وَاخْتَلَفَ الْحُفَّاظُ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ هَذِهِ فَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: هِيَ وَهَمٌ، وابْنُ شِهَابٍ لَمْ يَرَ ابْنَ عُمَرَ وَلَا سَمِعَ مِنْهُ، وَقَالَ الذُّهْلِيُّ: لَسْتُ أَدْفَعُ رِوَايَةَ مَعْمَرٍ؛ لِأَنَّ ابْنَ وَهْبٍ رَوَى عَنِ الْعُمَرِيِّ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ نَحْوَ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، وَرَوَى عَنْبَسَةُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ وَفَدْتُ إِلَى مَرْوَانَ وَأَنَا مُحْتَلِمٌ قَالَ الذُّهْلِيُّ: وَمَرْوَانُ مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَهَذِهِ الْقِصَّةُ كَانَتْ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ. انْتَهَى.

وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّ رِوَايَةَ عَنْبَسَةَ هَذِهِ أَيْضًا وَهَمٌ وَإِنَّمَا قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَفَدْتُ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، وَلَوْ كَانَ الزُّهْرِيُّ وَفَدَ عَلَى مَرْوَانَ لَأَدْرَكَ جِلَّةَ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ لَيْسَتْ لَهُ عَنْهُمْ رِوَايَةٌ إِلَّا بِوَاسِطَةٍ. وَقَدْ أَدْخَلَ مَالِكٌ، وَعُقَيْلٌ - وَإِلَيْهِمَا الْمَرْجِعُ فِي حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ - بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِ عُمَرَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ سَالِمًا فَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ.

قَوْلُهُ: (فَصَاحَ عِنْدَ سُرَادِقِ الْحَجَّاجِ) أَيْ خَيْمَتِهِ، زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَيْنَ هَذَا؟ أَيِ الْحَجَّاجُ. وَمِثْلُهُ يَأْتِي بَعْدَ بَابٍ مِنْ رِوَايَةِ الْقَعْنَبِيِّ.

قَوْلُهُ: (وَعَلَيْهِ مِلْحَفَةٌ) بِكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ إِزَارٌ كَبِيرٌ وَالْمُعَصْفَرُ

ص: 511

الْمَصْبُوغُ بِالْعُصْفُرِ. وَقَوْلُهُ (يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ) هِيَ كُنْيَةُ ابْنِ عُمَرَ وَقَوْلُهُ (الرَّوَاحَ) بِالنَّصْبِ أَيْ عَجِّلْ أَوْ رُحْ.

قَوْلُهُ: (إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ إِنْ كَنْتَ تُرِيدُ أَنْ تُصِيبَ السُّنَّةَ.

قَوْلُهُ: (فَأَنْظِرْنِي) بِالْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ أَخِّرْنِي، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِأَلِفِ وَصْلٍ وَضَمِّ الظَّاءِ أَيِ انْتَظِرْنِي.

قَوْلُهُ: (فَنَزَلَ) يَعْنِي ابْنَ عُمَرَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ بَعْدَ بَابَيْنِ.

قَوْلُهُ: (فَاقْصُرْ) بِأَلِفٍ مَوْصُولَةٍ وَمُهْمَلَةٍ مَكْسُورَةٍ. قَالَ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا الْحَدِيثُ يَدْخُلُ عِنْدَهُمْ فِي الْمُسْنَدِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالسُّنَّةِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أُطْلِقَتْ مَا لَمْ تُضَفْ إِلَى صَاحِبِهَا كَسُنَّةِ الْعُمَرَيْنِ. قُلْتُ: وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْأُصُولِ، وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى مَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَهِيَ طَرِيقَةُ الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ، وَيُقَوِّيهِ قَوْلُ سَالِمٍ، لِابْنِ شِهَابٍ إِذْ قَالَ لَهُ أَفَعَلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: وَهَلْ يَتَّبِعُونَ فِي ذَلِكَ إِلَّا سُنَّتَهُ؟ وَسَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ.

قَوْلُهُ: (وَعَجِّلِ الْوُقُوفَ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كَذَا رَوَاهُ الْقَعْنَبِيُّ، وَأَشْهَبُ وَهُوَ عِنْدِي غَلَطٌ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ قَالُوا وَعَجِّلِ الصَّلَاةَ قَالَ: وَرِوَايَةُ الْقَعْنَبِيِّ لَهَا وَجْهٌ؛ لِأَنَّ تَعْجِيلَ الْوُقُوفِ يَسْتَلْزِمُ تَعْجِيلَ الصَّلَاةِ. قُلْتُ: قَدْ وَافَقَ الْقَعْنَبِيَّ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ كَمَا تَرَى، وَرِوَايَةُ أَشْهَبَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا عِنْدَ النَّسَائِيِّ، فَهَؤُلَاءِ ثَلَاثَةٌ رَوَوْهُ هَكَذَا، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِيهِ مِنْ مَالِكٍ، وَكَأَنَّهُ ذَكَرَهُ بِاللَّازِمِ لِأَنَّ الْغَرَضَ بِتَعْجِيلِ الصَّلَاةِ حِينَئِذٍ تَعْجِيلُ الْوُقُوفِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الْغُسْلُ لِلْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لِقَوْلِ الْحَجَّاجِ، لِعَبْدِ اللَّهِ: أَنْظِرْنِي فَانْتَظَرَهُ وَأَهْلُ الْعِلْمِ يَسْتَحِبُّونَهُ. انْتَهَى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عُمَرَ إِنَّمَا انْتَظَرَهُ لِحَمْلِهِ عَلَى أَنَّ اغْتِسَالَهُ عَنْ ضَرُورَةٍ. نَعَمْ رَوَى مَالِكٌ فِي: الْمُوَطَّأِ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَغْتَسِلُ لِوُقُوفِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: فِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ أَجَازَ الْمُعَصْفَرَ لِلْمُحْرِمِ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ بِأَنَّ الْحَجَّاجَ لَمْ يَكُنْ يَتَّقِي الْمُنْكَرَ الْأَعْظَمَ مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ وَغَيْرِهِ حَتَّى يَتَّقِيَ الْمُعَصْفَرَ، وَإِنَّمَا لَمْ يَنْهَهُ ابْنُ عُمَرَ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا يَنْجَعُ فِيهِ النَّهْيُ وَلِعِلْمِهِ بِأَنَّ النَّاسَ لَا يَقْتَدُونَ بِالْحَجَّاجِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الِاحْتِجَاجَ إِنَّمَا هُوَ بِعَدَمِ إِنْكَارِ ابْنِ عُمَرَ، فَبِعَدَمِ إِنْكَارِهِ يَتَمَسَّكُ النَّاسُ فِي اعْتِقَادِ الْجَوَازِ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَسْأَلَةِ الْمُعَصْفَرِ فِي بَابِهِ. وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: فِيهِ جَوَازُ تَأْمِيرِ الْأَدْوَنِ عَلَى الْأَفْضَلِ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ أَيْضًا بِأَنَّ صَاحِبَ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ هُوَ عَبْدُ الْمَلِكِ، وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ وَلَا سِيَّمَا فِي تَأْمِيرِ الْحَجَّاجِ، وَأَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَإِنَّمَا أَطَاعَ لِذَلِكَ فِرَارًا مِنَ الْفِتْنَةِ. قَالَ: وَفِيهِ أَنَّ إِقَامَةَ الْحَجِّ إِلَى الْخُلَفَاءِ، وَأَنَّ الْأَمِيرَ يَعْمَلُ فِي الدِّينِ بِقَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَيَصِيرُ إِلَى رَأْيِهِمْ. وَفِيهِ مُدَاخَلَةُ الْعُلَمَاءِ السَّلَاطِينَ وَأَنَّهُ لَا نَقِيصَةَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ. وَفِيهِ فَتْوَى التِّلْمِيذِ بِحَضْرَةِ مُعَلِّمِهِ عِنْدَ السُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ، وَابْتِدَاءُ الْعَالِمِ بِالْفَتْوَى قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَ عَنْهُ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ إِنَّمَا ابْتَدَأَ بِذَلِكَ لِمَسْأَلَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ كَمَا كَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ، قَالَ: وَفِيهِ الْفَهْمُ بِالْإِشَارَةِ وَالنَّظَرِ لِقَوْلِ سَالِمٍ فَجَعَلَ الْحَجَّاجُ يَنْظُرُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ: صَدَقَ. انْتَهَى. وَفِيهِ طَلَبُ الْعُلُوِّ فِي الْعِلْمِ لِتَشَوُّفِ الْحَجَّاجِ إِلَى سَمَاعِ مَا أَخْبَرَهُ بِهِ سَالِمٌ مِنْ أَبِيهِ ابْنِ عُمَرَ وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ. وَفِيهِ تَعْلِيمُ الْفَاجِرِ السُّنَنَ لِمَنْفَعَةِ النَّاسِ. وَفِيهِ احْتِمَالُ الْمَفْسَدَةِ الْخَفِيفَةِ لِتَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ الْكَبِيرَةِ يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ مُضِيِّ ابْنِ عُمَرَ إِلَى الْحَجَّاجِ وَتَعْلِيمِهِ. وَفِيهِ الْحِرْصُ عَلَى نَشْرِ الْعِلْمِ لِانْتِفَاعِ النَّاسِ بِهِ.

وَفِيهِ صِحَّةُ الصَّلَاةِ خَلْفَ الْفَاسِقِ وَأَنَّ التَّوَجُّهَ إِلَى الْمَسْجِدِ الَّذِي بِعَرَفَةَ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي أَوَّلِ وَقْتِ الظُّهْرِ سُنَّةٌ، وَلَا يَضُرُّ التَّأَخُّرُ بِقَدْرِ مَا يَشْتَغِلُ بِهِ الْمَرْءُ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ الصَّلَاةِ كَالْغُسْلِ وَنَحْوِهِ. وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ مَا فِيهِ فِي الَّذِي يَلِيهِ.

‌88 - بَاب الْوُقُوفِ عَلَى الدَّابَّةِ بِعَرَفَةَ

ص: 512

1661 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ، عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ أَنَّ نَاسًا اخْتَلَفُوا عِنْدَهَا يَوْمَ عَرَفَةَ فِي صَوْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ صَائِمٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِصَائِمٍ، فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ فَشَرِبَهُ

قَوْلُهُ: (بَابُ الْوُقُوفِ عَلَى الدَّابَّةِ بِعَرَفَةَ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَمِّ الْفَضْلِ فِي فِطْرِهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عَرَفَةَ بِهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا. وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ وَمَوْضِعُ الْحَاجَةِ مِنْهُ قَوْلُهُ فِيهِ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ وَأَصْرَحُ مِنْهُ حَدِيثُ جَابِرٍ الطَّوِيلِ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَفِيهِ ثُمَّ رَكِبَ إِلَى الْمَوْقِفِ فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي أَيِّهِمَا أَفْضَلُ: الرُّكُوبُ أَوْ تَرْكُهُ بِعَرَفَةَ؟ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ الرُّكُوبُ لِكَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ رَاكِبًا، وَمِنْ حَيْثُ النَّظَرِ فَإِنَّ فِي الرُّكُوبِ عَوْنًا عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ الْمَطْلُوبِ حِينَئِذٍ كَمَا ذَكَرُوا مِثْلَهُ فِي الْفِطْرِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ اسْتِحْبَابَ الرُّكُوبِ يَخْتَصُّ بِمَنْ يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَى التَّعْلِيمِ مِنْهُ، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ قَوْلُ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى ظَهْرِ الدَّوَابِّ مُبَاحٌ وَأَنَّ النَّهْيَ الْوَارِدَ فِي ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا أَجْحَفَ بِالدَّابَّةِ.

‌89 - بَاب الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِعَرَفَةَ

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما إِذَا فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ مَعَ الْإِمَامِ جَمَعَ بَيْنَهُمَا

1662 -

وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمٌ أَنَّ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ عَامَ نَزَلَ بِابْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ رضي الله عنه: كَيْفَ تَصْنَعُ فِي الْمَوْقِفِ يَوْمَ عَرَفَةَ؟ فَقَالَ سَالِمٌ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ فَهَجِّرْ بِالصَّلَاةِ يَوْمَ عَرَفَةَ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: صَدَقَ، إِنَّهُمْ كَانُوا يَجْمَعُونَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي السُّنَّةِ. فَقُلْتُ لِسَالِمٍ: أَفَعَلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ سَالِمٌ: وَهَلْ يتَّبِعُونَ بذَلِكَ إِلَّا سُنَّتَهُ؟

قَوْلُهُ: (بَابُ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِعَرَفَةَ)

لَمْ يُبَيِّنْ حُكْمَ ذَلِكَ وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الْجَمْعَ الْمَذْكُورَ يَخْتَصُّ بِمَنْ يَكُونُ مُسَافِرًا بِشَرْطِهِ، وَعَنْ مَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْجَمْعَ بِعَرَفَةَ جَمْعٌ لِلنُّسُكِ فَيَجُوزُ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ سَمِعْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: إِنَّ مِنْ سُنَّةِ الْحَجِّ أَنَّ الْإِمَامَ يَرُوحُ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ يَخْطُبُ فَيَخْطُبُ النَّاسَ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ خُطْبَتِهِ نَزَلَ فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ صَلَّى وَحْدَهُ كَمَا سَيَأْتِي.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِلَخْ) وَصَلَهُ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي الْمَنَاسِكِ لَهُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَوْضِيُّ، عَنْ هَمَّامٍ أَنَّ نَافِعًا حَدَّثَهُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا لَمْ يُدْرِكِ الْإِمَامَ يَوْمَ عَرَفَةَ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي مَنْزِلِهِ وَأَخْرَجَ الثَّوْرِيُّ فِي جَامِعِهِ رِوَايَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْوَلِيدِ الْعَدَنِيِّ عَنْهُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ، عَنْ نَافِعٍ مِثْلَهُ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَبِهَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ النَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ فَقَالُوا: يَخْتَصُّ الْجَمْعُ بِمَنْ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ.

وَخَالَفَ أَبَا حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ صَاحِبَاهُ وَالطَّحَاوِيُّ وَمِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ لَهُمْ صَنِيعُ ابْنِ عُمَرَ هَذَا، وَقَدْ رَوَى حَدِيثَ جَمْعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ يَجْمَعُ وَحْدَهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ عَرَفَ أَنَّ الْجَمْعَ لَا يَخْتَصُّ بِالْإِمَامِ، وَمِنْ قَوَاعِدِهِمْ

ص: 513

أَنَّ الصَّحَابِيَّ إِذَا خَالَفَ مَا رَوَى دَلَّ عَلَى أَنَّ عِنْدَهُ عِلْمًا بِأَنَّ مُخَالِفَهُ أَرْجَحُ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ هَذَا هُنَا، وَهَذَا فِي الصَّلَاةِ بِعَرَفَةَ وَأَمَّا صَلَاةُ الْمَغْرِبِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَزُفَرَ، وَمُحَمَّدٍ: يَجِبُ تَأْخِيرُهَا إِلَى الْعِشَاءِ فَلَوْ صَلَّاهَا فِي الطَّرِيقِ أَعَادَ، وَعَنْ مَالِكٍ يَجُوزُ لِمَنْ بِهِ أَوْ بِدَابَّتِهِ عُذْرٌ فَيُصَلِّيهَا لَكِنْ بَعْدَ مَغِيبِ الشَّفَقِ الْأَحْمَرِ، وَعَنِ الْمُدَوَّنَةِ يُعِيدُ مَنْ صَلَّى الْمَغْرِبَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ جَمْعًا وَكَذَا مَنْ جَمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ بَعْدَ مَغِيبِ الشَّفَقِ فَيُعِيدُ الْعِشَاءَ، وَعَنْ أَشْهَبَ: إِنْ جَاءَ جَمْعًا قَبْلَ الشَّفَقِ جَمَعَ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: حَتَّى يَغِيبَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَجُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَوْ جَمَعَ تَقْدِيمًا أَوْ تَأْخِيرًا قَبْلَ جَمْعٍ أَوْ بَعْدَ أَنْ نَزَلَهَا أَوْ أَفْرَدَ أَجْزَأَ وَفَاتَتِ السُّنَّةُ. وَاخْتِلَافُهُمْ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْجَمْعَ بِعَرَفَةَ وَبِمُزْدَلِفَةَ لِلنُّسُكِ أَوْ لِلسَّفَرِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّيْثُ إِلَخْ) وَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، وَأَبِي صَالِحٍ جَمِيعًا عَنِ اللَّيْثِ.

قَوْلُهُ: (سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ) يَعْنِي ابْنَ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (فَهَجّرْ بِالصَّلَاةِ) أَيْ صَلّي بِالْهَاجِرَةِ وَهِيَ شِدَّةُ الْحَرِّ.

قَوْلُهُ: (أنَّهُمْ كَانُوا يَجْمَعُونَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي السُّنَّةِ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ أَيْ سُنَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَأَنَّ ابْنَ عُمَرَ فَهِمَ مِنْ قَوْلِ وَلَدِهِ سَالِمٍ فَهَجِّرْ بِالصَّلَاةِ أَيِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ مَعًا، فَأَجَابَ بِذَلِكَ فَطَابَقَ كَلَامَ وَلَدِهِ. وَقَالَ الطَّيِّبِيُّ: قَوْلُهُ فِي السُّنَّةِ هُوَ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ يَجْمَعُونَ أَيْ مُتَوَغِّلِينَ فِي السُّنَّةِ، قَالَهُ تَعْرِيضًا بِالْحَجَّاجِ.

قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ لِسَالِمٍ) الْقَائِلُ هُوَ ابْنُ شِهَابٍ وَقَوْلُهُ: أَفَعَلَ بِهَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ وَقَوْلُهُ: وهَلْ يَتَّبِعُونَ بِذَلِكَ بِتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ كَذَا لِلْأَكْثَرِ مِنَ الْأَتْبَاعِ وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ يَبْتَغُونَ فِي ذَلِكَ بِسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ بَعْدَهَا غَيْنٌ مُعْجَمَةٌ مِنَ الِابْتِغَاءِ أَيْ لَا يَطْلُبُونَ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ إِلَّا سُنَّةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَفِي رِوَايَةِ الْحَمَوِيِّ بِحَذْفِ فِي وَهِيَ مُقَدَّرَةٌ.

‌90 - بَاب قَصْرِ الْخُطْبَةِ بِعَرَفَةَ

1663 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ كَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ أَنْ يَأْتَمَّ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي الْحَجِّ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ جَاءَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما وَأَنَا مَعَهُ حِينَ زَاغَتْ الشَّمْسُ أَوْ زَالَتْ، فَصَاحَ عِنْدَ فُسْطَاطِهِ: أَيْنَ هَذَا؟ فَخَرَجَ إِلَيْهِ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: الرَّوَاحَ فَقَالَ: الْآنَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَنْظِرْنِي أُفِيضُ عَلَيَّ مَاءً. فَنَزَلَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما حَتَّى خَرَجَ فَسَارَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي، فَقُلْتُ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تُصِيبَ السُّنَّةَ الْيَوْمَ فَاقْصُرْ الْخُطْبَةَ وَعَجِّلْ الْوُقُوفَ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: صَدَقَ

قَوْلُهُ: (بَابُ قَصْرِ الْخُطْبَةِ بِعَرَفَةَ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ الْمَاضِي قَرِيبًا وَفِيهِ قَوْلُ سَالِمٍ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ الْيَوْمَ فَاقْصُرِ الْخُطْبَةَ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى، وَقَيَّدَ الْمُصَنِّفُ قَصْرَ الْخُطْبَةِ بِعَرَفَةَ اتِّبَاعًا لِلَفْظِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ الْأَمْرَ بِاقْتِصَارِ الْخُطْبَةِ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ لِعَمَّارٍ أَخْرَجَهُ فِي الْجُمُعَةِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: أَطْلَقَ أَصْحَابُنَا الْعِرَاقِيُّونَ أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَخْطُبُ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَقَالَ الْمَدَنِيُّونَ وَالْمَغَارِبَةُ يَخْطُبُ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَيُحْمَلُ قَوْلُ الْعِرَاقِيِّينَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ لِمَا يَأْتِي بِهِ مِنَ الْخُطْبَةِ تَعَلُّقٌ بِالصَّلَاةِ كَخُطْبَةِ الْجُمُعَةِ، وَكَأَنَّهُمْ أَخَذُوهُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ: كُلُّ صَلَاةٍ يُخْطَبُ لَهَا يُجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ فَقِيلَ لَهُ: فَعَرَفَةُ يُخْطَبُ فِيهَا وَلَا يُجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ، فَقَالَ: إِنَّمَا تِلْكَ لِلتَّعْلِيمِ.

ص: 514

باب التعجيل إلى الوقوف

قَوْلُهُ: (بَابُ التَّعْجِيلِ إِلَى الْمَوْقِفِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ بِغَيْرِ حَدِيثٍ وَسَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ أَصْلًا، وَوَقَعَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ هُنَا مَا لَفْظُهُ يَدْخُلُ فِي الْبَابِ حَدِيثُ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ - يَعْنِي الَّذِي رَوَاهُ عَنْ سَالِمٍ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا - وَلَكِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُدْخِلَ فِيهِ غَيْرَ مُعَادٍ يَعْنِي حَدِيثًا لَا يَكُونُ تَكَرَّرَ كُلُّهُ سَنَدًا وَمَتْنًا. قُلْتُ: وَهُوَ يَقْتَضِي أَنْ أَصْلَ قَصْدِهِ أَنْ لَا يُكَرَّرَ، فَيُحْمَلَ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ تَكْرَارِ الْأَحَادِيثِ إِنَّمَا هُوَ حَيْثُ يَكُونُ هُنَاكَ مُغَايَرَةٌ إِمَّا فِي السَّنَدِ وَإِمَّا فِي الْمَتْنِ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَنْ شَيْخَيْنِ حَدَّثَاهُ بِهِ عَنْ مَالِكٍ لَا يَكُونُ عِنْدَهُ مُعَادًا وَلَا مُكَرَّرًا، وَكَذَا لَوْ أَخْرَجَهُ فِي مَوْضِعَيْنِ بِسَنَدٍ وَاحِدٍ لَكِنِ اخْتَصَرَ مِنَ الْمَتْنِ شَيْئًا أَوْ أَوْرَدَهُ فِي مَوْضِعٍ مَوْصُولًا وَفِي مَوْضِعٍ مُعَلَّقًا، وَهَذِهِ الطَّرِيقُ لَمْ يُخَالِفْهَا إِلَّا فِي مَوَاضِعَ يَسِيرَةٍ مَعَ طُولِ الْكِتَابِ إِذَا بَعُدَ مَا بَيْنَ الْبَابَيْنِ بُعْدًا شَدِيدًا.

وَنَقَلَ الْكِرْمَانِيُّ أَنَّهُ رَأَى فِي بَعْضِ النُّسَخِ عَقِبَ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي الْمُصَنِّفَ: يُزَادُ فِي هَذَا الْبَابِ هَمْ حَدِيثُ مَالِكٍ، عَنِ شِهَابٍ وَلَكِنِّي لَا أُرِيدُ أَنْ أُدْخِلَ فِيهِ مُعَادًا أَيْ مُكَرَّرًا. قُلْتُ: كَأَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْهُ حِينَئِذٍ طَرِيقٌ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَنْ مَالِكٍ غَيْرُ الطَّرِيقَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرَهُمَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعِيدُ حَدِيثًا إِلَّا لِفَائِدَةٍ إِسْنَادِيَّةٍ أَوْ مَتْنِيَّةٍ كَمَا قَدَّمْتُهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ الَّتِي نَقَلَهَا الْكِرْمَانِيُّ هَمْ فَهِيَ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَسُكُونِ الْمِيمِ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: قِيلَ: إِنَّهَا فَارِسِيَّةٌ وَقِيلَ عَرَبِيَّةٌ وَمَعْنَاهَا قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى أَيْضًا. قُلْتُ: صَرَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ بِبَغْدَادَ بِأَنَّهَا لَفْظَةٌ اصْطَلَحَ عَلَيْهَا أَهْلُ بَغْدَادَ وَلَيْسَتْ بِفَارِسِيَّةٍ وَلَا هِيَ عَرَبِيَّةٌ قَطْعًا، وَقَدْ دَلَّ كَلَامُ الصَّغَانِيِّ فِي نُسْخَتِهِ الَّتِي أَتْقَنَهَا وَحَرَّرَهَا - وَهُوَ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ - خُلُوَّ كَلَامِ الْبُخَارِيِّ عَنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ.

‌91 - بَاب الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ

1664 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ: كُنْتُ أَطْلُبُ بَعِيرًا لِي. . . وَحَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو وسَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: أَضْلَلْتُ بَعِيرًا لِي فَذَهَبْتُ أَطْلُبُهُ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَاقِفًا بِعَرَفَةَ فَقُلْتُ: هَذَا وَاللَّهِ مِنْ الْحُمْسِ فَمَا شَأْنُهُ هَاهُنَا؟

1665 -

حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ عُرْوَةُ "كَانَ النَّاسُ يَطُوفُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عُرَاةً إِلاَّ الْحُمْسَ وَالْحُمْسُ قُرَيْشٌ وَمَا وَلَدَتْ وَكَانَتْ الْحُمْسُ يَحْتَسِبُونَ عَلَى النَّاسِ يُعْطِي الرَّجُلُ الرَّجُلَ الثِّيَابَ يَطُوفُ فِيهَا وَتُعْطِي الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ الثِّيَابَ تَطُوفُ فِيهَا فَمَنْ لَمْ يُعْطِهِ الْحُمْسُ طَافَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانًا وَكَانَ يُفِيضُ جَمَاعَةُ النَّاسِ مِنْ عَرَفَاتٍ وَيُفِيضُ الْحُمْسُ مِنْ جَمْعٍ قَالَ وَأَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْحُمْسِ {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} قَالَ كَانُوا يُفِيضُونَ مِنْ جَمْعٍ فَدُفِعُوا إِلَى عَرَفَاتٍ"

[الحديث 1665 - طرفه في: 4520]

قَوْلُهُ: (بَابُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ) أَيْ دُونَ غَيْرِهَا فِيمَا دُونَهَا أَوْ فَوْقَهَا.

وَأَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي ذَلِكَ حَدِيثَيْنِ:

الْأَوَّلُ:

ص: 515

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَعَمْرٌو هُوَ ابْنُ دِينَارٍ.

قَوْلُهُ: (أَضْلَلْتُ بَعِيرًا) كَذَا لِلْأَكْثَرِ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ لِي كَمَا فِي الْأُولَى.

قَوْلُهُ: (فَذَهَبْتُ أَطْلُبُهُ يَوْمَ عَرَفَةَ) فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ فِي مُسْنَدِهِ وَمِنْ طَرِيقِهِ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ أَضْلَلْتُ بَعِيرًا لِي يَوْمَ عَرَفَةَ فَخَرَجْتُ أَطْلُبُهُ بِعَرَفَةَ فَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ يَوْمَ عَرَفَةَ يَتَعَلَّقُ بِأَضْلَلْتُ، فَإِنَّ جُبَيْرًا إِنَّمَا جَاءَ إِلَى عَرَفَةَ لِيَطْلُبَ بِعِيرَهُ لَا لِيَقِفَ بِهَا.

قَوْلُهُ: (مِنَ الْحُمْسِ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ سَيَأْتِي تَفْسِيرُهُ.

قَوْلُهُ: (فَمَا شَأْنُهُ هَاهنا؟) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنِ أَبِي عُمَرَ جَمِيعًا عَنْ سُفْيَانَ فَمَا لَهُ خَرَجَ مِنَ الْحَرَمِ وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ عَمْرٍو النَّاقِدِ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ سُفْيَانَ بَعْدَ قَوْلِهِ فَمَا شَأْنُهُ هَاهُنَا: وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تُعَدُّ مِنَ الْحُمْسِ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ تُوهِمُ أَنَّهَا مِنْ أَصْلِ الْحَدِيثِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هِيَ مِنْ قَوْلِ سُفْيَانَ، بَيَّنَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْهُ وَلَفْظُهُ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ مَا شَأْنُهُ هَاهُنَا، قَالَ سُفْيَانُ وَالْأَحْمَسُ الشَّدِيدُ عَلَى دِينِهِ وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تُسَمَّى الْحُمْسَ وَكَانَ الشَّيْطَانُ قَدِ اسْتَهْوَاهُمْ فَقَالَ لَهُمْ إِنَّكُمْ إِنْ عَظَّمْتُمْ غَيْرَ حَرَمِكُمُ اسْتَخَفَّ النَّاسُ بِحَرَمِكُمْ فَكَانُوا لَا يَخْرُجُونَ مِنَ الْحَرَمِ وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقَيْهِ بَعْدَ قَوْلِهِ فَمَا لَهُ خَرَجَ مِنَ الْحَرَمِ قَالَ سُفْيَانُ الْحُمْسُ يَعْنِي قُرَيْشًا وَكَانَتْ تُسَمَّى الْحُمْسَ وَكَانَتْ لَا تُجَاوِزُ الْحَرَمَ وَيَقُولُونَ نَحْنُ أَهْلُ اللَّهِ لَا نَخْرُجُ مِنَ الْحَرَمِ وَكَانَ سَائِرُ النَّاسِ يَقِفُ بِعَرَفَةَ وَذَلِكَ قَوْلُهُ:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} . انْتَهَى. وَعُرِفَ بِهَاتَيْنِ الزِّيَادَتَيْنِ مَعْنَى حَدِيثِ جُبَيْرٍ وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ حَذَفَهُمَا اسْتِغْنَاءً بِالرِّوَايَةِ عَنْ عُرْوَةَ لَكِنَّ فِي سِيَاقِ سُفْيَانَ فَوَائِدَ زَائِدَةً.

وَقَدْ رَوَى بَعْضَ ذَلِكَ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ مَوْصُولًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ عَمِّهِ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَتْ قُرَيْشٌ إِنَّمَا تَدْفَعُ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ وَيَقُولُونَ نَحْنُ الْحُمْسُ فَلَا نَخْرُجُ مِنَ الْحَرَمِ وَقَدْ تَرَكُوا الْمَوْقِفَ بِعَرَفَةَ، قَالَ: فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَقِفُ مَعَ النَّاسِ بِعَرَفَةَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ ثُمَّ يُصْبِحُ مَعَ قَوْمِهِ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَيَقِفُ مَعَهُمْ وَيَدْفَعُ إِذَا دَفَعُوا. وَلَفْظُ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي الْمَغَازِي مُخْتَصَرًا وَفِيهِ تَوْفِيقًا مِنَ اللَّهِ لَهُ. وَأَخْرَجَهُ إِسْحَاقُ أَيْضًا عَنِ الْفَضْلِ بْنِ مُوسَى، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ قَالَ: أَضْلَلْتُ حِمَارًا لِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَوَجَدْتُهُ بِعَرَفَةَ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاقِفًا بِعَرَفَاتٍ مَعَ النَّاسِ، فَلَمَّا أَسْلَمْتُ عَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ وَفَّقَهُ لِذَلِكَ. وَأَمَّا تَفْسِيرُ الْحُمْسِ فَرَوَى إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي: غَرِيبِ الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْحُمْسُ قُرَيْشٌ وَمَنْ كَانَ يَأْخُذُ مَأْخَذَهَا مِنَ الْقَبَائِلِ كَالْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَخُزَاعَةَ وَثَقِيفٍ وَغَزْوَانَ وَبَنِي عَامِرٍ وَبَنِي صَعْصَعَةَ وَبَنِي كِنَانَةَ إِلَّا بَنِي بَكْرٍ وَالْأَحْمَسُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الشَّدِيدُ وَسُمُّوا بِذَلِكَ لَمَّا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَكَانُوا إِذَا أَهَلُّوا بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ لَا يَأْكُلُونَ لَحْمًا وَلَا يَضْرِبُونَ وَبَرًا وَلَا شَعْرًا وَإِذَا قَدِمُوا مَكَّةَ وَضَعُوا ثِيَابَهُمُ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ.

وَرَوَى إِبْرَاهِيمُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عِمْرَانَ الْمَدَنِيِّ قَالَ: سُمُّوا حُمْسًا بِالْكَعْبَةِ لِأَنَّهَا حَمْسَاءُ حَجَرُهَا أَبْيَضُ يَضْرِبُ إِلَى السَّوَادِ. انْتَهَى. وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ وَأَكْثَرُ وَأَنَّهُ مِنَ التَّحَمُّسِ وَهُوَ التَّشَدُّدُ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى: تَحَمَّسَ تَشَدَّدَ وَمِنْهُ حَمِسَ الْوَغَى إِذَا اشْتَدَّ وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ.

وَأَفَادَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ أَنَّ رِوَايَةَ جُبَيْرٍ لَهُ لِذَلِكَ كَانَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ جُبَيْرٌ وَهُوَ نَظِيرُ رِوَايَتِهِ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ جُبَيْرٌ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ، وَتَضَمَّنَ ذَلِكَ التَّعَقُّبَ عَلَى السُّهَيْلِيِّ حَيْثُ ظَنَّ أَنَّ رِوَايَةَ جُبَيْرٍ لِذَلِكَ كَانَتْ فِي الْإِسْلَامِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ: انْظُرْ كَيْفَ أَنْكَرَ جُبَيْرٌ هَذَا وَقَدْ حَجَّ بِالنَّاسِ عَتَّابٌ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَبُو بَكْرٍ سَنَةَ تِسْعٍ ثُمَّ قَالَ: إِمَّا أَنْ يَكُونَا وَقَفَا بِجَمْعٍ كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصْنَعُ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ جُبَيْرٌ لَمْ يَشْهَدْ

ص: 516

مَعَهُمَا الْمَوْسِمَ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَقْفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَةَ كَانَتْ سَنَةَ عَشْرٍ وَكَانَ جُبَيْرٌ حِينَئِذٍ مُسْلِمًا لِأَنَّهُ أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَإِنْ كَانَ سُؤَالُهُ عَنْ ذَلِكَ إِنْكَارًا أَوْ تَعَجُّبًا فَلَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ نُزُولُ قَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} وَإِنْ كَانَ لِلِاسْتِفْهَامِ عَنْ حِكْمَةِ الْمُخَالَفَةِ عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ الْحُمْسُ فَلَا إِشْكَالَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقْفَةٌ بِعَرَفَةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَهَذَا الْأَخِيرُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ كَمَا بَيَّنْتُهُ قَبْلُ بِدَلَائِلِهِ وَكَأَنَّهُ تَبِعَ السُّهَيْلِيَّ فِي ظَنِّهِ أَنَّهَا حَجَّةُ الْوَدَاعِ أَوْ وَقَعَ لَهُ اتِّفَاقًا.

وَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} الْإِفَاضَةُ مِنْ عَرَفَةَ، وَظَاهِرُ سِيَاقِ الْآيَةِ أَنَّهَا الْإِفَاضَةُ مِنْ مُزْدَلِفَةَ لِأَنَّهَا ذُكِرَتْ بِلَفْظَةِ ثُمَّ بَعْدَ ذِكْرِ الْأَمْرِ بِالذِّكْرِ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ. وَأَجَابَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالذِّكْرِ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بَعْدَ الْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَاتٍ الَّتِي سِيقَتْ بِلَفْظِ الْخَبَرِ لِمَا وَرَدَ مِنْهُ عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي تُشْرَعُ الْإِفَاضَةُ مِنْهُ فَالتَّقْدِيرُ فَإِذَا أَفَضْتُمُ اذْكُرُوا ثُمَّ لِتَكُنْ إِفَاضَتُكُمْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ لَا مِنْ حَيْثُ كَانَ الْحُمْسُ يُفِيضُونَ أَوِ التَّقْدِيرُ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ إِلَى الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَهُ وَلْتَكُنْ إِفَاضَتُكُمْ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي يُفِيضُ فِيهِ النَّاسُ غَيْرُ الْحُمْسِ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي:

قَوْلُهُ: (قَالَ عُرْوَةُ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ فَذَكَرَهُ.

قَوْلُهُ: (وَالْحُمْسُ قُرَيْشٌ وَمَا وَلَدَتْ) زَادَ مَعْمَرٌ وَكَانَ مِمَّنْ وَلَدَتْ قُرَيْشٌ خُزَاعَةُ وَبَنُو كِنَانَةَ وَبَنُو عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَثَرِ مُجَاهِدٍ أَنَّ مِنْهُمْ أَيْضًا غَزْوَانَ وَغَيْرَهُمْ، وَذَكَرَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي غَرِيبِهِ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى قَالَ: كَانَتْ قُرَيْشٌ إِذَا خَطَبَ إِلَيْهِمُ الْغَرِيبُ اشْتَرَطُوا عَلَيْهِ أَنَّ وَلَدَهَا عَلَى دِينِهِمْ فَدَخَلَ فِي الْحُمْسِ مِنْ غَيْرِ قُرَيْشٍ ثَقِيفٌ وَلَيْثٌ وَخُزَاعَةُ وَبَنُو عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ يَعْنِي وَغَيْرَهُمْ. وَعُرِفَ بِهَذَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْقَبَائِلِ مَنْ كَانَتْ لَهُ مِنْ أُمَّهَاتِهِ قُرَيْشِيَّةٌ لَا جَمِيعُ الْقَبَائِلِ الْمَذْكُورَةِ.

قَوْلُهُ: (فَأَخْبَرَنِي أَبِي) الْقَائِلُ هُوَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ وَالْمَوْصُولُ مِنَ الْحَدِيثِ هَذَا الْقَدْرُ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ الْبَقَرَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَتَمُّ مِنْ هَذَا. وَقَوْلُهُ فَدَفَعُوا إِلَى عَرَفَاتٍ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَرَفَعُوا بِالرَّاءِ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ رَجَعُوا إِلَى عَرَفَاتٍ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ أُمِرُوا أَنْ يَتَوَجَّهُوا إِلَى عَرَفَاتٍ لِيَقِفُوا بِهَا ثُمَّ يُفِيضُوا مِنْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي طَرِيقِ جُبَيْرٍ سَبَبُ امْتِنَاعِهِمْ مِنْ ذَلِكَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قِصَّةِ الطَّوَافِ عُرْيَانًا فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ وَعُرِفَ بِرِوَايَةِ عَائِشَةَ أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَفِيضُوا} النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ كَانَ لَا يَقِفُ بِعَرَفَةَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ عَنِ الضَّحَّاكِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ هُنَا إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عليه السلام، وَعَنْهُ الْمُرَادُ بِهِ الْإِمَامُ، وَعَنْ غَيْرِهِ آدَمُ، وَقُرِئَ فِي الشَّوَاذِّ: النَّاسِي بِكَسْرِ السِّينِ بِوَزْنِ الْقَاضِي، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. نَعَمِ، الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ مَوْرُوثٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ كَمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ شَيْبَانَ، قَالَ: كُنَّا وُقُوفًا بِعَرَفَةَ، فَأَتَانَا ابْنُ مريعٍ فَقَالَ: إِنِّي رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، يَقُولُ لَكُمْ: كُونُوا عَلَى مَشَاعِرِكُمْ، فَإِنَّكُمْ عَلَى إِرْثٍ مِنْ إِرْثِ إِبْرَاهِيمَ، الْحَدِيثَ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادُ خَاصَّةً بِقَوْلِهِ:{مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} بَلْ هُوَ الْأَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَالسَّبَبُ فِيهِ مَا حَكَتْهُ عَائِشَةُ رضي الله عنها.

وَأَمَّا الْإِتْيَانُ فِي الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: (ثُمَّ) فَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الطَّحَاوِيِّ، وَقِيلَ: لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ، لَا لِمَحْضِ التَّرْتِيبِ، وَالْمَعْنَى: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، ثُمَّ اجْعَلُوا الْإِفَاضَةَ الَّتِي تُفِيضُونَهَا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ، لَا مِنْ حَيْثُ كُنْتُمْ تُفِيضُونَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَوْقِعُ (ثُمَّ) هُنَا مَوْقِعُهَا مِنْ قَوْلِكَ أَحْسِنْ إِلَى النَّاسِ، ثُمَّ لَا تُحْسِنْ إِلَى غَيْرِ كَرِيمٍ. فَتَأْتِي (ثُمَّ) لِتَفَاوُتِ مَا بَيْنَ الْإِحْسَانِ إِلَى الْكَرِيمِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى غَيْرِهِ، فَكَذَلِكَ حِينَ أَمَرَهُمْ بِالذِّكْرِ عِنْدَ الْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَاتٍ بَيَّنَ لَهُمْ مَكَانَ الْإِفَاضَةِ،

ص: 517

فَقَالَ: {ثُمَّ أَفِيضُوا} لِتَفَاوُتِ مَا بَيْنَ الْإِفَاضَتَيْنِ، وَأَنَّ إِحْدَاهُمَا صَوَابٌ، وَالْأُخْرَى خَطَأٌ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: تَضَمَّنَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} الْأَمْرَ بِالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، لِأَنَّ الْإِفَاضَةَ إِنَّمَا تَكُونُ عِنْدَ اجْتِمَاعٍ قَبْلَهُ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ. وَزَادَ: وَبَيَّنَ الشَّارِعُ مُبْتَدَأَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَمُنْتَهَاهُ.

‌92 - بَاب السَّيْرِ إِذَا دَفَعَ مِنْ عَرَفَةَ

1666 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ بأَنَّهُ قَالَ: سُئِلَ أُسَامَةُ وَأَنَا جَالِسٌ: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسِيرُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ حِينَ دَفَعَ؟ قَالَ: كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ. قَالَ هِشَامٌ: وَالنَّصُّ فَوْقَ الْعَنَقِ. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: فَجْوَةٌ مُتَّسَعٌ، وَالْجَمِيعُ فَجَوَاتٌ وَفِجَاءٌ، وَكَذَلِكَ رَكْوَةٌ وَرِكَاءٌ، مَنَاصٌ لَيْسَ حِينَ فِرَارٍ.

[الحديث 1666 - طرفاه في: 2999، 4463]

قَوْلُهُ: (بَابُ السَّيْرِ إِذَا دَفَعَ مِنْ عَرَفَةَ) أَيْ صِفَتِهِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِيهِ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ، عَنْ هِشَامٍ سَمِعْتُ أَبِي.

قَوْلُهُ: (سُئِلَ أُسَامَةُ وَأَنَا جَالِسٌ) فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ وَأَنَا جَالِسٌ مَعَهُ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ زَيْدٍ، عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ سُئِلَ أُسَامَةُ وَأَنَا شَاهِدٌ وَقَالَ سَأَلْتُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ.

قَوْلُهُ: (حِينَ دَفَعَ) فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى اللَّيْثِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ حِينَ دَفَعَ مِنْ عَرَفَةَ.

قَوْلُهُ: (الْعَنَقَ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ هُوَ السَّيْرُ الَّذِي بَيْنَ الْإِبْطَاءِ وَالْإِسْرَاعِ قَالَ فِي: الْمَشَارِقِ: هُوَ سَيْرٌ سَهْلٌ فِي سُرْعَةٍ وَقَالَ الْقَزَّازُ: الْعَنَقُ سَيْرٌ سَرِيعٌ وَقِيلَ الْمَشْيُ الَّذِي يَتَحَرَّكُ بِهِ عُنُقُ الدَّابَّةِ وَفِي الْفَائِقِ: الْعَنَقُ الْخَطْوُ الْفَسِيحُ. وَانْتَصَبَ الْعَنَقُ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمُؤَكَّدِ مِنْ لَفْظِ الْفِعْلِ.

قَوْلُهُ: (نَصَّ) أَيْ أَسْرَعَ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: النَّصُّ تَحْرِيكُ الدَّابَّةِ حَتَّى يَسْتَخْرِجَ بِهِ أَقْصَى مَا عِنْدَهَا وَأَصْلُ النَّصِّ غَايَةُ الْمَشْيِ وَمِنْهُ نَصَصْتُ الشَّيْءَ رَفَعْتُهُ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي ضَرْبٍ سَرِيعٍ مِنَ السَّيْرِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ هِشَامٌ) يَعْنِي ابْنَ عُرْوَةَ الرَّاوِيَ، وَكَذَا بَيَّنَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ أَنَسِ بْنِ عِيَاضٍ كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامٍ أَنَّ التَّفْسِيرَ مِنْ كَلَامِهِ وَأَدْرَجَهُ يَحْيَى الْقَطَّانُ فِيمَا أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْجِهَادِ، وَسُفْيَانُ فِيمَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَعَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَوَكِيعٌ فِيمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامٍ، وَقَدْ رَوَاهُ إِسْحَاقُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ وَكِيعٍ فَفَصَلَهُ وَجَعَلَ التَّفْسِيرَ مِنْ كَلَامِ وَكِيعٍ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ فَفَصَلَهُ وَجَعَلَ التَّفْسِيرَ مِنْ كَلَامِ سُفْيَانَ، وَسُفْيَانُ، وَوَكِيعٌ إِنَّمَا أَخَذَا التَّفْسِيرَ الْمَذْكُورَ عَنْ هِشَامٍ فَرَجَعَ التَّفْسِيرُ إِلَيْهِ وَقَدْ رَوَاهُ أَكْثَرُ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ عَنْ مَالِكٍ فَلَمْ يَذْكُرُوا التَّفْسِيرَ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامٍ، قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنْ أُسَامَةَ أَنَّهُ قَالَ فَمَا رَأَيْتُ نَاقَتَهُ رَافِعَةً يَدَهَا حَتَّى أَتَى جَمْعًا أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى حَالِ الزِّحَامِ دُونَ غَيْرِهِ اهـ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ حَفْصٌ مِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُسَامَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَرْدَفَهُ حِينَ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ وَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ، فَإِنَّ الْبِرَّ لَيْسَ بِالْإِيجَافِ، قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ نَاقَتَهُ رَافِعَةً يَدَهَا حَتَّى أَتَى جَمْعًا. الْحَدِيثَ.

وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَسَيَأْتِي لِلْمُصَنِّفِ بَعْدَ بَابٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَيْسَ فِيهِ أُسَامَةُ وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ هُنَاكَ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُسَامَةَ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ قَالَ فَمَا

ص: 518

زَالَ يَسِيرُ عَلَى هِينَتِهِ حَتَّى أَتَى جَمْعًا وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ إِنَّمَا أَخَذَهُ عَنْ أُسَامَةَ كَمَا سَتَأْتِي الْحُجَّةُ لِذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ كَيْفِيَّةُ السَّيْرِ فِي الدَّفْعِ مِنْ عَرَفَةَ إِلَى مُزْدَلِفَةَ لِأَجْلِ الِاسْتِعْجَالِ لِلصَّلَاةِ لِأَنَّ الْمَغْرِبَ لَا تُصَلَّى إِلَّا مَعَ الْعِشَاءِ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَيُجْمَعُ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ مِنَ الْوَقَارِ وَالسَّكِينَةِ عِنْدَ الزَّحْمَةِ وَمِنَ الْإِسْرَاعِ عِنْدَ عَدَمِ الزِّحَامِ، وَفِيهِ أَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يَحْرِصُونَ عَلَى السُّؤَالِ عَنْ كَيْفِيَّةِ أَحْوَالِهِ صلى الله عليه وسلم فِي جَمِيعِ حَرَكَاتِهِ وَسُكُونِهِ لِيَقْتَدُوا بِهِ فِي ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (فَجْوَةً) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ الْمَكَانُ الْمُتَّسِعُ كَمَا سَيَأْتِي تَفْسِيرُهُ فِي آخِرِ الْبَابِ وَرَوَاهُ أَبُو مُصْعَبٍ، وَيَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ وَغَيْرُهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِلَفْظِ: فُرْجَةً بِضَمِّ الْفَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَهُوَ بِمَعْنَى الْفَجْوَةِ.

قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ الْمُصَنِّفُ. (فَجْوَةٌ: مُتَّسَعٌ وَالْجَمْعُ فَجَوَاتٌ) أَيْ بِفَتْحَتَيْنِ. (وَفِجَاءٌ) أَيْ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَالْمَدِّ. (وَكَذَلِكَ رَكْوَةٌ وَرِكَاءٌ) وَرَكَوَاتٌ.

قَوْلُهُ: (مَنَاصٌ لَيْسَ حِينَ فِرَارٍ) أَيْ هَرَبَ أَيْ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا الْحَرْفَ هُنَا لِقَوْلِهِ نَصَّ وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِهِ إِلَّا لِدَفْعِ وَهْمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ أَحَدَهُمَا مُشْتَقٌّ مِنَ الْآخَرِ وَإِلَّا فَمَادَّةُ نَصَّ غَيْرُ مَادَّةِ نَاصَ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي: الْمَجَازِ: الْمَنَاصُ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِهِ نَاصَ يَنُوصُ.

‌93 - باب النُّزُولِ بَيْنَ عَرَفَةَ وَجَمْعٍ

1667 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ مَالَ إِلَى الشِّعْبِ فَقَضَى حَاجَتَهُ فَتَوَضَّأَ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُصَلِّي؟ فَقَالَ: الصَّلَاةُ أَمَامَكَ.

1668 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ، غَيْرَ أَنَّهُ يَمُرُّ بِالشِّعْبِ الَّذِي أَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَدْخُلُ فَيَنْتَفِضُ وَيَتَوَضَّأُ وَلَا يُصَلِّي حَتَّى يُصَلِّيَ بِجَمْعٍ.

1669 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْمَلَةَ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ "رَدِفْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عَرَفَاتٍ فَلَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الشِّعْبَ الأَيْسَرَ الَّذِي دُونَ الْمُزْدَلِفَةِ أَنَاخَ فَبَالَ ثُمَّ جَاءَ فَصَبَبْتُ عَلَيْهِ الْوَضُوءَ فَتَوَضَّأَ وُضُوءًا خَفِيفًا فَقُلْتُ: "الصَّلَاةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الصَّلَاةُ أَمَامَكَ" فَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى ثُمَّ رَدِفَ الْفَضْلُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَدَاةَ جَمْعٍ

1670 -

قَالَ كُرَيْبٌ "فَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ الْفَضْلِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى بَلَغَ الْجَمْرَةَ"

قَوْلُهُ: (بَابُ النُّزُولِ بَيْنَ عَرَفَةَ وَجَمْعٍ) أَيْ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ وَنَحْوِهَا وَلَيْسَ مِنَ الْمَنَاسِكِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ يَحْيَى بْنِ

ص: 519

سَعِيدٍ) هُوَ الْأَنْصَارِيُّ وَرِوَايَتُهُ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَقْرَانِ لِأَنَّهُمَا تَابِعِيَّانِ صَغِيرَانِ وَقَدْ حَمَلَهُ مُوسَى، عَنْ كُرَيْبٍ فَصَارَ فِي الْإِسْنَادِ ثَلَاثَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ.

قَوْلُهُ: (حَيْثُ أَفَاضَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي الْوَقْتِ حِينَ وهِيَ أَوْلَى لِأَنَّهَا ظَرْفُ زَمَانٍ وَحَيْثُ ظَرْفُ مَكَانٍ.

(نُكْتَةٌ): فِي حَيْثُ سِتُّ لُغَاتٍ ضَمُّ آخِرِهَا وَفَتْحُهُ وَكَسْرُهُ وَبِالْوَاوِ بَدَلَ الْيَاءِ مَعَ الْحَرَكَاتِ.

قَوْلُهُ: (مَالَ إِلَى الشِّعْبِ) بَيَّنَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَرْمَلَةَ فِي رِوَايَتِهِ الْآتِيَةِ بَعْدَ حَدِيثٍ عَنْ كُرَيْبٍ أَنَّهُ قُرْبَ الْمُزْدَلِفَةِ وَأَرْدَفَ الْمُصَنِّفُ بِهَذَا الْحَدِيثِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقْتَدِي بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ فِي كَوْنِهِ يَقْضِي الْحَاجَةَ بِالشِّعْبِ وَيَتَوَضَّأُ لَكِنَّهُ لَا يُصَلِّي إِلَّا بِالْمُزْدَلِفَةِ وَقَوْلُهُ: فَيَنْتَفِضُ بِفَاءٍ وَضَادٍ مُعْجَمَةٍ أَيْ يَسْتَجْمِرُ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ وَأَخْرَجَهُ الْفَاكِهِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ دَفَعْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ مِنْ عَرَفَةَ حَتَّى إِذَا وَازَيْنَا الشِّعْبَ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الْخُلَفَاءُ الْمَغْرِبَ دَخَلَهُ ابْنُ عُمَرَ فَتَنَفَّضَ فِيهِ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَكَبَّرَ فَانْطَلَقَ حَتَّى جَاءَ جَمْعًا فَأَقَامَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: الصَّلَاةُ ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ وَأَصْلُهُ فِي الْجَمْعِ بِجَمْعٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَأَصْحَابِ السُّنَنِ.

وَرَوَى الْفَاكِهِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ عَطَاءٌ: أَرْدَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُسَامَةَ فَلَمَّا جَاءَ الشِّعْبَ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الْخُلَفَاءُ الْآنَ الْمَغْرِبَ نَزَلَ فَاهْرَاقَ الْمَاءَ ثُمَّ تَوَضَّأَ. وَظَاهِرُ هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ أَنَّ الْخُلَفَاءَ كَانُوا يُصَلُّونَ الْمَغْرِبَ عِنْدَ الشِّعْبِ الْمَذْكُورِ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الْعِشَاءِ وَهُوَ خِلَافُ السُّنَّةِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِمُزْدَلِفَةَ. وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ لَمَّا أَتَى الشِّعْبَ الَّذِي يَنْزِلُهُ الْأُمَرَاءُ وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ الشِّعْبُ الَّذِي يُنِيخُ النَّاسُ فِيهِ لِلْمَغْرِبِ وَالْمُرَادُ بِالْخُلَفَاءِ وَالْأُمَرَاءِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَنُو أُمَيَّةَ فَلَمْ يُوَافِقْهُمُ ابْنُ عُمَرَ عَلَى ذَلِكَ. وَقَدْ جَاءَ عَنْ عِكْرِمَةَ إِنْكَارُ ذَلِكَ.

وَرَوَى الْفَاكِهِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ يَقُولُ: اتَّخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَبَالًا وَاتَّخَذْتُمُوهُ مُصَلًّى. وَكَأَنَّهُ أَنْكَرَ بِذَلِكَ عَلَى مَنْ تَرَكَ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لِمُخَالَفَتِهِ السُّنَّةَ فِي ذَلِكَ وَكَانَ جَابِرٌ يَقُولُ: لَا صَلَاةَ إِلَّا بِجَمْعٍ، أَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَنُقِلَ عَنِ الْكُوفِيِّينَ، وَعِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ صَاحِبِ مَالِكٍ وُجُوبُ الْإِعَادَةِ، وَعَنْ أَحْمَدَ إِنْ صَلَّى أَجْزَأَهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَالْجُمْهُورِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْمَلَةَ) هُوَ الْمَدَنِيُّ مَوْلَى آلِ حُوَيْطِبٍ وَلَا يُعْرَفُ اسْمُ أَبِيهِ وَكَانَ خُصَيْفٌ يَرْوِي عَنْهُ فَيَقُولُ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حُوَيْطِبٍ فَذَكَرَ ابْنُ حِبَّانَ أَنَّ خُصَيْفًا كَانَ يَنْسُبُهُ إِلَى جَدِّ مَوَالِيهِ وَالْإِسْنَادُ مِنْ شَيْخِ قُتَيْبَةَ إِلَخْ كُلُّهُمْ مَدَنِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (رَدِفْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِكَسْرِ الدَّالِ أَيْ رَكِبْتُ وَرَاءَهُ، وَفِيهِ الرُّكُوبُ حَالَ الدَّفْعِ مِنْ عَرَفَةَ وَالِارْتِدَافُ عَلَى الدَّابَّةِ وَمَحَلُّهُ إِذَا كَانَتْ مُطِيقَةً، وَارْتِدَافُ أَهْلِ الْفَضْلِ وَيُعَدُّ ذَلِكَ مِنْ إِكْرَامِهِمْ لِلرَّدِيفِ لَا مِنْ سُوءِ أَدَبِهِ.

قَوْلُهُ: (فَصَبَبْتُ عَلَيْهِ الْوَضُوءَ) بِفَتْحِ الْوَاوِ أَيِ الْمَاءَ الَّذِي يَتَوَضَّأُ بِهِ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ الِاسْتِعَانَةُ فِي الْوُضُوءِ وَلِلْفُقَهَاءِ فِيهَا تَفْصِيلٌ لِأَنَّهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي إِحْضَارِ الْمَاءِ مَثَلًا أَوْ فِي صَبِّهِ عَلَى الْمُتَوَضِّئِ أَوْ مُبَاشَرَةِ غَسْلِ أَعْضَائِهِ، فَالْأَوَّلُ جَائِزٌ وَالثَّالِثُ مَكْرُوهٌ إِلَّا إِنْ كَانَ لِعُذْرٍ، وَاخْتُلِفَ فِي الثَّانِي وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ بَلْ هُوَ خِلَافُ الْأَوْلَى فَأَمَّا وُقُوعُ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ إِمَّا لِبَيَانِ الْجَوَازِ وَهُوَ حِينَئِذٍ أَفْضَلُ فِي حَقِّهِ أَوْ لِلضَّرُورَةِ.

قَوْلُهُ: (وُضُوءًا خَفِيفًا) أَيْ خَفَّفَهُ بِأَنْ تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً وَخَفَّفَ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَالِبِ عَادَتِهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ الْآتِيَةِ بَعْدَ بَابٍ بِلَفْظِ: فَلَمْ يُسْبِغِ الْوُضُوءَ وَأَغْرَبَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فَقَالَ: مَعْنَى قَوْلِهِ فَلَمْ يُسْبِغِ الْوُضُوءَ أَيِ اسْتَنْجَى بِهِ وَأَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الْوُضُوءِ اللُّغَوِيِّ لِأَنَّهُ مِنَ الْوَضَاءَةِ وَهِيَ النَّظَافَةُ وَمَعْنَى الْإِسْبَاغِ الْإِكْمَالُ أَيْ لَمْ يُكْمِلْ وُضُوءَهُ فَيَتَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ قَالَ: وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ تَوَضَّأَ وُضُوءًا خَفِيفًا، وَلَكِنَّ الْأُصُولَ تَدْفَعُ هَذَا لِأَنَّهُ لَا يُشْرَعُ الْوُضُوءُ لِصَلَاةٍ وَاحِدَةٍ مَرَّتَيْنِ

ص: 520

وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ. ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ قِيلَ إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ لَمْ يُسْبِغِ الْوُضُوءَ أَيْ لَمْ يَتَوَضَّأْ فِي جَمِيعِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ بَلِ اقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِهَا وَاسْتَضْعَفَهُ اهـ.

وَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ أَنَّ عِيسَى بْنَ دِينَارٍ مِنْ قُدَمَاءِ أَصْحَابِهِمْ سَبَقَ ابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ إِلَى مَا اخْتَارَهُ أَوَّلًا وَهُوَ مُتَعَقَّبٌ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ الصَّرِيحَةِ وَقَدْ تَابَعَ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي حَرْمَلَةَ عَلَيْهَا مُحَمَّدُ بْنُ عُقْبَةَ أَخُو مُوسَى أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِمِثْلِ لَفْظِهِ وَتَابَعَهُمَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُقْبَةَ أَخُو مُوسَى أَيْضًا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا بِلَفْظِ: فَتَوَضَّأَ وُضُوءًا لَيْسَ بِالْبَالِغِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الطَّهَارَةِ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ بِلَفْظِ: فَجَعَلْتُ أَصُبُّ عَلَيْهِ وَيَتَوَضَّأُ وَلَمْ تَكُنْ عَادَتُهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبَاشِرَ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُ حَالَ الِاسْتِنْجَاءِ، وَيُوَضِّحُهُ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ مَوْلَى ابْنِ سِبَاعٍ، عَنْ أُسَامَةَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ قَالَ فِيهَا أَيْضًا ذَهَبَ إِلَى الْغَائِطِ فَلَمَّا رَجَعَ صَبَبْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِدَاوَةِ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: اخْتَلَفَ الشُّرَّاحُ فِي قَوْلِهِ وَلَمْ يُسْبِغِ الْوُضُوءَ هَلِ الْمُرَادُ بِهِ اقْتَصَرَ بِهِ عَلَى بَعْضِ الْأَعْضَاءِ فَيَكُونُ وُضُوءًا لُغَوِيًّا أَوِ اقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِ الْعَدَدِ فَيَكُونُ وُضُوءًا شَرْعِيًّا؟ قَالَ: وَكِلَاهُمَا مُحْتَمَلٌ، لَكِنْ يُعَضِّدُ مَنْ قَالَ بِالثَّانِي قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وُضُوءًا خَفِيفًا لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ فِي النَّاقِصِ خَفِيفٌ وَمِنْ مُوضِحَاتِ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُ أُسَامَةَ لَهُ الصَّلَاةُ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رَآهُ يَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ وَلِذَلِكَ قَالَ لَهُ أَتُصَلِّي؟ كَذَا قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ أَنْ يَقُولَ لَهُ ذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَتُرِيدُ الصَّلَاةَ فَلِمَ لَمْ تَتَوَضَّأْ وُضُوءَهَا؟ وَجَوَابُهُ بِأَنَّ الصَّلَاةَ أَمَامَكَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَغْرِبَ لَا تُصَلَّى هُنَا فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى وُضُوءِ الصَّلَاةِ وَكَأَنَّ أُسَامَةَ ظَنَّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَسِيَ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ وَرَأَى وَقْتَهَا قَدْ كَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَوْ خَرَجَ فَأَعْلَمُهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ يُشْرَعُ تَأْخِيرُهَا لِتُجْمَعَ مَعَ الْعِشَاءِ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَلَمْ يَكُنْ أُسَامَةُ يَعْرِفُ تِلْكَ السُّنَّةَ قَبْلَ ذَلِكَ وَأَمَّا اعْتِلَالُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ بِأَنَّ الْوُضُوءَ لَا يُشْرَعُ مَرَّتَيْنِ لِصَلَاةٍ وَاحِدَةٍ فَلَيْسَ بِلَازِمٍ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ تَوَضَّأَ ثَانِيًا عَنْ حَدَثٍ طَارِئٍ وَلَيْسَ الشَّرْطُ بِأَنَّهُ لَا يُشْرَعُ تَجْدِيدُ الْوُضُوءِ إِلَّا لِمَنْ أَدَّى بِهِ صَلَاةً فَرْضًا أَوْ نَفْلًا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَلْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى جَوَازِهِ وَإِنْ كَانَ الْأَصَحُّ خِلَافَهُ وَإِنَّمَا تَوَضَّأَ أَوَّلًا لِيَسْتَدِيمَ الطَّهَارَةَ وَلَا سِيَّمَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لِكَثْرَةِ الِاحْتِيَاجِ إِلَى ذِكْرِ

اللَّهِ حِينَئِذٍ وَخَفَّفَ الْوُضُوءَ لِقِلَّةِ الْمَاءِ حِينَئِذٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي أَوَائِلِ الطَّهَارَةِ.

وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّمَا تَرَكَ إِسْبَاغَهُ حِينَ نَزَلَ الشِّعْبَ لِيَكُونَ مُسْتَصْحِبًا لِلطَّهَارَةِ فِي طَرِيقِهِ وَتَجُوزُ فِيهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ فَلَمَّا نَزَلَ وَأَرَادَهَا أَسْبَغَهُ. وَقَوْلُ أُسَامَةَ الصَّلَاةُ بِالنَّصْبِ عَلَى إِضْمَارِ الْفِعْلِ أَيْ تَذَكَّرِ الصَّلَاةَ أَوْ صَلِّ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى تَقْدِيرِ حَضَرَتِ الصَّلَاةُ مَثَلًا. وقَوْلُهُ (الصَّلَاةُ أَمَامَكَ) بِالرَّفْعِ وَأَمَامَكَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ أَيِ الصَّلَاةُ سَتُصَلَّى بَيْنَ يَدَيْكَ أَوْ أَطْلَقَ الصَّلَاةَ عَلَى مَكَانِهَا أَيِ الْمُصَلَّى بَيْنَ يَدَيْكَ أَوْ مَعْنَى أَمَامَكَ لَا تَفُوتُكَ وَسَتُدْرِكُهَا، وَفِيهِ تَذْكِيرُ التَّابِعِ بِمَا تَرَكَهُ مَتْبُوعُهُ لِيَفْعَلَهُ أَوْ يَعْتَذِرَ عَنْهُ أَوْ يُبَيِّنَ لَهُ وَجْهَ صَوَابِهِ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى) أَيْ لَمْ يَبْدَأْ بِشَيْءٍ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ ثُمَّ سَارَ حَتَّى بَلَغَ جَمْعًا فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَقَدْ بَيَّنَهُ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ بَعْدَ بَابٍ بِلَفْظِ: حَتَّى جَاءَ الْمُزْدَلِفَةَ فَتَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إِنْسَانٍ بِعِيرَهُ فِي مَنْزِلِهِ ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّى وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا وَبَيَّنَ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ أَنَّهُمْ لَمْ يَزِيدُوا بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ عَلَى الْإِنَاخَةِ، وَلَفْظُهُ: فَأَقَامَ الْمَغْرِبَ ثُمَّ أَنَاخَ النَّاسُ وَلَمْ يَحُلُّوا حَتَّى أَقَامَ الْعِشَاءَ فَصَلُّوا ثُمَّ حَلُّوا وَكَأَنَّهُمْ صَنَعُوا ذَلِكَ رِفْقًا بِالدَّوَابِّ أَوْ لِلْأَمْنِ مِنْ تَشْوِيشِهِمْ بِهَا، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ خَفَّفَ الْقِرَاءَةَ فِي الصَّلَاتَيْنِ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْعَمَلِ الْيَسِيرِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ اللَّتَيْنِ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَلَا يَقْطَعُ ذَلِكَ الْجَمْعَ وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ. وَقَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ

ص: 521

مَالِكٍ وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا أَيْ لَمْ يَتَنَفَّلْ، وَسَيَأْتِي حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ بَعْدَ بَابَيْنِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ رَدِفَ الْفَضْلُ) أَيْ رَكِبَ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ قَالَ كُرَيْبٌ فَقُلْتُ لِأُسَامَةَ: كَيْفَ فَعَلْتُمْ حِينَ أَصْبَحْتُمْ؟ قَالَ رَدِفَهُ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ وَانْطَلَقْتُ أَنَا فِي سِبَاقِ قُرَيْشٍ عَلَى رِجْلَيَّ يَعْنِي إِلَى مِنًى. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى التَّلْبِيَةِ بَعْدَ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ، وَاسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى جَمْعِ التَّأْخِيرِ وَهُوَ إِجْمَاعٌ بِمُزْدَلِفَةَ لَكِنَّهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَطَائِفَةٍ بِسَبَبِ السَّفَرِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ بِسَبَبِ النُّسُكِ وَأَغْرَبَ الْخَطَّابِيُّ فَقَالَ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ الْحَاجُّ الْمَغْرِبَ إِذَا أَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ حَتَّى يَبْلُغَ الْمُزْدَلِفَةَ وَلَوْ أَجْزَأَتْهُ فِي غَيْرِهَا لَمَا أَخَّرَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ وَقْتِهَا الْمُؤَقَّتِ لَهَا فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ.

‌94 - بَاب أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالسَّكِينَةِ عِنْدَ الْإِفَاضَةِ

وَإِشَارَتِهِ إِلَيْهِمْ بِالسَّوْطِ

1671 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سُوَيْدٍ، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ مَوْلَى وَالِبَةَ الْكُوفِيُّ، حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ دَفَعَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عَرَفَةَ، فَسَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَرَاءَهُ زَجْرًا شَدِيدًا وَضَرْبًا وَصَوْتًا لِلْإِبِلِ، فَأَشَارَ بِسَوْطِهِ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ؛ فَإِنَّ الْبِرَّ لَيْسَ بِالْإِيضَاعِ.

أَوْضَعُوا: أَسْرَعُوا، {خِلالَكُمْ} مِنْ التَّخَلُّلِ بَيْنَكُمْ، {وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا} بَيْنَهُمَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالسَّكِينَةِ عِنْدَ الْإِفَاضَةِ) أَيْ مِنْ عَرَفَةَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سُوِيدٍ) هُوَ الْمَدَنِيُّ وَهُوَ ثِقَةٌ لَكِنْ قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: فِي حَدِيثِهِ مَنَاكِيرُ. انْتَهَى. وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ تَابَعَهُ عَلَيْهِ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَالرَّاوِي عَنْهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سُوِيدٍ مَدَنِيٌّ أَيْضًا وَاسْمُ جَدِّهِ حِبَّانُ، وَوَهِمَ الْأَصِيلِيُّ فَسَمَّاهُ مَوْلًى حَكَاهُ الْجَيَّانِيُّ وَخَطَّؤُوهُ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (مَوْلَى الْمُطَّلِبِ) أَيِ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ.

قَوْلُهُ: (مَوْلَى وَالِبَةَ) بِكَسْرِ اللَّامِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ خَفِيفَةٌ: بَطْنٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ.

قَوْلُهُ: (أَنَّهُ دَفَعَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عَرَفَةَ) أَيْ مِنْ عَرَفَةَ.

قَوْلُهُ: (زَجْرًا) بِفَتْحِ الزَّايِ وَسُكُونِ الْجِيمِ بَعْدَهَا رَاءٌ أَيْ صِيَاحًا لِحَثِّ الْإِبِلِ.

قَوْلُهُ: (وَضَرْبًا) زَادَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَصَوْتًا وَكَأَنَّهَا تَصْحِيفٌ مِنْ قَوْلِهِ وَضَرْبًا فَظُنَّتْ مَعْطُوفَةً.

قَوْلُهُ: (عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ) أَيْ فِي السَّيْرِ وَالْمُرَادُ السَّيْرُ بِالرِّفْقِ وَعَدَمُ الْمُزَاحَمَةِ.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّ الْبِرَّ لَيْسَ بِالْإِيضَاعِ) أَيِ السَّيْرِ السَّرِيعِ وَيُقَالُ هُوَ سَيْرٌ مِثْلُ الْخَبَبِ فَبَيَّنَ صلى الله عليه وسلم أَنَّ تَكَلُّفَ الْإِسْرَاعِ فِي السَّيْرِ لَيْسَ مِنَ الْبِرَّ أَيْ مِمَّا يُتَقَرَّبُ بِهِ، وَمِنْ هَذَا أَخَذَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَوْلَهُ لَمَّا خَطَبَ بِعَرَفَةَ لَيْسَ السَّابِقُ مَنْ سَبَقَ بَعِيرُهُ وَفَرَسُهُ وَلَكِنَّ السَّابِقَ مَنْ غُفِرَ لَهُ وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: إِنَّمَا نَهَاهُمْ عَنِ الْإِسْرَاعِ إِبْقَاءً عَلَيْهِمْ لِئَلَّا يُجْحِفُوا بِأَنْفُسِهِمْ مَعَ بُعْدِ الْمَسَافَةِ.

قَوْلُهُ: (أَوْضَعُوا أَسْرَعُوا) هُوَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي الْمَجَازِ.

قَوْلُهُ: {خِلالَكُمْ} مِنَ التَّخَلُّلِ بَيْنَكُمْ) هُوَ أَيْضًا مِنْ قَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَلَفْظُهُ وَلَأَوْضَعُوا أَيْ لَأَسْرَعُوا، خِلَالَكُمْ أَيْ بَيْنَكُمْ وَأَصْلُهُ مِنَ التَّخَلُّلِ وَقَالَ غَيْرُهُ الْمَعْنَى وَلِيَسْعَوْا بَيْنَكُمْ بِالنَّمِيمَةِ، يُقَالُ أَوْضَعَ الْبَعِيرَ أَسْرَعَهُ وَخَصَّ الرَّاكِبَ لِأَنَّهُ أَسْرَعُ مِنَ الْمَاشِي، وَقَوْلُهُ:{وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا} بَيْنَهُمَا) هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا وَلَفْظُهُ: {وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا} أَيْ وَسَطَهُمَا وَبَيْنَهُمَا وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ هَذَا التَّفْسِيرَ لِمُنَاسَبَةِ أَوْضَعُوا لِلَفْظِ الْإِيضَاعِ وَلَمَّا كَانَ مُتَعَلِّقُ أَوْضَعُوا الْخِلَالَ ذَكَرَ تَفْسِيرَهُ تَكْثِيرًا لِلْفَائِدَةِ.

ص: 522

‌95 - بَاب الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِالْمُزْدَلِفَةِ

1672 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: دَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عَرَفَةَ، فَنَزَلَ الشِّعْبَ، فَبَالَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ، وَلَمْ يُسْبِغْ الْوُضُوءَ، فَقُلْتُ لَهُ: الصَّلَاةُ. فَقَالَ: الصَّلَاةُ أَمَامَكَ، فَجَاءَ الْمُزْدَلِفَةَ فَتَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ ثُمَّ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إِنْسَانٍ بَعِيرَهُ فِي مَنْزِلِهِ ثُمَّ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَصَلَّى وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِالْمُزْدَلِفَةِ) أَيِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أُسَامَةَ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى قَبْلَ بَابٍ.

قَوْلُهُ (عَنْ كُرَيْبٍ، عَنْ أُسَامَةَ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: رَوَاهُ أَصْحَابُ مَالِكٍ عَنْهُ هَكَذَا إِلَّا أَشْهَبَ وَابْنَ الْمَاجِشُونَ فَإِنَّهُمَا أَدْخَلَا بَيْنَ كُرَيْبٍ، وَأُسَامَةَ، عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ.

‌96 - بَاب مَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يَتَطَوَّعْ

1673 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: جَمَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ، كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِإِقَامَةٍ، وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا، وَلَا عَلَى إِثْرِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا.

1674 -

حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْخَطْمِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو أَيُّوبَ الأَنْصَارِيُّ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِالْمُزْدَلِفَةِ"

[الحديث 1674 - طرفه في: 4414]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا) أَيْ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ.

قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَتَطَوَّعْ) أَيْ لَمْ يَتَنَفَّلْ بَيْنَهُمَا.

قَوْلُهُ: (جَمَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ.

قَوْلُهُ: (بِجَمْعٍ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمِيمِ أَيِ الْمُزْدَلِفَةِ وَسُمِّيَتْ جَمْعًا لِأَنَّ آدَمَ اجْتَمَعَ فِيهَا مَعَ حَوَّاءَ وَازْدَلَفَ إِلَيْهَا أَيْ دَنَا مِنْهَا، وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهَا سُمِّيَتْ جَمْعًا لِأَنَّهَا يُجْمَعُ فِيهَا بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ وَقِيلَ وُصِفَتْ بِفِعْلِ أَهْلِهَا لِأَنَّهُمْ يَجْتَمِعُونَ بِهَا وَيَزْدَلِفُونَ إِلَى اللَّهِ أَيْ يَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِ بِالْوُقُوفِ فِيهَا وَسُمِّيَتِ الْمُزْدَلِفَةَ إِمَّا لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ بِهَا أَوْ لِاقْتِرَابِهِمْ إِلَى مِنًى أَوْ لِازْدِلَافِ النَّاسِ مِنْهَا جَمِيعًا أَوْ لِلنُّزُولِ بِهَا فِي كُلِّ زُلْفَةٍ مِنَ اللَّيْلِ أَوْ لِأَنَّهَا مَنْزِلَةٌ وَقُرْبَةٌ إِلَى اللَّهِ أَوْ لِازْدِلَافِ آدَمَ إِلَى حَوَّاءَ بِهَا.

قَوْلُهُ: (بِإِقَامَةٍ) لَمْ يَذْكُرِ الْأَذَانَ وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ بَعْدَ بَابٍ.

قَوْلُهُ: (وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا) أَيْ لَمْ يَتَنَفَّلْ وَقَوْلُهُ: (وَلَا عَلَى إِثْرِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا) أَيْ عَقِبِهَا وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّهُ تَرَكَ التَّنَفُّلَ عَقِبَ الْمَغْرِبِ وَعَقِبَ الْعِشَاءِ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ مُهْلَةٌ صَرَّحَ بِأَنَّهُ لَمْ يَتَنَفَّلْ بَيْنَهُمَا بِخِلَافِ الْعِشَاءِ فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَمْ يَتَنَفَّلْ عَقِبَهَا لَكِنَّهُ تَنَفَّلَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْفُقَهَاءُ تُؤَخَّرُ سُنَّةُ الْعِشَاءَيْنِ عَنْهُمَا، وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَرْكِ التَّطَوُّعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ

ص: 523

بِالْمُزْدَلِفَةِ لِأَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَمَنْ تَنَفَّلَ بَيْنَهُمَا لَمْ يَصِحَّ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا. انْتَهَى. وَيُعَكِّرُ عَلَى نَقْلِ الِاتِّفَاقِ فِعْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ الْآتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.

1674 -

حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْخَطْمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِالْمُزْدَلِفَةِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ وَفِي رِوَايَتِهِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ رِوَايَةُ تَابِعِيٍّ عَنْ تَابِعِيٍّ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ شَيْخِ عَدِيٍّ فِيهِ رِوَايَةُ صَحَابِيٍّ عَنْ صَحَابِيٍّ وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ دَائِرٌ بَيْنَ مَدَنِيٍّ وَكُوفِيٍّ وَزَادَ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ اللَّيْثِ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عَدِيٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى الْكُوفَةِ عَلَى عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ.

قَوْلُهُ: (بِالْمُزْدَلِفَةِ) مُبَيِّنٌ لِقَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الَّتِي أَخْرَجَهَا الْمُصَنِّفُ فِي الْمَغَازِي بِلَفْظِ: أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا. وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ، عَنْ عَدِيٍّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ صَلَّى بِجَمْعٍ الْمَغْرِبَ ثَلَاثًا وَالْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى قَوْلِ ابْنِ حَزْمٍ: أَنَّ حَدِيثَ أَبِي أَيُّوبَ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ، لِأَنَّ جَابِرًا وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا فَقَدْ تَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَدِيٍّ عَلَى ذِكْرِ الْإِقَامَةِ فِيهِ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ أَيْضًا فَيَقْوَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ.

‌97 - بَاب مَنْ أَذَّنَ وَأَقَامَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا

1675 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ: حَجَّ عَبْدُ اللَّهِ رضي الله عنه، فَأَتَيْنَا الْمُزْدَلِفَةَ حِينَ الْأَذَانِ بِالْعَتَمَةِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، فَأَمَرَ رَجُلًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَصَلَّى بَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ دَعَا بِعَشَائِهِ فَتَعَشَّى، ثُمَّ أَمَرَ - أُرَى رجلا - فَأَذَّنَ وَأَقَامَ. قَالَ عَمْرٌو: لَا أَعْلَمُ الشَّكَّ إِلَّا مِنْ زُهَيْرٍ، ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ قَالَ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يُصَلِّي هَذِهِ السَّاعَةَ إِلَّا هَذِهِ الصَّلَاةَ فِي هَذَا الْمَكَانِ مِنْ هَذَا الْيَوْمِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هُمَا صَلَاتَانِ تُحَوَّلَانِ عَنْ وَقْتِهِمَا صَلَاةُ الْمَغْرِبِ بَعْدَ مَا يَأْتِي النَّاسُ الْمُزْدَلِفَةَ وَالْفَجْرُ حِينَ يَبْزُغُ الْفَجْرُ. قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ.

[الحديث 1675 - طرفاه في: 1682، 1683]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أَذَّنَ وَأَقَامَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا) أَيْ مِنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمُزْدَلِفَةِ.

قَوْلُهُ: (زُهَيْرٌ) هُوَ الْجُعْفِيُّ، وَأَبُو إِسْحَاقَ هُوَ السَّبِيعِيُّ وَشَيْخُهُ هُوَ النَّخَعِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ.

قَوْلُهُ: (حَجَّ عَبْدُ اللَّهِ) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ حَسَنِ بْنِ مُوسَى، وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ حُسَيْنِ بْنِ عَيَّاشٍ كِلَاهُمَا عَنْ زُهَيْرٍ بِالْإِسْنَادِ حَجَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فَأَمَرَنِي عَلْقَمَةُ أَنِ ألْزَمْهُ فَلَزِمْتُهُ فَكُنْتُ مَعَهُ وَفِي رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ الْآتِيَةِ بَعْدَ بَابٍ خَرَجْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى مَكَّةَ ثُمَّ قَدِمْنَا جَمْعًا.

قَوْلُهُ: (حِينَ الْأَذَانِ بِالْعَتَمَةِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ) أَيْ مِنْ مَغِيبِ الشَّفَقِ.

قَوْلُهُ: (فَأَمَرَ رَجُلًا) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ فَإِنَّ فِي رِوَايَةِ حَسَنٍ وَحُسَيْنٍ الْمَذْكُورَتَيْنِ فَكُنْتُ مَعَهُ فَأَتَيْنَا الْمُزْدَلِفَةَ فَلَمَّا كَانَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ قَالَ: قُمْ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ هَذِهِ السَّاعَةَ مَا رَأَيْتُكَ صَلَّيْتَ فِيهَا.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ أَمَرَ أُرَى رَجُلًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، قَالَ عَمْرٌو وَلَا أَعْلَمُ الشَّكَّ إِلَّا مِنْ زُهَيْرٍ) أُرَى بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ أَظُنُّ وَقَدْ بَيَّنَ عَمْرٌو وَهُوَ ابْنُ خَالِدٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ شَيْخِهِ زُهَيْرٍ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ مُوسَى، عَنْ زُهَيْرٍ مِثْلَ مَا رَوَاهُ عَنْهُ عَمْرٌو وَلَمْ يَقُلْ مَا قَالَ عَمْرٌو، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ زُهَيْرٍ وَقَالَ فِيهِ ثُمَّ أَمَرَ قَالَ زُهَيْرٌ أُرَى فَأَذَّنَ وَأَقَامَ وَسَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ رِوَايَةُ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ بِأَصْرَحَ مِمَّا قَالَ زُهَيْرٌ وَلَفْظُهُ: ثُمَّ قَدِمْنَا جَمْعًا

ص: 524

فَصَلَّى الصَّلَاتَيْنِ كُلَّ صَلَاةٍ وَحْدَهَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ وَالْعَشَاءُ بَيْنَهُمَا وَالْعَشَاءُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَأَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ بِلَفْظِ: فَأَذَّنَ وَأَقَامَ ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ ثُمَّ تَعَشَّى ثُمَّ قَامَ فَأَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى الْعِشَاءَ ثُمَّ بَاتَ بِجَمْعٍ، حَتَّى إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ فَأَذَّنَ وَأَقَامَ وَلِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ فَصَلَّى بِنَا الْمَغْرِبَ ثُمَّ دَعَا بِعَشَاءٍ فَتَعَشَّى ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى الْعِشَاءَ ثُمَّ رَقَدَ وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ رِوَايَةِ شَبَابَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَلَمْ يَتَطَوَّعْ قَبْلَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلَا بَعْدَهَا وَلِأَحْمَدَ مِنْ رِوَايَةِ زُهَيْرٍ فَقُلْتُ لَهُ إِنَّ هَذِهِ لَسَاعَةٌ مَا رَأَيْتُكَ صَلَّيْتَ فِيهَا.

قَوْلُهُ: (فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، والْكُشْمِيهَنِيِّ فَلَمَّا حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ وَفِي رِوَايَةِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ زُهَيْرٍ فَلَمَّا كَانَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ.

قَوْلُهُ: (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ وَقْتِهِمَا) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَفِي رِوَايَةِ السَّرَخْسِيِّ عَنْ وَقْتِهَا بِالْإِفْرَادِ وَسَيَأْتِي فِي رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ بَعْدَ بَابٍ رَفْعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (حِينَ يَبْزُغُ) بِزَايٍ مَضْمُومَةٍ وَغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ أَيْ يَطْلُعُ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَشْرُوعِيَّةُ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ لِكُلٍّ مِنَ الصَّلَاتَيْنِ إِذَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: لَمْ نَجِدْهُ مَرْوِيًّا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَوْ ثَبَتَ عَنْهُ لَقُلْتُ بِهِ. ثُمَّ أَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ فَذَكَرْتُهُ لِأَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ فَقَالَ: أَمَّا نَحْنُ أَهْلَ الْبَيْتِ فَهَكَذَا نَصْنَعُ. قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ مِنْ فِعْلِهِ، قُلْتُ أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْهُ ثُمَّ تَأَوَّلَهُ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَهُ تَفَرَّقُوا عَنْهُ فَأَذَّنَ لَهُمْ لِيَجْتَمِعُوا لِيَجْمَعَ بِهِمْ وَلَا يَخْفَى تَكَلُّفُهُ وَلَوْ تَأَتَّى لَهُ ذَلِكَ فِي حَقِّ عُمَرَ - لِكَوْنِهِ كَانَ الْإِمَامَ الَّذِي يُقِيمُ لِلنَّاسِ حَجَّهُمْ - لَمْ يَتَأَتَّ لَهُ فِي حَقِّ ابْنِ مَسْعُودٍ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مَعَهُ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ لَا يَحْتَاجُ فِي جَمْعِهِمْ إِلَى مَنْ يُؤَذِّنُ لَهُمْ.

وَقَدْ أَخَذَ بِظَاهِرِهِ مَالِكٌ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْبُخَارِيِّ. وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ خَالِدٍ أَنَّهُ كَانَ يَتَعَجَّبُ مِنْ مَالِكٍ حَيْثُ أَخَذَ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ الْكُوفِيِّينَ مَعَ كَوْنِهِ مَوْقُوفًا وَمَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَرْوِهِ وَيَتْرُكُ مَا رَوَى عَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ مَرْفُوعٌ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَأَعْجَبُ أَنَا مِنَ الْكُوفِيِّينَ حَيْثُ أَخَذُوا بِمَا رَوَاهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَهُوَ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ وَتَرَكُوا مَا رَوَاه فِي ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَعَ أَنَّهُمْ لَا يَعْدِلُونَ بِهِ أَحَدًا.

قُلْتُ: الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ مَالِكًا اعْتَمَدَ عَلَى صَنِيعِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَرْوِهِ فِي: الْمُوَطَّأِ وَاخْتَارَ الطَّحَاوِيُّ مَا جَاءَ عَنْ جَابِرٍ يَعْنِي فِي حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ، وَابْنُ حَزْمٍ وَقَوَّاهُ الطَّحَاوِيُّ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ وَالثَّوْرِيُّ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِإِقَامَتَيْنِ فَقَطْ وَهُوَ ظَاهِرُ حَدِيثِ أُسَامَةَ الْمَاضِي قَرِيبًا حَيْثُ قَالَ فَأَقَامَ الْمَغْرِبَ ثُمَّ أَنَاخَ النَّاسُ وَلَمْ يَحُلُّوا حَتَّى أَقَامَ الْعِشَاءَ وَقَدْ جَاءَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُ وَكَأَنَّهُ كَانَ يَرَاهُ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي يَتَخَيَّرُ فِيهِ الْإِنْسَانُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ، وَاسْتُدِلَّ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى جَوَازِ التَّنَفُّلِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا لِكَوْنِ ابْنِ مَسْعُودٍ تَعَشَّى بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْفَعْهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ قَصَدَ الْجَمْعَ، وَظَاهِرُ صَنِيعِهِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لِقَوْلِهِ إِنَّ الْمَغْرِبَ تُحَوَّلُ عَنْ وَقْتِهَا فَرَأَى أَنَّهُ وَقْتُ هَذِهِ الْمَغْرِبِ خَاصَّةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَصَدَ الْجَمْعَ وَكَانَ يَرَى أَنَّ الْعَمَلَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لَا يَقْطَعُهُ إِذَا كَانَ نَاوِيًا لِلْجَمْعِ، وَيُحْتَمَلُ قَوْلُهُ تُحَوَّلُ عَنْ وَقْتِهَا أَيِ الْمُعْتَادِ.

وَأَمَّا إِطْلَاقُهُ عَلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ أَنَّهَا تُحَوَّلُ عَنْ وَقْتِهَا فَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَوْقَعَ الْفَجْرَ قَبْلَ طُلُوعِهَا وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهَا وَقَعَتْ قَبْلَ الْوَقْتِ الْمُعْتَادِ فِعْلُهَا فِيهِ فِي الْحَضَرِ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِمَنْ مَنَعَ التَّغْلِيسَ بِصَلَاةِ الصُّبْحِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ

ص: 525

عَنْ عَائِشَةَ وَغَيْرِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَوَاقِيتِ التَّغْلِيسُ بِهَا، بَلِ الْمُرَادُ هُنَا أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَتَاهُ الْمُؤَذِّنُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ صَلَّى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ مَعَ ذَلِكَ بِغَلَسٍ وَأَمَّا بِمُزْدَلِفَةَ فَكَانَ النَّاسُ مُجْتَمِعِينَ وَالْفَجْرُ نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ فَبَادَرَ بِالصَّلَاةِ أَوَّلَ مَا بَزَغَ حَتَّى أَنْ بَعْضَهَمْ كَانَ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ طُلُوعُهُ وَهُوَ بَيِّنٌ فِي رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ الْآتِيَةِ حَيْثُ قَالَ ثُمَّ صَلَّى الْفَجْرَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ، قَائِلٌ يَقُولُ طَلَعَ الْفَجْرُ وَقَائِلٌ يَقُولُ لَمْ يَطْلُعْ.

وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ هَذَا عَلَى تَرْكِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي غَيْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ وَجَمْعٍ لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى صَلَاةً لِغَيْرِ مِيقَاتِهَا إِلَّا صَلَاتَيْنِ. وَأَجَابَ الْمُجَوِّزُونَ بِأَنَّ مَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ، وَقَدْ ثَبَتَ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَنَسٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ وَتَقَدَّمَ فِي مَوْضِعِهِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَأَيْضًا فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ طَرِيقِ الْمَفْهُومِ وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهِ وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِهِ فَشَرْطُهُ أَنْ لَا يُعَارِضَهُ مَنْطُوقٌ وَأَيْضًا فَالْحَصْرُ فِيهِ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ لِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ.

‌98 - بَاب مَنْ قَدَّمَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ بِلَيْلٍ، فَيَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَيَدْعُونَ وَيُقَدِّمُ إِذَا غَابَ الْقَمَرُ

1676 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ سَالِمٌ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يُقَدِّمُ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ فَيَقِفُونَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِلَيْلٍ فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ مَا بَدَا لَهُمْ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ الْإِمَامُ وَقَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ مِنًى لِصَلَاةِ الْفَجْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِذَا قَدِمُوا رَمَوْا الْجَمْرَةَ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: أَرْخَصَ فِي أُولَئِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

1677 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ "بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ"

[الحديث 1677 - طرفه في: 1678، 1856]

1678 -

حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ "أَنَا مِمَّنْ قَدَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ فِي ضَعَفَةِ أَهْلِهِ"

1679 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ مَوْلَى أَسْمَاءَ عَنْ أَسْمَاءَ أَنَّهَا نَزَلَتْ لَيْلَةَ جَمْعٍ عِنْدَ الْمُزْدَلِفَةِ فَقَامَتْ تُصَلِّي فَصَلَّتْ سَاعَةً ثُمَّ قَالَتْ يَا بُنَيَّ هَلْ غَابَ الْقَمَرُ قُلْتُ لَا فَصَلَّتْ سَاعَةً ثُمَّ قَالَتْ يَا بُنَيَّ هَلْ غَابَ الْقَمَرُ قُلْت نَعَمْ قَالَتْ فَارْتَحِلُوا فَارْتَحَلْنَا وَمَضَيْنَا حَتَّى رَمَتْ الْجَمْرَةَ ثُمَّ رَجَعَتْ فَصَلَّتْ الصُّبْحَ فِي مَنْزِلِهَا فَقُلْتُ لَهَا يَا هَنْتَاهُ مَا أُرَانَا إِلاَّ قَدْ غَلَّسْنَا قَالَتْ يَا بُنَيَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَذِنَ لِلظُّعُنِ"

1680 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ هُوَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ "اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ جَمْعٍ وَكَانَتْ ثَقِيلَةً ثَبْطَةً فَأَذِنَ لَهَا"

[الحديث 1680 - طرفه في: 1681]

ص: 526

1681 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ "نَزَلْنَا الْمُزْدَلِفَةَ فَاسْتَأْذَنَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَوْدَةُ أَنْ تَدْفَعَ قَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ وَكَانَتْ امْرَأَةً بَطِيئَةً فَأَذِنَ لَهَا فَدَفَعَتْ قَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ وَأَقَمْنَا حَتَّى أَصْبَحْنَا نَحْنُ ثُمَّ دَفَعْنَا بِدَفْعِهِ فَلَانْ أَكُونَ اسْتَأْذَنْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مَفْرُوحٍ بِهِ"

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ قَدَّمَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ) أَيْ مِنْ نِسَاءٍ وَغَيْرِهِمْ.

قَوْلُهُ: (بِلَيْلٍ) أَيْ مِنْ مَنْزِلِهِ بِجَمْعٍ.

قَوْلُهُ: (فَيَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَيَدْعُونَ وَيُقَدِّمُ) ضَبَطَهُ الْكِرْمَانِيُّ بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الدَّالِّ قَالَ: وَحُذِفَ الْفَاعِلُ لِلْعِلْمِ بِهِ وَهُوَ مَنْ ذُكِرَ أَوَّلًا وَبِفَتْحِ الدَّالِّ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ. وَقَوْلُهُ إِذَا غَابَ الْقَمَرُ بَيَانٌ لِلْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ التَّرْجَمَةِ بِلَيْلٍ وَمَغِيبُ الْقَمَرِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ يَقَعُ عِنْدَ أَوَائِلِ الثُّلُثِ الْأَخِيرِ وَمِنْ ثَمَّ قَيَّدَهُ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ بِالنِّصْفِ الثَّانِي. قَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي: لَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي جَوَازِ تَقْدِيمِ الضَّعَفَةِ بِلَيْلٍ مِنْ جَمْعٍ إِلَى مِنًى. ثم ذكر المصنف في الباب أربعة أحاديث: الأول: حديث ابن عمر:

قَوْلُهُ: (قَالَ سَالِمٌ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَهُ.

قَوْلُهُ: (الْمَشْعَرِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْعَيْنِ وَحَكَى الْجَوْهَرِيُّ كَسْرَ الْمِيمِ وَقِيلَ إِنَّهُ لُغَةُ أَكْثَرِ الْعَرَبِ وَقَالَ ابْنُ قَرْقُولٍ: كَسْرُ الْمِيمِ لُغَةٌ لَا رِوَايَةٌ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: لَمْ يُقْرَأْ بِهَا فِي الشَّوَاذِّ وَقِيلَ بَلْ قُرِئَ حَكَاهُ الْهُذَلِيُّ. وَسُمِّيَ الْمَشْعَرَ لِأَنَّهُ مَعْلَمٌ لِلْعِبَادَةِ، وَالْحَرَامُ لِأَنَّهُ مِنَ الْحَرَمِ أَوْ لِحُرْمَتِهِ. وَقَوْلُهُ مَا بَدَا لَهُمْ بِغَيْرِ هَمْزٍ أَيْ ظَهَرَ لَهُمْ وَأَشْعَرَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَا تَوْقِيفَ لَهُمْ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ يَرْجِعُونَ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ ثُمَّ يَدْفَعُونَ وَهُوَ أَوْضَحُ وَمَعْنَى الْأَوَّلِ أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَنِ الْوُقُوفِ إِلَى الدَّفْعِ ثُمَّ يَقْدَمُونَ مِنًى عَلَى مَا فُصِّلَ فِي الْخَبَرِ، وَقَوْلُهُ: لِصَلَاةِ الْفَجْرِ أَيْ عِنْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: أَرْخَصَ فِي أُولَئِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَذَا وَقَعَ فِيهِ أَرْخَصَ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ رَخَّصَ بِالتَّشْدِيدِ وَهُوَ أَظْهَرُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِأَنَّهُ مِنَ التَّرْخِيصِ لَا مِنَ الرَّخْصِ. وَاحْتَجَّ بِهِ ابْنُ الْمُنْذِرِ لِقَوْلِ مَنْ أَوْجَبَ الْمَبِيتَ بِمُزْدَلِفَةَ عَلَى غَيْرِ الضَّعَفَةِ لِأَنَّ حُكْمَ مَنْ لَمْ يُرَخَّصْ لَهُ لَيْسَ كَحُكْمِ مَنْ رُخِّصَ لَهُ قَالَ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ لَزِمَهُ أَنْ يُجِيزَ الْمَبِيتَ عَلَى مِنًى لِسَائِرِ النَّاسِ لِكَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم أَرَخَصَ لِأَصْحَابِ السِّقَايَةِ وَلِلرِّعَاءِ أَنْ لَا يَبِيتُوا بِمِنًى قَالَ: فَإِنْ قَالَ لَا تَعْدُوا بِالرُّخَصِ مَوَاضِعَهَا فَلْيُسْتَعْمَلْ ذَلِكَ هُنَا، وَلَا يَأْذَنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَقَدَّمَ مِنْ جَمْعٍ إِلَّا لِمَنْ رَخَّصَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. انْتَهَى.

وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ عَلْقَمَةُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ: مَنْ تَرَكَ الْمَبِيتَ بِمُزْدَلِفَةَ فَاتَهُ الْحَجُّ، وَقَالَ عَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وقَتَادَةُ، وَالشَّافِعِيُّ وَالْكُوفِيُّونَ وَإِسْحَاقُ: عَلَيْهِ دَمٌ. قَالُوا: وَمَنْ بَاتَ بِهَا لَمْ يَجُزْ لَهُ الدَّفْعُ قَبْلَ النِّصْفِ، وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ مَرَّ بِهَا فَلَمْ يَنْزِلْ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَإِنَّ نَزَلَ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ مَتَى دَفَعَ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ دِلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لِقَوْلِهِ إنَّ مَنْ يَقْدَمُ عِنْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ إِذَا قَدِمَ رَمَى الْجَمْرَةَ وَسَيَأْتِي ذَلِكَ صَرِيحًا مِنْ صَنِيعِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي الْحَدِيثِ الثَّالِثِ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفَائِدَتُهُ تَعْيِينُ مَنْ أَذِنَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ أَهْلِهِ فِي ذَلِكَ وَأَوْرَدَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ فِي الثَّانِي مِنْهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ الْبَعْثُ الْمَذْكُورُ خَاصًّا لَهُ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْأَوَّلَ وَهُوَ قَوْلُهُ بَعَثَنِي قَدْ يُوهِمُ اخْتِصَاصَهُ بِذَلِكَ وَفِي الثَّانِي أَنَا مِمَّنْ قَدَّمَ فَأَفْهَمَ أَنَّهُ لَمْ يَخْتَصَّ، وَقَوْلُهُ فِي الثَّانِي فِي ضَعَفَةِ أَهْلِهِ قَدْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي: بَابِ حَجِّ الصِّبْيَانِ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ بِلَفْظِ: فِي الثَّقَلِ زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَقَالَ فِي الضَّعَفَةِ وَلِسُفْيَانَ

ص: 527

فِيهِ إِسْنَادٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ، وَقَدْ أَخْرَجَ طَرِيقُ عَطَاءٍ هَذِهِ مُطَوَّلَةَ الطَّحَاوِيِّ مِنْ رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الصَّفِيرِ عَنْ عَطَاءٍ (قَالَ أَخْبَرَنِي) ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْعَبَّاسِ لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ: اذْهَبْ بِضُعَفَائِنَا وَنِسَائِنَا فَلْيُصَلُّوا الصُّبْحَ بِمِنًى وَلْيَرْمُوا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ قَبْلَ أَنْ تُصِيبَهُمْ دَفْعَةُ النَّاسِ. قَالَ فَكَانَ عَطَاءٌ يَفْعَلُهُ بَعْدَمَا كَبِرَ وَضَعُفَ. وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ حَبِيبٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَدِّمُ ضُعَفَاءَ أَهْلِهِ بِغَلَسٍ. وَلِأَبِي عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَدِّمُ الْعِيَالَ وَالضَعَفَةَ إِلَى مِنًى مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ مَوْلَى أَسْمَاءَ) هُوَ ابْنُ كَيْسَانَ الْمَدَنِيُّ يُكْنَى أَبَا عُمَرَ لَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ وَآخَرَ سَيَأْتِي فِي أَبْوَابِ الْعُمْرَةِ، وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ جُرَيْجٍ بِتَحْدِيثِ عَبْدُ اللَّهِ لَهُ هَكَذَا فِي رِوَايَةِ مُسَدَّدٍ هَذِهِ عَنْ يَحْيَى وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيِّ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ، عَنْ بُنْدَارٍ وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ كُلُّهُمْ عَنْ يَحْيَى، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ الْعَطَّارِ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، والطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ سَالِمٍ، وَأَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ بُكَيْرٍ كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَلَّادٍ، عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ أَخْبَرَنِي مُخْبِرٌ عَنْ أَسْمَاءَ وَأَخْرَجَهُ مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ مَوْلَى أَسْمَاءَ أَخْبَرَهُ وَكَذَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي خَالِدٍ الْأَحْمَدِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ سَمِعَهُ مِنْ عَطَاءٍ ثُمَّ لَقِيَ عَبْدَ اللَّهِ فَأَخَذَهُ عَنْهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَوْلَى أَسْمَاءَ شَيْخُ عَطَاءٍ غَيْرَ عَبْدِ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (قَالَتْ فَارْتَحِلُوا) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ قَالَتِ ارْتَحِلْ بِي.

قَوْلُهُ: (فَمَضَيْنَا حَتَّى رَمَتِ الْجَمْرَةَ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ فَمَضَيْنَا بِهَا.

قَوْلُهُ: (يَا هَنَتَاهُ) أَيْ يَا هَذِهِ وَقَدْ سَبَقَ ضَبْطُهُ فِي: بَابُ الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ.

قَوْلُهُ: (مَا أُرَانَا) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ أَظُنُّ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ بِالْجَزْمِ فَقُلْتُ لَهَا لَقَدْ غَلَّسْنَا وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ لَقَدْ جِئْنَا مِنًى بِغَلَسٍ وَفِي رِوَايَةِ دَاوُدَ الْعَطَّارِ لَقَدِ ارْتَحَلْنَا بِلَيْلٍ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ فَقُلْتُ إِنَّا رَمَيْنَا الْجَمْرَةَ بِلَيْلٍ وَغَلَّسْنَا أَيْ جِئْنَا بِغَلَسٍ.

قَوْلُهُ: (إِذَنَ لِلظُّعُنِ) بِضَمِّ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ جَمْعُ ظَعِينَةٍ وَهِيَ الْمَرْأَةُ فِي الْهَوْدَجِ ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْمَرْأَةِ مُطْلَقًا وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الْمَذْكُورَةِ إِنَّا كُنَّا نَصْنَعُ هَذَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ لَقَدْ كُنَّا نَفْعَلُ ذَلِكَ مَعَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ تَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم.

وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ الرَّمْيِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ عِنْدَ مَنْ خَصَّ التَّعْجِيلَ بِالضَعَفَةِ وَعِنْدَ مَنْ لَمْ يُخَصِّصْ وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: لَا يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ إِلَّا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَإِنْ رَمَى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَبَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ جَازَ وَإِنْ رَمَاهَا قَبْلَ الْفَجْرِ أَعَادَهَا وَبِهَذَا قَالَ أَحْمَدُ، وَإسْحَاقُ وَالْجُمْهُورُ وَزَادَ إِسْحَاقُ وَلَا يَرْمِيهَا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ، وَمُجَاهِدٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَرَأَى جَوَازَ ذَلِكَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمَاضِي قَبْلَ هَذَا، وَاحْتَجَّ إِسْحَاقُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِغِلْمَانِ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: لَا تَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، والطَّحَاوِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ الْعُرَنِيِّ - وَهُوَ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ بَعْدَهَا نُونٌ - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، والطَّحَاوِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ عَنْهُ وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ حَبِيبٍ، عَنْ عَطَاءٍ وَهَذِهِ الطُّرُقُ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا وَمِنْ ثَمَّ صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ. وَإِذَا كَانَ مَنْ رُخِّصَ لَهُ مُنِعَ أَنْ

ص: 528

يَرْمِيَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَمَنْ لَمْ يُرَخَّصْ لَهُ أَوْلَى. وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِحَدِيثِ أَسْمَاءَ هَذَا.

وَيُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِحَمْلِ الْأَمْرِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى النَّدْبِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ قَالَ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَهْلِهِ وَأَمَرَنِي أَنْ أَرْمِيَ مَعَ الْفَجْرِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: السُّنَّةُ أَنْ لَا يَرْمِيَ إِلَّا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَا يَجُوزُ الرَّمْيُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لِأَنَّ فَاعِلَهُ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ وَمَنْ رَمَى حِينَئِذٍ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ إِذْ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ لَا يُجْزِئُهُ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ أَيْضًا عَلَى إِسْقَاطِ الْوُقُوفِ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ عَنِ الضَّعَفَةِ وَلَا دِلَالَةَ فِيهِ لِأَنَّ رِوَايَةَ أَسْمَاءَ سَاكِتَةٌ عَنِ الْوُقُوفِ وَقَدْ بَيَّنَتْهُ رِوَايَةُ ابْنِ عُمَرَ الَّتِي قَبْلَهَا.

وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: مَنْ مَرَّ بِمُزْدَلِفَةَ فَلَمْ يَنْزِلْ بِهَا فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَمَنْ نَزَلَ بِهَا ثُمَّ دَفَعَ مِنْهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ مِنَ اللَّيْلِ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ وَلَوْ لَمْ يَقِفْ مَعَ الْإِمَامِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ: مَنْ لَمْ يَقِفْ بِهَا فَقَدْ ضَيَّعَ نُسُكًا وَعَلَيْهِ دَمٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ لَا دَمَ عَلَيْهِ مُطْلَقًا وَإِنَّمَا هُوَ مَنْزِلٌ مَنْ شَاءَ نَزَلَ بِهِ وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَنْزِلْ بِهِ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ فِيهِ ضَعْفٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا إِنَّمَا جَمْعٌ مَنْزِلٌ لِدَلْجِ الْمُسْلِمِينَ.

وَذَهَبَ ابْنُ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ إِلَى أَنَّ الْوُقُوفَ بِهَا رُكْنٌ لَا يَتِمُّ الْحَجُّ إِلَّا بِهِ وَأَشَارَ ابْنُ الْمُنْذِرِ إِلَى تَرْجِيحِهِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ عَلْقَمَةَ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ قَالُوا مَنْ لَمْ يَقِفْ بِهَا فَاتَهُ الْحَجُّ وَيُجْعَلْ إِحْرَامُهُ عُمْرَةً، وَاحْتَجَّ الطَّحَاوِيُّ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَذْكُرِ الْوُقُوفَ وَإِنَّمَا قَالَ {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ وَقَفَ بِهَا بِغَيْرِ ذِكْرِ أَنَّ حَجَّهُ تَامٌّ فَإِذَا كَانَ الذِّكْرُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ لَيْسَ مَنْ صُلْبِ الْحَجِّ فَالْمَوْطِنُ الَّذِي يَكُونُ الذِّكْرُ فِيهِ أَحْرَى أَنْ لَا يَكُونَ فَرْضًا. قَالَ: وَمَا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ حَدِيثِ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ - وَهُوَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ - رَفَعَهُ قَالَ مَنْ شَهِدَ مَعَنَا صَلَاةَ الْفَجْرِ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَكَانَ قَدْ وَقَفَ قَبْلَ ذَلِكَ بِعَرَفَةَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ لِإِجْمَاعِهِمْ أَنَّهُ لَوْ بَاتَ بِهَا وَوَقَفَ وَنَامَ عَنِ الصَّلَاةِ فَلَمْ يُصَلِّهَا مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى فَاتَتْهُ أَنَّ حَجَّهُ تَامٌّ. انْتَهَى.

وَحَدِيثُ عُرْوَةَ أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَلَفْظُ أَبِي دَاوُدَ عَنْهُ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَوْقِفِ - يَعْنِي بِجْمَعٍ - قُلْتُ: جِئْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ جَبَلِ طَيِّئٍ فَأَكْلَلْتُ مَطِيَّتِي وَأَتْعَبْتُ نَفْسِي وَاللَّهِ مَا تَرَكْتُ مِنْ جَبَلٍ إِلَّا وَقَفْتُ عَلَيْهِ فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَدْرَكَ مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ وَأَتَى عَرَفَاتٍ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ. وَلِلنَّسَائِيِّ مَنْ أَدْرَكَ جَمْعًا مَعَ الْإِمَامِ وَالنَّاسِ حَتَّى يُفِيضُوا فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ وَمَنْ لَمْ يُدْرِكْ مَعَ الْإِمَامِ وَالنَّاسِ فَلَمْ يُدْرِكْ. وَلِأَبِي يَعْلَى وَمَنْ لَمْ يُدْرِكْ جَمْعًا فَلَا حَجَّ لَهُ.

وَقَدْ صَنَّفَ أَبُو جَعْفَرٍ الْعُقَيْلِيُّ جُزْءًا فِي إِنْكَارِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ وَبَيَّنَ أَنَّهَا مِنْ رِوَايَةِ مُطَرِّفٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ وَأَنْ مُطَرِّفًا كَانَ يَهِمُ فِي الْمُتُونِ، وَقَدِ ارْتَكَبَ ابْنُ حَزْمٍ الشَّطَطَ فَزَعَمَ أَنَّهُ مَنْ لَمْ يُصَلِّ صَلَاةَ الصُّبْحِ بِمُزْدَلِفَةَ مَعَ الْإِمَامِ أَنَّ الْحَجَّ يَفُوتُهُ الْتِزَامًا لِمَا أَلْزَمَهُ بِهِ الطَّحَاوِيُّ، وَلَمْ يَعْتَبِرِ ابْنُ قُدَامَةَ مُخَالَفَتَهُ هَذِهِ فَحَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى الْإِجْزَاءِ كَمَا حَكَاهُ الطَّحَاوِيُّ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَجِبُ بِتَرْكِ الْوُقُوفِ بِهَا دَمٌ لِمَنْ لَيْسَ بِهِ عُذْرٌ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَعْذَارِ عِنْدَهُمُ الزِّحَامُ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: حَدِيثُ عَائِشَةَ أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ:

قَوْلُهُ: (عَنِ الْقَاسِمِ) هُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَالِدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الرَّاوِي عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ) أَيْ بِنْتُ زَمْعَةَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ.

قَوْلُهُ: (ثَقِيلَةً) أَيْ مِنْ عِظَمِ جِسْمِهَا.

قَوْلُهُ: (ثَبِطَةً) بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ خَفِيفَةٌ أَيْ بَطِيئَةَ الْحَرَكَةِ كَأَنَّهَا تَثْبِطُ بِالْأَرْضِ أَيْ تَشَبَّثُ بِهَا، وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ عَنْ سُفْيَانَ وَهُوَ الثَّوْرِيُّ مَا اسْتَأْذَنَتْهُ سَوْدَةُ فِيهِ فَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِطَرِيقِ أَفْلَحَ،

ص: 529

عَنِ الْقَاسِمِ الْمُبَيِّنَةِ لِذَلِكَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنِ الثَّوْرِيِّ فَبَيَّنَ ذَلِكَ وَلَفْظُهُ: أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ كَانَتِ امْرَأَةً ثَبِطَةً فَاسْتَأْذَنَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَدْفَعَ مِنْ جَمْعٍ قَبْلَ دَفْعَةِ النَّاسِ فَأَذِنَ لَهَا. وَلِأَبِي عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ قَبِيصَةَ، عَنِ الثَّوْرِيِّ: قَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَوْدَةَ لَيْلَةَ جَمْعٍ. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ فَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ وَمِنْ طَرِيقِ عبيدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ بِلَفْظِ: وَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ اسْتَأْذَنْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا اسْتَأْذَنَتْهُ سَوْدَةُ فَأُصَلِّي الصُّبْحَ بِمِنًى فَأَرْمِي الْجَمْرَةَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ النَّاسُ. فَذَكَرَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ مِثْلَ سِيَاقِ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ، وَلَهُ نَحْوُهُ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ وَفِيهِ مِنَ الزِّيَادَةِ وَكَانَتْ عَائِشَةُ لَا تُفِيضُ إِلَّا مَعَ الْإِمَامِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ أَفْلَحَ أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرٍ الْحَنَفِيِّ، عَنْ أَفْلَحَ سَمِعْتُ الْقَاسِمَ.

قَوْلُهُ: (أَنْ تَدْفَعَ قَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، عَنْ أَفْلَحَ أَنْ تَدْفَعَ قَبْلَهُ وَقَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ وَالْحَطْمَةُ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ: الزَّحْمَةُ.

قَوْلُهُ: (فَلَأَنْ أَكُونَ) بِفَتْحِ اللَّامِ فَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ أَحَبُّ وَقَوْلُهَا (مَفْرُوحٍ) أَيْ مَا يَفْرَحُ بِهِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.

(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، عَنْ أَفْلَحَ بْنِ حُمَيْدٍ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ تَفْسِيرَ الثَّبِطَةِ بِالثَّقِيلَةِ مِنَ الْقَاسِمِ رَاوِي الْخَبَرِ وَلَفْظُهُ: وَكَانَتِ امْرَأَةً ثَبِطَةً، يَقُولُ الْقَاسِمُ: وَالثَّبِطَةُ الثَّقِيلَةُ وَلِأَبِي عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي فُدَيْكٍ، عَنْ أَفْلَحَ بَعْدَ أَنْ سَاقَ الْحَدِيثَ بِلَفْظِ: وَكَانَتِ امْرَأَةً ثَبِطَةً قَالَ: الثَّبِطَةُ الثَّقِيلَةُ وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَامِرٍ الْعَقَدِيِّ، عَنْ أَفْلَحَ وَكَانَتِ امْرَأَةً ثَبِطَةً يَعْنِي ثَقِيلَةً فَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَكَانَتِ امْرَأَةً ثَقِيلَةً ثَبِطَةً مِنَ الْإِدْرَاجِ الْوَاقِعِ قَبْلَ مَا أُدْرِجَ عَلَيْهِ، وَأَمْثِلَتُهُ قَلِيلَةٌ جِدًّا، وَسَبَبُهُ أَنَّ الرَّاوِيَ أَدْرَجَ التَّفْسِيرَ بَعْدَ الْأَصْلِ فَظَنَّ الرَّاوِي الْآخَرُ أَنَّ اللَّفْظَيْنِ ثَابِتَانِ فِي أَصْلِ الْمَتْنِ فَقَدَّمَ وَأَخَّرَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌99 - بَاب مَتَى يُصَلِّي الْفَجْرَ بِجَمْعٍ

1682 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَارَةُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى صَلَاةً بِغَيْرِ مِيقَاتِهَا إِلَّا صَلَاتَيْنِ: جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَصَلَّى الْفَجْرَ قَبْلَ مِيقَاتِهَا.

1683 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه إِلَى مَكَّةَ، ثُمَّ قَدِمْنَا جَمْعًا، فَصَلَّى الصَّلَاتَيْنِ؛ كُلَّ صَلَاةٍ وَحْدَهَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، وَالْعَشَاءُ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى الْفَجْرَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ، قَائِلٌ يَقُولُ: طَلَعَ الْفَجْرُ، وَقَائِلٌ يَقُولُ: لَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ حُوِّلَتَا عَنْ وَقْتِهِمَا فِي هَذَا الْمَكَانِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، فَلَا يَقْدَمُ النَّاسُ جَمْعًا حَتَّى يُعْتِمُوا، وَصَلَاةَ الْفَجْرِ هَذِهِ السَّاعَةَ، ثُمَّ وَقَفَ حَتَّى أَسْفَرَ، ثُمَّ قَالَ: لَوْ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَفَاضَ الْآنَ أَصَابَ السُّنَّةَ، فَمَا أَدْرِي أَقَوْلُهُ كَانَ أَسْرَعَ أَمْ دَفْعُ عُثْمَانَ رضي الله عنه، فَلَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَتَى يُصَلّي الْفَجْر بِجَمْعٍ) ذُكِرَ فِيهِ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ مُخْتَصَرًا وَمُطَوَّلًا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي عُمَارَةُ) هُوَ ابْنُ عُمَيْرٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ النَّخَعِيُّ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ كُوفِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (لِغَيْرِ مِيقَاتِهَا) فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ بِغَيْرِ بِالْمُوَحَّدَةِ بَدَلَ اللَّامِ وَالْمُرَادُ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا الْمُعْتَادِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْكَلَامِ عَلَيْهِ قَبْلَ بَابٍ.

ص: 530

قَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ: (خَرَجْتُ) فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ خَرَجْنَا.

قَوْلُهُ: (وَالْعَشَاءُ بَيْنَهُمَا) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ لَا بِكَسْرِهَا؛ أَيِ الْأَكْلُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ.

قَوْلُهُ: (فَلَا يَقْدَمُ) بِفَتْحِ الدَّالِ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى يُعْتِمُوا) أَيْ يَدْخُلُوا فِي الْعَتَمَةِ وَهُوَ وَقْتُ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْمَوَاقِيتِ.

قَوْلُهُ: (لَوْ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَفَاضَ الْآنَ) يَعْنِي عُثْمَانَ كَمَا بَيَّنَ فِي آخِرِ الْكَلَامِ، وَقَوْلُهُ:(فَمَا أَدْرِي) هُوَ كَلَامُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ الرَّاوِي عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَخْطَأَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ كَلَامُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَالْمُرَادُ أَنَّ السُّنَّةَ الدَّفْعُ مِنَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ عِنْدَ الْإِسْفَارِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ خِلَافًا لِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ كَمَا فِي حَدِيثِ عُمَرَ الَّذِي بَعْدَهُ.

(فَائِدَةٌ): وَقَعَ فِي رِوَايَةِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ نَظِيرَ هَذَا الْقَوْلِ صَدَرَ مِنَ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ الدَّفْعِ مِنْ عَرَفَةَ أَيْضًا وَلَفْظُهُ: لَمَّا وَقَفْنَا بِعَرَفَةَ غَابَتِ الشَّمْسُ فَقَالَ: لَوْ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَفَاضَ الْآنَ كَانَ قَدْ أَصَابَ، قَالَ: فَمَا أَدْرِي أَكَلَامُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَسْرَعُ أَوْ إِفَاضَةُ عُثْمَانَ، قَالَ: فَأَوْضَعَ النَّاسُ. وَلَمْ يَزِدِ ابْنُ مَسْعُودٍ عَلَى الْعَنَقِ حَتَّى أَتَى جَمْعًا وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ زَكَرِيَّا، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَفَاضَ ابْنُ مَسْعُودٍ مِنْ عَرَفَةَ عَلَى هيئتِهِ لَا يَضْرِبُ بَعِيرَهُ حَتَّى أَتَى جَمْعًا وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَوْضَعَ بِعِيرَهُ فِي وَادِي مُحَسِّرٍ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ مَرْفُوعَةٌ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ فِي صِفَةِ الْحَجِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ.

قَوْلُهُ: (فَلَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ) سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌100 - بَاب مَتَى يُدْفَعُ مِنْ جَمْعٍ

1684 -

حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ يَقُولُ: شَهِدْتُ عُمَرَ رضي الله عنه صَلَّى بِجَمْعٍ الصُّبْحَ ثُمَّ وَقَفَ فَقَالَ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لَا يُفِيضُونَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَيَقُولُونَ: أَشْرِقْ ثَبِيرُ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَالَفَهُمْ ثُمَّ أَفَاضَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ.

[الحديث 1684 - طرفه في: 3838]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَتَى يُدْفَعُ مِنْ جَمْعٍ) أَيْ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) هُوَ السَّبِيعِيُّ.

قَوْلُهُ: (لَا يُفِيضُونَ) زَادَ يَحْيَى الْقَطَّانُ، عَنْ شُعْبَةَ مِنْ جَمْعٍ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَكَذَا هُوَ لِلْمُصَنِّفِ فِي أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ، الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ وَزَادَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، عَنْ سُفْيَانَ حَتَّى يَرَوُا الشَّمْسَ عَلَى ثَبِيرٍ.

قَوْلُهُ: (وَيَقُولُونَ: أَشْرِقْ ثَبِيرُ) أَشْرِقْ: بِفَتْحِ أَوَّلِهِ فِعْلُ أَمْرٍ مِنَ الْإِشْرَاقِ أَيِ ادْخُلْ فِي الشُّرُوقِ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: وَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ كَأَنَّهُ ثُلَاثِيٌّ مِنْ شَرَقَ وَلَيْسَ بِبَيِّنٍ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْمَعْنَى لِتَطْلُعْ عَلَيْكَ الشَّمْسُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَضِئْ يَا جَبَلُ وَلَيْسَ بِبَيِّنٍ أَيْضًا. وَثَبِيرُ بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ جَبَلٌ مَعْرُوفٌ هُنَاكَ وَهُوَ عَلَى يَسَارِ الذَّاهِبِ إِلَى مِنًى وَهُوَ أَعْظَمُ جِبَالِ مَكَّةَ عُرِفَ بِرَجُلٍ مِنْ هُذَيْلٍ اسْمُهُ ثَبِيرٌ دُفِنَ فِيهِ. زَادَ أَبُو الْوَلِيدِ، عَنْ شُعْبَةَ كَيْمَا نُغِيرُ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَمِثْلُهُ لِابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ حَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، وَلِلطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ

ص: 531

إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَشْرِقْ ثَبِيرُ لَعَلَّنَا نُغِيرُ قَالَ الطَّبَرِيُّ: مَعْنَاهُ كَيْمَا نَدْفَعُ لِلنَّحْرِ وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ أَغَارَ الْفَرَسُ إِذَا أَسْرَعَ فِي عَدْوِهِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ بِسُكُونِ الرَّاءِ فِي (ثَبِيرُ) وَفِي (نُغِيرُ) لِإِرَادَةِ السَّجْعِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ أَفَاضَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ) الْإِفَاضَةُ: الدَّفْعَةُ، قَالَهُ الْأَصْمَعِيُّ، وَمِنْهُ أَفَاضَ الْقَوْمُ فِي الْحَدِيثِ إِذَا دَفَعُوا فِيهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ أَفَاضَ عُمَرَ، فَيَكُونَ انْتِهَاءُ حَدِيثِهِ مَا قَبْلَ هَذَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ أَفَاضَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لِعَطْفِهِ عَلَى قَوْلِهِ خَالَفَهُمْ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ شُعْبَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ فَأَفَاضَ وَفِي رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ فَخَالَفَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَفَاضَ وَلِلطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ زَكَرِيَّا، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ بِسَنَدِهِ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ لَا يَنْفِرُونَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَرِهَ ذَلِكَ فَنَفَرَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ.

وَلَهُ مِنْ رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ فَدَفَعَ لِقَدْرِ صَلَاةِ الْقَوْمِ الْمُسْفِرِينَ لِصَلَاةِ الْغَدَاةِ وَأَوْضَحُ مِنْ ذَلِكَ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ عِنْدَ مُسْلِمٍ ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ وَوَحَّدَهُ فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي ذَلِكَ وَصَنِيعُ عُثْمَانَ بِمَا يُوَافِقُهُ، وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ سَأَلْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ: مَتَى دَفَعَ عَبْدُ اللَّهِ مِنْ جَمْعٍ؟ قَالَ: كَانْصِرَافِ الْقَوْمِ الْمُسْفِرِينَ مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ قَالَ: لَمَّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمُزْدَلِفَةِ غَدَا فَوَقَفَ عَلَى قُزَحَ وَأَرْدَفَ الْفَضْلَ ثُمَّ قَالَ: هَذَا الْمَوْقِفُ وَكُلُّ الْمُزْدَلِفَةِ مَوْقِفٌ. حَتَّى إِذَا أَسْفَرَ دَفَعَ. وَأَصْلُهُ فِي التِّرْمِذِيِّ دُونَ قَوْلِهِ حَتَّى إِذَا أَسْفَرَ وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ، وَالطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ حَتَّى إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ فَكَانَتْ عَلَى رُءوسِ الْجِبَالِ كَأَنَّهَا الْعَمَائِمُ عَلَى رُءوسِ الرِّجَالِ دَفَعُوا، فَدَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَسْفَرَ كُلُّ شَيْءٍ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ. وَلِلْبَيْهَقِيِّ مِنْ حَدِيثِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ نَحْوُهُ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ فَضْلُ الدَّفْعِ مِنَ الْمَوْقِفِ بِالْمُزْدَلِفَةِ عِنْدَ الْإِسْفَارِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِيمَنْ دَفَعَ قَبْلَ الْفَجْرِ. وَنَقَلَ الطَّبَرِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَقِفْ فِيهِ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ فَاتَهُ الْوُقُوفُ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَكَانَ الشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ، وَكَانَ مَالِكٌ يَرَى أَنْ يَدْفَعَ قَبْلَ الْإسْفَارِ، وَاحْتَجَّ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُعَجِّلِ الصَّلَاةَ مُغَلِّسًا إِلَّا لِيَدْفَعَ قَبْلَ الشَّمْسِ، فَكُلُّ مَنْ بَعُدَ دَفْعُهُ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ كَانَ أَوْلَى.

‌101 - بَاب التَّلْبِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ غَدَاةَ النَّحْرِ حِينَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ، وَالِارْتِدَافِ فِي السَّيْرِ

1685 -

حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَرْدَفَ الْفَضْلَ، فَأَخْبَرَ الْفَضْلُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى الْجَمْرَةَ.

1686، 1687 - حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ يُونُسَ الْأَيْلِيِّ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رضي الله عنهما كَانَ رِدْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، ثُمَّ أَرْدَفَ الْفَضْلَ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى، قَالَ: فَكِلَاهُمَا قَالَا: لَمْ يَزَلْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ التَّلْبِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ غَدَاةَ النَّحْرِ حَتَّى يَرْمِيَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ حِينَ يَرْمِي وَهُوَ أَصْوَبُ. قَالَ

ص: 532

الْكِرْمَانِيُّ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ التَّكْبِيرِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَشَارَ إِلَى الذِّكْرِ الَّذِي فِي خِلَالِ التَّلْبِيَةِ وَأَرَادَ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى أَنَّ التَّكْبِيرَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ حِينَئِذٍ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَمْ يَزَلْ يَدُلُّ عَلَى إِدَامَةِ التَّلْبِيَةِ وَإِدَامَتُهَا تَدُلُّ عَلَى تَرْكِ مَا عَدَاهَا أَوْ هُوَ مُخْتَصَرٌ مِنْ حَدِيثٍ فِيهِ ذِكْرُ التَّكْبِيرِ. انْتَهَى.

وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ كَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُ فَعِنْدَ أَحْمَدَ، وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، والطَّحَاوِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَا تَرَكَ التَّلْبِيَةَ حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ إِلَّا أَنْ يَخْلِطَهَا بِتَكْبِيرٍ.

قَوْلُهُ: (فَأَخْبَرَ الْفَضْلُ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ فَأَخْبَرَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ الْفَضْلَ أَخْبَرَهُ.

قَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ (فَكِلَاهُمَا) أَيِ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَفِي ذِكْرِ أُسَامَةَ إِشْكَالٌ لِمَا تَقَدَّمَ فِي: بَابُ النُّزُولِ بَيْنَ عَرَفَةَ وَجَمْعٍ أَنَّ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ أَنَّ أُسَامَةَ قَالَ وَانْطَلَقْتُ أَنَا فِي سُبَّاقِ قُرَيْشٍ عَلَى رِجْلَيَّ لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ أَنْ يَكُونَ أُسَامَةُ سَبَقَ إِلَى رَمْيِ الْجَمْرَةِ فَيَكُونَ إِخْبَارُهُ بِمِثْلِ مَا أَخْبَرَ بِهِ الْفَضْلُ مِنَ التَّلْبِيَةِ مُرْسَلًا، لَكِنْ لَا مَانِعَ أَنَّهُ يَرْجِعُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْجَمْرَةِ أَوْ يُقِيمُ بِهَا حَتَّى يَأْتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَمِّ الْحُصَيْنِ قَالَتْ: فَرَأَيْتُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، وَبِلَالًا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَأَحَدُهُمَا آخِذٌ بِخِطَامِ نَاقَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْآخَرُ رَافِعٌ ثَوْبَهُ يَسْتُرُهُ مِنَ الْحَرِّ حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ.

(تَنْبِيهٌ): زَادَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ الْفَضْلِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: فَرَمَاهَا سَبْعَ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ. وَسَيَأْتِي هَذَا الْحُكْمُ بَعْدَ نَيِّفٍ وَثَلَاثِينَ بَابًا.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ التَّلْبِيَةَ تَسْتَمِرُّ إِلَى رَمْيِ الْجَمْرَةِ يَوْمَ النَّحْرِ وَبَعْدَهَا يَشْرَعُ الْحَاجُّ فِي التَّحَلُّلِ. وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ التَّلْبِيَةُ شِعَارُ الْحَجِّ فَإِنْ كُنْتَ حَاجًّا فَلَبِّ حَتَّى بَدْءِ حِلِّكَ، وَبَدْءُ حَلِّكَ أَنْ تَرْمِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ حَجَجْتُ مَعَ عُمَرَ إِحْدَى عَشْرَةَ حِجَّةً وَكَانَ يُلَبِّي حَتَّى يَرْمِيَ الْجَمْرَةَ وَبِاسْتِمْرَارِهَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ وَأَتْبَاعُهُمْ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَقْطَعُ الْمُحْرِمُ التَّلْبِيَةَ إِذَا دَخَلَ الْحَرَمَ وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ لَكِنْ كَانَ يُعَاوِدُ التَّلْبِيَةَ إِذَا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى عَرَفَةَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَقْطَعُهَا إِذَا رَاحَ إِلَى الْمَوْقِفِ رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ عَنْ عَائِشَةَ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَلِيٍّ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَقَيَّدَهُ بِزَوَالِ الشَّمْسِ يَوْمَ عَرَفَةَ وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مِثْلُهُ لَكِنْ قَالَ إِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ يَوْمَ عَرَفَةَ وَهُوَ بِمَعْنَى الْأَوَّلِ.

وَقَدْ رَوَى الطَّحَاوِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ حَجَجْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ فَلَمَّا أَفَاضَ إِلَى جَمْعٍ جَعَلَ يُلَبِّي فَقَالَ رَجُلٌ: أَعْرَابِيٌّ هَذَا؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَنَسِيَ النَّاسُ أَمْ ضَلُّوا وَأَشَارَ الطَّحَاوِيُّ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ تَرْكُ التَّلْبِيَةِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ أَنَّهُ تَرَكَهَا لِلِاشْتِغَالِ بِغَيْرِهَا مِنَ الذِّكْرِ لَا عَلَى أَنَّهَا لَا تُشْرَعُ وَجَمَعَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا اخْتَلَفَ مِنَ الْآثَارِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا هَلْ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ مَعَ رَمْيِ أَوَّلِ حَصَاةٍ أَوْ عِنْدَ تَمَامِ الرَّمْيِ؟ فَذَهَبَ إِلَى الْأَوَّلِ الْجُمْهُورُ، وَإِلَى الثَّانِي أَحْمَدُ وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَيَدُلُّ لَهُمْ مَا رَوَى ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ الْفَضْلِ قَالَ: أَفَضْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ عَرَفَاتٍ فَلَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ ثُمَّ قَطَعَ التَّلْبِيَةَ مَعَ آخِرِ حَصَاةٍ: قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ مُفَسِّرٌ لِمَا أُبْهِمَ فِي الرِّوَايَاتِ الْأُخْرَى وَأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ أَيْ أَتَمَّ رَمْيَهَا.

‌102 - بَاب {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}

ص: 533

الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}

1688 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو جَمْرَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ الْمُتْعَةِ، فَأَمَرَنِي بِهَا، وَسَأَلْتُهُ عَنْ الْهَدْيِ، فَقَالَ: فِيهَا جَزُورٌ أَوْ بَقَرَةٌ أَوْ شَاةٌ أَوْ شِرْكٌ فِي دَمٍ. قَالَ: وَكَأَنَّ نَاسًا كَرِهُوهَا، فَنِمْتُ فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ إِنْسَانًا يُنَادِي: حَجٌّ مَبْرُورٌ وَمُتْعَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ، فَأَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فَحَدَّثْتُهُ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ سُنَّةُ أَبِي الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم،.

قَالَ: وَقَالَ آدَمُ وَوَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ وَغُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ: عُمْرَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ وَحَجٌّ مَبْرُورٌ.

قَوْلُهُ: بَابُ {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} - إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى - {حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَأَبِي الْوَقْتِ، وَسَاقَ فِي طَرِيقِ كَرِيمَةَ مَا بَيْنَ قَوْلِهِ:(الْهَدْيِ) وَقَوْلِهِ: {حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وَغَرَضُ الْمُصَنِّفِ بِذَلِكَ تَفْسِيرُ الْهَدْيِ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا انْتَهَى فِي صِفَةِ الْحَجِّ إِلَى الْوُصُولِ إِلَى مِنًى أَرَادَ أَنْ يَذْكُرَ أَحْكَامَ الْهَدْيِ وَالنَّحْرِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ غَالِبًا بِمِنًى. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {فَمَنْ تَمَتَّعَ} أَيْ فِي حَالِ الْأَمْنِ لِقَوْلِهِ: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ} وَفِيهِ حُجَّةٌ لِلْجُمْهُورِ فِي أَنَّ التَّمَتُّعَ لَا يَخْتَصُّ بِالْمُحْصَرِ.

وَرَوَى الطَّبَرِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ فِي قَوْلِهِ:{فَإِذَا أَمِنْتُمْ} أَيْ مِنَ الْوَجَعِ وَنَحْوِهِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَالْأَشْبَهُ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْأَمْنُ مِنَ الْخَوْفِ لِأَنَّهَا نَزَلَتْ وَهُمْ خَائِفُونَ بِالْحُدَيْبِيَةِ فَبَيَّنَتْ لَهُمْ مَا يَعْمَلُونَ حَالَ الْحَصْرِ وَمَا يَعْمَلُونَ حَالَ الْأَمْنِ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا النَّضْرُ) هُوَ ابْنُ شُمَيْلٍ صَاحِبُ الْعَرَبِيَّةِ.

قَوْلُهُ: (أَبُو جَمْرَةَ) بِالْجِيمِ وَالرَّاءِ وَقَدْ تَقَدَّمَ لِهَذَا الْحَدِيثِ طَرِيقٌ فِي آخِرِ بَابِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ هُنَاكَ وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا بَيَانُ الْهَدْيِ.

قَوْلُهُ: (وَسَأَلْتُهُ) أَيِ ابْنَ عَبَّاسٍ.

قَوْلُهُ: (عَنِ الْهَدْيِ) فَقَالَ فِيهَا أَيِ الْمُتْعَةِ يَعْنِي يَجِبُ عَلَى مَنْ تَمَتَّعَ دَمٌ.

قَوْلُهُ: (جَزُورٌ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَضَمِّ الزَّايِ أَيْ بَعِيرٌ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْجَزْرِ أَيِ الْقَطْعِ وَلَفْظُهَا مُؤَنَّثٌ تَقُولُ هَذِهِ الْجَزُورُ.

قَوْلُهُ: (أَوْ شِرْكٌ) بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ أَيْ مُشَارَكَةٌ فِي دَمٍ أَيْ حَيْثُ يُجْزِئُ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ عَنْ جَمَاعَةٍ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَشْتَرِكَ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ كُلُّ سَبْعَةٍ مِنَّا فِي بَدَنَةِ: وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ سَوَاءٌ كَانَ الْهَدْيُ تَطَوُّعًا أَوْ وَاجِبًا وَسَوَاءٌ كَانُوا كُلُّهُمْ مُتَقَرِّبِينَ بِذَلِكَ أَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ يُرِيدُ التَّقَرُّبَ وَبَعْضُهُمْ يُرِيدُ اللَّحْمَ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يُشْتَرَطُ فِي الِاشْتِرَاكِ أَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ مُتَقَرِّبِينَ بِالْهَدْيِ، وَعَنْ زُفَرَ مِثْلُهُ بِزِيَادَةِ أَنْ تَكُونَ أَسْبَابُهُمْ وَاحِدَةً، وَعَنْ دَاوُدَ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ يُجَوِّزُ فِي هَدْيِ التَّطَوُّعِ دُونَ الْوَاجِبِ، وَعَنْ مَالِكٍ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا، وَاحْتَجَّ لَهُ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي بِأَنَّ حَدِيثَ جَابِرٍ إِنَّمَا كَانَ بِالْحُدَيْبِيَةِ حَيْثُ كَانُوا مُحْصَرِينَ، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَخَالَفَ أَبَا جَمْرَةَ عَنْهُ ثِقَاتُ أَصْحَابِهِ فَرَوَوْا عَنْهُ أَنَّ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ شَاةٌ ثُمَّ سَاقَ ذَلِكَ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ عَنْهُمْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَقَدْ رَوَى لَيْثٌ عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَ رِوَايَةِ أَبِي جَمْرَةَ، وَلَيْثٌ ضَعِيفٌ. قَالَ: وَحَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ مَا كُنْتُ أَرَى أَنَّ دَمًا وَاحِدًا يَقْضِي عَنْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ. انْتَهَى.

وَلَيْسَ بَيْنَ رِوَايَةِ أَبِي جَمْرَةَ وَرِوَايَةِ غَيْرِهِ مُنَافَاةٌ لِأَنَّهُ زَادَ عَلَيْهِمْ ذِكْرَ الِاشْتِرَاكِ وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذِكْرِ الشَّاةِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى الشَّاةِ الرَّدَّ عَلَى مَنْ زَعَمَ اخْتِصَاصَ الْهَدْيِ

ص: 534

بِالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَذَلِكَ وَاضِحٌ فِيمَا سَنَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذَا. وَأَمَّا رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَمُنْقَطِعَةٌ وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ كَانَتْ مُتَّصِلَةً احْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الِاجْتِهَادِ حَتَّى صَحَّ عِنْدَهُ النَّقْلُ بِصِحَّةِ الِاشْتِرَاكِ فَأَفْتَى بِهِ أَبَا جَمْرَةَ وَبِهَذَا تَجْتَمِعُ الْأَخْبَارُ وَهُوَ أَوْلَى مِنَ الطَّعْنِ فِي رِوَايَةِ مَنْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَوْثِيقِهِ وَالِاحْتِجَاجِ بِرِوَايَتِهِ وَهُوَ أَبُو جَمْرَةَ الضُّبَعِيُّ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى التَّشْرِيكَ ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ لَمَّا بَلَغَتْهُ السُّنَّةُ. قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا مُجَاهِدٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ قُلْتُ: الْجَزُورُ وَالْبَقَرَةُ تُجْزِئُ عَنْ سَبْعَةٍ؟ قَالَ: يَا شَعْبِيُّ وَلَهَا سَبْعَةُ أَنْفُسٍ؟ قَالَ قُلْتُ: فَإِنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ يَزْعُمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَنَّ الْجَزُورَ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ. قَالَ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ لِرَجُلٍ: أَكَذَلِكَ يَا فُلَانُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مَا شَعَرْتُ بِهَذَا. وَأَمَّا تَأْوِيلُ إِسْمَاعِيلَ لِحَدِيثِ جَابِرٍ بِأَنَّهُ كَانَ بِالْحُدَيْبِيَةِ فَلَا يَدْفَعُ الِاحْتِجَاجَ بِالْحَدِيثِ، بَلْ رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ جَابِرٍ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ قَالَ: فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَحْلَلْنَا أَنْ نُهْدِيَ وَنَجْمَعَ النَّفَرَ مِنَّا فِي الْهَدِيَّةِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ أَصْلِ الِاشْتِرَاكِ، وَاتَّفَقَ مَنْ قَالَ بِالِاشْتِرَاكِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ فِي أَكْثَرِ مِنْ سَبْعَةٍ إِلَّا إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فَقَالَ: تُجْزِئُ عَنْ عَشَرَةٍ وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَاحْتَجَّ لِذَلِكَ فِي صَحِيحِهِ وَقَوَّاهُ وَاحْتَجَّ لَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ بِحَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَسَمَ فَعَدَلَ عَشْرًا مِنَ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ.

الْحَدِيثَ وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الشَّاةَ لَا يَصِحُّ الِاشْتِرَاكُ فِيهَا وَقَوْلُهُ: أَوْ شَاةٌ هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَرَوَاهُ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ عَنْهُمْ وَرُوِيَا بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمَا كَانَا لَا يَرَيَانِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ إِلَّا مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، وَوَافَقَهُمَا الْقَاسِمُ وَطَائِفَةٌ. قَالَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي فِي: الْأَحْكَامِ لَهُ: أَظُنُّهُمْ ذَهَبُوا إِلَى ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} فَذَهَبُوا إِلَى تَخْصِيصِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْبُدْنِ، قَالَ: وَيَرُدُّ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ}

وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ فِي الظَّبْيِ شَاةً فَوَقَعَ عَلَيْهَا اسْمُ هَدْيٍ. قُلْتُ: قَدِ احْتَجَّ بِذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْهَدْيُ شَاةٌ. فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فقَالَ: أَنَا أَقْرَأُ عَلَيْكُمْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا تَقْوَوْنَ بِهِ، مَا فِي الظَّبْيِ؟ قَالُوا: شَاةٌ. قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} .

قَوْلُهُ: (وَمُتْعَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ) قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَغَيْرُهُ: تَفَرَّدَ النَّضْرُ بِقَوْلِهِ مُتْعَةٌ وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ شُعْبَةَ رَوَاهُ عَنْهُ إِلَّا قَالَ عُمْرَةٌ وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: قَالَ أَصْحَابُ شُعْبَةَ كُلُّهُمْ: عُمْرَةٌ، إِلَّا النَّضْرَ فَقَالَ: مُتْعَةٌ. قُلْتُ: وَقَدْ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ إِلَى هَذَا بِمَا عَلَّقَهُ بَعْدُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ آدَمُ، وَوَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، وَغُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ عُمْرَةٌ إِلَخْ) أَمَّا طَرِيقُ آدَمَ فَوَصَلَهَا عَنْهُ فِي: بَابِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ وَأَمَّا طَرِيقُ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ فَوَصَلَهَا الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَرْزُوقٍ، عَنْ وَهْبٍ، وَأَمَّا طَرِيقُ غُنْدَرٍ فَوَصَلَهَا أَحْمَدُ عَنْهُ، وَأَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي مُوسَى، وَبُنْدَارٍ كِلَاهُمَا عَنْ غُنْدَرٍ.

‌103 - بَاب رُكُوبِ الْبُدْنِ

لِقَوْلِهِ [36 الحج]{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: سُمِّيَتْ الْبُدْنَ لِبُدْنِهَا وَالْقَانِعُ: السَّائِلُ وَالْمُعْتَرُّ: الَّذِي يَعْتَرُّ بِالْبُدْنِ مِنْ غَنِيٍّ أَوْ فَقِيرٍ وَشَعَائِرُ الله: اسْتِعْظَامُ الْبُدْنِ وَاسْتِحْسَانُهَا وَالْعَتِيقُ: عِتْقُهُ مِنْ

ص: 535

الْجَبَابِرَةِ، وَيُقَالُ: وَجَبَتْ: سَقَطَتْ إِلَى الْأَرْضِ وَمِنْهُ: وَجَبَتْ الشَّمْسُ.

1689 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ: ارْكَبْهَا، فَقَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ، فَقَالَ: ارْكَبْهَا، قَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ، قَالَ: ارْكَبْهَا وَيْلَكَ، فِي الثَّالِثَةِ أَوْ فِي الثَّانِيَةِ.

[الحديث 1689 - أطرافه في: 1706، 2755، 6160]

1690 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ وَشُعْبَةُ قَالَا حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلاً يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ ارْكَبْهَا قَالَ إِنَّهَا بَدَنَةٌ قَالَ ارْكَبْهَا قَالَ إِنَّهَا بَدَنَةٌ قَالَ ارْكَبْهَا ثَلَاثًا"

[الحديث 1690 - طرفاه في: 2754، 6159]

قَوْلُهُ: (بَابُ رُكُوبِ الْبُدْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} - إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى - {وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} هَكَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَأَبِي الْوَقْتِ، وَسَاقَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ الْآيَتَيْنِ، وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ لِجَوَازِ رُكُوبِ الْبُدْنِ بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} وَأَشَارَ إِلَى قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} مَنْ شَاءَ رَكِبَ وَمَنْ شَاءَ حَلَبَ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ عَنْهُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ. وَالْبُدْنُ بِسُكُونِ الدَّالِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ عَاصِمٍ بِضَمِّهَا وَأَصْلُهَا مِنَ الْإِبِلِ وَأُلْحِقَتْ بِهَا الْبَقَرُ شَرْعًا.

قَوْلُهُ: (قَالَ مُجَاهِدٌ سُمِّيَتِ الْبُدْنَ لِبَدَنِهَا) هُوَ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْمُهْمَلَةِ لِلْأَكْثَرِ وَبِضَمِّهَا وَسُكُونِ الدَّالِ لِبَعْضِهِمْ وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ لِبَدَانَتِهَا أَيْ سِمَنِهَا، وَكَذَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَتِ الْبُدْنَ مِنْ قِبَلِ السَّمَانَةِ.

قَوْلُهُ: (وَالْقَانِعُ السَّائِلُ، وَالْمُعْتَرُّ الَّذِي يَعْتَرُّ بِالْبُدْنِ مِنْ غَنِيٍّ أَوْ فَقِيرٍ) أَيْ يُطِيفُ بِهَا مُتَعَرِّضًا لَهَا، وَهَذَا التَّعْلِيقُ أَخْرَجَهُ أَيْضًا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ الْأَسْوَدِ قُلْتُ لِمُجَاهِدٍ: مَا الْقَانِعُ؟ قَالَ جَارُكَ الَّذِي يَنْتَظِرُ مَا دَخَلَ بَيْتَكَ، وَالْمُعْتَرُّ الَّذِي يَعْتَرُّ بِبَابِكَ وَيُرِيكَ نَفْسَهُ وَلَا يَسْأَلُكَ شَيْئًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْقَانِعُ هُوَ الطَّامِعُ. وَقَالَ مَرَّةُ: هُوَ السَّائِلُ. وَمِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ فُرَاتٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: الْمُعْتَرُّ الَّذِي يَعْتَرِيكَ يَزُورُكَ وَلَا يَسْأَلُكَ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: الْمُعْتَرُّ الَّذِي يَعْتَرُّ بِالْبُدْنِ مِنْ غَنِيٍّ أَوْ فَقِيرٍ. وَقَالَ الْخَلِيلُ فِي الْعَيْنِ: الْقَنُوعُ الْمُتَذَلِّلُ لِلْمَسْأَلَةِ، قَنَعَ إِلَيْهِ: مَالَ وَخَضَعَ، وَهُوَ السَّائِلُ. وَالْمُعْتَرُّ الَّذِي يَعْتَرِضُ وَلَا يَسْأَلُ. وَيُقَالُ قَنِعَ بِكَسْرِ النُّونِ إِذَا رَضِيَ، وَقَنَعَ بِفَتْحِهَا إِذَا سَأَلَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ الْمُعْتَرِي وَهُوَ بِمَعْنَى الْمُعْتَرِّ.

قَوْلُهُ: (وَشَعَائِرُ اللَّهِ اسْتِعْظَامُ الْبُدْنِ وَاسْتِحْسَانُهَا) أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:{وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} قَالَ: اسْتِعْظَامُ الْبُدْنِ وَاسْتِحْسَانُهَا وَاسْتِسْمَانُهَا. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ لَكِنَّ فِيهِ ابْنَ أَبِي لَيْلَى وَهُوَ سَيِّئُ الْحِفْظِ.

قَوْلُهُ: (وَالْعَتِيقُ عِتْقُهُ مِنَ الْجَبَابِرَةِ) أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْعَتِيقَ لِأَنَّهُ أُعْتِقَ مِنَ الْجَبَابِرَةِ. وَقَدْ جَاءَ هَذَا مَرْفُوعًا أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ

ص: 536

عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ.

قَوْلُهُ: (وَيُقَالُ وَجَبَتْ سَقَطَتْ إِلَى الْأَرْضِ وَمِنْهُ وَجَبَتِ الشَّمْسُ) هُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فَإِذَا وَجَبَتْ أَيْ سَقَطَتْ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقَيْنِ عَنْ مُجَاهِدٍ.

قَوْلُهُ: (عَنِ الْأَعْرَجِ) لَمْ تَخْتَلِفِ الرُّوَاةُ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ فِيهِ وَرَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ فَقَالَ عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَوْ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْهُ. وَقَدْ رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ بِالْإِسْنَادَيْنِ مُفَرَّقًا.

قَوْلُهُ: (رَأَى رَجُلًا) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ بَعْدَ طُولِ الْبَحْثِ.

قَوْلُهُ: (يَسُوقُ بَدَنَةً) كَذَا فِي مُعْظَمِ الْأَحَادِيثِ وَوَقَعَ لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ بُكَيْرِ بْنِ الْأَخْنَسِ، عَنْ أَنَسٍ مَرَّ بِبَدَنَةٍ أَوْ هَدْيَةٍ وَلِأَبِي عَوَانَةَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَوْ هَدْيٍ وَهُوَ مِمَّا يُوَضِّحُ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْبَدَنَةِ مُجَرَّدَ مَدْلُولِهَا اللُّغَوِيِّ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ بَيْنَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَدَنَةً مُقَلَّدَةً وَكَذَا فِي طَرِيقِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَسَيَأْتِي لِلْمُصَنِّفِ فِي: بَابِ تَقْلِيدِ الْبُدْنِ أَنَّهَا كَانَتْ مُقَلَّدَةً نَعْلًا.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ ارْكَبْهَا) زَادَ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، وَالْجَوْزَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ كِلَاهُمَا عَنْ أَنَسٍ وَقَدْ جَهَدَهُ الْمَشْيُ وَلِأَبِي يَعْلَى مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسٍ حَافِيًا لَكِنَّهَا ضَعِيفَةٌ.

قَوْلُهُ: (وَيْلَكَ فِي الثَّانِيَةِ أَوْ فِي الثَّالِثَةِ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَيْلَكَ ارْكَبْهَا، وَيْلَكَ ارْكَبْهَا وَلِأَحْمَدَ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَالثَّوْرِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي الزِّنَادِ وَمِنْ طَرِيقِ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ ارْكَبْهَا وَيْحَكَ. قَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ. قَالَ: ارْكَبْهَا وَيْحَكَ زَادَ أَبُو يَعْلَى مِنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ فَرَكِبَهَا وَقَدْ قُلْنَا إِنَّهَا ضَعِيفَةٌ، لَكِنْ سَيَأْتِي لِلْمُصَنِّفِ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ رَاكِبَهَا يُسَايِرُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَالنَّعْلُ فِي عُنُقِهَا وَتَبَيَّنَ بِهَذِهِ الطُّرُقِ أَنَّهُ أَطْلَقَ الْبَدَنَةَ عَلَى الْوَاحِدَةِ مِنَ الْإِبِلِ الْمُهْدَاةِ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَدْلُولَهَا اللُّغَوِيَّ لَمْ يَحْصُلِ الْجَوَابُ بِقَوْلِهِ إِنَّهَا بَدَنَةٌ لِأَنَّ كَوْنَهَا مِنَ الْإِبِلِ مَعْلُومٌ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الرَّجُلَ ظَنَّ أَنَّهُ خَفِيَ كَوْنُهَا هَدْيًا فَلِذَلِكَ قَالَ إِنَّهَا بَدَنَةٌ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَمْ يَخْفَ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِكَوْنِهَا كَانَتْ مُقَلَّدَةً وَلِهَذَا قَالَ لَهُ لَمَّا زَادَ فِي مُرَاجَعَتِهِ وَيْلَكَ وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ رُكُوبِ الْهَدْيِ سَوَاءٌ كَانَ وَاجِبًا أَوْ مُتَطَوَّعًا بِهِ ; لِكَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْتَفْصِلْ صَاحِبَ الْهَدْيِ عَنْ ذَلِكَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَلِفُ بِذَلِكَ. وَأَصْرَحُ مِنْ هَذَا مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ: أَنَّهُ سُئِلَ: هَلْ يَرْكَبُ الرَّجُلُ هَدْيَهُ؟ فَقَالَ: لَا بَأْسَ قَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَمُرُّ بِالرِّجَالِ يَمْشُونَ فَيَأْمُرُهُمْ يَرْكَبُونَ هَدْيَهُ.

أَيْ هَدْيَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، إِسْنَادُهُ صَالِحٌ. وَبِالْجَوَازِ مُطْلَقًا قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَنَسَبَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، لِأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ وَهُوَ الَّذِي جَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ فِي: الرَّوْضَةِ تَبَعًا لِأَصْلِهِ فِي الضَّحَايَا وَنَقَلَهُ فِي: شَرْحِ الْمُهَذَّبِ عَنِ الْقَفَّالِ، وَالْمَاوَرْدِيِّ، وَنَقَلَ فِيهِ عَنْ أَبِي حَامِدٍ، وَالْبَنْدَنِيجِيِّ وَغَيْرِهِمَا تَقْيِيدَهُ بِالْحَاجَةِ، وَقَالَ الرُّويَانِيُّ: تَجْوِيزُهُ بِغَيْرِ حَاجَةٍ يُخَالِفُ النَّصَّ، وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَطْلَقَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ كَرَاهَةَ رُكُوبِهَا بِغَيْرِ حَاجَةٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَقَيَّدَهُ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِالِاضْطِرَارِ إِلَى ذَلِكَ، وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنِ الشَّعْبِيِّ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَلَفْظُهُ: لَا يَرْكَبُ الْهَدْيَ إِلَّا مَنْ لَا يَجِدُ مِنْهُ بُدًّا. وَلَفْظُ الشَّافِعِيِّ الَّذِي نَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَتَرْجَمَ لَهُ الْبَيْهَقِيُّ: يَرْكَبُ إِذَا اضْطُرَّ رُكُوبًا غَيْرَ فَادِحٍ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، عَنْ مَالِكٍ: يَرْكَبُ لِلضَّرُورَةِ فَإِذَا اسْتَرَاحَ نَزَلَ.

وَمُقْتَضَى مَنْ قَيَّدَهُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ مَنِ انْتَهَتْ ضَرُورَتُهُ لَا يَعُودُ إِلَى رُكُوبِهَا إِلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ أُخْرَى، وَالدَّلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِ هَذِهِ الْقُيُودِ الثَّلَاثَةِ - وَهِيَ الِاضْطِرَارُ وَالرُّكُوبُ بِالْمَعْرُوفِ وَانْتِهَاءُ الرُّكُوبِ بِانْتِهَاءِ الضَّرُورَةِ - مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ ارْكَبْهَا بِالْمَعْرُوفِ إِذَا أُلْجِئْتَ إِلَيْهَا حَتَّى تَجِدَ ظَهْرًا فَإِنَّ مَفْهُومَهُ أَنَّهُ إِذَا وَجَدَ غَيْرَهَا تَرَكَهَا، رَوَى سَعِيدُ بْنُ

ص: 537

مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: يَرْكَبُهَا إِذَا أَعْيَا قَدْرَ مَا يَسْتَرِيحُ عَلَى ظَهْرِهَا. وَفِي الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبٌ خَامِسٌ وَهُوَ الْمَنْعُ مُطْلَقًا نَقَلَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَشَنَّعَ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ الَّذِي نَقَلَهُ الطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُ الْجَوَازُ بِقَدَرِ الْحَاجَةِ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: وَمَعَ ذَلِكَ يَضْمَنُ مَا نَقَصَ مِنْهَا بِرُكُوبِهِ. وَضَمَانُ النَّقْصِ وَافَقَ عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْهَدْيِ الْوَاجِبِ كَالنَّذْرِ. وَمَذْهَبٌ سَادِسٌ وَهُوَ وُجُوبُ ذَلِكَ نَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الظَّاهِرِ تَمَسُّكًا بِظَاهِرِ الْأَمْرِ وَالمُخَالَفَة مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَرَدَّهُ بِأَنِ الَّذِينَ سَاقُوا الْهَدْيَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانُوا كَثِيرًا وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِذَلِكَ. انْتَهَى. وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَلَهُ شَاهِدٌ مُرْسَلٌ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي: الْمَرَاسِيلِ عَنْ عَطَاءٍ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ بِالْبَدَنَةِ إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهَا سَيِّدُهَا أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا وَيَرْكَبَهَا غَيْرَ مُنْهِكِهَا.

قُلْتُ: مَاذَا؟ قَالَ: الرَّاجِلُ وَالْمُتَيِّعُ الْيَسِيرُ فَإِنْ نَتَجَتْ حَمَلَ عَلَيْهَا وَلَدَهَا

(1)

وَلَا يَمْتَنِعُ الْقَوْلُ بِوُجُوبِهِ إِذَا تَعَيَّنَ طَرِيقًا إِلَى إِنْقَاذِ مُهْجَةِ إِنْسَانٍ مِنَ الْهَلَاكِ. وَاخْتَلَفَ الْمُجِيزُونَ هَلْ يَحْمِلُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ؟ فَمَنَعَهُ مَالِكٌ وَأَجَازَهُ الْجُمْهُورُ. وَهَلْ يَحْمِلُ عَلَيْهَا غَيْرَهُ؟ أَجَازَهُ الْجُمْهُورُ أَيْضًا عَلَى التَّفْصِيلِ الْمُتَقَدِّمِ. وَنَقَلَ عِيَاضٌ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُؤْجِرُهَا. وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ فِي: اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ: قَالَ أَصْحَابُنَا وَالشَّافِعِيُّ إِنِ احْتَلَبَ مِنْهَا شَيْئًا تَصَدَّقَ بِهِ، فَإِنْ أَكَلَهُ تَصَدَّقَ بِثَمَنِهِ وَيَرْكَبُ إِذَا احْتَاجَ فَإِنْ نَقَصَهُ ذَلِكَ ضَمِنَ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَشْرَبُ مِنْ لَبَنِهِ فَإِنْ شَرِبَ لَمْ يَغْرَمْ. وَلَا يَرْكَبُ إِلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ فَإِنْ رَكِبَ لَمْ يَغْرَمْ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: لَا يَرْكَبُ إِلَّا إِذَا اضْطُرَّ.

قَوْلُهُ: (وَيْلَكَ) قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَهَا لَهُ تَأْدِيبًا لِأَجْلِ مُرَاجَعَتِهِ لَهُ مَعَ عَدَمِ خَفَاءِ الْحَالِ عَلَيْهِ، وَبِهَذَا جَزَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَابْنُ الْعَرَبِيِّ وَبَالَغَ حَتَّى قَالَ: الْوَيْلُ لِمَنْ رَاجَعَ فِي ذَلِكَ بَعْدَ هَذَا، قَالَ: وَلَوْلَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اشْتَرَطَ عَلَى رَبِّهِ مَا اشْتَرَطَ لَهَلَكَ ذَلِكَ الرَّجُلُ لَا مَحَالَةَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فُهِمَ عَنْهُ أَنَّهُ يَتْرُكُ رُكُوبَهَا عَلَى عَادَةِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي السَّائِبَةِ وَغَيْرِهَا فَزَجَرَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَعَلَى الْحَالَتَيْنِ هِيَ إِنْشَاءٌ. وَرَجَّحَهُ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ قَالُوا: وَالْأَمْرُ هُنَا وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ لِلْإِرْشَادِ لَكِنَّهُ اسْتَحَقَّ الذَّمَّ بِتَوَقُّفِهِ عَلَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ مَا تَرَكَ الِامْتِثَالَ عِنَادًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ظَنَّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ غُرْمٌ بِرُكُوبِهَا أَوْ إِثْمٌ وَأَنَّ الْإِذْنَ الصَّادِرَ لَهُ بِرُكُوبِهَا إِنَّمَا هُوَ لِلشَّفَقَةِ عَلَيْهِ فَتَوَقَّفَ فَلَمَّا أَغْلَظَ لَهُ بَادَرَ إِلَى الِامْتِثَالِ. وَقِيلَ لِأَنَّهُ كَانَ أَشْرَفَ عَلَى هَلَكه مِنَ الْجَهْدِ. وَوَيْلٌ كَلِمَةٌ تُقَالُ لِمَنْ وَقَعَ فِي هَلَكَةٍ، فَالْمَعْنَى أَشْرَفْتَ عَلَى الْهَلَكَةِ فَارْكَبْ فَعَلَى هَذَا هِيَ إِخْبَارٌ وَقِيلَ هِيَ كَلِمَةٌ تَدْعَمُ بِهَا الْعَرَبُ كَلَامَهَا وَلَا تَقْصِدُ مَعْنَاهَا كَقَوْلِهِ لَا أُمَّ لَكَ وَيُقَوِّيهِ مَا تَقَدَّمَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِلَفْظِ: وَيْحَكَ بَدَلَ وَيْلَكَ، قَالَ الْهَرَوِيُّ: وَيْلٌ يُقَالُ لِمَنْ وَقَعَ فِي هَلَكَةٍ يَسْتَحِقُّهَا وَوَيْحٌ لِمَنْ وَقَعَ فِي هَلَكَةٍ لَا يَسْتَحِقُّهَا.

وَفِي الْحَدِيثِ تَكْرِيرُ الْفَتْوَى وَالنَّدْبُ إِلَى الْمُبَادَرَةِ إِلَى امْتِثَالِ أَمْر وَزَجْرُ مَنْ لَمْ يُبَادِرْ إِلَى ذَلِكَ وَتَوْبِيخُهُ وَجَوَازُ مُسَايَرَةِ الْكِبَارِ فِي السَّفَرِ وَأَنَّ الْكَبِيرَ إِذَا رَأَى مَصْلَحَةً لِلصَّغِيرِ لَا يَأْنَفُ عَنِ إِرْشَادِهِ إِلَيْهَا، وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ الْمُصَنِّفُ جَوَازَ انْتِفَاعِ الْوَاقِفِ بِوَقْفِهِ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلْجُمْهُورِ فِي الْأَوْقَافِ الْعَامَّةِ أَمَّا الْخَاصَّةُ فَالْوَقْفُ عَلَى النَّفْسِ لَا يَصِحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَكَانِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَنَسٍ) فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ، عَنْ شُعْبَةَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ.

قَوْلُهُ: (قَالَ ارْكَبْهَا ثَلَاثًا) كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ مُخْتَصَرًا وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ قَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ، قَالَ ارْكَبْهَا. قَالَ إِنَّهَا بَدَنَةٌ، قَالَ ارْكَبْهَا. ثَلَاثًا. وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو مُسْلِمٍ الْكَجِّيُّ فِي السُّنَنِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ شَيْخِ

(1)

في "مراسيل أبي داود" المطبوعة بمصر سنة 1310 ص 19 "قلت ماذا؟ قال: الرجل الراجل والمتبع السير، وإن نتجت حمل عليها ولدها وعدله"

ص: 538

الْبُخَارِيِّ فِيهِ وَمِنْ طَرِيقِهِ أَبُو نُعَيْمٍ فِي: الْمُسْتَخْرَجِ. وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنْ أَبِي خَلِيفَةَ، عَنْ مُسْلِمٍ كَذَلِكَ لَكِنْ قَالَ فِي آخِرِهِ وَيْلَكَ بَدَلَ ثَلَاثًا وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ فَقَالَ لَهُ فِي الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ: ارْكَبْهَا وَيْحَكَ أَوْ وَيْلَكَ وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ فِي الرَّابِعَةِ: ارْكَبْهَا وَيْلَكَ.

‌104 - بَاب مَنْ سَاقَ الْبُدْنَ مَعَهُ

1691 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، وَأَهْدَى فَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، فَكَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ أَهْدَى فَسَاقَ الْهَدْيَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُهْدِ، فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ، قَالَ لِلنَّاسِ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِشَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَلْيُقَصِّرْ وَلْيَحْلِلْ ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالْحَجِّ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، فَطَافَ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ، وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ أَوَّلَ شَيْءٍ، ثُمَّ خَبَّ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ، وَمَشَى أَرْبَعًا، فَرَكَعَ حِينَ قَضَى طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ عِنْدَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ فَانْصَرَفَ، فَأَتَى الصَّفَا، فَطَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَطْوَافٍ، ثُمَّ لَمْ يَحْلِلْ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى قَضَى حَجَّهُ وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ وَأَفَاضَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ، وَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ أَهْدَى وَسَاقَ الْهَدْيَ مِنْ النَّاسِ.

1692 -

وَعَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَخْبَرَتْهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي تَمَتُّعِهِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَهُ بِمِثْلِ الَّذِي أَخْبَرَنِي سَالِمٌ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ سَاقَ الْبُدْنَ مَعَهُ) أَيْ مِنَ الْحِلِّ إِلَى الْحَرَمِ قَالَ الْمُهَلَّبُ: أَرَادَ الْمُصَنِّفُ أَنْ يُعَرِّفَ أَنَّ السُّنَّةَ فِي الْهَدْيِ أَنْ يُسَاقَ مِنَ الْحِلِّ إِلَى الْحَرَمِ فَإِنِ اشْتَرَاهُ مِنَ الْحَرَمِ خَرَجَ بِهِ إِذَا حَجَّ إِلَى عَرَفَةَ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَعَلَيْهِ الْبَدَلُ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنْ وَقَفَ بِهِ بِعَرَفَةَ فَحَسَنٌ وَإِلَّا فَلَا بَدَلَ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ بِسُنَّةٍ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا سَاقَ الْهَدْيَ مِنَ الْحِلِّ لِأَنَّ مَسْكَنَهُ كَانَ خَارِجَ الْحَرَمِ. وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْإِبِلِ، فَأَمَّا الْبَقَرُ فَقَدْ يَضْعُفُ عَنْ ذَلِكَ وَالْغَنَمُ أَضْعَفُ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ مَالِكٌ: لَا يُسَاقُ إِلَّا مِنْ عَرَفَةَ أَوْ مَا قَرُبَ مِنْهَا لِأَنَّهَا تَضْعُفُ عَنْ قَطْعِ طُولِ الْمَسَافَةِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عُقَيْلٍ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ عَنْ أَبِيهِ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ.

قَوْلُهُ: (تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) قَالَ الْمُهَلَّبُ: مَعْنَاهُ أَمَرَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ يُنْكِرُ عَلَى أَنَسٍ قَوْلَهُ أَنَّهُ قَرَنَ وَيَقُولُ بَلْ كَانَ مُفْرِدًا، وَأَمَّا قَوْلُهُ وَبَدَأَ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ فَمَعْنَاهُ أَمَرَهُمْ بِالتَّمَتُّعِ وَهُوَ أَنْ يُهِلُّوا بِالْعُمْرَةِ أَوَّلًا وَيُقَدِّمُوهَا قَبْلَ الْحَجِّ قَالَ: وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ لِدَفْعِ التَّنَاقُضِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. قُلْتُ: لَمْ يَتَعَيَّنْ هَذَا التَّأْوِيلُ الْمُتَعَسِّفُ وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: إِنَّ حَمْلَ قَوْلِهِ تَمَتَّعَ عَلَى مَعْنَى أَمَرَ مِنْ أَبْعَدِ التَّأْوِيلَاتِ وَالِاسْتِشْهَادُ

ص: 539

عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ رَجَمَ وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالرَّجْمِ مِنْ أَوْهَنِ الِاسْتِشْهَادَاتِ لِأَنَّ الرَّجْمَ مِنْ وَظِيفَةِ الْإِمَامِ وَالَّذِي يَتَوَلَّاهُ إِنَّمَا يَتَوَلَّاهُ نِيَابَةً عَنْهُ، وَأَمَّا أَعْمَالُ الْحَجِّ مِنَ إِفْرَادٍ وَقِرَانٍ وَتَمَتُّعٍ فَإِنَّهُ وَظِيفَةُ كُلِّ أَحَدٍ عَنْ نَفْسِهِ. ثُمَّ أَجَازَ تَأْوِيلًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الرَّاوِيَ عَهِدَ أَنَّ النَّاسَ لَا يَفْعَلُونَ إِلَّا كَفِعْلِهِ لَا سِيَّمَا مَعَ قَوْلِهِ: خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ. فَلَمَّا تَحَقَّقَ أَنَّ النَّاسَ تَمَتَّعُوا ظَنَّ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام تَمَتَّعَ فَأَطْلَقَ ذَلِكَ. قُلْتُ: وَلَمْ يَتَعَيَّنْ هَذَا أَيْضًا بَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَمَتَّعَ مَحْمُولًا عَلَى مَدْلُولِهِ اللُّغَوِيِّ وَهُوَ الِانْتِفَاعُ بِإِسْقَاطِ عَمَلِ الْعُمْرَةِ وَالْخُرُوجِ إِلَى مِيقَاتِهَا وَغَيْرِهَا، بَلْ قَالَ النَّوَوِيُّ: إنَّ هَذَا هُوَ الْمُتَعَيِّنُ.

قَالَ: وَقَوْلُهُ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ أَيْ بِإِدْخَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي: بَابِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ تَقْرِيرَ هَذَا التَّأْوِيلِ وَإِنَّمَا الْمُشْكِلُ هُنَا قَوْلُهُ بَدَأَ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ فِي هَذَا الْبَابِ اسْتَقَرَّ كَمَا تَقَدَّمَ عَلَى أَنَّهُ بَدَأَ أَوَّلًا بِالْحَجِّ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهِ الْعُمْرَةَ وَهَذَا بِالْعَكْسِ.

وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ صُورَةُ الْإِهْلَالِ أَيْ لَمَّا أَدْخَلَ الْعُمْرَةَ عَلَى الْحَجِّ لَبَّى بِهِمَا فَقَالَ: لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ مَعًا. وَهَذَا مُطَابِقٌ لِحَدِيثِ أَنَسٍ الْمُتَقَدِّمِ لَكِنْ قَدْ أَنْكَرَ ابْنُ عُمَرَ ذَلِكَ عَلَى أَنَسٍ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ إِنْكَارُ ابْنِ عُمَرَ عَلَيْهِ كَوْنَهُ أَطْلَقَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ بَيْنَهُمَا أَيْ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ وَيُعَيِّنُ هَذَا التَّأْوِيلَ قَوْلُهُ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ وَتَمَتَّعَ النَّاسُ إِلَخْ فَإِنَّ الَّذِينَ تَمَتَّعُوا إِنَّمَا بَدَءُوا بِالْحَجِّ لَكِنْ فَسَخُوا حَجَّهُمْ إِلَى الْعُمْرَةِ حَتَّى حَلُّوا بَعْدَ ذَلِكَ بِمَكَّةَ ثُمَّ حَجُّوا مِنْ عَامِهِمْ.

قَوْلُهُ: (فَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ) أَيْ مِنَ الْمِيقَاتِ وَفِيهِ النَّدْبُ إِلَى سَوْقِ الْهَدْي مِنَ الْمَوَاقِيتِ وَمِنَ الْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ وَهِيَ مِنَ السُّنَنِ الَّتِي أَغْفَلَهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ مِنْ شَيْءٍ) تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي حَدِيثِ حَفْصَةَ فِي: بَابِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ.

قَوْلُهُ: (وَيُقَصِّرْ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَأَمَّا الْأَكْثَرُ فَعِنْدَهُمْ وَلْيُقَصِّرْ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَفْعَلُ الطَّوَافَ وَالسَّعْيَ وَالتَّقْصِيرَ وَيَصِيرُ حَلَالًا وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَلْقَ أَوِ التَّقْصِيرَ نُسُكٌ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَقِيلَ اسْتِبَاحَةُ مَحْظُورٍ. قَالَ: وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِالتَّقْصِيرِ دُونَ الْحَلْقِ مَعَ أَنَّ الْحَلْقَ أَفْضَلُ لِيَبْقَى لَهُ شَعْرٌ يَحْلِقُهُ فِي الْحَجِّ.

قَوْلُهُ: (وَلْيَحْلِلْ) هُوَ أَمْرٌ مَعْنَاهُ الْخَبَرُ أَيْ قَدْ صَارَ حَلَالًا فَلَهُ فِعْلُ كُلِّ مَا كَانَ مَحْظُورًا عَلَيْهِ فِي الْإِحْرَامِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا عَلَى الْإِبَاحَةِ لِفِعْلِ مَا كَانَ عَلَيْهِ حَرَامًا قَبْلَ الْإِحْرَامِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالْحَجِّ) أَيْ يُحْرِمُ وَقْتَ خُرُوجِهِ إِلَى عَرَفَةَ وَلِهَذَا أَتَى بِثُمَّ الدَّالَّةِ عَلَى التَّرَاخِي فَلَمْ يُرِدْ أَنه يُهِلَّ بِالْحَجِّ عَقِبَ إِهْلَالِهِ مِنَ الْعُمْرَةِ.

قَوْلُهُ: (وَلْيُهْدِ)

(1)

أَيْ هَدْيَ التَّمَتُّعِ وَهُوَ وَاجِبٌ بِشُرُوطِهِ.

قَوْلُهُ: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ) أَيْ لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ بِذَلِكَ الْمَكَانِ، وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بِأَنْ يَعْدَمَ الْهَدْيَ أَوْ يَعْدَمَ ثَمَنَهُ حِينَئِذٍ أَوْ يَجِدَ ثَمَنَهُ لَكِنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِأَهَمِّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ يَجِدَهُ لَكِنْ يَمْتَنِعُ صَاحِبُهُ مِنْ بَيْعِهِ أَوْ يَمْتَنِعُ مِنْ بَيْعِهِ إِلَّا بِغَلَائِهِ فَيَنْقُلُ إِلَى الصَّوْمِ كَمَا هُوَ نَصُّ الْقُرْآنِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي الْحَجِّ أَيْ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِهِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا هُوَ الْأَفْضَلُ فَإِنْ صَامَهَا قَبْلَ الْإِهْلَالِ بِالْحَجِّ أَجْزَأَهُ عَلَى الصَّحِيحِ وَأَمَّا قَبْلَ التَّحَلُّلِ مِنَ الْعُمْرَةِ فَلَا عَلَى الصَّحِيحِ قَالَهُ مَالِكٌ، وَجَوَّزَهُ الثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَمَنِ اسْتَحَبَّ صِيَامَ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ قَالَ: يُحْرِمُ يَوْمَ السَّابِعِ لِيَصُومَ السَّابِعَ وَالثَّامِنَ وَالتَّاسِعَ وَإِلَّا فَيُحْرِمُ يَوْمَ السَّادِسِ لِيُفْطِرَ بِعَرَفَةَ فَإِنْ فَاتَهُ الصَّوْمُ قَضَاهُ وَقِيلَ يَسْقُطُ وَيَسْتَقِرُّ الْهَدْيُ فِي ذِمَّتِهِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ. وَفِي صَوْمِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لِهَذَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيَّةِ أَظْهَرُهُمَا لَا يَجُوزُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَأَصَحُّهُمَا مِنْ حَيْثُ الدَّلِيلُ الْجَوَازُ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ خَبَّ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي: بَابِ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى السَّعْيِ فِي بَابِهِ، وَقَوْلُهُ (ثُمَّ سَلَّمَ فَانْصَرَفَ فَأَتَى الصَّفَا) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَهُمَا

(1)

هذه الكلمة ليست في نسخ الصحيح التي بأيدينا.

ص: 540

عَمَلٌ آخَرُ، لَكِنْ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ فِي صِفَةِ الْحَجِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْحَجَرِ فَاسْتَلَمَهُ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَابِ الصَّفَا.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ) تَقَدَّمَ أَنَّ سَبَبَ عَدَمِ إِحْلَالِهِ كَوْنُهُ سَاقَ الْهَدْيَ، وَإِلَّا لَكَانَ يَفْسَخُ الْحَجَّ إِلَى الْعُمْرَةِ وَيَتَحَلَّلُ مِنْهَا كَمَا أَمَرَ بِهِ أَصْحَابَهُ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ التَّحَلُّلَ لَا يَقَعُ بِمُجَرَّدِ طَوَافِ الْقُدُومِ خِلَافًا لِابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ وَاضِحٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ. وَقَوْلُهُ (وَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ) إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ خُصُوصِيَّتِهِ بِذَلِكَ.

وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ طَوَافِ الْقُدُومِ لِلْقَارِنِ وَالرَّمَلِ فِيهِ إِنْ عَقَّبَهُ بِالسَّعْيِ، وَتَسْمِيَةُ السَّعْيِ طَوَافًا، وَطَوَافُ الْإِفَاضَةِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْحَلْقَ لَيْسَ بِرُكْنٍ، وَلَيْسَ بِوَاضِحٍ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِ ذِكْرِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنْ لَا يَكُونَ وَقَعَ بَلْ هُوَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ حَتَّى قَضَى حَجَّهُ.

(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ بَيْنَ قَوْلِهِ وَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ قَوْلِهِ مَنْ أَهْدَى وَسَاقَ الْهَدْيَ مِنَ النَّاسِ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْوَقْتِ لَفْظُ بَابٍ وَقَالَ فِيهِ عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ إِلَخْ وَهُوَ خَطَأٌ شَنِيعٌ فَإِنَّ قَوْلَهُ مَنْ أَهْدَى فَاعِلُ قَوْلِهِ وَفَعَلَ فَالْفَصْلُ بَيْنَهُمَا بِلَفْظِ بَابٍ خَطَأٌ وَيَصِيرُ فَاعِلُ فَعَلَ مَحْذُوفًا، وَأَغْرَبَ الْكِرْمَانِيُّ فَشَرَحَهُ عَلَى أَنَّ فَاعِلَ فَعَلَ هُوَ ابْنُ عُمَرَ رَاوِي الْخَبَرِ وَأَمَّا أَبُو نُعَيْمٍ فِي: الْمُسْتَخْرَجِ فَسَاقَ الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ إِلَخْ ثُمَّ أَعَادَ هَذَا اللَّفْظَ بِتَرْجَمَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ، وَسَاقَ حَدِيثَ عَائِشَةَ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي قَبْلَهُ وَقَالَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ وَهَذَا غَرِيبٌ

(1)

وَالْأَصْوَبُ مَا رَوَاهُ الْأَكْثَرُ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْوَلِيدِ الْبَاجِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ بَعْدَ قَوْلِهِ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاصِلَةٌ صُورَتُهَا (.) وَبَعْدَهَا مَنْ أَهْدَى وَسَاقَ الْهَدْيَ مِنَ النَّاسِ وَعَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ. قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ: أَمَرَنَا أَبُو ذَرٍّ أَنَّ نَضْرِبَ عَلَى هَذِهِ التَّرْجَمَةِ يَعْنِي قَوْلَهُ مَنْ أَهْدَى وَسَاقَ الْهَدْيَ مِنَ النَّاسِ. انْتَهَى. وَهُوَ عَجِيبٌ مِنْ أَبِي الْوَلِيدِ وَمِنْ شَيْخِهِ فَإِنَّ قَوْلَهُ مَنْ أَهْدَى هُوَ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ وَفَعَلَ وَلَكِنَّهُمَا ظَنَّا أَنَّهَا تَرْجَمَةٌ فَحَكَمَا عَلَيْهَا بِالْوَهْمِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ.

وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ شُعَيْبٍ فَسَاقَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ إِلَى قَوْلِهِ مِنَ النَّاسِ ثُمَّ أَعَادَ الْإِسْنَادَ بِعَيْنِهِ إِلَى عَائِشَةَ قَالَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي تَمَتُّعِهِ بِالْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ وَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَهُ بِمِثْلِ الَّذِي أَخْبَرَنِي سَالِمٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَقَدْ تَعَقَّبَ الْمُهَلَّبُ قَوْلَ الزُّهْرِيِّ بِمِثْلِ الَّذِي أَخْبَرَنِي سَالِمٌ فَقَالَ: يَعْنِي مِثْلَهُ فِي الْوَهْمِ لِأَنَّ أَحَادِيثَ عَائِشَةَ كُلَّهَا شَاهِدَةٌ بِأَنَّهُ حَجَّ مُفْرِدًا. قُلْتُ: وَلَيْسَ وَهْمًا إِذْ لَا مانِعَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِمِثْلِ مَا جَمَعْنَا بِهِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْإِفْرَادِ فِي حَدِيثِهَا الْبُدَاءَةُ بِالْحَجِّ وَبِالتَّمَتُّعِ بِالْعُمْرَةِ إِدْخَالَهَا عَلَى الْحَجِّ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَوْهِيمِ جَبَلٍ مِنْ جِبَالِ الْحِفْظِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌105 - بَاب مَنْ اشْتَرَى الْهَدْيَ مِنْ الطَّرِيقِ

1693 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم لِأَبِيهِ: أَقِمْ فَإِنِّي لَا آمَنُهَا أَنْ تُصَدّ عَنْ الْبَيْتِ. قَالَ: إِذن أَفْعَلُ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فَأَنَا أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ عَلَى نَفْسِي الْعُمْرَةَ، فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ. قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْبَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَقَالَ: مَا شَأْنُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إِلَّا وَاحِدٌ ثُمَّ اشْتَرَى الْهَدْيَ مِنْ قُدَيْدٍ ثُمَّ قَدِمَ فَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا فَلَمْ يَحِلَّ حَتَّى حَلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا.

(1)

في نسخة "قريب"

ص: 541

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنِ اشْتَرَى الْهَدْيَ مِنَ الطَّرِيقِ) أَيْ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْحِلِّ أَوِ الْحَرَمِ إِذْ سَوْقُهُ مَعَهُ مِنْ بَلَدِهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ مَذْهَبَ ابْنِ عُمَرَ فِي الْهَدْيِ أَنَّهُ مَا أُدْخِلَ مِنَ الْحِلِّ إِلَى الْحَرَمِ لِأَنَّ قَدِيدًا مِنَ الْحِلِّ. قُلْتُ: لَا يَخْفَى أَنَّ التَّرْجَمَةَ أَعَمُّ مِنْ فِعْلِ ابْنِ عُمَرَ فَكَيْفَ تَكُونُ بَيَانًا لَهُ.

قَوْلُهُ: (فَإِنِّي لَا آمَنُهَا) بِالْمَدِّ وَفَتْحِ الْمِيمِ الْخَفِيفَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي: بَابِ طَوَافِ الْقَارِنِ بِلَفْظِ لَا آمَنُ وَالْهَاءُ هُنَا ضَمِيرُ الْفِتْنَةِ أَيْ لَا آمَنُ الْفِتْنَةَ أَنْ تَكُونَ سَبَبًا فِي صَدِّكَ عَنِ الْبَيْتِ وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي: بَابِ الْمُحْصَرِ مَعَ بَقِيَّةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ هُنَا لَا أَيْمَنُهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ ضَبْطُهُ وَشَرْحُهُ فِي: بَابِ طَوَافِ الْقَارِنِ.

قَوْلُهُ: (أَنْ تُصَدَّ) فِي رِوَايَةِ السَّرَخْسِيِّ أَنْ سَتُصَدَّ.

قَوْلُهُ: (فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ) زَادَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ مِنَ الدَّارِ وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِي النُّعْمَانِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ.

وَيُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ الْإِحْرَامِ مِنْ قَبْلِ الْمِيقَاتِ، وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ اخْتِلَافٌ: فَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعَ عَلَى الْجَوَازِ، ثُمَّ قِيلَ هُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْإِحْرَامِ مِنَ الْمِيقَاتِ، وَقِيلَ دُونَهُ، وَقِيلَ مِثْلُهُ، وَقِيلَ مَنْ كَانَ لَهُ مِيقَاتٌ مُعَيَّنٌ فَهُوَ فِي حَقِّهِ أَفْضَلُ وَإِلَّا فَمِنْ دَارِهِ، وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي أَرْجَحِيَّةِ الْمِيقَاتِ عَنِ الدَّارِ اخْتِلَافٌ، وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: يُؤْخَذُ مِنْ تَعْلِيلِهِمْ أَنَّ مَنْ أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ كَانَ أَرْجَحَ فِي حَقِّهِ وَإِلَّا فَمِنَ الْمِيقَاتِ أَفْضَلُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَكَرِهَ عُثْمَانُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ خُرَاسَانَ أَوْ كَرْمَانَ فِي: بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}

قَوْلُهُ: (فَلَمْ يَحِلَّ حَتَّى حَلَّ) فِي رِوَايَةِ السَّرَخْسِيِّ حَتَّى أَحَلَّ بِزِيَادَةِ أَلِفٍ وَالْحَاءُ مَفْتُوحَةٌ وَهِيَ لُغَةٌ شَهِيرَةٌ يُقَالُ: حَلَّ وَأَحَلَّ.

‌106 - بَاب مَنْ أَشْعَرَ وَقَلَّدَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ ثُمَّ أَحْرَمَ

وَقَالَ نَافِعٌ كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما إِذَا أَهْدَى مِنْ الْمَدِينَةِ قَلَّدَهُ وَأَشْعَرَهُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ

يَطْعُنُ فِي شِقِّ سَنَامِهِ الْأَيْمَنِ بِالشَّفْرَةِ وَوَجْهُهَا قِبَلَ الْقِبْلَةِ بَارِكَةً

1694، 1695 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَمَرْوَانَ، قَالَا: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي بِضْعَ عَشْرَةَ مِائَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِذِي الْحُلَيْفَةِ قَلَّدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْهَدْيَ وَأَشْعَرَ، وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ.

[الحديث 1494 - أطرافه في: 1811، 2712، 2731، 4158، 4178، 4181]

[الحديث 1695 - أطرافه في: 2711، 2732، 4157، 4179، 4180]

1696 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا أَفْلَحُ، عَنْ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: فَتَلْتُ قَلَائِدَ بُدْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِيَدَيَّ، ثُمَّ قَلَّدَهَا وَأَشْعَرَهَا وَأَهْدَاهَا، فَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَانَ أُحِلَّ لَهُ.

[الحديث 1696 - أطرافه في: 1698، 1699، 1700، 1701، 1702، 1703، 1704، 1705، 2317، 5566]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أَشْعَرَ وَقَلَّدَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ ثُمَّ أَحْرَمَ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: غَرَضُهُ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ لَا يُشْعِرَ الْمُحْرِمُ وَلَا يُقَلِّدَ إِلَّا فِي مِيقَاتِ بَلَدِهِ. انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ غَرَضَهُ الْإِشَارَةُ إِلَى رَدِّ قَوْلِ مُجَاهِدٍ لَا يُشْعِرُ حَتَّى يُحْرِمَ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، لِقَوْلِهِ فِي التَّرْجَمَةِ مَنْ أَشْعَرَ ثُمَّ أَحْرَمَ وَوَجْهُ الدِّلَالَةِ لِذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ الْمِسْوَرِ قَوْلُهُ: حَتَّى إِذَا كَانُوا بِذِي الْحُلَيْفَةِ قَلَّدَ الْهَدْيَ وَأَحْرَمَ. فَإِنَّ ظَاهِرَهُ الْبُدَاءَةُ بِالتَّقْلِيدِ، وَمِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَوْلُهُ ثُمَّ قَلَّدَهَا وَأَشْعَرَهَا

ص: 542

وَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَقَدُّمَ الْإِحْرَامِ لَيْسَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ التَّقْلِيدِ وَالْإِشْعَارِ.

وَأَبْيَنُ مِنْ ذَلِكَ لِتَحْصِيلِ مَقْصُودِ التَّرْجَمَةِ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ ثُمَّ دَعَا بِنَاقَتِهِ فَأَشْعَرَهَا فِي سَنَامِهَا الْأَيْمَنِ وَسَلَتَ الدَّمَ وَقَلَّدَهَا نَعْلَيْنِ ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ فَلَمَّا اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالْحَجِّ: وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ الْمِسْوَرِ حَيْثُ سَاقَهُ الْمُصَنِّفُ مُطَوَّلًا فِي كِتَابِ الشُّرُوطِ وَعَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ بَعْدَ بَابَيْنِ.

قَوْلُهُ: (زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ) وَقَعَ عِنْدَ الْكُشْمِيهَنِيِّ مِنَ الْمَدِينَةِ.

قَوْلُهُ فِي صَدْرِ الْبَابِ (وَقَالَ نَافِعٌ كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِلَخْ) وَصَلَهُ مَالِكٌ فِي: الْمُوَطَّأِ قَالَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَهْدَى هَدْيًا مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى سَاكِنِهَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَلَّدَهُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ يُقَلِّدُهُ قَبْلَ أَنْ يُشْعِرَهُ وَذَلِكَ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْقِبْلَةِ يُقَلِّدُهُ بِنَعْلَيْنِ وَيُشْعِرُهُ مِنَ الشِّقِّ الْأَيْسَرِ ثُمَّ يُسَاقُ مَعَهُ حَتَّى يُوقَفَ بِهِ مَعَ النَّاسِ بِعَرَفَةَ ثُمَّ يَدْفَعُ بِهِ فَإِذَا قَدِمَ غَدَاةَ النَّحْرِ نَحَرَهُ. وَعَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ كَانَ إِذَا طَعَنَ فِي سَنَامِ هَدْيِهِ وَهُوَ يُشْعِرُهُ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُشْعِرُ بُدْنَهُ مِنَ الشِّقِّ الْأَيْسَرِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ صِعَابًا، فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَدْخُلَ بَيْنَهَا أَشْعَرَ مِنَ الشِّقِّ الْأَيْمَنِ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُشْعِرَهَا وَجَّهَهَا إِلَى الْقِبْلَةِ وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَطْعَنُ فِي الْأَيْمَنِ تَارَةً وَفِي الْأَيْسَرِ أُخْرَى بِحَسَبِ مَا يَتَهَيَّأُ لَهُ ذَلِكَ، وَإِلَى الْإِشْعَارِ فِي الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَإِلَى الْأَيْسَرِ ذَهَبَ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَلَمْ أَرَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ ذَلِكَ عَلى إِحْرَامِهِ. وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي: الِاسْتِذْكَارِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: لَا يُشْعِرُ الْهَدْيَ إِلَّا عِنْدَ الْإِهْلَالِ يُقَلِّدُهُ ثُمَّ يُشْعِرُهُ ثُمَّ يُصَلِّي ثُمَّ يُحْرِمُ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَشْرُوعِيَّةُ الْإِشْعَارِ وَفَائِدَتُهُ الْإِعْلَامُ بِأَنَّهَا صَارَتْ هَدْيًا لِيَتْبَعَهَا مَنْ يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ وَحَتَّى لَوِ اخْتَلَطَتْ بِغَيْرِهَا تَمَيَّزَتْ أَوْ ضَلَّتْ عُرِفَتْ أَوْ عَطِبَتْ عَرَفَهَا الْمَسَاكِينُ بِالْعَلَامَةِ فَأَكَلُوهَا مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْظِيمِ شِعَارِ الشَّرْعِ وَحَثِّ الْغَيْرِ عَلَيْهِ. وَأَبْعَدَ مَنْ مَنَعَ الْإِشْعَارَ وَاعْتَلَّ بِاحْتِمَالِ أَنَّهُ كَانَ مَشْرُوعًا قَبْلَ النَّهْيِ عَنِ الْمُثْلَةِ فَإِنَّ النَّسْخَ لَا يُصَارُ إِلَيْهِ بِالِاحْتِمَالِ، بَلْ وَقَعَ الْإِشْعَارُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَذَلِكَ بَعْدَ النَّهْيِ عَنِ الْمُثْلَةِ بِزَمَانٍ وَسَيَأْتِي نَقْلُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ بَعْدَ بَابٍ.

‌107 - بَاب فَتْلِ الْقَلَائِدِ لِلْبُدْنِ وَالْبَقَرِ

1697 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ حَفْصَةَ رضي الله عنهم قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ؟ قَالَ: إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي وَقَلَّدْتُ هَدْيِي، فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَحِلَّ مِنْ الْحَجِّ.

1698 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ وَعَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُهْدِي مِنْ الْمَدِينَةِ، فَأَفْتِلُ قَلَائِدَ هَدْيِهِ، ثُمَّ لَا يَجْتَنِبُ شَيْئًا مِمَّا يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ فَتْلِ الْقَلَائِدِ لِلْبُدْنِ وَالْبَقَرِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ حَفْصَةَ مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا وَحَدِيثَ عَائِشَةَ: كَانَ يُهْدِي مِنَ الْمَدِينَةِ فَأَفْتِلُ قَلَائِدَ هَدْيِهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثَيْنِ ذِكْرُ الْبَقَرِ إِلَّا أَنَّهُمَا مُطْلَقَانِ وَقَدْ

ص: 543

صَحَّ أَنَّهُ أَهْدَاهُمَا جَمِيعًا، كَذَا قَالَ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ حَدِيثَ عَائِشَةَ: دَخَلَ عَلَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ. الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ، وَلَا دِلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ سَاقَ الْبَقَرَ، وَتَرْجَمَةُ الْبُخَارِيِّ صَحِيحَةٌ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْهَدْيِ فِي الْحَدِيثِ الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ مَعًا فَلَا كَلَامٌ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْإِبِلَ خَاصَّةً فَالْبَقَرُ فِي مَعْنَاهَا، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ حَفْصَةَ مُسْتَوْفًى فِي: بَابِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ وَمُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ التَّقْلِيدَ يَسْتَلْزِمُ تَقَدُّمَ الْفَتْلِ عَلَيْهِ، وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ حَدِيثُ عَائِشَةَ الْمَذْكُورُ مَعَهُ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ بَعْدَ بَابٍ. (تَنْبِيهٌ): أَخَذَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ اقْتِصَارِ الْبُخَارِيِّ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ عَلَى الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِمَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنَّ الْغَنَمَ لَا تُقَلَّدُ، وَغَفَلَ هَذَا الْمُتَأَخِّرُ عَنْ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَفْرَدَ تَرْجَمَةً لِتَقْلِيدِ الْغَنَمِ بَعْدَ أَبْوَابٍ يَسِيرَةٍ كَعَادَتِهِ فِي تَفْرِيقِ الْأَحْكَامِ فِي التَّرَاجِمِ.

‌108 - بَاب إِشْعَارِ الْبُدْنِ

وَقَالَ عُرْوَةُ عَنْ الْمِسْوَرِ رضي الله عنه: قَلَّدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم

الْهَدْيَ وَأَشْعَرَهُ وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ

1699 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: فَتَلْتُ قَلَائِدَ هَدْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ أَشْعَرَهَا وَقَلَّدَهَا أَوْ قَلَّدْتُهَا، ثُمَّ بَعَثَ بِهَا إِلَى الْبَيْتِ، وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ فَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَانَ لَهُ حِلٌّ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِشْعَارِ الْبُدْنِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عُرْوَةَ، عَنِ الْمِسْوَرِ مُعَلَّقًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا قَبْلَ بَابٍ.

وَحَدِيثَ عَائِشَةَ: فَتَلْتُ قَلَائِدَ هَدْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ أَشْعَرَهَا وَقَلَّدَهَا. الْحَدِيثَ، وفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الْإِشْعَارِ وَهُوَ أَنْ يَكْشِطَ جِلْدَ الْبَدَنَةِ حَتَّى يَسِيلَ دَمٌ ثُمَّ يَسْلِتُهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَامَةً عَلَى كَوْنِهَا هَدْيًا، وَبِذَلِكَ قَالَ الْجُمْهُورُ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلفِ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِي: اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ كَرَاهَتَهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَذَهَبَ غَيْرُهُ إِلَى اسْتِحْبَابِهِ لِلِاتِّبَاعِ، حَتَّى صَاحِبَاهُ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ فَقَالَا: هُوَ حَسَنٌ. قَالَ وَقَالَ مَالِكٌ: يَخْتَصُّ الْإِشْعَارُ بِمَنْ لَهَا سَنَامٌ، قَالَ الطَّحَاوِيُّ: ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ التَّخْيِيرُ فِي الْإِشْعَارِ وَتَرْكِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِنُسُكٍ لَكِنَّهُ غَيْرُ مَكْرُوهٍ لِثُبُوتِ فِعْلِهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ: اعْتِلَالُ مَنْ كَرِهَ الْإِشْعَارَ بِأَنَّهُ مِنَ الْمُثْلَةِ مَرْدُودٌ بَلْ هُوَ بَابٌ آخَرُ كَالْكَيِّ وَشَقِّ أُذُنِ الْحَيَوَانِ لِيَصِيرَ عَلَامَةً وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْوَسْمِ. وَكَالْخِتَانِ وَالْحِجَامَةِ، وَشَفَقَةُ الْإِنْسَانِ عَلَى الْمَالِ عَادَةٌ فَلَا يُخْشَى مَا تَوَهَّمُوهُ مِنْ سَرَيَانِ الْجُرْحِ حَتَّى يُفْضِيَ إِلَى الْهَلَاكِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْمَلْحُوظَ لَقَيَّدَهُ الَّذِي كَرِهَهُ بِهِ كَأَنْ يَقُولَ: الْإِشْعَارُ الَّذِي يُفْضِي بِالْجُرْحِ إِلَى السِّرَايَةِ حَتَّى تَهْلِكَ الْبَدَنَةُ مَكْرُوهٌ فَكَانَ قَرِيبًا.

وَقَدْ كَثُرَ تَشْنِيعُ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي إِطْلَاقِهِ كَرَاهَةَ الْإِشْعَارِ وَانْتَصَرَ لَهُ الطَّحَاوِيُّ فِي: الْمَعَانِي فَقَالَ: لَمْ يَكْرَهْ أَبُو حَنِيفَةَ أَصْلَ الْإِشْعَارِ وَإِنَّمَا كَرِهَ مَا يُفْعَلُ عَلَى وَجْهٍ يُخَافُ مِنْهُ هَلَاكُ الْبُدْنِ كَسِرَايَةِ الْجُرْحِ لَا سِيَّمَا مَعَ الطَّعْنِ بِالشَّفْرَةِ فَأَرَادَ سَدَّ الْبَابِ عَنِ الْعَامَّةِ لِأَنَّهُمْ لَا يُرَاعُونَ الْحَدَّ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ عَارِفًا بِالسُّنَّةِ فِي ذَلِكَ فَلَا. وَفِي هَذَا تَعَقُّبٌ عَلَى الْخَطَّابِيِّ حَيْثُ قَالَ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا كَرِهَ الْإِشْعَارَ إِلَّا أَبَا حَنِيفَةَ، وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ فَقَالَا بِقَوْلِ الْجَمَاعَةِ. انْتَهَى. وَرُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَيْضًا أَنَّهُ كَرِهَ الْإِشْعَارَ ذَكَرَ ذَلِكَ التِّرْمِذِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا السَّائِبِ يَقُولُ كُنَّا عِنْدَ وَكِيعٍ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: رُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْإِشْعَارُ مُثْلَةٌ فَقَالَ لَهُ وَكِيعٌ: أَقُولُ لَكَ أَشْعَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَتَقُولُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ؟ مَا أَحَقَّكَ بِأَنْ تُحْبَسَ. انْتَهَى. وَفِيهِ

ص: 544

تَعَقُّبٌ عَلَى ابْنِ حَزْمٍ فِي زَعْمِهِ أَنَّهُ لَيْسَ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ سَلَفٌ. وَقَدْ بَالَغَ ابْنُ حَزْمٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَيَتَعَيَّنُ الرُّجُوعُ إِلَى مَا قَالَ الطَّحَاوِيُّ فَإِنَّهُ أَعْلَمُ مِنْ غَيْرِهِ بِأَقْوَالِ أَصْحَابِهِ.

(تَنْبِيهٌ): اتَّفَقَ مَنْ قَالَ بِالْإِشْعَارِ بِإِلْحَاقِ الْبَقَرِ فِي ذَلِكَ بِالْإِبِلِ، إِلَّا سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْغَنَمَ لَا تُشْعَرُ لِضَعْفِهَا، وَلِكَوْنِ صُوفِهَا أَوْ شَعْرِهَا يَسْتُرُ مَوْضِعَ الْإِشْعَارِ، وَأَمَّا عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ فَلِكَوْنِهَا لَيْسَتْ ذَاتَ أَسْنِمَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌109 - بَاب مَنْ قَلَّدَ الْقَلَائِدَ بِيَدِهِ

1700 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّ زِيَادَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ كَتَبَ إِلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها: إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: مَنْ أَهْدَى هَدْيًا حَرُمَ عَلَيْهِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْحَاجِّ حَتَّى يُنْحَرَ هَدْيُهُ. قَالَتْ عَمْرَةُ: فَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: لَيْسَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَنَا فَتَلْتُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدَيَّ، ثُمَّ قَلَّدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدَيْهِ، ثُمَّ بَعَثَ بِهَا مَعَ أَبِي، فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْءٌ أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ حَتَّى نُحِرَ الْهَدْيُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ قَلَّدَ الْقَلَائِدَ بِيَدِهِ) أَيِ الْهَدَايَا، وَلَهُ حَالَانِ: إِمَّا أَنْ يَسُوقَ الْهَدْيَ وَيَقْصِدَ النُّسُكَ فَإِنَّمَا يُقَلِّدُهَا وَيُشْعِرُهَا عِنْدَ إِحْرَامِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَسُوقَهُ وَيُقِيمَ فَيُقَلِّدَهَا مِنْ مَكَانِهِ وَهُوَ مُقْتَضَى حَدِيثِ الْبَابِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَا يُقَلِّدُ بِهِ بَعْدَ بَابٍ، وَالْغَرَضُ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِابْتِدَاءِ التَّقْلِيدِ لِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ عَائِشَةَ ثُمَّ قَلَّدَهَا بِيَدِهِ بَيَانًا لِحِفْظِهَا لِلْأَمْرِ وَمَعْرِفَتِهَا بِهِ ويُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَرَادَتْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَنَاوَلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَعَلِمَ وَقْتَ التَّقْلِيدِ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَمْتَنِعْ مِنْ شَيْءٍ يَمْتَنِعُ مِنْهُ الْمُحْرِمُ لِئَلَّا يَظُنَّ أَحَدٌ أَنَّهُ اسْتَبَاحَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ بِتَقْلِيدِ الْهَدْيِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَسَقَطَ عَمْرٌو مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَعَمْرَةُ هِيَ خَالَةُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّاوِي عَنْهَا، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ إِلَّا شَيْخَ الْبُخَارِيِّ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ زِيَادَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ) كَذَا وَقَعَ فِي: الْمُوَطَّأِ وَكَأَنَّ شَيْخَ مَالِكٍ حَدَّثَ بِهِ كَذَلِكَ فِي زَمَنِ بَنِي أُمَيَّةَ وَأَمَّا بَعْدَهُمْ فَمَا كَانَ يُقَالُ لَهُ إِلَّا زِيَادُ ابْنُ أَبِيهِ وَقَبْلَ اسْتِلْحَاقِ مُعَاوِيَةَ لَهُ كَانَ يُقَالُ لَهُ زِيَادُ بْنُ عُبَيْدٍ وَكَانَتْ أُمُّهُ سُمَيَّةُ مَوْلَاةَ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ الثَّقَفِيِّ تَحْتَ عُبَيْدٍ الْمَذْكُورِ فَوَلَدَتْ زِيَادًا عَلَى فِرَاشِهِ فَكَانَ يُنْسَبُ إِلَيْهِ فَلَمَّا كَانَ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ شَهِدَ جَمَاعَةٌ عَلَى إِقْرَارِ أَبِي سُفْيَانَ بِأَنَّ زِيَادًا وَلَدَهُ فَاسْتَلْحَقَهُ مُعَاوِيَةُ لِذَلِكَ وَزَوَّجَ ابْنَهُ ابْنَتَهُ وَأَمَّرَ زِيَادًا عَلَى الْعِرَاقَيْنِ - الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ - جَمَعَهُمَا لَهُ وَمَاتَ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ. (تَنْبِيهٌ): وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ ابْنَ زِيَادٍ بَدَلَ قَوْلِهِ أَنَّ زِيَادَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَهُوَ وَهْمٌ نَبَّهَ عَلَيْهِ الْغَسَّانِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَجَمِيعُ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَى صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَالصَّوَابُ مَا وَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ وَهُوَ الْمَوْجُودُ عِنْدَ جَمِيعِ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ) زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ: وَقَدْ بَعَثْتُ بِهَدْيِي فَاكْتُبِي إِلَيَّ بِأَمْرِكِ. زَادَ الطَّحَاوِيُّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ: أَوْ مُرِي صَاحِبَ الْهَدْيِ. أَيِ الَّذِي مَعَهُ الْهَدْيُ أَيْ بِمَا يَصْنَعُ.

قَوْلُهُ: (قَالَتْ عَمْرَةُ) هُوَ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ. وَقَدْ رَوَى الْحَدِيثَ الْمَرْفُوعَ عَنْ عَائِشَةَ الْقَاسِمُ، وَعُرْوَةُ كَمَا مَضَى قَرِيبًا مُخْتَصَرًا، وَرَوَاهُ عَنْهَا أَيْضًا مَسْرُوقٌ وَسَيَأْتِي فِي آخِرِ الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ مُخْتَصَرًا، وَأَوْرَدَهُ فِي الضَّحَايَا مُطَوَّلًا وَتَرْجَمَ هُنَاكَ عَلَى حُكْمِ مَنْ أَهْدَى وَأَقَامَ هَلْ يَصِيرُ مُحْرِمًا أَوْ لَا؟ وَلَمْ يُتَرْجِمْ

ص: 545

بِهِ هُنَا، وَلَفْظُهُ هُنَاكَ عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ رَجُلًا يَبْعَثُ بِالْهَدْيِ إِلَى الْكَعْبَةِ وَيَجْلِسُ فِي الْمِصْرِ فَيُوصِي أَنْ تُقَلَّدَ بَدَنَتُهُ فَلَا يَزَالُ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ مُحْرِمًا حَتَّى يَحِلَّ النَّاسُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ نَحْوَهُ. وَلَفْظُ الطَّحَاوِيِّ فِي حَدِيثِ مَسْرُوقٍ قَالَ قُلْتُ لِعَائِشَةَ: إِنَّ رِجَالًا هَاهُنَا يَبْعَثُونَ بِالْهَدْيِ إِلَى الْبَيْتِ وَيَأْمُرُونَ الَّذِي يَبْعَثُونَ مَعَهُ بِمُعَلِّمٍ لَهُمْ يُقَلِّدُهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَلَا يَزَالُونَ مُحْرِمِينَ حَتَّى يَحِلَّ النَّاسُ الْحَدِيثَ.

وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا مُحَدِّثٌ عَنْ عَائِشَةَ وَقِيلَ لَهَا إِنَّ زِيَادًا إِذَا بَعَثَ بِالْهَدْيِ أَمْسَكَ عَمَّا يُمْسِكُ عَنْهُ الْمُحْرِمُ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَوَلَهُ كَعْبَةٌ يَطُوفُ بِهَا. قَالَ وَحَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ بَلَغَ عَائِشَةَ أَنَّ زِيَادًا بَعَثَ بِالْهَدْيِ وَتَجَرَّدَ فَقَالَتْ: إِنْ كُنْتُ لَأَفْتِلُ قَلَائِدَ هَدْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يَبْعَثُ بِهَا وَهُوَ مُقِيمٌ عِنْدَنَا مَا يَجْتَنِبُ شَيْئًا. وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَدِيرِ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا مُتَجَرِّدًا بِالْعِرَاقِ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا إِنَّهُ أَمَرَ بِهَدْيِهِ أَنْ يُقَلَّدَ، قَالَ رَبِيعَةُ: فَلَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: بِدْعَةٌ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَنَّ رَبِيعَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَأَى ابْنَ عَبَّاسٍ وَهُوَ أَمِيرٌ عَلَى الْبَصْرَةِ فِي زَمَانِ عَلِيٍّ مُتَجَرِّدًا عَلَى مِنْبَرِ الْبَصْرَةِ فَذَكَرَهُ، فَعُرِفَ بِهَذَا اسْمُ الْمُبْهَمِ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ.

قَالَ ابْنُ التِّينِ: خَالَفَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي هَذَا جَمِيعَ الْفُقَهَاءِ، وَاحْتَجَّتْ عَائِشَةُ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَا رَوَتْهُ فِي ذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يُصَارَ إِلَيْهِ وَلَعَلَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَجَعَ عَنْهُ. انْتَهَى. وَفِيهِ قُصُورٌ شَدِيدٌ فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يَنْفَرِدْ بِذَلِكَ بَلْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمُ ابْنُ عُمَرَ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ كِلَاهُمَا عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا بَعَثَ بِالْهَدْيِ يُمْسِكُ عَمَّا يُمْسِكُ عَنْهُ الْمُحْرِمُ إِلَّا أَنَّهُ لَا يُلَبِّي وَمِنْهُمْ قَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْهُ نَحْوَ ذَلِكَ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ أَنَّهُمَا قَالَا فِي الرَّجُلِ يُرْسِلُ بِبَدَنَتِهِ أَنَّهُ يُمْسِكُ عَمَّا يُمْسِكُ عَنْهُ الْمُحْرِمُ وَهَذَا مُنْقَطِعٌ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ، وَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَعَطَاءٌ، وَابْنُ سِيرِينَ وَآخَرُونَ: مَنْ أَرْسَلَ الْهَدْيَ وَأَقَامَ حَرُمَ عَلَيْهِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ.

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَعَائِشَةُ، وَأَنَسٌ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَآخَرُونَ: لَا يَصِيرُ بِذَلِكَ مُحْرِمًا وَإِلَى ذَلِكَ صَارَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ، وَمِنْ حُجَّةِ الْأَوَّلِينَ مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ جَابِرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَدَّ قَمِيصَهُ مِنْ جَيْبِهِ حَتَّى أَخْرَجَهُ مِنْ رِجْلَيْهِ وَقَالَ: إِنِّي أَمَرْتُ بِبُدْنِيَ الَّتِي بَعَثْتُ بِهَا أَنْ تُقَلَّدَ الْيَوْمَ وَتُشْعَرَ عَلَى مَكَانِ كَذَا فَلَبِسْتُ قَمِيصِي وَنَسِيتُ فَلَمْ أَكُنْ لِأُخْرِجَ قَمِيصِي مِنْ رَأْسِي: الْحَدِيثَ وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ لِضَعْفِ إِسْنَادِهِ إِلَّا أَنَّ نِسْبَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَى التَّفَرُّدِ بِذَلِكَ خَطَأٌ. وَقَدْ ذَهَبَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجْتَنِبُ شَيْئًا مِمَّا يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ إِلَّا الْجِمَاعَ لَيْلَةَ جَمْعٍ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

نَعَمْ جَاءَ عَنِ الزُّهْرِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ اسْتَقَرَّ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَفِي نُسْخَةِ أَبِي الْيَمَانِ، عَنْ شُعَيْبٍ عَنْهُ وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ قَالَ أَوَّلُ مَنْ كَشَفَ الْعَمَى عَنِ النَّاسِ وَبَيَّنَ لَهُمُ السُّنَّةَ فِي ذَلِكَ عَائِشَةُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ عَنْ عُرْوَةَ، وَعَمْرَةَ عَنْهَا قَالَ فَلَمَّا بَلَغَ النَّاسَ قَوْلُ عَائِشَةَ أَخَذُوا بِهِ وَتَرَكُوا فَتْوَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْفَتْوَى إِلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ النُّسُكَ صَارَ بِمُجَرَّدِ تَقْلِيدِهِ الْهَدْيَ مُحْرِمًا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، قَالَ: وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ وَأَمَّ الْبَيْتَ ثُمَّ قَلَّدَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ، قَالَ: وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا يَصِيرُ بِتَقْلِيدِ الْهَدْيِ مُحْرِمًا وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَنَقَلَ الْخَطَّابِيُّ عَنْ أَصْحَابِ الرَّأْيِ مِثْلَ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ خَطَأٌ عَلَيْهِمْ فالطَّحَاوِيُّ أَعْلَمُ بِهِمْ مِنْهُ. وَلَعَلَّ

ص: 546

الْخَطَّابِيَّ ظَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ.

قَوْلُهُ: (بِيَدِي) فِيهِ رَفْعُ مَجَازِ أَنْ تَكُونَ أَرَادَتْ أَنَّهَا فَتَلَتْ بِأَمْرِهَا.

قَوْلُهُ: (مَعَ أَبِي) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ الْخَفِيفَةِ تُرِيدُ بِذَلِكَ أَبَاهَا أَبَا بَكْرٍ الصَّدِيقَ. وَاسْتُفِيدَ مِنْ ذَلِكَ وَقْتَ الْبَعْثِ وَأَنَّهُ كَانَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ عَامَ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ بِالنَّاسِ.

قَالَ ابْنُ التِّينِ: أَرَادَتْ عَائِشَةُ بِذَلِكَ عِلْمَهَا بِجَمِيعِ الْقِصَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تُرِيدَ أَنَّهُ آخِرُ فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ حَجَّ فِي الْعَامِ الَّذِي يَلِيهِ حَجَّةَ الْوَدَاعِ لِئَلَّا يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ فَأَرَادَتْ إِزَالَةَ هَذَا اللَّبْسِ وَأَكْمَلَتْ ذَلِكَ بِقَوْلِهَا فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَانَ لَهُ حِلًّا حَتَّى نَحَرَ الْهَدْيَ أَيْ وَانْقَضَى أَمْرُهُ وَلَمْ يُحْرِمْ، وَتَرْكُ إِحْرَامِهِ بَعْدَ ذَلِكَ أَحْرَى وَأَوْلَى لِأَنَّهُ إِذَا انْتَفَى فِي وَقْتِ الشُّبْهَةِ فَلَأَنْ يَنْتَفِيَ عِنْدَ انْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ أَوْلَى. وَحَاصِلُ اعْتِرَاضِ عَائِشَةَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى مَا أَفْتَى بِهِ قِيَاسًا لِلتَّوْلِيَةِ فِي أَمْرِ الْهَدْيِ عَلَى الْمُبَاشَرَةِ لَهُ فَبَيَّنَتْ عَائِشَةُ أَنَّ هَذَا الْقِيَاسَ لَا اعْتِبَارَ لَهُ فِي مُقَابَلَةِ هَذِهِ السُّنَّةِ الظَّاهِرَةِ.

وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ: تَنَاوُلُ الْكَبِيرِ الشَّيْءَ بِنَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ لَهُ مَنْ يَكْفِيهِ إِذَا كَانَ مِمَّا يُهْتَمُّ بِهِ وَلَا سِيَّمَا مَا كَانَ مِنْ إِقَامَةِ الشَّرَائِعِ وَأُمُورِ الدِّيَانَةِ. وَفِيهِ تَعَقُّبُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ عَلَى بَعْضٍ، وَرَدُّ الِاجْتِهَادِ بِالنَّصِّ، وَأَنَّ الْأَصْلَ فِي أَفْعَالِهِ صلى الله عليه وسلم التَّأَسِّي بِهِ حَتَّى تَثْبُتَ الْخُصُوصِيَّةُ.

‌110 - بَاب تَقْلِيدِ الْغَنَمِ

1701 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: أَهْدَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَرَّةً غَنَمًا.

1702 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ، عَنْ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كُنْتُ أَفْتِلُ الْقَلَائِدَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيُقَلِّدُ الْغَنَمَ وَيُقِيمُ فِي أَهْلِهِ حَلَالًا.

1703 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ، ح، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كُنْتُ أَفْتِلُ قَلَائِدَ الْغَنَمِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَيَبْعَثُ بِهَا، ثُمَّ يَمْكُثُ حَلَالًا.

1704 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: فَتَلْتُ لِهَدْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَعْنِي: الْقَلَائِدَ - قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ تَقْلِيدِ الْغَنَمِ) قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَنْكَرَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ تَقْلِيدَهَا. زَادَ غَيْرُهُ: وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يُبْلُغْهُمُ الْحَدِيثُ وَلَمْ نَجِدْ لَهُمْ حُجَّةً إِلَّا قَوْلَ بَعْضِهِمْ: إِنَّهَا تَضْعُفُ عَنِ التَّقْلِيدِ، وَهِيَ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّقْلِيدِ الْعَلَامَةُ، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا لَا تُشْعَرُ لِأَنَّهَا تَضْعُفُ عَنْهُ فَتُقَلَّدُ بِمَا لَا يُضْعِفُهَا، وَالْحَنَفِيَّةُ فِي الْأَصْلِ يَقُولُونَ: لَيْسَتِ الْغَنَمُ مِنَ الْهَدْيِ فَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: احْتَجَّ مَنْ لَمْ يَرَ بِإِهْدَاءِ الْغَنَمِ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم حَجَّ مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَمْ يُهْدِ فِيهَا غَنَمًا. انْتَهَى.

وَمَا أَدْرِي مَا وَجْهُ الْحُجَّةِ مِنْهُ لِأَنَّ حَدِيثَ الْبَابِ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ أَرْسَلَ بِهَا وَأَقَامَ وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ حَجَّتِهِ قَطْعًا فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ لِأَنَّ مُجَرَّدَ التَّرْكِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَسْخِ الْجَوَازِ ثُمَّ مَنِ الَّذِي صَرَّحَ مِنَ الصَّحَابَةِ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي هَدَايَاهُ فِي حَجَّتِهِ غَنَمٌ حَتَّى يَسُوغَ الِاحْتِجَاجُ بِذَلِكَ؟ ثُمَّ سَاقَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ

ص: 547

عَطَاءٍ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ، وَأَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِمْ قَالُوا: رَأَيْنَا الْغَنَمَ تُقَدَّمُ مُقَلَّدَةً. وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ الرَّدُّ عَلَى مَنِ ادَّعَى الْإِجْمَاعَ عَلَى تَرْكِ إِهْدَاءِ الْغَنَمِ وَتَقْلِيدِهَا. وَأَعَلَّ بَعْضُ الْمُخَالِفِينَ حَدِيثَ الْبَابِ بِأَنَّ الْأَسْوَدَ تَفَرَّدَ عَنْ عَائِشَةَ بِتَقْلِيدِ الْغَنَمِ دُونَ بَقِيَّةِ الرُّوَاةِ عَنْهَا مِنْ أَهْلِ بَيْتِهَا وَغَيْرِهِمْ، قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَغَيْرُهُ: وَلَيْسَتْ هَذِهِ بِعِلَّةٍ لِأَنَّهُ حَافِظٌ ثِقَةٌ لَا يَضُرُّهُ التَّفَرُّدُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ) هُوَ ابْنُ زِيَادٍ وَإِنَّمَا أَرْدَفَ الْبُخَارِيُّ بِطَرِيقِهِ طَرِيقَ أَبِي نُعَيْمٍ مَعَ أَنَّ طَرِيقَ أَبِي نُعَيْمٍ عِنْدَهُ أَعْلَى دَرَجَةً لِتَصْرِيحِ الْأَعْمَشِ بِالتَّحْدِيثِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَاحِدِ مَعَ أَنَّ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَاحِدِ زِيَادَةُ التَّقْلِيدِ وَزِيَادَةُ إِقَامَتِهِ فِي أَهْلِهِ حَلَالًا. ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِرِوَايَةِ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ اسْتِظْهَارًا لِرِوَايَةِ عَبْدِ الْوَاحِدِ لِمَا فِي حِفْظِ عَبْدِ الْوَاحِدِ عِنْدَهُمْ وَإِنْ كَانَ هُوَ عِنْدَهُ حُجَّةً، وَأَمَّا إِرْدَافُهُ بِرِوَايَةِ مَسْرُوقٍ مَعَ أَنَّهُ لَا تَصْرِيحَ فِيهَا بِكَوْنِ الْقَلَائِدِ لِلْغَنَمِ فَلِأَنَّ لَفْظَ الْهَدْيِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِغَنَمٍ أَوْ غَيْرِهَا فَالْغَنَمُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ مَا يُهْدَى وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَهْدَى الْإِبِلَ وَأَهْدَى الْبَقَرَ فَمَنِ ادَّعَى اخْتِصَاصَ الْإِبِلِ بِالتَّقْلِيدِ فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ. وَعَامِرٌ فِي طَرِيقِ مَسْرُوقٍ هُوَ الشَّعْبِيُّ، وَزَكَرِيَّا الرَّاوِي عَنْهُ هُوَ ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ. وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ أَنَّهُ أَخْرَجَ طَرِيقَ مَسْرُوقٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الشَّعْبِيِّ مُطَوَّلًا.

‌111 - بَاب الْقَلَائِدِ مِنْ الْعِهْنِ

1705 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ الْقَاسِمِ، عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها، قَالَتْ: فَتَلْتُ قَلَائِدَهَا مِنْ عِهْنٍ كَانَ عِنْدِي.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْقَلَائِدِ مِنَ الْعِهْنِ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْهَاءِ، أَيِ: الصُّوفِ، وَقِيلَ: هُوَ الْمَصْبُوغُ مِنْهُ، وَقِيلَ: هُوَ الْأَحْمَرُ خَاصَّةً.

قَوْلُهُ: (عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ) هِيَ عَائِشَةُ، بَيَّنَهُ يَحْيَى بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ مُعَاذٍ، أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي: الْمُسْتَخْرَجِ، وَكَذَا وَقَعَتْ تَسْمِيَتُهَا عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ.

قَوْلُهُ: (فَتَلَتْ قَلَائِدَهَا) أَيِ: الْهَدَايَا، وَفِي رِوَايَةِ يَحْيَى الْمَذْكُورَةِ: أَنَا فَتَلْتُ تِلْكَ الْقَلَائِدَ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ مِثْلُهُ وَزَادَ: فَأَصْبَحَ فِينَا حَلَالًا يَأْتِي مَا يَأْتِي الْحَلَالَ مِنْ أَهْلِهِ. وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ كَرِهَ الْقَلَائِدَ مِنَ الْأَوْبَارِ وَاخْتَارَ أَنْ تَكُونَ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ رَبِيعَةَ وَمَالِكٍ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: لَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ الْأَوْلَى مَعَ الْقَوْلِ بِجَوَازِ كَوْنِهَا مِنَ الصُّوفِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌112 - بَاب تَقْلِيدِ النَّعْلِ

1706 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً قَالَ: ارْكَبْهَا، قَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ قَالَ: ارْكَبْهَا قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ رَاكِبَهَا يُسَايِرُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَالنَّعْلُ فِي عُنُقِهَا، تَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

قَوْلُهُ: (بَابُ تَقْلِيدِ النَّعْلِ) يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ الْجِنْسَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ الْوَحْدَةَ، أَيِ: النَّعْلَ الْوَاحِدَةَ، فَيَكُونُ فِيهِ إِشَارَةٌ

ص: 548

إِلَى مَنِ اشْتَرَطَ نَعْلَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَقَالَ غَيْرُهُ تُجْزِئُ الْوَاحِدَةُ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا تَتَعَيَّنُ النَّعْلُ بَلْ كُلُّ مَا قَامَ مَقَامَهَا أَجْزَأَ حَتَّى أُذُنِ الْإِدَاوَةِ. ثُمَّ قِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي تَقْلِيدِ النَّعْلِ أَنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى السَّفَرِ وَالْجِدِّ فِيهِ، فَعَلَى هَذَا يَتَعَيَّنُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: الْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ الْعَرَبَ تَعْتَدُّ النَّعْلَ مَرْكُوبَةً لِكَوْنِهَا تَقِي عَنْ صَاحِبِهَا وَتَحْمِلُ عَنْهُ وَعْرَ الطَّرِيقِ، وَقَدْ كَنَّى بَعْضُ الشُّعَرَاءِ عَنْهَا بِالنَّاقَةِ فَكَأَنَّ الَّذِي أَهْدَى خَرَجَ عَنْ مَرْكُوبِهِ لِلَّهِ تَعَالَى حَيَوَانًا وَغَيْرَهُ كَمَا خَرَجَ حِينَ أَحْرَمَ عَنْ مَلْبُوسِهِ، وَمِنْ ثَمَّ اسْتُحِبَّ تَقْلِيدُ نَعْلَيْنِ لَا وَاحِدَةٍ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي نَذْرِ الْمَشْيِ حَافِيًا إِلَى مَكَّةَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ غَيْرُ مَنْسُوبٍ، وَلِابْنِ السَّكَنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَامٍ، وَلِأَبِي ذَرٍّ مُحَمَّدٍ هُوَ ابْنُ سَلَامٍ، وَرَجَّحَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ أَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ رَوَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى حَدِيثًا غَيْرَ هَذَا سَيَأْتِي قَرِيبًا وَأَيَّدَهُ غَيْرُهُ بِأَنَّ الْإِسْمَاعِيلِيَّ، وَأَبَا نُعَيْمٍ أَخْرَجَاهُ فِي مُسْتَخْرَجَيْهِمَا مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى وَلَيْسَ ذَلِكَ بِلَازِمٍ، وَالْعُمْدَةُ عَلَى مَا قَالَ ابْنُ السَّكَنِ فَإِنَّهُ حَافِظٌ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عِكْرِمَةَ) هُوَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَمَّا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ فَهُوَ تِلْمِيذُ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ لَا شَيْخُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ الْبَابِ قَبْلَ تِسْعَةِ أَبْوَابٍ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ إِلَخْ) الْمُتَابَعُ بِالْفَتْحِ هُنَا هُوَ مَعْمَرٌ، وَالْمُتَابِعُ بِالْكَسْرِ ظَاهِرُ السِّيَاقِ أَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، وَفِي التَّحْقِيقِ هُوَ عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ، وَإِنَّمَا احْتَاجَ مَعْمَرٌ عِنْدَهُ إِلَى الْمُتَابَعَةِ لِأَنَّ فِي رِوَايَةِ الْبَصْرِيِّينَ عَنْهُ مَقَالًا لِكَوْنِهِ حَدَّثَهُمْ بِالْبَصْرَةِ مِنْ حِفْظِهِ وَهَذَا مِنْ رِوَايَةِ الْبَصْرِيِّينَ، وَلَمْ تَقَعْ لِي رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ مَوْصُولَةً، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ بِمُتَابَعَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: إِنَّ حُسَيْنًا الْمُعَلِّمَ رَوَاهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ أَيْضًا.

‌113 - بَاب الْجِلَالِ لِلْبُدْنِ

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما لَا يَشُقُّ مِنْ الْجِلَالِ إِلَّا مَوْضِعَ السَّنَامِ

وَإِذَا نَحَرَهَا نَزَعَ جِلَالَهَا مَخَافَةَ أَنْ يُفْسِدَهَا الدَّمُ ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِهَا

1707 -

حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَتَصَدَّقَ بِجِلَالِ الْبُدْنِ الَّتِي نَحَرْتُ وَبِجُلُودِهَا.

[الحديث 1707 - أطرافه في: 1716 و 1716 م، 1717، 1718، 2299]

قَوْلُهُ: (بَابُ الْجِلَالِ لِلْبُدْنِ) بِكَسْرِ الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ جَمْعُ جُلٍّ بِضَمِّ الْجِيمِ، وَهُوَ مَا يُطْرَحُ عَلَى ظَهْرِ الْبَعِيرِ مِنْ كِسَاءٍ وَنَحْوِهِ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يَشُقُّ مِنَ الْجِلَالِ إِلَّا مَوْضِعَ السَّنَامِ فَإِذَا نَحَرَهَا نَزَعَ جِلَالَهَا مَخَافَةَ أَنْ يُفْسِدَهَا الدَّمُ ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِهَا) هَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَ بَعْضَهُ مَالِكٌ فِي: الْمُوَطَّأِ عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يَشُقُّ جِلَالَ بُدْنِهِ، وَعَنْ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُجَلِّلُ بُدْنَهُ الْقَبَاطِيَّ وَالْحُلَلَ، ثُمَّ يَبْعَثُ بِهَا إِلَى الْكَعْبَةِ فَيَكْسُوهَا إِيَّاهَا، وَعَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ دِينَارٍ: مَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَصْنَعُ بِجِلَالِ بُدْنِهِ حِينَ كُسِيَتِ الْكَعْبَةُ هَذِهِ الْكُسْوَةَ؟ قَالَ: كَانَ يَتَصَدَّقُ بِهَا، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ مَالِكٍ زَادَ فِيهِ غَيْرُهُ عَنْ مَالِكٍ: إِلَّا مَوْضِعَ السَّنَامِ إِلَى آخِرِ الْأَثَرِ الْمَذْكُورِ. قَالَ الْمُهَلَّبُ: لَيْسَ التَّصَدُّقُ بِجِلَالِ الْبُدْنِ فَرْضًا، وَإِنَّمَا صَنَعَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ لَا يَرْجِعَ فِي شَيْءٍ أَهَلَّ بِهِ لِلَّهِ وَلَا فِي شَيْءٍ أُضِيفَ إِلَيْهِ اهـ. وَفَائِدَةُ شَقِّ الْجُلِّ مِنْ مَوْضِعِ السَّنَامِ لِيَظْهَرَ الْإِشْعَارُ لِئَلَّا يَسْتَتِرَ مَا تَحْتَهَا. وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُجَلِّلُ بُدْنَهُ الْأَنْمَاطَ وَالْبُرُودَ وَالْحِبَرَ حَتَّى يَخْرُجَ

ص: 549

مِنَ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ يَنْزِعُهَا فَيَطْوِيهَا حَتَّى يَكُونَ يَوْمُ عَرَفَةَ فَيُلْبِسُهَا إِيَّاهَا حَتَّى يَنْحَرَهَا، ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِهَا، قَالَ نَافِعٌ: وَرُبَّمَا دَفَعَهَا إِلَى بَنِي شَيْبَةَ. وَأَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ عَلِيٍّ فِي التَّصَدُّقِ بِجِلَالِ الْبُدْنِ مُخْتَصَرًا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى بَعْدَ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(تَنْبِيهٌ): مَا فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مِنَ اسْتِحْبَابِ التَّقْلِيدِ وَالْإِشْعَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ إِظْهَارَ التَّقَرُّبِ بِالْهَدْيِ أَفْضَلُ مِنَ إِخْفَائِهِ، وَالْمُقَرَّرُ أَنَّ إِخْفَاءَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ غَيْرِ الْفَرْضِ أَفْضَلُ مِنْ إِظْهَارِهِ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ أَفْعَالَ الْحَجِّ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الظُّهُورِ كَالْإِحْرَامِ وَالطَّوَافِ وَالْوُقُوفِ، فَكَانَ الْإِشْعَارُ وَالتَّقْلِيدُ كَذَلِكَ، فَيُخَصُّ الْحَجُّ مِنْ عُمُومِ الْإِخْفَاءِ، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: لَا يَلْزَمُ مِنَ التَّقْلِيدِ وَالْإِشْعَارِ إِظْهَارُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ لِأَنَّ الَّذِي يُهْدِيهَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَبْعَثَهَا مَعَ مَنْ يُقَلِّدُهَا وَيُشْعِرُهَا وَلَا يَقُولُ: إِنَّهَا لِفُلَانٍ فَتَحْصُلُ سُنَّةُ التَّقْلِيدِ مَعَ كِتْمَانِ الْعَمَلِ. وَأَبْعَدَ مَنِ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ إِذَا شُرِعَ فِيهِ صَارَ فَرْضًا. وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ التَّقْلِيدَ جُعِلَ عَلَمًا لِكَوْنِهَا هَدْيًا حَتَّى لَا يَطْمَعَ صَاحِبُهَا فِي الرُّجُوعِ فِيهَا.

‌114 - بَاب مَنْ اشْتَرَى هَدْيَهُ مِنْ الطَّرِيقِ وَقَلَّدَهَا

1708 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: أَرَادَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما الْحَجَّ عَامَ حَجَّةِ الْحَرُورِيَّةِ فِي عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ كَائِنٌ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ وَنَخَافُ أَنْ يَصُدُّوكَ، فَقَالَ:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ، إِذًا أَصْنَعَ كَمَا صَنَعَ، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي أَوْجَبْتُ عُمْرَةً، حَتَّى إِذَا كَانَ بِظَاهِرِ الْبَيْدَاءِ قَالَ: مَا شَأْنُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إِلَّا وَاحِدٌ، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ جَمَعْتُ حَجَّةً مَعَ عُمْرَةٍ، وَأَهْدَى هَدْيًا مُقَلَّدًا اشْتَرَاهُ، حَتَّى قَدِمَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَحْلِلْ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَوْمِ النَّحْرِ، فَحَلَقَ وَنَحَرَ، وَرَأَى أَنْ قَدْ قَضَى طَوَافَهُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ بِطَوَافِهِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ قَالَ: كَذَلِكَ صَنَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنِ اشْتَرَى هَدْيَهُ مِنَ الطَّرِيقِ وَقَلَّدَهَا) تَقَدَّمَ قَبْلَ ثَمَانِيَةِ أَبْوَابٍ مَنِ اشْتَرَى الْهَدْيَ مِنَ الطَّرِيقِ، وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ هَذَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَإِنَّمَا زَادَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ التَّقْلِيدَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ مُسْتَوْفًى فِي: بَابِ مَنْ قَلَّدَ الْقَلَائِدَ بِيَدِهِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي أَبْوَابِ الْمُحْصَرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. لَكِنَّ قَوْلَهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: عَامَ حَجَّةِ الْحَرُورِيَّةِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: حَجَّ الْحَرُورِيَّةَ فِي عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مُغَايِرٌ لِقَوْلِهِ فِي: بَابِ طَوَافِ الْقَارِنِ مِنْ رِوَايَةِ اللَّيْثِ، عَنْ نَافِعٍ عَامَ نُزُولِ الْحَجَّاجِ، بِابْنِ الزُّبَيْرِ؛ لِأَنَّ حَجَّةَ الْحَرُورِيَّةِ كَانَتْ فِي السَّنَةِ الَّتِي مَاتَ فِيهَا يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَتَسَمَّى ابْنُ الزُّبَيْرِ بِالْخِلَافَةِ، وَنُزُولُ الْحَجَّاجِ، بِابْنِ الزُّبَيْرِ كَانَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَذَلِكَ فِي آخِرِ أَيَّامِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَإِمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ الرَّاوِيَ أَطْلَقَ عَلَى الْحَجَّاجِ وَأَتْبَاعِهِ حَرُورِيَّةً لِجَامِعِ مَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْخُرُوجِ عَلَى أَئِمَّةِ الْحَقِّ، وَإِمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى تَعَدُّدِ الْقِصَّةِ. وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ رِوَايَةِ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ الْقَائِلَ لِابْنِ عُمَرَ الْكَلَامَ الْمَذْكُورَ هُوَ وَلَدُهُ عُبَيْدُ اللَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي: بَابِ مَنِ اشْتَرَى الْهَدْيَ مِنَ الطَّرِيقِ، وَسَيَأْتِي فِي أَوَّلِ الْإِحْصَارِ مَزِيدُ بَيَانٍ لِذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ص: 550

‌115 - بَاب ذَبْحِ الرَّجُلِ الْبَقَرَ عَنْ نِسَائِهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِنَّ

1709 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَتْ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها تَقُولُ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ لَا نُرَى إِلَّا الْحَجَّ، فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْ مَكَّةَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ إِذَا طَافَ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَنْ يَحِلَّ، قَالَتْ: فَدُخِلَ عَلَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالَ: نَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَزْوَاجِهِ. قَالَ يَحْيَى: فَذَكَرْتُهُ لِلْقَاسِمِ، فَقَالَ: أَتَتْكَ بِالْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ ذَبْحِ الرَّجُلِ الْبَقَرَ عَنْ نِسَائِهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِنَّ) أَمَّا التَّعْبِيرُ بِالذَّبْحِ مَعَ أَنَّ حَدِيثَ الْبَابِ بِلَفْظِ النَّحْرِ، فَإِشَارَةٌ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ بِلَفْظِ الذَّبْحِ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَنَحْرُ الْبَقَرِ جَائِزٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ إِلَّا أَنَّ الذَّبْحَ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} ، وَخَالَفَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ فَاسْتَحَبَّ نَحْرَهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِنَّ، فَأَخَذَهُ مِنَ اسْتِفْهَامِ عَائِشَةَ عَنِ اللَّحْمِ لَمَّا دَخَلَ بِهِ عَلَيْهَا، وَلَوْ كَانَ ذَبَحَهُ بِعِلْمِهَا لَمْ تَحْتَجْ إِلَى الِاسْتِفْهَامِ، لَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ دَافِعًا لِلِاحْتِمَالِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلْمُهَا بِذَلِكَ تَقَدَّمَ بِأَنْ يَكُونَ اسْتَأْذَنَهُنَّ فِي ذَلِكَ، لَكِنْ لَمَّا أَدْخَلَ اللَّحْمَ عَلَيْهَا احْتَمَلَ عِنْدَهَا أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي وَقَعَ الِاسْتِئْذَانُ فِيهِ وَأَنْ يَكُونَ غَيْرَ ذَلِكَ فَاسْتَفْهَمَتْ عَنْهُ لِذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَمْرَةَ) فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ الْمَذْكُورَةِ حَدَّثَتْنِي عَمْرَةُ.

قَوْلُهُ: (لَا نُرَى) بِضَمِّ النُّونِ، أَيْ: لَا نَظُنُّ.

وقَوْلُهُ: (إِلَّا الْحَجَّ) تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى بَابِ التَّمَتُّعِ وَالْإِفْرَادِ وَالْقِرَانِ. وَقَوْلُهُ (فَدُخِلَ عَلَيْنَا) بِضَمِّ الدَّالِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ.

قَوْلُهُ: (بِلَحْمِ بَقَرٍ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَخَذَ بِظَاهِرِهِ جَمَاعَةٌ، فَأَجَازُوا الِاشْتِرَاكَ فِي الْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَةِ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ بَقَرَةٌ، وَأَمَّا رِوَايَةُ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَحَرَ عَنْ أَزْوَاجِهِ بَقَرَةً وَاحِدَةً، فَقَدْ قَالَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي: تَفَرَّدَ يُونُسُ بِذَلِكَ، وَقَدْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ اهـ. وَرِوَايَةُ يُونُسَ أَخْرَجَهَا النَّسَائِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُمَا، وَيُونُسُ ثِقَةٌ حَافِظٌ، وَقَدْ تَابَعَهُ مَعْمَرٌ عِنْدَ النَّسَائِيِّ أَيْضًا، وَلَفْظُهُ أَصْرَحُ مِنْ لَفْظِ يُونُسَ قَالَ: مَا ذُبِحَ عَنْ آلِ مُحَمَّدٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ إِلَّا بَقَرَةٌ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: ذَبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَمَّنِ اعْتَمَرَ مِنْ نِسَائِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بَقَرَةً بَيْنَهُنَّ. صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَهُوَ شَاهِدٌ قَوِيٌّ لِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ عَمَّارٌ الدُّهْنِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: ذَبَحَ عَنَّا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حَجَجْنَا بَقَرَةً بَقَرَةً أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا، فَهُوَ شَاذٌّ مُخَالِفٌ لِمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ رَوَاهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْأَضَاحِيِّ وَمُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ بِلَفْظِ: ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ نِسَائِهِ الْبَقَرَ.

وَلَمْ يَذْكُرْ مَا زَادَهُ عَمَّارٌ الدُّهْنِيُّ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَاجِشُونِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَكِنْ بِلَفْظِ: أَهْدَى بَدَلَ ضَحَّى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّصَرُّفَ مِنَ الرُّوَاةِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ النَّحْرِ فَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْأُضْحِيَةِ، فَإِنَّ رِوَايَةَ أَبِي هُرَيْرَةَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَمَّنِ اعْتَمَرَ مِنْ نِسَائِهِ، فَقَوِيَتْ رِوَايَةُ مَنْ رَوَاهُ بِلَفْظِ: أَهْدَى، وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ هَدْيُ التَّمَتُّعِ، فَلَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: لَا ضَحَايَا عَلَى أَهْلِ مِنًى، وَتَبَيَّنَ تَوْجِيهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى جَوَازِ الِاشْتِرَاكِ فِي الْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 551

وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَلْحَقُهُ مِنْ عَمَلِ غَيْرِهِ مَا عَمِلَهُ عَنْهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَلَا عِلْمِهِ، وَتُعُقِّبَ بِاحْتِمَالِ الِاسْتِئْذَانِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى التَّرْجَمَةِ، وَفِيهِ جَوَازُ الْأَكْلِ مِنَ الْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَةِ، وَسَيَأْتِي نَقْلُ الْخِلَافِ فِيهِ بَعْدَ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ.

قَوْلُهُ: (قَالَ يَحْيَى) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ كُلِّهِ إِلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (فَذَكَرْتُهُ لِلْقَاسِمِ) يَعْنِي: ابْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: أَتَتْكَ بِالْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ) أَيْ: سَاقَتْهُ لَكَ سِيَاقًا تَامًّا لَمْ تَخْتَصِرْ مِنْهُ شَيْئًا، وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى رِوَايَتِهِ هُوَ عَنْ عَائِشَةَ، فَإِنَّهَا مُخْتَصَرَةٌ كَمَا قَدَّمْتُ الْإِشَارَةَ إِلَيْهَا فِي هَذَا الْبَابِ.

‌116 - بَاب النَّحْرِ فِي مَنْحَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِنًى

1710 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ سَمِعَ خَالِدَ بْنَ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ رضي الله عنه كَانَ يَنْحَرُ فِي الْمَنْحَرِ، قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: مَنْحَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (بَابُ النَّحْرِ فِي مَنْحَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِنًى) قَالَ ابْنُ التِّينِ: مَنْحَرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الْجَمْرَةِ الْأُولَى الَّتِي تَلِي الْمَسْجِدَ. انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ أَثَرٍ أَخْرَجَهُ الْفَاكِهِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: كَانَ مَنْزِلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِنًى عَنْ يَسَارِ الْمُصَلَّى. قَالَ: وَقَالَ غَيْرُ طَاوُسٍ مِنْ أَشْيَاخِنَا مِثْلَهُ، وَزَادَ: وَأَمَرَ بِنِسَائِهِ أَنْ يَنْزِلْنَ جَنْبَ الدَّارِ بِمِنًى، وَأَمَرَ الْأَنْصَارَ أَنْ يَنْزِلُوا الشِّعْبَ وَرَاءَ الدَّارِ. قُلْتُ: وَالشِّعْبُ هُوَ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الْمَذْكُورَةِ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَلِلنَّحْرِ فِيهِ فَضِيلَةٌ عَلَى غَيْرِهِ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: هَذَا الْمَنْحَرُ وَكُلُّ مِنًى مَنْحَرٌ. انْتَهَى. وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَلَفْظُهُ: نَحَرْتُ هَهُنَا وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ فَانْحَرُوا فِي رِحَالِكُمْ. وَهَذَا ظَاهِرُهُ أَنَّ نَحْرَهُ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ الْمَكَانِ وَقَعَ عَنِ اتِّفَاقٍ، لَا لِشَيْءٍ يَتَعَلَّقُ بِالنُّسُكِ، وَلَكِنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ شَدِيدَ الِاتِّبَاعِ. وَقَدْ رَوَى عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي كِتَابِهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يَنْحَرُ إِلَّا بِمِنًى، وَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ قَوْلَ مَالِكٍ فِي النَّحْرِ بِمِنًى لِلْحَاجِّ وَالنَّحْرِ بِمَكَّةَ لِلْمُعْتَمِرِ، وَأَطَالَ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ وَتَرْجِيحِهِ، وَلَا خِلَافَ فِي الْجَوَازِ وَإِنِ اخْتُلِفَ فِي الْأَفْضَلِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هُوَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ رَاهَوَيْهِ، كَذَلِكَ أَخْرَجَهُ فِي مُسْنَدِهِ.

وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِهِ أَبُو نُعَيْمٍ.

قَوْلُهُ: (قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ) أَيِ: ابْنُ عُمَرَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مُرَادَ نَافِعٍ بِإِطْلَاقِ الْمَنْحَرِ مَنْحَرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَقَدْ رَوَى الْمُصَنِّفُ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الْأَضَاحِيِّ أَوْضَحَ مِنْ هَذَا، وَلَفْظُهُ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قَالَ: قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ يَعْنِي مَنْحَرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلِهَذَا أَرْدَفَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَا بِطَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ الْمُصَرِّحَةِ بِإِضَافَةِ الْمَنْحَرِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَفْسِ الْخَبَرِ، وَأَفَادَتْ رِوَايَةُ مُوسَى زِيَادَةَ وَقْتِ بَعْثِ الْهَدْيِ إِلَى الْمَنْحَرِ، وَأَنَّهَا مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ.

1711 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما كَانَ يَبْعَثُ بِهَدْيِهِ مِنْ جَمْعٍ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ حَتَّى يُدْخَلَ بِهِ مَنْحَرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ حُجَّاجٍ فِيهِمْ الْحُرُّ وَالْمَمْلُوكُ.

قَوْلُهُ (مَعَ حُجَّاجٍ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ جَمْعُ حَاجٍّ، وَقَوْلُهُ (فِيهِمُ الْحُرُّ وَالْمَمْلُوكُ)، مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ بَعْثُ الْهَدْيِ مَعَ الْأَحْرَارِ دُونَ الْأَرِقَّاءِ، وَسَيَأْتِي فِي الْأَضَاحِيِّ مِنْ طَرِيقِ كَثِيرِ بْنِ فَرْقَدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَذْبَحُ وَيَنْحَرُ بِالْمُصَلَّى. وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْأُضْحِيَةِ بِالْمَدِينَةِ.

ص: 552

‌117 - بَاب مَنْ نَحَرَ هَدْيَهُ بِيَدِهِ

1712 -

حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ بَكَّارٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ - وَذَكَرَ الْحَدِيثَ - قَالَ: وَنَحَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ سَبْعَ بُدْنٍ قِيَامًا، وَضَحَّى بِالْمَدِينَةِ كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، مُخْتَصَرًا.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ نَحَرَ هَدْيَهُ بِيَدِهِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسٍ مُخْتَصَرًا، وَفِيهِ: نَحَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ سَبْعَ بُدْنٍ. وَسَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ وَاحِدٍ بِتَمَامِهِ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي سَاقَهُ هُنَا سَوَاءٌ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ وَحَدِيثُهَا عِنْدَ أَكْثَرِ الرُّوَاةِ، بَلْ ثَبَتَتْ لِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْمُسْتَمْلِي وَحْدَهُ، وَفِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ بَعْدَ التَّرْجَمَةِ مَا نَصُّهُ: حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ بَكَّارٍ، عَنْ وُهَيْبٍ، فَاكْتَفَى بِالْإِشَارَةِ.

‌118 - بَاب نَحْرِ الْإِبِلِ مُقَيَّدَةً

1713 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما أَتَى عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَنَاخَ بَدَنَتَهُ يَنْحَرُهَا، قَالَ: ابْعَثْهَا قِيَامًا مُقَيَّدَةً سُنَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.

وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ يُونُسَ: أَخْبَرَنِي زِيَادٌ.

قَوْلُهُ: (بَابُ نَحْرِ الْإِبِلِ مُقَيَّدَةً) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ مُطَابِقٌ لِمَا تَرْجَمَ لَهُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ يُونُسَ) هُوَ ابْنُ عُبَيْدٍ، فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ، وَالْإِسْنَادُ سِوَى الصَّحَابِيِّ كُلُّهُمْ بَصْرِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ) بِجِيمٍ وَمُوَحَّدَةٍ مُصَغَّرٌ بَصْرِيٌّ تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ، لَيْسَ لَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ وَحَدِيثٍ آخَرَ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي النَّذْرِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَأَخْرَجَهُ فِي الصَّوْمِ بِإِسْنَادٍ آخَرَ إِلَى يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، وَقَدْ سَبَقَ فِي أَوَائِلِ الْحَجِّ حَدِيثٌ غَيْرُ هَذَا مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ غَيْرُ زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ هَذَا وَلَيْسَ أَخًا لَهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ زَيْدًا طَائِيٌّ كُوفِيٌّ، وَزِيَادًا ثَقَفِيٌّ بَصْرِيٌّ لَكِنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي الثِّقَةِ وَفِي الرِّوَايَةِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.

قَوْلُهُ: (أَتَى عَلَى رَجُلٍ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ.

قَوْلُهُ: (قَدْ أَنَاخَ بَدَنَتَهُ يَنْحَرُهَا) زَادَ أَحْمَدُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ يُونُسَ: لِيَنْحَرَهَا بِمِنًى.

قَوْلُهُ: (ابْعَثْهَا) أَيْ: أَثِرْهَا، يُقَالُ: بَعَثْتُ النَّاقَةَ أَثَرْتُهَا. وَقَوْلُهُ: (قِيَامًا) أَيْ: عَنْ قِيَامٍ، وَقِيَامًا مَصْدَرٌ بِمَعْنَى قَائِمَةٍ، وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، أَوْ قَوْلُهُ: ابْعَثْهَا أَيْ: أَقِمْهَا أَوِ الْعَامِلُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ انْحَرْهَا. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: انْحَرْهَا قَائِمَةً.

قَوْلُهُ: (مُقَيَّدَةً) أَيْ: مَعْقُولَةَ الرِّجْلِ قَائِمَةً عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ قَوَائِمِهَا، وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يَنْحَرُونَ الْبَدَنَةَ مَعْقُولَةَ الْيُسْرَى قَائِمَةً عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ قَوَائِمِهَا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ يَنْحَرُ بَدَنَتَهُ وَهِيَ مَعْقُولَةٌ إِحْدَى يَدَيْهَا.

قَوْلُهُ: (سُنَّةَ مُحَمَّدٍ) بِنَصْبِ سُنَّةٍ بِعَامِلٍ مُضْمَرٍ كَالِاخْتِصَاصِ، أَوِ التَّقْدِيرُ: مُتَّبِعًا سُنَّةَ مُحَمَّدٍ، قُلْتُ: وَيَجُوزُ الرَّفْعُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ الْحَرْبِيِّ فِي الْمَنَاسِكِ بِلَفْظِ: فَقَالَ لَهُ: انْحَرْهَا قَائِمَةً، فَإِنَّهَا سُنَّةُ مُحَمَّدٍ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُ نَحْرِ الْإِبِلِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَعَنِ الْحَنَفِيَّةِ يَسْتَوِي نَحْرُهَا قَائِمَةً وَبَارِكَةً فِي الْفَضِيلَةِ.

وَفِيهِ تَعْلِيمُ الْجَاهِلِ وَعَدَمُ السُّكُوتِ عَلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا، وَفِيهِ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ مِنَ السُّنَّةِ كَذَا مَرْفُوعٌ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ لِاحْتِجَاجِهِمَا بِهَذَا الْحَدِيثِ

ص: 553

فِي صَحِيحَيْهِمَا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ يُونُسَ، أَخْبَرَنِي زِيَادٌ) هَذَا التَّعْلِيقُ أَخْرَجَهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ يُونُسَ: سَمِعْتُ زِيَادَ بْنَ جُبَيْرٍ يَقُولُ: انْتَهَيْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ فَإِذَا رَجُلٌ قَدْ أَضْجَعَ بَدَنَتَهُ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَنْحَرَهَا، فَقَالَ: قِيَامًا مُقَيَّدَةً سُنَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. وَقَدْ نَسَبَ مُغَلْطَايْ وَمَنْ تَبِعَهُ تَعْلِيقَ شُعْبَةَ الْمَذْكُورَ لِتَخْرِيجِ إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَرْزُوقٍ، عَنْ شُعْبَةَ، فَرَاجَعْتُهُ فَوَجَدْتُهُ فِيهِ عَنْ يُونُسَ، عَنْ زِيَادٍ بِالْعَنْعَنَةِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ وَفَاءٌ بِمَقْصُودِ الْبُخَارِيِّ، فَإِنَّهُ أَخْرَجَ طَرِيقَ شُعْبَةَ لِبَيَانِ سَمَاعِ يُونُسَ لَهُ مِنْ زِيَادٍ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ بِالْعَنْعَنَةِ.

‌119 - بَاب نَحْرِ الْبُدْنِ قَائِمَةً

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: سُنَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما:{صَوَافَّ} قِيَامًا

1714 -

حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ بَكَّارٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَالْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، فَبَاتَ بِهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَجَعَلَ يُهَلِّلُ وَيُسَبِّحُ، فَلَمَّا عَلَا عَلَى الْبَيْدَاءِ لَبَّى بِهِمَا جَمِيعًا، فَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَحِلُّوا، وَنَحَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ سَبْعَ بُدْنٍ قِيَامًا، وَضَحَّى بِالْمَدِينَةِ كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ.

1715 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَالْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، وَعَنْ أَيُّوبَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: ثُمَّ بَاتَ حَتَّى أَصْبَحَ فَصَلَّى الصُّبْحَ، ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ الْبَيْدَاءَ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ نَحْرِ الْبُدْنِ قَائِمَةً) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: قِيَامًا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ سُنَّةَ مُحَمَّدٍ) يُشِيرُ إِلَى حَدِيثِهِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ صَوَافَّ قِيَامًا) وَهَكَذَا ذَكَرَهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ عَنْهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} قَالَ: قِيَامًا، أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ:{صَوَافَّ} بِالتَّشْدِيدِ جَمْعُ صَافَّةٍ، أَيْ: مُصْطَفَّةٍ فِي قِيَامِهَا. وَوَقَعَ فِي: مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: صَوَافِنَ أَيْ: قِيَامًا عَلَى ثَلَاثِ قَوَائِمَ مَعْقُولَةً، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ: صَوَافِنَ بِكَسْرِ الْفَاءِ بَعْدَهَا نُونٌ جَمْعُ صَافِنَةٍ، وَهِيَ الَّتِي رَفَعَتْ إِحْدَى يَدَيْهَا بِالْعَقْلِ لِئَلَّا تَضْطَرِبَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ بَكَّارٍ) الْإِسْنَادُ إِلَى آخِرِهِ بَصْرِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (فَبَاتَ بِهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فَبَاتَ بِهَا حَتَّى أَصْبَحَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَوَائِلِ الْحَجِّ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ: وَنَحَرَ بِيَدِهِ سَبْعَ بُدْنٍ قِيَامًا. كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَفِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَغَيْرِهَا: سَبْعَةَ بُدْنٍ، فَقِيلَ فِي تَوْجِيهِهَا أَرَادَ أَبْعِرَةً فَلِذَا أَلْحَقَ بِهَا الْهَاءَ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ وَاضِحٌ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَا نَحَرَهُ وَعَدَدُهُ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَرِيبًا، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ التَّضْحِيَةِ بِالْكَبْشَيْنِ فِي كِتَابِ الْأَضَاحِيِّ.

قَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ: (وَعَنْ أَيُّوبَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَنَسٍ)

ص: 554

الْمُرَادُ بِهِ بَيَانُ اخْتِلَافِ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ، وَوُهَيْبٍ عَلَى أَيُّوبَ فِيهِ، فَسَاقَهُ وُهَيْبٌ عَنْهُ بِإِسْنَادٍ وَاحِدٍ، وَفَصَلَ إِسْمَاعِيلُ بَعْضَهُ فَقَالَ: عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ، وَقَالَ فِي بَعْضِهِ: عَنْ أَيُّوبَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ الدَّاوُدِيُّ: لَوْ كَانَ كُلُّهُ عِنْدَ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ مَا أَبْهَمَهُ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِسْمَاعِيلُ شَكَّ فِيهِ أَوْ نَسِيَهُ، وَوُهَيْبٌ ثِقَةٌ فَقَدْ جَزَمَ بِأَنَّ جَمِيعَ الْحَدِيثِ عَنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا فِي: بَابِ التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ فِي أَوَائِلِ الْحَجِّ. (تَنْبِيهٌ): حَكَى ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الْمُهَلَّبِ أَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَهُ هُنَا: فَلَمَّا أَهَلَّ لَنَا بِهِمَا جَمِيعًا، قَالَ: وَمَعْنَاهُ أَمَرَ مَنْ أَهَلَّ بِالْقِرَانِ لِأَنَّهُ هُوَ كَانَ مُفْرِدًا، فَمَعْنَى أَهَلَّ لَنَا أَيْ: أَبَاحَ لَنَا الْإِهْلَالَ، فَكَانَ ذَلِكَ أَمْرًا وَتَعْلِيمًا لَهُمْ كَيْفَ يُهِلُّونَ، وَإِلَّا فَمَا مَعْنَى لَنَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؟ انْتَهَى. وَلَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي اتَّصَلَتْ لَنَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى مَا ذَكَرَ. وَإِنَّمَا الَّذِي فِي أُصُولِنَا فَلَمَّا عَلَا عَلَى الْبَيْدَاءِ لَبَّى بِهِمَا جَمِيعًا، وَلَعَلَّهُ وَقَعَ فِي نُسْخَتِهِ: فَلَمَّا عَلَا عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ، وَفِي أُخْرَى لَبَّى، فَكُتِبَتْ لَبَّى بِأَلِفٍ فَصَارَتْ صُورَتُهَا لَنَا بِنُونٍ خَفِيفَةٍ وَجُمِعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، فَصَارَتْ أَهَلَّ لَنَا وَلَا وُجُودَ لِذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ.

‌120 - بَاب لَا يُعْطَى الْجَزَّارُ مِنْ الْهَدْيِ شَيْئًا

1716 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقُمْتُ عَلَى الْبُدْنِ، فَأَمَرَنِي فَقَسَمْتُ لُحُومَهَا، ثُمَّ أَمَرَنِي فَقَسَمْتُ جِلَالَهَا وَجُلُودَهَا

1716 م - قَالَ سُفْيَانُ وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: أَمَرَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَقُومَ عَلَى الْبُدْنِ، وَلَا أُعْطِيَ عَلَيْهَا شَيْئًا فِي جِزَارَتِهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ لَا يُعْطِي الْجَزَّارَ مِنَ الْهَدْيِ شَيْئًا) فَاعِلُ يُعْطِي مَحْذُوفٌ أَيْ صَاحِبُ الْهَدْيِ، وَالْجَزَّارَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ وَرُوِيَ بِفَتْحِ الطَّاءِ، وَالْجَزَّارُ بِالرَّفْعِ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) سَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ التَّصْرِيحُ بِالْإِخْبَارِ بَيْنَ مُجَاهِدٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَبَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعَلِيٍّ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ سُفْيَانُ) هُوَ الْمَذْكُورُ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ وَلَيْسَ مُعَلَّقًا، وَقَدْ وَصَلَهُ النَّسَائِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ هُوَ ابْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، وَعَبْدُ الْكَرِيمِ الْمَذْكُورُ هُوَ الْجَزَرِيُّ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي الْبَابِ بَعْدَهُ.

قَوْلُهُ: (فَقُمْتُ عَلَى الْبُدْنِ) أَيِ الَّتِي أَرْصُدُهَا لِلْهَدْيِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: أَنْ أَقْوَمَ عَلَى الْبُدْنِ أَيْ عِنْدِ نَحْرِهَا لِلِاحْتِفَاظِ بِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، أَيْ: عَلَى مَصَالِحِهَا فِي عَلْفِهَا وَرَعْيِهَا وَسَقْيِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَقَعْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَدَدُ الْبُدْنِ، لَكِنْ وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ أَنَّهَا مِائَةُ بَدَنَةٍ، وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: نَحَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثِينَ بَدَنَةً، وَأَمَرَنِي فَنَحَرْتُ سَائِرَهَا. وَأَصَحُّ مِنْهُ مَا وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ، فَإِنَّ فِيهِ: ثُمَّ انْصَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَنْحَرِ فَنَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً، ثُمَّ أَعْطَى عَلِيًّا فَنَحَرَ مَا غَبَرَ وَأَشْرَكَهُ فِي هَدْيِهِ، ثُمَّ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبِضْعَةٍ فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ فَطُبِخَتْ فَأَكَلَا مِنْ لَحْمِهَا وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا. فَعُرِفَ بِذَلِكَ أَنَّ الْبُدْنَ كَانَتْ مِائَةَ بَدَنَةٍ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَحَرَ مِنْهَا ثَلَاثًا وَسِتِّينَ وَنَحَرَ عَلِيٌّ الْبَاقِيَ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَحَرَ ثَلَاثِينَ، ثُمَّ أَمَرَ

ص: 555

عَلِيًّا أَنْ يَنْحَرَ فَنَحَرَ سَبْعًا وَثَلَاثِينَ مَثَلًا، ثُمَّ نَحَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، فَإِنْ سَاغَ هَذَا الْجَمْعُ وَإِلَّا فَمَا فِي الصَّحِيحِ أَصَحُّ.

قَوْلُهُ: (وَلَا أُعْطِيَ عَلَيْهَا شَيْئًا فِي جِزَارَتِهَا) وَكَذَا قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي الْبَابِ بَعْدَهُ: (وَلَا يُعْطِي فِي جِزَارَتِهَا شَيْئًا) ظَاهِرُهُمَا أَنْ لَا يُعْطِيَ الْجَزَّارَ شَيْئًا أَلْبَتَّةَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ الْمُرَادَ بَلِ الْمُرَادُ أَنْ لَا يُعْطِيَ الْجَزَّارَ مِنْهَا شَيْئًا كَمَا وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَظَاهِرُهُ مَعَ ذَلِكَ غَيْرُ مُرَادٍ بَلْ بَيَّنَ النَّسَائِيُّ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ الْمُرَادَ مَنْعُ عَطِيَّةِ الْجَزَّارِ مِنَ الْهَدْيِ عِوَضًا عَنْ أُجْرَتِهِ، وَلَفْظُهُ: وَلَا يُعْطِيَ فِي جِزَارَتِهَا مِنْهَا شَيْئًا، وَاخْتُلِفَ فِي الْجِزَارَةِ، فَقَالَ ابْنُ التِّينِ: الْجِزَارَةُ بِالْكَسْرِ اسْمٌ لِلْفِعْلِ، وَبِالضَّمِّ اسْمٌ لِلسَّوَاقِطِ، فَعَلَى هَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْرَأَ بِالْكَسْرِ وَبِهِ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ، فَإِنْ صَحَّتْ بِالضَّمِّ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَا يُعْطِي مِنْ بَعْضِ الْجَزُورِ أُجْرَةَ الْجَزَّارِ، وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَتَبِعَهُ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: الْجُزَارَةُ بِالضَّمِّ اسْمٌ لِمَا يُعْطَى كَالْعُمَالَةِ وَزْنًا وَمَعْنًى، وَقِيلَ: هُوَ بِالْكَسْرِ كَالْحِجَامَةِ وَالْخِيَاطَةِ. وَجَوَّزَ غَيْرُهُ الْفَتْحَ، وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: الْجُزَارَةُ بِالضَّمِّ كَالْعُمَالَةِ مَا يَأْخُذُهُ الْجَزَّارُ مِنَ الذَّبِيحَةِ عَنْ أُجْرَتِهِ، وَأَصْلُهَا أَطْرَافُ الْبَعِيرِ - الرَّأْسُ وَالْيَدَانِ وَالرِّجْلَانِ - سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْجَزَّارَ كَانَ يَأْخُذُهَا عَنْ أُجْرَتِهِ.

‌121 - بَاب يُتَصَدَّقُ بِجُلُودِ الْهَدْيِ

1717 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَعَبْدُ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيُّ أَنَّ مُجَاهِدًا أَخْبَرَهُمَا أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى أَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه أَخْبَرَهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ أَنْ يَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ، وَأَنْ يَقْسِمَ بُدْنَهُ كُلَّهَا لُحُومَهَا وَجُلُودَهَا وَجِلَالَهَا وَلَا يُعْطِيَ فِي جِزَارَتِهَا شَيْئًا.

قَوْلُهُ: (بَابُ يُتَصَدَّقُ بِجُلُودِ الْهَدْيِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ عَلِيٍّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ وَهُوَ ابْنُ مَالِكٍ، وَالْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ وَهُوَ الْمَكِّيُّ جَمِيعًا عَنْ مُجَاهِدٍ، وَسَاقَهُ بِلَفْظِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ، وَأَمَّا لَفْظُ عَبْدِ الْكَرِيمِ فَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَنْهُ نَحْوَهُ وَزَادَ: وَقَالَ نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا.

قَوْلُهُ: (وَأَنْ يَقْسِمَ بُدْنَهُ) بِسُكُونِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَيَجُوزُ ضَمُّهَا.

قَوْلُهُ: (لُحُومَهَا وَجُلُودَهَا وَجِلَالَهَا) زَادَ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فِي رِوَايَتِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ.

قَوْلُهُ: (وَلَا يُعْطِي فِي جِزَارَتِهَا شَيْئًا) زَادَ مُسْلِمٌ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ: وَلَا يُعْطِي فِي جِزَارَتِهَا مِنْهَا شَيْئًا. قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ يَقْسِمُهَا كُلَّهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ إِلَّا مَا أَمَرَ بِهِ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبِضْعَةٍ فَطُبِخَتْ كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ - يَعْنِي الطَّوِيلَ - عِنْدَ مُسْلِمٍ كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ، قَالَ: وَالنَّهْيُ عَنْ إِعْطَاءِ الْجَزَّارِ الْمُرَادُ بِهِ أَنْ لَا يُعْطَى مِنْهَا عَنْ أُجْرَتِهِ، وَكَذَا قَالَ الْبَغَوِيُّ فِي: شَرْحِ السُّنَّةِ قَالَ: وَأَمَّا إِذَا أُعْطِيَ أُجْرَتَهُ كَامِلَةً ثُمَّ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ فَقِيرًا كَمَا يَتَصَدَّقُ عَلَى الْفُقَرَاءِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِعْطَاءُ الْجَزَّارِ عَلَى سَبِيلِ الْأُجْرَةِ مَمْنُوعٌ لِكَوْنِهِ مُعَاوَضَةً، وَأَمَّا إِعْطَاؤُهُ صَدَقَةً أَوْ هَدِيَّةً أَوْ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ فَالْقِيَاسُ الْجَوَازُ، وَلَكِنَّ إِطْلَاقَ الشَّارِعِ ذَلِكَ قَدْ يُفْهَمُ مِنْهُ مَنْعُ الصَّدَقَةِ لِئَلَّا تَقَعَ مُسَامَحَةٌ فِي الْأُجْرَةِ لِأَجْلِ مَا يَأْخُذُهُ فَيَرْجِعُ إِلَى الْمُعَاوَضَةِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي إِعْطَاءِ الْجَزَّارِ مِنْهَا فِي أُجْرَتِهِ إِلَّا الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى مَنْعِ بَيْعِ الْجِلْدِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ جُلُودَ الْهَدْيِ وَجِلَالَهَا لَا تُبَاعُ لِعَطْفِهَا عَلَى اللَّحْمِ وَإِعْطَائِهَا حُكْمَهُ، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لَحْمَهَا لَا يُبَاعُ فَكَذَلِكَ الْجُلُودُ وَالْجِلَالُ، وَأَجَازَهُ الْأَوْزَاعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، قَالُوا: وَيُصْرَفُ ثَمَنُهُ مَصْرِفَ الْأُضْحِيَةِ.

وَاسْتَدَلَّ أَبُو ثَوْرٍ عَلَى أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَكُلُّ مَا جَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ جَازِ بَيْعُهُ، وَعُورِضَ بِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى جَوَازِ

ص: 556

الْأَكْلِ مِنْ لَحْمِ هَدْيِ التَّطَوُّعِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ أَكْلِهِ جَوَازُ بَيْعِهِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْأَكْلِ مِنْهَا فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَأَقْوَى مِنْ ذَلِكَ فِي رَدِّ قَوْلِهِ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي حَدِيثِ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ مَرْفُوعًا: لَا تَبِيعُوا لُحُومَ الْأَضَاحِيِّ وَالْهَدْيِ، وَتَصَدَّقُوا وَكُلُوا، وَاسْتَمْتِعُوا بِجُلُودِهَا وَلَا تَبِيعُوا، وَإِنْ أُطْعِمْتُمْ مِنْ لُحُومِهَا فَكُلُوا إِنْ شِئْتُمْ.

‌122 - بَاب يُتَصَدَّقُ بِجِلَالِ الْبُدْنِ

1718 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سَيْفُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي لَيْلَى أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه حَدَّثَهُ قَالَ: أَهْدَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِائَةَ بَدَنَةٍ، فَأَمَرَنِي بِلُحُومِهَا فَقَسَمْتُهَا، ثُمَّ أَمَرَنِي بِجِلَالِهَا فَقَسَمْتُهَا، ثُمَّ بِجُلُودِهَا فَقَسَمْتُهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ يُتَصَدَّقُ بِجِلَالِ الْبُدْنِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ عَلِيٍّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ قَبْلَ أَبْوَابٍ فِي: بَابِ الْجِلَالِ وَالْبُدْنِ.

وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ مِنَ الْفَوَائِدِ: سَوْقُ الْهَدْيِ، وَالْوِكَالَةُ فِي نَحْرِ الْهَدْيِ، وَالِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ، وَالْقِيَامُ عَلَيْهِ، وَتَفْرِقَتُهُ، وَالْإِشْرَاكُ فِيهِ، وَأَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِلَّهِ فَلَهُ تَخْلِيصُهُ، وَنَظِيرُهُ الزَّرْعُ يُعْطِي عُشْرَهُ وَلَا يَحْسُبُ شَيْئًا مِنْ نَفَقَتِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ.

‌123 - بَاب {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ

* وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ * ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ}.

‌124 - وَمَا يَأْكُلُ مِنْ الْبُدْنِ وَمَا يَتَصَدَّقُ

وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: لَا يُؤْكَلُ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَالنَّذْرِ، وَيُؤْكَلُ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: يَأْكُلُ وَيُطْعِمُ مِنْ الْمُتْعَةِ

1719 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، حَدَّثَنَا عَطَاءٌ: سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما يَقُولُ: كُنَّا لَا نَأْكُلُ مِنْ لُحُومِ بُدْنِنَا فَوْقَ ثَلَاثِ مِنًى فَرَخَّصَ لَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: كُلُوا وَتَزَوَّدُوا، فَأَكَلْنَا وَتَزَوَّدْنَا قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَقَالَ حَتَّى جِئْنَا الْمَدِينَةَ؟ قَالَ: لَا.

[الحديث 1719 - أطرافه في: 2980، 5434، 5567]

1720 -

حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَتْنِي عَمْرَةُ قَالَتْ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها تَقُولُ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ وَلَا نُرَى إِلَّا الْحَجَّ، حَتَّى إِذَا دَنَوْنَا

ص: 557

مِنْ مَكَّةَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ يَحِلُّ، قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: فَدُخِلَ عَلَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ: ذَبَحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَزْوَاجِهِ. قَالَ يَحْيَى: فَذَكَرْتُ هَذَا الْحَدِيثَ لِلْقَاسِمِ فَقَالَ: أَتَتْكَ بِالْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا} وقَوْلُهُ: إِلَى قَوْلِهِ: {خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} وَقَعَ سِيَاقُ الْآيَاتِ كُلِّهَا فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ، وَالْمُرَادُ مِنْهَا هُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى:{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} ، وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهَا فِي التَّرْجَمَةِ وَمَا يَأْكُلُ مِنَ الْبُدْنِ وَمَا يَتَصَدَّقُ أَيْ: بَيَانُ الْمُرَادِ مِنَ الْآيَةِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ (أَخْبَرَنِي نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ لَا يُؤْكَلُ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَالنَّذْرِ وَيُؤْكَلُ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ نُمَيْرٍ عَنْهُ بِمَعْنَاهُ قَالَ: إِذَا عَطِبَتِ الْبَدَنَةُ أَوْ كُسِرَتْ أَكَلَ مِنْهَا صَاحِبُهَا وَلَمْ يُبْدِلْهَا، إِلَّا أَنْ تَكُونَ نَذْرًا أَوْ جَزَاءَ صَيْدٍ. وَرَوَاهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْقَطَّانِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بِلَفْظِ التَّعْلِيقِ الْمَذْكُورِ، وَهَذَا الْقَوْلُ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَزَادَ إِلَّا فِدْيَةَ الْأَذَى. وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ: وَلَا يُؤْكَلُ إِلَّا مِنْ هَدْيِ التَّطَوُّعِ وَالتَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ أَنَّ دَمَ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ دَمُ نُسُكٍ لَا دَمُ جُبْرَانَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَطَاءٌ: يَأْكُلُ وَيُطْعِمُ مِنَ الْمُتْعَةِ) هَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْهُ، وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَطَاءٍ: لَا يُؤْكَلُ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَلَا مِمَّا يُجْعَلُ لِلْمَسَاكِينِ مِنَ النَّذْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلَا مِنَ الْفِدْيَةِ. وَيُؤْكَلُ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ. وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ: إِنْ شَاءَ أَكَلَ مِنَ الْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَةِ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَأْكُلْ. وَلَا تَخَالُفَ بَيْنَ هَذِهِ الْآثَارِ عَنْ عَطَاءٍ فَإِنَّ حَاصِلَهَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْأَثَرُ الثَّانِي. وَزَعَمَ ابْنُ الْقَصَّارِ الْمَالِكِيُّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ تَفَرَّدَ بِمَنْعِ الْأَكْلِ مِنْ دَمِ التَّمَتُّعِ. (تَنْبِيهٌ): وَقَعَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ بَعْدَ قَوْلِهِ: {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} وَقَبْلَ قَوْلِهِ: وَمَا يَأْكُلُ مِنَ الْبُدْنِ وَمَا يَتَصَدَّقُ لَفْظُ بَابٍ وَسَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَهُوَ الصَّوَابُ.

قَوْلُهُ: (كُنَّا لَا نَأْكُلُ مِنْ لُحُومِ بُدْنِنَا فَوْقَ ثَلَاثِ مِنًى) بِإِضَافَةِ ثَلَاثٍ إِلَى مِنًى، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْأَضَاحِيِّ وَهُوَ مِنَ الْحُكمِ الْمُتَّفَقِ عَلَى نَسْخِهِ.

قَوْلُهُ: (سُلَيْمَانُ) هُوَ ابْنُ بِلَالٍ، وَيَحْيَى هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ، وَخَالِدٌ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ كُوفِيًّا فَقَدْ سَكَنَ الْمَدِينَةَ مُدَّةً. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ هَذَا فِي: بَابِ ذَبْحِ الرَّجُلِ الْبَقَرَ عَنْ نِسَائِهِ، وَقَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ هَذِهِ: حَتَّى إِذَا دَنَوْنَا مِنْ مَكَّةَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ يَحِلُّ. كَذَا لِلْأَكْثَرِ مِنْ طَرِيقِ الْفَرَبْرِيِّ، وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ لَكِنْ جَعَلَ عَلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ ضَبَّةً. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ بِلَفْظِ: أَنْ بَدَلَ ثُمَّ وَلَا إِشْكَالَ فِيهَا. وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ بِلَفْظِ: أَنْ يَحِلَّ، وَزَادَ قَبْلَهَا: إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَقَدْ شَرَحَهُ الْكِرْمَانِيُّ عَلَى لَفْظِ ثُمَّ، فَقَالَ: جَوَابُ إِذَا مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ يُتِمُّ عُمْرَتَهُ ثُمَّ يَحِلُّ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابُ مَنْ ثَمَّ مَحْذُوفًا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ زَائِدَةً كَمَا قَالَ الْأَخْفَشُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} إِنَّ تَابَ جَوَابُ حَتَّى إِذَا. قُلْتُ: وَكُلُّهُ تَكَلُّفٌ وَقَدْ تَبَيَّنَ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَنَّ التَّغْيِيرَ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ الْهَرَوِيِّ، وَتَقَدَّمَتْ رِوَايَةُ مَالِكٍ قَرِيبًا وَمِثْلُهَا فِي الْجِهَادِ، وَكَذَا لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَهُوَ الصَّوَابُ.

ص: 558

‌125 - بَاب الذَّبْحِ قَبْلَ الْحَلْقِ

1721 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوْشَبٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا مَنْصُورُ بْنُ زَاذَانَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَمَّنْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ وَنَحْوِهِ، فَقَالَ: لَا حَرَجَ، لَا حَرَجَ.

1722 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما "قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم زُرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ قَالَ لَا حَرَجَ قَالَ حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ قَالَ لَا حَرَجَ قَالَ ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ قَالَ لَا حَرَجَ" وَقَالَ عَبْدُ الرَّحِيمِ الرَّازِيُّ عَنْ ابْنِ خُثَيْمٍ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنِي ابْنُ خُثَيْمٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ عَفَّانُ أُرَاهُ عَنْ وُهَيْبٍ حَدَّثَنَا ابْنُ خُثَيْمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ حَمَّادٌ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ وَعَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

1723 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ "سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَمَيْتُ بَعْدَ مَا أَمْسَيْتُ فَقَالَ لَا حَرَجَ قَالَ حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ قَالَ لَا حَرَجَ"

1724 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ "قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِالْبَطْحَاءِ فَقَالَ: أَحَجَجْتَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ بِمَا أَهْلَلْتَ قُلْتُ لَبَّيْكَ بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَحْسَنْتَ انْطَلِقْ فَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ" ثُمَّ أَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ بَنِي قَيْسٍ فَفَلَتْ رَأْسِي ثُمَّ أَهْلَلْتُ بِالْحَجِّ فَكُنْتُ أُفْتِي بِهِ النَّاسَ حَتَّى خِلَافَةِ عُمَرَ رضي الله عنه فَذَكَرْتُهُ لَهُ فَقَالَ إِنْ نَأْخُذْ بِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُنَا بِالتَّمَامِ وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَحِلَّ حَتَّى بَلَغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ"

قَوْلُهُ: (بَابُ الذَّبْحِ قَبْلَ الْحَلْقِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ السُّؤَالِ عَنِ الْحَلْقِ قَبْلَ الذَّبْحِ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ لَمَّا تَرْجَمَ لَهُ أَنَّ السُّؤَالَ عَنْ ذَلِكَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ السَّائِلَ عَرَفَ أَنَّ الْحُكْمَ عَلَى عَكْسِهِ، وَقَدْ أَوْرَدَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ مَنْ طُرُقِ ثُمَّ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى، فَأَمَّا الطَّرِيقُ الْأُولَى لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَمِنْ طَرِيقِ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ، عَنْ عَطَاءٍ عَنْهُ بِلَفْظِ: سُئِلَ عَمَّنْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ وَنَحْوِهِ، وَالثَّانِيَةُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ ابْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رَفِيعٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَذَكَرَ فِيهِ الزِّيَارَةَ قَبْلَ الرَّمْيِ، وَالْحَلْقَ قَبْلَ الذَّبْحِ، وَالذَّبْحَ قَبْلَ الرَّمْيِ، وَعَرَفَ بِهِ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ مَنْصُورٍ وَنَحْوِهِ،

ص: 559

وَالثَّالِثَةُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ عَطَاءٍ.

وَقَالَ عَبْدُ الرَّحِيمِ الرَّازِيُّ عَنْ ابْنِ خُثَيْمٍ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ يَحْيَى: حَدَّثَنِي ابْنُ خُثَيْمٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ عَفَّانُ: أُرَاهُ عَنْ وُهَيْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ خُثَيْمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ حَمَّادٌ: عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، وَعَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ ابْنِ خُثَيْمٍ)

(1)

- وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الْمُعَلَّقَةُ وَصَلَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ حَمَّادٍ عَنْهُ، وَلَفْظُهُ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، طُفْتُ بِالْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ. قَالَ: ارْمِ وَلَا حَرَجَ وَصَلَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي: الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو الْأَشْعَثِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحِيمِ، وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ الرَّحِيمِ، عَنِ ابْنِ خُثَيْمٍ، كَذَا قَالَ، وَالرِّوَايَةُ الَّتِي تَلِي هَذِهِ تَرُدُّ عَلَيْهِ. وَعُرِفَ بِهَذَا أَنَّ مُرَادَ الْبُخَارِيِّ أَصْلُ الْحَدِيثِ لَا خُصُوصُ مَا تَرْجَمَ بِهِ مِنَ الذَّبْحِ قَبْلَ الْحَلْقِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنِي ابْنُ خُثَيْمٍ) لَمْ أَقِفْ عَلَى طَرِيقِهِ مَوْصُولَةً.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَفَّانُ: أُرَاهُ عَنْ وُهَيْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ خُثَيْمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) الْقَائِلُ أُرَاهُ هُوَ الْبُخَارِيُّ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ عَفَّانَ بِدُونِهَا. وَلَفْظُهُ: جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَلَقْتُ وَلَمْ أَنْحَرْ. قَالَ: لَا حَرَجَ: فَانْحَرْ. وَجَاءَهُ آخَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ. قَالَ: فَارْمِ وَلَا حَرَجَ. وَزَعَمَ خَلَفٌ أَنَّ الْبُخَارِيَّ قَالَ فِيهِ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ وَالْمُرَادُ بِهَذَا التَّعْلِيقِ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِيهِ عَلَى ابْنِ خُثَيْمٍ هَلْ شَيْخُهُ فِيهِ عَطَاءٌ أَوْ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، كَمَا اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى عَطَاءٍ هَلْ شَيْخُهُ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ أَوْ جَابِرٌ، فَالَّذِي يَتَبَيَّنُ مِنْ صَنِيعِ الْبُخَارِيِّ تَرْجِيحُ كَوْنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ثُمَّ كَوْنِهِ عَنْ عَطَاءٍ وَأَنَّ الَّذِي يُخَالِفُ ذَلِكَ شَاذٌّ، وَإِنَّمَا قَصَدَ بِإِيرَادِهِ بَيَانَ الِاخْتِلَافِ. وَفِي رِوَايَةِ عَفَّانَ هَذِهِ الدِّلَالَةُ عَلَى تَعَدُّدِ السَّائِلِينَ عَنِ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ حَمَّادٌ) يَعْنِي: ابْنَ سَلَمَةَ إِلَخْ. هَذِهِ الطَّرِيقُ وَصَلَهَا النَّسَائِيُّ، والطَّحَاوِيُّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طُرُقٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ نَحْوَ سِيَاقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رَفِيعٍ، وَالطَّرِيقُ الرَّابِعَةُ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

قَوْلُهُ: (عَبْدُ الْأَعْلَى) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، وَخَالِدٌ هُوَ الْحَذَّاءُ، وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ اسْتَظْهَرَ بِهِ لِمَا وَقَعَ فِي طَرِيقِ عَطَاءٍ مِنَ الِاخْتِلَافِ، فَأَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَصْلًا آخَرَ. وَفِي طَرِيقِ عِكْرِمَةَ هَذِهِ زِيَادَةُ حُكْمِ الرَّمْيِ بَعْدَ الْمَسَاءِ فَإِنَّ فِيهِ إِشْعَارًا بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الرَّمْيِ أَنْ يَكُونَ نَهَارًا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى حُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ.

وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي مُوسَى فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي: بَابِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، وَمُطَابَقَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ فِيهِ: لَمْ يَحِلَّ حَتَّى بَلَغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ؛ لِأَنَّ بُلُوغَ الْهَدْيِ مَحِلَّهُ يَدُلُّ عَلَى ذَبْحِ الْهَدْيِ فَلَوْ تَقَدَّمَ الْحَلْقُ عَلَيْهِ لَصَارَ مُتَحَلِّلًا قَبْلَ بُلُوغِ الْهَدْيِ مَحِلَّهُ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ، وَهُوَ تَقْدِيمُ الذَّبْحِ عَلَى الْحَلْقِ، وَأَمَّا تَأْخِيرُهُ فَهُوَ رُخْصَةٌ كَمَا سَيَأْتِي.

قَوْلُهُ: (فَفَلَتْ) بِفَاءِ التَّعْقِيبِ بَعْدَهَا فَاءٌ، ثُمَّ لَامٌ خَفِيفَةٌ مَفْتُوحَتَيْنِ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ أَيْ: تَتَبَّعَتِ الْقَمْلَ مِنْهُ.

‌126 - بَاب مَنْ لَبَّدَ رَأْسَهُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ وَحَلَقَ

1725 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ حَفْصَةَ رضي الله عنهم أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا بِعُمْرَةٍ وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ؟ قَالَ: إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي وَقَلَّدْتُ هَدْيِي، فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ لَبَّدَ رَأْسَهُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ وَحَلَقَ) أَيْ: بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِحْلَالِ، قِيلَ: أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى الْخِلَافِ فِيمَنْ لَبَّدَ هَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْحَلْقُ أَوْ لَا؟ فَنَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ عَنِ الْجُمْهُورِ تَعَيُّنَ ذَلِكَ حَتَّى عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ أَهْلُ الرَّأْيِ:

(1)

كذا بنسخ الشرح، وقال مصحح طبعة بولاق: ولعله رواية للشارح

ص: 560

لَا يَتَعَيَّنُ بَلْ إِنْ شَاءَ قَصَّرَ اهـ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَلَيْسَ لِلْأَوَّلِ دَلِيلٌ صَرِيحٌ، وَأَعْلَى مَا فِيهِ مَا سَيَأْتِي فِي اللِّبَاسِ عَنْ عُمَرَ مَنْ ضَفَّرَ رَأْسَهُ فَلْيَحْلِقْ، وَأَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثَ حَفْصَةَ وَفِيهِ: إنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي، وَلَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِلْحَلْقِ إِلَّا أَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ حَالِهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ حَلَقَ رَأْسَهُ فِي حَجِّهِ. وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ كَمَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَأَرْدَفَهُ ابْنُ بَطَّالٍ بِحَدِيثِ حَفْصَةَ فَجَعَلَهُ مِنْ هَذَا الْبَابِ لِمُنَاسَبَتِهِ لِلتَّرْجَمَةِ، وَقَدْ قُلْتُ غَيْرَ مَرَّةٍ إِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِجَمِيعِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ فِي التَّرْجَمَةِ، بَلْ إِذَا وُجِدَتْ وَاحِدَةٌ كَفَتْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ حَفْصَةَ فِي: بَابِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ.

‌127 - بَاب الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ عِنْدَ الْإِحْلَالِ

1726 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ، قَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: حَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّتِهِ.

[الحديث 1726 - طرفاه في: 4410، 4411]

1727 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ قَالُوا وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ قَالُوا وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَالْمُقَصِّرِينَ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي نَافِعٌ رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ قَالَ وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِي نَافِعٌ وَقَالَ فِي الرَّابِعَةِ وَالْمُقَصِّرِينَ"

1728 -

حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ قَالُوا وَلِلْمُقَصِّرِينَ قَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ قَالُوا وَلِلْمُقَصِّرِينَ قَالَهَا ثَلَاثًا قَالَ وَلِلْمُقَصِّرِينَ"

1729 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: حَلَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَقَصَّرَ بَعْضُهُمْ.

1730 -

حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنهم قَالَ: قَصَّرْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِشْقَصٍ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ عِنْدَ الْإِحْلَالِ) قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: أَفْهَمَ الْبُخَارِيُّ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ أَنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ لِقَوْلِهِ: عِنْدَ الْإِحْلَالِ، وَمَا يُصْنَعُ عِنْدَ الْإِحْلَالِ وَلَيْسَ هُوَ نَفْسَ التَّحَلُّلِ وَكَأَنَّهُ اسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِدُعَائِهِ صلى الله عليه وسلم لِفَاعِلِهِ، وَالدُّعَاءُ يُشْعِرُ بِالثَّوَابِ، وَالثَّوَابُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى الْعِبَادَةِ لَا عَلَى الْمُبَاحَاتِ، وَكَذَلِكَ تَفْضِيلُهُ الْحَلْقَ عَلَى التَّقْصِيرِ يُشْعِرُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُبَاحَاتِ لَا تَتَفَاضَلُ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ قَوْلُ الْجُمْهُورِ إِلَّا رِوَايَةً مُضَعَّفَةً عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ اسْتِبَاحَةُ مَحْظُورٍ، وَقَدْ أَوْهَمَ كَلَامُ ابْنِ الْمُنْذِرِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ تَفَرَّدَ بِهَا لَكِنْ حُكِيَتْ أَيْضًا عَنْ عَطَاءٍ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَعَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، وَسَيَأْتِي مَا فِيهِ بَعْدَ بَابَيْنِ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ لِابْنِ عُمَرَ ثَلَاثَةَ

ص: 561

أَحَادِيثَ، وَلِأَبِي هُرَيْرَةَ حَدِيثًا وَلِابْنِ عَبَّاسٍ حَدِيثًا، فَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ لِابْنِ عُمَرَ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ قَالَ: قَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: حَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّتِهِ. وَهَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ أَوَّلُهُ: لَمَّا نَزَلَ الْحَجَّاجُ، بِابْنِ الزُّبَيْرِ الْحَدِيثَ، نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ. وَالْحَدِيثُ الثَّانِي لِابْنِ عُمَرَ فِي الدُّعَاءِ لِلْمُحَلِّقِينَ وَسَيَأْتِي بَسْطُهُ. وَالْحَدِيثُ الثَّالِثُ لِابْنِ عُمَرَ مِنْ طَرِيقِ جُوَيْرِيَّةَ بْنِ أَسْمَاءَ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ وَهُوَ ابْنُ عُمَرَ قَالَ: حَلَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَقَصَّرَ بَعْضُهُمْ. وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يَقَعْ لَهُ عَلَى شَرْطِهِ التَّصْرِيحُ بِمَحَلِّ الدُّعَاءِ لِلْمُحَلِّقِينَ، فَاسْتَنْبَطَ مِنَ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ صَرَّحَ بِأَنَّ حِلَاقَهُ وَقَعَ فِي حَجَّتِهِ، وَالثَّالِثَ لَمْ يُصَرِّحْ بِذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بَيَّنَ فِيهِ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ حَلَقَ وَبَعْضَهُمْ قَصَّرَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ فِي الْمَغَازِي مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ: حَلَقَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَأُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَقَصَّرَ بَعْضُهُمْ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ نَافِعٍ مِثْلَ حَدِيثِ جُوَيْرِيَّةَ سَوَاءٌ، وَزَادَ فِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ. فَأَشْعَرَ ذَلِكَ بِأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَسَنَذْكُرُ الْبَحْثَ فِيهِ مَعَ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(تَنْبِيهٌ): أَفَادَ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْهُ فِي الْمَغَازِي مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ مُتَّصِلًا بِالْمَتْنِ الْمَذْكُورِ قَالَ: وَزَعَمُوا أَنَّ الَّذِي حَلَقَهُ مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَضْلَةَ، وَبَيَّنَ أَبُو مَسْعُودٍ فِي الْأَطْرَافِ أَنَّ قَائِلَ وَزَعَمُوا ابْنُ جُرَيْجٍ الرَّاوِي لَهُ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ.

وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ: رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ - مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ -. قَالَ: وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ: وَقَالَ فِي الرَّابِعَةِ: وَالْمُقَصِّرِينَ.

قَوْلُهُ: (قَالُوا وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) لَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ عَلَى الَّذِي تَوَلَّى السُّؤَالَ فِي ذَلِكَ بَعْدَ الْبَحْثِ الشَّدِيدِ، وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ وَالْمُقَصِّرِينَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى شَيْءٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ قُلْ وَالْمُقَصِّرِينَ، أَوْ قُلْ وَارْحَمِ الْمُقَصِّرِينَ، وَهُوَ يُسَمَّى الْعَطْفُ التَّلْقِينِيُّ، وَفِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: وَالْمُقَصِّرِينَ إِعْطَاءُ الْمَعْطُوفِ حُكْمَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَلَوْ تَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا السُّكُوتُ لِغَيْرِ عُذْرٍ.

قَوْلُهُ: (قَالَ وَالْمُقَصِّرِينَ) كَذَا فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ عَنْ مَالِكٍ إِعَادَةُ الدُّعَاءِ لِلْمُحَلِّقِينَ مَرَّتَيْنِ، وَعَطَفَ الْمُقَصِّرِينَ عَلَيْهِمْ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ، وَانْفَرَدَ يَحْيَى بْنُ بُكَيْرِ دُونَ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ بِإِعَادَةِ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، نَبَّهَ عَلَيْهِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي: التَّقَصِّي وَأَغْفَلَهُ فِي: التَّمْهِيدِ بَلْ قَالَ فِيهِ: إِنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا عَلَى مَالِكٍ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ رَاجَعْتُ أَصْلَ سَمَاعِي مِنْ مُوَطَّأِ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ فَوَجَدْتُهُ كَمَا قَالَ فِي التَّقَصِّي.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ اللَّيْثُ) وَصَلَهُ مُسْلِمٌ وَلَفْظُهُ: رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ، قَالَ: وَالْمُقَصِّرِينَ، وَالشَّكُّ فِيهِ مِنَ اللَّيْثِ وَإِلَّا فَأَكْثَرُهُمْ مُوَافِقٌ لِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ) بِالتَّصْغِيرِ وَهُوَ الْعُمَرِيُّ، وَرِوَايَتُهُ وَصَلَهَا مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ عَنْهُ بِاللَّفْظِ الَّذِي عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْهُ بِلَفْظِ: رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ، قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ. فَذَكَرَ مِثْلَ رِوَايَةِ مَالِكٍ سَوَاءً، وَزَادَ: قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ. قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: وَالْمُقَصِّرِينَ. وَبَيَانُ أَنَّ كَوْنَهَا فِي الرَّابِعَةِ أَنَّ قَوْلَهُ وَالْمُقَصِّرِينَ مَعْطُوفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ دَعَا لِلْمُحَلِّقِينَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ صَرِيحًا، فَيَكُونُ دُعَاؤُهُ لِلْمُقَصِّرِينَ فِي الرَّابِعَةِ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي مُسْتَخْرَجِهِ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بِلَفْظِ: قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: وَالْمُقَصِّرِينَ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَاضِحٌ بِأَنَّ مَنْ قَالَ فِي الرَّابِعَةِ فَعَلَى مَا شَرَحْنَاهُ، وَمَنْ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ أَرَادَ أَنَّ قَوْلَهُ وَالْمُقَصِّرِينَ مَعْطُوفٌ عَلَى الدَّعْوَةِ الثَّالِثَةِ، أَوْ أَرَادَ بِالثَّالِثَةِ مَسْأَلَةَ السَّائِلِينَ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم لَا يُرَاجَعُ بَعْدَ ثَلَاثٍ كَمَا ثَبَتَ، وَلَوْ لَمْ يَدْعُ لَهُمْ بَعْدَ ثَالِثِ مَسْأَلَةٍ مَا سَأَلُوهُ ذَلِكَ. وأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ. قَالُوا: وَلِلْمُقَصِّرِينَ - حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا - ثُمَّ قَالَ: وَالْمُقَصِّرِينَ. وَرِوَايَةُ مَنْ جَزَمَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى رِوَايَةِ مَنْ شَكَّ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ)

ص: 562

هُوَ الرَّقَّامُ بِالتَّحْتَانِيَّةِ وَالْمُعْجَمَةِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ السَّكَنِ بِالْمُوَحَّدَةِ وَالْمُهْمَلَةِ، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ: الْأَوَّلُ أَرْجَحُ، بَلْ هُوَ الصَّوَابُ، وَكَانَ الْقَابِسِيُّ يَشُكُّ عَنْ أَبِي زَيْدٍ فِيهِ فَيُهْمِلُ ضَبْطَهُ، فَيَقُولُ: عَبَّاسٌ أَوْ عَيَّاشٌ. قُلْتُ: لَمْ يُخَرِّجِ الْبُخَارِيُّ، لِلْعَبَّاسِ - بِالْمُوَحَّدَةِ وَالْمُهْمَلَةِ - ابْنَ الْوَلِيدِ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ نَسَبَهُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا النَّرْسِيُّ، أَحَدُهَا فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ، وَالْآخَرُ فِي الْمَغَازِي، وَالثَّالِثُ فِي الْفِتَنِ، ذَكَرَهُ مُعَلَّقًا قَالَ وَقَالَ عَبَّاسٌ النَّرْسِيُّ، وَأَمَّا الَّذِي بِالتَّحْتَانِيَّةِ وَالْمُعْجَمَةِ فَأَكْثَرَ عَنْهُ وَفِي الْغَالِبِ لَا يَنْسُبُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (قَالَهَا ثَلَاثًا) أَيْ قَوْلُهُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ شَاهِدَةٌ لِأَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ الْعُمَرِيَّ حَفِظَ الزِّيَادَةَ.

(تَنْبِيهٌ): لَمْ أَرَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ عَنْهُ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ هَذِهِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فِي جَمِيعِ مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنَ السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ، فَهِيَ مِنْ أَفْرَادِهِ عَنْ عُمَارَةَ وَمِنْ أَفْرَادِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، وَتَابَعَ أَبَا زُرْعَةَ عَلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَعْقُوبَ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ، وَسَاقَهُ أَبُو عَوَانَةَ، وَرِوَايَةُ أَبِي زُرْعَةَ أَتَمُّ. وَاخْتَلَفَ الْمُتَكَلِّمُونَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ، فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْ رُوَاةِ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَهُوَ تَقْصِيرٌ وَحَذْفٌ، وَإِنَّمَا جَرَى ذَلِكَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ حِينَ صُدَّ عَنِ الْبَيْتِ، وَهَذَا مَحْفُوظٌ مَشْهُورٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَحَبَشِيِّ بْنِ جُنَادَةَ وَغَيْرِهِمْ. ثُمَّ أَخْرَجَ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ بِلَفْظِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَغْفِرْ لِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ لِلْمُحَلِّقِينَ ثَلَاثًا وَلِلْمُقَصِّرِينَ مَرَّةً. وَحَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: حَلَقَ رِجَالٌ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَقَصَّرَ آخَرُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ.

الْحَدِيثَ، وَحَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ الْمَاضِي وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ بَلْ قَالَ فَذَكَرَ مَعْنَاهُ وَتَجَوَّزَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ تَعْيِينُ الْمَوْضِعِ وَلَمْ يَقَعْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِهِ التَّصْرِيحُ بِسَمَاعِهِ لِذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَوْ وَقَعَ لَقَطَعْنَا بِأَنَّهُ كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ لِأَنَّهُ شَهِدَهَا وَلَمْ يَشْهَدِ الْحُدَيْبِيَةَ، وَلَمْ يَسُقِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي هَذَا شَيْئًا، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِ الْحُدَيْبِيَةِ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ عَنْهُ، وَقَدْ قَدَّمْتُ فِي صَدْرِ الْبَابِ أَنَّهُ مُخَرَّجٌ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَحَادِيثِ عَنْهُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ كَمَا يُومِئُ إِلَيْهِ صَنِيعَ الْبُخَارِيِّ، وَحَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ الَّذِي أَخْرَجَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَخْرَجَهُ أَيْضًا الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَزَادَ فِيهِ أَبُو دَاوُدَ أَنَّ الصَّحَابَةَ حَلَقُوا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ إِلَّا عُثْمَانَ، وَأَبَا قَتَادَةَ، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْهُ وَهُوَ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي الْمَغَازِي بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِهِ، وَأَمَّا حَدِيثُ حَبَشِيِّ بْنِ جُنَادَةَ فَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْهُ وَلَمْ يُعَيِّنِ الْمَكَانَ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَزَادَ فِي سِيَاقِهِ: عَنْ حَبَشِيٍّ وَكَانَ

مِمَّنْ شَهِدَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ، فَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ، وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ فَوَهْمٌ فَقَدْ وَرَدَ تَعْيِينُ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ أَبِي قُرَّةَ فِي السُّنَنِ، وَمِنْ طَرِيقِ الطَّبَرَانِيِّ فِي: الْأَوْسَطِ وَمِنْ حَدِيثِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي الْمَغَازِي، وَوَرَدَ تَعْيِينُ حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَرْيَمَ السَّلُولِيِّ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَمِنْ حَدِيثِ أُمِّ الْحُصَيْنِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَمِنْ حَدِيثِ قَارِبِ بْنِ الْأَسْوَدِ الثَّقَفِيِّ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَمِنْ حَدِيثِ أُمِّ عُمَارَةَ عِنْدَ الْحَارِثِ، فَالْأَحَادِيثُ الَّتِي فِيهَا تَعْيِينُ حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَكْثَرُ عَدَدًا وَأَصَحُّ إِسْنَادًا، وَلِهَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ عَقِبَ أَحَادِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأُمِّ

ص: 563

الْحُصَيْنِ: هَذِهِ الْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ كَانَتْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، قَالَ: وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ. وَقِيلَ: كَانَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ، وَجَزَمَ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي النِّهَايَةِ، ثُمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ وَقَعَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. انْتَهَى. وَقَالَ عِيَاضٌ: كَانَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَلِذَا قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ أَنَّهُ الْأَقْرَبُ.

قُلْتُ: بَلْ هُوَ الْمُتَعَّيَنُ لِتَظَاهُرِ الرِّوَايَاتِ بِذَلِكَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، إِلَّا أَنَّ السَّبَبَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مُخْتَلِفٌ، فَالَّذِي فِي الْحُدَيْبِيَةِ كَانَ بِسَبَبِ تَوَقُّفِ مَنْ تَوَقَّفَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَنِ الْإِحْلَالِ لِمَا دَخَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحُزْنِ لِكَوْنِهِمْ مُنِعُوا مِنَ الْوُصُولِ إِلَى الْبَيْتِ مَعَ اقْتِدَارِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ عَلَى ذَلِكَ، فَخَالَفَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَصَالَحَ قُرَيْشًا عَلَى أَنْ يَرْجِعَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ كَمَا سَتَأْتِي فِي مَكَانِهَا، فَلَمَّا أَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْإِحْلَالِ تَوَقَّفُوا، فَأَشَارَتْ أُمُّ سَلَمَةَ أَنْ يَحِلَّ هُوَ صلى الله عليه وسلم قَبْلَهُمْ، فَفَعَلَ، فَتَبِعُوهُ، فَحَلَقَ بَعْضُهُمْ وَقَصَّرَ بَعْضٌ، وَكَانَ مَنْ بَادَرَ إِلَى الْحَلْقِ أَسْرَعَ إِلَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ مِمَّنِ اقْتَصَرَ عَلَى التَّقْصِيرِ.

وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِهَذَا السَّبَبِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُشَارِ إِلَيْهِ قَبْلُ، فَإِنَّ فِي آخِرِهِ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ وَغَيْرِهِ: أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا بَالُ الْمُحَلِّقِينَ ظَاهَرْتَ لَهُمْ بِالرَّحْمَةِ؟ قَالَ: لِأَنَّهُمْ لَمْ يَشُكُّوا. وَأَمَّا السَّبَبُ فِي تَكْرِيرِ الدُّعَاءِ لِلْمُحَلِّقِينَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ: كَانَ أَكْثَرُ مَنْ حَجَّ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ، فَلَمَّا أَمَرَهُمْ أَنْ يَفْسَخُوا الْحَجَّ إِلَى الْعُمْرَةِ ثُمَّ يَتَحَلَّلُوا مِنْهَا وَيَحْلِقُوا رُءوسَهُمْ شَقَّ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بُدٌّ مِنَ الطَّاعَةِ كَانَ التَّقْصِيرُ فِي أَنْفُسِهِمْ أَخَفَّ مِنَ الْحَلْقِ فَفَعَلَهُ أَكْثَرُهُمْ، فَرَجَّحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِعْلَ مَنْ حَلَقَ لِكَوْنِهِ أَبَيْنَ فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ. انْتَهَى. وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ وَإِنْ تَابَعَهُ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ يُسْتَحَبُّ فِي حَقِّهِ أَنَّ يُقَصِّرَ فِي الْعُمْرَةِ وَيَحْلِقَ فِي الْحَجِّ إِذَا كَانَ مَا بَيْنَ النُّسُكَيْنِ مُتَقَارِبًا، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِمْ كَذَلِكَ. وَالْأَوْلَى مَا قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّ عَادَةَ الْعَرَبِ أَنَّهَا كَانَتْ تُحِبُّ تَوْفِيرَ الشَّعْرِ وَالتَّزَيُّنَ بِهِ، وَكَانَ الْحَلْقُ فِيهِمْ قَلِيلًا وَرُبَّمَا كَانُوا يَرَوْنَهُ مِنَ الشُّهْرَةِ وَمِنْ زِيِّ الْأَعَاجِمِ، فَلِذَلِكَ كَرِهُوا الْحَلْقَ وَاقْتَصَرُوا عَلَى التَّقْصِيرِ.

وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنَ الْفَوَائِدِ أَنَّ التَّقْصِيرَ يُجْزِئُ عَنِ الْحَلْقِ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: أَنَّ الْحَلْقَ يَتَعَيَّنُ فِي أَوَّلِ حَجَّةٍ، حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ الْحَسَنِ خِلَافُهُ. قَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ الْحَسَنِ فِي الَّذِي لَمْ يَحُجَّ قَطُّ، فَإِنْ شَاءَ حَلَقَ وَإِنْ شَاءَ قَصَّرَ. نَعَمْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: إِذَا حَجَّ الرَّجُلُ أَوَّلَ حِجَّةٍ حَلَقَ، فَإِنْ حَجَّ أُخْرَى فَإِنْ شَاءَ حَلَقَ وَإِنْ شَاءَ قَصَّرَ. ثُمَّ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كَانُوا يُحِبُّونَ أَنْ يَحْلِقُوا فِي أَوَّلِ حَجَّةٍ وَأَوَّلِ عُمْرَةٍ. انْتَهَى. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لِلِاسْتِحْبَابِ لَا لِلُّزُومِ. نَعَمْ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ مَحِلَّ تَعْيِينِ الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُحْرِمُ لَبَّدَ شَعْرَهُ أَوْ ضَفَّرَهُ أَوْ عَقَصَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَالْجُمْهُورِ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ وِفَاقًا لِلْحَنَفِيَّةِ: لَا يَتَعَيَّنُ إِلَّا إِنْ نَذَرَهُ أَوْ كَانَ شَعْرُهُ خَفِيفًا لَا يُمْكِنُ تَقْصِيرُهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَعْرٌ فَيُمِرُّ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ. وَأَغْرَبَ الْخَطَّابِيُّ فَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِتَعَيُّنِ الْحَلْقِ لِمَنْ لَبَّدَ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ، وَفِيهِ أَنَّ الْحَلْقَ أَفْضَلُ مِنَ التَّقْصِيرِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْعِبَادَةِ وَأَبْيَنُ لِلْخُضُوعِ وَالذِّلَّةِ وَأَدَلُّ عَلَى صِدْقِ النِّيَّةِ، وَالَّذِي يُقَصِّرُ يُبْقِي عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِمَّا يَتَزَيَّنُ بِهِ، بِخِلَافِ الْحَالِقِ فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى.

وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّجَرُّدِ، وَمِنْ ثَمَّ اسْتَحَبَّ الصُّلَحَاءُ إِلْقَاءَ الشُّعُورِ عِنْدَ التَّوْبَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا قَوْلُ النَّوَوِيِّ تَبَعًا لِغَيْرِهِ فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُقَصِّرَ يُبْقِي عَلَى نَفْسِهِ الشَّعْرَ الَّذِي هُوَ زِينَةٌ وَالْحَاجُّ مَأْمُورٌ بِتَرْكِ الزِّينَةِ، بَلْ هُوَ أَشْعَثُ أَغْبَرُ فَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْحَلْقَ إِنَّمَا يَقَعُ بَعْدَ انْقِضَاءِ زَمَنِ الْأَمْرِ بِالتَّقَشُّفِ فَإِنَّهُ يَحِلُّ لَهُ عَقِبَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ فِي الْحَجِّ خَاصَّةً. وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ الْمُحَلِّقِينَ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ حَلْقِ جَمِيعِ الرَّأْسِ لِأَنَّهُ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الصِّيغَةُ، وَقَالَ بِوُجُوبِ حَلْقِ جَمِيعِهِ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ،

ص: 564

وَاسْتَحَبَّهُ الْكُوفِيُّونَ وَالشَّافِعِيُّ، وَيُجْزِئُ الْبَعْضُ عِنْدَهُمْ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَعَنِ الْحَنَفِيَّةِ الرُّبُعُ، إِلَّا أَبَا يُوسُفَ فَقَالَ النِّصْفُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَقَلُّ مَا يَجِبُ حَلْقُ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ، وَفِي وَجْهٍ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ شَعْرَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالتَّقْصِيرُ كَالْحَلْقِ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُقَصِّرَ مِنْ جَمِيعِ شَعْرِ رَأْسِهِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَنْقُصَ عَنْ قَدْرِ الْأُنْمُلَةِ، وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى دُونَهَا أَجْزَأَ، هَذَا لِلشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ مُرَتَّبٌ عِنْدَ غَيْرِهِمْ عَلَى الْحَلْقِ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي حَقِّ الرِّجَالِ وَأَمَّا النِّسَاءُ فَالْمَشْرُوعُ فِي حَقِّهِنَّ التَّقْصِيرُ بِالْإِجْمَاعِ، وَفِيهِ حَدِيثٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَلَفْظُهُ: لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ حَلْقٌ، وَإِنَّمَا عَلَى النِّسَاءِ التَّقْصِيرُ. وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ: نَهَى أَنْ تَحْلِقَ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا، وَقَالَ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ حَلَقَتْ أَجْزَأَهَا وَيُكْرَهُ، وَقَالَ الْقَاضِيَانِ أَبُو الطَّيِّبِ، وَحُسَيْنٌ: لَا يَجُوزُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا مَشْرُوعِيَّةُ الدُّعَاءِ لِمَنْ فَعَلَ مَا شُرِعَ لَهُ، وَتَكْرَارُ الدُّعَاءِ لِمَنْ فَعَلَ الرَّاجِحَ مِنَ الْأَمْرَيْنِ الْمُخَيَّرِ فِيهِمَا، وَالتَّنْبِيهُ بِالتَّكْرَارِ عَلَى الرُّجْحَانِ، وَطَلَبِ الدُّعَاءِ لِمَنْ فَعَلَ الْجَائِزَ وَإِنْ كَانَ مَرْجُوحًا.

قَوْلُهُ: (عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ) فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالْإِسْنَادُ سِوَى أَبِي عَاصِمٍ مَكِّيُّونَ، وَفِيهِ رِوَايَةُ صَحَابِيٍّ عَنْ صَحَابِيٍّ.

وَمُعَاوِيَةُ هُوَ ابْنُ أَبِي سُفْيَانَ الْخَلِيفَةُ الْمَشْهُورُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ مُعَاوِيَةَ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ أَخْبَرَهُ.

قَوْلُهُ: (قَصَّرْتُ) أَيْ: أَخَذْتُ مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ، وَهُوَ يُشْعِرُ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي نُسُكٍ، إِمَّا فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ حَلَقَ فِي حَجَّتِهِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ فِي عُمْرَةٍ، وَلَاسِيَّمَا وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِالْمَرْوَةِ، وَلَفْظُهُ: قَصَّرْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِشْقَصٍ وَهُوَ عَلَى الْمَرْوَةِ. أَوْ: رَأَيْتُهُ يُقَصَّرُ عَنْهُ بِمِشْقَصٍ وَهُوَ عَلَى الْمَرْوَةِ. وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ أَوِ الْجِعْرَانَةِ، لَكِنْ وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ طَاوُسٍ بِلَفْظِ: أَمَا عَلِمْتَ أَنِّي قَصَّرْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِشْقَصٍ وَهُوَ عَلَى الْمَرْوَةِ؟ فَقُلْتُ لَهُ لَا أَعْلَمُ هَذِهِ إِلَّا حُجَّةً عَلَيْكَ، وَبَيَّنَ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ فَقَالَ بَدَلَ قَوْلِهِ: فَقُلْتُ لَهُ: لَا، إِلَخْ يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهَذِهِ عَلَى مُعَاوِيَةَ أَنْ يَنْهَى النَّاسَ عَنِ الْمُتْعَةِ وَقَدْ تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَلِأَحْمَدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى مَاتَ. الْحَدِيثَ، وَقَالَ: وَأَوَّلُ مَنْ نَهَى عَنْهَا مُعَاوِيَةُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَعَجِبْتُ مِنْهُ، وَقَدْ حَدَّثَنِي أَنَّهُ قَصَّرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِشْقَصٍ. انْتَهَى. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى وُقُوعِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ لِقَوْلِهِ لِمُعَاوِيَةَ: إِنَّ هَذِهِ حُجَّةٌ عَلَيْكَ، إِذْ لَوْ كَانَ فِي الْعُمْرَةِ لَمَا كَانَ فِيهِ عَلَى مُعَاوِيَةَ حُجَّةٌ.

وَأَصْرَحُ مِنْهُ مَا وَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَطَاءٍ: أَنَّ مُعَاوِيَةَ حَدَّثَ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ بِمِشْقَصٍ مَعِي وَهُوَ مُحْرِمٌ وَفِي كَوْنِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَحِلَّ حَتَّى بَلَغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ، فَكَيْفَ يُقَصِّرُ عَنْهُ عَلَى الْمَرْوَةِ. وَقَدْ بَالَغَ النَّوَوِيُّ هُنَا فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَقَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَصَّرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ كَانَ قَارِنًا وَثَبَتَ أَنَّهُ حَلَقَ بِمِنًى وَفَرَّقَ أَبُو طَلْحَةَ شَعْرَهُ بَيْنَ النَّاسِ، فَلَا يَصِحُّ حَمْلُ تَقْصِيرِ مُعَاوِيَةَ عَلَى حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَلَا يَصِحُّ حَمْلُهُ أَيْضًا عَلَى عُمْرَةِ الْقَضَاءِ الْوَاقِعَةِ سَنَةَ سَبْعٍ؛ لِأَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمْ يَكُنْ يَوْمئِذٍ مُسْلِمًا إِنَّمَا أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ سَنَةَ ثَمَانٍ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ، وَلَا يَصِحُّ قَوْلُ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَزَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ مُتَمَتِّعًا؛ لِأَنَّ هَذَا غَلَطٌ فَاحِشٌ، فَقَدْ تَظَاهَرَتِ الْأَحَادِيثُ فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قِيلَ لَهُ: مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا مِنَ الْعُمْرَةِ وَلَمْ تَحِلَّ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ؟ فَقَالَ: إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي وَقَلَّدْتُ هَدْيِي فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ.

قُلْتُ: وَلَمْ يَذْكُرِ الشَّيْخُ هُنَا مَا مَرَّ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ، وَالَّذِي رَجَّحَهُ مِنْ كَوْنِ مُعَاوِيَةَ إِنَّمَا أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ صَحِيحٌ مِنْ حَيْثُ السَّنَدِ، لَكِنْ

ص: 565

يُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّهُ كَانَ أَسْلَمَ خُفْيَةً وَكَانَ يَكْتُمُ إِسْلَامَهُ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إِظْهَارِهِ إِلَّا يَوْمَ الْفَتْحِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِ دِمَشْقَ مِنْ تَرْجَمَةِ مُعَاوِيَةَ تَصْرِيحَ مُعَاوِيَةَ بِأَنَّهُ أَسْلَمَ بَيْنَ الْحُدَيْبِيَةِ وَالْقَضِيَّةِ وَأَنَّهُ كَانَ يُخْفِي إِسْلَامَهُ خَوْفًا مِنْ أَبَوَيْهِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا دَخَلَ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ مَكَّةَ خَرَجَ أَكْثَرُ أَهْلِهَا عَنْهَا حَتَّى لَا يَنْظُرُونَهُ وَأَصْحَابَهُ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ، فَلَعَلَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ مِمَّنْ تَخَلَّفَ بِمَكَّةَ لِسَبَبٍ اقْتَضَاهُ، وَلَا يُعَارِضُهُ أَيْضًا قَوْلُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِيمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ فَعَلْنَاهَا - يَعْنِي الْعُمْرَةَ - فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَهَذَا يَوْمَئِذٍ كَافِرٌ بِالْعُرُشِ بِضَمَّتَيْنِ يَعْنِي بُيُوتَ مَكَّةَ، يُشِيرُ إِلَى مُعَاوِيَةَ؛ لِأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا اسْتَصْحَبَهُ مِنْ حَالِهِ وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَى إِسْلَامِهِ لِكَوْنِهِ كَانَ يُخْفِيهِ. وَيُعَكِّرُ عَلَى مَا جَوَّزُهُ أَنَّ تَقْصِيرَهُ كَانَ فِي عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَكِبَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ بَعْدَ أَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَلَمْ يَسْتَصْحِبْ أَحَدًا مَعَهُ إِلَّا بَعْضَ أَصْحَابِهِ الْمُهَاجِرِينَ، فَقَدِمَ مَكَّةَ فَطَافَ وَسَعَى وَحَلَقَ وَرَجَعَ إِلَى الْجِعْرَانَةِ، فَأَصْبَحَ بِهَا كَبَائِتٍ، فَخَفِيَتْ عُمْرَتُهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ.

كَذَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، وَلَمْ يَعُدْ مُعَاوِيَةُ فِيمَنْ صَحِبَهُ حِينَئِذٍ، وَلَا كَانَ مُعَاوِيَةُ فِيمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ بِمَكَّةَ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ حَتَّى يُقَالَ: لَعَلَّهُ وَجَدَهُ بِمَكَّةَ، بَلْ كَانَ مَعَ الْقَوْمِ وَأَعْطَاهُ مِثْلَمَا أَعْطَى أَبَاهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ مَعَ جُمْلَةِ الْمُؤَلَّفَةِ، وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي الْإِكْلِيلِ فِي آخِرِ قِصَّةِ غَزْوَةِ حُنَيْنٍ أَنَّ الَّذِي حَلَقَ رَأْسَهُ صلى الله عليه وسلم فِي عُمْرَتِهِ الَّتِي اعْتَمَرَهَا مِنَ الْجِعْرَانَةِ أَبُو هِنْدٍ عَبْدُ بَنِي بَيَاضَةَ، فَإِنْ ثَبَتَ هَذَا، وَثَبَتَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ حِينَئِذٍ مَعَهُ، أَوْ كَانَ بِمَكَّةَ فَقَصَّرَ عَنْهُ بِالْمَرْوَةِ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بِأَنْ يَكُونَ مُعَاوِيَةُ قَصَّرَ عَنْهُ أَوَّلًا، وَكَانَ الْحَلَّاقُ غَائِبًا فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ ثُمَّ حَضَرَ فَأَمَرَهُ أَنْ يُكْمِلَ إِزَالَةَ الشَّعْرَ بِالْحَلْقِ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ فَفَعَلَ، وَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ وَثَبَتَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم حَلَقَ فِيهَا جَاءَ هَذَا الِاحْتِمَالُ بِعَيْنِهِ وَحَصَلَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ الْأَخْبَارِ كُلِّهَا، وَهَذَا مِمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيَّ بِهِ فِي هَذَا الْفَتْحِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ أَبَدًا. قَالَ صَاحِبُ الْهَدْيِ: الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمُسْتَفِيضَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَحِلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ إِلَى يَوْمِ النَّحْرِ كَمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ، وَهُوَ خَبَرٌ لَا يَدْخُلُهُ الْوَهْمُ بِخِلَافِ خَبَرِ غَيْرِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَعَلَّ مُعَاوِيَةَ قَصَّرَ عَنْهُ فِي عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ فَنَسِيَ بَعْدَ ذَلِكَ وَظَنَّ أَنَّهُ كَانَ فِي حَجَّتِهِ. انْتَهَى.

وَلَا يُعَكِّرُ عَلَى هَذَا إِلَّا رِوَايَةُ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ الْمُتَقَدِّمَةُ لِتَصْرِيحِهِ فِيهَا بِكَوْنِ ذَلِكَ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ، إِلَّا أَنَّهَا شَاذَّةٌ، وَقَدْ قَالَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ عَقِبَهَا: وَالنَّاسُ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ. انْتَهَى. وَأَظُنُّ قَيْسًا رَوَاهَا بِالْمَعْنَى، ثُمَّ حَدَّثَ بِهَا فَوَقَعَ لَهُ ذَلِكَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي قَوْلِ مُعَاوِيَةَ: قَصَّرْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِشْقَصٍ. حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ قَصَّرْتُ أَنَا شَعْرِي عَنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. انْتَهَى. وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ: قَصَّرْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الْمَرْوَةِ. أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُعَاوِيَةُ قَصَّرَ عَنْ رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَقِيَّةَ شَعْرٍ لَمْ يَكُنِ الْحَلَّاقُ اسْتَوْفَاهُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَتَعَقَّبَهُ صَاحِبُ الْهَدْيِ بِأَنَّ الْحَالِقَ لَا يُبْقِي شَعْرًا يُقَصَّرُ مِنْهُ، وَلَاسِيَّمَا وَقَدْ قَسَمَ صلى الله عليه وسلم شَعْرَهُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ الشَّعْرَةَ وَالشَّعْرَتَيْنِ، وَأَيْضًا فَهُوَ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْعَ بَيْنَ الصَّفَّا وَالْمَرْوَةِ إِلَّا سَعْيًا وَاحِدًا فِي أَوَّلِ مَا قَدِمَ، فَمَاذَا يَصْنَعُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ فِي الْعَشْرِ.

قُلْتُ: وَفِي رِوَايَةِ الْعَشْرِ نَظَرٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ أَشَارَ النَّوَوِيُّ إِلَى تَرْجِيحِ كَوْنِهِ فِي الْجِعْرَانَةِ وَصَوَّبَهُ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ الْقَيِّمِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ أَنَّهُ حَلَقَ فِي الْجِعْرَانَةِ، وَاسْتِبْعَادُ بَعْضِهِمْ أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَصَّرَ عَنْهُ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ لِكَوْنِهِ لَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ لَيْسَ بِبَعِيدٍ.

قَوْلُهُ: (بِمِشْقَصٍ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْقَافِ وَآخِرُهُ صَادٌ مُهْمَلَةٌ، قَالَ الْقَزَّازُ: هُوَ نَصْلٌ عَرِيضٌ يُرْمَى بِهِ الْوَحْشُ. وَقَالَ صَاحِبِ الْمُحْكَمِ: هُوَ الطَّوِيلُ مِنَ النِّصَالِ وَلَيْسَ بِعَرِيضٍ. وَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 566

‌128 - بَاب تَقْصِيرِ الْمُتَمَتِّعِ بَعْدَ الْعُمْرَةِ

1731 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، أَخْبَرَنِي كُرَيْبٌ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ يَحِلُّوا وَيَحْلِقُوا أَوْ يُقَصِّرُوا.

قَوْلُهُ: (بَابُ تَقْصِيرِ الْمُتَمَتِّعِ بَعْدَ الْعُمْرَةِ) أَيْ: عِنْدَ الْإِحْلَالِ مِنْهَا.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ) هُوَ الْمُقَدَّمِيُّ، وَفُضَيْلٌ شَيْخُهُ بِالتَّصْغِيرِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ يَحِلُّوا وَيَحْلِقُوا أَوْ يُقَصِّرُوا) فِيهِ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ لِلمتَمَتِّعِ، وَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ إِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَطْلُعُ شَعْرُهُ فَالْأَوْلَى لَهُ الْحَلْقُ وَإِلَّا فَالتَّقْصِيرُ لِيَقَعَ لَهُ الْحَلْقُ فِي الْحَجِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌129 - بَاب الزِّيَارَةِ يَوْمَ النَّحْرِ

وَقَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم: أَخَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الزِّيَارَةَ إِلَى اللَّيْلِ، وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي حَسَّانَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَزُورُ الْبَيْتَ أَيَّامَ مِنًى

1732 -

وَقَالَ لَنَا أَبُو نُعَيْمٍ:، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ طَافَ طَوَافًا وَاحِدًا، ثُمَّ يَقِيلُ، ثُمَّ يَأْتِي مِنًى يَعْنِي: يَوْمَ النَّحْرِ، وَرَفَعَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ.

1733 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ الْأَعْرَجِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: حَجَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَفَضْنَا يَوْمَ النَّحْرِ، فَحَاضَتْ صَفِيَّةُ، فَأَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا مَا يُرِيدُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا حَائِضٌ. قَالَ: حَابِسَتُنَا هِيَ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَاضَتْ يَوْمَ النَّحْرِ، قَالَ: اخْرُجُوا.

قَوْلُهُ: (بَابُ الزِّيَارَةِ يَوْمَ النَّحْرِ) أَيْ: زِيَارَةِ الْحَاجِّ الْبَيْتَ لِلطَّوَافِ بِهِ، وَهُوَ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ، وَيُسَمَّى أَيْضًا طَوَافَ الصَّدْرِ وَطَوَافَ الرُّكْنِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ إِلَخْ) وَصَلَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ وَهُوَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ بِهِ، قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ الْفَاسِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ مُخَالِفٌ لِمَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ، وَجَابِرٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ طَافَ يَوْمَ النَّحْرِ نَهَارًا. انْتَهَى. فَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ عَقَّبَ هَذَا بِطَرِيقِ أَبِي حَسَّانٍ لِيَجْمَعَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ بِذَلِكَ، فَيُحْمَلُ حَدِيثُ جَابِرٍ، وَابْنِ عُمَرَ عَلَى الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا عَلَى بَقِيَّةِ الْأَيَّامِ.

قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي حَسَّانٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَزُورُ الْبَيْتَ أَيَّامَ مِنًى) وَصَلَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ عَنْهُ، وَقَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ فِي الْعِلَلِ: رَوَى قَتَادَةُ حَدِيثًا غَرِيبًا لَا نَحْفَظُهُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ قَتَادَةَ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ هِشَامٍ، فَنَسَخْتُهُ مِنْ كِتَابِ ابْنِهِ مُعَاذِ بْنِ هِشَامٍ، وَلَمْ أَسْمَعهُ مِنْهُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنِي أَبُو حَسَّانٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَزُورُ الْبَيْتَ كُلَّ لَيْلَةٍ مَا أَقَامَ بِمِنًى. وَقَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ: تَحْفَظُ عَنْ قَتَادَةَ؟ فَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ، فَقَالَ: كَتَبُوهُ مِنْ كِتَابِ مُعَاذٍ، قُلْتُ:

ص: 567

فَإِنَّ هُنَا إِنْسَانًا يَزْعُمُ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ مُعَاذٍ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ. وَأَشَارَ الْأَثْرَمُ بِذَلِكَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَرْعَرَةَ فَإِنَّ مِنْ طَرِيقِهِ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَأَبُو حَسَّانٍ اسْمُهُ مُسْلِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَدْ أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ حَدِيثًا غَيْرَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ شَرْطِ الْبُخَارِيِّ. وَلِرِوَايَةِ أَبِي حَسَّانٍ هَذِهِ شَاهِدٌ مُرْسَلٌ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ: حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُفِيضُ كُلَّ لَيْلَةٍ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ لَنَا أَبُو نُعَيْمٍ إِلَخْ) ثُمَّ قَالَ: (رَفَعَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ) وَصَلَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِلَفْظِ أَبِي نُعَيْمٍ وَزَادَ فِي آخِرِهِ: وَيَذْكُرُ - أَيِ ابْنُ عُمَرَ - أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَهُ. وَفِيهِ التَّنْصِيصُ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى مِنًى بَعْدَ الْقَيْلُولَةِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ، وَمُقْتَضَاهُ أَنْ يَكُونَ خَرَجَ مِنْهَا إِلَى مَكَّةَ لِأَجْلِ الطَّوَافِ قَبْلَ ذَلِكَ.

وَيُذْكَرُ عَنْ الْقَاسِمِ وَعُرْوَةَ وَالْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَفَاضَتْ صَفِيَّةُ يَوْمَ النَّحْرِ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: حَجَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَفَضْنَا يَوْمَ النَّحْرِ أَيْ: طُفْنَا طَوَافَ الْإِفَاضَةِ، وَهُوَ مُطَابِقٌ لِلتَّرْجَمَةِ، وَذَكَرَ فِيهِ قِصَّةَ صَفِيَّةِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي: بَابِ إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ بَعْدَمَا أَفَاضَتْ قَرِيبًا.

قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ عَنِ الْقَاسِمِ، وَعُرْوَةَ، وَالْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ أَفَاضَتْ صَفِيَّةُ يَوْمَ النَّحْرِ) وَغَرَضُهُ بِهَذَا أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ لَمْ يَنْفَرِدْ عَنْ عَائِشَةَ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجْزِمْ بِهِ لِأَنَّ بَعْضَهَمْ أَوْرَدَهُ بِالْمَعْنَى كَمَا نُبَيِّنُهُ، أَمَّا طَرِيقُ الْقَاسِمِ فَهِيَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَفْلَحَ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْهُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنَّا نَتَخَوَّفُ أَنْ تَحِيضَ صَفِيَّةُ قَبْلَ أَنْ تُفِيضَ، فَجَاءَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَحَابِسَتُنَا صَفِيَّةُ؟ قُلْنَا: قَدْ أَفَاضَتْ. قَالَ: فَلَا إِذًا. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْهَا: أَنَّ صَفِيَّةَ حَاضَتْ بِمِنًى وَكَانَتْ قَدْ أَفَاضَتْ الْحَدِيثَ. وَأَمَّا طَرِيقُ عُرْوَةَ فَرَوَاهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْمَغَازِي مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْهُ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ صَفِيَّةَ حَاضَتْ بَعْدَمَا أَفَاضَتْ، وَأَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ عَقِبَ رِوَايَةِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظِ: أَكُنْتِ أَفَضْتِ يَوْمَ النَّحْرِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ، وَقَالَ نَحْوَهُ، وَأَمَّا طَرِيقُ الْأَسْوَدِ فَوَصَلَهَا الْمُصَنِّفُ فِي: بَابِ الْإِدْلَاجِ مِنَ الْمُحَصَّبِ، بِلَفْظِ: حَاضَتْ صَفِيَّةُ الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: أَطَافَتْ يَوْمَ النَّحْرِ؟ فَقِيلَ: نَعَمْ.

‌130 - بَاب إِذَا رَمَى بَعْدَ مَا أَمْسَى أَوْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا

1734 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قِيلَ لَهُ فِي الذَّبْحِ وَالْحَلْقِ وَالرَّمْيِ وَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فَقَالَ: لَا حَرَجَ.

1735 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُسْأَلُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى فَيَقُولُ: لَا حَرَجَ، فَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ، قَالَ: اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ، وَقَالَ: رَمَيْتُ بَعْدَمَا أَمْسَيْتُ، فَقَالَ: لَا حَرَجَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا رَمَى بَعْدَ مَا أَمْسَى أَوْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَلَمْ يُبَيِّنِ الْحُكْمَ فِي التَّرْجَمَةِ إِشَارَةً مِنْهُ إِلَى أَنَّ الْحُكْمَ بِرَفْعِ الْحَرَجِ مُقَيَّدٌ بِالْجَاهِلِ أَوِ النَّاسِي فَيُحْتَمَلُ اخْتِصَاصُهُمَا بِذَلِكَ، أَوْ إِلَى أَنَّ نَفْيَ الْحَرَجِ لَا يَسْتَلْزِمُ رَفْعَ وُجُوبِ الْقَضَاءِ أَوِ الْكَفَّارَةِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِمَّا وَقَعَ فِيهَا الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِلَفْظِ النِّسْيَانِ وَالْجَهْلِ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ أَيْضًا فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِذَا رَمَى بَعْدَمَا أَمْسَى فَمُنْتَزَعٌ مِنْ

ص: 568

حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْبَابِ قَالَ: رَمَيْتُ بَعْدَمَا أَمْسَيْتُ أَيْ: بَعْدَ دُخُولِ الْمَسَاءِ، وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى مَا بَعْدَ الزَّوَالِ إِلَى أَنْ يَشْتَدَّ الظَّلَامُ، فَلَمْ يَتَعَيَّنْ لِكَوْنِ الرَّمْيِ الْمَذْكُورِ كَانَ بِاللَّيْلِ.

‌131 - بَاب الْفُتْيَا عَلَى الدَّابَّةِ عِنْدَ الْجَمْرَةِ

1736 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَجَعَلُوا يَسْأَلُونَهُ، فَقَالَ رَجُلٌ: لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ، قَالَ: اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ، فَجَاءَ آخَرُ فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، قَالَ: ارْمِ وَلَا حَرَجَ، فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلَا أُخِّرَ إِلَّا قَالَ: افْعَلْ وَلَا حَرَجَ.

1737 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه حَدَّثَهُ "أَنَّهُ شَهِدَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ كُنْتُ أَحْسِبُ أَنَّ كَذَا قَبْلَ كَذَا ثُمَّ قَامَ آخَرُ فَقَالَ كُنْتُ أَحْسِبُ أَنَّ كَذَا قَبْلَ كَذَا حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ نَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "افْعَلْ وَلَا حَرَجَ لَهُنَّ كُلِّهِنَّ فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ قَالَ افْعَلْ وَلَا حَرَجَ"

1738 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قَالَ "وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى نَاقَتِهِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ" تَابَعَهُ مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ

قَوْلُهُ: (بَابُ الْفُتْيَا عَلَى الدَّابَّةِ عِنْدَ الْجَمْرَةِ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ تَقَدَّمَتْ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ لَكِنْ بِلَفْظِ: بَابُ الْفُتْيَا وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى الدَّابَّةِ أَوْ غَيْرِهَا ثُمَّ قَالَ بَعْدَ أَبْوَابٍ كَثِيرَةٍ: بَابُ السُّؤَالِ وَالْفُتْيَا عِنْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ وَأَوْرَدَ فِي كُلٍّ مِنَ التَّرْجَمَتَيْنِ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو الْمَذْكُورَ فِي هَذَا الْبَابِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَقَعُ لَهُ إِلَّا نَادِرًا، وَقَدِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَانَ عَلَى دَابَّةٍ، بَلْ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ عَنْهُ أَنَّهُ جَلَسَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَامَ رَجُلٌ، ثُمَّ قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: فَإِنْ ثَبَتَ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ أَنَّهُ كَانَ عَلَى دَابَّةٍ فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ جَلَسَ عَلَى أَنَّهُ رَكِبَهَا وَجَلَسَ عَلَيْهَا، قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ الْمُتَعَيِّنُ، فَقَدْ أَوْرَدَ هُوَ رِوَايَةَ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ بِلَفْظِ: وَقَفَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَهِيَ بِمَعْنَى جَلَسَ، وَالدَّابَّةُ تُطْلَقُ عَلَى الْمَرْكُوبِ مِنْ نَاقَةٍ وَفَرَسٍ وَبَغْلٍ وَحِمَارٍ، فَإِذَا ثَبَتَ فِي الرَّاحِلَةِ كَانَ الْحُكْمُ فِي الْبَقِيَّةِ كَذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: إِنَّ صَالِحَ بْنَ كَيْسَانَ تَفَرَّدَ بِقَوْلِهِ وَقَفَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، فَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَيْضًا يُونُسُ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَمَعْمَرٌ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَقَدْ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَابَعَهُ مَعْمَرٌ أَيْ: فِي قَوْلِهِ وَقَفَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَهُوَ ابْنُ الْعَاصِي كَمَا فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ، بِخِلَافِ مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْعُمْدَةِ وَشَرَحَ عَلَيْهِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَمَنْ تَبِعَهُ عَلَى

أَنَّهُ ابْنُ عُمَرَ بِضَمِّ الْعَيْنِ، أَيِ ابْنِ الْخَطَّابِ، وَأَوْرَدَهُ

ص: 569

الْمُصَنِّفُ مِنْ أَرْبَعَةِ طُرُقٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ، وَطَلْحَةُ هُوَ ابْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ أَحَدُ الْعَشَرَةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، وَلَمْ أَرَهُ مِنْ حَدِيثِهِ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الزُّهْرِيِّ عَلَيْهِ فِي سِيَاقِهِ، وَأَتَمُّهُمْ عَنْهُ سِيَاقًا صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ وَهِيَ الطَّرِيقُ الثَّالِثَةِ، وَلَمْ يَسُقِ الْمُصَنِّفُ لَفْظَهَا، وَهِيَ عِنْدَ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ يَعْقُوبَ، وَفِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى سِيَاقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَمَالِكٍ، وَقَدْ تَابَعَهُ يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِزِيَادَةٍ أَيْضًا سَنُبَيِّنُهَا.

قَوْلُهُ: (مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) كَذَا فِي: الْمُوَطَّأِ، وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى وَهُوَ الْقَطَّانُ، عَنْ مَالِكٍ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عِيسَى) فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ: حَدَّثَنِي عِيسَى.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَهِيَ الثَّانِيَةُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ حَدَّثَهُ.

1737 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ، عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه حَدَّثَهُ أَنَّهُ شَهِدَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ يَوْمَ النَّحْرِ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: كُنْتُ أَحْسِبُ أَنَّ كَذَا قَبْلَ كَذَا، ثُمَّ قَامَ آخَرُ فَقَالَ: كُنْتُ أَحْسِبُ أَنَّ كَذَا قَبْلَ كَذَا، حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ، نَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: افْعَلْ وَلَا حَرَجَ لَهُنَّ كُلِّهِنَّ، فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا قَالَ: افْعَلْ وَلَا حَرَجَ.

1738 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قَالَ: وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى نَاقَتِهِ. . فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. تَابَعَهُ مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ.

قَوْلُهُ فِي الثَّانِيَةِ: (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا أَبِي) هُوَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبَانَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِي الْأُمَوِيُّ.

قَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الثَّالِثَةِ (حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ غَيْرُ مَنْسُوبٍ، وَنَسَبَهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ السَّكَنِ، فَقَالَ: إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَوْرَدَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي: الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ مُسْنَدِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، وَهُوَ الْمُتَرَجِّحُ عِنْدِي لِتَعْبِيرِهِ بِقَوْلِهِ: أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ؛ لِأَنَّ إِسْحَاقَ بْنَ رَاهَوَيْهِ لَا يُحَدِّثُ عَنْ مَشَايِخِهِ إِلَّا بِلَفْظِ الْإِخْبَارِ بِخِلَافِ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ، فَيَقُولُ: حَدَّثَنَا.

قَوْلُهُ: (وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ) لَمْ يُعَيِّنِ الْمَكَانَ وَلَا الْيَوْمَ، لَكِنْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ مَالِكٍ بِمِنًى، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، وَفِيهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: عِنْدَ الْجَمْرَةِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَهِيَ الطَّرِيقُ الثَّانِيَةُ هُنَا: يَخْطُبُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَفِي رِوَايَةِ صَالِحٍ، وَمَعْمَرٍ كَمَا تَقَدَّمَ: عَلَى رَاحِلَتِهِ، قَالَ عِيَاضٌ: جَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ بِأَنَّهُ مَوْقِفٌ وَاحِدٌ عَلَى أَنَّ مَعْنَى خَطَبَ أَيْ عَلَّمَ النَّاسَ لَا أَنَّهَا مِنْ خُطَبِ الْحَجِّ الْمَشْرُوعَةِ، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي مَوْطِنَيْنِ أَحَدُهُمَا عَلَى رَاحِلَتِهِ عِنْدَ الْجَمْرَةِ وَلَمْ يَقُلْ فِي هَذَا خَطَبَ، وَالثَّانِي يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَذَلِكَ وَقْتُ الْخُطْبَةِ الْمَشْرُوعَةِ مِنْ خُطَبِ الْحَجِّ يُعَلِّمُ الْإِمَامُ فِيهَا النَّاسَ مَا بَقِيَ عَلَيْهِمْ مِنْ مَنَاسِكِهِمْ. وَصَوَّبَ النَّوَوِيُّ هَذَا الِاحْتِمَالَ الثَّانِي. فَإِنْ قِيلَ: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذَا الَّذِي صَوَّبَهُ وَبَيْنَ الَّذِي قَبْلَهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْحَدِيثَيْنِ - حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - بَيَانُ الْوَقْتِ الَّذِي خَطَبَ فِيهِ مِنَ النَّهَارِ، قُلْتُ: نَعَمْ، لَمْ يَقَعِ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ بَعْضَ السَّائِلِينَ قَالَ: رَمَيْتُ بَعْدَمَا أَمْسَيْتُ.

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ كَانَتْ بَعْدَ الزَّوَالِ لِأَنَّ الْمَسَاءَ يُطْلَقُ عَلَى مَا بَعْدَ الزَّوَالِ، وَكَأَنَّ السَّائِلَ عَلِمَ أَنَّ السُّنَّةَ لِلْحَاجِّ أَنْ يَرْمِيَ الْجَمْرَةَ أَوَّلَ مَا يَقْدَمُ ضُحًى، فَلَمَّا أَخَّرَهَا إِلَى بَعْدَ الزَّوَالِ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ، عَلَى أَنَّ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مِنْ مَخْرَجٍ وَاحِدٍ لَا يُعْرَفُ لَهُ طَرِيقٌ إِلَّا طَرِيقُ الزُّهْرِيِّ هَذِهِ عَنْ عِيسَى عَنْهُ، والِاخْتِلَافُ فِيهِ مِنْ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ، وَغَايَتُهُ أَنَّ بَعْضَهُمْ ذَكَرَ مَا لَمْ يَذْكُرهُ الْآخَرُ، وَاجْتَمَعَ مِنْ مَرْوِيِّهِمْ، وَرِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ الزَّوَالِ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ يَخْطُبُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ، وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ الزَّوَالِ يَوْمَ النَّحْرِ تَعَيَّنَ أَنَّهَا الْخُطْبَةُ الَّتِي شُرِعَتْ لِتَعْلِيمِ بَقِيَّةِ الْمَنَاسِكِ، فَلَيْسَ قَوْلُهُ خَطَبَ مَجَازًا عَنْ مُجَرَّدِ التَّعْلِيمِ بَلْ حَقِيقَةً، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُقُوفِهِ عِنْدَ الْجَمْرَةِ أَنْ يَكُونَ حِينَئِذٍ رَمَاهَا، فَسَيَأْتِي فِي آخِرِ الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ يَوْمَ النَّحْرِ بَيْنَ الْجَمَرَاتِ فَذَكَرَ خُطْبَتَهُ، فَلَعَلَّ ذَلِكَ وَقَعَ بَعْدَ أَنْ أَفَاضَ وَرَجَعَ إِلَى مِنًى.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ رَجُلٌ) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ بَعْدَ الْبَحْثِ الشَّدِيدِ، وَلَا عَلَى اسْمِ أَحَدٍ مِمَّنْ سَأَلَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَسَأُبَيِّنُ أَنَّهُمْ كَانُوا جَمَاعَةً، لَكِنْ فِي حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ وَغَيْرِهِ كَانَ الْأَعْرَابُ يَسْأَلُونَهُ، وَكَأَنَّ هَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي عَدَمِ ضَبْطِ أَسْمَائِهِمْ.

قَوْلُهُ: (لَمْ أَشْعُرْ) أَيْ لَمْ أَفْطِنْ، يُقَالُ: شَعَرْتُ بِالشَّيْءِ شُعُورًا إِذَا فَطِنْتُ لَهُ، وَقِيلَ: الشُّعُورُ الْعِلْمُ، وَلَمْ يُفْصِحْ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ بِمُتَعَلَّقِ الشُّعُورِ، وَقَدْ بَيَّنَهُ يُونُسُ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَلَفْظُهُ: لَمْ

ص: 570

أَشْعُرْ أَنَّ الرَّمْيَ قَبْلَ النَحْرِ فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ. وَقَالَ آخَرُ: لَمْ أَشْعُرْ أَنَّ النَّحْرَ قَبْلَ الْحَلْقِ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ: كُنْتُ أَحْسَبُ أَنَّ كَذَا قَبْلَ كَذَا، وَقَدْ تَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ: وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ: حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، وَقَالَ آخَرُ: أَفَضْتُ إِلَى الْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، وَفِي حَدِيثِ مَعْمَرٍ عِنْدَ أَحْمَدَ زِيَادَةُ الْحَلْقِ قَبْلَ الرَّمْيِ أَيْضًا، فَحَاصِلُ مَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو السُّؤَالُ عَنْ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: الْحَلْقُ قَبْلَ الذَّبْحِ، وَالْحَلْقُ قَبْلَ الرَّمْيِ، وَالنَّحْرُ قَبْلَ الرَّمْيِ، وَالْإِفَاضَةُ قَبْلَ الرَّمْيِ، وَالْأُولَيَانِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا كَمَا مَضَى، وَعِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا السُّؤَالُ عَنِ الْحَلْقِ قَبْلَ الرَّمْيِ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ، وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ عِنْدَ أَحْمَدَ السُّؤَالُ عَنِ الْإِفَاضَةِ قَبْلَ الْحَلْقِ، وَفِي حَدِيثِهِ عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ السُّؤَالُ عَنِ الرَّمْيِ وَالْإِفَاضَةِ مَعًا قَبْلَ الْحَلْقِ، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ الَّذِي عَلَّقَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا مَضَى وَوَصَلَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ السُّؤَالُ عَنِ الْإِفَاضَةِ قَبْلَ الذَّبْحِ، وَفِي حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ السُّؤَالُ عَنِ السَّعْيِ قَبْلَ الطَّوَافِ.

قَوْلُهُ: (اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ) أَيْ: لَا ضِيقَ عَلَيْكَ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي: بَابِ الذَّبْحِ قَبْلَ الْحَلْقِ تَقْرِيرٌ تَرْتِيبُهُ، وَذَلِكَ أَنَّ وَظَائِفَ يَوْمِ النَّحْرِ بِالِاتِّفَاقِ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، ثُمَّ نَحْرُ الْهَدْيِ أَوْ ذَبْحُهُ، ثُمَّ الْحَلْقُ أَوِ التَّقْصِيرُ، ثُمَّ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ. وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَى مِنًى فَأَتَى الْجَمْرَةَ فَرَمَاهَا، ثُمَّ أَتَى مَنْزِلَهُ بِمِنًى فَنَحَرَ، وَقَالَ لِلْحَالِقِ خُذْ. وَلِأَبِي دَاوُدَ: رَمَى ثُمَّ نَحَرَ ثُمَّ حَلَقَ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَطْلُوبِيَّةِ هَذَا التَّرْتِيبِ، إِلَّا أَنَّ ابْنَ الْجَهْمِ الْمَالِكِيَّ اسْتَثْنَى الْقَارِنَ، فَقَالَ: لَا يَحْلِقُ حَتَّى يَطُوفَ، كَأَنَّهُ لَاحَظَ أَنَّهُ فِي عَمَلِ الْعُمْرَةِ يَتَأَخَّرُ فِيهَا الْحَلْقُ عَنِ الطَّوَافِ، وَرَدَّ عَلَيْهِ النَّوَوِيُّ بِالْإِجْمَاعِ، وَنَازَعَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي ذَلِكَ. وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ تَقْدِيمِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، فَأَجْمَعُوا عَلَى الْإِجْزَاءِ فِي ذَلِكَ كَمَا قَالَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي، إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الدَّمِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ أَنَّ مَنْ قَدَّمَ شَيْئًا عَلَى شَيْءٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. انْتَهَى. وَفِي نِسْبَةِ ذَلِكَ إِلَى النَّخَعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِذَلِكَ إِلَّا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ كَمَا سَيَأْتِي.

قَالَ: وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْعُلَمَاءُ وَفُقَهَاءُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ إِلَى الْجَوَازِ وَعَدَمِ وُجُوبِ الدَّمِ؛ لِقَوْلِهِ لِلسَّائِلِ: لَا حَرَجَ، فَهُوَ ظَاهِرٌ فِي رَفْعِ الْإِثْمِ وَالْفِدْيَةِ مَعًا؛ لِأَنَّ اسْمَ الضِّيقِ يَشْمَلُهُمَا. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى التَّوْسِعَةِ فِي تَقْدِيمِ بَعْضِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى بَعْضٍ، قَالَ: إِلَّا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ لَا حَرَجَ أَيْ لَا إِثْمَ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَهُوَ كَذَلِكَ لِمَنْ كَانَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا، وَأَمَّا مَنْ تَعَمَّدَ الْمُخَالَفَةَ فَتَجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ وُجُوبَ الْفِدْيَةِ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَبَيَّنَهُ صلى الله عليه وسلم حِينَئِذٍ لِأَنَّهُ وَقْتَ الْحَاجَةِ وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: لَمْ يُسْقِطِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْحَرَجَ إِلَّا وَقَدْ أَجْزَأَ الْفِعْلَ، إِذْ لَوْ لَمْ يُجْزِئْ لَأَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ لِأَنَّ الْجَهْلَ وَالنِّسْيَانَ لَا يَضَعَانِ عَنِ الْمَرْءِ الْحُكْمَ الَّذِي يَلْزَمُهُ فِي الْحَجِّ، كَمَا لَوْ تَرَكَ الرَّمْيَ وَنَحْوَهُ فَإِنَّهُ لَا يَأْثَمْ بِتَرْكِهِ جَاهِلًا أَوْ نَاسِيًا لَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ. وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَحْمِلُ قَوْلَهُ وَلَا حَرَجَ عَلَى نَفْيِ الْإِثْمِ فَقَطْ ثُمَّ يَخُصُّ ذَلِكَ بِبَعْضِ الْأُمُورِ دُونَ بَعْضٍ، فَإِنْ كَانَ التَّرْتِيبُ وَاجِبًا يَجِبُ بِتَرْكِهِ دَمٌ فَلْيَكُنْ فِي الْجَمِيعِ وَإِلَّا فَمَا وَجْهُ تَخْصِيصِ بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ مَعَ تَعْمِيمِ الشَّارِعِ الْجَمِيعَ بِنَفْيِ الْحَرَجِ.

وَأَمَّا احْتِجَاجُ النَّخَعِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ فِي تَقْدِيمِ الْحَلْقِ عَلَى غَيْرِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} قَالَ: فَمَنْ حَلَقَ قَبْلَ الذَّبْحِ أَهْرَاقَ دَمًا عَنْهُ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، فَقَدْ أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِبُلُوغِ مَحِلِّهِ وُصُولُهُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَحِلُّ ذَبْحُهُ فِيهِ وَقَدْ حَصَلَ،

ص: 571

وَإِنَّمَا يَتِمُّ مَا أَرَادَ أَنْ لَوْ قَالَ: وَلَا تَحْلِقُوا حَتَّى تَنْحَرُوا. وَاحْتَجَّ الطَّحَاوِيُّ أَيْضًا بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ قَدَّمَ شَيْئًا مِنْ نُسُكِهِ أَوْ أَخَّرَهُ فَلْيُهْرِقْ لِذَلِكَ دَمًا، قَالَ: وَهُوَ أَحَدُ مَنْ رَوَى أَنْ لَا حَرَجَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِنَفْيِ الْحَرَجِ نَفْيُ الْإِثْمِ فَقَطْ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الطَّرِيقَ بِذَلِكَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهَا ضَعْفٌ، فَإِنَّ ابْنَ أَبِي شَيْبَةَ أَخْرَجَهَا وَفِيهَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُهَاجِرٍ وَفِيهِ مَقَالٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الصِّحَّةِ فَيَلْزَمُ مَنْ يَأْخُذُ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنْ يُوجِبَ الدَّمَ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ وَلَا يَخُصُّهُ بِالْحَلْقِ قَبْلَ الذَّبْحِ أَوْ قَبْلَ الرَّمْيِ.

وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: مَنَعَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ تَقْدِيمَ الْحَلْقِ عَلَى الرَّمْيِ وَالذَّبْحِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ حَلْقًا قَبْلَ وُجُودِ التَّحَلُّلَيْنِ، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ مِثْلُهُ، وَقَدْ بُنِيَ الْقَوْلَانِ لَهُ عَلَى أَنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ أَوِ اسْتِبَاحَةُ مَحْظُورٍ؟ فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ نُسُكٌ جَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الرَّمْيِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ اسْتِبَاحَةُ مَحْظُورٍ فَلَا، قَالَ: وَفِي هَذَا الْبِنَاءِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الشَّيْءِ نُسُكًا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ، لِأَنَّ النُّسُكَ مَا يُثَابُ عَلَيْهِ، وَهَذَا مَالِكٌ يَرَى أَنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ، وَيَرَى أَنَّهُ لَا يُقَدَّمُ عَلَى الرَّمْيِ مَعَ ذَلِكَ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِنْ أَفَاضَ قَبْلَ الرَّمْيِ أَهْرَاقَ دَمًا. وَقَالَ عِيَاضٌ: اخْتُلِفَ عَنْ مَالِكٍ فِي تَقْدِيمِ الطَّوَافِ عَلَى الرَّمْيِ. وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الطَّوَافِ، فَإِنْ تَوَجَّهَ إِلَى بَلَدِهِ بِلَا إِعَادَةٍ وَجَبَ عَلَيْهِ دَمٌ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَهَذَا يُخَالِفُ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ. انْتَهَى. قُلْتُ: وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي حَفْصَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَكَأَنَّ مَالِكًا لَمْ يَحْفَظْ ذَلِكَ عَنِ الزُّهْرِيِّ.

قَوْلُهُ: (فَمَا سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلَا أُخِّرَ) فِي رِوَايَةِ يُونُسَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَصَالِحٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: فَمَا سَمِعْتُهُ سُئِلَ يَوْمئِذٍ عَنْ أَمْرٍ مِمَّا يَنْسَى الْمَرْءُ أَوْ يَجْهَلُ مِنْ تَقْدِيمِ بَعْضِ الْأُمُورِ عَلَى بَعْضٍ أَوْ أَشْبَاهِهَا إِلَّا قَالَ: افْعَلُوا ذَلِكَ وَلَا حَرَجَ.

وَاحْتَجَّ بِهِ وَبِقَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ لَمْ أَشْعُرْ بِأَنَّ الرُّخْصَةَ تَخْتَصُّ بِمَنْ نَسِيَ أَوْ جَهِلَ لَا بِمَنْ تَعَمَّدَ، قَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي: قَالَ الْأَثْرَمُ، عَنْ أَحْمَدَ: إِنْ كَانَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا فَلَا؛ لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: لَمْ أَشْعُرْ. وَأَجَابَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ التَّرْتِيبَ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا سَقَطَ بِالسَّهْوِ، كَالتَّرْتِيبِ بَيْنَ السَّعْيِ وَالطَّوَافِ فَإِنَّهُ لَوْ سَعَى قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ وَجَبَ إِعَادَةُ السَّعْيِ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَنْ سَعَى بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ، ثُمَّ طَافَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ، فَإِنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ سَعَى قَبْلَ الطَّوَافِ، أَيْ: طَوَافِ الرُّكْنِ، وَلَمْ يَقُلْ بِظَاهِرِ حَدِيثِ أُسَامَةَ إِلَّا أَحْمَدُ، وَعَطَاءٌ، فَقَالَا: لَوْ لَمْ يَطُفْ لِلْقُدُومِ وَلَا لِغَيْرِهِ وَقَدَّمَ السَّعْيَ قَبْلَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ أَجْزَأَهُ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْهُ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: مَا قَالَهُ أَحْمَدُ قَوِيٌّ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الدَّلِيلَ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ فِي الْحَجِّ بِقَوْلِهِ: خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ، وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الْمُرَخِّصَةُ فِي تَقْدِيمِ مَا وَقَعَ عَنْهُ تَأْخِيرُهُ قَدْ قُرِنَتْ بِقَوْلِ السَّائِلِ: لَمْ أَشْعُرْ، فَيَخْتَصُّ الْحُكْمُ بِهَذِهِ الْحَالَةِ، وَتَبْقَى حَالَةُ الْعَمْدِ عَلَى أَصْلِ وُجُوبِ الِاتِّبَاعِ فِي الْحَجِّ.

وَأَيْضًا فَالْحُكْمُ إِذَا رُتِّبَ عَلَى وَصْفٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا لَمْ يَجُزِ اطِّرَاحُهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عَدَمَ الشُّعُورِ وَصْفٌ مُنَاسِبٌ لِعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ، وَقَدْ عُلِّقَ بِهِ الْحُكْمُ فَلَا يُمْكِنُ اطِّرَاحُهُ بِإِلْحَاقِ الْعَمْدِ بِهِ إِذْ لَا يُسَاوِيهِ، وَأَمَّا التَّمَسُّكُ بِقَوْلِ الرَّاوِي: فَمَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ. . إِلَخْ فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّ التَّرْتِيبَ مُطْلَقًا غَيْرُ مُرَاعًى، فَجَوَابُهُ أَنَّ هَذَا الْإِخْبَارَ مِنَ الرَّاوِي يَتَعَلَّقُ بِمَا وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْهُ، وَهُوَ مُطْلَقٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَالِ السَّائِلِ، وَالْمُطْلَقُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَحَدِ الْخَاصَّيْنِ بِعَيْنِهِ، فَلَا يَبْقَى حُجَّةً فِي حَالِ الْعَمْدِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَهُنَّ كُلِّهِنَّ: افْعَلْ وَلَا حَرَجَ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ لَهُنَّ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَالَ، أَيْ: قَالَ لِأَجْلِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ، أَوْ بِمَحْذُوفٍ أَيْ قَالَ يَوْمَ النَّحْرِ لِأَجْلِهِنَّ، أَوْ بِقَوْلِهِ لَا حَرَجَ أَيْ لَا حَرَجَ لِأَجْلِهِنَّ. انْتَهَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ بِمَعْنَى عَنْ، أَيْ: قَالَ

ص: 572

عَنْهُنَّ كُلِّهِنَّ.

(تَكْمِيلٌ): قَالَ ابْنُ التِّينِ هَذَا الْحَدِيثُ لَا يَقْتَضِي رَفْعَ الْحَرَجِ فِي غَيْرِ الْمَسْأَلَتَيْنِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِمَا، يَعْنِي: الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ جَوَابًا لِلسُّؤَالِ وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ غَيْرُهُ. انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ غَفَلَ عَنْ قَوْلِهِ فِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ: فَمَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلَا أُخِّرَ، وَكَأَنَّهُ حَمَلَ مَا أُبْهِمَ فِيهِ عَلَى مَا ذُكِرَ، لَكِنَّ قَوْلَهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ: وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ يُرَدُّ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيمَا حَرَّرْنَاهُ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَحَادِيثِ عِدَّةُ صُوَرٍ، وَبَقِيَتْ عِدَّةُ صُوَرٍ لَمْ تَذْكُرْهَا الرُّوَاةُ، إِمَّا اخْتِصَارًا وَإِمَّا لِكَوْنِهَا لَمْ تَقَعْ، وَبَلَغَتْ بِالتَّقْسِيمِ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ صُورَةً، مِنْهَا صُورَةُ التَّرْتِيبِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ جَوَازُ الْقُعُودِ عَلَى الرَّاحِلَةِ لِلْحَاجَةِ، وَوُجُوبُ اتِّبَاعِ أَفْعَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِكَوْنِ الَّذِينَ خَالَفُوهَا لَمَّا عَلِمُوا سَأَلُوهُ عَنْ حُكْمِ ذَلِكَ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ عَلَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ، فَفَعَلَهُ نَاسِيًا أَنْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (وَقَفَ النَّبِيُّ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ شَهِدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ) قَدْ سَبَقَ أَنَّ أَحْمَدَ وَصَلَهُ.

‌132 - بَاب الْخُطْبَةِ أَيَّامَ مِنًى

1739 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ غَزْوَانَ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ النَّحْرِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قَالُوا: يَوْمٌ حَرَامٌ، قَالَ: فَأَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ قَالُوا: بَلَدٌ حَرَامٌ، قَالَ: فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ قَالُوا: شَهْرٌ حَرَامٌ، قَالَ: فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فَأَعَادَهَا مِرَارًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهَا لَوَصِيَّتُهُ إِلَى أُمَّتِهِ فَلْيُبْلِغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ.

[الحديث 1739 - طرفه في: 7079]

1740 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ زَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ تَابَعَهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو

[الحديث 1740 - أطرافه في: 1812، 1841، 1843، 5804، 5853]

1741 -

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ حَدَّثَنَا قُرَّةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ وَرَجُلٌ أَفْضَلُ فِي نَفْسِي مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه قَالَ "خَطَبَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ قَالَ: أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟ قُلْنَا بَلَى قَالَ أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ فَقَالَ أَلَيْسَ ذُو الْحَجَّةِ؟ قُلْنَا بَلَى قَالَ أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ قُلْنَا

ص: 573

اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ أَلَيْسَتْ بِالْبَلْدَةِ الْحَرَامِ؟ قُلْنَا بَلَى قَالَ فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟ قَالُوا نَعَمْ قَالَ اللَّهُمَّ اشْهَدْ، فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ، فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ"

1742 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَخْبَرَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ "قال النبي صلى الله عليه وسلم بِمِنًى: أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَقَالَ فَإِنَّ هَذَا يَوْمٌ حَرَامٌ أَفَتَدْرُونَ أَيُّ بَلَدٍ هَذَا قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ بَلَدٌ حَرَامٌ أَفَتَدْرُونَ أَيُّ شَهْرٍ هَذَا قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ شَهْرٌ حَرَامٌ قَالَ فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا" وَقَالَ هِشَامُ بْنُ الْغَازِ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما وَقَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ بَيْنَ الْجَمَرَاتِ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي حَجَّ بِهَذَا وَقَالَ: هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الأَكْبَرِ فَطَفِقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ اللَّهُمَّ اشْهَدْ وَوَدَّعَ النَّاسَ فَقَالُوا هَذِهِ حَجَّةُ الْوَدَاعِ"

[الحديث 1742 - أطرافه في: 4403، 6043، 6166، 6785، 6868، 2077]

قَوْلُهُ: (بَابُ الْخ طْبَةِ أَيَّامَ مِنًى) أَيْ مَشْرُوعِيَّتِهَا خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّهَا لَا تُشْرَعُ، وَأَحَادِيثُ الْبَابِ صَرِيحَةٌ فِي ذَلِكَ إِلَّا حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ ثَانِي أَحَادِيثِ الْبَابِ، فَإِنَّ فِيهِ التَّقْيِيدَ بِالْخُطْبَةِ بِعَرَفَاتٍ، وَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ ابْنُ الْمُنِيرِ كَمَا سَيَأْتِي.

وَأَيَّامُ مِنًى أَرْبَعَةٌ: يَوْمُ النَّحْرِ وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ التَّصْرِيحُ بِغَيْرِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَهُوَ الْمَوْجُودُ فِي أَكْثَرِ الْأَحَادِيثِ، كَحَدِيثِ الْهِرْمَاسِ بْنِ زِيَادٍ، وَأَبِي أُمَامَةَ كِلَاهُمَا عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عِنْدَ أَحْمَدَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ، فَقَالَ: أَيُّ يَوْمٍ أَعْظَمُ حُرْمَةً؟ الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَفِيهِ ذِكْرُ الْخُطْبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ بِمِنًى، فَهُوَ مُطْلَقٌ فَيُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، فَيَتَعَيَّنُ يَوْمَ النَّحْرِ، فَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ الْبَابِ كَمَا عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حُرَّةَ الرَّقَاشِيِّ عَنْ عَمِّهِ، فَقَالَ: كُنْتُ آخِذًا بِزِمَامِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَذُودُ عَنْهُ النَّاسَ. فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ، فَقَوْلُهُ: فِي أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى وُقُوعِ ذَلِكَ أَيْضًا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي أَوِ الثَّالِثِ. وَفِي حَدِيثِ سَرَّاءَ بِنْتِ نَبْهَانَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ: خَطَبَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الرُّءوسِ، فَقَالَ: أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ أَلَيْسَ أَوْسَطَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.

وَفِي الْبَابِ عَنْ كَعْبِ بْنِ عَاصِمٍ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَعَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي بَكْرٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَعَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَمَّنْ سَمِعَ خُطْبَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ أَحْمَدَ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: أَرَادَ الْبُخَارِيُّ الرَّدَّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ لَا خُطْبَةَ فِيهِ لِلْحَاجِّ، وَأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ قَبِيلِ الْوَصَايَا الْعَامَّةِ لَا عَلَى أَنَّهُ مِنْ شِعَارِ الْحَجِّ، فَأَرَادَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ يُبَيِّنَ أَنَّ الرَّاوِيَ قَدْ سَمَّاهَا خُطْبَةً كَمَا سَمَّى الَّتِي وَقَعَتْ فِي عَرَفَاتٍ خُطْبَةً، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْخُطْبَةِ بِعَرَفَاتٍ فَكَأَنَّهُ أَلْحَقَ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ بِالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ. انْتَهَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَنَذْكُرُ نَقْلَ الِاخْتِلَافِ فِي

ص: 574

مَشْرُوعِيَّةِ الْخُطْبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ فِي آخِرِ الْبَابِ. وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ هُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ هُوَ الْقَطَّانُ، وَفُضَيْلٌ بِالتَّصْغِيرِ، وَغَزْوَانُ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الزَّايَ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قَالُوا: يَوْمٌ حَرَامٌ) كَذَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا، وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ ثَالِثِ أَحَادِيثِ الْبَابِ: أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟ قُلْنَا: بَلَى.

وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورُ بَعْدَهُ نَحْوُهُ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ: فَسَكَتَ إِلَخْ، بَلْ فِيهِ بَعْدَ قَوْلِهِمْ أَعْلَمُ: قَالَ: هَذَا يَوْمٌ حَرَامٌ، فَقِيلَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ: لَعَلَّهُمَا وَاقِعَتَانِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ يَوْمَ النَّحْرِ إِنَّمَا تُشْرَعُ مَرَّةً وَاحِدَةً وَقَدْ قَالَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَوْمَ النَّحْرِ، وَقِيلَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا إِنَّ بَعْضَهُمْ بَادَرَ بِالْجَوَابِ وَبَعْضَهُمْ سَكَتَ، وَقِيلَ فِي الْجَمْعِ إِنَّهُمْ فَوَّضُوا أَوَّلًا كُلُّهُمْ بِقَوْلِهِمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَلَمَّا سَكَتَ أَجَابَ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ، وَقِيلَ وَقَعَ السُّؤَالُ فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ مَرَّتَيْنِ بِلَفْظَيْنِ، فَلَمَّا كَانَ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ فَخَامَةٌ لَيْسَ فِي الْأَوَّلِ؛ لِقَوْلِهِ فِيهِ أَتَدْرُونَ سَكَتُوا عَنِ الْجَوَابِ، بِخِلَافِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِخُلُوِّهِ عَنْ ذَلِكَ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْكِرْمَانِيُّ. وَقِيلَ: فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ اخْتِصَارٌ بَيَّنَتْهُ رِوَايَةُ أَبِي بَكْرَةَ، وَابْنِ عُمَرَ، فَكَأَنَّهُ أَطْلَقَ قَوْلَهُمْ: يَوْمٌ حَرَامٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ قَرَّرُوا ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: بَلَى، وَسَكَتَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ ذِكْرِ جَوَابِهِمْ، وَهَذَا جَمْعٌ حَسَنٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذَا بِاخْتِصَارٍ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ فِي:(بَابِ قَوْلِهِ: رُبَّ مُبَلِّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ).

قَوْلُهُ: (يَوْمٌ حَرَامٌ) أَيْ يَحْرُمُ فِيهِ الْقِتَالُ، وَكَذَلِكَ الشَّهْرُ، وَكَذَلِكَ الْبَلَدُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا فِي كِتَابِ الْفِتَنِ مُسْتَوْعِبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (فَأَعَادَهَا مِرَارًا) لَمْ أَقِفْ عَلَى عَدَدِهَا صَرِيحًا، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ثَلَاثًا كَعَادَتِهِ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ) زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: إِلَى السَّمَاءِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَوَصِيَّتُهُ) يُرِيدُ بِذَلِكَ الْكَلَامَ الْأَخِيرَ، وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ. إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ فُضَيْلٍ بِإِسْنَادِ الْبَابِ بِلَفْظِ: ثُمَّ قَالَ أَلَا فَلْيُبَلِّغْ إِلَخْ، وَهُوَ يُوَضِّحُ مَا قُلْنَاهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (إِلَى أُمَّتِهِ) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنِ ابْنِ نُمَيْرٍ: إِنَّهَا لَوَصِيَّتُهُ إِلَى رَبِّهِ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ الْفَلَّاسُ، وَالْمُقَدَّمِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِهِمَا.

(تَنْبِيهٌ): لِسِتَّةِ أَيَّامٍ مُتَوَالِيَةٍ مِنْ أَيَّامِ ذِي الْحِجَّةِ أَسْمَاءُ: الثَّامِنُ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، وَالتَّاسِعُ عَرَفَةَ، وَالْعَاشِرُ النَّحْرِ، وَالْحَادِيَ عَشَرَ الْقُرِّ، وَالثَّانِيَ عَشَرَ النَّفْرِ الْأَوَّلِ، وَالثَّالِثَ عَشَرَ النَّفْرِ الثَّانِي. وَذَكَرَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ السَّابِعَ يُسَمَّى يَوْمَ الزِّينَةِ، وَأَنْكَرَهُ النَّوَوِيُّ.

قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي: (أَخْبَرَنَا عَمْرٌو) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ.

وَقَوْلُهُ: (يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ سَيَأْتِي فِي: بَابِ لُبْسِ الْخُفَّيْنِ لِلْمُحْرِمِ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ، عَنْ شُعْبَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَبَعْدَهُ مُتَّصِلًا: يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ بِقَوْلِهِ: مَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ. الْحَدِيثَ، وَذَكَرَهُ بَعْدَهُ بِبَابٍ عَنْ آدَمَ، عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ: خَطَبَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَاتٍ فَقَالَ: مَنْ لَمْ يَجِدْ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو) أَيْ أَنَّ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ تَابَعَ شُعْبَةَ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَالْمُرَادُ بِهِ أَصْلُ الْحَدِيثِ، فَإِنَّ أَحْمَدَ أَخْرَجَهُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَلَفْظُهُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ يَقُولُ: مَنْ لَمْ يَجِدْ فَذَكَرَهُ، فَلَمْ يُعَيِّنْ مَوْضِعَ الْخُطْبَةِ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْحُمَيْدِيُّ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُمَا عَنْ سُفْيَانَ، وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ كَذَلِكَ.

قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الثَّالِثِ: (حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ) هُوَ الْجُعْفِيُّ، وَأَبُو عَامِرٍ هُوَ الْعَقَدِيُّ، وَقُرَّةُ هُوَ ابْنُ خَالِدٍ، وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ هُوَ الْحِمْيَرِيُّ، وَإِنَّمَا كَانَ عِنْدَ ابْنِ سِيرِينَ أَفْضَلَ مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الْوِلَايَاتِ وَكَانَ حميدًا زَاهِدًا.

قَوْلُهُ: (أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ) بِنَصْبِ يَوْمٍ

ص: 575

عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ لَيْسَ وَالتَّقْدِيرُ أَلَيْسَ الْيَوْمُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ لَيْسَ، وَالتَّقْدِيرُ أَلَيْسَ يَوْمُ النَّحْرِ هَذَا الْيَوْمَ، وَالْأَوَّلُ أَوْضَحُ، لَكِنْ يُؤَيِّدُ هَذَا الثَّانِي قَوْلُهُ: أَلَيْسَ ذُو الْحِجَّةِ أَيْ أَلَيْسَ ذُو الْحِجَّةِ هَذَا الشَّهْرَ.

قَوْلُهُ: (بِالْبَلْدَةِ الْحَرَامِ) كَذَا فِيهِ بِتَأْنِيثِ الْبَلَدِ وَتَذْكِيرِ الْحَرَامِ، وَذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ الْحَرَامِ اضْمَحَلَّ مِنْهُ مَعْنَى الْوَصْفِيَّةِ وَصَارَ اسْمًا، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُقَالُ إِنَّ الْبَلْدَةَ اسْمٌ خَاصٌّ بِمَكَّةَ، وَهِيَ الْمُرَادَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ} ، وَقَالَ الطَّيِّبِيُّ: الْمُطْلَقُ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَامِلِ، وَهِيَ الْجَامِعَةُ لِلْخَيْرِ الْمُسْتَجْمِعَةُ لِلْكَمَالِ، كَمَا أَنَّ الْكَعْبَةَ تُسَمَّى الْبَيْتَ وَيُطْلَقُ عَلَيْهَا ذَلِكَ. وَقَدِ اخْتَصَرْتُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامٍ طَوِيلٍ لِلتُّورِبِشْتِيِّ.

قَوْلُهُ: (إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ) بِفَتْحِ يَوْمٍ وَكَسْرِهِ مَعَ التَّنْوِينِ وَعَدَمِهِ، وَتَرْكُ التَّنْوِينِ مَعَ الْكَسْرِ هُوَ الَّذِي ثَبَتَتْ بِهِ الرِّوَايَةُ.

قَوْلُهُ: (اللَّهُمَّ اشْهَدْ) تَقَدَّمَ أَنَّهُ أَعَادَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ فَرْضًا عَلَيْهِ أَنَّ يُبَلِّغَ، فَأَشْهَدَ اللَّهَ عَلَى أَنَّهُ أَدَّى مَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِ. وَالْمُبَلَّغُ بِفَتْحِ اللَّامِ، أَيْ: رُبَّ شَخْصٍ بَلَغَهُ كَلَامِي فَكَانَ أَحْفَظَ لَهُ وَأَفْهَمَ لِمَعْنَاهُ مِنَ الَّذِي نَقَلَهُ لَهُ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: فِيهِ أَنَّهُ يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ مَنْ يَكُونُ لَهُ مِنَ الْفَهْمِ فِي الْعِلْمِ مَا لَيْسَ لِمَنْ تَقَدَّمَهُ، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ فِي الْأَقَلِّ؛ لِأَنَّ رُبَّ مَوْضُوعَةٌ لِلتَّقْلِيلِ. قُلْتُ: هِيَ فِي الْأَصْلِ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهَا اسْتُعْمِلَتْ فِي التَّكْثِيرِ بِحَيْثُ غَلَبَتْ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ الْأَوَّلِ، لَكِنْ يُؤَيِّدُ أَنَّ التَّقْلِيلَ هُنَا مُرَادٌ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى تَقَدَّمَتْ فِي الْعِلْمِ بِلَفْظِ: عَسَى أَنْ يَبْلُغَ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْهُ.

فِي الْحَدِيثِ دِلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ تَحَمُّلِ الْحَدِيثِ لِمَنْ لَمْ يَفْهَمْ مَعْنَاهُ وَلَا فِقْهَهُ إِذَا ضَبَطَ مَا يُحَدِّثُ بِهِ، وَيَجُوزُ وَصْفُهُ بِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ. وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ أَيْضًا وُجُوبُ تَبْلِيغِ الْعِلْمِ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَقَدْ يَتَعَيَّنُ فِي حَقِّ بَعْضِ النَّاسِ، وَفِيهِ تَأْكِيدُ التَّحْرِيمِ وَتَغْلِيظُهُ بِأَبْلَغِ مُمْكِنٍ مِنْ تَكْرَارٍ وَنَحْوِهِ، وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ ضَرْبِ الْمَثَلِ وَإِلْحَاقِ النَّظِيرِ بِالنَّظِيرِ لِيَكُونَ أَوْضَحَ لِلسَّامِعِ، وَإِنَّمَا شَبَّهَ حُرْمَةَ الدَّمِ وَالْعِرْضِ وَالْمَالِ بِحُرْمَةِ الْيَوْمِ وَالشَّهْرِ وَالْبَلَدِ؛ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِذَلِكَ كَانُوا لَا يَرَوْنَ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ وَلَا يَرَوْنَ هَتْكَ حُرْمَتِهَا وَيَعِيبُونَ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَشَدَّ الْعَيْبِ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ السُّؤَالَ عَنْهَا تَذْكَارًا لِحُرْمَتِهَا وَتَقْرِيرًا لِمَا ثَبَتَ فِي نُفُوسِهِمْ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ مَا أَرَادَ تَقْرِيرَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِيهِ) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، فَرِوَايَتُهُ عَنْ جَدِّهِ.

قَوْلُهُ: (أَفَتَدْرُونَ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ الْمُطَرِّزِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى شَيْخِ الْبُخَارِيِّ قَالَ: أَوَتَدْرُونَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ هِشَامُ بْنُ الْغَازِ) بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَآخِرُهُ زَايٌ خَفِيفَةٌ، وَقَدْ وَصَلَهُ ابْنُ مَاجَهْ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْمُعَلَّى، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ، عَنْ جَعْفَرٍ الْفِرْيَابِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ، وَعَنْ جَعْفَرٍ الْفِرْيَابِيِّ، عَنْ دُحَيْمٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ الْغَازِ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.

قَوْلُهُ: (بَيْنَ الْجَمَرَاتِ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْمِيمِ فِيهِ تَعْيِينُ الْبُقْعَةِ الَّتِي وَقَفَ فِيهَا، كَمَا أَنَّ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي قَبْلَهَا تَعْيِينَ الْمَكَانِ، كَمَا أَنَّ فِي حَدِيثَيِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي بَكْرَةَ تَعْيِينَ الْيَوْمِ، وَوَقَعَ تَعْيِينُ الْوَقْتِ مِنَ الْيَوْمِ فِي رِوَايَةِ رَافِعِ بْنِ عُمَرَ، وَالْمُزَنِيِّ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَلَفْظُهُ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ النَّاسَ بِمِنًى حِينَ ارْتَفَعَ الضُّحَى. الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (فِي الْحَجَّةِ الَّتِي حَجَّ) هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ مَنْ ذُكِرَ أَوَّلًا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فِي حَجَّتِهِ الَّتِي حَجَّ، وَلِلطَّبَرَانِيِّ: فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ.

قَوْلُهُ: (بِهَذَا) أَيْ: بِالْحَدِيثِ الَّذِي تَقَدَّمَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ جَدِّهِ، وَأَرَادَ الْمُصَنِّفُ بِذَلِكَ أَصْلَ الْحَدِيثِ وَأَصْلَ مَعْنَاهُ، لَكِنَّ السِّيَاقَ مُخْتَلِفٌ، فَإِنَّ فِي طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُمْ أَجَابُوا بِقَوْلِهِمْ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، وَفِي هَذَا عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ وَغَيْرِهِ فِي أَجْوِبَتِهِمْ قَالُوا: يَوْمُ النَّحْرِ، قَالُوا: بَلَدٌ حَرَامٌ، قَالُوا: شَهْرٌ حَرَامٌ. وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ أَنَّهُمْ أَجَابُوا أَوَّلًا بِالتَّفْوِيضِ فَلَمَّا سَكَتَ أَجَابُوا بِالْمَطْلُوبِ. وَأَغْرَبَ الْكِرْمَانِيُّ فَقَالَ: قَوْلُهُ بِهَذَا

ص: 576

أَيْ وَقَفَ مُتَلَبِّسًا بِهَذَا الْكَلَامِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) فِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ يَقُولُ إِنَّ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ هُوَ يَوْمُ النَّحْرِ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ سُورَةِ بَرَاءَةُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (فَطَفِقَ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ وَغَيْرِهِ بَيْنَ قَوْلِهِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ فَطَفِقَ مِنَ الزِّيَادَةِ: وَدِمَاؤُكُمْ وَأَمْوَالُكُمْ وَأَعْرَاضُكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ هَذَا الْبَلَدِ فِي هَذَا الْيَوْمِ. وَقَدْ وَقَعَ مَعْنَى ذَلِكَ فِي طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (فَوَدَّعَ النَّاسَ) وَقَعَ فِي طَرِيقِ ضَعِيفَةٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ سَبَبُ ذَلِكَ وَلَفْظُهُ: أُنْزِلَتْ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَعَرَفَ أَنَّهُ الْوَدَاعُ، فَأَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ الْقَصْوَاءِ فَرُحِلَتْ لَهُ فَرَكِبَ، فَوَقَفَ بِالْعَقَبَةِ وَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ دِلَالَةٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْخُطْبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَخَالَفَ ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ قَالُوا: خُطَبُ الْحَجِّ ثَلَاثَةٌ، سَابِعُ ذِي الْحِجَّةِ، وَيَوْمُ عَرَفَةَ، وَثَانِي يَوْمِ النَّحْرِ بِمِنًى. وَوَافَقَهُمُ الشَّافِعِيُّ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ بَدَلَ ثَانِي النَّحْرِ: ثَالِثَهُ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ النَّفْرِ، وَزَادَ خُطْبَةً رَابِعَةً وَهِيَ يَوْمُ النَّحْرِ، وَقَالَ: إِنَّ بِالنَّاسِ حَاجَةً إِلَيْهَا لِيَتَعَلَّمُوا أَعْمَالَ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الرَّمْيِ وَالذَّبْحِ وَالْحَلْقِ وَالطَّوَافِ. وَتَعَقَّبَهُ الطَّحَاوِيُّ بِأَنَّ الْخُطْبَةَ الْمَذْكُورَةَ لَيْسَتْ مِنْ مُتَعَلَّقَاتِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا شَيْئًا مِنْ أُمُورِ الْحَجِّ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ فِيهَا وَصَايَا عَامَّةً، وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ أَنَّهُ عَلَّمَهُمْ فِيهَا شَيْئًا مِنَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِيَوْمِ النَّحْرِ، فَعَرَفْنَا أَنَّهَا لَمْ تُقْصَدْ لِأَجْلِ الْحَجِّ.

وَقَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ: إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ تَبْلِيغِ مَا ذَكَرَهُ لِكَثْرَةِ الْجَمْعِ الَّذِي اجْتَمَعَ مِنْ أَقَاصِي الدُّنْيَا، فَظَنَّ الَّذِي رَآهُ أَنَّهُ خَطَبَ، قَالَ: وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ أَنَّ بِالنَّاسِ حَاجَةً إِلَى تَعْلِيمِهِمْ أَسْبَابَ التَّحَلُّلِ الْمَذْكُورَةَ فَلَيْسَ بِمُتَعَيِّنٍ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ إِيَّاهَا يَوْمَ عَرَفَةَ اهـ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ نَبَّهَ صلى الله عليه وسلم فِي الْخُطْبَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى تَعْظِيمِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَعَلَى تَعْظِيمِ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَعَلَى تَعْظِيمِ الْبَلَدِ الْحَرَامِ، وَقَدْ جَزَمَ الصَّحَابَةُ الْمَذْكُورُونَ بِتَسْمِيَتِهَا خُطْبَةً، فَلَا يُلْتَفَتُ لِتَأْوِيلِ غَيْرِهِمْ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ إِمْكَانِ تَعْلِيمِ مَا ذُكِرَ يَوْمَ عَرَفَةَ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ فِي كَوْنِهِ يَرَى مَشْرُوعِيَّةَ الْخُطْبَةِ ثَانِيَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَكَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُعَلَّمُوا ذَلِكَ يَوْمَ عَرَفَةَ، بَلْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُعَلَّمُوا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ جَمِيعَ مَا يَأْتِي بَعْدَهُ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ فِي كُلِّ يَوْمٍ أَعْمَالٌ لَيْسَتْ فِي غَيْرِهِ شُرِعَ تَجْدِيدُ التَّعْلِيمِ بِحَسَبِ تَجْدِيدِ الْأَسْبَابِ، وَقَدْ بَيَّنَ الزُّهْرِيُّ - وَهُوَ عَالِمُ أَهْلِ زَمَانِهِ - أَنَّ الْخُطْبَةَ ثَانِي يَوْمِ النَّحْرِ نُقِلَتْ مِنْ خُطْبَةِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الْأُمَرَاءِ، يَعْنِي مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ. قَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ هُوَ الثَّوْرِيُّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ يَوْمَ النَّحْرِ، فَشُغِلَ الْأُمَرَاءُ فَأَخَّرُوهُ إِلَى الْغَدِ.

وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا لَكِنَّهُ يَعْتَضِدُ بِمَا سَبَقَ، وَبَانَ بِهِ أَنَّ السُّنَّةَ الْخُطْبَةُ يَوْمَ النَّحْرِ لَا ثَانِيهِ، وَأَمَّا قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ إِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ عَلَّمَهُمْ شَيْئًا مِنْ أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ فَلَا يَنْفِي وُقُوعَ ذَلِكَ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ أَنَّهُ شَهِدَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَذَكَرَ فِيهِ السُّؤَالَ عَنْ تَقَدُّمِ بَعْضِ الْمَنَاسِكِ عَلَى بَعْضٍ، فَكَيْفَ سَاغَ لِلطَّحَاوِيِّ هَذَا النَّفْيُ الْمُطْلَقُ مَعَ رِوَايَتِهِ هُوَ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَثَبَتَ أَيْضًا فِي بَعْضِ طُرُقِ أَحَادِيثِ الْبَابِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلنَّاسِ حِينَئِذٍ: خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ. فَكَأَنَّهُ وَعَظَهُمْ بِمَا وَعَظَهُمْ بِهِ وَأَحَالَ فِي تَعْلِيمِهِمْ عَلَى تَلَقِّي ذَلِكَ مِنْ أَفْعَالِهِ. وَمِمَّا يُرَدُّ بِهِ عَلَى تَأْوِيلِ الطَّحَاوِيِّ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ بِعَرَفَاتٍ: أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا الْحَدِيثَ، وَنَحْوُهُ لِلطَّبَرَانِيِّ فِي الْكَبِيرِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ نُبَيْطِ بْنِ شَرِيطٍ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَاقِفًا بِعَرَفَةَ عَلَى بَعِيرٍ أَحْمَرَ يَخْطُبُ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: أَيُّ يَوْمٍ أَحْرَمُ؟ قَالُوا: هَذَا الْيَوْمُ.

قَالَ: فَأَيُّ بَلَدٍ أَحْرَمُ؟

ص: 577

الْحَدِيثَ، وَنَحْوُهُ لِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ الْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدٍ، فَهَذَا الْحَدِيثُ - الَّذِي وَقَعَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ بِهِ يَوْمَ النَّحْرِ - قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ خَطَبَ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الَّتِي وَرَدَتْ عَنِ الصَّحَابَةِ بِتَصْرِيحِهِمْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ يَوْمَ النَّحْرِ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ، فَمِنْهَا حَدِيثُ الْهِرْمَاسِ بْنِ زِيَادٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَلَفْظُهُ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ النَّاسَ عَلَى نَاقَتِهِ الْجَدْعَاءِ يَوْمَ الْأَضْحَى، وَحَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ: سَمِعْتُ خُطْبَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِنًى يَوْمَ النَّحْرِ. أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَحَدِيثُ مَعَاذٍ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ بِمِنًى. أَخْرَجَهُ.

(1)

. وَحَدِيثُ رَافِعِ بْنِ عَمْرٍو: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ النَّاسَ بِمِنًى حِينَ ارْتَفَعَ الضُّحَى. أَخْرَجَهُ.

(2)

. وَأَخْرَجَ مِنْ مُرْسَلِ مَسْرُوقٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ يَوْمَ النَّحْرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌133 - بَاب هَلْ يَبِيتُ أَصْحَابُ السِّقَايَةِ أَوْ غَيْرُهُمْ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى

1743 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: رَخَّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. . . ح.

1744 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَذِنَ. . . ح.

1745 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ الْعَبَّاسَ رضي الله عنه اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لِيَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ، فَأَذِنَ لَهُ. تَابَعَهُ أَبُو أُسَامَةَ وَعُقْبَةُ بْنُ خَالِدٍ وَأَبُو ضَمْرَةَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ هَلْ يَبِيتُ أَصْحَابُ السِّقَايَةِ أَوْ غَيْرُهُمْ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى) مَقْصُودُهُ بِالْغَيْرِ مَنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ مِنْ مَرَضٍ أَوْ شُغْلٍ كَالْحَطَّابِينَ وَالرِّعَاءِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ.

قَوْلُهُ: (رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَذَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ وَأَحَالَ بِهِ عَلَى مَا بَعْدَهُ، وَلَفْظُهُ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُوسَى، عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ الْمَذْكُورِ فِي الْإِسْنَادِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ لِلْعَبَّاسِ أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ أَيَّامَ مِنًى مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ.

قَوْلُهُ فِي طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَذِنَ) كَذَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ أَيْضًا وَأَحَالَ بِهِ عَلَى مَا بَعْدَهُ، وَلَفْظُهُ عِنْدَ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَكْرٍ الْمَذْكُورِ فِي الْإِسْنَادِ: أَذِنَ لِلْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى مِنْ أَجْلِ السِّقَايَةِ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ أَبُو أُسَامَةَ) أَيْ: تَابَعَ ابْنَ نُمَيْرٍ، وَصَلَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، وَأَبُو أُسَامَةَ، عَنْ عُبيْدِ اللَّهِ، وَلَفْظُهُ مِثْلُ رِوَايَةِ ابْنِ نُمَيْرٍ.

قَوْلُهُ: (وَعَقَبَةُ بْنُ خَالِدٍ) وَصَلَهُ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُسْنَدِهِ عَنْهُ.

قَوْلُهُ: (وَأَبُو ضَمْرَةَ) يَعْنِي: أَنَسَ بْنَ عِيَاضٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي: بَابِ سِقَايَةِ الْحَاجِّ فِي أَثْنَاءِ أَبْوَابِ الطَّوَافِ، وَلَفْظُهُ مِثْلُ رِوَايَةِ ابْنِ نُمَيْرٍ، وَالنُّكْتَةُ فِي اسْتِظْهَارِ الْبُخَارِيِّ بِهَذِهِ الْمُتَابَعَاتِ بَعْدَ إِيرَادِهِ لَهُ مِنْ ثَلَاثَةِ طُرُقٍ لِشَكٍّ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ فِي وَصْلِهِ،

(1)

بياض بالأصل

(2)

بياض بالأصل وعبارة القسطلاني تفيد أن الذي أخرج حديث رافع بن عمرو هو أبو داود والنسائي

ص: 578

فَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا عَنِ ابْنِ عُمَرَ. قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: وَقَدْ وَصَلَهُ أَيْضًا بِغَيْرِ شَكٍّ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، وَالدَّرَاوَرْدِيُّ، وَعَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ وَغَيْرُهُمْ كُلُّهُمْ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَأَرْسَلَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ.

قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ كَانَ رُبَّمَا شَكَّ فِي وَصْلِهِ بِدَلِيلِ رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، وَكَأَنَّهُ كَانَ فِي أَكْثَرِ أَحْوَالِهِ يَجْزِمُ بِوَصْلِهِ بِدَلِيلِ رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْمَبِيتِ بِمِنًى وَأَنَّهُ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّ التَّعْبِيرَ بِالرُّخْصَةِ يَقْتَضِي أَنَّ مُقَابِلَهَا عَزِيمَةٌ وَأَنَّ الْإِذْنَ وَقَعَ لِلْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَإِذَا لَمْ تُوجَدْ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهَا لَمْ يَحْصُلِ الْإِذْنُ، وَبِالْوُجُوبِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ سُنَّةُ، وَوُجُوبُ الدَّمِ بِتَرْكِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ وَلَا يَحْصُلُ الْمَبِيتُ إِلَّا بِمُعْظَمِ اللَّيْلِ، وَهَلْ يَخْتَصُّ الْإِذْنُ بِالسِّقَايَةِ وَبِالْعَبَّاسِ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَوْصَافِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي هَذَا الْحُكْمِ؟ فَقِيلَ: يَخْتَصُّ الْحُكْمُ بِالْعَبَّاسِ وَهُوَ جُمُودٌ، وَقِيلَ يَدْخُلُ مَعَهُ آلُهُ، وَقِيلَ: قَوْمُهُ، وَهُمْ بَنُو هَاشِمٍ، وَقِيلَ: كُلُّ مَنِ احْتَاجَ إِلَى السِّقَايَةِ فَلَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ قِيلَ أَيْضًا: يَخْتَصُّ الْحُكْمُ بِسِقَايَةِ الْعَبَّاسِ حَتَّى لَوْ عُمِلَتْ سِقَايَةٌ لِغَيْرِهِ لَمْ يُرَخَّصْ لِصَاحِبِهَا فِي الْمَبِيتِ لِأَجْلِهَا، وَمِنْهُمْ مِنْ عَمَّمَهُ وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَالْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ إِعْدَادُ الْمَاءِ لِلشَّارِبِينَ، وَهَلْ يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالْمَاءِ أَوْ يَلْتَحِقُ بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْأَكْلِ وَغَيْرِهِ؟ مَحَلُّ احْتِمَالٍ.

وَجَزَمَ الشَّافِعِيَّةُ بِإِلْحَاقِ مَنْ لَهُ مَالٌ يَخَافُ ضَيَاعَهُ أَوْ أَمْرٌ يَخَافُ فَوْتَهُ أَوْ مَرِيضٌ يَتَعَاهَدُهُ بِأَهْلِ السِّقَايَةِ، كَمَا جَزَمَ الْجُمْهُورُ بِإِلْحَاقِ الرِّعَاءِ خَاصَّةً، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، أَعْنِي الِاخْتِصَاصَ بِأَهْلِ السِّقَايَةِ وَالرِّعَاءِ لِإِبِلٍ، وَالْمَعْرُوفُ عَنْ أَحْمَدَ اخْتِصَاصُ الْعَبَّاسِ بِذَلِكَ وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ صَاحِبُ الْمُغْنِي، وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجِبُ الدَّمُ فِي الْمَذْكُورَاتِ سِوَى الرِّعَاءِ، قَالُوا: وَمَنْ تَرَكَ الْمَبِيتَ بِغَيْرِ عُذْرٍ وَجَبَ عَلَيْهِ دَمٌ عَنْ كُلِّ لَيْلَةٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَنْ كُلِّ لَيْلَةٍ إِطْعَامُ مِسْكِينٍ، وَقِيلَ عَنْهُ: التَّصَدُّقُ بِدِرْهَمٍ، وَعَنِ الثَّلَاثِ دَمٌ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ وَعَنِ الْحَنَفِيَّةِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى سِقَايَةِ الْعَبَّاسِ فِي الْبَابِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْبَابِ. وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا اسْتِئْذَانُ الْأُمَرَاءِ وَالْكُبَرَاءِ فِيمَا يَطْرَأُ مِنَ الْمَصَالِحِ وَالْأَحْكَامِ وَبِدَارِ مَنِ اسْتُؤْمِرَ إِلَى الْإذْنِ عِنْدَ ظُهُورِ الْمَصْلَحَةِ. وَالْمُرَادُ بِأَيَّامِ مِنًى لَيْلَةُ الْحَادِيَ عَشَرَ وَاللَّتَيْنِ بَعْدَهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ رَوْحٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عِنْدَ أَحْمَدَ أَنَّ مَبِيتَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ بِمِنًى، وَكَأَنَّهُ عَنَى لَيْلَةَ الْحَادِيَ عَشَرَ لِأَنَّهَا تَعْقُبُ يَوْمَ الْإِفَاضَةِ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ يُفِيضُونَ يَوْمَ النَّحْرِ ثُمَّ فِي الَّذِي يَلِيهِ وَهُوَ الْحَادِي عَشَرَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌134 - بَاب رَمْيِ الْجِمَارِ

وَقَالَ جَابِرٌ: رَمَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ ضُحًى، وَرَمَى بَعْدَ ذَلِكَ بَعْدَ الزَّوَالِ

1746 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ وَبَرَةَ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما: مَتَى أَرْمِي الْجِمَارَ؟ قَالَ: إِذَا رَمَى إِمَامُكَ فَارْمِهْ، فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ، قَالَ: كُنَّا نَتَحَيَّنُ، فَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ رَمَيْنَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ رَمْيِ الْجِمَارِ) أَيْ: وَقْتِ رَمْيِهَا، أَوْ حُكْمِ الرَّمْيِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ: فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ يُجْبَرُ تَرْكُهُ بِدَمٍ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ فَيُجْبَرُ، وَعِنْدَهُمْ رِوَايَةُ أَنَّ رَمْيَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ رُكْنٌ يَبْطُلُ الْحَجُّ بِتَرْكِهِ، وَمُقَابِلُهُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ إِنَّهَا إِنَّمَا تُشْرَعُ حِفْظًا لِلتَّكْبِيرِ، فَإِنْ تَرَكَهُ وَكَبَّرَ أَجْزَأَهُ، حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ عَائِشَةَ وَغَيْرِهَا.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ جَابِرٌ رَمَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ ضُحًى) الْحَدِيثَ، وَصَلَهُ مُسْلِمٌ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَمَى الْجَمْرَةَ ضُحًى يَوْمَ النَّحْرِ وَحْدَهُ، وَرَمَى بَعْدَ ذَلِكَ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ.

ص: 579

وَرَوَاهُ الدَّارِمِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِلَفْظِ التَّعْلِيقِ، لَكِنْ قَالَ: وَبَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ، وَرَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا فَذَكَرَهُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ وَبَرَةَ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالْمُوَحَّدَةِ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُسَلِّي بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا لَامٌ كُوفِيٌّ ثِقَةٌ، ورِجَالُ الْإِسْنَادِ إِلَى ابْنِ عُمَرَ كُوفِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (مَتَى أَرْمِي الْجِمَارَ) يَعْنِي: فِي غَيْرِ يَوْمِ الْأَضْحَى.

قَوْلُهُ: (فَارْمِهْ) بِهَاءٍ سَاكِنَةٍ لِلسَّكْتِ، وَقَوْلُهُ:(إِذَا رَمَى إِمَامُكَ فَارْمِهْ) يَعْنِي: الْأَمِيرَ الَّذِي عَلَى الْحَجِّ، وَكَأَنَّ ابْنَ عُمَرَ خَافَ عَلَيْهِ أَنَّ يُخَالِفَ الْأَمِيرَ فَيَحْصُلَ لَهُ مِنْهُ ضَرَرٌ، فَلَمَّا أَعَادَ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ لَمْ يَسَعْهُ الْكِتْمَانُ، فَأَعْلَمَهُ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ مِسْعَرٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، فَقَالَ فِيهِ: فَقُلْتُ لَهُ: أَرَأَيْتَ إِنْ أَخَّرَ إِمَامِي أَيِ الرَّمْيَ، فَذَكَرَ لَهُ الْحَدِيثَ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي عُمَرَ فِي مُسْنَدِهِ عَنْهُ وَمِنْ طَرِيقِهِ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَرْمِيَ الْجِمَارَ فِي غَيْرِ يَوْمِ الْأَضْحَى بَعْدَ الزَّوَالِ وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَخَالَفَ فِيهِ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، فَقَالَا: يَجُوزُ قَبْلَ الزَّوَالِ مُطْلَقًا، وَرَخَّصَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الرَّمْيِ فِي يَوْمِ النَّفْرِ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَقَالَ إِسْحَاقُ: إِنْ رَمَى قَبْلَ الزَّوَالِ أَعَادَ، إِلَّا فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَيُجْزِئُهُ.

‌135 - بَاب رَمْيِ الْجِمَارِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي

1747 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: رَمَى عَبْدُ اللَّهِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنَّ نَاسًا يَرْمُونَهَا مِنْ فَوْقِهَا، فَقَالَ: وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، هَذَا مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ صلى الله عليه وسلم.

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ بِهَذَا.

[الحديث 1747 - أطرافه في: 1748، 1749، 1750]

قَوْلُهُ: (بَابُ رَمْيِ الْجِمَارِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي) كَأَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى رَدِّ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُ عَنْ عَطَاءٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْلُو إِذَا رَمَى الْجَمْرَةَ. لَكِنْ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ حَدِيثِ الْبَابِ بِأَنَّ الَّتِي تُرْمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادِي هِيَ جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ لِكَوْنِهَا عِنْدَ الْوَادِي بِخِلَافِ الْجَمْرَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ، وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الطَّرِيقِ الْآتِيَةِ بَعْدَ بَابٍ بِلَفْظِ: حِينَ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، وَكَذَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ عُمَرَ: أَنَّهُ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فِي السَّنَةِ الَّتِي أُصِيبَ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، وَمِنْ طَرِيقِ الْأَسْوَدِ: رَأَيْتُ عُمَرَ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ مِنْ فَوْقِهَا، وَفِي إِسْنَادِ هَذَا الثَّانِي حَجَّاجُ بْنُ أَرَطْأَةَ وَفِيهِ ضَعْفٌ، وَسَنَذْكُرُ بَقِيَّةَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ هُنَاكَ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ) هُوَ الْعَدَنِيُّ، هَكَذَا رُوِّينَاهُ مَوْصُولًا فِي جَامِعِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، رِوَايَةُ الْعَدَنِيِّ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَنْدَهْ بِإِسْنَادِهِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَفَائِدَةُ هَذَا التَّعْلِيقِ بَيَانُ سَمَاعِ سُفْيَانَ وَهُوَ الثَّوْرِيُّ لَهُ مِنَ الْأَعْمَشِ. وَتَمْتَازُ جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ عَنِ الْجَمْرَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: اخْتِصَاصُهَا بِيَوْمِ النَّحْرِ، وَأَنَّ لَا يُوقَفَ عِنْدَهَا، وَتُرْمَى ضُحًى، وَمِنْ أَسْفَلِهَا اسْتِحْبَابًا.

‌136 - بَاب رَمْيِ الْجِمَارِ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ

ذَكَرَهُ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

1748 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْحَكَمِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ

ص: 580

رضي الله عنه: أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى جَعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ وَمِنًى عَنْ يَمِينِهِ، وَرَمَى بِسَبْعٍ وَقَالَ: هَكَذَا رَمَى الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ صلى الله عليه وسلم.

‌137 - بَاب مَنْ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فَجَعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ

1749 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ: أَنَّهُ حَجَّ مَعَ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، فَرَآهُ يَرْمِي الْجَمْرَةَ الْكُبْرَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، فَجَعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ وَمِنًى عَنْ يَمِينِهِ ثُمَّ قَالَ: هَذَا مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ رَمْيِ الْجِمَارِ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، ذَكَرَهُ ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمَوْصُولِ عِنْدَهُ بَعْدَ بَابَيْنِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ هُنَاكَ، وَأَشَارَ فِي التَّرْجَمَةِ إِلَى رَدِّ مَا رَوَاهُ قَتَادَةُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَا أُبَالِي رَمَيْتُ الْجِمَارَ بِسِتٍّ أَوْ سَبْعٍ، وَأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَنْكَرَ ذَلِكَ، وَقَتَادَةُ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ ابْنِ عُمَرَ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، وَرَوَى مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ: مَنْ رَمَى بِسِتٍّ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَمِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ: يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ. وَعَنْ مَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ: مَنْ رَمَى بِأَقَلَّ مِنْ سَبْعٍ وَفَاتَهُ التَّدَارُكُ يَجْبُرُهُ بِدَمٍ. وَعَنِ الشَّافِعِيَّةِ: فِي تَرْكِ حَصَاةٍ مُدٌّ، وَفِي تَرْكِ حَصَاتَيْنِ مُدَّانِ، وَفِي ثَلَاثَةٍ فَأَكْثَرَ دَمٌ. وَعَنِ الْحَنَفِيَّةِ: إِنْ تَرَكَ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثِ فَنِصْفُ صَاعٍ وَإِلَّا فَدَمٌ.

قَوْلُهُ: (عَنْ إِبْرَاهِيمَ) هُوَ ابْنُ يَزِيدَ النَّخَعِيُّ، وَرِوَايَةُ الْحَكَمِ عَنْهُ لِهَذَا الْحَدِيثِ مُخْتَصَرَةٌ، وَقَدْ سَاقَهَا الْأَعْمَشُ عَنْهُ أَتَمَّ مِنْ هَذَا كَمَا سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ.

‌138 - بَاب يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ

قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

1750 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَجَّاجَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: السُّورَةُ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا الْبَقَرَةُ، وَالسُّورَةُ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا آلُ عِمْرَانَ، وَالسُّورَةُ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا النِّسَاءُ، قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِإِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ أَنَّهُ كَانَ مَعَ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه حِينَ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، فَاسْتَبْطَنَ الْوَادِيَ حَتَّى إِذَا حَاذَى بِالشَّجَرَةِ اعْتَرَضَهَا فَرَمَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ قَالَ: مِنْ هَاهُنَا - وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ - قَامَ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (بَابُ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ بَعْدَ بَابٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ) هُوَ ابْنُ زِيَادٍ الْبَصْرِيُّ.

قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ الْحَجَّاجَ) يَعْنِي ابْنَ يُوسُفَ الْأَمِيرَ الْمَشْهُورَ، وَلَمْ يَقْصِدِ الْأَعْمَشَ الرِّوَايَةَ عَنْهُ، فَلَمْ يَكُنْ بِأَهْلٍ لِذَلِكَ وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَحْكِيَ الْقِصَّةَ وَيُوَضِّحَ خَطَأَ الْحَجَّاجِ فِيهَا بِمَا ثَبَتَ عَمَّنْ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْحَجَّاجِ وَكَانَ لَا يَرَى إِضَافَةَ السُّورَةِ إِلَى الِاسْمِ فَرَدَّ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ بِمَا رَوَاهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنَ الْجَوَازِ.

قَوْلُهُ: (جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ) هِيَ الْجَمْرَةُ الْكُبْرَى، وَلَيْسَتْ مِنْ مِنًى بَلْ هِيَ حَدُّ مِنًى مِنْ جِهَةِ مَكَّةَ، وَهِيَ الَّتِي بَايَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْأَنْصَارَ عِنْدَهَا عَلَى الْهِجْرَةِ، وَالْجَمْرَةُ اسْمٌ لِمُجْتَمَعِ الْحَصَى، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ بِهَا، يُقَالُ تَجَمَّرَ بَنُو فُلَانٍ إِذَا

ص: 581

اجْتَمَعُوا، وَقِيلَ إِنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْحَصَى الصِّغَارَ جِمَارًا فَسُمِّيَتْ تَسْمِيَةَ الشَّيْءِ بِلَازِمِهِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ آدَمَ أَوْ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا عَرَضَ لَهُ إِبْلِيسُ فَحَصَبَهُ جَمَرَ بَيْنَ يَدَيْهِ، أَيْ: أَسْرَعَ فَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (فَاسْتَبْطَنَ الْوَادِيَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ فَقِيلَ لَهُ - أَيْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - إِنَّ نَاسًا يَرْمُونَهَا مِنْ فَوْقِهَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

قَوْلُهُ: (حَاذَى) بِمُهْمَلَةٍ وَبِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ مِنَ الْمُحَاذَاةِ، وَقَوْلُهُ:(اعْتَرَضَهَا) أَيِ الشَّجَرَةَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ شَجَرَةٌ عِنْدَ الْجَمْرَةِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَيُّوبَ قَالَ: رَأَيْتُ الْقَاسِمَ، وَسَالِمًا، وَنَافِعًا يَرْمُونَ مِنَ الشَّجَرَةِ، وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا جَاوَزَ الشَّجَرَةَ رَمَى الْعَقَبَةَ مِنْ تَحْتِ غُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا.

وَقَوْلُهُ: (فَرَمَى) أَيِ الْجَمْرَةَ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَكَمِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ: جَعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ وَمِنًى عَنْ يَمِينِهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي صَخْرَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ: لَمَّا أَتَى عَبْدُ اللَّهِ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ اسْتَبْطَنَ الْوَادِيَ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالَّذِي قَبْلَهُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَهَذَا شَاذٌّ فِي إِسْنَادِهِ الْمَسْعُودِيُّ وَقَدِ اخْتَلَطَ، وَبِالْأَوَّلِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَجَزَمَ الرَّافِعِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الْجَمْرَةَ وَيَسْتَدْبِرُ الْقِبْلَةَ، وَقِيلَ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَيَجْعَلُ الْجَمْرَةَ عَنْ يَمِينِهِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ رَمَاهَا جَازَ سَوَاءٌ اسْتَقْبَلَهَا أَوْ جَعَلَهَا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ يَسَارِهِ أَوْ مِنْ فَوْقِهَا أَوْ مِنْ أَسْفَلِهَا أَوْ وَسَطِهَا، وَالِاخْتِلَافُ فِي الْأَفْضَلِ.

قَوْلُهُ: (مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ) قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ خَصَّ عَبْدُ اللَّهِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ فِيهَا الرَّمْيَ، فَأَشَارَ إِلَى أَنَّ فِعْلَهُ صلى الله عليه وسلم مُبَيِّنٌ لِمُرَادِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. قُلْتُ: وَلَمْ أَعْرِفْ مَوْضِعَ ذِكْرِ الرَّمْيِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ إِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ مَذْكُورٌ فِيهَا، فَكَأَنَّهُ قَالَ هَذَا مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمَنَاسِكِ، مُنَبِّهًا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْحَجِّ تَوْقِيفِيَّةٌ.

وَقِيلَ: خَصَّ الْبَقَرَةَ بِذَلِكَ لِطُولِهَا وَعِظَمِ قَدْرِهَا وَكَثْرَةِ مَا فِيهَا مِنَ الْأَحْكَامِ، أَوْ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ يُشْرَعُ الْوُقُوفُ عِنْدَهَا بِقَدْرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى اشْتِرَاطِ رَمْيِ الْجَمَرَاتِ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، لِقَوْلِهِ: يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ. وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم: خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ عَطَاءٌ وَصَاحِبُهُ أَبُو حَنِيفَةَ، فَقَالَا: لَوْ رَمَى السَّبْعَ دُفْعَةً وَاحِدَةً أَجْزَأَهُ. وَفِيهِ مَا كَانَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ مِنْ مُرَاعَاةِ حَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي كُلِّ حَرَكَةٍ وَهَيْئَةٍ وَلَاسِيَّمَا فِي أَعْمَالِ الْحَجِّ، وَفِيهِ التَّكْبِيرُ عِنْدَ رَمْيِ حَصَى الْجِمَارِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُكَبِّرْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.

(فَائِدَةٌ): زَادَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ النَّخَعِيُّ عَنْ أَبِيهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ لَمَّا فَرَغَ مِنْ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ قَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا، وَذَنْبًا مَغْفُورًا.

‌139 - بَاب مَنْ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَلَمْ يَقِفْ

قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَلَمْ يَقِفْ، قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَيَأْتِي مَوْصُولًا فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَعِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ نَحْوُهُ، وَلَا نَعْرِفُ فِيهِ خِلَافًا.

‌140 - بَاب إِذَا رَمَى الْجَمْرَتَيْنِ يَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ ويسهل

1751 -

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا طَلْحَةُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّهُ كَانَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ الدُّنْيَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ عَلَى إِثْرِ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ حَتَّى يُسْهِلَ فَيَقُومَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، فَيَقُومُ طَوِيلًا، وَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَرْمِي الْوُسْطَى، ثُمَّ يَأْخُذُ ذَاتَ الشِّمَالِ

ص: 582

فَيَسْتَهِلُ، وَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، فَيَقُومُ طَوِيلًا وَيَدْعُو، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ وَيَقُومُ طَوِيلًا، ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ ذَاتِ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا، ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَيَقُولُ: هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ.

[الحديث 1751 - طرفاه في: 1752، 1753]

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا رَمَى الْجَمْرَتَيْنِ يَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ وَيُسْهِلُ) الْمُرَادُ بِالْجَمْرَتَيْنِ مَا سِوَى جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَهِيَ الَّتِي يَبْدَأُ بِهَا فِي الرَّمْيِ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ ثُمَّ تَصِيرُ أَخِيرَةً فِي كُلِّ يَوْمٍ بَعْدَ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا طَلْحَةُ بْنُ يَحْيَى) أَيِ: ابْنُ النُّعْمَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ الزَّرَقِيُّ الْأَنْصَارِيُّ الْمَدَنِيُّ نَزِيلُ بَغْدَادَ، وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَقَالَ أَحْمَدُ: مُقَارِبُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَيْسَ بِقَوِيٍّ، وَزَعَمَ ابْنُ طَاهِرٍ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ. قُلْتُ: لَكِنَّهُ لَمْ يَحْتَجَّ بِهِ عَلَى انْفِرَادِهِ، فَقَدِ اسْتَظْهَرَ لَهُ بِمُتَابَعَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَبِمُتَابَعَةِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ أَيْضًا كِلَاهُمَا عَنْ يُونُسَ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ، وَتَابَعَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ النُّمَيْرِيُّ، عَنْ يُونُسَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ.

قَوْلُهُ: (الْجَمْرَةَ الدُّنْيَا) بِضَمِّ الدَّالِ وَبِكَسْرِهَا أَيِ الْقَرِيبَةِ إِلَى جِهَةِ مَسْجِدِ الْخَيْفِ. وَهِيَ أَوَّلُ الْجَمَرَاتِ الَّتِي تُرْمَى مِنْ ثَانِي يَوْمِ النَّحْرِ.

قَوْلُهُ: (يُسْهِلُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، أَيْ: يَقْصِدُ السَّهْلَ مِنَ الْأَرْضِ، وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُصْطَحِبُ الَّذِي لَا ارْتِفَاعَ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ يَأْخُذُ ذَاتَ الشِّمَالِ) أَيْ يَمْشِي إِلَى جِهَةِ شِمَالِهِ (فَيَقُومُ طَوِيلًا) فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ فَيَقُومُ قِيَامًا طَوِيلًا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ بَعْدَ بَابٍ.

قَوْلُهُ: (وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ) أَيْ فِي الدُّعَاءِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ يَرْمِي الْوُسْطَى ثُمَّ يَأْخُذُ ذَاتَ الشِّمَالِ) أَيْ: لِيَقِفَ دَاعِيًا فِي مَكَانٍ لَا يُصِيبُهُ الرَّمْيُ، وَفِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ: ثُمَّ يَرْمِي الْجَمْرَةَ الْوُسْطَى كَذَلِكَ فَيَأْخُذُ ذَاتَ الشِّمَالِ، وَفِي رِوَايَةِ عُثْمَانَ: ثُمَّ يَنْحَدِرُ ذَاتَ الْيَسَارِ مِمَّا يَلِي الْوَادِيَ فَيَقِفُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ ذَاتِ الْعَقَبَةِ) هُوَ نَحْوُ يَا نِسَاءَ الْمُؤْمِنَاتِ أَيْ: يَأْتِي الْجَمْرَةَ ذَاتَ الْعَقَبَةِ، وَثَبَتَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ، وَفِي رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ: ثُمَّ يَأْتِي الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الْعَقَبَةِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ يَنْصَرِفُ) فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ: وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا.

‌141 - بَاب رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ جَمْرَةِ الدُّنْيَا وَالْوُسْطَى

1752 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَخِي، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ يُونُسَ، عن يَزِيدَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما كَانَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ الدُّنْيَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، ثُمَّ يُكَبِّرُ عَلَى إِثْرِ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ فَيُسْهِلُ، فَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ قِيَامًا طَوِيلًا، فَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَرْمِي الْجَمْرَةَ الْوُسْطَى كَذَلِكَ، فَيَأْخُذُ ذَاتَ الشِّمَالِ فَيُسْهِلُ، وَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ قِيَامًا طَوِيلًا، فَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَرْمِي الْجَمْرَةَ ذَاتَ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا، وَيَقُولُ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ جَمْرَةِ الدُّنْيَا وَالْوُسْطَى) قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا نَعْلَمُ لِمَا تَضَمَّنَهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ هَذَا مُخَالِفًا إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مِنْ تَرْكِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الدُّعَاءِ بَعْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ، فَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَنْكَرَ رَفْعَ الْيَدَيْنِ فِي الدُّعَاءِ عِنْدَ الْجَمْرَةِ إِلَّا مَا حَكَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ. انْتَهَى. وَرَدَّهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ الرَّفْعَ لَوْ كَانَ هُنَا سُنَّةً ثَابِتَةً مَا خَفِيَ عَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَغَفَلَ رَحِمُهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَنَّ الَّذِي رَوَاهُ مِنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي زَمَانِهِ، وَابْنُهُ

ص: 583

سَالِمٌ أَحَدُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالرَّاوِي عَنْهُ ابْنُ شِهَابٍ عَالِمُ الْمَدِينَةِ ثُمَّ الشَّامِ فِي زَمَانِهِ، فَمَنْ عُلَمَاءُ الْمَدِينَةِ إِنْ لَمْ يَكُونُوا هَؤُلَاءِ؟ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ

‌142 - بَاب الدُّعَاءِ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ

1753 -

وَقَالَ مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا رَمَى الْجَمْرَةَ الَّتِي تَلِي مَسْجِدَ مِنًى يَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ كُلَّمَا رَمَى بِحَصَاةٍ، ثُمَّ تَقَدَّمَ أَمَامَهَا فَوَقَفَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ رَافِعًا يَدَيْهِ يَدْعُو، وَكَانَ يُطِيلُ الْوُقُوفَ، ثُمَّ يَأْتِي الْجَمْرَةَ الثَّانِيَةَ فَيَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ كُلَّمَا رَمَى بِحَصَاةٍ، ثُمَّ يَنْحَدِرُ ذَاتَ الْيَسَارِ مِمَّا يَلِي الْوَادِيَ، فَيَقِفُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ رَافِعًا يَدَيْهِ يَدْعُو، ثُمَّ يَأْتِي الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الْعَقَبَةِ فَيَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ عِنْدَ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا قَالَ الزُّهْرِيُّ: سَمِعْتُ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يُحَدِّثُ مِثْلَ هَذَا عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الدُّعَاءِ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ) أَيْ وَبَيَانِ مِقْدَارِهِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُحَمَّدٌ:، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ) قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ: اخْتُلِفَ فِي مُحَمَّدٍ هَذَا فَنَسَبَهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ السَّكَنِ، فَقَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ. قُلْتُ: وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ. وَقَالَ الْكَلَابَاذِيُّ: هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ أَوْ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى. وَجَزَمَ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ الذُّهْلِيُّ.

قَوْلُهُ: (قَالَ الزُّهْرِيُّ سَمِعْتُ إِلَخْ) هُوَ بِالْإِسْنَادِ الْمُصَدَّرِ بِهِ الْبَابُ، وَلَا اخْتِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّ الْإِسْنَادَ بِمِثْلِ هَذَا السِّيَاقِ مَوْصُولٌ، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ مِنْ تَقْدِيمِ الْمَتْنِ عَلَى بَعْضِ السَّنَدِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ ذَلِكَ. وَأَغْرَبَ الْكِرْمَانِيُّ، فَقَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ مَرَاسِيلِ الزُّهْرِيِّ، وَلَا يَصِيرُ بِمَا ذَكَرَهُ آخِرًا مُسْنَدًا لِأَنَّهُ قَالَ: يُحَدَّثُ بِمِثْلِهِ لَا بِنَفْسِهِ. كَذَا قَالَ، وَلَيْسَ مُرَادُ الْمُحَدِّثِ بِقَوْلِهِ فِي هَذَا بِمِثْلِهِ إِلَّا نَفْسُهُ، وَهُوَ كَمَا لَوْ سَاقَ الْمَتْنَ بِإِسْنَادٍ، ثُمَّ عَقَّبَهُ بِإِسْنَادٍ آخَرَ وَلَمْ يُعِدِ الْمَتْنَ بَلْ قَالَ بِمِثْلِهِ، وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي الْحُكْمِ بِوَصْلِ مِثْلِ هَذَا، وَكَذَا عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ لَوْ قَالَ بِمَعْنَاهُ خِلَافًا لِمَنْ يَمْنَعُ الرِّوَايَةَ بِالْمَعْنَى. وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنِ ابْنِ نَاجِيَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى وَغَيْرِهِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: قَالَ الزُّهْرِيُّ سَمِعْتُ سَالِمًا يُحَدِّثُ بِهَذَا عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَعُرِفَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ مِثْلَهُ نَفْسُهُ، وَإِذَا تَكَلَّمَ الْمَرْءُ فِي غَيْرِ فَنِّهِ أَتَى بِهَذِهِ الْعَجَائِبِ. وَفِي الْحَدِيثِ مَشْرُوعِيَّةُ التَّكْبِيرِ عِنْدِ رَمْيِ كُلِّ حَصَاةٍ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَهُ لَا يَلْزَمهُ شَيْءٌ، إِلَّا الثَّوْرِيَّ، فَقَالَ: يُطْعِمُ، وَإِنْ جَبَرَهُ بِدَمٍ أَحَبُّ إِلَيَّ.

وَعَلَى الرَّمْيِ بِسَبْعٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ، وَعَلَى اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ بَعْدَ الرَّمْيِ وَالْقِيَامِ طَوِيلًا، وَقَدْ وَقَعَ تَفْسِيرُهُ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَطَاءٍ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُومُ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ مِقْدَارَ مَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، وَفِيهِ التَّبَاعُدُ مِنْ مَوْضِعِ الرَّمْيِ عِنْدَ الْقِيَامِ لِلدُّعَاءِ حَتَّى لَا يُصِيبَ رَمْيَ غَيْرِهِ، وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الدُّعَاءِ، وَتَرْكِ الدُّعَاءِ وَالْقِيَامِ عَنْدِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُصَنِّفُ حَالَ الرَّامِي فِي الْمَشْيِ وَالرُّكُوبِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَمْشِي إِلَى الْجِمَارِ مُقْبِلًا وَمُدْبِرًا، وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ: كَانَ لَا يَرْكَبُ إِلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ

‌143 - بَاب الطِّيبِ بَعْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ وَالْحَلْقِ قَبْلَ الْإِفَاضَةِ

1754 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ - وَكَانَ أَفْضَلَ

ص: 584

أَهْلِ زَمَانِهِ - يَقُولُ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها تَقُولُ: طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدَيَّ هَاتَيْنِ حِينَ أَحْرَمَ، وَلِحِلِّهِ حِينَ أَحَلَّ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ، وَبَسَطَتْ يَدَيْهَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ الطِّيبِ بَعْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ وَالْحَلْقِ قَبْلَ الْإِفَاضَةِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ: طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِي حِينَ أَحْرَمَ، وَلِحِلِّهِ حِينَ أَحَلَّ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ الْحَدِيثَ، وَمُطَابَقَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَفَاضَ مِنْ مُزْدَلِفَةَ لَمْ تَكُنْ عَائِشَةُ مُسَايِرَتَهُ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ اسْتَمَرَّ رَاكِبًا إِلَى أَنْ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ تَطْيِيبِهَا لَهُ وَقَعَ بَعْدَ الرَّمْيِ، وَأَمَّا الْحَلْقُ قَبْلَ الْإِفَاضَةِ فَلِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم حَلَقَ رَأْسَهُ بِمِنًى لَمَّا رَجَعَ مِنَ الرَّمْيِ، وَأَخَذَهُ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ مِنْ جِهَةِ التَّطَيُّبِ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ إِلَّا بَعْدَ التَّحَلُّلِ، وَالتَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ يَقَعُ بِأَمْرَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةٍ: الرَّمْيُ وَالْحَلْقُ وَالطَّوَافُ، فَلَوْلَا أَنَّهُ حَلَقَ بَعْدَ أَنْ رَمَى لَمْ يَتَطَيَّبْ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ حُجَّةٌ لِمَنْ أَجَازَ الطِّيبَ وَغَيْرَهُ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ، وَمَنَعَهُ مَالِكٌ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ الْبَابِ مُسْتَوْفًى فِي: بَابِ الطِّيبِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ وَأُحِلَّتْ عَلَى هَذَا السِّيَاقِ هُنَاكَ.

(تَنْبِيهٌ): قَوْلُهُ حِينَ أَحْرَمَ أَيْ: حِينَ أَرَادَ الْإِحْرَامَ، وَقَوْلُهُ: حِينَ أَحَلَّ أَيْ لَمَّا وَقَعَ الْإِحْلَالُ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الطِّيبَ بَعْدَ وُقُوعِ الْإِحْرَامِ لَا يَجُوزُ، وَالطِّيبَ عِنْدَ إِرَادَةِ الْحِلِّ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنَ الطِّيبِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌144 - بَاب طَوَافِ الْوَدَاعِ

1755 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ إِلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنْ الْحَائِضِ.

1756 -

حَدَّثَنَا أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه حَدَّثَهُ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ ثُمَّ رَقَدَ رَقْدَةً بِالْمُحَصَّبِ ثُمَّ رَكِبَ إِلَى الْبَيْتِ فَطَافَ بِهِ" تَابَعَهُ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي خَالِدٌ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه حَدَّثَهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

[الحديث 1756 - طرفه في: 1764]

قَوْلُهُ: (بَابُ طَوَافِ الْوَدَاعِ) قَالَ النَّوَوِيُّ: طَوَافُ الْوَدَاعِ وَاجِبٌ يَلْزَمُ بِتَرْكِهِ دَمٌ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَنَا وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ مَالِكٌ، وَدَاوُدُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: هُوَ سُنَّةٌ لَا شَيْءَ فِي تَرْكِهِ. انْتَهَى. وَالَّذِي رَأَيْتُهُ فِي: الْأَوْسَطِ لِابْنِ الْمُنْذِرِ أَنَّهُ وَاجِبٌ لِلْأَمْرِ بِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ بِتَرْكِهِ شَيْءٌ.

قَوْلُهُ: (أُمِرَ النَّاسُ) كَذَا فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَالْمُرَادُ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَكَذَا قَوْلُهُ خُفِّفَ وَقَدْ رَوَاهُ سُفْيَانُ أَيْضًا عَنْ سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلِ، عَنْ طَاوُسٍ فَصَرَّحَ فِيهِ بِالرَّفْعِ وَلَفْظُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَنْصَرِفُونَ فِي كُلِّ وَجْهٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخَرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ هُوَ وَالَّذِي قَبْلَهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ بِالْإِسْنَادَيْنِ فَرَّقَهُمَا، فَكَأَنَّ طَاوُسًا حَدَّثَ بِهِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَلِهَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ كُلٍّ مِنَ الرَّاوِيَيْنِ عَنْهُ مَا لَمْ يَقَعْ فِي

ص: 585

رِوَايَةِ الْآخَرِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ طَوَافِ الْوَدَاعِ لِلْأَمْرِ الْمُؤَكَّدِ بِهِ وَلِلتَّعْبِيرِ فِي حَقِّ الْحَائِضِ بِالتَّخْفِيفِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالتَّخْفِيفُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ أَمْرٍ مُؤَكَّدٍ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الطَّوَافِ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ قَتَادَةَ) سَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ التَّصْرِيحُ بِتَحْدِيثِ قَتَادَةَ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ هُنَاكَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: ثُمَّ رَكِبَ إِلَى الْبَيْتِ فَطَافَ بِهِ.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ اللَّيْثُ) أَيْ: تَابَعَ عَمْرَو بْنَ الْحَارِثِ فِي رِوَايَتِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ قَتَادَةَ بِطَرِيقٍ أُخْرَى إِلَى قَتَادَةَ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ كَاتِبِ اللَّيْثِ، عَنِ اللَّيْثِ، وَخَالِدٌ شَيْخُ اللَّيْثِ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ، وَذَكَرَ الْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ أَنَّهُ تَفَرَّدَ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ سَعِيدٍ وَأَنَّ اللَّيْثَ تَفَرَّدَ بِهِ عَنْ خَالِدٍ وَأَنَّ سَعِيدَ بْنَ أَبِي هِلَالٍ لَمْ يَرْوِ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ.

‌145 - بَاب إِذَا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ بَعْدَ مَا أَفَاضَتْ

1757 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَاضَتْ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟ قَالُوا: إِنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ، قَالَ: فَلَا إِذًا.

1758، 1759 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ "أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ سَأَلُوا ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ امْرَأَةٍ طَافَتْ ثُمَّ حَاضَتْ قَالَ لَهُمْ تَنْفِرُ قَالُوا لَا نَأْخُذُ بِقَوْلِكَ وَنَدَعُ قَوْلَ زَيْدٍ قَالَ إِذَا قَدِمْتُمْ الْمَدِينَةَ فَسَلُوا فَقَدِمُوا الْمَدِينَةَ فَسَأَلُوا فَكَانَ فِيمَنْ سَأَلُوا أُمُّ سُلَيْمٍ فَذَكَرَتْ حَدِيثَ صَفِيَّةَ" رَوَاهُ خَالِدٌ وَقَتَادَةُ عَنْ عِكْرِمَةَ

1760 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ "رُخِّصَ لِلْحَائِضِ أَنْ تَنْفِرَ إِذَا أَفَاضَتْ"

1761 -

قَالَ "وَسَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ إِنَّهَا لَا تَنْفِرُ ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ بَعْدُ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ لَهُنَّ"

1762 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا نَرَى إِلَّا الْحَجَّ، فَقَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَلَمْ يَحِلَّ وَكَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ فَطَافَ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ نِسَائِهِ وَأَصْحَابِهِ وَحَلَّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ الْهَدْيُ، فَحَاضَتْ هِيَ، فَنَسَكْنَا مَنَاسِكَنَا مِنْ حَجِّنَا، فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةَ الْحَصْبَةِ لَيْلَةُ النَّفْرِ قَالَت: يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلُّ أَصْحَابِكَ يَرْجِعُ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ غَيْرِي؟ قَالَ: مَا كُنْتِ تَطُوفِينَ بِالْبَيْتِ لَيَالِيَ قَدِمْنَا؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَاخْرُجِي مَعَ أَخِيكِ إِلَى التَّنْعِيمِ فَأَهِلِّي بِعُمْرَةٍ، وَمَوْعِدُكِ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا، فَخَرَجْتُ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِلَى التَّنْعِيمِ فَأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ، وَحَاضَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: عَقْرَى حَلْقَى، إِنَّكِ لَحَابِسَتُنَا، أَمَا كُنْتِ طُفْتِ يَوْمَ النَّحْرِ؟ قَالَتْ: بَلَى، قَالَ: فَلَا

ص: 586

بَأْسَ انْفِرِي، فَلَقِيتُهُ مُصْعِدًا عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَأَنَا مُنْهَبِطَةٌ، أَوْ أَنَا مُصْعِدَةٌ وَهُوَ مُنْهَبِطٌ. وَقَالَ مُسَدَّدٌ: قُلْتُ: لَا. تَابَعَهُ جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ فِي قَوْلِهِ: لَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ بَعْدَ مَا أَفَاضَتْ) أَيْ: هَلْ يَجِبُ عَلَيْهَا طَوَافُ الْوَدَاعِ أَوْ يَسْقُطُ، وَإِذَا وَجَبَ هَلْ يُجْبَرُ بِدَمٍ أَمْ لَا؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى هَذِهِ التَّرْجَمَةِ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ بِلَفْظِ: بَابُ الْمَرْأَةِ تَحِيضُ بَعْدَ الْإِفَاضَةِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: قَالَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ بِالْأَمْصَارِ: لَيْسَ عَلَى الْحَائِضِ الَّتِي قَدْ أَفَاضَتْ طَوَافُ وَدَاعٍ. وَرُوِّينَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِ عُمَرَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُمْ أَمَرُوهَا بِالْمُقَامِ إِذَا كَانَتْ حَائِضًا لِطَوَافِ الْوَدَاعِ، وَكَأَنَّهُمْ أَوْجَبُوهُ عَلَيْهَا كَمَا يَجِبُ عَلَيْهَا طَوَافُ الْإِفَاضَةِ إِذْ لَوْ حَاضَتْ قَبْلَهُ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهَا. ثُمَّ أَسْنَدَ عَنْ عُمَرَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: طَافَتِ امْرَأَةٌ بِالْبَيْتِ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ حَاضَتْ، فَأَمَرَ عُمَرُ بِحَبْسِهَا بِمَكَّةَ بَعْدَ أَنْ يَنْفِرَ النَّاسُ حَتَّى تَطْهُرَ وَتَطُوفَ بِالْبَيْتِ قَالَ: وَقَدْ ثَبَتَ رُجُوعُ ابْنِ عُمَرَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ ذَلِكَ، وَبَقِيَ عُمَرُ فَخَالَفْنَاهُ لِثُبُوتِ حَدِيثِ عَائِشَةَ. يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ أَحَادِيثُ هَذَا الْبَابِ.

وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ: كَانَ الصَّحَابَةُ يَقُولُونَ: إِذَا أَفَاضَتِ الْمَرْأَةُ قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ فَقَدْ فَرَغَتْ، إِلَّا عُمَرَ فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: يَكُونُ آخِرُ عَهْدِهَا بِالْبَيْتِ، وَقَدْ وَافَقَ عُمَرَ عَلَى رِوَايَةِ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَيْرُهُ، فَرَوَى أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالطَّحَاوِيُّ - وَاللَّفْظُ لِأَبِي دَاوُدَ - مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ عُمَرَ فَسَأَلْتُهُ عَنِ الْمَرْأَةِ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ يَوْمَ النَّحْرِ ثُمَّ تَحِيضُ، قَالَ: لِيَكُنْ آخَرُ عَهْدِهَا بِالْبَيْتِ، فَقَالَ الْحَارِثُ: كَذَلِكَ أَفْتَانِي - وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ هَكَذَا حَدَّثَنِي - رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَاسْتَدَلَّ الطَّحَاوِيُّ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ، وَبِحَدِيثِ أُمِّ سُلَيْمٍ عَلَى نَسْخِ حَدِيثِ الْحَارِثِ فِي حَقِّ الْحَائِضِ.

قَوْلُهُ: (حَاضَتْ) أَيْ: بَعْدَ أَنْ أَفَاضَتْ يَوْمَ النَّحْرِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي: بَابِ الزِّيَارَةِ يَوْمَ النَّحْرِ.

قَوْلُهُ: (فَذُكِرَ) كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِضَمِّ الذَّالِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّ عَائِشَةَ هِيَ الَّتِي ذَكَرَتْ لَهُ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (أَحَابِسَتُنَا) أَيْ: مَانِعَتُنَا مِنَ التَّوَجُّهِ مِنْ مَكَّةَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَرَدْنَا التَّوَجُّهَ فِيهِ، ظَنًّا مِنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا مَا طَافَتْ طَوَافَ إِفَاضَةٍ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَتْرُكُهَا وَيَتَوَجَّهُ، وَلَا يَأْمُرُهَا بِالتَّوَجُّهِ مَعَهُ وَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى إِحْرَامِهَا، فَيَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُقِيمَ حَتَّى تَطْهُرَ وَتَطُوفَ وَتَحِلَّ الْحِلَّ الثَّانِيَ.

قَوْلُهُ: (قَالُوا) سَيَأْتِي فِي الطَّرِيقِ الَّتِي فِي آخِرِ الْبَابِ أَنَّ صَفِيَّةَ هِيَ الَّتِي قَالَتْ: بَلَى، وَفِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ الَّتِي مَضَتْ فِي بَابِ الزِّيَارَةِ يَوْمَ النَّحْرِ: حَجَجْنَا فَأَفَضْنَا يَوْمَ النَّحْرِ، فَحَاضَتْ صَفِيَّةُ، فَأَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا مَا يُرِيدُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا حَائِضٌ. الْحَدِيثَ، وَهَذَا مُشْكِلٌ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إِنْ كَانَ عَلِمَ أَنَّهَا طَافَتْ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ، فَكَيْفَ يَقُولُ: أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟ وَإِنْ كَانَ مَا عَلِمَ فَكَيْفَ يُرِيدُ وِقَاعَهَا قَبْلَ التَّحَلُّلِ الثَّانِي؟ وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَا أَرَادَ ذَلِكَ مِنْهَا إِلَّا بَعْدَ أَنِ اسْتَأْذَنَهُ نِسَاؤُهُ فِي طَوَافِ الْإِفَاضَةِ، فَأَذِنَ لَهُنَّ، فَكَانَ بَانِيًا عَلَى أَنَّهَا قَدْ حَلَّتْ، فَلَمَّا قِيلَ لَهُ إِنَّهَا حَائِضٌ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ وَقَعَ لَهَا قَبْلَ ذَلِكَ حَتَّى مَنَعَهَا مِنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ فَاسْتَفْهَمَ عَنْ ذَلِكَ فَأَعْلَمَتْهُ عَائِشَةُ أَنَّهَا طَافَتْ مَعَهُنَّ فَزَالَ عَنْهُ مَا خَشِيَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ سَبَقَ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ مِنْ طَرِيقِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ قَالَ لَهُنَّ: لَعَلَّهَا تَحْبِسُنَا، أَلَمْ تَكُنْ طَافَتْ مَعَكُنَّ؟ قَالُوا: بَلَى. وَسَأَذْكُرُ بَقِيَّةَ اخْتِلَافِ أَلْفَاظِ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي آخِرِ الْبَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (فَلَا إِذًا) أَيْ: فَلَا حَبْسَ عَلَيْنَا حِينَئِذٍ، أَيْ: إِذَا أَفَاضَتْ فَلَا مَانِعَ لَنَا مِنَ التَّوَجُّهِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهَا قَدْ فَعَلَتْهُ.

قَوْلُهُ: (حَمَّادٌ) هُوَ ابْنُ زَيْدٍ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ) أَيْ

ص: 587

بَعْضَ أَهْلِهَا، وَقَدْ رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَيُّوبَ بِلَفْظِ: أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ لَهُمْ تَنْفِرُ) زَادَ الثَّقَفِيُّ: فَقَالُوا: لَا نُبَالِي أَفْتَيْتَنَا أَوْ لَمْ تُفْتِنَا، زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَقُولُ: لَا تَنْفِرُ.

قَوْلُهُ: (فَكَانَ فِيمَنْ سَأَلُوا أُمُّ سُلَيْمٍ) فِي رِوَايَةِ الثَّقَفِيِّ: فَسَأَلُوا أُمَّ سُلَيْمٍ وَغَيْرَهَا فَذَكَرَتْ صَفِيَّةَ كَذَا ذَكَرَهُ مُخْتَصَرًا، وَسَاقَهُ الثَّقَفِيُّ بِتَمَامِهِ قَالَ: فَأَخْبَرَتْهُمْ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ لِصَفِيَّةَ: أَفِي الْخَيْبَةِ أَنْتِ؟ إِنَّكِ لَحَابِسَتُنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا ذَاكَ؟ قَالَتْ عَائِشَةُ: صَفِيَّةُ حَاضَتْ، قِيلَ إِنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ. قَالَ: فَلَا إِذًا، فَرَجَعُوا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالُوا: وَجَدْنَا الْحَدِيثَ كَمَا حَدَّثْتَنَاهُ.

قَوْلُهُ: (رَوَاهُ خَالِدٌ) يَعْنِي: الْحَذَّاءَ، (وَقَتَادَةُ، عَنْ عِكْرِمَةَ) أَمَّا رِوَايَةُ خَالِدٍ فَوَصَلَهَا الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُعَلَّى بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ هُشَيْمٍ عَنْهُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِذَا طَافَتْ يَوْمَ النَّحْرِ ثُمَّ حَاضَتْ فَلْتَنْفِرْ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: لَا تَنْفِرُ حَتَّى تَطْهُرَ وَتَطُوفَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ أَرْسَلَ زَيْدٌ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنِّي وَجَدْتُ الَّذِي قُلْتَ كَمَا قُلْتَ، وَأَمَّا رِوَايَةُ قَتَادَةَ فَوَصَلَهَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ هُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: اخْتَلَفَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي الْمَرْأَةِ إِذَا حَاضَتْ وَقَدْ طَافَتْ بِالْبَيْتِ يَوْمَ النَّحْرِ، فَقَالَ زَيْدٌ: يَكُونُ آخِرُ عَهْدِهَا بِالْبَيْتِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَنْفِرُ إِنْ شَاءَتْ، فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: لَا نُتَابِعُكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَنْتَ تُخَالِفُ زَيْدًا، فَقَالَ: سَلُوا صَاحِبَتَكُمْ أُمَّ سُلَيْمٍ - يَعْنِي فَسَأَلُوهَا - فَقَالَتْ: حِضْتُ بَعْدَمَا طُفْتُ بِالْبَيْتِ، فَأَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَنْفِرَ، وَحَاضَتْ صَفِيَّةُ، فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ حَبَسْتِنَا فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَنْفِرَ.

وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ فِي كِتَابِ الْمَنَاسِكِ الَّذِي رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الْقُطَعِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْهُ قَالَ: عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ نَحْوَهُ، وَقَالَ فِيهِ: لَا نُتَابِعُكَ إِذَا خَالَفْتَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَقَالَ فِيهِ: وَأُنْبِئْتُ أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ حَاضَتْ بَعْدَمَا طَافَتْ بِالْبَيْتِ يَوْمَ النَّحْرِ، فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: الْخَيْبَةُ لَكِ حَبَسْتِنَا، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَهَا أَنْ تَنْفِرَ وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ إِسْحَاقُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عَبْدَةَ، عَنْ سَعِيدٍ، وَفِي آخِرِهِ: وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِ أُمِّ سُلَيْمٍ أَيْضًا.

(تَنْبِيهٌ): طَرِيقُ قَتَادَةَ هَذِهِ هِيَ الْمَحْفُوظَةُ، وَقَدْ شَذَّ عَبَّادُ بْنُ الْعَوَامِّ، فَرَوَاهُ عَنْ سَعِيدِ بْن أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ مُخْتَصَرًا فِي قِصَّةِ أُمِّ سُلَيْمٍ، أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ. انْتَهَى. وَلَقَدِ اخْتَصَرَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ عِكْرِمَةَ جِدًّا، وَلَوْلَا تَخْرِيجُ هَذِهِ الطُّرُقِ لَمَا ظَهَرَ الْمُرَادُ مِنْهُ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ وَتَفَضَّلَ. وَقَدْ رَوَى هَذِهِ الْقِصَّةَ طَاوُسٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُتَابِعًا لِعِكْرِمَةَ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَاوُسٍ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ إِذْ قَالَ لَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: تُفْتِي أَنْ تُصْدِرَ الْحَائِضُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهَا بِالْبَيْتِ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَا لَا فَسَلْ فُلَانَةَ الْأَنْصَارِيَّةَ هَلْ أَمَرَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: فَرَجَعَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَا أَرَاكَ إِلَّا قَدْ صَدَقْتَ لَفْظُ مُسْلِمٍ، وَلِلنَّسَائِيِّ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: أَنْتَ الَّذِي تُفْتِي وَقَالَ فِيهِ فَسَأَلَهَا، ثُمَّ رَجَعَ وَهُوَ يَضْحَكُ فَقَالَ: الْحَدِيثُ كَمَا حَدَّثْتَنِي، وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ بَعْدَ قَوْلِهِ: أَنْتَ الَّذِي إِلَخْ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَلَا تُفْتِ بِذَلِكَ. قَالَ: فَسَلْ فُلَانَةَ وَالْبَاقِي نَحْوُ سِيَاقِ مُسْلِمٍ، وَزَادَ فِي إِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: وَقَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ زَيْدٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ وَزَادَ فِيهِ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَلْ أُمَّ سُلَيْمٍ وَصَوَاحِبَهَا هَلْ أَمَرَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ؟ فَسَأَلَهُنَّ، فَقُلْنَ: قَدْ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ.

وَقَدْ عُرِفَ بِرِوَايَةِ عِكْرِمَةَ الْمَاضِيَةِ أَنَّ الْأَنْصَارِيَّةَ هِيَ أُمُّ سُلَيْمٍ، وَأَمَّا صَوَاحِبُهَا فَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَتِهِنَّ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ) هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَوُهَيْبٌ هُوَ ابْنُ خَالِدٍ، وَابْنُ طَاوُسٍ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ.

قَوْلُهُ: (رُخِّصَ) بِضَمِّ الرَّاءِ عَلَى الْبِنَاءِ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ حَسَّانٍ، عَنْ وُهَيْبٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ: رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (قَالَ وَسَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ) الْقَائِلُ ذَلِكَ هُوَ طَاوُسٌ

ص: 588

بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، بَيَّنَهُ النَّسَائِيُّ فِي رِوَايَتِهِ الْمَذْكُورَةِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ بَعْدُ) سَيَأْتِي أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ مَوْتِ ابْنِ عُمَرَ بِعَامٍ.

قَوْلُهُ: (إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ لَهُنَّ) هَذَا مِنْ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ، وَكَذَا مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَنْ حَجَّ فَلْيَكُنْ آخَرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ، إِلَّا الْحُيَّضَ رَخَّصَ لَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمْ يَسْمَعهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَسَنُوَضِّحُ ذَلِكَ، فَعِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ قَرِيبًا مِنْ سَنَتَيْنِ عَنِ الْحَائِضِ لَا تَنْفِرُ حَتَّى يَكُونَ آخَرُ عَهْدِهَا بِالْبَيْتِ. ثُمَّ قَالَ بَعْدُ: إِنَّهُ رَخَّصَ لِلنِّسَاءِ. وَلَهُ وَلِلطَّحَاوِيِّ مِنْ طَرِيقِ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يَسْأَلُ عَنِ النِّسَاءِ إِذَا حِضْنَ قَبْلَ النَّفْرِ وَقَدْ أَفَضْنَ يَوْمَ النَّحْرِ، فَقَالَ: إِنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَذْكُرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رُخْصَةً لَهُنَّ وَذَلِكَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِعَامٍ. وَفِي رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ قَبْلَ مَوْتِ ابْنِ عُمَرَ بِعَامٍ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُقِيمُ عَلَى الْحَائِضِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ حَتَّى تَطُوفَ طَوَافَ الْوَدَاعِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: كَأَنَّ ابْنَ عُمَرَ سَمِعَ الْأَمْرَ بِالْوَدَاعِ وَلَمْ يَسْمَعِ الرُّخْصَةَ أَوَّلًا ثُمَّ بَلَغَتْهُ الرُّخْصَةُ فَعَمِلَ بِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي أَوَاخِرِ الْحَيْضِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ مَنْصُورٍ) هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، وَإِبْرَاهِيمُ هُوَ النَّخَعِيُّ، وَالْأَسْوَدُ هُوَ خَالُهُ وَهُوَ نَخَعِيٌّ أَيْضًا، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِطَوَافِ الْحَائِضِ فِي: بَابِ تَقْضِي الْحَائِضُ الْمَنَاسِكَ إِلَّا الطَّوَافَ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ عُمْرَتِهِمَا فِي أَبْوَابِ الْعُمْرَةِ.

قَوْلُهُ: (لَيْلَةَ الْحَصْبَةِ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي: لَيْلَةَ الْحَصْبَاءِ، وَقَوْلُهُ بَعْدَهُ: لَيْلَةَ النَّفْرِ عَطْفُ بَيَانٍ لِلَّيْلَةِ الْحَصْبَاءِ، وَالْمُرَادُ بِتِلْكَ اللَّيْلَةِ الَّتِي يَتَقَدَّمُ النَّفْرُ مِنْ مِنًى قَبْلَهَا فَهِيَ شَبِيهَةٌ بِلَيْلَةِ عَرَفَةَ، وَفِيهِ تَعَقُّبٌ عَلَى مَنْ قَالَ كُلُّ لَيْلَةٍ تَسْبِقُ يَوْمَهَا إِلَّا لَيْلَةُ عَرَفَةَ فَإِنَّ يَوْمَهَا يَسْبِقُهَا، فَقَدْ شَارَكَتْهَا لَيْلَةُ النَّفْرِ فِي ذَلِكَ.

قَوْلُهُ فِيهِ (مَا كُنْتِ تَطُوفِينَ بِالْبَيْتِ لَيَالِيَ قَدِمْنَا مَكَّةَ؟ قُلْتُ: لَا) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْمُسْتَمْلِي قُلْتُ بَلَى، وَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا كُنْتُ أَطُوفُ.

قَوْلُهُ: (وَحَاضَتْ صَفِيَّةُ) أَيْ فِي أَيَّامِ مِنًى، سَيَأْتِي فِي أَبْوَابِ الْإِدْلَاجِ مِنَ الْمُحَصَّبِ أَنَّ حَيْضَهَا كَانَ لَيْلَةَ النَّفْرِ، زَادَ الْحَاكِمُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: لَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَنْفِرَ إِذَا صَفِيَّةُ عَلَى بَابِ خِبَائِهَا كَئِيبَةٌ حَزِينَةٌ، فَقَالَ: عَقْرَى. الْحَدِيثَ، وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ الْوَقْتَ الَّذِي أَرَادَ مِنْهَا مَا يُرِيدُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ كَانَ بِالْقُرْبِ مِنْ وَقْتِ النَّفْرِ مِنْ مِنًى، وَاسْتَشْكَلَهُ بَعْضُهُمْ بِنَاءً عَلَى مَا فَهِمَهُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ وَقْتَ الرَّحِيلِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِلَازِمٍ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْوَقْتَ الَّذِي أَرَادَ مِنْهَا مَا أَرَادَ سَابِقًا عَلَى الْوَقْتِ الَّذِي رَآهَا فِيهِ عَلَى بَابِ خِبَائِهَا الَّذِي هُوَ وَقْتُ الرَّحِيلِ، بَلْ وَلَوِ اتَّحَدَ الْوَقْتُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَانِعًا مِنَ الْإِرَادَةِ الْمَذْكُورَةِ.

قَوْلُهُ: (عَقْرَى حَلْقَى) بِالْفَتْحِ فِيهِمَا ثُمَّ السُّكُونِ وَبِالْقَصْرِ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ فِي الرِّوَايَةِ، وَيَجُوزُ فِي اللُّغَةِ التَّنْوِينُ وَصَوَّبَهُ أَبُو عُبَيْدٍ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ الدُّعَاءُ بِالْعَقْرِ وَالْحَلْقِ، كَمَا يُقَالُ سَقْيًا وَرَعْيًا وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَادِرِ الَّتِي يُدْعَى بِهَا، وَعَلَى الْأَوَّلِ هُوَ نَعْتٌ لَا دُعَاءٌ، ثُمَّ مَعْنَى عَقْرَى: عَقَرَهَا اللَّهُ، أَيْ جَرَحَهَا، وَقِيلَ: جَعَلَهَا عَاقِرًا لَا تَلِدُ، وَقِيلَ: عَقَرَ قَوْمَهَا. وَمَعْنَى حَلْقَى حَلَقَ شَعْرَهَا وَهُوَ زِينَةُ الْمَرْأَةِ، أَوْ أَصَابَهَا وَجَعٌ فِي حَلْقِهَا، أَوْ حَلْقِ قَوْمِهَا بِشُؤْمِهَا أَيْ.: أَهْلَكَهُمْ. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ أَنَّهَا كَلِمَةٌ تَقُولُهَا الْيَهُودُ لِلْحَائِضِ، فَهَذَا أَصْلُ هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ، ثُمَّ اتَّسَعَ الْعَرَبُ فِي قَوْلِهِمَا بِغَيْرِ إِرَادَةِ حَقِيقَتِهِمَا، كَمَا قَالُوا: قَاتَلَهُ اللَّهُ، وَتَرِبَتْ يَدَاهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ: شَتَّانَ بَيْنَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم هَذَا لِصَفِيَّةَ وَبَيْنَ قَوْلِهِ لِعَائِشَةَ لَمَّا حَاضَتْ مِنْهُ فِي الْحَجِّ: هَذَا شَيْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ لِمَا يَشْعُرُ بِهِ مِنَ الْمَيْلِ لَهَا وَالْحُنُوِّ عَلَيْهَا بِخِلَافِ صَفِيَّةَ. قُلْتُ: وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اتِّضَاعِ قَدْرِ صَفِيَّةَ عِنْدَهُ، لَكِنِ اخْتَلَفَ الْكَلَامُ بِاخْتِلَافِ الْمَقَامِ، فَعَائِشَةُ دَخَلَ عَلَيْهَا وَهِيَ تَبْكِي أَسَفًا عَلَى مَا فَاتَهَا مِنَ النُّسُكِ فَسَلَّاهَا بِذَلِكَ، وَصْفِيَّةُ أَرَادَ مِنْهَا مَا يُرِيدُ الرَّجُلُ مِنْ

ص: 589

أَهْلِهِ فَأَبْدَتِ الْمَانِعَ فَنَاسَبَ كُلًّا مِنْهُمَا مَا خَاطَبَهَا بِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ.

قَوْلُهُ: (فَلَا بَأْسَ انْفِرِي) هُوَ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْمَاضِيَةِ أَوَّلَ الْبَابِ فَلَا إِذًا، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ اخْرُجُوا، وَفِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ قَالَ اخْرُجِي، وَفِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ فِي الْمَغَازِي فَلْتَنْفِرْ وَمَعَانِيهَا مُتَقَارِبَةٌ، وَالْمُرَادُ بِهَا كُلِّهَا الرَّحِيلُ مِنْ مِنًى إِلَى جِهَةِ الْمَدِينَةِ.

وَفِي أَحَادِيثِ الْبَابِ أَنَّ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ رُكْنٌ، وَأَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الطَّوَافِ، وَأَنَّ طَوَافَ الْوَدَاعِ وَاجِبٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ أَمِيرَ الْحَجِّ يَلْزَمُهُ أَنَّ يُؤَخِّرَ الرَّحِيلَ لِأَجْلِ مَنْ تَحِيضُ مِمَّنْ لَمْ تَطُفْ لِلْإِفَاضَةِ، وَتُعُقِّبَ بِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ إِرَادَتُهُ صلى الله عليه وسلم تَأْخِيرَ الرَّحِيلِ إِكْرَامًا لِصَفِيَّةَ كَمَا احْتَبَسَ بِالنَّاسِ عَلَى عَقْدِ عَائِشَةَ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي فَوَائِدِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: أَمِيرَانِ وَلَيْسَا بِأَمِيرَيْنِ: مَنْ تَبِعَ جِنَازَةً فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْصَرِفَ حَتَّى تُدْفَنَ أَوْ يَأْذَنَ أَهْلُهَا، وَالْمَرْأَةُ تَحُجُّ أَوْ تَعْتَمِرُ مَعَ قَوْمٍ فَتَحِيضُ قَبْلَ طَوَافِ الرُّكْنِ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَنْصَرِفُوا حَتَّى تَطْهُرَ أَوْ تَأْذَنَ لَهُمْ. فَلَا دِلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْوُجُوبِ إِنْ كَانَ صَحِيحًا، فَإِنَّ فِي إِسْنَادِ كُلٍّ مِنْهُمَا ضَعْفًا شَدِيدًا. وَقَدْ ذَكَرَ مَالِكٌ فِي: الْمُوَطَّأِ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْجَمَّالَ أَنْ يَحْبِسَ لَهَا إِلَى انْقِضَاءِ أَكْثَرِ مُدَّةِ الْحَيْضِ، وَكَذَا عَلَى النُّفَسَاءِ. وَاسْتَشْكَلَهُ ابْنُ الْمَوَّازِ بِأَنَّ فِيهَا تَعْرِيضًا لِلْفَسَادِ كَقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَأَجَابَ عِيَاضٌ بِأَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ مَعَ أَمْنِ الطَّرِيقِ كَمَا أَنَّ مَحَلَّهُ أَنَّ يكَوْنَ مَعَ الْمَرْأَةِ مَحْرَمٌ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُسَدَّدٌ: قُلْتُ: لَا. وَتَابَعَهُ جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ فِي قَوْلِهِ لَا) هَذَا التَّعْلِيقُ لَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَثَبَتَ لِغَيْرِهِ، فَأَمَّا رِوَايَةُ مُسَدَّدٍ فَرُوِّينَاهَا كَذَلِكَ فِي مُسْنَدِهِ رِوَايَةَ أَبِي خَلِيفَةَ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِسَنَدِهِ وَمَتْنِهِ، وَقَالَ فِيهِ: مَا كُنْتُ طُفْتُ لَيَالِيَ قَدِمْنَا؟ قُلْتُ: لَا. وَأَمَّا رِوَايَةُ جَرِيرٍ فَوَصَلَهَا الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ، وَقَالَ فِيهِ: مَا كُنْتُ طُفْتُ لَيَالِيَ قَدِمْنَا مَكَّةَ؟ قُلْتُ: لَا. وَهَذَا يُؤَيِّدُ صِحَّةَ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي حَيْثُ وَقَعَ عِنْدَهُ بَلَى مَوْضِعَ لَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَتَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ.

‌146 - بَاب مَنْ صَلَّى الْعَصْرَ يَوْمَ النَّفْرِ بِالْأَبْطَحِ

1763 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ: أَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ عَقَلْتَهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَيْنَ صَلَّى الظُّهْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ؟ قَالَ: بِمِنًى، قُلْتُ: فَأَيْنَ صَلَّى الْعَصْرَ يَوْمَ النَّفْرِ؟ قَالَ: بِالْأَبْطَحِ، افْعَلْ كَمَا يَفْعَلُ أُمَرَاؤُكَ.

1764 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمُتَعَالِ بْنُ طَالِبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ أَنَّ قَتَادَةَ حَدَّثَهُ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه حَدَّثَهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَرَقَدَ رَقْدَةً بِالْمُحَصَّبِ، ثُمَّ رَكِبَ إِلَى الْبَيْتِ فَطَافَ بِهِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ صَلَّى الْعَصْرَ يَوْمَ النَّفْرِ بِالْأَبْطَحِ) أَيِ الْبَطْحَاءِ الَّتِي بَيْنَ مَكَّةَ وَمِنًى، وَهِيَ مَا انْبَطَحَ مِنَ الْوَادِي وَاتَّسَعَ. وَهِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا الْمُحَصَّبُ وَالْمُعَرَّسُ، وَحْدَهَا مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ إِلَى الْمَقْبَرَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ أَنَسٍ الْأَوَّلِ فِي بَابِ أَيْنَ يُصَلِّي الظُّهْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَهُوَ مُطَابِقٌ لِمَا تَرْجَمَ بِهِ هُنَا.

وَفِي سِيَاقِ حَدِيثِ أَنَسٍ الثَّانِي مَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ صَلَّى بِالْأَبْطَحِ وَهُوَ الْمُحَصَّبُ مَعَ ذَلِكَ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَرَقَدَ، ثُمَّ رَكِبَ إِلَى الْبَيْتِ فَطَافَ بِهِ أَيْ طَوَافَ

ص: 590

الْوَدَاعِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فِيهِ أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَرْمِ إِلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ لِأَنَّهُ رَمَى فَنَفَرَ فَنَزَلَ الْمُحَصَّبَ فَصَلَّى الظُّهْرَ بِهِ.

‌147 - بَاب الْمُحَصَّبِ

1765 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: إِنَّمَا كَانَ مَنْزِلٌ يَنْزِلُهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِيَكُونَ أَسْمَحَ لِخُرُوجِهِ يَعْنِي بِالْأَبْطَحِ.

1766 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ عَمْرٌو:، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: لَيْسَ التَّحْصِيبُ بِشَيْءٍ، إِنَّمَا هُوَ مَنْزِلٌ نَزَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْمُحَصَّبِ) بِمُهْمَلَتَيْنِ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ بِوَزْنِ مُحَمَّدٍ أَيْ مَا حُكْمُ النُّزُولِ بِهِ؟ وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ الِاخْتِلَافَ فِي اسْتِحْبَابِهِ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَنَاسِكِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ هِشَامٍ) هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ، وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ.

قَوْلُهُ: (إِنَّمَا كَانَ مَنْزِلًا) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ عَنْ هِشَامٍ: نُزُولُ الْأَبْطَحِ لَيْسَ بِسُنَّةٍ إِنَّمَا نَزَلَهُ الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (أَسْمَحَ) أَيْ: أَسْهَلَ لِتَوَجُّهِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ لِيَسْتَوِيَ فِي ذَلِكَ الْبَطِيءُ وَالْمُعْتَدِلُ، وَيَكُونَ مَبِيتُهُمْ وَقِيَامُهُمْ فِي السَّحَرِ وَرَحِيلُهُمْ بِأَجْمَعِهِمْ إِلَى الْمَدِينَةِ.

قَوْلُهُ: (تَعْنِي بِالْأَبْطَحِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: تَعْنِي الْأَبْطَحَ بِحَذْفِ الْمُوَحَّدَةِ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ الْمَذْكُورَةِ: كَانَ أَسْمَحَ لِخُرُوجِهِ إِذَا خَرَجَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، (قَالَ عَمْرٌو) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ، (وَعَطَاءٌ) هُوَ ابْنُ أَبِي رَبَاحٍ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ سَمِعَهُ سُفْيَانُ مِنَ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، يَعْنِي أَنَّهُ دَلَّسَهُ هُنَا عَنْ عَمْرٍو، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْحُمَيْدِيَّ أَخْرَجَهُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي خَيْثَمَةَ، عَنْ سُفْيَانَ فَانْتَفَتْ تُهْمَةُ تَدْلِيسِهِ.

قَوْلُهُ: (لَيْسَ التَّحْصِيبُ بِشَيْءٍ) أَيْ: مِنْ أَمْرِ الْمَنَاسِكِ الَّذِي يَلْزَمُ فِعْلُهُ، قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: ثُمَّ ارْتَحَلَ حَتَّى نَزَلَ الْحَصْبَةَ قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا نَزَلَهَا إِلَّا مِنْ أَجْلِي. وَرَوَى مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: لَمْ يَأْمُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ أَنْزِلَ الْأَبْطَحَ حِينَ خَرَجَ مِنْ مِنًى وَلَكِنْ جِئْتُ فَضَرَبْتُ قُبَّتَهُ فَجَاءَ فَنَزَلَ اهـ، لَكِنْ لَمَّا نَزَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَانَ النُّزُولُ بِهِ مُسْتَحَبًّا اتِّبَاعًا لَهُ لِتَقْرِيرِهِ عَلَى ذَلِكَ. وَقَدْ فَعَلَهُ الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يَنْزِلُونَ الْأَبْطَحَ.

وَسَيَأْتِي لِلْمُصَنِّفِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ أَبِي بَكْرٍ، وَمِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَرَى التَّحْصِيبَ سُنَّةً، قَالَ نَافِعٌ: وَقَدْ حَصَّبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ نَفَى أَنَّهُ سُنَّةٌ كَعَائِشَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ أَرَادَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَنَاسِكِ فَلَا يَلْزَمُ بِتَرْكِهِ شَيْءٌ، وَمَنْ أَثْبَتَهُ كَابْنِ عُمَرَ أَرَادَ دُخُولَهُ فِي عُمُومِ التَّأَسِّي بِأَفْعَالِهِ صلى الله عليه وسلم لَا الْإِلْزَامَ بِذَلِكَ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَيَبِيتَ بِهِ بَعْضَ اللَّيْلِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَنَسٍ، وَيَأْتِي نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ.

‌148 - بَاب النُّزُولِ بِذِي طُوًى قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ وَالنُّزُولِ بِالْبَطْحَاءِ الَّتِي بِذِي الْحُلَيْفَةِ إِذَا رَجَعَ مِنْ مَكَّةَ

ص: 591

1767 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما كَانَ يَبِيتُ بِذِي طُوًى بَيْنَ الثَّنِيَّتَيْنِ، ثُمَّ يَدْخُلُ مِنْ الثَّنِيَّةِ الَّتِي بِأَعْلَى مَكَّةَ، وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مَكَّةَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا لَمْ يُنِخْ نَاقَتَهُ إِلَّا عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ يَدْخُلُ فَيَأْتِي الرُّكْنَ الْأَسْوَدَ فَيَبْدَأُ بِهِ، ثُمَّ يَطُوفُ سَبْعًا: ثَلَاثًا سَعْيًا، وَأَرْبَعًا مَشْيًا، ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَيُصَلِّي سجدتين، ثُمَّ يَنْطَلِقُ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَنْزِلِهِ فَيَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَكَانَ إِذَا صَدَرَ عَنْ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ أَنَاخَ بِالْبَطْحَاءِ الَّتِي بِذِي الْحُلَيْفَةِ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُنِيخُ بِهَا.

1768 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ قَالَ: سُئِلَ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ الْمُحَصَّبِ، فَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: نَزَلَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعُمَرُ، وَابْنُ عُمَرَ. وَعَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما كَانَ يُصَلِّي بِهَا - يَعْنِي الْمُحَصَّبَ - الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ - وأَحْسِبُهُ قَالَ: وَالْمَغْرِبَ - قَالَ خَالِدٌ: لَا أَشُكُّ فِي الْعِشَاءِ، وَيَهْجَعُ هَجْعَةً، وَيَذْكُرُ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (بَابُ النُّزُولِ بِذِي طُوًى قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ، وَالنُّزُولِ بِالْبَطْحَاءِ الَّتِي بِذِي الْحُلَيْفَةِ) أَيْ: قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ الْمَدِينَةَ، وَالْمَقْصُودُ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ اتِّبَاعَهُ صلى الله عليه وسلم فِي النُّزُولِ بِمَنَازِلِهِ لَا يَخْتَصُّ بِالْمُحَصَّبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَكَانِ الدُّخُولِ إِلَى مَكَّةَ فِي أَوَائِلِ الْحَجِّ، وَالنُّزُولُ بِبَطْحَاءِ ذِي الْحُلَيْفَةِ صَرِيحٌ فِي حَدِيثِ الْبَابِ.

قَوْلُهُ: (بِذِي الطُّوَى) كَذَا لِلْمُسْتَمْلِي، وَالسَّرَخْسِيِّ بِإِثْبَاتِ الْأَلْفِ وَاللَّامِ وَلِغَيْرِهِمَا بِحَذْفِهِمَا.

قَوْلُهُ: (بَيْنَ الثَّنِيَّتَيْنِ) أَيِ: الَّتِي بَيْنَ الثَّنِيَّتَيْنِ.

قَوْلُهُ: (لَمْ يُنِخْ نَاقَتَهُ إِلَّا عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ) أَيْ: إِذَا بَاتَ بِذِي طُوًى ثُمَّ أَصْبَحَ رَكِبَ نَاقَتَهُ فَلَمْ يُنِخْهَا إِلَّا بِبَابِ الْمَسْجِدِ.

قَوْلُهُ: (فَيُصَلِّي سَجْدَتَيْنِ) وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: رَكْعَتَيْنِ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ إِذَا صَدَرَ) أَيْ: رَجَعَ مُتَوَجِّهًا نَحْوَ الْمَدِينَةِ.

قَوْلُهُ: (سُئِلَ عُبَيْدُ اللَّهِ) يَعْنِي: ابْنَ عُمَرَ بْنِ حَفْصِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الْعُمَرِيَّ.

قَوْلُهُ: (نَزَلَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعُمَرُ، وَابْنُ عُمَرَ) هُوَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلٌ، وَعَنْ عُمَرَ مُنْقَطِعٌ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ مَوْصُولٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَافِعٌ سَمِعَ ذَلِكَ مِنِ ابْنِ عُمَرَ فَيَكُونُ الْجَمِيعُ مَوْصُولًا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ الَّتِي قَدَّمْتُهَا فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ.

قَوْلُهُ: (وَعَنْ نَافِعٍ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْإِسْنَادِ الَّذِي قَبْلَهُ وَلَيْسَ بِمُعَلَّقٍ، وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدِ بْنِ مَسْعَدَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ مِثْلَهُ.

قَوْلُهُ: (يُصَلِّي بِهَا يَعْنِي الْمُحَصَّبَ) قِيلَ: فَسَّرَ الضَّمِيرَ الْمُؤَنَّثَ بِلَفْظٍ مُذَكَّرٍ وَأَرَادَ الْبُقْعَةَ، وَلِأَنَّ مِنْ أَسْمَائِهَا الْبَطْحَاءَ.

قَوْلُهُ: (قَالَ خَالِدٌ) هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ رَاوِي أَصْلِ الْإِسْنَادِ، وَهُوَ مُؤَيِّدٌ لِلْعِطْفِ الَّذِي قَبْلَهُ.

قَوْلُهُ: (لَا أَشُكُّ فِي الْعِشَاءِ) يُرِيدُ أَنَّهُ شَكَّ فِي ذِكْرِ الْمَغْرِبِ، وَقَدْ رَوَاهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ بِغَيْرِ شَكٍّ فِي الْمَغْرِبِ وَلَا غَيْرِهَا عَنْ أَيُّوبَ، وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ جَمِيعًا عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُصَلِّي بِالْأَبْطَحِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ ثُمَّ يَهْجَعُ هَجْعَةً. أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَهُوَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ، وَعَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ.

‌149 - بَاب مَنْ نَزَلَ بِذِي طُوًى إِذَا رَجَعَ مِنْ مَكَّةَ

1769 -

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ كَانَ إِذَا

ص: 592

أَقْبَلَ بَاتَ بِذِي طُوًى، حَتَّى إِذَا أَصْبَحَ دَخَلَ، وَإِذَا نَفَرَ مَرَّ بِذِي طُوًى، وَبَاتَ بِهَا حَتَّى يُصْبِحَ، وَكَانَ يَذْكُرُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ نَزَلَ بِذِي طُوًى إِذَا رَجَعَ مِنْ مَكَّةَ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى النُّزُولِ بِذِي طُوًى وَالْمَبِيتِ بِهَا إِلَى الصُّبْحِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ فِي أَوَائِلِ الْحَجِّ، وَالْمَقْصُودُ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ مَشْرُوعِيَّةُ الْمَبِيتِ بِهَا أَيْضًا لِلرَّاجِعِ مِنْ مَكَّةَ، وَغَفَلَ الدَّاوُدِيُّ، فَظَنَّ أَنَّ هَذَا الْمَبِيتَ مُتَّحِدٌ بِالْمَبِيتِ بِالْمُحَصَّبِ فَجَعَلَ ذَا طُوًى هُوَ الْمُحَصَّبَ، وَهُوَ غَلَطٌ مِنْهُ، وَإِنَّمَا يَقَعُ الْمَبِيتُ بِالْمُحَصَّبِ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي تَلِي يَوْمَ النَّفْرِ مِنْ مِنًى فَيُصْبِحُ سَائِرًا إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَى ذِي طُوًى، فَيَنْزِلَ بِهَا وَيَبِيتَ، فَهَذَا الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ حَدِيثِ الْبَابِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى) هُوَ ابْنُ الطَّبَّاعِ أَخُو إِسْحَاقَ الْبَصْرِيِّ. حَدَّثَنَا (حَمَّادٌ) اخْتُلِفَ فِي حَمَّادٍ هَذَا، فَجَزَمَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِأَنَّهُ ابْنُ سَلَمَةَ، وَجَزَمَ الْمُزِّيُّ بِأَنَّهُ ابْنُ زَيْدٍ، فَلَمْ يَذْكُرْ حَمَّادَ بْنَ سَلَمَةَ فِي شُيُوخِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى وَذَكَرَ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ، وَلَمْ تَقَعْ لِي رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى مَوْصُولَةً. وَقَدْ أَخْرَجَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ طَرَفًا مِنَ الْحَدِيثَ وَلَيْسَ فِيهِ مَقْصُودُ التَّرْجَمَةِ، وَهَذَا الطَّرَفُ تَقَدَّمَ فِي بَابِ الِاغْتِسَالِ لِدُخُولِ مَكَّةَ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ، وَأَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ هُنَا عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبَانَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَقْصُودَ التَّرْجَمَةِ، فَلَمْ يَتَّضِحْ لِي صِحَّةُ مَا قَالَ إِنَّ حَمَّادًا فِي التَّعْلِيقِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى هَذَا هُوَ ابْنُ سَلَمَةَ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ ابْنُ زَيْدٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَيْسَ لِمُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى هَذَا فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ، وَآخَرَ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ سَيَأْتِي بَسْطُ الْقَوْلِ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (وَإِذَا نَفَرَ مَرَّ بِذِي طُوًى) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: وَإِذَا نَفَرَ مَرَّ مِنْ ذِي طُوًى إِلَخْ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَلَيْسَ هَذَا أَيْضًا مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ. قُلْتُ: وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْهُ أَمَاكِنُ نُزُولِهِ صلى الله عليه وسلم لَيُتَأَسَّى بِهِ فِيهَا، إِذْ لَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْ أَفْعَالِهِ عَنْ حِكْمَةٍ.

‌150 - بَاب التِّجَارَةِ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ وَالْبَيْعِ فِي أَسْوَاقِ الْجَاهِلِيَّةِ

1770 -

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: كَانَ ذُو الْمَجَازِ وَعُكَاظٌ مَتْجَرَ النَّاسِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ كَأَنَّهُمْ كَرِهُوا ذَلِكَ حَتَّى نَزَلَتْ:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ.

[الحديث 1770 - أطرافه في: 2050، 2098، 4519]

قَوْلُهُ: (بَابُ التِّجَارَةِ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ وَالْبَيْعِ فِي أَسْوَاقِ الْجَاهِلِيَّةِ) أَيْ: جَوَازِ ذَلِكَ، وَالْمَوْسِمُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ مَعْلَمٌ يَجْتَمِعُ إِلَيْهِ النَّاسُ مُشْتَقٌّ مِنَ السِّمَةِ وَهِيَ الْعَلَامَةُ، وَذَكَرَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنْ أَسْوَاقِ الْجَاهِلِيَّةِ اثْنَيْنِ وَتَرَكَ اثْنَيْنِ سَنَذْكُرُهُمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ) فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ.

قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) هَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، عَنِ الْمَنِيعِيِّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرٍو، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: كَذَا فِي كِتَابِي وَعَلَيْهِ صَحَّ. قُلْتُ: وَهُوَ وَهْمٌ مِنْ بَعْضِ رُوَاتِهِ كَأَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ حَدِيثٌ فِي حَدِيثٍ، فَإِنَّ حَدِيثَ ابْنِ الزُّبَيْرِ عِنْدَ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ عَنْهُ وَهُوَ أَخْصَرُ

ص: 593

مِنْ سِيَاقِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ثُمَّ لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وكَذَلِكَ رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ أَبِي زَائِدَةَ.

قَوْلُهُ: (كَانَ ذُو الْمَجَازِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ وَفِي آخِرِهِ زَايٌ وَهُوَ بِلَفْظٍ ضِدَّ الْحَقِيقَةِ، وَعُكَاظٌ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْكَافِ وَفِي آخِرِهِ ظَاءٌ مُشَالَةٌ، زَادَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عُمَرٍو كَمَا سَيَأْتِي فِي أَوَائِلِ الْبُيُوعِ وَفِي تَفْسِيرِ الْبَقَرَةِ وَمَجِنَّةُ وَهِيَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ.

قَوْلُهُ: (مَتْجَرَ النَّاسِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ) أَيْ: مَكَانَ تِجَارَتِهِمْ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ أَسْوَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَمَّا ذُو الْمَجَازِ فَذَكَرَ الْفَاكِهِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهَا كَانَتْ بِنَاحِيَةِ عَرَفَةَ إِلَى جَانِبِهَا، وَعِنْدَ الْأَزْرَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ الْكَلْبِيِّ أَنَّهُ كَانَ لِهُذَيْلٍ عَلَى فَرْسَخٍ مِنْ عَرَفَةَ، وَوَقَعَ فِي شَرْحِ الْكِرْمَانِيِّ أَنَّهُ كَانَ بِمِنًى وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، لِمَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَبِيعُونَ وَلَا يَبْتَاعُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِعَرَفَةَ وَلَا مِنًى، لَكِنْ سَيَأْتِي عَنْ تَخْرِيجِ الْحَاكِمِ خِلَافُ ذَلِكَ. وَأَمَّا عُكَاظٌ فَعَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهَا فِيمَا بَيْنَ نَخْلَةَ وَالطَّائِفِ إِلَى بَلَدٍ يُقَالُ لَهُ: الْفُتُقُ، بِضَمِّ الْفَاءُ وَالْمُثَنَّاةُ بَعْدَهَا قَافٌ، وَعَنِ ابْنِ الْكَلْبِيِّ: أَنَّهَا كَانَتْ وَرَاءَ قَرْنِ الْمَنَازِلِ بِمَرْحَلَةٍ عَلَى طَرِيقِ صَنْعَاءَ، وَكَانَتْ لِقَيْسٍ وَثَقِيفٍ.

وَأَمَّا مَجِنَّةُ فَعَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: أَنَّهَا كَانَتْ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ إِلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ: الْأَصْغَرُ، وَعَنِ ابْنِ الْكَلْبِيِّ: كَانَتْ بِأَسْفَلِ مَكَّةَ عَلَى بَرِيدٍ مِنْهَا غَرْبِيَّ الْبَيْضَاءِ وَكَانَتْ لِكِنَانَةَ، وَذَكَرَ مِنْ أَسْوَاقِ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَيْضًا: حُبَاشَةَ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةَ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ وَبَعْدَ الْأَلْفِ مُعْجَمَةٌ، وَكَانَتْ فِي دِيَارِ بَارِقٍ نَحْوُ قَنُونَى بِفَتْحِ الْقَافِ وَبِضَمِّ النُّونِ الْخَفِيفَةِ وَبَعْدَ الْوَاوِ نُونٌ مَقْصُورَةٌ مِنْ مَكَّةَ إِلَى جِهَةِ الْيَمَنِ عَلَى سِتِّ مَرَاحِلَ، قَالَ: وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ السُّوقَ فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مِنْ مَوَاسِمِ الْحَجِّ، وَإِنَّمَا كَانَتْ تُقَامُ فِي شَهْرِ رَجَبٍ، قَالَ الْفَاكِهِيُّ: وَلَمْ تَزَلْ هَذِهِ الْأَسْوَاقُ قَائِمَةً فِي الْإِسْلَامِ إِلَى أَنْ كَانَ أَوَّلُ مَا تُرِكَ مِنْهَا سُوقَ عُكَاظٍ فِي زَمَنِ الْخَوَارِجِ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَآخِرُ مَا تُرِكَ مِنْهَا سُوقَ حُبَاشَةَ فِي زَمَنِ دَاوُدَ بْنِ عِيسَى بْنِ مُوسَى الْعَبَّاسِيِّ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ. ثُمَّ أَسْنَدَ عَنِ ابْنِ الْكَلْبِيِّ أَنَّ كُلَّ شَرِيفٍ كَانَ إِنَّمَا يَحْضُرُ سُوقَ بَلَدِهِ إِلَّا سُوقَ عُكَاظٍ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَافَوْنَ بِهَا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، فَكَانَتْ أَعْظَمَ تِلْكَ الْأَسْوَاقِ. وَقَدْ وَقَعَ ذِكْرُهَا فِي أَحَادِيثَ أُخْرَى مِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: انْطَلَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ. الْحَدِيثَ فِي قِصَّةِ الْجِنِّ، وَقَدْ مَضَى فِي الصَّلَاةِ وَيَأْتِي فِي التَّفْسِيرِ.

وَرَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي: كِتَابِ النَّسَبِ مِنْ طَرِيقِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ: أَنَّهَا كَانَتْ تُقَامُ صُبْحَ هِلَالِ ذِي الْقَعْدَةِ إِلَى أَنْ يَمْضِيَ عِشْرُونَ يَوْمًا، قَالَ: ثُمَّ يُقَامُ سُوقُ مَجِنَّةَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ إِلَى هِلَالِ ذِي الْحِجَّةِ، ثُمَّ يَقُومُ سُوقُ ذِي الْمَجَازِ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ يَتَوَجَّهُونَ إِلَى مِنًى لِلْحَجِّ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَبِثَ عَشْرَ سِنِينَ يَتْبَعُ النَّاسَ فِي مَنَازِلِهِمْ فِي الْمَوْسِمِ بِمَجِنَّةَ وَعُكَاظٍ يُبَلِّغُ رِسَالَاتِ رَبِّهِ. الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ.

قَوْلُهُ: (كَأَنَّهُمْ) أَيِ: الْمُسْلِمِينَ.

قَوْلُهُ: (كَرِهُوا ذَلِكَ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ فَكَأَنَّهُمْ تَأَثَّمُوا أَيْ: خَشُوا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْإِثْمِ لِلِاشْتِغَالِ فِي أَيَّامِ النُّسُكِ بِغَيْرِ الْعِبَادَةِ، وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي: الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ النَّاسَ فِي أَوَّلِ الْحَجِّ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ بِمِنًى وَعَرَفَةَ وَسُوقِ ذِي الْمَجَازِ وَمَوَاسِمِ الْحَجِّ، فَخَافُوا الْبَيْعَ وَهُمْ حُرُمٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ، قَالَ: فَحَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا فِي الْمُصْحَفِ، وَلِأَبِي دَاوُدَ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانُوا لَا يَتَّجِرُونَ بِمِنًى، فَأُمِرُوا بِالتِّجَارَةِ إِذَا أَفَاضُوا مِنْ عَرَفَاتٍ وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ، وَأَخْرَجَهُ إِسْحَاقُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ: كَانُوا يَمْنَعُونَ الْبَيْعَ وَالتِّجَارَةَ فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ يَقُولُونَ: إِنَّهَا أَيَّامُ ذِكْرٍ، فَنَزَلَتْ: وَلَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُدْخِلُوا فِي حَجِّهِمُ التِّجَارَةَ

ص: 594

حَتَّى نَزَلَتْ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى نَزَلَتْ إِلَخْ) سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ الْبَقَرَةِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَوْلٌ آخَرُ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا.

قَوْلُهُ (فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: هُوَ كَلَامُ الرَّاوِي ذَكَرَهُ تَفْسِيرًا. انْتَهَى. وَفَاتَهُ مَا زَادَهُ الْمُصَنِّفُ فِي آخِرِ حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ فِي الْبُيُوعِ قَرَأَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: وَكَذَلِكَ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَؤُهَا، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا كَذَلِكَ، فَهِيَ عَلَى هَذَا مِنَ الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ وَحُكْمُهَا عِنْدَ الْأَئِمَّةِ حُكْمُ التَّفْسِيرِ، وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لِلْمُعْتَكِفِ قِيَاسًا عَلَى الْحَجِّ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا الْعِبَادَةُ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَعَنْ مَالِكٍ كَرَاهَةُ مَا زَادَ عَلَى الْحَاجَةِ كَالْخُبْزِ إِذَا لَمْ يَجِدْ مَنْ يَكْفِيهِ، وَكَذَا كَرِهَهُ عَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى، وَالْآيَةُ إِنَّمَا نَفَتِ الْجُنَاحَ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِهِ نَفْيُ أَوْلَوِيَّةِ مُقَابِلِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌151 - بَاب الِادِّلَاجِ مِنْ الْمُحَصَّبِ

1771 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ، عَنْ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: حَاضَتْ صَفِيَّةُ لَيْلَةَ النَّفْرِ، فَقَالَتْ: مَا أُرَانِي إِلَّا حَابِسَتَكُمْ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: عَقْرَى حَلْقَى، أَطَافَتْ يَوْمَ النَّحْرِ؟ قِيلَ نَعَمْ، قَالَ: فَانْفِرِي.

1772 -

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَزَادَنِي مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا مُحَاضِرٌ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا نَذْكُرُ إِلَّا الْحَجَّ، فَلَمَّا قَدِمْنَا أَمَرَنَا أَنْ نَحِلَّ، فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ النَّفْرِ حَاضَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: حَلْقَى عَقْرَى، مَا أُرَاهَا إِلَّا حَابِسَتَكُمْ، ثُمَّ قَالَ: كُنْتِ طُفْتِ يَوْمَ النَّحْرِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَانْفِرِي، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَمْ أَكُنْ حَلَلْتُ، قَالَ: فَاعْتَمِرِي مِنْ التَّنْعِيمِ، فَخَرَجَ مَعَهَا أَخُوهَا فَلَقِينَاهُ مُدَّلِجًا، فَقَالَ: مَوْعِدُكِ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ الِادِّلَاجِ مِنَ الْمُحَصَّبِ) وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِأَبِي ذَرٍّ: الْإِدْلَاجُ بِسُكُونِ الدَّالِ وَالصَّوَابُ تَشْدِيدُهَا، فَإِنَّهُ بِالسُّكُونِ سَيْرُ أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَبِالتَّشْدِيدِ سَيْرُ آخِرِهِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَالْمَقْصُودُ الرَّحِيلُ مِنْ مَكَانِ الْمَبِيتِ بِالْمُحَصَّبِ سَحَرًا، وَهُوَ الْوَاقِعُ فِي قِصَّةِ عَائِشَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ التَّرْجَمَةُ لِأَجْلِ رَحِيلِ عَائِشَةَ مَعَ أَخِيهَا لِلِاعْتِمَارِ، فَإِنَّهَا رَحَلَتْ مَعَهُ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ فَقَصَدَ الْمُصَنِّفُ التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّ الْمَبِيتَ لَيْسَ بِلَازِمٍ وَأَنَّ السَّيْرَ مِنْ هُنَاكَ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ جَائِزٌ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ قَرِيبًا فِي أَبْوَابِ الْعُمْرَةِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبِي) هُوَ حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ وَالْإِسْنَادُ كُلُّهُ إِلَى عَائِشَةَ كُوفِيُّونَ، وَلَيْسَ فِي الْمَتْنِ الَّذِي سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ حَفْصٍ مَقْصُودُ التَّرْجَمَةِ، وَإِنَّمَا أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْقِصَّةَ الَّتِي فِي رِوَايَتِهِ وَفِي رِوَايَةِ مُحَاضِرٍ وَاحِدَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قِصَّةِ صَفِيَّةَ قَرِيبًا.

قَوْلُهُ: (وَزَادَنِي مُحَمَّدٌ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ السَّكَنِ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، وَمُحَاضِرٌ بِضَمِّ الْمِيمِ وَحَاءٌ مُهْمَلَةٌ خَفِيفَةٌ وَبَعْدَ الْأَلْفِ ضَادٌ مُعْجَمَةٌ، لَمْ يُخَرِّجْ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِهِ إِلَّا تَعْلِيقًا، لَكِنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ ظَاهِرُ الْوَصْلِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ مُسْتَوْفًى إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ فِيهِ (فَخَرَجَ مَعَهَا أَخُوهَا) هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ كَمَا سَيَأْتِي، وَقَوْلُهُ فِيهِ (فَلَقِينَاهُ) أَيْ: أَنَّهُمَا لَقِيَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم (مُدَّلِجًا)

ص: 595

هُوَ بِتَشْدِيدِ الدَّالِ، أَيْ: سَائِرًا مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُمَا لَمَّا رَجَعَا إِلَى الْمَنْزِلِ بَعْدَ أَنْ قَضَتْ عَائِشَةُ الْعُمْرَةَ صَادَفَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مُتَوَجِّهًا إِلَى طَوَافِ الْوَدَاعِ، وَقَوْلُهُ: مَوْعِدُكَ كَذَا وَكَذَا أَيْ: مَوْضِعُ الْمَنْزِلَةِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(خَاتِمَةٌ) اشْتَمَلَ كِتَابُ الْحَجِّ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى أَبْوَابِ الْعُمْرَةِ عَلَى ثَلَاثِمِائَةٍ وَاثْنَيْ عَشَرَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْهَا سَبْعَةٌ وَخَمْسُونَ حَدِيثًا وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى مِائَةٌ وَأَحَدٌ وَتِسْعُونَ حَدِيثًا وَالْخَالِصُ مِنْهَا مِائَةٌ وَأَحَدٌ وَعِشْرُونَ حَدِيثًا، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ جَابِرٍ فِي: الْإِهْلَالِ إِذَا اسْتَثْقَلَتِ الرَّاحِلَةُ، وَحَدِيثِ أَنَسٍ فِي: الْحَجِّ عَلَى رَحْلٍ رَثٍّ، وَحَدِيثِ عَائِشَةَ: لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ. وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي نُزُولِ: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} وَحَدِيثِ عُمَرَ: حَدَّ لِأَهْلِ نَجِدٍ قَرْنًا. وَحَدِيثِهِ: وَقُلْ عُمْرَةً فِي حِجَّةٍ، وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: انْطَلَقَ مِنَ الْمَدِينَةِ بَعْدَمَا تَرَجَّلَ وَادَّهَنَ. وَحَدِيثِهِ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ، وَحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: لَيُحَجَّنَّ الْبَيْتُ وَلَيُعْتَمَرَنَّ بَعْدَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ. وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَدْمِ الْكَعْبَةِ عَلَى يَدِ الْأَسْوَدِ، وَحَدِيثِهِ فِي تَرْكِ دُخُولِ الْكَعْبَةِ وَفِيهَا الْأَصْنَامُ، وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي اسْتِلَامِ الْحَجَرِ وَتَقْبِيلِهِ، وَحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي طَوَافِهَا حَجْرَةً مِنَ الرِّجَالِ، وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَرَّ بِرَجُلٍ يَطُوفُ وَقَدْ خَزَمَ أَنْفَهُ، وَحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ الْمُرْسَلِ: لَمْ يَطُفْ إِلَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَدِمَ فَطَافَ وَسَعَى. وَحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي كَرَاهَةِ الطَّوَافِ بَعْدَ الصُّبْحِ، وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الشُّرْبِ مِنْ سِقَايَةِ الْعَبَّاسِ، وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي تَعْجِيلِ الْوُقُوفِ، وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَيْسَ الْبِرُّ بِالْإِيضَاعِ.

وَحَدِيثِهِ فِي تَقْدِيمِ الضَّعَفَةِ، وَحَدِيثِ عُمَرَ فِي إِفَاضَةِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ مُزْدَلِفَةَ، وَحَدِيثِ الْمِسْوَرِ، وَمَرْوَانَ فِي الْهَدْيِ، وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي النَّحْرِ فِي الْمَنْحَرِ، وَحَدِيثِ جَابِرٍ فِي السُّؤَالِ عَنِ الْحَلْقِ قَبْلَ الذَّبْحِ، وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: حَلَقَ فِي حَجَّتِهِ، وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَخَّرَ الزِّيَارَةَ إِلَى اللَّيْلِ، وَحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي ذَلِكَ، وَحَدِيثِ جَابِرٍ فِي رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ ضُحًى وَبَعْدَ ذَلِكَ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَحَدِيثِهِ: كَانَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ الدُّنْيَا بِسَبْعٍ وَيُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، وَحَدِيثِهِ فِي نُزُولِ الْمُحَصَّبِ، وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ ذُو الْمَجَازِ وَعُكَاظٌ. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ الْمَوْقُوفَةِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ سِتُّونَ أَثَرًا أَكْثَرُهَا مُعَلَّقٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 596

بسم الله الرحمن الرحيم

‌26 - كِتَاب الْعُمْرَةِ

‌1 - بَاب العمرة، وُجُوبِ الْعُمْرَةِ وَفَضْلِهَا

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: لَيْسَ أَحَدٌ إِلَّا وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: إِنَّهَا لَقَرِينَتُهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}

1773 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ.

قَوْلُهُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. أَبْوَابُ الْعُمْرَةِ. بَابُ وُجُوبِ الْعُمْرَةِ وَفَضْلِهَا) سَقَطَتِ الْبَسْمَلَةُ لِأَبِي ذَرٍّ، وَثَبَتَتِ التَّرْجَمَةُ هَكَذَا فِي رِوَايَتِهِ عَنِ الْمُسْتَمْلِي، وَسَقَطَ عِنْدَهُ عَنْ غَيْرِهِ أَبْوَابُ الْعُمْرَةِ وَثَبَتَ لِأَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ كِتَابُ الْعُمْرَةِ وَلِلْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ بَابُ الْعُمْرَةِ وَفَضْلِهَا حَسْبٌ. وَالْعُمْرَةُ فِي اللُّغَةِ الزِّيَارَةُ، وَقِيلَ إِنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنْ عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَجَزَمَ الْمُصَنِّفُ بِوُجُوبِ الْعُمْرَةِ، وَهُوَ مُتَابِعٌ فِي ذَلِكَ لِلْمَشْهُورِ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَهْلِ الْأَثَرِ، وَالْمَشْهُورُ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْعُمْرَةَ تَطَوُّعٌ وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرَطْأَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ: أَتَى أَعْرَابِيٌّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنِ الْعُمْرَةِ أَوَاجِبَةٌ هِيَ؟ فَقَالَ: لَا، وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَكَ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَجَّاجُ ضَعِيفٌ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَرِيضَتَانِ.

أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ، وَابْنُ لَهِيعَةَ ضَعِيفٌ وَلَا يَثْبُتُ فِي هَذَا الْبَابِ عَنْ جَابِرٍ شَيْءٌ، بَلْ رَوَى ابْنُ الْجَهْمِ الْمَالِكِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ جَابِرٍ لَيْسَ مُسْلِمٌ إِلَّا عَلَيْهِ عُمْرَةٌ مَوْقُوفٌ عَلَى جَابِرٍ، وَاسْتَدَلَّ الْأَوَّلُونَ بِمَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْبَابِ وَبِقَوْلِ صُبَيِّ بْنِ مَعْبَدٍ، لِعُمَرَ رَأَيْتُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ مَكْتُوبَيْنِ عَلَيَّ فَأَهْلَلْتُ بِهِمَا. فَقَالَ لَهُ: هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ. وَرَوَى ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ فِي حَدِيثِ عُمَرَ سُؤَالَ جِبْرِيلَ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ فَوَقَعَ فِيهِ وَأَنْ تَحُجَّ وَتَعْتَمِرَ. وَإِسْنَادُهُ قَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ لَكِنْ لَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ، وَبِأَحَادِيثَ أُخَرَ غَيْرَ مَا ذُكِرَ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} أَيْ: أَقِيمُوهُمَا. وَزَعَمَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ: الْعُمْرَةُ وَاجِبَةٌ أَيْ: وُجُوبَ كِفَايَةٍ، وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ مَعَ اللَّفْظِ الْوَارِدِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ، وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ، وَأَحْمَدُ إِلَى أَنَّ الْعُمْرَةَ لَا تَجِبُ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَإِنْ وَجَبَتْ عَلَى غَيْرِهِمْ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ) هَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي نَافِعٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: لَيْسَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ أَحَدٌ إِلَّا عَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ وَاجِبَتَانِ مَنِ اسْتَطَاعَ سَبِيلًا، فَمَنْ زَادَ شَيْئًا فَهُوَ خَيْرٌ وَتَطَوُّعٌ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ فِي الْمَنَاسِكِ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَرِيضَتَانِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) هَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ الشَّافِعِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ

ص: 597

مَنْصُورٍ كِلَاهُمَا عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ سَمِعْتُ طَاوُسًا يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: وَاللَّهِ إِنَّهَا لَقَرِينَتُهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ، وَلِلْحَاكِمِ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَرِيضَتَانِ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ لَقَرِينَتُهَا لِلْفَرِيضَةِ، وَكَانَ أَصْلُ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ لَقَرِينَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ الْحَجُّ.

قَوْلُهُ: (عَنْ سُمَيٍّ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: تَفَرَّدَ سُمَيٌّ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَاحْتَاجَ إِلَيْهِ النَّاسُ فِيهِ فَرَوَاهُ عَنْهُ مَالِكٌ، وَالسُّفْيَانَانِ وَغَيْرُهُمَا، حَتَّى إِنَّ سُهَيْلَ بْنَ أَبِي صَالِحٍ حَدَّثَ بِهِ عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، فَكَأَنَّ سُهَيْلًا لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ أَبِيهِ، وَتَحَقَّقَ بِذَلِكَ تَفَرُّدُ سُمَيٍّ بِهِ، فَهُوَ مِنْ غَرَائِبِ الصَّحِيحِ.

قَوْلُهُ: (الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا) أَشَارَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ تَكْفِيرُ الصَّغَائِرِ دُونَ الْكَبَائِرِ قَالَ: وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ عَصْرِنَا إِلَى تَعْمِيمِ ذَلِكَ، ثُمَّ بَالَغَ فِي الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى الصَّوَابِ فِي ذَلِكَ أَوَائِلَ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ. وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُهُمْ كَوْنَ الْعُمْرَةِ كَفَّارَةً مَعَ أَنَّ اجْتِنَابَ الْكَبَائِرِ يُكَفِّرُ فَمَاذَا تُكَفِّرُ الْعُمْرَةُ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ تَكْفِيرَ الْعُمْرَةِ مُقَيَّدٌ بِزَمَنِهَا، وَتَكْفِيرَ الِاجْتِنَابِ عَامٌّ لِجَمِيعِ عُمْرِ الْعَبْدِ، فَتَغَايَرَا مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ. وَأَمَّا مُنَاسَبَةُ الْحَدِيثِ لِأَحَدِ شِقَّيِ التَّرْجَمَةِ وَهُوَ وُجُوبُ الْعُمْرَةِ فَمُشْكِلٌ، بِخِلَافِ الشِّقِّ الْآخَرِ وَهُوَ فَضْلُهَا فَإِنَّهُ وَاضِحٌ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَشَارَ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّ مُتَابَعَةً بَيْنَهُمَا تَنْفِي الذُّنُوبَ وَالْفَقْرَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ. وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلَّا الْجَنَّةُ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ أَصْلِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَيُوَافِقُ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّهَا لَقَرِينَتِهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَأَمَّا إِذَا اتَّصَفَ الْحَجُّ بِكَوْنِهِ مَبْرُورًا فَذَلِكَ قَدْرٌ زَائِدٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْمُرَادِ بِهِ فِي أَوَائِلِ الْحَجِّ. وَوَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ.

قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا بِرُّ الْحَجِّ؟ قَالَ: إِطْعَامُ الطَّعَامِ وَإِفْشَاءُ السَّلَامِ، فَفِي هَذَا تَفْسِيرُ الْمُرَادِ بِالْبِرِّ فِي الْحَجِّ، وَيُسْتَفَادُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَذْكُورِ الْمُرَادُ بِالتَّكْفِيرِ الْمُبْهَمِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ دِلَالَةٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الِاعْتِمَارِ خِلَافًا لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: يُكْرَهُ أَنْ يُعْتَمَرَ فِي السَّنَةِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ كَالْمَالِكِيَّةِ، وَلِمَنْ قَالَ: مَرَّةً فِي الشَّهْرِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَاسْتُدِلَّ لَهُمْ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَفْعَلْهَا إِلَّا مِنْ سَنَةٍ إِلَى سَنَةٍ، وَأَفْعَالُهُ عَلَى الْوُجُوبِ أَوِ النَّدْبِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْمَنْدُوبَ لَمْ يَنْحَصِرْ فِي أَفْعَالِهِ، فَقَدْ كَانَ يَتْرُكُ الشَّيْءَ وَهُوَ يَسْتَحِبُّ فِعْلَهُ لِرَفْعِ الْمَشَقَّةِ وَقَدْ نَدَبَ إِلَى ذَلِكَ بِلَفْظِهِ، فَثَبَتَ الِاسْتِحْبَابُ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ.

وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِهَا فِي جَمِيعِ الْأَيَّامِ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَلَبِّسًا بِأَعْمَالِ الْحَجِّ، إِلَّا مَا نُقِلَ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ وَيَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَنَقَلَ الْأَثْرَمُ، عَنْ أَحْمَدَ: إِذَا اعْتَمَرَ فَلَابُدَّ أَنْ يَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ، فَلَا يَعْتَمِرُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى عَشْرَةِ أَيَّامٍ لِيُمْكِنَ حَلْقُ الرَّأْسِ فِيهَا، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ الِاعْتِمَارِ عِنْدَهُ فِي دُونِ عَشْرَةِ أَيَّامٍ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: قَوْلُهُ الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ إِلَى بِمَعْنَى مَعَ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ الْعُمْرَةُ مَعَ الْعُمْرَةِ مُكَفِّرَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا إِشَارَةٌ إِلَى جَوَازِ الِاعْتِمَارِ قَبْلَ الْحَجِّ وَهُوَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ.

‌2 - بَاب مَنْ اعْتَمَرَ قَبْلَ الْحَجِّ

1774 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَنَّ عِكْرِمَةَ بْنَ خَالِدٍ سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ الْعُمْرَةِ قَبْلَ الْحَجِّ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ، قَالَ عِكْرِمَةُ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ

ص: 598

يَحُجَّ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عِكْرِمَةُ بْنُ خَالِدٍ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ. . . مِثْلَهُ.

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: عِكْرِمَةُ بْنُ خَالِدٍ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما. . . مِثْلَهُ.

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنِ اعْتَمَرَ قَبْلَ الْحَجِّ) أَيْ: هَلْ تُجْزِئُهُ الْعُمْرَةُ أَمْ لَا؟

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ) هُوَ الْمَرْوَزِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ.

قَوْلُهُ: (أَنَّ عِكْرِمَةَ بْنَ خَالِدٍ) هُوَ الْمَخْزُومِيُّ.

قَوْلُهُ: (سَأَلَ) هَذَا السِّيَاقُ يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا الْإِسْنَادَ مُرْسَلٌ؛ لِأَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ لَمْ يُدْرِكْ زَمَانَ سُؤَالِ عِكْرِمَةَ، لِابْنِ عُمَرَ، وَلِهَذَا اسْتَظْهَرَ الْبُخَارِيُّ بِالتَّعْلِيقِ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ الْمُصَرِّحِ بِالِاتِّصَالِ، ثُمَّ بِالْإِسْنَادِ الْآخَرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، فَهُوَ يَرْفَعُ هَذَا الْإِشْكَالَ الْمَذْكُورَ حَيْثُ قَالَ: عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ عِكْرِمَةُ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ رُبَّمَا دَلَّسَ، فَالْجَوَابُ أَنَّ ابْنَ خُزَيْمَةَ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ بَكْرٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ قَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ خَالِدٍ فَذَكَرَهُ.

قَوْلُهُ: (لَا بَأْسَ) زَادَ أَحْمَدُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ: فَقَالَ: لَا بَأْسَ عَلَى أَحَدٍ أَنْ يَعْتَمِرَ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ.

قَوْلُهُ: (قَالَ عِكْرِمَةُ) هُوَ ابْنُ خَالِدٍ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ إِلَخْ) وَصَلَهُ أَحْمَدُ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَلَفْظُهُ: حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْعَاصيِ الْمَخْزُومِيُّ قَالَ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَلَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، فَقُلْتُ: إِنَّا لَمْ نَحُجَّ قَطُّ، أَفَنَعْتَمِرُ مِنَ الْمَدِينَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَمَا يَمْنَعُكُمْ مِنْ ذَلِكَ؟ فَقَدِ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عمره كُلَّهَا قَبْلَ حَجِّهِ. قَالَ: فَاعْتَمَرْنَا. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْحَجِّ كَانَ قَدْ نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ اعْتِمَارِهِ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ: هَلِ الْحَجُّ عَلَى الْفَوْرِ أَوِ التَّرَاخِي، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي، قَالَ: وَكَذَلِكَ أَمْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ بِفَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ دَالٌّ عَلَى ذَلِكَ. انْتَهَى. وَقَدْ نُوزِعَ فِي ذَلِكَ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ صِحَّةِ تَقْدِيمِ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ عَلَى الْآخَرِ نَفْيُ الْفَوْرِيَّةِ فِيهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْحَجِّ نَقْلُ الْخِلَافِ فِي ابْتِدَاءِ فَرْضِ الْحَجِّ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى عِدَّةِ عُمَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، وَمِنَ الصَّرِيحِ فِي التَّرْجَمَةِ الْأَثَرُ الْمَذْكُورُ فِي آخِرِ الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ عَنْ مَسْرُوقٍ، وَعَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ قَالُوا: اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ. وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا.

‌3 - بَاب كَمْ اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم

1775 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما جَالِسٌ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ، وَإِذَا نَاسٌ يُصَلُّونَ فِي الْمَسْجِدِ صَلَاةَ الضُّحَى، قَالَ: فَسَأَلْنَاهُ عَنْ صَلَاتِهِمْ، فَقَالَ: بِدْعَةٌ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: كَمْ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: أَرْبَعًا، إِحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ، فَكَرِهْنَا أَنْ نَرُدَّ عَلَيْهِ.

[الحديث 1775 - طرفه في: 4253]

1776 -

قَالَ: وَسَمِعْنَا اسْتِنَانَ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحُجْرَةِ، فَقَالَ عُرْوَةُ: يَا أُمَّاهُ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَلَا تَسْمَعِينَ مَا يَقُولُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ قَالَتْ: مَا يَقُولُ؟ قَالَ: يَقُولُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرَاتٍ إِحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ، قَالَتْ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَا اعْتَمَرَ عُمْرَةً إِلَّا وَهُوَ شَاهِدُهُ وَمَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ قَطُّ.

ص: 599

[الحديث 1776 - طرفاه في: 1777، 4254]

1777 -

حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ "سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ مَا اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَجَبٍ"

1778 -

حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ حَسَّانٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ "سَأَلْتُ أَنَسًا رضي الله عنه كَمْ اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَرْبَعٌ عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ حَيْثُ صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ وَعُمْرَةٌ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ حَيْثُ صَالَحَهُمْ وَعُمْرَةُ الْجِعِرَّانَةِ إِذْ قَسَمَ غَنِيمَةَ أُرَاهُ حُنَيْنٍ قُلْتُ كَمْ حَجَّ قَالَ وَاحِدَةً"

[الحديث 1778 - أطرافه في: 1779، 1780، 3066، 4148]

1779 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ "سَأَلْتُ أَنَسًا رضي الله عنه فَقَالَ اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ رَدُّوهُ وَمِنْ الْقَابِلِ عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ وَعُمْرَةً فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَعُمْرَةً مَعَ حَجَّتِهِ"

1780 -

حَدَّثَنَا هُدْبَةُ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ وَقَالَ "اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ إِلاَّ الَّتِي اعْتَمَرَ مَعَ حَجَّتِهِ عُمْرَتَهُ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ وَمِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ وَمِنْ الْجِعْرَانَةِ حَيْثُ قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ وَعُمْرَةً مَعَ حَجَّتِه".

1781 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ حَدَّثَنَا شُرَيْحُ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ "سَأَلْتُ مَسْرُوقًا وَعَطَاءً وَمُجَاهِدًا فَقَالُوا اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذِي الْقَعْدَةِ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ وَقَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رضي الله عنهما يَقُولُ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذِي الْقَعْدَةِ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ مَرَّتَيْنِ"

[الحديث 1781 - أطرافه في: 1844، 2698، 2700، 3184، 4251]

قَوْلُهُ: (بَابُ كَمِ اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ فِي أَنَّهُ اعْتَمَرَ أَرْبَعًا، وَكَذَا حَدِيثُ أَنَسٍ، وَخَتَمَ بِحَدِيثِ الْبَرَاءِ أَنَّهُ اعْتَمَرَ مَرَّتَيْنِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحَادِيثِهِمْ أَنَّهُ لَمْ يُعِدِ الْعُمْرَةَ الَّتِي قَرَنَهَا بِحَجَّتِهِ؛ لِأَنَّ حَدِيثَهُ مُقَيَّدٌ بِكَوْنِ ذَلِكَ وَقَعَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَالَّتِي فِي حَجَّتِهِ كَانَتْ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَعُدَّ أَيْضًا الَّتِي صُدَّ عَنْهَا، وَإِنَّ كَانَتْ وَقَعَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ أَوْ عَدَّهَا وَلَمْ يَعُدَّ عُمْرَةَ الْجِعْرَانَةِ لِخَفَائِهَا عَلَيْهِ كَمَا خَفِيَتْ عَلَى غَيْرِهِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ مُحَرِّشٌ الْكَعْبِيُّ فِيمَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَرَوَى يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ فِي: زِيَادَاتِ الْمَغَازِي وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ جَمِيعًا عَنْ عُمَرَ بْنِ ذَرٍّ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ عُمَرٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ، وَزَادَ عَلَيْهِ تَعْيِينَ الشَّهْرِ، لَكِنْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اعْتَمَرَ ثَلَاثَ عُمَرٍ: عُمْرَتَيْنِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةً فِي شَوَّالٍ. إِسْنَادُهُ قَوِيٌّ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ مُرْسَلًا.

لَكِنَّ قَوْلَهَا: فِي شَوَّالٍ مُغَايِرٌ لِقَوْلِ غَيْرِهَا: فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَقَعَ فِي آخِرِ شَوَّالٍ وَأَوَّلِ ذِي الْقَعْدَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَائِشَةَ: لَمْ يَعْتَمِرْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا فِي ذِي الْقَعْدَةِ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا جَرِيرٌ) هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَمَنْصُورٌ هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ.

قَوْلُهُ: (الْمَسْجِدَ) يَعْنِي: مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ.

قَوْلُهُ: (جَالِسٌ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ) فِي رِوَايَةِ مُفَضَّلٍ عَنْ مَنْصُورٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: فَإِذَا ابْنُ عُمَرَ مُسْتَنِدٌ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ.

ص: 600

قَوْلُهُ: (وَإِذَا أُنَاسٌ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فَإِذَا نَاسٌ بِغَيْرِ أَلْفٍ.

قَوْلُهُ: (فَقَالَ بِدْعَةٌ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ، وَالْبَحْثُ فِيهِ فِي أَبْوَابِ التَّطَوُّعِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَالَ لَهُ) يَعْنِي: عُرْوَةَ، وَصَرَّحَ بِهِ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، عَنْ جَرِيرٍ.

قَوْلُهُ: (قَالَ أَرْبَعٌ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِأَبِي ذَرٍّ: قَالَ أَرْبَعًا أَيِ: اعْتَمَرَ أَرْبَعًا. قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: الْأَكْثَرُ فِي جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ مُطَابَقَةُ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَقَدْ يُكْتَفَى بِالْمَعْنَى، فَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{قَالَ هِيَ عَصَايَ} فِي جَوَابِ: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: أَرْبَعِينَ فِي جَوَابِ قَوْلِهِمْ كَمْ يَلْبَثُ، فَأَضْمَرَ يَلْبَثُ وَنَصَبَ بِهِ أَرْبَعِينَ، وَلَوْ قَصَدَ تَكْمِيلَ الْمُطَابَقَةَ لَقَالَ أَرْبَعُونَ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ الْمُسْتَفْهَمَ بِهِ فِي مَوْضِعِ الرَّفْعِ، فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ النَّصْبَ وَالرَّفْعَ جَائِزَانِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ أَرْبَعٌ، إِلَّا أَنَّ النَّصْبَ أَقْيَسُ وَأَكْثَرُ نَظَائِرَ.

قَوْلُهُ: (إِحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ) كَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَخَالَفَهُ أَبُو إِسْحَاقَ فَرَوَاهُ عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَرَّتَيْنِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَائِشَةَ فَقَالَتِ: اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ فَاخْتَلَفَا، جَعَلَ مَنْصُورٌ الِاخْتِلَافَ فِي شَهْرِ الْعُمْرَةِ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الِاخْتِلَافَ فِي عَدَدِ الِاعْتِمَارِ، وَيُمْكِنُ تَعَدُّدُ السُّؤَالِ بِأَنْ يَكُونَ ابْنُ عُمَرَ سُئِلَ أَوَّلًا عَنِ الْعَدَدِ فَأَجَابَ فَرَدَّتْ عَلَيْهِ عَائِشَةُ فَرَجَعَ إِلَيْهَا، فَسُئِلَ مَرَّةً ثَانِيَةً فَأَجَابَ بِمُوَافَقَتِهَا، ثُمَّ سُئِلَ عَنِ الشَّهْرِ فَأَجَابَ بِمَا فِي ظَنِّهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: سَأَلَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، ابْنَ عُمَرَ: فِي أَيِّ شَهْرٍ اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: فِي رَجَبٍ.

قَوْلُهُ: (فَكَرِهْنَا أَنْ نَرُدَّ عَلَيْهِ) زَادَ إِسْحَاقُ فِي رِوَايَتِهِ وَنُكَذِّبَهُ.

قَوْلُهُ: (وَسَمِعْنَا اسْتِنَانَ عَائِشَةَ) أَيْ حِسَّ مُرُورِ السِّوَاكِ عَلَى أَسْنَانِهَا، وَفِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ، عَنْ عُرْوَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: وَإِنَّا لَنَسْمَعُ ضَرْبَهَا بِالسِّوَاكِ تَسْتَنُّ.

قَوْلُهُ: (عُمُرَاتٌ) يَجُوزُ فِي مِيمِهَا الْحَرَكَاتُ الثَّلَاثُ.

قَوْلُهُ: (يَا أُمَّاهُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِسُكُونِ الْهَاءِ، وَلِأَبِي ذَرٍّ: يَا أُمَّهُ بِسُكُونِ الْهَاءِ أَيْضًا بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَقَوْلُ عُرْوَةَ لِهَذَا بِالْمَعْنَى الْأَخَصِّ لِكَوْنِهَا خَالَتَهُ، وَبِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ لِكَوْنِهَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ.

قَوْلُهُ: (يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، ذَكَرَتْهُ بِكُنْيَتِهِ تَعْظِيمًا لَهُ وَدَعَتْ لَهُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ نَسِيَ، وَقَوْلُهَا:(وَمَا اعْتَمَرَ) أَيْ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (عُمْرَةً إِلَّا وَهُوَ) أَيِ: ابْنُ عُمَرَ (شَاهِدُهُ) أَيْ حَاضِرٌ مَعَهُ، وَقَالَتْ ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي نِسْبَتِهِ إِلَى النِّسْيَانِ، وَلَمْ تُنْكِرْ عَائِشَةُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ إِلَّا قَوْلَهُ إِحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ.

قَوْلُهُ: (وَمَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ قَطُّ) زَادَ عَطَاءٌ، عَنْ عُرْوَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي آخِرِهِ: قَالَ وَابْنُ عُمَرَ يَسْمَعُ، فَمَا قَالَ لَا، وَلَا نَعَمْ، سَكَتَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ سَأَلْتُ عَائِشَةَ) كَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُطَوَّلًا ذَكَرَ فِيهِ قِصَّةَ ابْنِ عُمَرَ وَسُؤَالَهُ لَهُ نَحْوَ مَا رَوَاهُ مُجَاهِدٌ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ فِيهِ: كَمِ اعْتَمَرَ؟ وَقَدْ أَشَرْتُ إِلَى مَا فِيهِ مِنْ فَائِدَةٍ زَائِدَةٍ، وَأَغْرَبَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، فَقَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ لَا يَدْخُلُ فِي بَابِ كَمِ اعْتَمَرَ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِي بَابِ مَتَى اعْتَمَرَ، اهـ، وَجَوَابُهُ أَنَّ غَرَضَ الْبُخَارِيِّ الطَّرِيقَ الْأُولَى، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذِهِ لِيُنَبِّهَ عَلَى الْخِلَافِ فِي السِّيَاقِ.

قَوْلُهُ: (وَعُمْرَةُ الْجِعْرَانَةِ إِذْ قَسَمَ غَنِيمَةَ أُرَاهُ حُنَيْنٍ) كَذَا وَقَعَ هُنَا بِنَصْبِ غَنِيمَةٍ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، وَكَأَنَّ الرَّاوِي طَرَأَ عَلَيْهِ شَكٌّ فَأَدْخَلَ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ لَفْظَ أُرَاهُ، وَهُوَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ: أَظُنُّهُ. وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ هُدْبَةَ، عَنْ هَمَّامٍ بِغَيْرِ شَكٍّ، فَقَالَ: حَيْثُ قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ وَسَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ حَسَّانٍ هَذِهِ الْعُمْرَةُ الرَّابِعَةُ، وَلِهَذَا اسْتَظْهَرَ الْمُصَنِّفُ بِطَرِيقِ أَبِي الْوَلِيدِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي آخِرِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَعُمْرَةً مَعَ حَجَّتِهِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الصَّمَدِ، عَنْ هِشَامٍ، فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ التَّقْصِيرَ فِيهِ مِنْ حَسَّانٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْعُمْرَةُ الرَّابِعَةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَاخِلَةٌ فِي ضِمْنِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَارِنًا أَوْ مُتَمَتِّعًا، فَالْعُمْرَةُ حَاصِلَةٌ أَوْ مُفْرِدًا، لَكِنَّ أَفْضَلَ أَنْوَاعِ الْإِفْرَادِ لَابُدَّ فِيهِ مِنَ الْعُمْرَةِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَتْرُكُ الْأَفْضَلَ. انْتَهَى. وَلَيْسَ

ص: 601

مَا ادَّعَى أَنَّهُ الْأَفْضَلُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، فَكَيْفَ يَنْسِبُ فِعْلَ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَفِعْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هُوَ الَّذِي يُحْتَجُّ بِهِ إِذَا نُسِبَ لِأَحَدٍ فِعْلُهُ عَلَى مَا يَخْتَارُ بَعْضُ الْمُجْتَهِدِينَ رُجْحَانَهُ.

قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْوَلِيدِ: (اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ رَدُّوهُ، وَمِنَ الْقَابِلِ عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ). قَالَ ابْنُ التِّينِ: هَذَا أُرَاهُ وَهْمًا؛ لِأَنَّ الَّتِي رَدُّوهُ فِيهَا هِيَ عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ، وَأَمَّا الَّتِي مِنْ قَابِلٍ فَلَمْ يَرُدُّوهُ مِنْهَا. قُلْتُ: لَا وَهْمَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَانَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: حَيْثُ رَدُّوهُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا هُدْبَةُ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ وَقَالَ اعْتَمَرَ) أَيْ: بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ كُلَّهُنَّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ إِلَّا الَّتِي مَعَ حَجَّتِهِ. الْحَدِيثَ، كَذَا سَاقَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ هَدَّابِ بْنِ خَالِدٍ وَهُوَ هُدْبَةُ الْمَذْكُورُ، وَقَوْلُهُ: إِلَّا الَّتِي مَعَ حَجَّتِهِ اسْتَشْكَلَ ابْنُ التِّينِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ، فَقَالَ: هُوَ كَلَامٌ زَائِدٌ، وَالصَّوَابُ أَرْبَعُ عُمَرٍ: فِي ذِي الْقَعْدَةِ عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ، الْحَدِيثَ، قَالَ: وَقَدْ عَدَّ الَّتِي مَعَ حَجَّتِهِ فِي الْحَدِيثِ فَكَيْفَ يَسْتَثْنِيهَا أَوَّلًا؟ وَأَجَابَ عِيَاضٌ بِأَنَّ الرِّوَايَةَ صَوَابٌ، وَكَأَنَّهُ قَالَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا ثَلَاثٌ وَالرَّابِعَةُ عُمْرَتُهُ فِي حَجَّتِهِ، أَوِ الْمَعْنَى كُلُّهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ إِلَّا الَّتِي اعْتَمَرَ فِي حَجَّتِهِ؛ لِأَنَّ الَّتِي فِي حَجَّتِهِ كَانَتْ فِي ذِي الْحِجَّةِ.

قَوْلُهُ: (شُرَيْحُ بْنُ مَسْلَمَةَ) بِمُعْجَمَةٍ أَوَّلُهُ وَمُهْمَلَةٍ آخِرُهُ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ أَيِ: ابْنُ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ، وَرِجَالُ هَذَا الْحَدِيثِ كُلُّهُمْ كُوفِيُّونَ إِلَّا عَطَاءً، وَمُجَاهِدًا، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْخِلَافِ فِيمَا كَانَ صلى الله عليه وسلم بِهِ مُحْرِمًا فِي حَجَّتِهِ وَالْجَمْعِ بَيْنَ مَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، وَالْمَشْهُورُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ كَانَ مُفْرِدًا، وَحَدِيثُهُ هَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ كَانَ قَارِنًا، وَكَذَا ابْنُ عُمَرَ أَنْكَرَ عَلَى أَنَسٍ كَوْنَهُ كَانَ قَارِنًا مَعَ أَنَّ حَدِيثَهُ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَارِنًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ اعْتَمَرَ بَعْدَ حَجَّتِهِ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنَّهُ اعْتَمَرَ مَعَ حَجَّتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا لِأَنَّهُ اعْتَذَرَ عَنْ ذَلِكَ بِكَوْنِهِ سَاقَ الْهَدْيَ، وَاحْتَاجَ ابْنُ بَطَّالٍ إِلَى تَأْوِيلِ مَا وَقَعَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ هُنَا فَقَالَ: إِنَّمَا تَجُوزُ نِسْبَةُ الْعُمْرَةِ الرَّابِعَةِ إِلَيْهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَمَرَ النَّاسَ بِهَا وَعُمِلَتْ بِحَضْرَتِهِ لَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اعْتَمَرَهَا بِنَفْسِهِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْجَمْعِ اسْتَغْنَى عَنْ هَذَا التَّأْوِيلِ الْمُتَعَسِّفِ.

وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: فِي عَدِّهِمْ عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ الَّتِي صُدَّ عَنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا عُمْرَةٌ تَامَّةٌ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى صِحَّةِ قَوْلِ الْجُمْهُورِ إِنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ عَلَى مَنْ صُدَّ عَنِ الْبَيْتِ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ، وَلَوْ كَانَتْ عُمْرَةُ الْقَضِيَّةِ بَدَلًا عَنْ عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ لَكَانَتَا وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ وَالْقَضَاءِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَاضَى قُرَيْشًا فِيهَا لَا أَنَّهَا وَقَعَتْ قَضَاءً عَنِ الْعُمْرَةِ الَّتِي صُدَّ عَنْهَا؛ إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَتَا عُمْرَةً وَاحِدَةً. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الِاعْتِمَارِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ بِخِلَافِ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الصَّحَابِيَّ الْجَلِيلَ الْمُكْثِرَ الشَّدِيدَ الْمُلَازَمَةِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ بَعْضُ أَحْوَالِهِ، وَقَدْ يَدْخُلُهُ الْوَهْمُ وَالنِّسْيَانُ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَعْصُومٍ. وَفِيهِ رَدُّ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ عَلَى بَعْضٍ وَحُسْنُ الْأَدَبِ فِي الرَّدِّ وَحُسْنُ التَّلَطُّفِ فِي اسْتِكْشَافِ الصَّوَابِ إِذَا ظَنَّ السَّامِعُ خَطَأَ الْمُحَدِّثِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: سُكُوتُ ابْنِ عُمَرَ عَلَى إِنْكَارِ عَائِشَةَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ أَوْ نَسِيَ أَوْ شَكَّ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: عَدَمُ إِنْكَارِهِ عَلَى عَائِشَةَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَلَى وَهْمٍ وَأَنَّهُ رَجَعَ لِقَوْلِهَا، وَقَدْ تَعَسَّفَ مَنْ قَالَ: إِنَّ ابْنَ عُمَرَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ عُمْرَةً قَبْلَ هِجْرَتِهِ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا، لَكِنَّ قَوْلَ عَائِشَةَ: مَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ يَلْزَمُ مِنْهُ عَدَمُ مُطَابَقَةِ رَدِّهَا عَلَيْهِ لِكَلَامِهِ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ بَيَّنَتِ الْأَرْبَعَ، وَأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ فَمَا الَّذِي كَانَ يَمْنَعُهُ أَنْ يُفْصِحَ بِمُرَادِهِ فَيَرْجِعَ الْإِشْكَالُ؟ وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَ هَذَا الْقَائِلِ لِأَنَّ قُرَيْشًا كَانُوا يَعْتَمِرُونَ فِي رَجَبٍ يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ، وَعَلَى تَقْدِيرِهِ فَمِنْ أَيْنَ لَهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَافَقَهُمْ؟ وَهَبْ أَنَّهُ وَافَقَهُمْ فَكَيْفَ اقْتَصَرَ عَلَى مَرَّةٍ؟

ص: 602

‌4 - بَاب عُمْرَةٍ فِي رَمَضَانَ

1782 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يُخْبِرُنَا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِامْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ - سَمَّاهَا ابْنُ عَبَّاسٍ فَنَسِيتُ اسْمَهَا -: مَا مَنَعَكِ أَنْ تَحُجِّي مَعَنَا؟ قَالَتْ: كَانَ لَنَا نَاضِحٌ، فَرَكِبَهُ أَبُو فُلَانٍ وَابْنُهُ - لِزَوْجِهَا وَابْنِهَا - وَتَرَكَ نَاضِحًا نَنْضَحُ عَلَيْهِ. قَالَ: فَإِذَا كَانَ رَمَضَانُ اعْتَمِرِي فِيهِ، فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ حَجَّةٌ. أَوْ نَحْوًا مِمَّا قَالَ.

[الحديث 1782 - طرفه في: 1863]

قَوْلُهُ: (بَابُ عُمْرَةٍ فِي رَمَضَانَ) كَذَا فِي جَمِيعِ النُّسَخِ وَلَمْ يُصَرِّحْ فِي التَّرْجَمَةِ بِفَضِيلَةٍ وَلَا غَيْرِهَا، وَلَعَلَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي عُمْرَةِ رَمَضَانَ، فَأَفْطَرَ وَصُمْتُ، وَقَصَرَ وَأَتْمَمْتُ. الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْعَلَاءِ بْنِ زُهَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِيهِ عَنْهَا، وَقَالَ: إِنَّ إِسْنَادَهُ حَسَنٌ. وَقَالَ صَاحِبُ الْهَدْيِ: إِنَّهُ غَلَطٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَعْتَمِرْ فِي رَمَضَانَ. قُلْتُ: وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهَا فِي رَمَضَانَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهَا خَرَجْتُ وَيَكُونُ الْمُرَادُ سَفَرَ فَتْحِ مَكَّةَ فَإِنَّهُ كَانَ فِي رَمَضَانَ، وَاعْتَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي تِلْكَ السَّنَةِ مِنَ الْجِعْرَانَةِ لَكِنْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ قَرِيبًا، وَقَدْ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ آخَرَ إِلَى الْعَلَاءِ بْنِ زُهَيْرٍ فَلَمْ يَقُلْ فِي الْإِسْنَادِ عَنْ أَبِيهِ وَلَا قَالَ فِيهِ فِي رَمَضَانَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) هُوَ الْقَطَّانُ، وَقَوْلُهُ (عَنْ عَطَاءٍ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَاتِمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ.

قَوْلُهُ: (لِامْرَأَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ سَمَّاهَا ابْنُ عَبَّاسٍ فَنَسِيتُ اسْمَهَا) الْقَائِلُ نَسِيتُ اسْمَهَا ابْنُ جُرَيْجٍ، بِخِلَافِ مَا يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ مِنْ أَنَّ الْقَائِلَ عَطَاءٌ، وَإِنَّمَا قُلْتُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ فِي: بَابِ حَجِّ النِّسَاءِ مِنْ طَرِيقِ حَبِيبٍ الْمُعَلِّمِ، عَنْ عَطَاءٍ فَسَمَّاهَا وَلَفْظُهُ: لَمَّا رَجَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَجَّتِهِ قَالَ لَأُمِّ سِنَانٍ الْأَنْصَارِيَّةِ: مَا مَنَعَكِ مِنَ الْحَجِّ. الْحَدِيثَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ عَطَاءً كَانَ نَاسِيًا لِاسْمِهَا لَمَّا حَدَّثَ بِهِ ابْنَ جُرَيْجٍ وَذَاكِرًا لَهُ لَمَّا حَدَّثَ بِهِ حَبِيبًا، وَقَدْ خَالَفَهُ يَعْقُوبُ بْنُ عَطَاءٍ فَرَوَاهُ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: حَجَّ أَبُو طَلْحَةَ وَابْنُهُ وَتَرَكَانِي. فَقَالَ: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً مَعِي.

أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَتَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَطَاءٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَتَابَعَهُمَا مَعْقِلٌ الْجَزَرِيُّ لَكِنْ خَالَفَ فِي الْإِسْنَادِ قَالَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أُمِّ سُلَيْمٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ دُونَ الْقِصَّةِ، فَهَؤُلَاءِ ثَلَاثَةٌ يَبْعُدُ أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى الْخَطَأِ، فَلَعَلَّ حَبِيبًا لَمْ يَحْفَظِ اسْمَهَا كَمَا يَنْبَغِي، لَكِنْ رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ فِي مُسْنَدِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ امْرَأَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهَا أُمُّ سِنَانٍ أَنَّهَا أَرَادَتِ الْحَجَّ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ نَحْوَهُ دُونَ ذِكْرِ قِصَّةِ زَوْجِهَا، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي صَحَابِيَّةٍ عَلَى عَطَاءٍ اخْتِلَافًا آخَرَ يَأْتِي ذِكْرُهُ فِي: بَابِ حَجِّ النِّسَاءِ، وَقَدْ وَقَعَ شَبِيهٌ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ لِأُمِّ مَعْقِلٍ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ عَنِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ مَعْقِلٍ قَالَتْ: أَرَدْتُ الْحَجَّ فَاعْتَلَّ بَعِيرِي، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: اعْتَمِرِي فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً.

وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي إِسْنَادِهِ فَرَوَاهُ مَالِكٌ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ جَاءَتِ امْرَأَةٌ فَذَكَرَهُ مُرْسَلًا وَأَبْهَمَهَا، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي مَعْقِلٍ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ رَسُولِ مَرْوَانَ عَنْ أُمِّ مَعْقِلٍ، وَالَّذِي

ص: 603

يَظْهَرُ لِي أَنَّهُمَا قِصَّتَانِ وَقَعَتَا لِامْرَأَتَيْنِ، فَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عِيسَى بْنِ مَعْقِلٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ عَنْ أُمِّ مَعْقِلٍ قَالَتْ: لَمَّا حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَجَّةَ الْوَدَاعِ وَكَانَ لَنَا جَمَلٌ فَجَعَلَهُ أَبُو مَعْقِلٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَصَابَنَا مَرَضٌ فَهَلَكَ أَبُو مَعْقِلٍ، فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَجَّتِهِ جِئْتُ فَقَالَ. مَا مَنَعَكِ أَنْ تَحُجِّي مَعَنَا؟ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، قَالَ: فَهَلَّا حَجَجْتِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْحَجَّ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَمَّا إِذَا فَاتَكِ فَاعْتَمِرِي فِي رَمَضَانَ فَإِنَّهَا كَحَجَّةٍ. وَوَقَعَتْ لَأُمِّ طَلِيقٍ قِصَّةٌ مِثْلُ هَذِهِ أَخْرَجَهَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ السَّكَنِ، وَابْنُ مَنْدَهْ فِي: الصَّحَابَةِ وَالدُّولَابِيُّ فِي: الْكُنَى مِنْ طَرِيقِ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ أَنَّ أَبَا طَلِيقٍ حَدَّثَهُ أَنَّ امْرَأَتَهُ قَالَتْ لَهُ - وَلَهُ جَمَلٌ وَنَاقَةٌ - أَعْطِنِي جَمَلَكَ أَحُجُّ عَلَيْهِ، قَالَ: جَمَلِي حَبِيسٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَتْ: إِنَّهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَنْ أَحُجَّ عَلَيْهِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: صَدَقَتْ أُمُّ طَلِيقٍ. وَفِيهِ: مَا يَعْدِلُ الْحَجَّ؟ قَالَ: عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ.

وَزَعَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ أُمَّ مَعْقِلٍ هِيَ أُمُّ طَلِيقٍ لَهَا كُنْيَتَانِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ أَبَا مَعْقِلٍ مَاتَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَبَا طَلِيقٍ عَاشَ حَتَّى سَمِعَ مِنْهُ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ وَهُوَ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ، فَدَلَّ عَلَى تَغَايُرِ الْمَرْأَتَيْنِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ تَغَايُرُ السِّيَاقَيْنِ أَيْضًا، وَلَا مَعْدِلَ عَنْ تَفْسِيرِ الْمُبْهَمَةِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِأَنَّهَا أُمُّ سِنَانٍ أَوْ أُمُّ سُلَيْمٍ لِمَا فِي الْقِصَّةِ الَّتِي فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنَ التَّغَايُرِ لِلْقِصَّةِ الَّتِي فِي حَدِيثِ غَيْرِهِ، وَلِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا أَنْصَارِيَّةٌ، وَأَمَّا أُمُّ مَعْقِلٍ فَإِنَّهَا أَسَدِيَّةٌ، وَوَقَعَتْ لِأَمِّ الْهَيْثَمِ أَيْضًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (أَنْ تَحُجِّي) فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَالْأَصِيلِيِّ أَنْ تَحُجِّينَ بِزِيَادَةِ النُّونِ وَهِيَ لُغَةٌ.

قَوْلُهُ: (نَاضِحٌ) بِضَادٍ مُعْجَمَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ أَيْ بَعِيرٌ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: النَّاضِحُ الْبَعِيرُ أَوِ الثَّوْرُ أَوِ الْحِمَارُ الَّذِي يُسْتَقَى عَلَيْهِ، لَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُنَا الْبَعِيرُ لِتَصْرِيحِهِ فِي رِوَايَةِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ بِكَوْنِهِ جَمَلًا، وَفِي رِوَايَةِ حَبِيبٍ الْمَذْكُورَةِ وَكَانَ لَنَا نَاضِحَانِ وَهِيَ أَبْيَنُ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ حَبِيبٍ كَانَا لِأَبِي فُلَانٍ زَوْجِهَا.

قَوْلُهُ: (وَابْنُهُ) إِنْ كَانَتْ هِيَ أُمَّ سِنَانٍ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ ابْنِهَا سِنَانًا، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ أُمُّ سُلَيْمٍ فَلَمْ يَكُنْ لَهَا يَوْمئِذٍ ابْنٌ يُمْكِنُ أَنْ يَحُجَّ سِوَى أَنَسٍ، وَعَلَى هَذَا فَنِسْبَتُهُ إِلَى أَبِي طَلْحَةَ بِكَوْنِهِ ابْنَهُ مَجَازًا.

قَوْلُهُ: (نَنْضِحُ عَلَيْهِ) بِكَسْرِ الضَّادِ.

قَوْلُهُ: (فَإِذَا كَانَ رَمَضَانُ) بِالرَّفْعِ وَكَانَ تَامَّةٌ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَإِذَا كَانَ فِي رَمَضَانَ.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ حَجَّةٌ) وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَإِنَّ عُمْرَةً فِيهِ تَعْدِلُ حَجَّةً وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ أَوْ نَحْوًا مِمَّا قَالَ قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الشَّيْءَ يُشْبِهُ الشَّيْءَ وَيُجْعَلُ عَدْلَهُ إِذَا أَشْبَهَهُ فِي بَعْضِ الْمَعَانِي لَا جَمِيعِهَا، لِأَنَّ الْعُمْرَةَ لَا يُقْضَى بِهَا فَرْضُ الْحَجِّ وَلَا النَّذْرُ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ الَّذِي نَدَبَهَا إِلَيْهِ كَانَ تَطَوُّعًا لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ الْعُمْرَةَ لَا تُجْزِئُ عَنْ حَجَّةِ الْفَرِيضَةِ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ الْحَجَّةَ الْمَذْكُورَةَ هِيَ حَجَّةُ الْوَدَاعِ، قَالَ: وَكَانَتْ أَوَّلَ حَجَّةٍ أُقِيمَتْ فِي الْإِسْلَامِ فَرْضًا، لِأَنَّ حَجَّ أَبِي بَكْرٍ كَانَ إِنْذَارًا. قَالَ: فَعَلَى هَذَا يَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْمَرْأَةُ كَانَتْ قَامَتْ بِوَظِيفَةِ الْحَجِّ. قُلْتُ: وَمَا قَالَهُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ؛ إِذْ لَا مَانِعَ أَنْ تَكُونَ حَجَّتْ مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَسَقَطَ عَنْهَا الْفَرْضُ بِذَلِكَ، لَكِنَّهُ بَنَى عَلَى أَنَّ الْحَجَّ إِنَّمَا فُرِضَ فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ حَتَّى يَسْلَمَ مِمَّا يَرِدُ عَلَى مَذْهَبِهِ مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْحَجَّ عَلَى الْفَوْرِ. وَعَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ مِمَّا بَحَثَهُ ابْنُ بَطَّالٍ. فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ أَعْلَمَهَا أَنَّ الْعُمْرَةَ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ الْحَجَّةَ فِي الثَّوَابِ لَا أَنَّهَا تَقُومُ مَقَامَهَا فِي إسْقَاطِ الْفَرْضِ، لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الِاعْتِمَارَ لَا يُجْزِي عَنْ حَجِّ الْفَرْضِ.

وَنَقَلَ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ نَظِيرُ مَا جَاءَ أَنَّ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: حَدِيثُ الْعُمْرَةِ هَذَا صَحِيحٌ، وَهُوَ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةٌ، فَقَدْ أَدْرَكَتِ الْعُمْرَةُ مَنْزِلَةَ الْحَجِّ بِانْضِمَامِ رَمَضَانَ إِلَيْهَا. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فِيهِ أَنَّ ثَوَابَ الْعَمَلِ يَزِيدُ بِزِيَادَةِ شَرَفِ الْوَقْتِ

ص: 604

كَمَا يَزِيدُ بِحُضُورِ الْقَلْبِ وَبِخُلُوصِ الْقَصْدِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ عُمْرَةٌ فَرِيضَةٌ فِي رَمَضَانَ كَحَجَّةِ فَرِيضَةٍ، وَعُمْرَةٌ نَافِلَةٌ فِي رَمَضَانَ كَحَجَّةٍ نَافِلَةٍ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: قَوْلُهُ كَحَجَّةٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى بَابِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِبَرَكَةِ رَمَضَانَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِهَذِهِ الْمَرْأَةِ. قُلْتُ: الثَّالِثُ قَالَ بِهِ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ الْمَذْكُورَةِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: وَلَا نَعْلَمُ هَذَا إِلَّا لِهَذِهِ الْمَرْأَةِ وَحْدَهَا. وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ عَنْ أُمِّ مَعْقِلٍ فِي آخِرِ حَدِيثِهَا قَالَ: فَكَانَتْ تَقُولُ: الْحَجُّ حَجَّةٌ وَالْعُمْرَةُ عُمْرَةٌ، وَقَدْ قَالَ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِي، فَمَا أَدْرِي أَلِي خَاصَّةً تَعْنِي أَوْ لِلنَّاسِ عَامَّةً. انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالسَّبَبُ فِي التَّوَقُّفِ اسْتِشْكَالُ ظَاهِرِهِ، وَقَدْ صَحَّ جَوَابُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(فَصْلٌ) لَمْ يَعْتَمِرِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ ثَبَتَ فَضْلُ الْعُمْرَةِ فِي رَمَضَانَ بِحَدِيثِ الْبَابِ، فَأَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْعُمْرَةَ فِي رَمَضَانَ لِغَيْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَفْضَلُ، وَأَمَّا فِي حَقِّهِ فَمَا صَنَعَهُ هُوَ أَفْضَلُ، لِأَنَّ فِعْلَهُ لِبَيَانِ جَوَازِ مَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَمْنَعُونَهُ، فَأَرَادَ الرَّدَّ عَلَيْهِمْ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَهُوَ لَوْ كَانَ مَكْرُوهًا لِغَيْرِهِ لَكَانَ فِي حَقِّهِ أَفْضَلُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ صَاحِبُ الْهَدْيِ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَشْتَغِلُ فِي رَمَضَانَ مِنَ الْعِبَادَةِ بِمَا هُوَ أَهَمُّ مِنَ الْعُمْرَةِ، وَخَشِيَ مِنَ الْمَشَقَّةِ عَلَى أُمَّتِهِ؛ إِذْ لَوِ اعْتَمَرَ فِي رَمَضَانَ لَبَادَرُوا إِلَى ذَلِكَ مَعَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالصَّوْمِ، وَقَدْ كَانَ يَتْرُكُ الْعَمَلَ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَهُ خَشْيَةَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَى أُمَّتِهِ وَخَوْفًا مِنَ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ.

‌5 - بَاب الْعُمْرَةِ لَيْلَةَ الْحَصْبَةِ وَغَيْرِهَا

1783 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُوَافِينَ لِهِلَالِ ذِي الْحَجَّةِ، فَقَالَ لَنَا: مَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُهِلَّ بِالْحَجِّ فَلْيُهِلَّ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ بِعُمْرَةٍ، فَلَوْلَا أَنِّي أَهْدَيْتُ لَأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ. قَالَتْ: فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ، وَكُنْتُ مِمَّنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، فَأَظَلَّنِي يَوْمُ عَرَفَةَ وَأَنَا حَائِضٌ، فَشَكَوْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ارْفُضِي عُمْرَتَكِ، وَانْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي، وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ. فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الْحَصْبَةِ أَرْسَلَ مَعِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ إِلَى التَّنْعِيمِ، فَأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ مَكَانَ عُمْرَتِي.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْعُمْرَةِ لَيْلَةَ الْحَصْبَةِ وَغَيْرِهَا) الْحَصْبَةُ بِالْمُهْمَلَتَيْنِ وَمُوَحَّدَةٍ وَزْنُ الضَّرْبَةِ، وَالْمُرَادُ بِهَا لَيْلَةُ الْمَبِيتِ بِالْمُحَصَّبِ. وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى التَّحْصِيبِ فِي أَوَاخِرِ أَبْوَابِ الْحَجِّ، وَأَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ، وَفِيهِ: فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الْحَصْبَةِ أَرْسَلَ مَعِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ إِلَى التَّنْعِيمِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِقْهُ هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْحَاجَّ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ إِذَا تَمَّ حَجُّهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَلَيْلَةُ الْحَصْبَةِ هِيَ لَيْلَةُ النَّفْرِ الْأَخِيرِ لِأَنَّهَا آخِرُ أَيَّامِ الرَّمْيِ. وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْعُمْرَةِ أَيَّامَ الْحَجِّ، فَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: سُئِلَ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَعَائِشَةُ عَنِ الْعُمْرَةِ لَيْلَةَ الْحَصْبَةِ، فَقَالَ عُمَرُ: هِيَ خَيْرٌ مِنْ لَا شَيْءَ. وَقَالَ عَلِيٌّ نَحْوَهُ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: الْعُمْرَةُ عَلَى قَدْرِ النَّفَقَةِ انْتَهَى. وَأَشَارَتْ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ الْخُرُوجَ لِقَصْدِ الْعُمْرَةِ مِنَ الْبَلَدِ إِلَى مَكَّةَ أَفْضَلُ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَدْنَى الْحِلِّ، وَسَيَأْتِي تَقْرِيرُ ذَلِكَ بَعْدَ بَابَيْنِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْحَدِيثِ بَعْدَ بَابٍ، وَمُحَمَّدٌ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ وَهُوَ ابْنُ سَلَامٍ.

ص: 605

‌6 - بَاب عُمْرَةِ التَّنْعِيمِ

1784 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ عَمْرَو بْنَ أَوْسٍ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ أَنْ يُرْدِفَ عَائِشَةَ وَيُعْمِرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ. قَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً: سَمِعْتُ عَمْرًا، كَمْ سَمِعْتُهُ مِنْ عَمْرٍو.

[الحديث 1784 - طرقه في: 2985]

1785 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ عَنْ حَبِيبٍ الْمُعَلِّمِ عَنْ عَطَاءٍ حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَهَلَّ وَأَصْحَابُهُ بِالْحَجِّ وَلَيْسَ مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ هَدْيٌ غَيْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَطَلْحَةَ وَكَانَ عَلِيٌّ قَدِمَ مِنْ الْيَمَنِ وَمَعَهُ الْهَدْيُ فَقَالَ: أَهْلَلْتُ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَذِنَ لأَصْحَابِهِ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ ثُمَّ يُقَصِّرُوا وَيَحِلُّوا إِلاَّ مَنْ مَعَهُ الْهَدْيُ فَقَالُوا نَنْطَلِقُ إِلَى مِنًى وَذَكَرُ أَحَدِنَا يَقْطُرُ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ وَلَوْلَا أَنَّ مَعِي الْهَدْيَ لَاحْلَلْتُ" وَأَنَّ عَائِشَةَ حَاضَتْ فَنَسَكَتْ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا غَيْرَ أَنَّهَا لَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ قَالَ فَلَمَّا طَهُرَتْ وَطَافَتْ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَنْطَلِقُونَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ وَأَنْطَلِقُ بِالْحَجِّ فَأَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا إِلَى التَّنْعِيمِ فَاعْتَمَرَتْ بَعْدَ الْحَجِّ فِي ذِي الْحَجَّةِ وَأَنَّ سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ لَقِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِالْعَقَبَةِ وَهُوَ يَرْمِيهَا فَقَالَ أَلَكُمْ هَذِهِ خَاصَّةً يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لَا بَلْ لِلأَبَدِ"

قَوْلُهُ: (بَابُ عُمْرَةِ التَّنْعِيمِ) يَعْنِي هَلْ تَتَعَيَّنُ لِمَنْ كَانَ بِمَكَّةَ أَمْ لَا؟ وَإِذَا لَمْ تَتَعَيَّنْ هَلْ لَهَا فَضْلٌ عَلَى الِاعْتِمَارِ مِنْ غَيْرِهَا مِنْ جِهَاتِ الْحِلِّ أَوْ لَا؟ قَالَ صَاحِبُ الْهَدْيِ: لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اعْتَمَرَ مُدَّةَ إِقَامَتِهِ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَلَا اعْتَمَرَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ إِلَّا دَاخِلًا إِلَى مَكَّةَ، وَلَمْ يَعْتَمِرْ قَطُّ خَارِجًا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْحِلِّ ثُمَّ يَدْخُلُ مَكَّةَ بِعُمْرَةٍ كَمَا يَفْعَلُ النَّاسُ الْيَوْمَ، وَلَا ثَبَتَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ إِلَّا عَائِشَةَ وَحْدَهَا. انْتَهَى. وَبَعْدَ أَنْ فَعَلَتْهُ عَائِشَةُ بِأَمْرِهِ دَلَّ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ. وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي جَوَازِ الِاعْتِمَارِ فِي السَّنَةِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، فَكَرِهَهُ مَالِكٌ، وَخَالَفَهُ مُطَرِّفٌ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَتْبَاعِهِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَاسْتَثْنَى أَبُو حَنِيفَةَ يَوْمَ عَرَفَةَ وَيَوْمَ النَّحْرِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ، وَوَافَقَهُ أَبُو يُوسُفَ إِلَّا فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيُّ الْبَائِتَ بِمِنًى لِرَمْيِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَفِيهِ وَجْهٌ اخْتَارَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فَقَالَ بِالْجَوَازِ مُطْلَقًا كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا هَلْ يَتَعَيَّنُ التَّنْعِيمُ لِمَنِ اعْتَمَرَ مِنْ مَكَّةَ؟ فَرَوَى الْفَاكِهِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لِأَهْلِ مَكَّةَ التَّنْعِيمَ وَمِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ قَالَ: مَنْ أَرَادَ الْعُمْرَةَ مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَوْ غَيْرِهَا فَلْيَخْرُجْ إِلَى التَّنْعِيمِ أَوْ إِلَى الْجِعْرَانَةِ فَلْيُحْرِمْ مِنْهَا، وَأَفْضَلُ ذَلِكَ أَنْ يَأْتِيَ وَقْتًا، أَيْ مِيقَاتًا مِنْ مَوَاقِيتِ الْحَجِّ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ لَا مِيقَاتَ لِلْعُمْرَةِ لِمَنْ كَانَ بِمَكَّةَ إِلَّا التَّنْعِيمُ، وَلَا يَنْبَغِي مُجَاوَزَتُهُ كَمَا لَا يَنْبَغِي مُجَاوَزَةُ الْمَوَاقِيتِ الَّتِي لِلْحَجِّ. وَخَالَفَهُمْ آخَرُونَ فَقَالُوا: مِيقَاتُ الْعُمْرَةِ الْحِلُّ وَإِنَّمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَائِشَةَ

ص: 606

بِالْإِحْرَامِ مِنَ التَّنْعِيمِ لِأَنَّهُ كَانَ أَقْرَبَ الْحِلِّ مِنْ مَكَّةَ. ثُمَّ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ فِي حَدِيثِهَا قَالَتْ: وَكَانَ أَدْنَانَا مِنَ الْحَرَمِ التَّنْعِيمُ فَاعْتَمَرْتُ مِنْهُ. قَالَ: فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ مِيقَاتَ مَكَّةَ لِلْعُمْرَةِ الْحِلُّ، وَأَنَّ التَّنْعِيمَ وَغَيْرَهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَمْرٍو) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ.

قَوْلُهُ: (سَمِعَ عَمْرُو بْنُ أَوْسٍ) يَعْنِي أَنَّهُ سَمِعَ، وَلَفْظُ أَنَّهُ مِمَّا يُحْذَفُ مِنَ الْإِسْنَادِ خَطَأٌ فِي الْغَالِبِ كَمَا تُحْذَفُ إِحْدَى لَفْظَتَيْ قَالَ. وَقَدْ بَيَّنَ سُفْيَانُ سَمَاعَهُ لَهُ مِنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ فِي آخِرِهِ. وَوَقَعَ عِنْدَ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ سُفْيَانُ: هَذَا مِمَّا يُعْجِبُ شُعْبَةَ، يَعْنِي التَّصْرِيحَ بِالْإِخْبَارِ فِي جَمِيعِ الْإِسْنَادِ.

قَوْلُهُ: (وَيُعْمِرُهَا مِنَ التَّنْعِيمِ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ أَمَرَهُ أَنْ يُرْدِفَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِعْمَارَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ كَانَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَأَصْرَحُ مِنْهُ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ حَفْصَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبَى بَكْرٍ عَنْ أَبِيهَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَرْدِفْ أُخْتَكَ عَائِشَةَ فَأَعْمِرْهَا مِنَ التَّنْعِيمِ. الْحَدِيثَ، وَنَحْوُهُ رِوَايَةُ مَالِكٍ السَّابِقَةُ فِي أَوَائِلِ الْحَجِّ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: أَرْسَلَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِلَى التَّنْعِيمِ. وَرِوَايَةُ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ السَّابِقَةُ فِي أَوَاخِرِ الْحَجِّ قَالَ: فَاذْهَبِي مَعَ أَخِيكِ إِلَى التَّنْعِيمِ وَسَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْأَسْوَدِ، وَالْقَاسِمِ جَمِيعًا عَنْهَا بِلَفْظِ: فَاخْرُجِي إِلَى التَّنْعِيمِ، وَهُوَ صَرِيحٌ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَنْ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكُلُّ ذَلِكَ يُفَسِّرُ قَوْلَهُ فِي رِوَايَةِ الْقَاسِمِ عَنْهَا السَّابِقَةِ فِي أَوَائِلِ الْحَجِّ حَيْثُ أَوْرَدَهُ بِلَفْظِ: اخْرُجْ بِأُخْتِكَ مِنَ الْحَرَمِ. وَأَمَّا مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْهَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ: ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: احْمِلْهَا خَلْفَكَ حَتَّى تَخْرُجَ مِنَ الْحَرَمِ، فَوَاللَّهِ مَا قَالَ فَتُخْرِجُهَا إِلَى الْجِعْرَانَةِ وَلَا إِلَى التَّنْعِيمِ.

فَهِيَ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ لِضَعْفِ أَبِي عَامِرٍ الْخَرَّازِ الرَّاوِي لَهُ عَنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فَوَاللَّهِ إِلَخْ مِنْ كَلَامِ مَنْ دُونَ عَائِشَةَ قَالَهُ مُتَمَسِّكًا بِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ فَأَخْرَجَهَا مِنَ الْحَرَمِ لَكِنَّ الرِّوَايَاتِ الْمُقَيَّدَةَ بِالتَّنْعِيمِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْمُطْلَقَةِ فَهُوَ أَوْلَى وَلَا سِيَّمَا مَعَ صِحَّةِ أَسَانِيدِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(فَائِدَةٌ): زَادَ أَبُو دَاوُدَ فِي رِوَايَتِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ إِلَى التَّنْعِيمِ: فَإِذَا هَبَطْتَ بِهَا مِنَ الْأَكَمَةِ فَلْتُحْرِمْ فَإِنَّهَا عُمْرَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ وَزَادَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ لَهُ: وَذَلِكَ لَيْلَةَ الصَّدَرِ وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالدَّالِ أَيِ الرُّجُوعِ مِنْ مِنًى، وَفِي قَوْلِهِ: فَإِذَا هَبَطْتَ بِهَا إِشَارَةٌ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أَحْرَمَتْ مِنْهُ عَائِشَةُ. وَالتَّنْعِيمُ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَسُكُونِ النُّونِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ مَكَانٌ مَعْرُوفٌ خَارِجَ مَكَّةَ، وَهُوَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكَّةَ إِلَى جِهَةِ الْمَدِينَةِ كَمَا نَقَلَهُ الْفَاكِهِيُّ، وَقَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: التَّنْعِيمُ أَبْعَدُ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ إِلَى مَكَّةَ بِقَلِيلٍ، وَلَيْسَ بِطَرَفِ الْحِلِّ بَلْ بَيْنَهُمَا نَحْوٌ مِنْ مِيلٍ، وَمَنْ أَطْلَقَ عَلَيْهِ أَدْنَى الْحِلِّ فَقَدْ تَجَوَّزَ. قُلْتُ: أَوْ أَرَادَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَقِيَّةِ الْجِهَاتِ. وَرَوَى الْفَاكِهِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَ التَّنْعِيمَ لِأَنَّ الْجَبَلَ الَّذِي عَنْ يَمِينِ الدَّاخِلِ يُقَالُ لَهُ نَاعِمٌ، وَالَّذِي عَنِ الْيَسَارِ يُقَالُ لَهُ مُنَعَّمٌ، وَالْوَادِي نَعْمَانُ. وَرَوَى الْأَزْرَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: رَأَيْتُ عَطَاءً يَصِفُ الْمَوْضِعَ الَّذِي اعْتَمَرَتْ مِنْهُ عَائِشَةُ، قَالَ: فَأَشَارَ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي ابْتَنَى فِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ شَافِعٍ الْمَسْجِدَ الَّذِي وَرَاءَ الْأَكَمَةِ، وَهُوَ الْمَسْجِدُ الْخَرِبُ. وَنَقَلَ الْفَاكِهِيُّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ ثَمَّ مَسْجِدَيْنِ يَزْعُمُ أَهْلُ مَكَّةَ أَنَّ الْخَرِبَ الْأَدْنَى مِنَ الْحَرَمِ هُوَ الَّذِي اعْتَمَرَتْ مِنْهُ عَائِشَةُ، وَقِيلَ هُوَ الْمَسْجِدُ الْأَبْعَدُ عَلَى الْأَكَمَةِ الْحَمْرَاءِ، وَرَجَّحَهُ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ.

وَقَالَ الْفَاكِهِيُّ: لَا أَعْلَمُ إِلَّا أَنِّي سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي عُمَرَ يَذْكُرُ عَنْ أَشْيَاخِهِ أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ الْخَلْوَةِ بِالْمَحَارِمِ سَفَرًا وَحَضَرًا، وَإِرْدَافُ الْمُحْرِمِ مَحْرَمَهُ مَعَهُ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَعَيُّنِ الْخُرُوجِ إِلَى الْحِلِّ لِمَنْ أَرَادَ الْعُمْرَةَ مِمَّنْ كَانَ بِمَكَّةَ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ. وَالثَّانِي تَصِحُّ الْعُمْرَةُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِ الْمِيقَاتِ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ مَا يَدْفَعُ ذَلِكَ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ

ص: 607

أَفْضَلَ جِهَاتِ الْحِلِّ التَّنْعِيمُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ إِحْرَامَ عَائِشَةَ مِنَ التَّنْعِيمِ إِنَّمَا وَقَعَ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ جِهَةِ الْحِلِّ إِلَى الْحَرَمِ، لَا أَنَّهُ الْأَفْضَلُ، وَسَيَأْتِي إِيضَاحُ هَذَا فِي: بَابِ أَجْرِ الْعُمْرَةِ عَلَى قَدْرِ التَّعَبِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَطَاءٍ) هُوَ ابْنُ أَبِي رَبَاحٍ.

قَوْلُهُ: (وَلَيْسَ مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ هَدْيٌ غَيْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَطَلْحَةَ) هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ الْهَدْيَ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ وَذَوِي الْيَسَارِ. وَسَيَأْتِي بَعْدَ بَابَيْنِ لِلْمُصَنِّفِ مِنْ طَرِيقِ أَفْلَحَ، عَنِ الْقَاسِمِ بِلَفْظِ: وَرِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ذَوِي قُوَّةٍ. وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا ذَكَرَ مَنِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ الْقُرِّيِّ وَهُوَ بِضَمِّ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: وَكَانَ طَلْحَةُ مِمَّنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَلَمْ يَحِلَّ وَهَذَا شَاهِدٌ لِحَدِيثِ جَابِرٍ فِي ذِكْرِ طَلْحَةَ فِي ذَلِكَ، وَشَاهِدٌ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي أَنَّ طَلْحَةَ لَمْ يَنْفَرِدْ بِذَلِكَ، وَدَاخِلٌ فِي قَوْلِهَا وَذَوِي الْيَسَارِ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ الزُّبَيْرَ كَانَ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ.

قَوْلُهُ: (وَكَانَ عَلِيٌّ قَدِمَ مِنَ الْيَمَنِ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ سِعَايَتِهِ وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي.

قَوْلُهُ: (بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ، وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الشَّرِكَةِ: فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يَقُولُ: لَبَّيْكَ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ الْآخَرُ: يَقُولُ: لَبَّيْكَ بِحَجَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَى إِحْرَامِهِ وَأَشْرَكَهُ فِي الْهَدْيِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي: بَابِ مَنْ أَهَلَّ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِإِهْلَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي أَوَائِلِ الْحَجِّ.

قَوْلُهُ: (وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَذِنَ لِأَصْحَابِهِ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً) زَادَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ فِيهِ وَأَصِيبُوا النِّسَاءَ قَالَ عَطَاءٌ: وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَيْهِمْ وَلَكِنْ أَحَلَّهُنَّ لَهُمْ، يَعْنِي إِتْيَانَ النِّسَاءِ، لِأَنَّ لَازِمِ من الْإِحْلَالِ إِبَاحَةَ إِتْيَانِ النِّسَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ ذَلِكَ فِي آخِرِ بَابِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ.

قَوْلُهُ: (وَأَنَّ عَائِشَةَ حَاضَتْ) فِي رِوَايَةِ عَائِشَةَ نَفْسِهَا كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ حَيْضَهَا كَانَ بِسَرِفَ قَبْلَ دُخُولِهِمْ مَكَّةَ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّ دُخُولَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهَا وَشَكْوَاهَا ذَلِكَ لَهُ كَانَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ طُهْرَهَا كَانَ بِعَرَفَةَ، وَفِي رِوَايَةِ الْقَاسِمِ عَنْهَا: وَطَهُرَتْ صَبِيحَةَ لَيْلَةِ عَرَفَةَ حَتَّى قَدِمْنَا مِنًى، وَلَهُ مِنْ طَرِيقِهِ: فَخَرَجْتُ فِي حَجَّتِي حَتَّى نَزَلْنَا مِنًى فَتَطَهَّرْتُ، ثُمَّ طُفْنَا بِالْبَيْتِ الْحَدِيثَ. وَاتَّفَقَتِ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا حَتَّى إِنَّهَا طَافَتْ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ. وَاقْتَصَرَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ عَلَى النَّقْلِ عَنْ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ أَنَّ عَائِشَةَ حَاضَتْ يَوْمَ السَّبْتِ ثَالِثِ ذِي الْحِجَّةِ، وَطَهُرَتْ يَوْمَ السَّبْتِ عَاشِرِهِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَإِنَّمَا أَخَذَهُ ابْنُ حَزْمٍ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الَّتِي فِي مُسْلِمٍ. وَيُجْمَعُ بَيْنَ قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَقَوْلِ الْقَاسِمِ أَنَّهَا رَأَتِ الطُّهْرَ وَهِيَ بِعَرَفَةَ وَلَمْ تَتَهَيَّأْ لِلِاغْتِسَالِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ مِنًى، أَوِ انْقَطَعَ الدَّمُ عَنْهَا بِعَرَفَةَ وَمَا رَأَتِ الطُّهْرَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ مِنًى، وَهَذَا أَوْلَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَأَنْطَلِقُ بِالْحَجِّ) تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ قَالَ إِنَّ عَائِشَةَ لَمَّا حَاضَتْ تَرَكَتْ عُمْرَتَهَا وَاقْتَصَرَتْ عَلَى الْحَجِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ فِي: بَابِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ.

قَوْلُهُ: (وَأَنَّ سُرَاقَةَ لَقِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِالْعَقَبَةِ وَهُوَ يَرْمِيهَا) يَعْنِي وَهُوَ يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، وَفِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ حَبِيبٍ الْمُعَلِّمِ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي كِتَابِ التَّمَنِّي وَهُوَ يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ هَذَا فِيهِ بَيَانُ الْمَكَانِ الَّذِي سَأَلَ فِيهِ سُرَاقَةُ عَنْ ذَلِكَ، وَرِوَايَةُ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ كَذَلِكَ، وَسِيَاقُ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ يَقْتَضِي أَنَّهُ قَالَ لَهُ ذَلِكَ لَمَّا أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَجْعَلُوا حَجَّهُمْ عُمْرَةً، وَبِذَلِكَ تَمَسَّكَ مَنْ قَالَ إِنَّ سُؤَالَهُ كَانَ عَنْ فَسْخِ الْحَجِّ عَنِ الْعُمْرَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ وَقَعَ عَنِ الْأَمْرَيْنِ لِتَعَدُّدِ الْمَكَانَيْنِ.

قَوْلُهُ: (أَلَكُمْ هَذِهِ خَاصَّةً يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا، بَلْ لِلْأَبَدِ) فِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ أَلَنَا هَذِهِ خَاصَّةً وَفِي رِوَايَةِ

ص: 608

جَعْفَرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَقَامَ سُرَاقَةُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلِعَامِنَا هَذِهِ أَمْ لِلْأَبَدِ؟ فَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ وَاحِدَةً فِي الْأُخْرَى وَقَالَ: دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ مَرَّتَيْنِ، لَا بَلْ لِلْأَبَدِ أَبَدًا. قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْعُمْرَةَ يَجُوزُ فِعْلُهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ إِبْطَالًا لِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ جَوَازُ الْقِرَانِ، أَيْ دَخَلَتْ أَفْعَالُ الْعُمْرَةِ فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ سَقَطَ وُجُوبُ الْعُمْرَةِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي النَّسْخَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ جَوَازُ فَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ، قَالَ: وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ سِيَاقَ السُّؤَالِ يُقَوِّي هَذَا التَّأْوِيلَ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ عَنِ الْفَسْخِ وَالْجَوَابَ وَقَعَ عَمَّا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَتَنَاوَلَ التَّأْوِيلَاتِ الْمَذْكُورَةَ إِلَّا الثَّالِثَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌7 - بَاب الِاعْتِمَارِ بَعْدَ الْحَجِّ بِغَيْرِ هَدْيٍ

1786 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، قَالَ: أَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ رضي الله عنها قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُوَافِينَ لِهِلَالِ ذِي الْحَجَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِحَجَّةٍ فَلْيُهِلَّ، وَلَوْلَا أَنِّي أَهْدَيْتُ لَأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ. فَمِنْهُمْ مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ، وَكُنْتُ مِمَّنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، فَحِضْتُ قَبْلَ أَنْ أَدْخُلَ مَكَّةَ، فَأَدْرَكَنِي يَوْمُ عَرَفَةَ وَأَنَا حَائِضٌ، فَشَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: دَعِي عُمْرَتَكِ، وَانْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ، فَفَعَلْتُ. فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْحَصْبَةِ أَرْسَلَ مَعِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ إِلَى التَّنْعِيمِ، فَأَرْدَفَهَا، فَأَهَلَّتْ بِعُمْرَةٍ مَكَانَ عُمْرَتِهَا، فَقَضَى اللَّهُ حَجَّهَا وَعُمْرَتَهَا، وَلَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ هَدْيٌ وَلَا صَدَقَةٌ وَلَا صَوْمٌ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الِاعْتِمَارِ بَعْدَ الْحَجِّ بِغَيْرِ هَدْيٍ) كَأَنَّهُ يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ اللَّازِمَ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ أنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ بِكَمَالِهِ كَمَا هُوَ مَنْقُولٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْ مَالِكٍ وَعَنِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا، وَمَنْ أَطْلَقَ أَنَّ التَّمَتُّعَ هُوَ الْإِحْرَامُ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ كَمَا نَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِيهِ الِاتِّفَاقُ، فَقَالَ: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ التَّمَتُّعَ الْمُرَادَ بِقَوْلِ الله تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} هُوَ الِاعْتِمَارُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ قَبْلَ الْحَجِّ أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فِي ذِي الْحِجَّةِ بَعْدَ الْحَجِّ فَعَلَيْهِ الْهَدْيُ، وَحَدِيثُ الْبَابِ دَالٌ عَلَى خِلَافِهِ، لَكِنَّ الْقَائِلَ بِأَنَّ ذَا الْحِجَّةِ كُلَّهُ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ يَقُولُ: إِنَّ التَّمَتُّعَ هُوَ الْإِحْرَامُ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ قَبْلَ الْحَجِّ فَلَا يَلْزَمُهُمْ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (خَرَجْنَا مُوَافِينَ لِهِلَالِ ذِي الْحِجَّةِ) أَيْ قُرْبَ طُلُوعِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ وَالْخَمْسُ قَرِيبَةٌ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ، فَوَافَاهُمُ الْهِلَالُ وَهُمْ فِي الطَّرِيقِ لِأَنَّهُمْ دَخَلُوا مَكَّةَ فِي الرَّابِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ.

قَوْلُهُ: (لَأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ) فِي رِوَايَةِ السَّرَخْسِيِّ لَأَحْلَلْتُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ مِنَ الْحَجِّ.

قَوْلُهُ: (أَرْسَلَ مَعِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ إِلَى التَّنْعِيمِ، فَأَرْدَفَهَا) فِيهِ الْتِفَاتٌ؛ لِأَنَّ السِّيَاقَ يَقْتَضِي أَنْ يَقُولَ فَأَرْدَفَنِي.

قَوْلُهُ: (مَكَانَ عُمْرَتِهَا) تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ، وَأَنَّ الْمُرَادَ مَكَانُ عُمْرَتِهَا الَّتِي أَرَادَتْ أَنْ تَكُونَ مُنْفَرِدَةً عَنِ الْحَجِّ، قَالَ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ: الصَّوَابُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا أَحْرَمَتْ بِالْحَجِّ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ رِوَايَةِ الْقَاسِمِ وَغَيْرِهِ عَنْهَا، ثُمَّ فَسَخَتْهُ إِلَى الْعُمْرَةِ لَمَّا فَسَخَ الصَّحَابَةُ، وَعَلَى هَذَا يَتَنَزَّلُ قَوْلُ عُرْوَةَ عَنْهَا أَحْرَمَتْ بِعُمْرَةٍ فَلَمَّا حَاضَتْ وَتَعَذَّرَ عَلَيْهَا التَّحَلُّلُ مِنَ الْعُمْرَةِ لِأَجْلِ الْحَيْضِ، وَجَاءَ وَقْتُ الْخُرُوجِ إِلَى الْحَجِّ أَدْخَلَتِ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ فَصَارَتْ قَارِنَةً، وَاسْتَمَرَّتْ إِلَى أَنْ تَحَلَّلَتْ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ قَوْلُهُ لَهَا فِي رِوَايَةِ طَاوُسٍ عَنْهَا عِنْدَ مُسْلِمٍ: طَوَافُكِ

ص: 609

يَسَعُكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ لَهَا هَذِهِ مَكَانُ عُمْرَتِكِ فَمَعْنَاهُ الْعُمْرَةُ الْمُنْفَرِدَةُ الَّتِي حَصَلَ لِغَيْرِهَا التَّحَلُّلُ مِنْهَا بِمَكَّةَ، ثُمَّ أَنْشَئوا الْحَجَّ مُنفرَدًا، فَعَلَى هَذَا فَقَدْ حَصَلَ لِعَائِشَةَ عُمْرَتَانِ. وَكَذَا قَوْلُهَا: يَرْجِعُ النَّاسُ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ وَأَرْجِعُ بِحَجٍّ.

أَيْ يَرْجِعُونَ بِحَجٍّ مُنْفَرِدٍ وَعُمْرَةٍ مُنْفَرِدَةٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَقَضَى اللَّهُ حَجَّهَا وَعُمْرَتَهَا وَلَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ هَدْيٌ وَلَا صَدَقَةٌ وَلَا صَوْمٌ فَظَاهِرُهُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ نُمَيْرٍ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ وَغَيْرُهُ، لَكِنْ قَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ فِي الْحَيْضِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ إِلَخْ فَقَالَ فِي آخِرِهِ: قَالَ هِشَامٌ: وَلَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَخْ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ وَمَنْ وَافَقَهُ مُدْرَجٌ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ وُهَيْبٍ، وَالْحَمَّادَيْنِ، عَنْ هِشَامٍ، وَوَقَعَ فِي الْحَدِيثِ مَوْضِعٌ آخَرُ مُدْرَجٌ وَهُوَ قَوْلُهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَقَضَى اللَّهُ حَجَّهَا وَعُمْرَتَهَا فَقَدْ بَيَّنَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ هِشَامٍ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ عُرْوَةَ، وَبَيَّنَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنْ وَكِيعٍ بَيَانًا شَافِيًا فَإِنَّهُ أَخْرَجَهُ عَقِبَ رِوَايَةِ عَبْدَةَ، عَنْ هِشَامٍ وَقَالَ فِيهِ فَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِهِ وَقَالَ فِي آخِرِهِ قَالَ عُرْوَةُ فَقَضَى اللَّهُ حَجَّهَا وَعُمْرَتَهَا، قَالَ هِشَامٌ: وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ هَدْيٌ وَلَا صِيَامٌ وَلَا صَدَقَةٌ وَسَاقَهُ الْجَوْزَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِتَمَامِهِ بِغَيْرِ حَوَالَةَ، وَرَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ هِشَامٍ فَلَمْ يَذْكُرِ الزِّيَادَةَ أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، وَأَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ بِدُونِ الزِّيَادَةِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: قَوْلُهُ: فَقَضَى اللَّهُ حَجَّهَا وَعُمْرَتَهَا إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ لَيْسَ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ،

وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ حَدَّثَ بِهِ هَكَذَا فِي الْعِرَاقِ فَوَهِمَ فِيهِ، فَظَهَرَ بِذَلِكَ أَنْ لَا دَلِيلَ فِيهِ لِمَنْ قَالَ إِنَّ عَائِشَةَ لَمْ تَكُنْ قَارِنَةً حَيْثُ قَالَ: لَوْ كَانَتْ قَارِنَةً لَوَجَبَ عَلَيْهَا الْهَدْيُ لِلْقِرَانِ، وَحُمِلَ قَوْلُهُ لَهَا ارْفُضِي عُمْرَتَكِ عَلَى ظَاهِرِهِ، لَكِنَّ طَرِيقَ الْجَمْعِ بَيْنَ مُخْتَلِفِ الْأَحَادِيثِ تَقْتَضِي مَا قَرَّرْنَاهُ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ضَحَّى عَنْ نِسَائِهِ بِالْبَقَرِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَهْدَى عَنْهَا. فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَهْدَى عَنْهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهَا بِذَلِكَ وَلَا أَعْلَمَهَا بِهِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَشْكَلَ ظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ هَدْيٌ عَلَى جَمَاعَةٍ، حَتَّى قَالَ عِيَاضٌ: لَمْ تَكُنْ عَائِشَةُ قَارِنَةً وَلَا مُتَمَتِّعَةً وَإِنَّمَا أَحْرَمَتْ بِالْحَجِّ ثُمَّ نَوَتْ فَسْخَهُ إِلَى عُمْرَةٍ فَمَنَعَهَا مِنْ ذَلِكَ حَيْضُهَا فَرَجَعَتْ إِلَى الْحَجِّ فَأَكْمَلَتْهُ ثُمَّ أَحْرَمَتْ عُمْرَةً مُبْتَدَأَةً فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا هَدْيٌ، قَالَ: وَكَأَنَّ عِيَاضًا لَمْ يَسْمَعْ قَوْلَهَا: كُنْتُ مِمَّنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ وَلَا قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم لَهَا: طَوَافُكِ يَسَعُكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ. وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُدْرَجٌ مِنْ قَوْلِ هِشَامٍ كَأَنَّهُ نَفَى ذَلِكَ بِحَسَبِ عِلْمِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ نَفْيُهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ هَدْيٌ أَيْ لَمْ تَتَكَلَّفْ لَهُ بَلْ قَامَ بِهِ عَنْهَا. انْتَهَى.

وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: لَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ هَدْيٌ أَيْ فِي تَرْكِهَا لِعَمَلِ الْعُمْرَةِ الْأُولَى وَإِدْرَاجِهَا لَهَا فِي الْحَجِّ، وَلَا فِي عُمْرَتِهَا الَّتِي اعْتَمَرَتْهَا مِنَ التَّنْعِيمِ أَيْضًا، وَهَذَا تَأْوِيلٌ حَسَنٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌8 - بَاب أَجْرِ الْعُمْرَةِ عَلَى قَدْرِ النَّصَبِ

1787 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ. وَعَنْ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ الْأَسْوَدِ قَالَا: قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَصْدُرُ النَّاسُ بِنُسُكَيْنِ وَأَصْدُرُ بِنُسُكٍ؟ فَقِيلَ لَهَا: انْتَظِرِي، فَإِذَا طَهُرْتِ فَاخْرُجِي إِلَى التَّنْعِيمِ فَأَهِلِّي، ثُمَّ ائْتِينَا بِمَكَانِ كَذَا، وَلَكِنَّهَا عَلَى قَدْرِ نَفَقَتِكِ، أَوْ نَصَبِكِ.

ص: 610

قَوْلُهُ: (بَابُ أَجْرِ الْعُمْرَةِ عَلَى قَدْرِ النَّصَبِ) بِفَتْحِ النُّونِ وَالْمُهْمَلَةِ أَيِ التَّعَبِ.

قَوْلُهُ: (وَعَنِ ابْنِ عَوْنٍ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ بَيَّنَهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ بِالْإِسْنَادَيْنِ وَقَالَ فِيهِ: يُحَدِّثَانِ ذَلِكَ عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَمْ يُسَمِّهَا، قَالَ فِيهِ: لَا أَعْرِفُ حَدِيثَ ذَا مِنْ حَدِيثِ ذَا، وَظَهَرَ بِحَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ أَنَّهَا عَائِشَةُ وَأَنَّهُمَا رَوَيَا ذَلِكَ عَنْهَا بِخِلَافِ سِيَاقِ يَزِيدَ.

قَوْلُهُ: (يَصْدُرُ النَّاسُ) أَيْ يَرْجِعُونَ.

قَوْلُهُ: (بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا)

(1)

فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بِحَبْلِ كَذَا وَضَبْطُهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ بِالْجِيمِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، لَكِنْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ حُسَيْنِ بْنِ حَسَنٍ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ وَضَبَطَهُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ يَعْنِي وَإِسْكَانَ الْمُوَحَّدَةِ، وَالْمَكَانُ الْمُبْهَمُ هُنَا هُوَ الْأَبْطَحُ كَمَا تَبَيَّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الطَّرِيقِ.

قَوْلُهُ: (عَلَى قَدْرِ نَفَقَتِكِ أَوْ نَصَبِكِ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ أَوْ إِمَّا لِلتَّنْوِيعِ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِمَّا شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَالْمَعْنَى أَنَّ الثَّوَابَ فِي الْعِبَادَةِ يَكْثُرُ بِكَثْرَةِ النَّصَبِ أَوِ النَّفَقَةِ، وَالْمُرَادُ النَّصَبُ الَّذِي لَا يَذُمُّهُ الشَّرْعُ وَكَذَا النَّفَقَةُ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ. انْتَهَى. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ: عَلَى قَدْرِ نَصَبِكِ أَوْ عَلَى قَدْرِ تَعَبِكِ. وَهَذَا يُؤَيِّدُ أَنَّهُ مِنْ شَكِّ الرَّاوِي، وَفِي رِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقِ حُسَيْنِ بْنِ حَسَنٍ: عَلَى قَدْرِ نَفَقَتِكِ أَوْ نَصَبِكِ. أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ بِلَفْظِ: أنَّ لَكِ مِنَ الْأَجْرِ عَلَى قَدْرِ نَصَبِكِ وَنَفَقَتِكِ. بِوَاوِ الْعَطْفِ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ. وَقَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُلَيَّةَ لَا أَعْرِفُ حَدِيثَ ذَا مِنْ حَدِيثِ ذَا قَدْ أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السِّيَاقَ الَّذِي هُنَا لِلْقَاسِمِ، فَإِنَّهُمَا أَخْرَجَا مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ وَهُوَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا فِي عُمْرَتِهَا إِنَّمَا أَجْرُكِ فِي عُمْرَتِكِ عَلَى قَدْرِ نَفَقَتِكِ.

وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الِاعْتِمَارَ لِمَنْ كَانَ بِمَكَّةَ مِنْ جِهَةِ الْحِلِّ الْقَرِيبَةِ أَقَلَّ أَجْرًا مِنَ الِاعْتِمَارِ مِنْ جِهَةِ الْحِلِّ الْبَعِيدَةِ وَهُوَ ظَاهِرُ هَذَا الْحَدِ ثِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْإِمْلَاءِ: أَفْضَلُ بِقَاعِ الْحِلِّ لِلِاعْتِمَارِ الْجِعْرَانَةُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَحْرَمَ مِنْهَا، ثُمَّ التَّنْعِيمُ لِأَنَّهُ أَذِنَ لِعَائِشَةَ مِنْهَا، قَالَ: وَإِذَا تَنَحَّى عَنْ هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ فَأَيْنَ أَبْعَدَ حَتَّى يَكُونَ أَكْثَرَ لِسَفَرِهِ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ. وَحَكَى الْمُوَفَّقُ فِي الْمُغْنِي عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْمَكِّيَّ كُلَّمَا تَبَاعَدَ فِي الْعُمْرَةِ كَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِهِ. وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: أَفْضَلُ بِقَاعِ الْحِلِّ لِلِاعْتِمَارِ التَّنْعِيمُ، وَوَافَقَهُمْ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَوَجْهُهُ مَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْحِلِّ لِيُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ غَيْرَ عَائِشَةَ. وَأَمَّا اعْتِمَارُهُ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْجِعْرَانَةِ، فَكَانَ حِينَ رَجَعَ مِنَ الطَّائِفِ مُجْتَازًا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَعَيُّنُ التَّنْعِيمِ لِلْفَضْلِ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْخَبَرُ أَنَّ الْفَضْلَ فِي زِيَادَةِ التَّعَبِ وَالنَّفَقَةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّنْعِيمُ أَفْضَلَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى تُسَاوِيهِ إِلَى الْحِلِّ لَا مِنْ جِهَةٍ أَبْعَدَ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الثَّوَابَ وَالْفَضْلَ فِي الْعِبَادَةِ يَكْثُرُ بِكَثْرَةِ النَّصَبِ وَالنَّفَقَةِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ، لَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ بِمُطَّرِدٍ، فَقَدْ يَكُونُ بَعْضُ الْعِبَادَةِ أَخَفَّ مِنْ بَعْضٍ وَهُوَ أَكْثَرُ فَضْلًا وَثَوَابًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الزَّمَانِ كَقِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ بِالنِّسْبَةِ لِقِيَامِ لَيَالٍ مِنْ رَمَضَانَ غَيْرِهَا، وَبِالنِّسْبَةِ لِلْمَكَانِ كَصَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِالنِّسْبَةِ لِصَلَاةِ رَكَعَاتٍ فِي غَيْرِهِ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى شَرَفِ الْعِبَادَةِ الْمَالِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ كَصَلَاةِ الْفَرِيضَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَكْثَرِ مِنْ عَدَدِ رَكَعَاتِهَا أَوْ أَطْوَلِ مِنْ قِرَاءَتِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ صَلَاةِ النَّافِلَةِ، وَكَدِرْهَمٍ مِنَ الزَّكَاةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَكْثَرِ مِنْهُ مِنَ التَّطَوُّعِ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي الْقَوَاعِدِ قَالَ: وَقَدْ كَانَتِ الصَّلَاةُ قُرَّةَ عَيْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ شَاقَّةٌ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَيْسَتْ صَلَاةُ غَيْرِهِ مَعَ مَشَقَّتِهَا مُسَاوِيَةً لِصَلَاتِهِ مُطْلَقًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(1)

الذي في المتن "بمكان كذا" من غير تكرار

ص: 611

‌9 - بَاب الْمُعْتَمِرِ إِذَا طَافَ طَوَافَ الْعُمْرَةِ ثُمَّ خَرَجَ هَلْ يُجْزِئُهُ مِنْ طَوَافِ الْوَدَاعِ؟

1788 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَحُرُمِ الْحَجِّ، فَنَزَلْنَا بسَرِفَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ: مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ فَأَحَبَّ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلَا. وَكَانَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ذَوِي قُوَّةٍ الْهَدْيُ فَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ عُمْرَةً. فَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أَبْكِي. فَقَالَ: مَا يُبْكِيكِ؟ قُلْتُ: سَمِعْتُكَ تَقُولُ لِأَصْحَابِكَ مَا قُلْتَ، فَمُنِعْتُ الْعُمْرَةَ. قَالَ: وَمَا شَأْنُكِ؟ قُلْتُ: لَا أُصَلِّي. قَالَ: فَلَا يَضِرْكِ، أَنْتِ مِنْ بَنَاتِ آدَمَ، كُتِبَ عَلَيْكِ مَا كُتِبَ عَلَيْهِنَّ، فَكُونِي فِي حَجَّتِكِ، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَرْزُقَكِهَا. قَالَتْ: فَكُنْتُ حَتَّى نَفَرْنَا مِنْ مِنًى فَنَزَلْنَا الْمُحَصَّبَ، فَدَعَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ: اخْرُجْ بِأُخْتِكَ من الْحَرَمَ فَلْتُهِلَّ بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ افْرُغَا مِنْ طَوَافِكُمَا، أَنْتَظِرْكُمَا هَا هُنَا. فَأَتَيْنَا فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، فَقَالَ: فَرَغْتُمَا؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَنَادَى بِالرَّحِيلِ فِي أَصْحَابِهِ، فَارْتَحَلَ بالنَّاس، وَمَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، ثُمَّ خَرَجَ مُوَجِّهًا إِلَى الْمَدِينَةِ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْمُعْتَمِرِ إِذَا طَافَ طَوَافَ الْعُمْرَةِ ثُمَّ خَرَجَ هَلْ يُجْزِئُهُ مِنْ طَوَافِ الْوَدَاعِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي عُمْرَتِهَا مِنَ التَّنْعِيمِ، وَفِيهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: اخْرُجْ بِأُخْتِكَ مِنَ الْحَرَمِ فَلْتُهِلَّ بعُمْرَةٍ ثُمَّ افْرُغَا مِنْ طَوَافِكُمَا. الْحَدِيثَ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْمُعْتَمِرَ إِذَا طَافَ فَخَرَجَ إِلَى بَلَدِهِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ مِنْ طَوَافِ الْوَدَاعِ، كَمَا فَعَلَتْ عَائِشَةُ. انْتَهَى. وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهَا مَا طَافَتْ لِلْوَدَاعِ بَعْدَ طَوَافِ الْعُمْرَةِ لَمْ يَبُتَّ الْحُكْمَ فِي التَّرْجَمَةِ، وأَيْضًا فَإِنَّ قِيَاسَ مَنْ يَقُولُ إِنَّ إِحْدَى الْعِبَادَتَيْنِ لَا تَنْدَرِجُ فِي الْأُخْرَى أَنْ يَقُولَ بِمِثْلِ ذَلِكَ هُنَا. وَيُسْتَفَادُ مِنْ قِصَّةِ عَائِشَةَ أَنَّ السَّعْيَ إِذَا وَقَعَ بَعْدَ طَوَافِ الرُّكْنِ - إِنْ قُلْنَا إِنَّ طَوَافَ الرُّكْنِ يُغْنِي عَنْ طَوَافِ الْوَدَاعِ - أنْ تَخَلّلَ السَّعْيُ بَيْنَ الطَّوَافِ وَالْخُرُوجِ لَا يَقْطَعُ أَجْزَاءَ الطَّوَافِ الْمَذْكُورِ عَنِ الرُّكْنِ وَالْوَدَاعِ مَعًا.

قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: (فَنَزَلْنَا بِسَرِفَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَأَبِي الْوَقْتِ سَرِفَ بِحَذْفِ الْبَاءِ، وكَذَا لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ عِيسَى بْنِ الطَّبَّاعِ، عَنْ أَفْلَحَ.

قَوْلُهُ: (لِأَصْحَابِهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ) ظَاهِرُهُ أَنَّ أَمْرَهُ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ بِفَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ كَانَ بِسَرِفَ قَبْلَ دُخُولِهِمْ مَكَّةَ، وَالْمَعْرُوفُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ قَوْلَهُ لَهُمْ ذَلِكَ بَعْدَ دُخُولِ مَكَّةَ، وَيُحْتَمَلُ التَّعَدُّدُ.

قَوْلُهُ: (قُلْتُ لَا أُصَلِّي) كَنَّتْ بِذَلِكَ عَنِ الْحَيْضِ، وَهِيَ مِنْ لَطِيفِ الْكِنَايَاتِ.

قَوْلُهُ: (كُتِبَ عَلَيْكِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ عَلَى الْبِنَاءِ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَلِأَبِي ذَرٍّ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكِ وَكَذَا لِمُسْلِمٍ.

قَوْلُهُ: (فَكُونِي فِي حِجَّتِكِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ فِي حَجِّكِ وَكَذَا لِمُسْلِمٍ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى نَفَرْنَا مِنْ مِنًى فَنَزَلْنَا الْمُحَصَّبَ) فِي هَذَا السِّيَاقِ اخْتِصَارٌ بَيَّنَتْهُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ: حَتَّى نَزَلْنَا مِنًى فَتَطَهَّرْتُ ثُمَّ طُفْتُ بِالْبَيْتِ فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُحَصَّبَ.

قَوْلُهُ: (فَدَعَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ.

قَوْلُهُ: (اخْرُجْ بِأُخْتِكَ الْحَرَمَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مِنَ الْحَرَمِ وَهِيَ أَوْضَحُ، وَكَذَا لِمُسْلِمٍ.

قَوْلُهُ: (فَأَتَيْنَا فِي جَوْفِ اللَّيْلِ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ وَهِيَ أَوْفَقُ لِبَقِيَّةِ الرِّوَايَاتِ، وَظَاهِرُهَا أَنَّهَا أَتَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَ أَبْوَابٍ أَنَّهَا قَالَتْ: فَلَقِيتُهُ وَأَنَا مُنْهَبِطَةٌ وَهُوَ مُصَعِّدٌ

ص: 612

أَوِ الْعَكْسُ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَاضِحٌ كَمَا سَيَأْتِي.

قَوْلُهُ: (فَارْتَحَلَ النَّاسُ وَمَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ) هُوَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ لِأَنَّ النَّاسَ أَعَمُّ مِنَ الطَّائِفِينَ، وَلَعَلَّهَا أَرَادَتْ بِالنَّاسِ مَنْ لَمْ يَطُفْ طَوَافَ الْوَدَاعِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُولُ صِفَةَ النَّاسِ مِنْ بَابِ تَوَسُّطِ الْعَاطِفِ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} وَقَدْ أَجَازَ سِيبَوَيْهِ نَحْوَ مَرَرْتُ بِزَيْدٍ وَصَاحِبِكَ إِذَا أَرَادَ بِالصَّاحِبِ زَيْدًا الْمَذْكُورَ، وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ هَذَا السِّيَاقِ، وَالَّذِي يَغْلِبُ عِنْدِي أَنَّهُ وَقَعَ فِيهِ تَحْرِيفٌ، وَالصَّوَابُ: فَارْتَحَلَ النَّاسُ ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ إِلَخْ، وَكَذَا وَقَعَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرٍ الْحَنَفِيِّ، عَنْ أَفْلَحَ بِلَفْظِ فَأَذَّنَ فِي أَصْحَابِهِ بِالرَّحِيلِ، فَارْتَحَلَ فَمَرَّ بِالْبَيْتِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ فَطَافَ بِهِ حِينَ خَرَجَ، ثُمَّ انْصَرَفَ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَدِينَةِ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَأَذَّنَ فِي أَصْحَابِهِ بِالرَّحِيلِ فَخَرَجَ، فَمَرَّ بِالْبَيْتِ فَطَافَ بِهِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ فَارْتَحَلَ النَّاسُ، فَمَرَّ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَدِينَةِ أَخْرَجَهُ فِي: بَابُ {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} قَالَ عِيَاضٌ: قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ الْقَاسِمِ يَعْنِي هَذِهِ: فَجِئْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي مَنْزِلِهِ فَقَالَ: فَهَلْ فَرَغْتِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَأَذَّنَ بِالرَّحِيلِ.

وَفِي رِوَايَةِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ يَعْنِي الَّتِي مَضَتْ فِي: بَابِ إِذَا حَاضَتْ بَعْدَ مَا أَفَاضَتْ: فَلَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُصَعِّدٌ مِنْ مَكَّةَ وَأَنَا مُنْهَبِطَةٌ أَوْ أَنَا مُصَعِّدَةٌ وَهُوَ مُنْهَبِطٌ مِنْهَا. وَفِي رِوَايَةِ صَفِيَّةَ عَنْهَا يَعْنِي عِنْدَ مُسْلِمٍ فَأَقْبَلْنَا حَتَّى أَتَيْنَاهُ وَهُوَ بِالْحَصْبَةِ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ الْقَاسِمِ، وَهُمَا مُوَافِقَانِ لِحَدِيثِ أَنَسٍ يَعْنِي الَّذِي مَضَى فِي بَابِ طَوَافِ الْوَدَاعِ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَقَدَ رَقْدَةً بِالْمُحَصَّبِ ثُمَّ رَكِبَ إِلَى الْبَيْتِ فَطَافَ بِهِ، قَالَ: وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنَ الْإِشْكَالِ قَوْلُهُ: فَمَرَّ بِالْبَيْتِ فَطَافَ بِهِ بَعْدَ أَنْ قَالَ لِعَائِشَةَ أَفَرَغْتِ؟ قَالَتْ نَعَمْ. مَعَ قَوْلِهَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّهُ: تَوَجَّهَ لِطَوَافِ الْوَدَاعِ وَهِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى الْمَنْزِلِ الَّذِي كَانَ بِهِ. قَالَ: فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَعَادَ طَوَافَ الْوَدَاعِ لِأَنَّ مَنْزِلَهُ كَانَ بِالْأَبْطَحِ وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّةَ، وَخُرُوجُهُ مِنْ مَكَّةَ إِنَّمَا كَانَ مِنْ أَسْفَلِهَا، فَكَأَنَّهُ لَمَّا تَوَجَّهَ طَالِبًا لِلْمَدِينَةِ اجْتَازَ بِالْمَسْجِدِ لِيَخْرُجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ فَكَرَّرَ الطَّوَافَ لِيَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ. انْتَهَى.

وَالْقَاضِي فِي هَذَا مَعْذُورٌ لِأَنَّهُ لَمْ يُشَاهِدْ تِلْكَ الْأَمَاكِنَ، فَظَنَّ أَنَّ الَّذِي يَقْصِدُ الْخُرُوجَ إِلَى الْمَدِينَةِ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ يَتَحَتَّمُ عَلَيْهِ الْمُرُورُ بِالْمَسْجِدِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا شَاهَدَهُ مَنْ عَايَنَهُ، بَلِ الرَّاحِلُ مِنْ مَنْزِلِهِ بِالْأَبْطَحِ يَمُرُّ مُجْتَازًا مِنْ ظَاهِرِ مَكَّةَ إِلَى حَيْثُ مَقْصِدُهُ مِنْ جِهَةِ الْمَدِينَةِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الْمُرُورِ بِالْمَسْجِدِ وَلَا يَدْخُلُ إِلَى الْبَلَدِ أَصْلًا، قَالَ عِيَاضٌ: وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ فِي الْبُخَارِيِّ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ. قَالَ فَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ أَعَادَ الطَّوَافَ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ طَوَافَهُ هُوَ طَوَافُ الْوَدَاعِ وَأَنَّ لِقَاءَهُ لِعَائِشَةَ كَانَ حِينَ انْتَقَلَ مِنَ الْمُحَصَّبِ كَمَا عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَقْتَدِيَ النَّاسُ بِإِنَاخَتِهِ بِالْبَطْحَاءِ، فَرَحَلَ حَتَّى أَنَاخَ عَلَى ظَهْرِ الْعَقَبَةِ أَوْ مِنْ وَرَائِهَا يَنْتَظِرُهَا.

قَالَ: فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِقَاؤُهُ لَهَا كَانَ فِي هَذَا الرَّحِيلِ، وَأَنَّهُ الْمَكَانُ الَّذِي عَنَتْهُ فِي رِوَايَةِ الْأَسْوَدِ بِقَوْلِهِ لَهَا مَوْعِدُكِ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ طَافَ بَعْدَ ذَلِكَ طَوَافَ الْوَدَاعِ، انْتَهَى. وَهَذَا التَّأْوِيلُ حَسَنٌ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ الرِّوَايَةَ الَّتِي عَزَاهَا لِلْأَصِيلِيِّ مَسْكُوتٌ عَنْ ذِكْرِ طَوَافِ الْوَدَاعِ فِيهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الصَّوَابَ فِيهَا فَمَرَّ بِالْبَيْتِ فَطَافَ بِهِ بَدَلَ قَوْلِهِ وَمَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ فِي عَزْوِ عِيَاضٍ ذَلِكَ إِلَى الْأَصِيلِيِّ وَحْدَهُ نَظَرٌ، فَإِنَّ كُلَّ الرِّوَايَاتِ الَّتِي وَقَفْنَا عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ حَتَّى رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَعْقِلٍ النَّسَفِيِّ، عَنِ الْبُخَارِيِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (مُوَجِّهًا) بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَسَاكِرَ مُتَوَجِّهًا بِزِيَادَةِ تَاءٍ وَبِكَسْرِ الْجِيمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُ هَذَا الْحَدِيثِ قَرِيبًا.

ص: 613

‌10 - بَاب يَفْعَلُ بالْعُمْرَةِ مَا يَفْعَلُ بالْحَجِّ

1789 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا عَطَاءٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي صَفْوَانُ بْنُ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ يَعْنِي عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ وَعَلَيْهِ أَثَرُ الْخَلُوقِ - أَوْ قَالَ صُفْرَةٌ - فَقَالَ: كَيْفَ تَأْمُرُنِي أَنْ أَصْنَعَ فِي عُمْرَتِي؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسُتِرَ بِثَوْبٍ، وَوَدِدْتُ أَنِّي قَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ. فَقَالَ عُمَرُ: تَعَالَ، أَيَسُرُّكَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْوَحْيَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَرَفَعَ طَرَفَ الثَّوْبِ، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ لَهُ غَطِيطٌ - وَأَحْسِبُهُ قَالَ: كَغَطِيطِ الْبَكْرِ - فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ قَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ الْعُمْرَةِ؟ اخْلَعْ عَنْكَ الْجُبَّةَ، وَاغْسِلْ أَثَرَ الْخَلُوقِ عَنْكَ وَأَنْقِ الصُّفْرَةَ، وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِي حَجِّكَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ يَفْعَلُ بِالْعُمْرَةِ مَا يَفْعَلُ بِالْحَجِّ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي يَفْعَلُ فِي الْعُمْرَةِ وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ مَا يَفْعَلُ فِي الْحَجِّ أَيْ مِنَ التُّرُوكِ لَا مِنَ الْأَفْعَالِ، أَوِ الْمُرَادُ بَعْضُ الْأَفْعَالِ لَا كُلُّهَا، وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ حَدِيثِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي أَوَائِلِ الْحَجِّ مَعَ مَبَاحِثِهِ.

1790 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا يَوْمَئِذٍ حَدِيثُ السِّنِّ -: أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ تبارك وتعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} فَلَا أُرَى عَلَى أَحَدٍ شَيْئًا أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: كَلَّا، لَوْ كَانَتْ كَمَا تَقُولُ كَانَتْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا، إِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْأَنْصَارِ، كَانُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ، وَكَانَتْ مَنَاةُ حَذْوَ قُدَيْدٍ، وَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَطُوفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} . زَادَ سُفْيَانُ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ هِشَامٍ: مَا أَتَمَّ اللَّهُ حَجَّ امْرِئٍ وَلَا عُمْرَتَهُ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ.

قَوْلُهُ: (كَيْفَ تَأْمُرُنِي أَنْ أَصْنَعَ فِي عُمْرَتِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ عَلَى بَيَانِ الْمُنَزَّلِ حِينَئِذٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ مِنَ الْوَحْيِ مَا لَا يُتْلَى، لَكِنْ وَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي: الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى أَنَّ الْمُنَزَّلَ حِينَئِذٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وَوَجْهُ الدِّلَالَةِ مِنْهُ عَلَى الْمَطْلُوبِ عُمُومُ الْأَمْرِ بِالْإِتْمَامِ، فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْهَيْئَاتِ وَالصِّفَاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَأَنْقِ الصُّفْرَةَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ النُّونِ، وَوَقَعَ لِلْمُسْتَمْلِي هُنَا بِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَمُثَنَّاةٍ مُشَدَّدَةٍ مِنَ التَّقْوَى، قَالَ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ: وَهِيَ أَوْجَهُ وَإِنْ رَجَعَا إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ. وَوَقَعَ لِابْنِ السَّكَنِ اغْسِلْ أَثَرَ الْخَلُوقِ وَأَثَرَ الصُّفْرَةِ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} وَوَجْهُ الدِّلَالَةِ مِنْهُ اشْتَرَاكُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي مَشْرُوعِيَّةِ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ} وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُهُ مُسْتَوْفَاةً فِي: بَابِ وُجُوبِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فِي أَثْنَاءِ الْحَجِّ. وَقَوْلُهُ: أَنْ لَا

ص: 614

يَطَّوَّفَ بِهِمَا فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بَيْنَهُمَا.

قَوْلُهُ: (زَادَ سُفْيَانُ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامٍ) يَعْنِي عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ

قَوْلُهُ: (مَا أَتَمَّ اللَّهُ حَجَّ امْرِئٍ إِلَخْ) أَمَّا رِوَايَةُ سُفْيَانَ فَوَصَلَهَا الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ عَنْهُ عَنْ هِشَامٍ فَذَكَرَ الْمَوْقُوفَ فَقَطْ، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ مَوْقُوفًا أَيْضًا، وَأَمَّا رِوَايَةُ أَبِي مُعَاوِيَةَ فَوَصَلَهَا مُسْلِمٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَا فِيهَا مِنْ فَائِدَةٍ وَبَحْثٍ فِي الْبَابِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ.

‌11 - بَاب مَتَى يَحِلُّ الْمُعْتَمِرُ؟

وَقَالَ عَطَاءٌ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه: أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً وَيَطُوفُوا، ثُمَّ يُقَصِّرُوا وَيَحِلُّوا

1791 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاعْتَمَرْنَا مَعَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ طَافَ وَطُفْنَا مَعَهُ، وَأَتَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ وَأَتَيْنَاهَا مَعَهُ، وَكُنَّا نَسْتُرُهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يَرْمِيَهُ أَحَدٌ. فَقَالَ لَهُ صَاحِبٌ لِي: أَكَانَ دَخَلَ الْكَعْبَةَ؟ قَالَ: لَا.

1792 -

قَالَ فَحَدِّثْنَا مَا قَالَ لِخَدِيجَةَ قَالَ "بَشِّرُوا خَدِيجَةَ بِبَيْتٍ مِنْ الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ"

[الحديث 1792 - طرفه في: 3819]

1793 -

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ "سَأَلْنَا ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ رَجُلٍ طَافَ بِالْبَيْتِ فِي عُمْرَةٍ وَلَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَيَأْتِي امْرَأَتَهُ فَقَالَ قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ وَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا وَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ"

1794 -

قَالَ وَسَأَلْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما فَقَالَ "لَا يَقْرَبَنَّهَا حَتَّى يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ"

1795 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ "قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْبَطْحَاءِ وَهُوَ مُنِيخٌ فَقَالَ أَحَجَجْتَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ بِمَا أَهْلَلْتَ قُلْتُ لَبَّيْكَ بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَحْسَنْتَ طُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ أَحِلَّ" فَطُفْتُ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ أَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ قَيْسٍ فَفَلَتْ رَأْسِي ثُمَّ أَهْلَلْتُ بِالْحَجِّ فَكُنْتُ أُفْتِي بِهِ حَتَّى كَانَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ فَقَالَ إِنْ أَخَذْنَا بِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُنَا بِالتَّمَامِ وَإِنْ أَخَذْنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ"

ص: 615

1796 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنَا عَمْرٌو عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ مَوْلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ حَدَّثَهُ أَنَّهُ كَانَ يَسْمَعُ أَسْمَاءَ تَقُولُ كُلَّمَا مَرَّتْ بِالحَجُونِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ لَقَدْ نَزَلْنَا مَعَهُ هَا هُنَا وَنَحْنُ يَوْمَئِذٍ خِفَافٌ قَلِيلٌ ظَهْرُنَا قَلِيلَةٌ أَزْوَادُنَا فَاعْتَمَرْتُ أَنَا وَأُخْتِي عَائِشَةُ وَالزُّبَيْرُ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ فَلَمَّا مَسَحْنَا الْبَيْتَ أَحْلَلْنَا ثُمَّ أَهْلَلْنَا مِنْ الْعَشِيِّ بِالْحَجِّ"

قَوْلُهُ: (بَابُ مَتَى يَحِلُّ الْمُعْتَمِرُ) أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى مَذْهَبِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَا أَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَئِمَّةِ الْفَتْوَى أَنَّ الْمُعْتَمِرَ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَطُوفَ وَيَسْعَى، إِلَّا مَا شَذَّ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: يَحِلُّ مِنَ الْعُمْرَةِ بِالطَّوَافِ وَوَافَقَهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَنَقَلَ عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَمِرَ إِذَا دَخَلَ الْحَرَمَ حَلَّ وَإِنْ لَمْ يَطُفْ وَلَمْ يَسْعَ، وَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ كُلَّ مَا حَرُمَ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَيَكُونُ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ فِي حَقِّهِ كَالرَّمْيِ وَالْمَبِيتِ فِي حَقِّ الْحَاجِّ، وَهَذَا مِنْ شُذُوذِ الْمَذَاهِبِ وَغَرَائِبِهَا، وَغَفَلَ الْقُطْبُ الْحَلَبِيُّ فَقَالَ فِيمَنِ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ فِي ابْتِدَاءِ الطَّوَافِ وَأَحَلَّ حِينَئِذٍ: إِنَّهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ التَّحَلُّلُ بِالْإِجْمَاعِ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَطَاءٌ، عَنْ جَابِرٍ إِلَخْ) هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي: بَابِ عُمْرَةِ التَّنْعِيمِ وَبَيَّنَ الْمُصَنِّفُ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرٍ - وَهُوَ ثَالِثُ أَحَادِيثِ الْبَابِ - أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَطُوفُوا أَيْ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، لِجَزْمِ جَابِرٍ بِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقْرَبَ امْرَأَتَهُ حَتَّى يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ أَحَادِيثَ: أَوَّلُهَا حَدِيثُ ابْنِ أَبِي أَوْفَى، وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحَادِيثَ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ جَرِيرٍ) إِسْحَاقُ هُوَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ فِي مُسْنَدِهِ بِلَفْظِ أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَإِسْمَاعِيلُ هُوَ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى فِي الْمَغَازِي وَعَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِخَدِيجَةَ فِي مَنَاقِبِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ أَدَخَلَ الْكَعْبَةَ؟ فِي: بَابِ مَنْ لَمْ يَدْخُلِ الْكَعْبَةَ فِي أَثْنَاءِ الْحَجِّ وَقَوْلُهُ: لَا فِي جَوَابِ أَدَخَلَ الْكَعْبَةَ؟ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْهَا فِي تِلْكَ الْعُمْرَةِ.

الثَّانِي: حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا وَعَنْ جَابِرٍ مَوْقُوفًا.

قَوْلُهُ: (عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ) تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنِ الْحُمَيْدِيِّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ فِي أَبْوَابِ الْقِبْلَةِ بِلَفْظِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ فَعَبَّرَ بِالْحَدِيثِ هُنَاكَ وَالْعَنْعَنَةِ هُنَا، وَسَاقَ الْإِسْنَادَ وَالْمَتْنَ جَمِيعًا بِغَيْرِ زِيَادَةٍ، وَوُقُوعُ مِثْلِ هَذَا نَادِرٌ جِدًّا.

قَوْلُهُ: (عَنْ رَجُلٍ طَافَ بِالْبَيْتِ فِي عُمْرَةٍ) فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ عَنْ رَجُلٍ طَافَ فِي عُمْرَتِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي الصَّلَاةِ، وَأَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَشَارَ إِلَى الِاتِّبَاعِ، وَأَنَّ جَابِرًا أَفْتَاهُمْ بِالْحُكْمِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يَحِلُّ مِنْ جَمِيعِ مَا حَرُمَ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ الطَّوَافِ. وَوَقَعَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ قَالَ: وَهُوَ سُنَّةٌ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ وَهُوَ غُنْدَرٌ بِهِ.

قَوْلُهُ: (أَيَأْتِي امْرَأَتَهُ) أَيْ يُجَامِعُهَا، وَالْمُرَادُ هَلْ حَصَلَ لَهُ التَّحَلُّلُ مِنَ الْإِحْرَامِ قَبْلَ السَّعْيِ أَمْ لَا؟

وَقَوْلُهُ (لَا يَقْرَبَنَّهَا) بِنُونِ التَّأْكِيدِ الْمُرَادُ نَهْيُ الْمُبَاشَرَةِ بِالْجِمَاعِ وَمُقَدِّمَاتِهِ لَا مُجَرَّدُ الْقُرْبِ مِنْهَا.

قَوْلُهُ: (وَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) أَيْ سَعَى، وَإِطْلَاقُ الطَّوَافِ عَلَى السَّعْيِ إِمَّا لِلْمُشَاكَلَةِ وَإِمَّا لِكَوْنِهِ نَوْعًا مِنَ الطَّوَافِ وَلِوُقُوعِهِ فِي مُصَاحَبَةِ طَوَافِ الْبَيْتِ.

قَوْلُهُ: (أُسْوَةٌ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَيَجُوزُ ضَمُّهَا.

قَوْلُهُ: (وَسَأَلْنَا جَابِرًا) الْقَائِلُ هُوَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي: بَابِ مَنْ صَلَّى رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ خَلْفَ الْمَقَامِ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ وَفِي بَابِ السَّعْيِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ كِلَاهُمَا عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِالْحَدِيثِ دُونَ

ص: 616

السُّؤَالَيْنِ لِابْنِ عُمَرَ، وَلِجَابِرٍ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ السَّعْيَ وَاجِبٌ فِي الْعُمْرَةِ، وَكَذَا صَلَاةُ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ، وَفِي تَعْيِينِهَا خَلْفَ الْمَقَامِ سَبَقَ فِي بَابِهِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ الِاتِّفَاقَ عَلَى جَوَازِهِمَا فِي أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ الطَّائِفُ، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا كَرِهَهُمَا فِي الْحِجْرِ، وَنَقَلَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنِ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُعَيِّنُهُمَا خَلْفَ الْمَقَامِ.

الثَّالِثُ: حَدِيثُ أَبِي مُوسَى فِي إِهْلَالِهِ كَإِهْلَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَشَاهِدُ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ قَوْلُهُ: طُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ أَحِلَّ. فَإِنَّهُ يَقْتَضِي تَأْخِيرَ الْإِحْلَالِ عَنِ السَّعْيِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي: بَابِ مَنْ أَهَلَّ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَوْلُهُ: (يَأْمُرُنَا بِالتَّمَامِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ يَأْمُرُ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى يَبْلُغَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بَلَغَ بِلَفْظِ الْفِعْلِ الْمَاضِي، وَقَوْلُهُ فِي أَوَّلِهِ أَحَجَجْتَ أَيْ هَلْ أَحْرَمْتَ بِالْحَجِّ أَوْ نَوَيْتَ الْحَجَّ؟ وَهَذَا كَقَوْلِهِ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا أَهْلَلْتَ أَيْ بِمَا أَحْرَمَتْ أَيْ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ؟

الرَّابِعُ: حَدِيثُ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ:

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ غَيْرُ مَنْسُوبٍ، وَفِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عِيسَى، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ.

قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنَا عَمْرٌو) هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ، وَعَبْدُ اللَّهِ مَوْلَى

أَسْمَاءَ تَقَدَّمَ لَهُ حَدِيثٌ عَنْهَا غَيْرُ هَذَا فِي: بَابِ مَنْ قَدَّمَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ وَلَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ غَيْرُهُمَا. وَهَذَا الْإِسْنَادُ نِصْفُهُ مِصْرِيُّونَ، وَنِصْفُهُ مَدَنِيُّونَ.

قَوْلُهُ: (بِالْحَجُونِ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ الْجِيمِ الْخَفِيفَةِ: جَبَلٌ مَعْرُوفٌ بِمَكَّةَ، وَقَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُهُ فِي الْأَشْعَارِ، وَعِنْدَهُ الْمَقْبَرَةُ الْمَعْرُوفَةُ بِالْمُعَلَّى عَلَى يَسَارِ الدَّاخِلِ إِلَى مَكَّةَ وَيَمِينُ الْخَارِجِ مِنْهَا إِلَى مِنًى، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مُحَصَّلُ مَا قَالَهُ الْأَزْرَقِيُّ، وَالْفَاكِهِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَأَغْرَبَ السُّهَيْلِيُّ فَقَالَ: الْحَجُونُ عَلَى فَرْسَخٍ وَثُلُثٍ مِنْ مَكَّةَ، وَهُوَ غَلَطٌ وَاضِحٌ، فَقَدْ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْبَكْرِيُّ: الْحَجُونُ الْجَبَلُ الْمُشْرِفُ بِحِذَاءِ الْمَسْجِدِ الَّذِي يَلِي شِعْبَ الْجَرَّارِينَ، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْقَالِي: الْحَجُونُ ثَنِيَّةُ الْمَدَنِيِّينَ - أَيْ مَنْ يَقْدَمُ مِنَ الْمَدِينَةِ - وَهِيَ مَقْبَرَةُ أَهْلِ مَكَّةَ عِنْدَ شِعْبِ الْجَرَّارِينَ. انْتَهَى. وَيَدُلُّ عَلَى غَلَطِ السُّهَيْلِيِّ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

سَنَبْكِيكَ مَا أَرْسَى ثَبِيرٌ مَكَانَهُ

وَمَا دَامَ جَارًا لِلْحَجُونِ الْمُحَصَّبُ

وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْمُحَصَّبِ وَحْدَهُ وَأَنَّهُ خَارِجَ مَكَّةَ، وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ أَنَّ قُصَيَّ بْنَ كِلَابٍ لَمَّا مَاتَ دُفِنَ بِالْحَجُونِ فَتَدَافَنَ النَّاسُ بَعْدَهُ، وَأَنْشَدَ الزُّبَيْرُ لِبَعْضِ أَهْلِ مَكَّةَ:

كَمْ بِالْحَجُونِ وَبَيْنَهُ مِنْ سَيِّدٍ

بِالشِّعْبِ بَيْنَ دَكَادِكٍ وَأَكَامٍ

وَالْجَرَّارِينَ الَّتِي تَقَدَّمَ جَمْعُ جَرَّارٍ بِجِيمٍ وَرَاءٍ ثَقِيلَةٍ، ذَكَرَهَا الرَّضِيُّ الشَّاطِبِيُّ، وَكَتَبَ عَلَى الرَّاءِ صَحَّ صَحَّ، وَذَكَرَ الْأَزْرَقِيُّ أَنَّهُ شِعْبُ أَبِي دُبٍّ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عَامِرٍ. قُلْتُ: قَدْ جُهِلَ هَذَا الشِّعْبُ الْآنَ إِلَّا أَنَّ بَيْنَ سُورِ مَكَّةَ الْآنَ وَبَيْنَ الْجَبَلِ الْمَذْكُورِ مَكَانًا يُشْبِهُ الشِّعْبَ فَلَعَلَّهُ هُوَ.

قَوْلُهُ: (وَنَحْنُ يَوْمئِذٍ خِفَافٌ) زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ خِفَافُ الْحَقَائِبِ، وَالْحَقَائِبُ جَمْعُ حَقِيبَةٍ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْقَافِ وَبِالْمُوَحَّدَةِ وَهِيَ مَا احْتَقَبَهُ الرَّاكِبُ خَلْفَهُ مِنْ حَوَائِجِهِ فِي مَوْضِعِ الرَّدِيفِ.

قَوْلُهُ: (فَاعْتَمَرْتُ أَنَا وَأُخْتِي) أَيْ بَعْدَ أَنْ فَسَخُوا الْحَجَّ إِلَى الْعُمْرَةِ، فَفِي رِوَايَةِ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عَنْ أَسْمَاءَ: قَدِمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ فَقَالَ: مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُقِمْ عَلَى إِحْرَامِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحِلَّ، فَلَمْ يَكُنْ مَعِي هَدْيٌ فَأَحْلَلْتُ، وَكَانَ مَعَ الزُّبَيْرِ هَدْيٌ فَلَمْ يَحِلَّ. انْتَهَى.

وَهَذَا مُغَايِرٌ لِذِكْرِهَا الزُّبَيْرَ مَعَ مَنْ أَحَلَّ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى أَسْمَاءَ، فَإِنَّ قَضِيَّةَ رِوَايَةِ صَفِيَّةَ عَنْ أَسْمَاءَ أَنَّهُ لَمْ يَحِلَّ لِكَوْنِهِ مِمَّنْ سَاقَ الْهَدْيَ، فَإِنْ جُمِعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْقِصَّةَ الْمَذْكُورَةَ وَقَعَتْ لَهَا مَعَ الزُّبَيْرِ فِي غَيْرِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ - كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ النَّوَوِيُّ عَلَى بُعْدِهِ - وَإِلَّا فَقَدْ رَجَحَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى

ص: 617

أَسْمَاءَ فَاقْتَصَرَ عَلَى إِخْرَاجِهَا دُونَ رِوَايَةِ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، وَأَخْرَجَهُمَا مُسْلِمٌ مَعَ مَا فِيهِمَا مِنَ الِاخْتِلَافِ. وَيُقَوِّي صَنِيعَ الْبُخَارِيِّ مَا تَقَدَّمَ فِي: بَابِ الطَّوَافِ عَلَى وُضُوءٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَهُوَ أَبُو الْأَسْوَدِ الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ قَالَ: سَأَلْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، فَذَكَرَ حَدِيثًا وَفِي آخِرِهِ: وَقَدْ أَخْبَرَتْنِي أُمِّي أَنَّهَا أَهَلَّتْ هِيَ وَأُخْتُهَا وَالزُّبَيْرُ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ بِعُمْرَةٍ، فَلَمَّا مَسَحُوا الرُّكْنَ حَلُّوا: وَالْقَائِلُ أَخْبَرَتْنِي عُرْوَةُ الْمَذْكُورُ، وَأُمُّهُ هِيَ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى أَسْمَاءَ عَنْهَا.

وَفِيهِ إِشْكَالٌ آخَرُ وَهُوَ ذِكْرُهَا لِعَائِشَةَ فِيمَنْ طَافَ وَالْوَاقِعُ أَنَّهَا كَانَتْ حِينَئِذٍ حَائِضًا، وَكُنْتُ أَوَّلْتُهُ هُنَاكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ تِلْكَ الْعُمْرَةَ كَانَتْ فِي وَقْتٍ آخَرَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لَكِنَّ سِيَاقَ رِوَايَةِ هَذَا الْبَابِ تَأْبَاهُ، فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْمَقْصُودَ الْعُمْرَةُ الَّتِي وَقَعَتْ لَهُمْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَالْقَوْلُ فِيمَا وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ فِي حَقِّ الزُّبَيْرِ كَالْقَوْلِ فِي حَقِّ عَائِشَةَ سَوَاءٌ، وَقَدْ قَالَ عِيَاضٌ فِي الْكَلَامِ عَلَيْهِ: لَيْسَ هُوَ عَلَى عُمُومِهِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ مَنْ عَدَا عَائِشَةَ، لِأَنَّ الطُّرُقَ الصَّحِيحَةَ فِيهَا أَنَّهَا حَاضَتْ فَلَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ وَلَا تَحَلَّلَتْ مِنْ عُمْرَتِهَا. قَالَ: وَقِيلَ لَعَلَّ عَائِشَةَ أَشَارَتْ إِلَى عُمْرَتِهَا الَّتِي فَعَلَتْهَا مِنَ التَّنْعِيمِ، ثُمَّ حَكَى التَّأْوِيلَ السَّابِقَ وَأَنَّهَا أَرَادَتْ عُمْرَةً أُخْرَى فِي غَيْرِ الَّتِي فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَخَطَّأَهُ وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالزُّبَيْرِ مِنْ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ) كَأَنَّهَا سَمَّتْ بَعْضَ مَنْ عَرَفَتْهُ مِمَّنْ لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِهِمْ، فَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ أَكْثَرَ الصَّحَابَةِ كَانُوا كَذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (فَلَمَّا مَسَحْنَا الْبَيْتَ) أَيْ طُفْنَا بِالْبَيْتِ فَاسْتَلَمْنَا الرُّكْنَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي: بَابِ الطَّوَافِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ بِلَفْظِ مَسَحْنَا الرُّكْنَ وَسَاغَ هَذَا الْمَجَازُ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ يَمْسَحُ الرُّكْنَ فَصَارَ يُطْلَقُ عَلَى الطَّوَافِ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ أَبَى رَبِيعَةَ:

وَلَمَّا قَضَيْنَا مِنْ مِنًى كُلَّ حَاجَةٍ

وَمَسَّحَ بِالْأَرْكَانِ مَنْ هُوَ مَاسِحٌ

أَيْ طَافَ مَنْ هُوَ طَائِفٌ.

قَالَ عِيَاضٌ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى مَسَحُوا طَافُوا وَسَعَوْا، وَحَذَفَ السَّعْيَ اخْتِصَارًا لَمَّا كَانَ مَنُوطًا بِالطَّوَافِ، قَالَ: وَلَا حُجَّةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لِمَنْ لَمْ يُوجِبِ السَّعْيَ؛ لِأَنَّ أَسْمَاءَ أَخْبَرَتْ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَقَدْ جَاءَ مُفَسَّرًا مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى صَحِيحَةٍ أَنَّهُمْ طَافُوا مَعَهُ وَسَعَوْا فَيُحْمَلُ مَا أُجْمِلَ عَلَى مَا بُيِّنَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْحَلْقَ أَوِ التَّقْصِيرَ اسْتِبَاحَةُ مَحْظُورٍ لِقَوْلِهَا إِنَّهُمْ أَحَلُّوا بَعْدَ الطَّوَافِ، وَلَمْ يُذْكَرِ الْحَلْقُ. وَأَجَابَ مَنْ قَالَ بِأَنَّهُ نُسُكٌ بِأَنَّهَا سَكَتَتْ عَنْهُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَرْكُ فِعْلِهِ، فَإِنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ. وَقَدْ ثَبَتَ الْأَمْرُ بِالتَّقْصِيرِ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ مِنْهَا حَدِيثُ جَابِرٍ الْمُصَدَّرُ بِذِكْرِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ جَامَعَ قَبْلَ أَنْ يُقَصِّرَ بَعْدَ أَنْ طَافَ وَسَعَى فَقَالَ الْأَكْثَرُ: عَلَيْهِ الْهَدْيُ، وَقَالَ عَطَاءٌ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَفْسُدُ عُمْرَتُهُ وَعَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِي فَاسِدِهَا وَقَضَاؤُهَا. وَاسْتَدَلَّ بِهِ الطَّبَرِيُّ عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ التَّقْصِيرَ حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الْحَرَمِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَنْ قَالَ عَلَيْهِ دَمٌ.

‌12 - بَاب مَا يَقُولُ إِذَا رَجَعَ مِنْ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ أَوْ الْغَزْوِ؟

1797 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَفَلَ مِنْ غَزْوٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ يُكَبِّرُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ مِنْ الْأَرْضِ ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ ثُمَّ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. آيِبُونَ، تَائِبُونَ،

ص: 618

عَابِدُونَ، سَاجِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ. صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ.

[الحديث 1797 - أطرافه في: 2995، 3084، 4116، 6385]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يَقُولُ إِذَا رَجَعَ مِنَ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ أَوِ الْغَزْوِ) أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ هُنَا تَرَاجِمَ تَتَعَلَّقُ بِآدَابِ الرَّاجِعِ مِنَ السَّفَرِ لِتَعَلُّقِ ذَلِكَ بِالْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِ، وَهَذَا فِي حَقِّ الْمُعْتَمِرِ الْآفَاقِيِّ، وَقَدْ تَرْجَمَ لِحَدِيثِ الْبَابِ حَدِيثُ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي الدَّعَوَاتِ مَا يَقُولُ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَوْ رَجَعَ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌13 - بَاب اسْتِقْبَالِ الْحَاجِّ الْقَادِمِينَ، وَالثَّلَاثَةِ عَلَى الدَّابَّةِ

1798 -

حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ اسْتَقْبَلَتْهُ أُغَيْلِمَةُ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَحَمَلَ وَاحِدًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَآخَرَ خَلْفَهُ.

[الحديث 1798 - طرفاه في: 5965، 5966]

قَوْلُهُ: (بَابُ اسْتِقْبَالِ الْحَاجِّ الْقَادِمِينَ وَالثَّلَاثَةِ عَلَى الدَّابَّةِ) اشْتَمَلَتْ هَذِهِ التَّرْجَمَةُ عَلَى حُكْمَيْنِ، وَأَوْرَدَ فِيهَا حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اسْتَقْبَلَهُ أُغَيْلِمَةُ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَيْ صِبْيَانُهُمْ، وَدِلَالَةُ حَدِيثِ الْبَابِ عَلَى الثَّانِي ظَاهِرَةٌ، وَقَدْ أَفْرَدَهَا بِالذِّكْرِ قُبَيْلَ كِتَابِ الْأَدَبِ وَأَوْرَدَ فِيهَا هَذَا الْحَدِيثَ بِعَيْنِهِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبَيَانُ أَسْمَاءِ مَنْ حَمَلَهُ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَقَوْلُهُ أُغَيْلِمَةٌ تَصْغِيرُ غِلْمَةٍ بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَغِلْمَةٌ جَمْعُ غُلَامٍ، وَأَمَّا الْحُكْمُ الْأَوَّلُ فَأَخَذَهُ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ مِنْ طَرِيقِ الْعُمُومِ، لِأَنَّ قُدُومَهُ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ غَزْوٍ، وَقَوْلُهُ: الْقَادِمِينَ صِفَةٌ لِلْحَاجِّ لِأَنَّهُ يُقَالُ لِلْمُفْرَدِ وَلِلْجَمْعِ، وَكَوْنُ التَّرْجَمَةِ لِتَلَقِّي الْقَادِمِ مِنَ الْحَجِّ، وَالْحَدِيثُ دَالٌ عَلَى تَلَقِّي الْقَادِمِ لِلْحَجِّ لَيْسَ بَيْنَهُمَا تَخَالُفٌ لِاتِّفَاقِهِمَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

‌14 - بَاب الْقُدُومِ بِالْغَدَاةِ

1799 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ يُصَلِّي فِي مَسْجِدِ الشَّجَرَةِ، وَإِذَا رَجَعَ صَلَّى بِذِي الْحُلَيْفَةِ بِبَطْنِ الْوَادِي، وَبَاتَ حَتَّى يُصْبِحَ.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْقُدُومِ بِالْغَدَاةِ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي خُرُوجِهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى مَكَّةَ مِنْ طَرِيقِ الشَّجَرَةِ وَمَبِيتِهِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ إِذَا رَجَعَ، وَفِيهِ مَا تَرْجَمَ لَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي أَوَائِلِ الْحَجِّ.

‌15 - بَاب الدُّخُولِ بِالْعَشِيِّ

1800 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يَطْرُقُ أَهْلَهُ، كَانَ لَا يَدْخُلُ إِلَّا غُدْوَةً أَوْ عَشِيَّةً.

قَوْلُهُ: (بَابُ الدُّخُولِ بِالْعَشِيِّ) قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْعَشِيَّةُ مِنْ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ إِلَى الْعَتَمَةِ، وَقِيلَ هِيَ مِنْ حِينِ الزَّوَالِ. قُلْتُ: وَالْمُرَادُ هُنَا الْأَوَّلُ، وَكَأَنَّهُ عَقَّبَ التَّرْجَمَةَ الْأُولَى بِهَذِهِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ الدُّخُولَ فِي الْغَدَاةِ لَا يَتَعَيَّنُ، وَإِنَّمَا الْمَنْهِيُّ عَنْهُ

ص: 619

الدُّخُولُ لَيْلًا، وَقَدْ بَيَّنَ عِلَّةَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ حَيْثُ قَالَ: لِتَمْشيِطِ الشَّعِثَةِ. الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ النِّكَاحِ.

‌16 - بَاب لَا يَطْرُقُ أَهْلَهُ إِذَا بَلَغَ الْمَدِينَةَ

1801 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَارِبٍ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَطْرُقَ أَهْلَهُ لَيْلًا.

قَوْلُهُ: (بَابُ لَا يَطْرُقُ أَهْلَهُ) أَيْ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ لَيْلًا إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، يُقَالُ طَرَقَ يَطْرُقُ بِضَمِّ الرَّاءِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ أَنْ يَطْرُقَ أَهْلَهُ لَيْلًا فَلِلتَّأَكُّدِ لِأَجْلِ رَفْعِ الْمَجَازِ لِاسْتِعْمَالِ طَرَقَ فِي النَّهَارِ، وَقَدْ حَكَى ابْنُ فَارِسٍ طَرَقَ بِالنَّهَارِ وَهُوَ مَجَازٌ.

قَوْلُهُ: (إِذَا بَلَغَ الْمَدِينَةَ) فِي رِوَايَةِ السَّرَخْسِيِّ إِذَا دَخَلَ وَالْمُرَادُ بِالْمَدِينَةِ الْبَلَدُ الَّذِي يَقْصِدُ دُخُولَهَا، وَالْحِكْمَةُ فِي هَذَا النَّهْيِ مُبَيَّنَةٌ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ حَيْثُ أَوْرَدَهُ مُطَوَّلًا فِي أَبْوَابِ عِشْرَةِ النِّسَاءِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

‌17 - بَاب مَنْ أَسْرَعَ نَاقَتَهُ إِذَا بَلَغَ الْمَدِينَةَ

1802 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي حُمَيْدٌ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسًا رضي الله عنه يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَأَبْصَرَ دَرَجَاتِ الْمَدِينَةِ أَوْضَعَ نَاقَتَهُ، وَإِنْ كَانَتْ دَابَّةً حَرَّكَهَا. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: زَادَ الْحَارِثُ بْنُ عُمَيْرٍ عَنْ حُمَيْدٍ: حَرَّكَهَا مِنْ حُبِّهَا.

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: جُدُرَاتِ. تَابَعَهُ الْحَارِثُ بْنُ عُمَيْرٍ.

[الحديث 1802 - طرفه في: 1886]

قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أَسْرَعَ نَاقَتَهُ إِذَا بَلَغَ الْمَدِينَةَ) قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، قَوْلُهُ أَسْرَعَ نَاقَتَهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَالصَّوَابُ أَسْرَعَ بِنَاقَتِهِ يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ. وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ، فَقَدْ حَكَى صَاحِبُ الْمُحْكَمِ أَنَّ أَسْرَعَ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ وَيَتَعَدَّى بِحَرْفِ الْجَرِّ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: قَوْلُ الْبُخَارِيِّ: أَسْرَعَ نَاقَتَهُ أَصْلُهُ أَسْرَعَ بِنَاقَتِهِ، فَنُصِبَ بِنَزْعِ الْخَافِضِ.

قَوْلُهُ: (مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) أَيِ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ الْمَدَنِيُّ أَخُو إِسْمَاعِيلَ.

قَوْلُهُ: (فَأَبْصَرَ دَرَجَاتِ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالرَّاءِ بَعْدَهَا جِيمٌ، جَمْعُ دَرَجَةٍ كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَالْمُرَادُ طُرُقُهَا الْمُرْتَفِعَةُ، وَلِلْمُسْتَمْلِي دَوْحَاتِ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ جَمْعُ دَوْحَةٍ وَهِيَ الشَّجَرَةُ الْعَظِيمَةُ، وَفِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ حُمَيْدٍ جُدُرَاتِ بِضَمِّ الْجِيمِ وَالدَّالِ كَمَا وَقَعَ فِي هَذَا الْبَابِ، وَهُوَ جَمْعُ جُدُرٍ بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ جِدَارٍ، وَقَدْ رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ جُدْرَانَ بِسُكُونِ الدَّالِ وَآخِرُهُ نُونٌ جَمْعُ جِدَارٍ، لَهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ضَمْرَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ بِلَفْظِ جُدُر قَالَ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ: جُدُرَاتٌ أَرْجَحُ مِنْ دَوْحَاتٍ وَمِنْ دَرَجَاتٍ. قُلْتُ: وَهِيَ رِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ أَيْضًا.

قَوْلُهُ: (أَوْضَعَ) أَيْ أَسْرَعَ السَّيْرَ.

قَوْلُهُ: (زَادَ الْحَارِثُ بْنُ عُمَيْرٍ، عَنْ حُمَيْدٍ) يَعْنِي عَنْ أَنَسٍ (مِنْ حُبِّهَا) وَهُوَ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ حَرَّكَهَا؛ أَيْ: حَرَّكَ دَابَّتَهُ بِسَبَبِ حُبِّهِ الْمَدِينَةَ، ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: جُدُرَاتٌ،

ص: 620

تَابَعَهُ الْحَارِثُ بْنُ عُمَيْرٍ يَعْنِي فِي قَوْلِهِ جُدُرَاتٌ وَرِوَايَةُ الْحَارِثِ بْنِ عُمَيْرٍ هَذِهِ وَصَلَهَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ عُمَيْرٍ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَنَظَرَ إِلَى جُدُرَاتِ الْمَدِينَةِ أَوْضَعَ نَاقَتَهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى دَابَّةٍ حَرَّكَهَا مِنْ حُبِّهَا: وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي: الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ خَالِدِ بْنِ مَخْلَدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ ابْنِ أَبِي كَثِيرٍ، وَالْحَارِثِ بْنِ عُمَيْرٍ جَمِيعًا عَنْ حُمَيْدٍ، وَقَدْ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ طَرِيقَ قُتَيْبَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي فَضَائِلِ الْمَدِينَةِ بِلَفْظِ الْحَارِثِ بْنِ عُمَيْرٍ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: رَاحِلَتَهُ بَدَلَ نَاقَتِهِ، وَوَقَعَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ وَزَادَ الْحَارِثُ بْنُ عُمَيْرٍ وَغَيْرُهُ عَنْ حُمَيْدٍ وَقَدْ نَبَّهْتُ عَلَى مَنْ رَوَاهُ كَذَلِكَ مُوَافِقًا لِلْحَارِثِ بْنِ عُمَيْرٍ فِي الزِّيَادَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ دِلَالَةٌ عَلَى فَضْلِ الْمَدِينَةِ، وَعَلَى مَشْرُوعِيَّةِ حُبِّ الْوَطَنِ وَالْحَنِينِ إِلَيْهِ.

‌18 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}

1803 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ رضي الله عنه يَقُولُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا، كَانَتْ الْأَنْصَارُ إِذَا حَجُّوا فَجَاءُوا لَمْ يَدْخُلُوا مِنْ قِبَلِ أَبْوَابِ بُيُوتِهِمْ، وَلَكِنْ مِنْ ظُهُورِهَا، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَدَخَلَ مِنْ قِبَلِ بَابِهِ، فَكَأَنَّهُ عُيِّرَ بِذَلِكَ، فَنَزَلَتْ:{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}

[الحديث 1803 - طرفه في: 4512]

قَوْلُهُ: (بَابُ: قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} أَيْ بَيَانِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ.

قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) هُوَ السَّبِيعِيُّ.

قَوْلُهُ: (كَانَتِ الْأَنْصَارُ إِذَا حَجُّوا فَجَاءُوا) هَذَا ظَاهِرٌ فِي اخْتِصَاصِ ذَلِكَ بِالْأَنْصَارِ، لَكِنْ سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ سَائِرَ الْعَرَبِ كَانُوا كَذَلِكَ إِلَّا قُرَيْشًا، وَرَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ مُرْسَلِ قَتَادَةَ كَمَا قَالَ الْبَرَاءُ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ مُرْسَلِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ نَحْوَهُ.

قَوْلُهُ: (إِذَا حَجُّوا) سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ الْبَقَرَةِ مِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ بِلَفْظِ: إِذَا أَحْرَمُوا فِي الْجَاهِلِيَّ.

قَوْلُهُ: (فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ) هُوَ قُطْبَةُ بِضَمِّ الْقَافِ وَإِسْكَانِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ، ابْنُ عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ بِمُهْمَلَاتٍ وَزْنُ كَبِيرَةَ، الْأَنْصَارِيُّ، الْخَزْرَجِيُّ السُّلَمِيُّ، كَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ طَرِيقِ عَمَّارِ بْنِ زُرَيْقٍ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَتْ قُرَيْشٌ تُدْعَى الْحُمْسَ، وَكَانُوا يَدْخُلُونَ مِنَ الْأَبْوَابِ فِي الْإِحْرَامِ، وَكَانَتِ الْأَنْصَارُ وَسَائِرُ الْعَرَبِ لَا يَدْخُلُونَ مِنَ الْأَبْوَابِ، فَبَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بُسْتَانٍ فَخَرَجَ مِنْ بَابِهِ فَخَرَجَ مَعَهُ قُطْبَةُ بْنُ عَامِرٍ الْأَنْصَارِيُّ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ قُطْبَةَ رَجُلٌ فَاجِرٌ، فَإِنَّهُ خَرَجَ مَعَكَ مِنَ الْبَابِ، فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟ فَقَالَ: رَأَيْتُكَ فَعَلْتَهُ فَفَعَلْتُ كَمَا فَعَلْتَ. قَالَ: إِنِّي أَحْمَسِيٌّ، قَالَ فَإِنَّ دِينِي دِينُكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ. وَهَذَا الْإِسْنَادُ وَإِنْ كَانَ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ لَكِنِ اخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ عَلَى الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ فَرَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ فَلَمْ يَذْكُرْ جَابِرًا أَخْرَجَهُ تَقِيٌّ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي تَفْسِيرِهِمَا مِنْ طَرِيقِهِ، وَكَذَا سَمَّاهُ الْكَلْبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَذَا ذَكَرَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ فِي تَفْسِيرِهِ.

وَجَزَمَ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ بِأَنَّ هَذَا الرَّجُلَ يُقَالُ لَهُ رِفَاعَةُ بْنُ تَابُوتٍ، وَاعْتَمَدُوا فِي ذَلِكَ عَلَى مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ جُبَيْرٍ النَّهْشَلِيِّ قَالَ: كَانُوا إِذَا أَحْرَمُوا لَمْ يَأْتُوا بَيْتًا مِنْ قِبَلِ بَابِهِ، وَلَكِنْ مِنْ قِبَلِ ظَهْرِهِ، وَكَانَتْ الْحُمْسُ تَفْعَلُهُ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَائِطًا فَاتَّبَعَهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ رِفَاعَةُ بْنُ تَابُوتٍ وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْحُمْسِ.

فَذَكَرَ الْقِصَّةَ، وَهَذَا

ص: 621

مُرْسَلٌ، وَالَّذِي قَبْلَهُ أَقْوَى إِسْنَادًا، فَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّعَدُّدِ فِي الْقِصَّةِ، إِلَّا أَنَّ فِي هَذَا الْمُرْسَلِ نَظَرًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، لِأَنَّ رِفَاعَةَ بْنَ تَابُوتٍ مَعْدُودٌ فِي الْمُنَافِقِينَ، وَهُوَ الَّذِي هَبَّتِ الرِّيحُ الْعَظِيمَةُ لِمَوْتِهِ كَمَا وَقَعَ مُبْهَمًا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَمُفَسَّرًا فِي غَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، فَإِنْ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى أَنَّهُمَا رَجُلَانِ تَوَافَقَ اسْمُهُمَا وَاسْمُ أَبَوَيْهِمَا وَإِلَّا فَكَوْنُهُ قُطْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَوْلَى، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي مُرْسَلِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ فَدَخَلَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ وَقُطْبَةُ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ بِخِلَافِ رِفَاعَةَ، وَيَدُلُّ عَلَى التَّعَدُّدِ اخْتِلَافُ الْقَوْلِ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى الدَّاخِلِ، فَإِنَّ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ فَقَالُوا إِنَّ قُطْبَةَ رَجُلٌ فَاجِرٌ وَفِي مُرْسَلِ قَيْسِ بْنِ جُبَيْرٍ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَافَقَ رِفَاعَةُ لَكِنْ لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ أَنْ يَتَعَدَّدَ الْقَائِلُونَ فِي الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ الْقِصَّةَ وَقَعَتْ أَوَّلَ مَا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ وَفِي مُرْسَلِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَفِي مُرْسَلِ السُّدِّيِّ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ أَيْضًا أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِهِ كَانُوا إِذَا حَجُّوا لَكِنْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ: كَانُوا إِذَا أَحْرَمُوا فَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، وَالْأَقْرَبُ مَا قَالَ الزُّهْرِيُّ، وَبَيَّنَ الزُّهْرِيُّ السَّبَبَ فِي صَنِيعِهِمْ ذَلِكَ فَقَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنَ الْأَنْصَارِ إِذَا أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ لَمْ يَحُلْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ

شَيْءٌ، فَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَهَلَّ فَبَدَتْ لَهُ حَاجَةٌ فِي بَيْتِهِ لَمْ يَدْخُلْ مِنَ الْبَابِ مِنْ أَجْلِ السَّقْفِ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ وَاتَّفَقَتِ الرِّوَايَاتُ عَلَى نُزُولِ الْآيَةِ فِي سَبَبِ الْإِحْرَامِ إِلَّا مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ يَهُمُّ بِالشَّيْءِ يَصْنَعُهُ فَيُحْبَسُ عَنْ ذَلِكَ فَلَا يَأْتِي بَيْتًا مِنْ قِبَلِ بَابِهِ حَتَّى يَأْتِيَ الَّذِي كَانَ هَمَّ بِهِ فَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الطِّيَرَةِ، وَغَيْرُهُ جَعَلَ ذَلِكَ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ، وَخَالَفَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ فَقَالَ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا اعْتَكَفَ لَمْ يَدْخُلْ مَنْزِلَهُ مِنْ بَابِ الْبَيْتِ فَنَزَلَتْ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ

(1)

. وَأَغْرَبَ الزَّجَّاجُ فِي مَعَانِيهِ، فَجَزَمَ بِأَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ، لَكِنْ مَا فِي الصَّحِيحِ أَصَحُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاتَّفَقَتِ الرِّوَايَاتُ عَلَى أَنَّ الْحُمْسَ كَانُوا لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ، وَعَكَسَ ذَلِكَ مُجَاهِدٌ فَقَالَ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ إِذَا أَحْرَمَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ ثَقَبَ كُوَّةً فِي ظَهْرِ بَيْتِهِ فَدَخَلَ مِنْهَا، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ وَمَعَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَدَخَلَ مِنَ الْبَابِ، وَذَهَبَ الْمُشْرِكُ لِيَدْخُلَ مِنَ الْكُوَّةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا شَأْنُكَ؟ فَقَالَ: إِنِّي أَحْمَسِيٌّ، فَقَالَ: وَأَنَا أَحْمَسِيٌّ، فَنَزَلَتْ. أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ.

‌19 - بَاب السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ

1804 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ: يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَنَوْمَهُ، فَإِذَا قَضَى نَهْمَتَهُ فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ.

[الحديث 1804 - طرفاه في: 3001، 5429]

قَوْلُهُ: (بَابُ السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ) قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: أَشَارَ الْبُخَارِيُّ بِإِيرَادِ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ فِي أَوَاخِرِ أَبْوَابِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَنَّ الْإِقَامَةَ فِي الْأَهْلِ أَفْضَلُ مِنَ الْمُجَاهَدَةِ. انْتَهَى. وَفِيهِ نَظَرٌ لَا يَخْفَى، لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُصَنِّفُ أَشَارَ بِإِيرَادِهِ فِي الْحَجِّ إِلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ بِلَفْظِ: إِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ حَجَّهُ فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَنْ أَخْرَجَهُ.

قَوْلُهُ: (عَنْ

(1)

في نسخة "صحيح"

ص: 622

سُمَيٍّ) كَذَا لِأَكْثَرِ الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ، وَكَذَا هُوَ فِي الْمُوَطَّأِ، وَصَرَّحَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى النَّيْسَابُورِيُّ، عَنْ مَالِكٍ بِتَحْدِيثِ سُمَيٍّ لَهُ بِهِ، وَشَذَّ خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ مَالِكٍ فَقَالَ عَنْ سُهَيْلٍ بَدَلَ سُمَيٍّ أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ، وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ ابْنَ الْمَاجِشُونِ رَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سُهَيْلٍ أَيْضًا فَتَابَعَ خَالِدَ بْنَ مَخْلَدٍ، لَكِنْ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: إِنَّ أَبَا عَلْقَمَةَ الْقَرَوِيَّ تَفَرَّدَ بِهِ عَنِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ وَأَنَّهُ وَهِمَ فِيهِ.

وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ، عَنْ بَشِيرٍ الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْوَرْكَانِيِّ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سُهَيْلٍ، وَخَالَفَهُ مُوسَى بْنُ هَارُونَ فَرَوَاهُ عَنِ الْوَرْكَانِيِّ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: حَدَّثَنَا بِهِ دَعْلَجٌ، عَنْ مُوسَى، قَالَ: وَالْوَهْمُ فِي هَذَا مِنَ الطَّبَرَانِيِّ أَوْ مِنْ شَيْخِهِ، وَسُمَيٌّ هُوَ الْمَحْفُوظُ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ قَالَهُ ابْنُ عَدِيٍّ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَلَمْ يَرْوِهِ عَنْ سُمَيٍّ غَيْرُ مَالِكٍ قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، ثُمَّ أَسْنَدَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْمَاجِشُونِ قَالَ: قَالَ مَالكٌ: مَا لِأَهْلِ الْعِرَاقِ يَسْأَلُونَنِي عَنْ حَدِيثِ: السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ؟ فَقِيلَ لَهُ: لَمْ يَرْوِهِ عَنْ سُمَيٍّ أَحَدٌ غَيْرُكَ، فَقَالَ: لَوْ عَرَفْتُ مَا حَدَّثْتُ بِهِ، وَكَانَ مَالِكٌ رُبَّمَا أَرْسَلَهُ لِذَلِكَ، وَرَوَاهُ عَتِيقُ بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، وَوَهَمَ فِيهِ أَيْضًا عَلَى مَالِكٍ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَرَوَاهُ رَوَّادُ بْنُ الْجَرَّاحِ، عَنْ مَالِكٍ فَزَادَ فِيهِ إِسْنَادًا آخَرَ فَقَالَ عَنْ رَبِيعَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ، وَعَنْ سُمَيٍّ بِإِسْنَادِهِ فَذَكَرَهُ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: أَخْطَأَ فِيهِ رَوَّادُ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُصْعَبٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ، وهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ فِي حَدِيثِ سُهَيْلٍ أَصْلًا وَأَنَّ سُمَيًّا لَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ طَرِيقِ جُمْهَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا فَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ أَبُو صَالِحٍ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ،

وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ فَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ أَبُو هُرَيْرَةَ، بَلْ فِي الْبَابِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَجَابِرٍ عِنْدَ ابْنِ عَدِيٍّ بِأَسَانِيدَ ضَعِيفَةٍ.

قَوْلُهُ: (السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ) أَيْ جُزْءٌ مِنْهُ، وَالْمُرَادُ بِالْعَذَابِ الْأَلَمُ النَّاشِئُ عَنِ الْمَشَقَّةِ لِمَا يَحْصُلُ فِي الرُّكُوبِ وَالْمَشْيِ مِنْ تَرْكِ الْمَأْلُوفِ.

قَوْلُهُ: (يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ) كَأَنَّهُ فَصَلَهُ عَمَّا قَبْلَهُ بَيَانًا لِذَلِكَ بِطَرِيقِ الِاسْتِئْنَافِ كَالْجَوَابِ لِمَنْ قَالَ كَانَ كَذَلِكَ فَقَالَ: يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ نَوْمَهُ إِلَخْ، أَيْ وَجْهُ التَّشْبِيهِ الِاشْتِمَالُ عَلَى الْمَشَقَّةِ، وَقَدْ وَرَدَ التَّعْلِيلُ فِي رِوَايَةِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ وَلَفْظُهُ: السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ، لِأَنَّ الرَّجُلَ يَشْتَغِلُ فِيهِ عَنْ صَلَاتِهِ وَصِيَامِهِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَالْمُرَادُ بِالْمَنْعِ فِي الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ مَنْعُ كَمَالِهَا لَا أَصْلِهَا، وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ بِلَفْظِ: لَا يَهْنَأُ أَحَدُكُمْ بِنَوْمِهِ وَلَا طَعَامِهِ وَلَا شَرَابِهِ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ ابْنِ عَدِيٍّ: وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ دَوَاءٌ إِلَّا سُرْعَةُ السَّيْرِ.

قَوْلُهُ: (نَهْمَتَهُ) بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْهَاءِ أَيْ حَاجَتَهُ مِنْ وَجْهِهِ أَيْ مِنْ مَقْصِدِهِ وَبَيَانُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَدِيٍّ بِلَفْظِ: إِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ وَطَرَهُ مِنْ سَفَرِهِ. وَفِي رِوَايَةِ رَوَّادِ بْنِ الْجَرَّاحِ فَإِذَا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنْ حَاجَتِهِ.

قَوْلُهُ: (فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ) فِي رِوَايَةِ عَتِيقٍ، وَسَعِيدِ الْمَقْبُرِيِّ فَلْيُعَجِّلِ الرُّجُوعَ إِلَى أَهْلِهِ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي مُصْعَبٍ فَلْيُعَجِّلِ الْكَرَّةَ إِلَى أَهْلِهِ وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فَلْيُعَجِّلِ الرِّحْلَةَ إِلَى أَهْلِهِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِأَجْرِهِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: زَادَ فِيهِ بَعْضُ الضُّعَفَاءِ عَنْ مَالِكٍ: وَلْيَتَّخِذْ لِأَهْلِهِ هَدِيَّةً وَإِنْ لَمْ يَجِدْ إِلَّا حَجَرًا. يَعْنِي حَجَرَ الزِّنَادِ، قَالَ: وَهِيَ زِيَادَةٌ مُنْكَرَةٌ.

وَفِي الْحَدِيثِ كَرَاهَةُ التَّغَرُّبِ عَنِ الْأَهْلِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَاسْتِحْبَابُ اسْتِعْجَالِ الرُّجُوعِ وَلَا سِيَّمَا مَنْ يُخْشَى عَلَيْهِمُ الضَّيْعَةُ بِالْغَيْبَةِ، وَلِمَا فِي الْإِقَامَةِ فِي الْأَهْلِ مِنَ الرَّاحَةِ الْمُعِينَةِ عَلَى صَلَاحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَلِمَا فِي الْإِقَامَةِ مِنْ تَحْصِيلِ الْجَمَاعَاتِ وَالْقُوَّةِ عَلَى الْعِبَادَةِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: سَافِرُوا تَصِحُّوا. فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الصِّحَّةِ بِالسَّفَرِ لِمَا فِيهِ مِنَ الرِّيَاضَةِ أَنْ لَا يَكُونَ قِطْعَةً مِنَ الْعَذَابِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ، فَصَارَ كَالدَّوَاءِ الْمَرِّ الْمُعْقِبِ لِلصِّحَّةِ وَإِنْ كَانَ فِي تَنَاوُلِهِ الْكَرَاهَةُ، وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ الْخَطَّابِيُّ تَغْرِيبَ الزَّانِي لِأَنَّهُ

ص: 623

قَدْ أُمِرَ بِتَعْذِيبِهِ - وَالسَّفَرُ مِنْ جُمْلَةِ الْعَذَابِ - وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ.

(لَطِيفَةٌ): سُئِلَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ حِينَ جَلَسَ مَوْضِعَ أَبِيهِ: لِمَ كَانَ السَّفَرُ قِطْعَةً مِنَ الْعَذَابِ؟ فَأَجَابَ عَلَى الْفَوْرِ: لِأَنَّ فِيهِ فِرَاقَ الْأَحْبَابِ.

‌20 - بَاب الْمُسَافِرِ إِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ يُعَجِّلُ إِلَى أَهْلِهِ

1805 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما بِطَرِيقِ مَكَّةَ، فَبَلَغَهُ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ شِدَّةُ وَجَعٍ، فَأَسْرَعَ السَّيْرَ، حَتَّى كَانَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّفَقِ نَزَلَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعَتَمَةَ - جَمَعَ بَيْنَهُمَا - ثُمَّ قَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا.

قَوْلُهُ: (بَابُ الْمُسَافِرِ إِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ وَيُعَجِّلُ إِلَى أَهْلِهِ) أَيْ مَاذَا يَصْنَعُ؟ كَذَا ثَبَتَتِ الْوَاوُ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَهِيَ رِوَايَةُ النَّسَفِيِّ، وَأَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِيهِ قِصَّةَ ابْنِ عُمَرَ حِينَ بَلَغَهُ عَنْ صَفِيَّةَ شِدَّةَ الْوَجَعِ فَأَسْرَعَ السَّيْرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَبْوَابِ تَقْصِيرِ الصَّلَاةِ، وَسَيَأْتِي مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فِي أَبْوَابِ الْجِهَادِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

(خَاتِمَةٌ): اشْتَمَلَتْ أَبْوَابُ الْعُمْرَةِ وَمَا فِي آخِرِهَا مِنْ آدَابِ الرُّجُوعِ مِنَ السَّفَرِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى أَرْبَعِينَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهَا وَفِيمَا مَضَى أَحَدٌ وَعِشْرُونَ حَدِيثًا وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي الِاعْتِمَارِ قَبْلَ الْحَجِّ، وَحَدِيثِ الْبَرَاءِ فِيهِ، وَحَدِيثِ عَائِشَةَ: الْعُمْرَةُ عَلَى قَدْرِ النَّصَبِ. وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي إِرْدَافِ اثْنَيْنِ. وَفِيهِ مِنَ الْمَوْقُوفَاتِ خَمْسَةُ آثَارٍ مِنْهَا ثَلَاثَةٌ مَوْصُولَةٌ فِي ضِمْنِ حَدِيثِ الْبَرَاءِ. وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

ص: 624

‌تنبيه واعتذار

بسم الله والصلاة السلام على رسول الله.

أما بعد فلقد يسر الله وله الحمد والمنة إكمال مقابلة المجلد الأول والثانى من هذا الكتاب على قطعة من نسخة خطية في مكتبة شيخنا الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمه الله، وعلى النسخة المطبوعة في بولاق من هذا الكتاب وهى المشهورة بالأميرية كما سبق التنبيه على ذلك في المجلد الأول، وكتبنا على المجلدين المذكورين ما تيسر من التعليقات والتنبيهات المفيدة، وصححنا ما أمكن تصحيحه من الأخطاء، ثم شرعنا في المجلد الثالث من هذا الكتاب مقابلة وتصحيحا وتعليقا كما تقدم حتى انتهينا إلى آخر الجنائز، فانتهت القطعة الخطية المشار اليها وهى التى يشار اليها في الطبعة الجديدة بمخطوطة الرياض، ثم استمر التصحيح والمقابلة على طبعة بولاق، وعلى نسخه خطية استحصلنا عليها من أخينا أحمد بن محمد القاصر من مكتبته المحفوظة في ضمد من قرى جيزان، حتى انتهينا إلى كتاب الحج. ثم رأينا بعد ذلك أن الاستمرار في التصحيح والمقابلة والتعليق على الطريقة المتقدمة يشق علينا كثيرا، ويحول بيننا وبين أعمال هامة، تتعلق بالمصالح العامة، ولاسيما بعد إسناد أمر رئاسة الجامعة الإسلامية بالمدينة إلينا بالنيابة عن سماحة شيخنا العلامة الشيخ محمد بن ابراهيم آل الشيخ، وقيامنا بالتدريس في المسجد النبوى على صاحبه أفضل الصلاة والتسليم،، وظهر لنا أنا إن استمررنا على ما نقدم من التصحيح والمقابلة والتعليق وعينا لذلك أوقاتا واسعة تليق بعظمة الكتاب وطوله تعطل علينا مصالح كثيرة، وإن عينا له أوقاتا لا تكفى تأخر الكتاب وطالت مدة طبعه، والقراء والمساهمون في حاجة الى إنجاز طبعه، فلذلك رأينا الإمساك عن المقابلة والتصحيح والتعليق، وأن يكمل طبع المجلد الثالث وما بعده من الأجزاء على طبعة بولاق لكونها أصبح الطبعات وأقلها أخطاء، وأوصينا القائم بطبع الكتاب وهو أخونا ومحبوبنا في الله الشيخ العلامة محب الدين الخطيب يجتهد في إنجاز الكتاب وتصحيح ما أمكن تصحيحه وتعليق ما تيسر له تعليقه من الفوائد والتنبيهات، لأنه وفقه الله ممن له اليد الطولى فى هذا الشأن، وكتبه وتعليقاته المفيدة معلومة للقراء، وأسأل الله أن يعينه على إكماله على ما يرام وأن يضاعف لنا وله ولكل من ساعد فى تصحيح هذا الكتاب وإبرازه للقراء الأجر، وأن ينفع به المسلمين، إنه جواد كريم. وإن من أعظم ميزات هذه الطبعة ما يسر الله لها من التصحيح والتعليق والتنبيه على مواضع الأحاديث المكررة، فالحمد لله على ذلك كله أولا وأخرا. وانى لأشكر شكراً كثيرا جميع الاخوان الذين ساعدوني في مقابلة وتصحيح ما مضى من هذا الكتاب، وأسأل الله أن يجزيهم عن ذلك خيرا، وأن يمنحهم العلم النافع والعمل الصالح والمزيد من كل خير. وإنى لأعتذر إلى القراء والمساهمين عما حصل من الإمساك المقابلة والتصحيح والتعليق على بقية المجلد الثالث وما بعده بالأعذار التي أسلفت ذكرها، وأرجو أن يعذرونى، وأسأل الله لى ولهم صلاح النية والعمل، والتوفيق لكل خير، انه سميع قريب، والحمد لله على كل حال، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين

حرر في 17/ 7 / 1381 هـ

عبد العزيز بن عبد الله بن باز

ص: 625